الأسد بين الاشتراكية واقتصاد السوق/ عماد كركص
12 ابريل 2024
اتصفت مُعظم خطاباتِ الرئيس السوري، بشّار الأسد، وكلماته، إن لم تكن جميعها، منذ اندلاع الحراك عليه وحتى قبله، بالتنظير و”التنظير المبتذل”، فلم يُقدّم في أيّ منها حلًا واحدًا لمئاتِ الأزمات التي يعانيها السوريون في مناطق سيطرته، سيما على المستويين، المعيشي والأمني، ولم يستخلص منه المجتمع الدولي “جملة مفيدة” لجهة نظرته إلى الحلّ في البلاد بعد الحرب التي أحرقت الأخضر واليابس فيها.
وبعد نحو 13 عامًا من الحرب، يبدو بشّار الأسد كالذي “أخذته العزّة بالإثم”، إثر عدم تمكّن المعارضة من الانتصار عليه، وعدم قدرة المجتمع الدولي على التأثير جذرياً على نظامه، لإجباره على الدخول فعلياً في الحل، فذهب به شعور “العظمة” إلى حدّ “التنظير على التنظير” ذاته، إذ ظهر قبل أيام، وهو يضع مفاهيم جديدة للنظرية الاشتراكية بعيدًا عن تلك التي وضعها مؤسّسها، كارل ماركس.
شكل جديد للاقتصاد السوري
ورث بشّار حكم البلاد من والده حافظ الأسد، مع نظام يُوصف بالاشتراكي (من دون تطبيقات حقيقية)، إذ حكم الأسد الأب البلاد من خلال حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو حزب يتضح من اسمه بأنه عروبي- اشتراكي، لكن الابن الذي عاد من بريطانيا ليرث الحكم في العام 2000، ظنّ أنّ قلب النظام الاقتصادي السائد في البلاد يقوم على ترويج مصطلحات مضادّة، فبعد خمس سنوات من جلوسه على كرسي الحكم، أخذ يروّج لمسألة بدء البلاد تغيير نهجها الاقتصادي نحو اقتصاد السوق الاجتماعي بالنموذج النيوليبرالي الريعي، بالاعتماد على الخصخصة وفتحِ البلاد أبوابها أمام الاستثمارات، ثم تمضي أقل من خمسة أعوام حتى يكتشّف الأسد، ومعه السوريون، أنّه لم يطل “بلح الشام ولا عنب اليمن”، كما سيتضح فيما بعد.
قال بشار الأسد، في لقائه مع أساتذة جامعات سورية من البعثيين (البعثيين فقط)، في 30 الشهر الماضي (مارس/أذار) إنّ “الاشتراكية بالنسبة لنا هي العدالة الاجتماعية”، وإنّ “مبدأ الدعم لا يجب التخلّي عنه لا سياسياً ولا شعبياً ولا أيديولوجياً”، أي دعم الدولة سلع بعض المواد والقطاعات، وتدخلها في تعزيز الاقتصاد. وأكّد أنّه يجب “عدم مناقشة مبدأ الدعم، فالدعم يجب أن يبقى وإنما النقاش هو حول شكله”، موضحاً أنه “عندما نرى الدعم جزءاً من الاقتصاد عندها فقط يتحوّل إلى حالة مفيدة”.
وفي ردّه على سؤال بأنّ حزب البعث تبنّى في سياساته الاقتصادية والاجتماعية عقوداً الطبقات الفقيرة، هل كان التبنّي على حساب هُوّية الاقتصاد السوري وبناه، وهل حصدنا من هذا التبنّي ضرراً على بنى الاقتصاد وهياكله حالياً؟ أجاب: “المفروض أي حزب أو حكومة اشتراكية أو غير اشتراكية أن تنحاز للفقراء باعتبار أنهم الطبقة التي تحتاج إلى الدعم، وهم الطبقة الأكثر هشاشة، لكن نحن لم ننطلق من هذه الفكرة فقط، بل انطلقنا من فكرة الصراع الطبقي، وبالتالي هو فكرة أيديولوجية، والكثيرون يعتبرون الصراع الطبقي شيئاً حتمياً، ونحن في سياساتنا منحازون للفقراء، لكن الإجراءات التي نطبقها لمصلحة الفقير تنعكس عليه سلباً، فالدعم هو لمصلحة الفقير، والانحياز يجب أن يكون ضمن سياسات مدروسة، وميزة السياسة أنها ترى الأمور بشكل شامل”. موضحًا أن “أولى مطالب الفقير فرصة العمل، لأنه في حال تحقّق الدعم وتمّ تثبيت الأسعار من دون وجود عمل فسوف يبقى فقيراً، إذاً فالأولوية هي لفرص العمل بالنسبة لأي مواطن فقير، كي يستطيع أن يرفع مستواه ويصبح طبقة وسطى”. وأضاف: “الانحياز صحيح ولكن ضمن سياسات تشمل الجميع، والانحياز لا يعني أن نكون ضد الآخرين، إنّما هو فقط للفقير، لأنّه أكثر حاجة، والانحياز يتطلب من الفرد أن يقوم بسياسة شاملة تشمل كل الشرائح، لأن مصلحة الشرائح مع بعضها بعضاً، وبالتالي، فكرة الصراع الطبقي فكرة غير صحيحة، وإنما فكرة المصلحة المشتركة بين الطبقات هي الصحيحة”.
وفي ردّه على سؤال ما إذا كان قد تغيّر مفهوم الدعم في الوقت الراهن نتيجة تغيّر الأحوال المعيشية، وما هو المعنى الصحيح والمفيد لسياسة الدعم، وهل سياسة الدعم الحالية تحقّق العدالة الاجتماعية، وهل من الأنسب التوجّه نحو سياسة التنمية الشاملة بديلاً عن الدعم؟ قال: “عندما نتحدّث عن الدعم أنه ينطلق من أيديولوجيا أو من دافع خيريّ، فإنه لن يكون ناجحاً ولا توجد دولة أو مجتمع يسير في هذا النهج، الدعم هو عمل اقتصادي، وعندما تتم رؤية الدعم أنه جزء من الاقتصاد، عندها يتحوّل الدعم إلى حالة مفيدة، وإذا تم وضع الدعم كجزء من الاقتصاد، فالدعم ضروري، وإن الدول الأكثر رأسمالية تقوم بالدعم لكن شكل الدعم عندهم مختلف، من حيث الآليات، فربما يدعمون الإنتاج، أو التصدير أو التكنولوجيا، أو يضعون حواجز رغم حديثهم عن سوق التجارة الحرّة، ولم يعد هناك سوق تجارة حرّة، فهي تتراجع، خاصة من أميركا بالذات كي تحمي صناعاتها، وحتى الحماية شكل من أشكال الدعم للإنتاج”.
مفاهيم جديدة للاشتراكية
وفي ردّه على تساؤل بخصوص كيفية تطبيق حزب البعث، بوصفه حزباً حاكماً، النهج الاشتراكي في الاقتصاد، اعتبر الأسد أن “أي مصطلح، مهما كان صحيحاً بعد فترة سيصبح مصطلحاً قديماً، والسبب بسيط هو أن العالم يتغير والمفاهيم تتغيّر معه، وفي حال لم نتماشَ مع الظروف والمتغيرات سنبقى نحن والمصطلح بالخلف”. وأضاف “الاشتراكية بالنسبة لنا هي ليست الاشتراكية المعرّفة بحسب كارل ماركس والتي هي ملكية وسائل الإنتاج، بل الاشتراكية بالنسبة لنا هي عدالة اجتماعية، وهي منصوص عليها بالدستور بشكل آخر”. مؤكّدا على وضع تعريفات جديدة للنظرية الاشتراكية قائلا إن “العدالة الاجتماعية هي تكافؤ الفرص بين مختلف الشرائح، الأفقر والأغنى، وهي لا تشمل فقط الاقتصاد، بل تشمل كذلك الإدارة والعدل وتشمل كل شيء، فكل إدارات الدولة فيها تكافؤ فرص. ولذلك علينا تحديد ما هو مضمون الاشتراكية”. وشدد الأسد، الذي يعتبر الأمين العام لحزب البعث الحاكم: “سنبقى حزباً اشتراكياً، ولسنا بصدد تغيير المصطلح، ولكن بصدد تغيير السياسات التي تعبّر عن المصطلح، فجوهر الاشتراكية علينا تعريفه بكلمة العدالة الاجتماعية. وانطلاقاً من هذا التعريف، نحدد ما هي السياسات التي تؤدّي إلى العدالة الاجتماعية، ففي هذه الحالة سنكون غير مقيّدين ومرنين”.
يتضح من هذا الخطاب “المتخبّط” عدم إدراك الأسد، وحتى نظامه ربما، للنهجين الاقتصاديين، سواء السابق، بوصفه اشتراكيا يقوم على تدخليّة الدولة وملكية وسائل الإنتاج ودعم الشرائح الضعيفة في المجتمع، أو اقتصاد السوق الاجتماعي الذي حاول الأسد تبنّيه منذ العام 2005 تقريبا، كمصطلح فقط، بالأساس واسع وفضفاض، من دون وضع بنى وحوامل لهذا النهج الاقتصادي.
منذ العام 2005 بدا واضحاً تشبث الطبقة الوسطى بمكانها في الوقت الذي فيه بدأ دفعها نحو الطبقة الأدنى. ومع الحرب، وبدلا من أن يدعم النظام (الحكومة) تلك الطبقة، سحب الدعم عن أسعار مواد وسلع كثيرة كانت تدعمها، سيما المحروقات والخبز ومواد أساسية كثيرة كانت البلاد تنتجها، قبل أن تصبح مستوردة لها.
انهيار الطبقة الوسطى
ولعل أكبر انهيار حصل للطبقة الوسطى في سورية كان بين 2006 و2011، وهي الفترة التي استلم فيها الاقتصادي عبد الله الدردري رئاسة هيئة تخطيط الدولة، ثم منصب نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، كان أوان توزيع الكعكة التي استلمها بشار الأسد وراثةً عن أبيه، وكان لا بدّ من خطّة لإظهار الأموال المنهوبة خلال سنوات حكم الأسد الأب إلى العلن، أو تبييضها ضمن دورة الاقتصاد السوري. وفي دولة تدّعي الاشتراكية، مثل سورية، لا يمكن التحوّل مباشرة إلى نظام رأسمالي علني، هكذا جرى إحداث هيئة تخطيط الدولة، وسُلّمت للدردري الذي خطّط لما سُمّي وقتها “اقتصاد السوق الاجتماعي”، والذي لم يكن في الحقيقة سوى تقليد للنظام الرأسمالي، من دون الامتيازات التي يحصل عليها المواطنون من هذا النظام، كالضمان الصحي وراتب البطالة وضمان الشيخوخة والعدالة القانونية والاجتماعية وغيرها، إذ كانت الخطّة تقوم على تحرير المواد المقنّنة والمدعومة من الدولة، وتركها لرحمة التجار، الأمر الذي أدّى وقتها إلى موجة ارتفاع أسعار هائلة، في المواد الغذائية وفواتير الكهرباء والمحروقات، رافقها ارتفاع أسعار في كلّ ما يختص بمعيشة المواطن السوري، من دون أن يترافق هذا مع زيادة مناسبة في الرواتب والمعاشات، هكذا بدأ القطاع الخاص (كان أربابه بطانة الأسد الابن وأبناء أركان نظام الأسد الأب)، يظهر بأسماء شركات ومؤسّسات تشمل كلّ شيء، بما فيها الإعلام والدراما والفنون.
تسلم الدردري (يشغل اليوم منصب مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، ومدير للمكتب الإقليمي للدول العربية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي) هيئة تخطيط الدولة في العام 2003، ثم عيّنه الأسد نائبا لرئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية في 2006، ليشغل كلا المنصبين قبل إزاحته عن الأوّل في 2007 لصالح تيسير الرداوي.
وجرى الترويج للدردري أنّه “المخلص الاقتصادي” للبلاد، الذي سيعتمد عليه الأسد في تغيير منهجي شامل للاقتصاد. وكان ذروة ما قدمه هي الخطة التي ستسير باقتصاد البلاد نحو “اقتصاد السوق الاجتماعي”، والتي أُعلن عنها في المؤتمر القُطري العاشر لحزب البعث في 2005، وهذا المؤتمر الذي أظهره النظام والأسد بأنه نقطة الانطلاق لإحداث سياسات إدارية واقتصادية شاملة في البلاد، لكن الغريب أن تلك الخطة جاء الإعلان عنها عبر حزب البعث، وليس من خلال الحكومة المفترض أن تنفذها، والتي كان يقودها في ذلك الوقت ناجي عطري.
ستمضي أربعة أعوام ليعلن الدردري في 2009 أنّ “الخطوات التي تعتمدها الحكومة السورية للانتقال السلس إلى اقتصاد السوق تضمنت عددا من التغيرات التي طرأت على الهيكل التنظيمي للمؤسسات الحكومية، وإحداث مؤسسات جديدة فضلاً عن التغيير في ذهنية العمل لدى الحكومة والعاملين فيها”. وأفاد بأن “هذه التغييرات في بداياتها، إذ تعمل الحكومة اليوم على تنويع سلتها الاقتصادية وتطويرها بما يحقق توازنا أكبر في التنمية الإقليمية، ويضمن استفادة مختلف القطاعات في البلاد من استثمارات القطاع الخاص”. وبعد عامين فقط من هذه التصريحات، ستشهد سورية انفجارها الكبير، الذي أطاح كل شيء، حتى الوعود الوهمية التي أطلقتها حكومة النظام في الإصلاح الاقتصادي والإداري والسياسي، ولم يُنفذ أيُّ منها.
وعقد بشّار الأسد في تلك الفترة تحالفات سياسية مع دول الجوار، وتمّ إبرام معاهدات اقتصادية وتجارية، وتمّ تحرير سعر صرف الدولار الجمركي، فصارت سورية تستورد كل شيء مع تلك الاتفاقات، بدءًا من الخضار والقمح (كانت سورية مصدّرة له) مرورا بالأدوية، وليس انتهاء بالمفروشات المنزلية والنسيج اللذيْن كانا فخر الصناعة السورية، الصناعة التي حفظت كرامة مئات آلاف العائلات السورية، إن لم نقل الملايين منها. وفجأة بدأت البضائع المستوردة تغزو الأسواق السورية، والمستوردون هم أصحاب الأموال المنهوبة. وبدأت الصناعة السورية بالتراجع بسبب عدم قدرتها على المنافسة، وزيادة ضرائب الصناعيين ووضع مزيد من العراقيل (القانونية) أمامهم.
هكذا بدأ تطبيق “اقتصاد السوق الاجتماعي” شيئًا فشيئًا، وبدأت معه الطبقة المتوسّطة السورية بالتآكل شيئًا فشيئًا أيضا، فغالبية السوريين موظفون في كلّ هيئات الدولة (المسيطرة على كلّ شيء) أو مزارعون وعمّال لدى الصناعيين والتجار، وهم من يشكلون الطبقة الوسطى عمومًا، وهم أنفسهم من تراجع مستوى معيشتهم باطراد، بينما أقفل صناعيون كثيرون مصانعهم بسبب خسائر كبيرة لحقت بهم. وبإقفالها، أصبح مئات الآلاف من العاملين عاطلين (بعض الصناعيين تحالف مع الطبقة الحاكمة الجديدة). هكذا ظهرت طبقة جديدة في سورية، طبقة القطاع الخاص، أصحاب رؤوس الأموال، ومن يعملون لديهم برواتب وأجور، بينها وبين أجور موظفي الدولة فروقات مرعبة.
صراع وجهات النظر
أصدر بشار الأسد، في العام 2010، أي قبل اندلاع الحراك المناهض للنظام بعام، المرسوم رقم 19 القاضي بإنهاء العمل بالمرسوم رقم 104 تاريخ 11/3/2007 المتضمّن تعيين تيسير سليمان الرداوي رئيسًا لهيئة تخطيط الدولة في سورية، أي إقالة عبدالله الدردري من منصبه رئيساً لهذه الهيئة، وقد صدر قرار الإقالة هذا، بعد أيام قليلة من محاضرة الرداوي، عن السياسة الاقتصادية في سورية، في “ندوة الثلاثاء الاقتصادية”، في 5 يناير/ كانون الثاني 2010، وتلك ندوة أسبوعية كانت منبرًا عامًا لمناقشة السياسات الاقتصادية وأوضاع الاقتصاد السوري استمرّ منذ الثمانينيات، وكان يتمتع بهامش صغير من النقد الاقتصادي والإداري من دون السياسي.
أبدى الرداوي في الندوة اعتراضات وانتقادات طاولت الخطة الخمسية العاشرة 2006 – 2010 التي كان عبدالله الدردري قد أعدّها، وتضمنت الذهاب نحو “اقتصاد السوق الاجتماعي”، حينها أرسل الدردري، وكان نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، كتاباً إلى رئيس الوزراء ناجي عطري، ولضابط الأمن في مجلس الوزراء، بما قاله الرداوي في محاضرته تلك، ووصل مضمون الكتاب/ التقرير إلى بشار الأسد؛ فأصدر قرارًا بالإقالة العاجلة للرداوي.
فبعد التحاق الرداوي بمنصبه عام 2007، بدأ يراجع وضع الهيئة وعملها، ونجمت عن ذلك انتقادات لما فعله سلفه الدردري، من الجانبين الفني والإداري. وبعد مدة قصيرة، أكملت هيئة تخطيط الدولة إعداد تقييم منتصف المدّة للخطة الخمسية العاشرة التي أعدّها الدردري سنة 2005 وتفاخر بها وأعلن نجاحاتها على مدى سنتي 2006 و2007، ليأتي تقييم الخطّة على يدي الرداوي سلبيًا، من حيث أنّها لم تحقّق أيّا من أهدافها. وقد كان تقييم الرداوي موضوعيًا، وقد أعدّ كادر الهيئة مسوّدته. وعقد الرداوي أكثر من جلسة لمناقشة التقرير، دعا لها مجموعة من الاقتصاديين، وكان هذا يعاكس نهج الدردري المتكتّم الذي كان يُعِدّ كلّ شيء في غرفٍ مغلقة، وقد أغضب ذلك التقييم الدردري كثيرًا، كما أغضب رئيس الوزراء ناجي عطري معه، لكون النقد موجهًا أيضًا إلى عمل الحكومة ككل، ولذلك حُفظ التقييم وطُوي ولم يُنشر.
عارض الرداوي السياسة الاقتصادية السورية التي صيغت بحسب مصالح “القطط السّمان”، وهو رئيس الهيئة التي كانت تضع الخطة الخمسية الحادية عشرة 2011 – 2015، والتي تترجم النهج الاقتصادي للبلاد، وخشي الدردري، ومن ورائه أصحاب مصالح قطاع الأعمال الخاص الريعي، وفي مقدّمتهم رجل الأعمال وابن خال بشار الأسد، رامي مخلوف آنذاك، من أن تؤدّي الخطة الخمسية الحادية عشرة، بقيادة الرداوي، دورًا معاكسًا للدور الذي لعبته الخطة الخمسية العاشرة، بقيادة الدردري، حيث وجّهت الخطّة العاشرة، بتعليمات من بشّار الأسد ومصالح النخب الجديدة، والتي جاءت على أثر المؤتمر العاشر لحزب البعث سنة 2005، بتغيير نهج سورية الاقتصادي نحو اقتصاد السوق بالنموذج النيوليبرالي الريعي، بينما قد تقلب الخطة الحادية عشرة هذا الاتجاه نحو اقتصاد السوق، ببعد اجتماعي ودور تنموي للدولة، كما أوحت مداخلة الردّاوي في الندوة.
اقتصاد “القطط السّمان” والخطوط الحمراء
يصوّب الخبير الاقتصادي السوري، سمير سعيفان، في مقالة نُشرت في مركز حرمون للدراسات التصوّر الخاطئ بأنّ عبدالله الدردري هو “صانع السياسة الاقتصادية السورية”، فهو لم يكن أكثر من مروّج لها، وكان يعرف ما يرغب فيه بشّار الأسد ونخبة القطط السمان من “رأسمالية المحاسيب” باللغة المصرية، فردّد على مسامعهم ما أرادوا سماعه، وكان يتلقّى تعليماته من رامي مخلوف مباشرة، وأنجز ما يخدم مصالحهم، فقد علم أنّ هذا التوجّه مدفوع بقوةِ مصالح الفئات الرأسمالية الصاعدة، التي يصبح نفوذها طاغيًا ومتحكّمًا في القرار الاقتصادي، بسبب اندماج رأسمالية السوق مع رأسمالية الدولة (البيروقراطية) في بوتقة مصالح واحدة.
عاب الرداوي على الخطّة العاشرة أنها جعلت الاستهلاك محرّك الاقتصاد السوري لا الاستثمار، ما أدّى إلى زيادة معدل البطالة؛ إذ يكون النمو الذي يحرّكه الاستهلاك، بحسب الرداوي، في الأغلب، من أنواع النمو غير المحابي لفرص العمل، وهذا عيبٌ كبير في الخطّة العاشرة. كما عاب على الخطّة أنّ سياسة التنمية غير متوازنة، وأدّت إلى هجرة داخلية واسعة، وأنّ فترات النمو السابقة في سورية “تميزت بعدم الاستدامة، لأنّ قطاعات كبيرة من السكان لم تشارك في العمل، وبالتالي، لم يتحسّن دخلها ولم يزدد طلبها على السلع والخدمات، الأمر الذي كان سيساهم في زيادة الإنتاج. وبذلك انتقد الرداوي ضعف القدرة الإنتاجية للاقتصاد السوري الذي أهملت الخطّة العاشرة تنميته.
وكان من أكثر القضايا التي مسّها الرداوي سخونةً قوله إن “أكثر سكّان سورية لم يتحسن دخلهم، وإن الثروة تنتج في الجزء الشرقي من سورية، وهو ابن المنطقة الشرقية المهملة، بينما تُنفق في الجزء الغربي منها، وإن عائدات النمو تمركزت في أيدي فئات قليلة من السكان، كان لها ممارسات استهلاكية بذخية وادخارية (وليس استثمارية) أعاقت عملية النمو، ووجهت الطلب إلى سلع وخدمات خارجية، ووجهت الادّخار إلى الخارج أو إلى قطاعات ليست إنتاجية”. لذلك “نما العرض خلال السنوات الماضية بشكل مضبوط، ولم ينمُ بشكل كبير، وبلغ نموه نحو 12 %، بينما نما الطلب نحو 20 %”، وهذا تناقض مع التصريحات المنمّقة والتقارير الحكومية المليئة “بالإنجازات” الخالية من طرح المشكلات.
وتحدّث الرداوي عن الخطّة الخمسية الحادية عشرة التي كانت هيئته تعدّها، مشيرا إلى أنها لن تحابي الطبقات الغنية، بل ستشرك جميع فئات المجتمع في التنمية الحقيقية، أي في قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية، وأنهّا بحاجة إلى تحقيق نموّ محاب للطبقات الفقيرة بزيادة الإنفاق على التعليم، وتوجيه السياسات التعليمية وفق متطلّبات سوق العمل، وضمان تحسين السياسات الضريبية والتشريعية والقانونية الملائمة للعمل، وستهدف إلى إعادة توزيع الدخل، بحيث تزداد حصّة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي، من 36% إلى 44%، وتقليص مساحة الفقر وتقليل التفاوت بين المواطنين. وقد ناقض هذا التوجّه السياسة الاقتصادية السائدة آنذاك، وقد أخاف الرأسمالية الريعية، ورجُلها الأبرز آنذاك رامي مخلوف (رجل أعمال بيت الأسد وصاحب النفوذ القوي)، بينما تستقبله الرأسمالية المنتجة بسرور.
وبخصوص الاستثمار العام والخاص، قال الرداوي إنه “لا يزال متواضعا، إذ لا يتجاوز 25 % من الناتج الإجمالي خلال السنوات 2006 – 2008″، وهي نسبة غير كافية، إذا ما قورنت بنسب الاستثمار في البلدان المشابهة”. وفي الواقع كانت نسب الاستثمار أقلّ من 25%، ولم يرتفع معدّلها في سورية عن 18% – 20% عدة عقود، بينما تحتاج التنمية إلى معدل استثمار لا يقلّ عن 30% من الناتج المحلي الإجمالي، ويعود ذلك النقص في حجم الاستثمار، بحسب رأي الرداوي، إلى صغر حجم الاستثمار العام، بسبب قلة واردات الخزينة العامة. وإضافة إلى ذلك، دعا الرداوي إلى تعزيز دور استثمارات القطاع العام، في مجالات إنتاج السلع والخدمات العامة، وإلى إعطاء أولوية عالية للاستثمار في الزراعة والصناعة، من أجل رفع نسبة مساهمتهما في الناتج المحلي الإجمالي، حتى يتم إصلاح التشوّه القطاعي.
وقد تعارضت تلك الدعوة مع توّجه سياسة الاستثمار النيوليبرالية التي صرّح بها الدردري، ودعت إلى تنمية القطاعات الخدمية، وليس قطاعات الإنتاج السلعي التي تتميّز بها سورية، ودعت إلى انسحاب الدولة كليّاً من الاستثمار، تحت شعار “التشاركية” التي تعني أنّ القطاع الخاص يستثمر مستغلًا الدولة والمجتمع، وإلى انسحاب الدولة من أي دعم اجتماعي.
لقد مسّ الرداوي إحدى “تابوات” السياسة الاقتصادية النيوليبرالية، إذ انتقد السياسة الضريبية بمجملها، وربط ضعف نسبة الاستثمار بضآلة موارد الحكومة، بسبب تدنّي عائدات الضرائب نتيجة التهرب الضريبي الكبير جدا، وانتقد انخفاض العبء الضريبي الذي يبلغ نحو 14% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تشمل مجموع أنواع الضرائب والرسوم التي تقتطعها الدولة، وهي نسبة منخفضة قياسا إلى بلدان العالم، إذ تزيد على 20% في البلدان النامية، وعلى 40% في البلدان المتقدّمة.
وانتقد الرداوي تدنّي واردات القطاع العام الاقتصادي الذي يحتاج سياسة فعّالة لإصلاحه، مشدّداً على ضرورة إزالة المعوّقات التي تقف أمام هذا القطاع، سواء كانت بيروقراطية تتعلق بالسياسات والإجراءات التي لا تساعد على نموّه أو معوّقات تتعلق بعدم كفاية البنية التحتية وبقاء المخاطر التي تحيط به، ودعا إلى إصلاح القطاع العام، وهذا التوجّه معارض للسياسة السائدة آنذاك التي توجّهت إلى تجميد القطاع العام أولاً من دون إصلاحه، وكانت تتوّجه إلى تصفيته من دون أن تستخدم كلمة “خصخصة”، عبر الإصرار على عدم إصلاحه وعدم حلّ مشكلاته، كي تكون تصفيته المآل الوحيد أمام الجميع ولو كره بعضهم.
ومع انتقاداتٍِ كثيرة أخرى، تجاوز الرداوي الخطوط الحمر للسلطة، وهي كثيرة ومنخفضة، حين تكلّم بصراحة في تلك الندوة، فمن غير المسموح لمسؤول حكومي، وهو في منصبه، أو حتى لموظف صغير، أن يوجّه أي نقد إلى السياسات العامة، أو أن يعبّر عن رؤية أو رأي خاص يختلف عما هو معلن. ورود مثل هذه الآراء، على لسان رئيس هيئة تخطيط الدولة، يُعدّ كفرا، في قاموس السلطة السورية، ولذلك كان إعفاؤه بمنزلة درسٍ لكلّ من يريد أن يتميّز، فالقيادة السورية لا تحبّ التميّز، لأنه يجتذب البريق، وقد يغري المتميّز بالطموح، وطموح الآخرين غير مسموح به. إنّها سلطة الشخصيات الصغيرة، بتعبير سمير سعيفان.
كان الدمار الذي أحدثه “اقتصاد السوق الاجتماعي”، بحسب المفهوم الذي روّجه الدردري ومن خلفه بشّار الأسد، في المجتمع السوري، سببا مهما من أسباب تراكم الغضب الشعبي الذي وجد في الربيع العربي متنفسًا له فخرج إلى الشوارع مطالباً بالإصلاح وكفّ يد الفساد والقمع، ثم حدث ما حدث ليتحوّل الغضب والاحتجاج الذي قُوبِل بالرصاص مع أوّل هتاف إلى حمام من الدم لم ينته بعد، وإلى شبه بلد وشبه دولة مقسّمة ومدمّرة ومحتلّة من جهات عدّة.
هوية الاقتصاد السوري اليوم
بين كلّ تلك المصطلحات والتحوّلات التي روّجها الأسد، الذي يأتي اليوم ليقدّم مفاهيم جديدة للنظريات السياسية، يكون السؤال مشروعا بشأن هوية الاقتصاد السوري، سيما بعد نحو 13 عاما من الحرب، وحول مصير السوريين في دوّامة هذا الاقتصاد غير المفهوم في الشكل والمضمون. لتكون الإجابات إنّ اقتصاد البلاد اختُزل خلال فترة الحرب في بعض الأعمال التجارية، التي تتمركز في أيدي شريحة منظمة من رجال الأعمال، حيث طغت أشكال حديثة من التجارة أدّت إلى تفكك طبقة التّجار التقليديين في دمشق وحلب، وحجمت أعمالهم وسمحت باستثمار الحرب ومآلاتها اقتصادياً، عبر طرق وأساليب جديدة أزاحت الصناعيين واحتكرت الاستيراد والتصدير وقوننت التداول بالعملة الأجنبية، بما يساهم في خدمة الهيكل التجاري المستحدث والنظام الاقتصادي الجديد. فقد انكفأ الإنتاج الصناعي السوري بعد الحرب إلى شكلٍ من الصناعات البدائية والتحويلية السهلة، مثل الصناعات الغذائية والألبسة والمحارم والصابون وغيرها من صناعاتٍ تعتمد في موادّها الأولية وتجهيزاتها على الإنتاج المحلي، وهذا الحال الملازم للدول المتخلّفة عندما تقع في أزماتٍ سياسيةٍ وأمنية، بينما تصدّرت التجارة واجهة الاقتصاد لتأخذ اتجاه الاستيراد من دون التصدير، والتهريب بالاتجاهين، في حين نشطت التجارة الداخلية معتمدة على رؤوس الأموال المحلية والثروات الطبيعية ورصيد المؤسسات والشركات المنتجة والخدمية في آن، فبدأ هذا الشكل التجاري يأكل من الرصيد المحلي على حساب الركائز الاقتصادية في البلاد.
وبات الاقتصاد السوري اليوم أمام شكل من الاقتصاد يأكل من القطاع العام ويركز الثروة في أيدي قلةٍ من المنتفعين، حيث تجمّد هذه الفئة أموالها في تجارة العقار أو في البنوك والمؤسسات الخارجية، وتسعى جاهدة للحفاظ على واقع المجتمع الاستهلاكي غير المنتج، من خلال حصار الإنتاج الصناعي المحلي وإغراقه وتحويله أو تهجيره.
يقول الخبير الاقتصادي كمال المصري لـ “العربي الجديد” إن “سنوات الحرب الطويلة أنتجت شكلاً جديداً للاقتصاد في سورية، يقوم على تآكل البنية الاقتصادية السائدة ما قبل الحرب من جهة وعلى حماية التجارة “الموازية” غير النظامية من جهة أخرى. وفي الاتجاهين، يسير البلد نحو انهيار اقتصادي كبير، فالأول أدّى إلى انهيار شريحة التجار التقليديين والصناعيين التي كانت تشكّل الطبقة الوسطى في المجتمع والتي تقوم على عاتقها البنى الاقتصادية وفرص التطوير، وكذلك إمكانية الحفاظ على الموارد العامة والخاصة، مادّية كانت كالمؤسسات والشركات، أو بشرية”. أما الثاني بحسب المصري، فقد “أسّس لمنظومة من الفساد المنظم طاولت كل شرائح المجتمع دون استثناء، وأنتجت شبكات هرمية قاعدتها المواطن بأي عمل أو اختصاص، ورأسها يتجاوز المسؤول في أي قطاع ليصل إلى أعلى الهرم في الدولة”.
عموما، أصبح الاقتصاد السوري يتصف باقتصاد العصابة، فكل مقرّ على شكل دائرة أو مؤسسة أو مركز قوامه رئيس ومرؤوس هو منشأة “اقتصادية” تتبع نظام العصابة في الإنتاج حتى لو كانت بعيدة كل البعد عن الاقتصاد، وهذا النظام لا يستثني المؤسسات المدنية أو الخدمية مثل القضاء والصحة والتعليم والنفوس ومنظمات العمل الإنساني ومنظمات الإغاثة الدولية وغيرها، وبالتالي يسير الاقتصاد السوري إلى مرحلة الفشل في المؤسسات والانهيار.
خاتمة
إذا، يمكن الحكم على كل المصطلحات والشعارات التي أطلقها وروّجها بشّار الأسد قبل الحرب وما بعد اندلاعها، بما يخص دفع عجلة الاقتصاد في البلاد، بأنها جوفاء، فقد أخذ من الاشتراكية سطوتها على القطاع العام، لكن ليس لصالح الشعب، وإنما لصالح الطبقة الحاكمة التي أفرد لها التوغّل في التحكّم بهذا القطاع، فيما أعجبه من اقتصاد السوق رفع الدعم الذي بات يروّج إعادته أو الإبقاء عليه، من دون توفير حلول لهذا النهج، من إقرار قوانين تمنع الاحتكار وتشجّع على الاستثمار وتمنح المواطنين السوريين فرصا متساوية للدخول في سوق العمل.
ويمكن القول إنه بين هذا كله وذك، لا طال الأسد “بلح الشام ولا عنب اليمن”، أو أنه لا يريد ذلك، فأي نهج اقتصادي واضح في سورية سيمنعه عن حصته في الاقتصاد، وهي “حصّة الأسد” بطبيعة الحال، أو سيحرمه من التحكّم في دورة ذلك الاقتصاد.
العربي الجديد