الأوتفت… وقيمتنا بشراً/ سعدية مفرح
28 مارس 2024
من أسوأ الظواهر الإعلامية المجتمعية التي انتشرت، أخيراً، ظاهرة ما يسمى “الأوتفت”. … أصبحت مشاهد “الأوتفت” وفقراته تقتحم حياتنا في رمضان كل شاشة تقريبا، وحتى في حسابات التواصل الاجتماعي الشخصية. على سبيل الجد أو هزلاً وسخرية أيضاً لكن النتيجة واحدة. أصبحت قيم السوق عائلية رغما عن أنف العائلة، وما يمكن أن يهرُب منه الآباء والأمّهات بإرادتهم في تربية أبنائهم وتنشئتهم بما يناسبهم ويناسب إمكاناتهم أصبح يلاحقهم ويقتحم بيوتهم ويشاركهم في التربية حسب أسعار السوق!
مقابلات تجرى في الشارع من الناس يقدّمون فيها ملابسهم وأحذيتهم وحقائبهم وإكسسواراتهم وساعاتهم… وتكون المقابلة كلها بشأن ما يرتدونه فقط؛ من أين وبكم اشتروها. استعراض رخيص رغم القيمة المادية التي يتباهون بها ثمناً لهذه الملابس والقطع.
بدأت الظاهرة في أجواء المهرجانات السينمائية، والفنية عموماً، إذ تحضر الفنانات إلى المهرجانات يرتدين أزياء وأحذية وحقائب ومجوهرات باهظة الثمن، ومستعارة، غالبا، من مصمّمين عالميين مقابل الدعاية لمنتجاتهم والإعلان عنها أمام الكاميرات والجماهير. وانتقلت هذه الظاهرة التي سلّعت أصحابها المشاركين فيها وحوّلتهم إلى أرقام ونزعت عنهم الذوق الشخصي واللمسات الفردية الساحرة، الى الآخرين، فأصبحت فقرة السؤال عن اسماء المصمّمين والمسؤولين عن إطلالة هذه الفنانة او ذاك الفنان فقرة ثابته في كثير من برامج التلفزيون، وكله بثمنه.
ولأن المُشاهد يعرف أن هناك حاجزاً مرئياً ما بين عالم الجماهير وعالم الفنانين والنجوم بقى الأمر مفهوما باعتباره من أشكال الإعلان والدعاية. لكن الظاهرة أصبحت أخيراً واقعا يعيشه المراهقون والمراهقات ويضغط على أسرهم ماديا بعد أن أصبحوا يرون كثيرين من مشاهير التواصل الاجتماعي، ثم من الناس العاديين.
يرى كثيرون الأمر بسيطاً وتافهاً، ولا يستحقّ الكتابة عنه أصلا، وهو حرّية شخصية لهؤلاء في استعراض قيمتهم كما يروْنها ويتخيّلونها امام الناس، وقد يكون هذا صحيحاً مبدئيا، ولكن انتشار الظاهرة بهذا الحجم، وارتباطها هذا العام تحديداً بغبقات رمضان، شهر العبادة والتواضع والتجرّد من الماديات، يجعل من التنويه إلى خطورتها ضروريا، خصوصاً وقد انساق لها كثيرون ممن يعدّون قدواتٍ جيدةً للشباب والمراهقين.
قيم السوق الاستهلاكي التي غزت بيوتنا وأذواقنا وأفكارنا وقراءاتنا وفي كل المجالات التي تمسّ حياتنا اليومية بتمظهرات بسيطة، ولكنها مؤثرة على المدى البعيد، ينبغي كشفها وتبيان خطورتها ليس فقط على قيمة الأسرة وإمكاناتها المادية والعلاقات الشخصية بين الآباء والأبناء وحسب، ولكن أيضا على قيم المجتمع ككل، فالمرء تتحدّد قيمته الإنسانية ومكانته المجتمعية وفق أسعار ما يرتديه.
ومن التأثيرات السلبية لظاهرة “الأوتفت” عبر التركيز الزائد على المظاهر الخارجية والمادية تقدير الشخص بناءً على ما يرتديه ويمتلكه، بدلاً من مكانته الحقيقية واعتباره. يتعلق الأمر هنا بالسعي وراء العرض والاستعراض، ويمكن أن يؤدّي ذلك إلى عدم تقدير الأشخاص بناءً على قدراتهم ومواهبهم الفردية وإسهاماتهم الحقيقية في المجتمع. وبالتالي، يمكن أن يؤثر ذلك على التواصل الاجتماعي والعلاقات الشخصية، حيث يتم التركيز على الظواهر الخارجية بدلاً من القيم الأخلاقية والروحية.
علاوة على ذلك، تؤدّي ظاهرة “الأوتفت” إلى زيادة الضغط المادي على الأسر والشباب والمراهقين. يشعُرون بالحاجة إلى مواكبة الموضة والاستمرار في شراء الملابس والإكسسوارات الجديدة ليكونوا على الموضة، ويحظوا بالاعتراف والتقدير من آخرين. يمكن أن يؤثّر هذا الضغط المادي على الأسر مالياً ويزيد من التوتر الفردي والعائلي. ويمكن أن ينشأ شعور بالرغبة المستمرّة في التنافس والمقارنة مع الآخرين، ما يؤثر على الثقة بالنفس والصحّة النفسية للأفراد.
من الأهمية بمكان، إذن، التوعية بشأن هذه الظاهرة وتبيان خطورتها. وعلى الأسر والمدارس والمجتمع بصفة عامة التركيز على التنوّع والتميز وتعزيز قيم الشخصية والمواهب الفردية بدلاً من الاندفاع وراء الاستهلاك والظواهر الخارجية. ينبغي التشجيع على تنمية المهارات الشخصية والتعلم والتطور الفكري بدلاً من التركيز الحصري على المظهر الخارجي.
ويمكن لوسائل الإعلام أن تلعب دوراً في التوعية بشأن ظاهرة “الأوتفت” وغيرها، بتسليط الضوء على قصص النجاح الحقيقية والإلهام والتحفيز للأفراد بناءً على قدراتهم وإسهاماتهم الفريدة. يمكن أيضاً أن تعزّز وسائل الإعلام التوجّه نحو قيم أخلاقية وروحية تعزّز التواصل الإيجابي وقبول الذات.
العربي الجديد