النظام السوري من خلفي والعنصريّة في لبنان أمامي…أين أذهب؟/ سارة حسام
11.04.2024
نعيش نحن السوريين اللاجئين والهاربين والباحثين عن الحياة في لبنان أوقاتاً عصيبة، فكل سوري يُضرب في الشارع قد يكون أياً منا، وفي كل دعوة الى المغادرة نسمع صوت الزنزانة تُغلَق علينا في سوريا، أو نرى أطفالنا يعودون إلى نقطة الصفر
بعد رفض تجديد الأمن العام اللبناني إقامتي، تغيرت كلّ حياتي تقريباً، حتى طريقة شرائي كيلوغراماً من الخضار. صارت كلّ الأمور أصعب، الخروج، الضحك، مواجهة المشاكل، حتى التنفّس في بعض الأحيان… غريب كيف ترتبط حياتك بكاملها بورقة رسمية.
“أين أذهب بنفسي؟”
بعيداً من أسباب رفض تجديد إقامتي في لبنان، وما تبعها من أمر المغادرة وبقائي في البلد بشكل غير شرعي بسبب غياب الخيارات أمامي، مع ما تحمل العودة إلى سوريا من خطر على حياتي، وصلني، وأنا في لبنان، تهديد من جهات أمنية سورية بسبب طبيعة نشاطي السياسي. وبعد صدور أمر مغادرتي لبنان، أدركت أن بشار الأسد من خلفي والعنصرية من أمامي، وسألت نفسي السؤال الوجودي لكلّ سوري: “أين أذهب بنفسي؟”.
في الحقيقة، ليس بشار الأسد وحده خلفي بل إيران و”حزب الله” وروسيا والانهيار الاقتصادي والاعتقال والتعذيب وفقدان أبسط شروط الحياة، وانتظار وسيلة مواصلات لساعات، حتى لو كان هذا كله امتداداً لنظام الأسد في النهاية.
أنا مجبرة على البقاء في لبنان، فلا مكان آخر لدي، وعلى قسوة هذه العبارة، فهي حقيقة وتؤلمني. لكن المشكلة الآن، وعلى رغم عدم امتلاكي خياراً، تكمن في تصديق الأصوات العنصرية في لبنان أن رحيلي وغيري من السوريين، هو الحل لأزمات البلد، وكأنه حين لم يكن هناك لاجئون في لبنان لم تحدث أي اغتيالات، وكأن الاغتيالات مرتبطة باللاجئين لا بطبيعة البلاد السياسية وسيطرة سلاح “حزب الله”!
على رغم ذلك كله، يريدونني أنا وغيري من السوريين أن نغادر، هل يعتقدون أن إنساناً يمتلك خيارات ويفضّل حقّاً البقاء في بلد يُهدَّد فيه في أيّ لحظة بالاعتداء والشتم أو سماع عبارات عنصرية؟
سمعت الصفعة كأني مَن تلقّاها
ضُرِب شاب سوري تحت منزلي منذ يومين، وهدّده الشاب الذي قام بضربه بألّا يصدر أي صوت. سمعت صوت الصفعة وشعرت بأني من تلقيتها. غريب كيف يتوقعون أن نتألم من دون إصدار صوتٍ. بعد دقائق، اجتمع عدد من الشباب الآخرين، ضربوه وهددوه. عجزت عن فعل أي شيء، وربما هذا ما آلمني بالتحديد، العجز عن قول “لا” للظلم.
في اليوم التالي، نظرت إلى الشارع حيث ضُرب الشاب السوري، متسائلة: كيف يمكن أن تستمر الحياة ببساطة، أن يخرج أحدهم ليمشي مع كلبه، ثم يتركه يتبوّل قريباً من مكانِ ضرب الشاب أو أن تمشي أمٌّ وطفلها في الشارع ذاته؟! غريبٌ كيف يمكن أن نسير في أماكن تعرّض فيها إنسان لظلم قبيح كهذا، فقط لأنه يحمل جنسية لم يخترها أو لأنه اضطر الى أن يعود متأخراً من عمله، فمَن السوريّ الذي قد يجرؤ على الخروج لولا أنه مجبر على العمل لدفع إيجار غرفة يتقاسمها مع 4 شباب آخرين، على أقل تقدير؟!
نعيش نحن السوريين اللاجئين والهاربين والباحثين عن الحياة في لبنان أوقاتاً عصيبة، فكل سوري يُضرب في الشارع قد يكون أياً منا، وفي كل دعوة الى المغادرة نسمع صوت الزنزانة تُغلَق علينا في سوريا، أو نرى أطفالنا يعودون إلى نقطة الصفر بعدما بنينا لهم حياةً هنا، على صعوبتها وجحيمها، تشبه الحياة على الأقل.
أنا بخير لأني فتاة
يطمئنني الأصدقاء بأني فتاة ولن يعترضني أحد أو يتهجم علي، لكن المشكلة ليست في كوني امرأة أو رجلاً، بل بكوني سوريّة وبالشعور العميق داخلي بالإقصاء والغربة وعدم الانتماء، الذي تعززه التصرفات العنصرية.
أدركت هذا بعد جلستين فقط مع معالجتي النفسية، أدركت أن شخصيتي اختلفت تماماً بين سوريا ولبنان، فعلى رغم كل الخطر الذي عشته في سوريا بقيت متماسكة، لكن منذ رُفِضت إقامتي في لبنان تحولت إلى فتاة هشة وضعيفة، فقدت أي أساس صلب للمتابعة، وحين أقارن بين من كنت في سوريا وما أصبحت في لبنان أشعر بالألم، وأفهم كيف تُحوّلنا العنصرية وتجبرنا على حني رؤوسنا تماماً كما يفعل كل سوري يتعرض للضرب في الشارع.
وربما لأني فتاة لم أتعرض لعنصرية كما مَن حولي، لكني تعرضت للعنصرية المبطّنة عشرات المرات من خلال عبارات: “مش مبين عليكي سورية”، “يا ريت كل السوريين متلك”، أو عن طريق نكات يرميها من حولي حين يريدون إهانة شخص ما: “كأنه سوري” أو “كأنه بياع سوري ع بسطة ساعات”، وكأن باقي الناس في العالم الموازي لا يمتلكون بسطات يبيعون عليها أشياء مزوّرة ورخيصة.
من جهة أخرى، دعمني أصدقائي اللبنانيون بصدق، دعوني إلى منازلهم ريثما تخمد موجة العنصرية، يطمئنون عليَّ، حتى طبيبتي النفسية حرصت على تقديم نصائح نفسية لي لأتمكن من تجاوز هذه الأيام.
عن معتقلات الأسد في لبنان
يشغلني سؤال منذ أيام: “هل العنصريون من اللبنانيين لا يمتلكون الخيار مثلنا، ولذلك يحاولون إيجاد من يلقون اللوم عليهم؟”، فهم أيضاً مثلنا فقدوا كل ما جمعوه في البنوك، سُرقوا في وضح النهار ومن أشخاص يعرفونهم، ثم انخفضت قيمة ليرتهم ورواتبهم وانهارت حياتهم الاقتصادية.
لكن هذا كله لم يأتِ من فراغ، إذ إن تاريخ البلدين السياسي المشترك وما خلّفه نظام الأسد من ذكريات بشعة في عقول اللبنانيين، كانا السبب الأول، فمنذ يومين فقط، أشار لي صديقي اللبناني إلى مكان مبنى “البوريفاج”، وهو اسم فندق كان مقرّاً للمخابرات السورية في بيروت بين عامي 1987 و2005، ويقع في حي الرملة البيضاء. استخدمه النظام السوري لاعتقال اللبنانيين وتعذيبهم وإخفائهم قسراً. وانتشرت بين اللبنانيين جملة حول المبنى، وهي مشهورة أيضاً في سوريا: “الداخل مفقود والطالع مولود”.
من جهة أخرى، يعاني اللبنانيون حالياً من انهيار اقتصادي غير مسبوق، ولا يمكن تجاهل عبء اللجوء على البنية الاقتصادية والتحتية في لبنان، المنهارة أصلاً، وهذا الجانب أساسي وحاسم. أتخيل لو كان وضع اللبنانيين الاقتصادي جيداً ولم تكن لديهم هذه الأعباء النفسية كلها، عندها لما استطاع السياسيون أن ينجحوا في تحريضهم على اللاجئين أو على الأقل لم يكن الناس ليصدقوا.
المعادلة البسيطة التي يستخدمها السياسيون تغيب عن الناس، إذ يعملون على التحريض ضد اللاجئين السوريين ويستعملون ذلك ورقة توت يغطون بها فسادهم وسرقتهم الشعب، وقد نجحوا إلى حد كبير في ذلك، لأن الجموع تُقاد بعواطفها وغرائزها دفاعاً عن وجودها وانتماءاتها.
درج