“منطقة الاهتمام”: إدانة اللامبالاة من أوشفيتز إلى غزة/ عمر كوش
27 مارس 2024
يثير فيلم “منطقة الاهتمام”، للمخرج والكاتب البريطاني جوناثان غليزر، مسألة إنسانية في غاية الخطورة، تخص اللامبالاة، التي تقود إلى الفتور وعدم الاكتراث بالمآسي الإنسانية، وتجعل البشر يتعايشون مع ما يرتكب حولهم أو بجوارهم من فظائع وجرائم، ولا يعيرون أي التفاتة لصرخات ونداءات استغاثة الضحايا، مثلما حدث بالأمس، ويحدث اليوم مع حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة.
الفيلم مأخوذ عن رواية تحمل العنوان نفسه للروائي البريطاني مارتن آمس (1949-2023)، صدرت في عام 2014، وقام المخرج بتغيير أسماء شخصيات الرواية المتخيلة، واستبدلها بأسماء شخصيات حقيقية من تلك المرحلة.
وفاز الفيلم العام الماضي بـ “الجائزة الكبرى” وجائزة “الاتحاد الدولي للنقاد – فيبريسي” في مهرجان “كان” السينمائي، ثم حاز الفيلم مؤخرًا على جائزة “الأوسكار” عن أفضل فيلم أجنبي لعام 2024.
يعود الفيلم إلى الإبادة الجماعية والمحرقة، كي يوجه إدانة إلى العمى الأخلاقي للبشر، لكن ليس بهدف الرجوع إلى الماضي، بل من أجل تسليط الضوء على ما يحدث في الحاضر من لامبالاة حيال الإبادة الجماعية، التي ترتكبها إسرائيل في حربها المتواصلة على قطاع غزة منذ أكثر من خمسة أشهر، حيث إن “كل من شاهد الفيلم لا يمكنه أن يفكر سوى فيما يحدث في غزة”، حسبما كتبت ناقدة في صحيفة “الغارديان”، ولذلك لم يتردد مخرج الفيلم غليزر في القول، بعد استلامه جائرة “الأوسكار”، إن فيلمه “ليس من أجل القول أنظروا إلى ما فعلوه في ذلك الوقت”، أي ما فعله النازيون في معسكرات الاعتقال والمحرقة، بل “أنظروا إلى ما نفعله اليوم”، في إشارة إلى الإبادة الجماعية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في غزة، ولعله أراد من فيلمه إظهار “ما يؤدي إليه نزع الإنسانية في أسوأ أشكاله”.
لم يكن غليزر يتحدث في حفل توزيع جوائز “الأوسكار” باسمه فقط، بل ربما باسم كثيرين من يهود العالم، الذين يسعون إلى دحض مزاعم دولة الاحتلال الإسرائيلي واستغلالها لهم، أولئك الذين يقفون معه “كرجال يدحضون يهوديتهم والمحرقة، المختطفتَين من قِبل احتلال تسبب بحالة صراع، ذهب ضحيتها كثير من الأبرياء”.
يروي الفيلم يوميات عائلة مكونة من زوج وزوجته إلى جانب خمسة أطفال وكلب، أما شخصياته المحورية، فتجسدها شخصية الضابط النازي رودولف هوس، المسؤول عن معسكر الاعتقال “أوشفيتز”، وأدى دوره الممثل كريستيان فريدل بحرفية عالية، وشخصية زوجته هيدفيش، التي تألقت في أداء دورها الممثلة ساندرا هولر. وتلعب شخصيتا هوس وهيدفيش الدورين الرئيسيين في الفيلم، أما باقي الشخصيات فأدوارها ثانوية جدًا، وهامشية، بدءًا من الأطفال وصولًا إلى العسكر والخدم، وانتهاءً بوالدة هيدفيش، التي تزور عائلة لقضاء عدة أيام في منزلها. ربما نستثني دور إحدى بنات العائلة، التي تلعب دورًا له أهميته الخاصة في الفيلم، فهي تعاني من كوابيس واضطرابات في نومها، لأنه يمكنها رؤية معسكر الاعتقال من نافذة غرفتها.
تسكن العائلة في منزل واسع ومريح جدًا، حديقته مليئة بالزهور والنباتات والأشجار المثمرة، وتتوفر فيه كل وسائل الراحة. وعلى الرغم من أنه يجاور معسكر الاعتقال، إلا أن أفراد العائلة لا يكترثون بما يجري فيه، فقد تعايشوا مع أصوات وصرخات المعتقلين في المعسكر، ومع روائح الجثث المنبعثة من المحرقة ورمادها. ولم تتحرك إنسانيتهم حيال ما يعانيه الضحايا، رغم سماعهم استغاثات يطلقها بعضهم، وتختلط مع أصوات إطلاق الرصاص، وبلغ بهم عدم الاكتراث حدًا بات فيه سماع البكاء والنحيب والصراخ المكتوم، وأصوات الرصاص، يشكل مصدرًا يُعكّر صفوة اهتماماتهم الطبيعية، ومنبعًا لإزعاج عادي، ما يعني أن أفراد العائلة لم يكونوا يعيشون حالة إنكار متعمدة لما كان يحدث في المعسكر، بل كانوا بشرًا عاديين، يعيشون حياتهم بشكل طبيعي وروتيني، في منطقة اهتمامهم الخاصة.
السؤال الذي يضعه الفيلم أمام المُشاهد، يطاول كيفية عيش عائلة الضابط هوس حياة طبيعية في منطقة اهتمامها، التي لا تتجاوز جدران حديقة منزلها، وتنقطع فيه عن محيطها، مع أنه يجاور معسكر الاعتقال والحرق، ولا يفصله عنه سوى جدار إسمنتي، فيما يمارس أفراد الأسرة طقوس حياتهم اليومية، بكل تفاصيلها وإيقاعاتها الرتيبة، حيث اعتادوا الاجتماع حول موائد طعام، تشرف على إعدادها خادمات يهوديات من أبناء المنطقة، اختارتهن الزوجة هيدفيش، كي يقمن بأعمال التنظيف والترتيب ورعاية الحديقة، ويتلقين الأوامر منها صاغرات، بينما تشرف هي على ذهاب أطفالها إلى مدارسهم. وفي المساء لا ينقطع الأب عن قراءة القصص لأطفاله قبل النوم بشكل يومي، وذلك بعد قضاء يومه في الإشراف على أعمال المحرقة، وبالتالي لا أحد في العائلة يكترث بما يجري في المعسكر، لأنهم يركزون فقط على اهتماماتهم.
تتجنب كاميرا الفيلم، التي أشرف عليها مدير التصوير لوكاش زال، دخول معسكر الاعتقال، كي تتنقل ببرود وحيادية بين أرجاء منزل العائلة، مظهرة الممرات والسلالم في طابقي المنزل، والغرف الداخلية وقاعات وطاولات الطعام، وأركان الحديقة الكبيرة، وخاصة المسبح، عبر لقطات استعراضية من كاميرا ثابتة، فيما يسيطر لون أحادي على معظم اللقطات، وبما يتسق مع رتابة حياة العائلة وممارستها طقوسها اليومية في منزلها. وقد عكستها أيضًا موسيقى الفيلم، التي وضعتها مايكا ليفاي بشكل مبتكر وجديد، ويتماشى مع طبيعة أحداث الفيلم وشخصياته الرتيبة، حيث يختلط صوت الموسيقى، خصوصًا في بداية الفيلم ونهايته، مع نحيب وصرخات المعتقلين في المعسكر، وما يطلقونه من أنفاس مكتومة وأنين داخلي، ويصاحب كل ذلك ظلال تمتدّ على مساحة الشاشة.
بالنظر إلى اختلاف معالجة الفيلم لموضوع سبق أن تناولته أفلام عديدة، يخص معسكرات الاعتقال النازية والمحرقة، فإن هذا الاختلاف استدعى ما يعادله من جماليات سينمائية، وبشكل عكس خصوصية “منطقة الاهتمام”، التي ركّز عليها مخرج الفيلم من أجل كسر ما ساد من قبل، وعدم الارتهان إلى التكهنات المتعارف عليها في موضوعه، خاصة وأن ما تناوله الفيلم لا يخرج عن العادي والطبيعي، وفيه الكثير من التقليدية والروتين. ومع ذلك، لم يلجأ مخرج الفيلم إلى إظهار الرعب والوحشية، بل وضعهما على الهوامش والحواشي، كي يبرزهما بشكل أقوى، من خلال إظهار انفصال الأسرة عن محيطها، وفي سياق اختياره تناول المحرقة بطريقة غير مباشرة، عبر ما تبديه عائلة رودولف من لامبالاة وعدم اكتراث بها.
يبدأ الفيلم بفراغ أسود يسود الشاشة لدقائق ليست قصيرة، ثم يظهر المشهد الأول بلقطة واسعة تجمع عائلة هوس مع ثلّة من أصدقائها، بجوار بحيرة صغيرة تحيطها الأشجار، يستمتعون بأشعة الشمس، ويسترخون بهدوء، لا تكسره سوى ضحكاتهم وأحاديثهم، ثم ينصرفون إلى منزلهم بعد أن يجففوا أجسادهم بعد السباحة. وتأتي مشاهد أخرى، تظهر تفاصيل حياة العائلة اليومية، التي تعيش بهناء وسرور، فالأب رجل منضبط، يؤدي وظيفته على أكمل وجه، حيث تظهر لقطات من الفيلم مدى تفانيه في عمله، وتلاحقه الكاميرا في حركاته في البيت، وخلال ذهابه إلى النهر، وعند استقباله الضيوف، أو في الاجتماعات التي كان يعقدها في إحدى غرف منزله، كي يستمع لما يقوله مهندسون حول بناء محارق حديثة، أو كي يشرح لضباط آخرين كيفية العمل في المعسكر، بدءًا من حرق الجثث وصولًا إلى التخلص من رمادها، إضافة إلى إعطائهم تعليماته حول حرق أعداد أكبر من المعتقلين. وعلى الرغم من تركيز الفيلم على شخصية الزوج، بوصفه المسؤول عن معسكر الاعتقال والمحرقة، إلا أنه يظهر في لقطات الفيلم ومشاهده هادئًا وحازمًا، ومثله مثل سائر أفراد أسرته يتعايش مع الوضع بمحض إرادته، ويتقبل ما يقوم به من أعمال قتل بوصفها جزءًا من وظيفته العادية، التي يحبها ويشعر بالفخر بها، ويتلقى عليها مديحًا من قبل رؤسائه.
غير أن والدة هيدفيش أبدت ردة فعل مغايرة لسائر أفراد العائلة، إذ على الرغم من أنها لا تخفي عنصريتها حيال اليهود، ولا تفترق عن ابنتها وصهرها وبقية النازيين في النظرة إليهم، إلا أنها لم تكن قادرة على تحمل الروائح المنبعثة من المحارق، ولا احتمال صوت الهدير الدائم لها، فتقرّر قطع زيارتها، ومغادرة منزل ابنتها، والعودة إلى مدينتها.
تتوالى مشاهد الفيلم مركزة على هيدفيش، الزوجة المتفانية في خدمة أسرتها، وفي الاعتناء بمنزلها، وإغناء حديقتها بالورود والنباتات والأشجار. وتقوم في الإشراف على ترتيبات الخادمات من أجل الاحتفال بعيد ميلاد زوجها، ويتركز جهدها الأساسي في المحافظة على بهاء المنزل، الذي جعلها “ملكة أوشفيتز المتوجة” حسبما تقول في الفيلم. ومع ذلك، لا تجد أي حرج في اقتناء بعض الألبسة من أكياس الملابس التي تصل منزلها، وتعود إلى معتقلين ومعتقلات في المعسكر، كان جنود زوجها يجرّدونهم منها قبل إدخالهم حجرات الغاز، حيث تظهر إحدى لقطات الفيلم سعادتها بمعطف فرو ثمين، وقلم حمرة لإحدى النساء التي تحولت إلى رماد، فيما توزع بقية قطع الملابس على صديقاتها وخدمها.
مع تطور أحداث الفيلم، تصدر أوامر بنقل هوس من معسكر الاعتقال في أوشفيتز إلى العاصمة برلين لتولي مهمة أكبر، يشرف فيها على معسكرات الاعتقال في ألمانيا، وتصاب زوجته بصدمة كبيرة حين يخبرها، لأنها حصرت كل اهتمامها في الحياة بالمنزل، ولم تفكر في أي شيء خارجه، لذلك لم تتمكن من كتمان غضبها ورفضها الانتقال مع زوجها إلى برلين، وتشير عليه في أن يذهب لوحده، وأن يطلب من رؤسائه بقاء العائلة في نفس المنزل الذي صرفت سنينًا من عمرها عليه. وبعد سفره إلى برلين، يحضر حفلة هامة في أحد القصور الفخمة، وبعد انتهائها يتحدث مع زوجته بالهاتف، فتسأله عن الحاضرين، ليخبرها بأنه لم يهتم بهم، لأنه كان مشغولًا بالتفكير في كيفية تحسين أداء محارق الغاز في مبان أسقفها عالية مثل أسقف القصر.
تعود بنا المشاهد الختامية للفيلم إلى متحف أوشفيتز، لتظهر قيام عاملات التنظيف بمسح أرضيات قاعاته وخزنه، التي ما تزال تحتفظ ببعض أحذية وملابس من قضوا في معسكرات الاعتقال.
أخيرًا، يشكل الفيلم حدثًا في الفن السينمائي، من جهة التناول والجماليات، ولعل الكلمة، التي ألقاها مخرجه في حفل توزيع جوائز “الأوسكار”، شكلت الحدث الأبرز في تلك التظاهرة الفنية، بالنظر إلى ما أثارته من نقاشات، إذ إن ما قاله غليزر لا يقوله إلا الفنانون الحقيقيون، أولئك الذين لا يهابون من رفع أصواتهم في وجه المكارثية القَبَليّة، التي تجتاح الولايات المتحدة ومعظم أوروبا منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتمكّن بكلمات بسيطة من تحويل “الأوسكار” إلى منصة تنطق باسم مَن لا قوة لهم، وأولئك الذين يخشون رفع صوتهم في وجه قوى السلطة والمال.
ضفة ثالثة