الأحزاب الوطنية المقدّمة لإخراج سورية من النفق/ عبد الباسط سيدا
02 ابريل 2024
مع دخول الثورة السورية عامها الـ 14، واستمرار محنة السوريين في المخيمات الداخلية والخارجية والشتات في مختلف أنحاء العالم، إلى جانب معاناتهم بصورة عامّة بغضّ النظر عن التصنيفات النمطية: معارضة موالاة وما بينهما أو في محاذاتهما، نتيجة تداعي الاقتصاد، وانهيار قيمة الليرة، والارتفاع الحادّ في أسعار كل المواد، إلى جانب استمرار الفساد، وظهور وجوه جديدة من السماسرة المرتبطين عضوياً بسلطات الأمر الواقع امتداداً من دمشقَ وصولاً إلى ديريك (المالكية)، وإلى إدلب وسائر المناطق الأخرى في الوسط والجنوب. في ظل هذه الأجواء، وبعد أن قطع السوريون الأمل من حدوث اختراقٍ فعليٍّ بإرادة دولية نحو حلّ يرتقي بصورة مقبولة إلى مستويات تضحياتهم وتطلّعاتهم، وبعد كل العذابات التي عانوا منها، وهي عذابات تفوق الوصف، وأصبحت مضرب المثل، إن لم نقل أنها أصبحت ميسماً تُعرف به وضعية شبه ميؤوس منها، تذكّرنا بوضعية الصومال بعد حكم سياد برّي 1991، إذ تحوّل البلد إلى جملة مناطق نفوذ، سرعان ما أصبحت مشاريع دول بالقوة، تلبّي أطماع الدول الراغبة في الاستفادة من أهمية الموقع الجيوسياسي للصومال، ومن دون أن تكلّف نفسها بالنفقات التي ينبغي دفعها لقاء حصولها على قواعد عسكرية بموجب عقود رسمية تحدّد ما يحقّ وما لا يحقّ لها.
هكذا هو الحال بالنسبة إلى سورية أيضاً، راهناً في مختلف مناطق النفوذ التي تحوّلت على الصعيد الفعلي إلى مقاطعات وإمارات تهيمن عليها المليشيات والجيوش الوافدة التي تستخدم المليشيات المحلية مرتزقة، شرط ألا تتجاوز دائرة التعليمات والأوامر.
والأنكى من هذا وذاك أن هذه الأخيرة تستقوي على السوريين بالقوى الوافدة المقحمة، وهي القوى التي تتحكّم في الموارد والثروات الوطنية، كما تتحكّم في الزراعة والتجارة، بما في ذلك تجارة الممنوعات بمختلف أصنافها ومنها التجارة بالبشر بجميع الأشكال. واللافت في هذا السياق أن تبادل المنافع بين القوى المتحكّمة بهذه المناطق بألوانها وشعاراتها ومزاعمها المتباينة قد بات ظاهرة مكشوفة يلاحظها السوريون المغلوبون على أمرهم.
لقد أثبتت تجربة الـ 13 عاماً، بل تجربة عقود طوال سبقت هذه التجربة عدم ارتقاء الأحزاب الموجودة بصورة عامة إلى مستوى التحديات، وهي الأحزب التي وضعت لنفسها سقفاً مطلبياً لم تتجاوزه، واقتصر نضالها بصورة عامة على العمل السرّي، وكانت الإنجازات الكبرى التي تتباهى بها تتمثل في وجود عدد من أعضائها في السجن، وصمودهم أمام مختلف أنواع التعذيب. ولكن الظروف قد تغيرت كثيراً، لا سيما بعد انطلاقة الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، ولم يعد النضال السرّي، الذي ربما كان في مرحلة معينة مطلوباً ومشروعاً للمحافظة على الحزب، قادراً على إحداث أي تغييرات مطلوبة. كما أن النضال المطلبي لا يتناسب هو الآخر مع المتغيرات التي كانت بعد انطلاقة الثورة، وهي المتغيرات التي أفضت إلى حد الدعوة إلى إسقاط النظام.
وبناءً على ما تقدّم، تبرز الحاجة إلى ظهور أحزاب سورية جديدة، تستفيد من خبرة الأحزاب التقليدية التي تعاني بصورة عامة من الترهّل على مختلف المستويات، وتضيف إليها الخبرة المكثّفة التي اكتسبها السوريون في أعوام الثورة. والأهم أن تتجاوز هذه الأحزاب التي بدأت تدريجياً تظهر، وستظهر، عقلية النضال المطلبي في مواجهة سلطة متوحشة ارتكبت كل أنواع الجرائم بحق السوريين، وهي “السلطة الأسدية” مستعدّة اعتماداً على داعميها لارتكاب المزيد. فالاقتصار على النضال المطلبي لم يعد يتناسب مع توجهات السوريين ونزوعهم نحو الحرية الكاملة، وهذا الأمر يستوجب تجاوز نطاق النضال السرّي الكامل، لأنّ السوريين يريدون رؤية ممثليه، يعملون في الفضاء العام، في الواقع الميداني، ويخضعون عند الحاجة للمساءلة والمحاسبة. وتجربة بناء الأحزاب الوطنية تظلّ أكثر واقعية وإمكانية من التجارب التي استهدفت بناء التحالفات أو الائتلافات التي تبيّن أنها لم تكن ناضجة كما ينبغي، ولم تتمكّن من القطع مع التوجّهات الأيديولوجية العابرة للحدود الوطنية، سواء القومية أم الدينية بأشكالها المختلفة.
هذا في حين أن تجربة الأحزاب، رغم العثرات أوالإرباكات التي تتعرّض لها في بداية الأمر، يمكن لها أن تساهم في تنظم السوريين ضمن أطر تنظيمية، وتساعد على تجاوز سلبيات حالة المعارضين الأفراد بنرجسيتهم المعهودة، الذين يبلغ تضخّم الذات ببعضهم إلى درجة يتصوّر الواحد منهم نفسه عندها وكأنه مركز العمل الوطني، والقائد المنتظر المعصوم غير المسبوق. والأحزب المطلوبة سوريّاً بناء على احتياجات الظروف التي نعيشها راهناً، وتلك التي تنتظرنا مستقبلاً، هي الأحزاب التي تتحرك ضمن المجتمع السوري أفقياً، لتستوعب الأعضاء من سائر المكونات المجتمعية السورية ممن يتوافقون على برنامج يركّز على مسائل بعينها تهمّهم وتجذبهم، ولكن التوجّه الوطني العام يظلّ هو البوصلة، وهو التوجّه الذي لا يقيم حاجزاً بين سورية ومحيطها العربي والكردي والسرياني والتركي، والإسلامي والمسيحي… إلخ، ولكن يركّز على الواقع السوري أولاً، ويشدّد على الخطاب الوطني الجامع الذي يطمئن سائر المكونات السوريّة على قاعدة احترام الخصوصيات والاعتراف بالحقوق. ومن دون هذه الأحزاب، سيكون من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، إعادة اللحمة إلى النسيج المجتمعي الوطني الذي هتكته سلطة آل الأسد بسياساتها الكيديّة، وممارساتها المستبدّة الفاسدة، وجرائمها على مدى أكثر من نصف قرن من سيطرتها على مقاليد الحكم في البلاد بقوة السلاح والأجهزة المخابراتية.
والتركيز على الأحزاب الوطنية ليس فحواه المصادرة الكاملة على تشكيل الأحزاب القومية أو الدينية أو منعها، فهذه المسألة إذا ما أُقرّت ستكون ضد النظام الديمقراطي الذي يتطلع إليه السوريون، وقدّموا في سبيل الوصول إليه الكثير من التضحيات، وذلك لثقتهم بأنه النظام الذي يتناسب مع طبيعة مجتمعهم، ونوعية المشكلات التي يعانون منها، مع أخذ خصوصية مجتمعهم بعين الاعتبار. ولكنّ مثل هذه الأحزاب (القومية والدينية) لن تساهم بأي شكل في عملية مد الجسور بين المكونات المجتمعية، خاصة بعد سنوات من التجارب المريرة، والجروح العميقة التي أحدثتها السلطة الأسدية في الجسد الوطني السوري، وهي الجروح التي دفعت بالسوريين نحو التوجّس من شركاء الوطن، وعدم الثقة بهم، والخشية منهم. وحتى تكون الأحزاب المقترحة المطلوبة فاعلة، وذات مصداقية، لا بد أن تجمع بين السوريين في الداخل والخارج، ويركّز كل حزبٍ على الأولويات التي تهمّ أعضاءه، وذلك ضمن إطار الأولوية الوطنية الكبرى الأوسع التي لا بد أن تكون مرجعية سائر الأحزاب، والمحور الأساس الذي تتمفصل حوله.
ولضمان استقرار الأحزاب المعنية، وإبعادها قدر الإمكان عن الخضّات والانشقاقات المنهكة، عليها أن تحظى بقسط كبير من الانسجام والتوافق الداخليين في ميادين السياسات والتوجهات الفكرية والتنظيمية، ويستوجب ذلك كله متابعة دقيقة، وقدرة متميّزة على إدارة الخلافات، واستيعاب الرأي الآخر المختلف، وإمكانية التعايش المشترك رغم تباين المواقف حول النقاط التكتيكية، والمواقف الآنية المتحوّلة ضمن إطار التوجه العام للحزب. ويستوجب ذلك كله المؤهلات الفكرية والتنظيمية والصبر والمتابعة الدؤوبة. كما يستوجب تواصلاً مع الأوساط الشعبية التي يستمدّ منها الحزب قوته وحيويته، ويكون بفضلها قادراً على الفعل والتأثير. ويُشار في هذا المجال إلى أهمية الاستفادة من طاقات سكّان المخيّمات، إلى جانب تعميق الاتصالات مع الداخل، والاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة المتطوّرة باستمرار، وضرورة الاستفادة من جهود الشباب السوري في المهاجر، هؤلاء الذين اكتسبوا الخبرات على صعيد الاتصال مع المنظمّات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، واكتسبوا المعارف في أرقى الجامعات، وأتقنوا اللغات، وتمكنوا من بناء الجسور مع الدوائر الدبلوماسية والسلطات التشريعية والتنفيذية في مختلف البلدان المؤثرة، وأخذوا فكرة لا بأس بها عن الخطوات الضرورية المطلوبة للوصول إلى مرحلة اتخاذ القرارات.
كل هذه المكتسبات والإمكانات، وغيرها، يمكنها أن تكون مادّة ثريّة تستفيد منها الأحزاب السورية المطلوبة، وهي الأحزاب التي تستطيع بناء على توجهاتها الوطنية أن تتحرّك ضمن الفضاء السياسي العام، وتستعدّ لمرحلة الاستحقاقات المقبلة، هي المرحلة التي تستوجب تجاوز الهياكل المشلولة القائمة حالياً التي تتمترس فيها المعارضة الرسمية المفروضة التي لا تعبّر عن تطلعات وإرادة السوريين الأحرار، بل تحوّلت إلى عقبة أمام جهود السوريين المناهضين لسلطة آل الأسد، وهي جهودٌ ترنو نحو الاستمرار في خط المطالبة بالتغيير الحقيقي، والانتقال السياسي الفعلي.
13 عاماً والقيامة السورية مستمرّة، وستستمرّ أكثر ما لم تكن هناك خطوات جادّة على طريق جمع الطاقات، وتجاوز الأخطاء والعثرات، بغية الاستعداد لبناء تحالفات وطنية توضع أسسها بصورة سليمة ويعمل السوريون الغيارى على شعبهم وبلدهم على تطويرها، لتكون في خدمة المشروع الوطني السوري الذي لا بد أن يكون بكلّ السوريين، ولكلّ السوريين، ومن دون أي استثناء. من دون ذلك، ستظلّ سورية ميداناً لتنفيذ الأجندات الإقليمية والدولية التي ثبت بالبرهان والتجارب المريرة أنها لا تقيم وزناً يُذكر لتضحيات السوريين وتطلّعاتهم.
العربي الجديد