جو ساكو: استدعاء غويا إلى غزّة/ صبحي حديدي
24 – مارس – 2024
قد لا يصحّ أن تكون المصادفات وحدها وراء طراز (نادر، كما يتوجب القول) من التزامن بين كتاب في القصص المصوّرة عنوانه «هوامش في غزّة»، للصحافي والرسام المالطي الأمريكي جو ساكو Joe Sacco، صدر بالإنكليزية في نيويورك، سنة 2009؛ وبين تصاعد الحديث عن عزم دولة الاحتلال الإسرائيلي اقتحام مدينة رفح، في إطار حرب الإبادة التي تشنها منذ خمسة أشهر ضدّ قطاع غزّة. صحيح أنّ الصلة الأولى هي موضوع الرواية المصوّرة، الذي يتناول المجزرة الإسرائيلية في مدينة رفح ذاتها، ولكن في سنة 1956؛ غير أنّ قوانين الصدفة المحضة يمكن أن تنحسر في قليل أو حتى في كثير، حين تدخل إلى المعادلة حقيقة أنّ ساكو وقّع أيضاً، ابتداء من 1993 وحتى 1995، تسعة أعمال مصوّرة استلهمت حصيلة إقامات متعاقبة في الضفة الغربية مطلع التسعينيات، جُمعت بعدئذ في كتاب واحد صدر سنة 2001 بعنوان «فلسطين».
وقضية الشعب الفلسطيني لا تدين لهذا الفنان (حامل لقب «غويا القصص المصوّرة») بواحدة من أبرز الوثائق الأدبية والفنية حول واقع الحياة الفلسطينية في قطاع غزّة والضفة الغربية تحت احتلال هو الأشدّ توحشاً على مدار التاريخ، فحسب؛ بل لعلّ الإنصاف يقتضي أيضاً الافتراض بأننا ندين له بفضيلة نصّ نادر من إدوارد سعيد حول فنّ القصة المصوّرة، بمعنى الـ Comics على وجه التحديد. ففي تقديمه لكتاب ساكو، «فلسطين»، بدأ سعيد من علاقة هذا الفنّ بسيكولوجية اليفاعة وتفتّح الوعي، مبتدئاً من تجربة شخصية في «تهريب» قصص سوبرمان بعيداً عن رقابة الأهل، ومارّاً على حقيقة أنه (ورغم انهماكه المأثور في كلّ ما يتصل بالقضية الفلسطينية على مستوى التأليف والنشر) لم يصادف عمل ساكو إلا عن طريق ابنه الشاب وديع، الذي أدخل نسخة من الكتاب إلى بيت الأسرة.
وإذْ يحرص سعيد على إنصاف بعض الكتابات الشجاعة، القليلة، التي سعت إلى التقاط حياة غزّة وعذابات أهلها في أعمال أميرة هاس أو سارة روس أو غلوريا إمرسون، فإنه لا يتردد في الجزم بأنّ ما يجعل ساكو «المصوّر غير العادي للحياة في فلسطين المحتلة» هو أنّ «اهتمامه الحقيقي ينصبّ في نهاية المطاف على ضحايا التاريخ». فإذا استعاد قارئ القصص المصوّرة التقليد الروتيني الشائع في غالبيتها العظمى، أي انتصار الخير على الشرّ في النهاية، فإنّ «فلسطين» ساكو لا تسير على هذا الموال، لأنّ «البشر الذين عاش في كنفهم هم «خاسرو التاريخ، المقصيون إلى الهوامش حيث يراهم المغتصب في حال من اليأس الشديد، بلا أمل أو تنظيم، ما خلا ركونهم إلى رفض القهر، وإرادتهم في بقاء دفين، واستعدادهم للتمسك بروايتهم، ولإعادة سردها، ومقاومة ما يُحاك من مخططات لاقتلاعهم».
ويتوقف سعيد بصفة متفحصة عند حرص ساكو على التجوّل في بقاع الضفة الغربية بـ»إيقاع متمهل وغياب للغرض من التجوال»، الأمر الذي يبرهن أنه ليس بالصحافي الباحث عن حكاية، ولا الخبير الذي يحاول طرق الوقائع لإنتاج سياسة ما». إنه في المقابل «داخل فلسطين، ليس أكثر من هذا، لقضاء أطول وقت ممكن في مشاركة، إنْ لم يكن عيش، الحياة التي يُلزم الفلسطينيون بعيشها». وبالنظر إلى حقائق السلطة وانضوائه في صفّ الخاسرين، يصوّر ساكو الإسرائيليين بمقدار من التشكيك لا تخطئه البصيرة، فضلاً عن انعدام الثقة الدائم. إنهم غالباً «شخصيات سلطة غير مبررة ونفوذ مريب، والأمر هنا لا يقتصر على نماذج غير محببة مثل الجنود والمستوطنين الذين يقفزون دائماً إلى المشهد لجعل حياة الفلسطينيين شقية وصعبة»، ولكن أيضاً فئات دعاة السلام الذين يساندون الحقوق الفلسطينية في إسار من العجز وانعدام الفاعلية.
وإلى جانب أعماله حول فلسطين وأهلها، تناول ساكو الصراع في البوسنة، وواقع الفقر المدقع في أمريكا، وتجارب اقتلاع الأقوام الأصلية في كندا؛ وطوال مساراته تلك، ظلّ وفياً لمبدأ ناظم يقول بأنّ المؤلف، ورسام القصص المصورة هنا، لا يمكن أن يكون محايداً أو منفصلاً عن محتوى ما يكتب أو يرسم، بل هو متورط حُكماً، ومن غير الوارد أن يسطّر امرؤ عن إراقة الدماء أو يرسم مشاهدها من دون أن تتساقط قطرات من دمه هو نفسه على الورق، مجازاً أو حتى فعلياً، حسب تعبيره. «هوامش في غزّة»، مثلاً، لا يكتفي بإدانة مقولة غولدا مائير الشهيرة عن عدم وجود الفلسطينيين، بل يجهد لتصوير حضورهم ضمن أنساق شتى من الوجود الفعلي، مثل الوجود الماضي والبقاء في المستقبل.
وليس غريباً كذلك أن يدافع ساكو بقوة عن مستويات الضمير المختلفة خلف غاياته في الاصطفاف مع «خاسري التاريخ» هنا وهناك في العالم، وأن يشدد بقوّة أكثر على أنه لا يشهد على قضاياهم فقط؛ بقدر ما ينحاز إليهم، وينخرط في صلب السياقات السياسية والاجتماعية والتاريخية والثقافية التي تغذّي في آن معاً مآسيهم ومقوّمات بقائهم ونضالاتهم وصمودهم. وإذا كانت أعمال ساكو الفلسطينية تلقى اليوم رواجاً فائقاً مستجداً، وتعيد دار النشر سحب عشرات الآلاف من طبعاتها، فالأرجح أنّ مصادفات حرب الإبادة الإسرائيلية ليست وحدها حمّالة التفسير.
القدس العربي