كتاب “اختراع التقاليد” تحرير “اريك هوبسباوم” و ” تيرنس رينجر” بترجمتين مختلفتين
الأول ترجم بعنوان “اختراع التراث”، دراسات عن التقاليد بين الأصالة والنقل والاختراع
صدر عن مطبوعات البحوث والدراسات الاجتماعية – كلية الآداب – جامعة القاهرة
ترجمة: شيرين أبو النجا و عبد الرحمن الرافعي و لبنى إسماعيل و محمد يحيى و زمنى زكرى
مراجعة وتقديم عاصم الدسوقي
الطبعة الأولى
2004
الثاني ترجم بعنوان “اختراع التقاليد” دراسة في نشأة التقاليد ودوافعها وتطوراتها
ترجمة أخمد لطفي
صدر عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، دار الكتب الوطنية 2013
هناك ترجمة ثالثة لم نعثر على نسخة ألكترونية منها وهي
اختراع التقاليد، من تحرير إريك هوبسباوم وتيرنس رينجر
ترجمة الحارث محمد النبهان
وزارة الثقافة، دمشق، 2012.
عنوان الكتاب بالانجليزية
The Invention of tradition
انظر مراجعة الكتاب
اختراع التقاليد: إريك هوبسباوم/ ياسين الحاج صالح
2012 / 2 / 25
لعل لطرافة تعبير “اختراع التقاليد” في أصله الانكليزي، وفي ترجمته العربية، وما ينطوي عليه من مفارقة، ضلع في انتشاره، وفي شيوع النظرية التي ينطوي عليها. تقول هذه النظرية التي وضعها المؤرخ الماركسي البريطاني إريك هوبسباوم إن كثيرا من تقاليد الأمم المعاصرة هي في الواقع اختراعات حديثة، جرت بصورة أساسية بين العقد الثامن القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى، وإن بحث لها عن أصول قديمة أو موغلة في القدم. ويقول المفهوم أيضا إن الأمم الحديثة احتاجت على نطاق واسع إلى صنع تقاليد، أي أنظمة وطقوس وشعائر عامة، ويبدو أن الأمر وثيق الصلة بانفصال هذه الأمم عن تواريخها القديمة، وبـ”الحداثة”.
هذا رغم أنه لا يجري استخدام هذا المفهوم الأخير بتاتا في الكتاب الذي بين أيدينا، وعنوانه أيضا “اختراع التقاليد”، من تحرير إريك هوبسباوم وتيرنس رينجر، ومشاركة عدد من المؤرخين (ترجم الكتاب الحارث محمد النبهان، وصدر عن وزارة الثقافة السورية في هذا العام؛ 448 صفحة).
يقول هوبسباوم في الفصل الافتتاحي إن التقليد المخترع هو “جملة من الممارسات التي تكون عادة محكومة بقواعد مقبولة على نحو معلن أو مضمر، وتكون ذات طبيعة رمزية أو شعائرية تسعى إلى غرس قيم محددة وأنماط من السلوك عن طريق التكرار”. ورغم أن هذه التقاليد المخترعة “تحاول عادة أن تقيم لنفسها اقترانا مع ماض تاريخي يوافقها”، إلا أنه “لا حاجة بالماضي التاريخي الذي يقحم التقليد الجديد فيه لأن يكون قديم العهد مُتطاوِله بالغا مجاهيل الماضي السحيق”. فالواقع أن التقاليد المخترعة “استجابات لظروف جديدة تتخذ هيئة رجوع إلى ظروف قديمة”. ويربط هوبسباوم اختراع التقاليد بمراحل التغير الاجتماعي السريع: “علينا توقع حدوث هذا الاختراع على نحو أكثر تكرارا عندما يضعف التحول السريع في المجتمع، أو يخرب، الأنماط الاجتماعية التي صممت التقاليد القديمة من أجلها”. بالمقابل، “عندما تكون الأساليب القديمة حية، فلا تكون التقاليد في حاجة إلى إحياء أو اختراع”.
والنقطة المهمة في هذا الشأن أن التقاليد الجديدة المخترعة، ورغم الإكثار منها، “لم تملأ إلا قسما صغيرا من الفراغ الذي خلفه الانحطاط العلماني لكل من التقليد القديم والعادة. وهو ما قد يكون أمرا متوقعا حقا في مجتمعات يتزايد فيها تحول الماضي إلى أمر قليل الأهمية بوصفه نموذجا أو سابقة [ناظمة] لمعظم أشكال السلوك الإنساني”.
ويرى المؤرخ الكبير، قدرا وسنا (95 عاما)، أن هناك فارق مميز بين التقاليد القديمة والمخترعة يتمثل في أن الأولى منهما “محدِّدة للممارسات الاجتماعية شديدة التقييد لها، أما الثانية فمالت إلى أن تكون غامضة غير محددة تمام التحديد فيما يختص بطبيعة القيم والحقوق والواجبات الخاصة بعضوية الجماعة التي تنغرس فيها”.
أما عن الفائدة التي يحتمل أن يجنيها المؤرخون من دراسة اختراع التقاليد فتتمثل في شيئين. أولهما أنها “أعراض مهمة (…) لمشاكل قد لا يتم تشخيصها من غير ذلك ولتطورات يصعب تحديد هويتها وتاريخها من غير ذلك. وثانيها أنها “تلقي إضاءة مهمة على العلاقات الإنسانية مع الماضي”، وهذا لأن “جميع التقاليد المخترعة تستخدم الماضي، بالقدر الممكن، لتشريع العمل ورابطا لتماسك الجماعة”.
وفي الفصل الثاني من الكتاب، يظهر مؤرخ شهير، هيو تريفور- روبر، أن “مفهوم ثقافة المرتفعات الاسكتلندية وتقاليدها المميزة (…) ليس إلا اختراعا بأثر رجعي”. ويتناول بالتحدي التنورة الاسكتلندية الشهيرة التي يفترض أنها زي الاسكتلنديين القومي، ومزمار القربة الذي يفترض أنه أداتهم الموسيقية القومية أيضا، ويظهر أنهما معا اختراعان حديثان نسبا إلى ماض عتيق جدا.
في واقع الأمر التنورة الاسكتلندية اختراع بريطاني، تقاطعت في استحداثه ملابسات اقتصادية (معامل نسيج التارتان في لانكشاير) وعسكرية (أفروج المرتفعات) وثقافية (الحركة الرومنسية). وأن ما أنقذ تلك التنورة الفلاحية ذات الأصل الإيرلندي من الانقراض هو رجل دولة امبريالي بريطاني، وليم بت الكبير، جعل منها لباسا رسميا لأفواج المرتفعات المكونة من اسكوتلنديين، هذا قبل أن يجري اختراع نسب اسكتلندي “أصيل” لها.
ويظهر تريفور- روبر أنه جرت عملية إعادة هيكلة للثقافة الاسكتلندية فحذف منها كل ما أيرلندي، بل جرى “اغتصاب للثقافة الإيرلندية” و”إعادة كتابة للتاريخ الاسكوتلندي الباكر، توجت بادعاء صفيق مفاده أن اسكوتلندة السلتية كانت هي “الأمة الأولى”، فيما لم تمكن إيرلندة غير “تابع ثقافي” لها.
ومثل ذلك ينطبق على الثقافة الولزية التي يدرسها برايز مورغان في فصل طويل مستقل. فلأن ولز لم تكن “دولة سياسية”، فقد “كان الناس مدفوعين إلى قدر غير متناسب من طاقاتهم في الأمور الثقافية وفي استعادة الماضي، بل وفي اختراعه أيضا عندما يلفون حقيقة الماضي مُقصِّرة عما يرومون”. فالأمر أن أسلوب الحياة القديم تداعى ثم اختفى، “وغالبا ما كان الماضي رثا باليا، فكان لا بد من قدر كبير من الاختراع” لصون االمشاعر القومية.
وفي فصل طويل آخر عن الملكية البريطاني وشعائرها يظهر ديفيد كانادين أنها في الواقع اختراعات متأخرة من السنوات الأخيرة من العصر الفكتوري (1837-1902)، وما بعده، وليست بحال من عمر الملكية البريطانية. وأن البريطانيين كانوا يغبطون أنفسهم إلى ما بعد منتصف القرن التاسع عشر على منازعهم العملية العقلانية التي لا تهتم بالمهرجانات والطقوس والاحتفالات، وكان ما يحصل أن يؤدونه منها متواضعا ركيكا قياسا إلى شعائر الملكيات الأوربية الأخرى. لكنهم فيما بعد فاقوا غيرهم في هذا المجال إلى حد أنه، اليوم، “ما من رأس دولة يحاط بشعائر وطقوس شعبية أكثر من الملكة إليزابيث الثانية”، إلا البابا.
والمدهش أن كانادين يربط بين الطقوس الملكية وبيت تقدم الديمقراطية. فهو يقتبس مستحسنا من مؤلف من القرن التاسع عشر، تشارلز بيحهوت، أنه “بقدر ما نزداد ديمقراطية (…) نزداد حبا للمظاهر والأبهة المتقنة التي طالما كانت محببة لدى الدهماء”.
كذلك يربط المؤلف بين تلك الطقوس الملكية المخترعة وبين المنافسة الدولية بين الأمم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وما بعده. وفي المحصل كان “الربع الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين عصرا ذهبيا لاختراع التقاليد من يحث الميداليات والموسيقى ومظاهر العظمة الاحتفالية”.
وفي وقت لاحق أسهم البث الإذاعي عبر البي بي سي، حديثة العمر عام 1932، في تعزيز التقليد الخاص بالملك كأب للشعب، فقد كان يتحدث إلى رعاياه وهم في بيوتهم. وقد بلغ نجاح جورج الخامس الإذاعي حدا جعل ابنه جورج السادس (1937- 1953)، مجبرا على مواصلة هذا التقليد رغم لجلجة نطقه.
وبمحصلة هذه التطورات، أي تحسن إعداد البريطانيين للاحتفالات الملكية بعد طول سوء أدائهم في هذا المجال، أن سمح لهم بإقناع أنفسهم بأنهم “يحسنون إقامة تلك الشعائر لأنهم درجوا على حسن إقامتها منذ غابر الأزمان”. وقد بلغ من رسوخ هذا الوهم أنه حين لم تصنع ميدالية تذكارية بمناسبة تولي إليزابث الثانية العرس عام 1953، رأى هواة جمع التذكارات في ذلك “خروجا خطيرا على التقاليد”، هذا رغم أن أول ميدالية تذكارية صنعت عام 1902، عند تتويج إدوارد السابع!
ولقد اقتضي تمثيل السلطة البريطانية في الهند في الحقبة الفكتورية اختراع تقاليد متنوعة كانت تثبت الحكم البريطاني وترسخ شرعيته وتضمن رضا نخبة هندية مرتبطة به. كانت ترسخت في العقدين السابع والثامن القرن التاسع عشر، حسب مؤلف هذا الفصل، برنارد كوهن، فكرة أنه “لا بد للسلطة، حال اكتسابها، من امتلاك ماض آمن يمكن الاعتماد عليه”. وهو ما اقتضى صنع هذا الماضي أو اختراعه.
ومن أوجه هذا الاختراع في مجال الثقافة إضفاء صفة قياسية ومرجعية على ما ستوصف أنها “كلاسيكيات الفكر والأدب الهنديين”، لا في عين الأوربيين وحدهم، بل وفي عين الهنود أنفسهم أيضا.
ويربط تيرنس رينجر الذي يتناول اختراع التقاليد في أفريقية المستعمرة بين اختراع التقاليد وبين فكرة الامبراطورية. فخلافا للهند، جرى هنا استيطان واسع للبيض، وكان لازما اختراع تقاليد مناسبة كي تسوغ سيادتهم على السود، وتضع القواعد والأصول التي تصون تبعية الأخيرين. إن “قوة تقاليد الإدارة والحكم المخترعة في أفريقيا المستعمرة ساعدت في إنتاج جنود ومديرين ومستوطنين، ملؤهم الإخلاص للفكرة الإقطاعية الأبوية لا للفكرة الرأسمالية التحولية”. من ذلك مثلا أن أسقف زنجبار، فراتك ويستون، كتب عام 1914 أن “المسيحي الأفريقي غير مطالب بالالتزام بشيء اللهم إلا إزاء قلة من الأوربيين الذين يصادفهم في الشارع، فهو دونهم مقاما. لعلهم يظهرون له لطفا،ولعل في وسعهم أن يعمل خادما في غرف طعامهم، أو رئيس خدم… وأما أن يكون أخا لهم، فلا!… لعل هذا يكون في زمن لاحق!”.
ولقد اقتضت الامبراطورية أن يخترع الحكام البريطانيون تقاليد أفريقية للأفارقة استبطنتها بعض النخب الأفريقية، ومن هذه التقاليد القبائل ذاتها كهويات ثابتة ثقافيا وكوحدات ثابتة سياسيا. هذا بينما الواقع أن القبائل في وسط أفريقيا “ابتكارات استعمارية من صنع ضباط المستعمر والمثقفين الأفارقة”. وهي نتاج إسقاط أوربا الدول القومية على أفريقيا، فقد “انطلق المديرون الاستعماريون من التفكير العرقي الشائع في ألمانيا ذلك الوقت، فقرروا أن كل أفريقي ينتمي إلى قبيلة من القبائل، تماما كما ينتمي كل أوربي إلى أمة من الأمم”. لكن في خلفية هذا الإسقاط أيضا أنثروبولوجيا مستندة من العهد القديم،ومن كتابات تاسيتس ويوليويس قيصر، ومن كتابات أكاديمية، وجدت في كلمة “قبلي” بديلا أقل فظاظة من كلمة “متوحش”. في المحصلة “اعتقد الأوربيون أن الأفارقة منتمون إلى قبائل فأنشأ الأفارقة قبائل وانتموا إليها”، وإن يكونوا فعلوا ذلك لحاجتهم إلى وحدات فعالة للتحرك ضمن الإطار الاستعماري.
وعموما كان من بين وظائف اختراع التقاليد في أوربا نفسها في القرن التاسع عشر “منح الأشكال الجديدة من السلطان والخضوع صيغا رمزية سريعة معروفة” للعموم. وكانت هذه التقاليد، من جانب آخر، “تبث في نفوس أصحابها من الأوربيين قدرا من الراحة والاطمئنان لأنها تمثل ثوابت في حقبة من التغير الصاخب العنيف”.
ومثلما قدم للكتاب، يختمه إريك هوبسباوم بفصل ختامي بعنوان: “الإنتاج الواسع للتقاليد: أوربا، 1870-1914. ويرى فيه أنه عبر اختراع مؤسسة التعليم الابتدائي الإلزامية في فرنسا، المشبع بالمبادئ الثورية والجمهورية، نشأ وتطور معادل علماني للكنيسة، ومقابل سلك القساوسة ظهر سلك المعلمين، وبهذا جرى تحويل الفلاحين إلى فرنسيين والفرنسيين جمهوريين صالحين. وفي الوقت نفسه جرى اختراع شعائر عامة مثل يوم الباستيل الذي احتفل به لأول مرة عام 1880، بعد أكثر من 90 عاما على الثورة الفرنسية وسقوط سجن الباستيل. كذلك كانت تلك حقبة الإنتاج الواسع للنصب العامة.
وبفعل ذلك صارت النزعة القومية “بديلا عن التماسك الاجتماعي الذي كانت الكنيسة الوطنية أو الأسرة الحاكمة أو غير ذلك تقاليد التلاحم تحققه، أو هي صارت تمثيلا ذاتيا جمعيا أو دينا علمانيا جديدا”. والطبقة الأشد تطلبا لنمط التماسك الجديد هي الطبقة الوسطى الجديدة، أو “تلك الكتلة الجماهيرية الضخمة الوسطى التي كانت مفتقرة إلى أي شكل آخر من أشكال التماسك”.
ويظهر هوبسباوم أن أكثر التقاليد السياسية المخترعة كانت من إنتاج الدول، لكن الحركات الجماهيرية المنظمة أنتجت أيضا أنماطها وعوائدها، ومنها الكاثوليكية السياسية والحركات القومية، وكذلك الحركات العمالية الاشتراكية. ومن شعائر هذه الأخير الاحتفال بيوم الأول من أيار عيد للعمال، بدءا من عام 1890. ومنها الرايات الحمراء وأزياء خاصة بالعمال ورياضات جماهيرية.
ليس هناك مساهمون عرب أو مسلمون في الكتاب. سيكون أمرا مهما أن يكتب بحث عن اختراع التقاليد في بلداننا. ومن أبرز الأمثلة على اختراع التقاليد في تقديري ما يسمى “التأصيل” في الفكر الإسلامي، أي نسبة ممارسات وقواعد مكتسبة حديثا إلى الأصول إسلامية قديمة. مثلا إعادة الديمقراطية إلى الشورى، وكثير من المستحدثات إلى مفهوم المصالح المرسلة، وغير ذلك كثير. وواضح أن اختراع التقاليد هنا ينفتح على نظرية في التفاعل الثقافي.
من جانب آخر، يتعين على بحث يهتم بالتقاليد المخترعة أن يهتم بنمط التحديث الجاري في بلداننا، ومستوى المأسسة المحقق لممارسة السلطة والممارسات الاجتماعية، وأوضاع الاستثناء القانونية والسياسية. نقدر أن حركة اختراع التقاليد أضعف في مجتمعاتنا، لكن هذا ليس لأنها لم تنفصل عن تقاليدها “الأصيلة” غير المخترعة، ولكن ربما لأنها محرومة من القدر على المبادرة والابتكار الاجتماعي والثقافي، وواقعة تحت سيطرة نظم تعسفية جعلت من ذاتها المبدأ الوحيد للانتظام الاجتماعي. ولعل الثورات العربية اليوم تكون خطوة كبرى نحو تغيير هذا الشرط الجائر. الأمر على كل حال بحاجة إلى مزيد من النظر.
وفي المجمل، يوفر مفهوم التقاليد المخترعة أداة مهمة في تحليل المجتمعات المعاصرة، لا يستغني عنها في شأن مجتمعاتنا العربية أيضا.
الحوار المتمدن
للتحميل من الرابط التالي