هل قتل الاقتصاد الرقمي الرأسمالية؟/ يانيس فاروفاكيس
5 أبريل 2024
ترجمة: لطفية الدليمي
“أدخُلْ موقع أمازون وستكون حينها قد غادرت عالم الرأسمالية (الكلاسيكية). برغم كلّ عمليات البيع والشراء التي تجري وقائعها هناك فأنت دخلتَ فضاءً أبعد ما يكون عن الوصف بمفردة (سوق). لن يصلح أيضًا أن نفكّر بالنظر إليها كسوق رقميّة”. عندما أخبِرُ الناس بهذا الأمر ـ وهو ما أفعله معظم الأحيان في محاضراتي ونقاشاتي ـ فإنّهم ينظرون إليَّ كما لو كنتُ رجلًا مجنونًا. لكن بعدما أشرعُ في شرح مسهب لما أعنيه بعبارتي السابقة، فإنّهم يتخلّون عن التشكيك بقدراتي العقلية، وينقلبُ هذا التشكيك إلى خوف جمعي على الكائنات البشرية أجمعها أينما كانت في هذا العالم.
تخيّلوا معي المشهد التالي الذي يبدو وكأنّه مُستلٌّ من كتاب حكايات خيال علمي. أحدُنا وجد نفسه في مدينة مكتظّة بالسكّان، وكلّ فرد من سكّانها مشغولٌ بإدارة عمل خاص به: تجارة بالأدوات، والملابس، والأحذية، والكتب، والألبومات الغنائية والموسيقية، والألعاب، والأفلام السينمائية. يبدو كل شيء أول الأمر عاديًا، ثمّ تبدأ بملاحظة حركة غريبة: كلّ المحلات ـ كلّ مبنى تحصل فيه عمليات متاجرة في المدينة لو شئنا الدقّة ـ تصبح مملوكة لشاب اسمه جِفْ… (إشارة الى جِفْ بيزوس مالك موقع أمازون ـ المترجمة) هذا الشاب في واقع الأمر قد لا يمتلك المصانع التي تنتج المواد التي يبيعها في محلّاته؛ لكنّه في الحقيقة يمتلك خوارزمية/ Algorithm تتيحُ له الحصول على نسبة من كلّ مادة يبيعها، وله الحق الكامل في تقرير أيّ المواد يمكن بيعها، وأيّها لا يمكن بيعه.
لو كانت هذه هي كلّ الحكاية في المشهد المتخيّل فربّما ستُستثارُ لدينا ذاكرتنا السينمائية عن أفلام الويسترن القديمة، حيث يحلُّ رجل (كاوبوي) وحيد مع حصانه في بلدة بالغرب الأوسط الأميركي، ثمّ سرعان ما يكتشف أنّ رجلًا قويًا قصير القامة هو المتحكّمُ بمشرب البلدة، ومحلّ بيع الخضار فيها، ومكتب البريد، وخط السكة الحديدية، والبنك، وبالطبع أيضًا بالرجل الذي يمثلُ سلطة القانون (الشريف/ The Sheriff). لكن برغم ذلك يملك جِفْ أكثر ممّا يملك الرجل القوي قصير القامة. يملك جِفْ أكثر من المحلات والبنايات العامّة. هو يملك فوق هذا الأرض التي تمشي عليها، والمصطبة التي تجلس عليها، بل حتى الهواء الذي تتنفّسه. إنّ كلّ ما تراه (وما لا تراه كذلك) في هذه البلدة العجيبة هو خاضعٌ لتحكّم خوارزمية جِف: قد نسيرُ أنا وأنت أحدُنا وراء الآخر، وعيوننا مدرّبةٌ على النظر في الاتجاه ذاته؛ لكنّ المشهد الذي يراه كلٌّ منّا، والذي تقدّمه لنا خوارزمية جِف، هو مشهدٌ يختلف كلية بيننا، لأنّه مصمّمٌ تبعًا لتفضيلات جِف وبما يعظّمُ فوائده المالية. كلّ واحد فينا ممّن يجولُ في فضاء أمازون الإلكتروني ـ باستثناء جِفْ فقط ـ إنّما يفعل هذا في عزلة خاصة به، ووفقًا لقواعد خوارزمية مصمّمة لتعظيم مصالح جِفْ.
بلدة جِف الإلكترونية الموصوفة أعلاه لا يمكن القول إنّها بلدةٌ تضمُّ سوقًا حقيقية. هي حتى لا يمكن وصفها بأي شكل من الأشكال بأنها سوق رقمية رأسمالية واسعة النطاق/Hypercapitalist . حتى أكثر أشكال الأسواق قبحًا وانغلاقًا فهي تظلُّ أماكن لقاء بين الناس يمكن فيها لهم التفاعل وتبادل المعلومات بحرية معقولة ومقبولة. الحقيقة أنّ سوق جِفْ أسوأ حتى من سوق احتكارية بالكامل؛ إذ تبقى في هذه السوق الاحتكارية الكاملة في الأقل إمكانية تبادل الحديث فردًا لفرد بين المشترين، ويمكن لهم أيضًا أن ينظّموا تجمّعات، وربما تنظيم حملة مقاطعة استهلاكية بقصد إرغام المحتكر الرأسمالي على تخفيض الأسعار، أو تحسين جودة نوعية المنتج. هذا الأمر لا يحصل في مملكة جِف الإلكترونية، حيث كل شيء، وكلّ فرد منّا، يخضعُ لا إلى مفاعيل اليد الخفية الضابطة للأسواق الكلاسيكية، بل إلى قواعد اللعب التي تفرضها خوارزمية جِف التي تحدّد سقوفًا أدنى للأسعار لا يمكن تجاوزها، وهي تعمل بكيفية متناغمة وحصرية لتعظيم عوائد جِف المالية.
لو لم تبعث هذه الحكاية فيك ما يكفي الذعر فتذكّرْ أنّ خوارزمية جِف المُعْتَمَدة في مملكته الرقمية أمازون هي ذاتها التي درّبتنا عبر برنامج أليكسا** Alexa على تشكيل رغائبنا وتطلعاتنا تبعًا لما تريده هي. الخوارزمية ذاتها التي ندرّبها في الزمن الحقيقي لكي تعرف بدقة ما يجول بدواخلنا من أفكار ورغبات ستقومُ في النهاية بتكييف وتعديل تفضيلاتنا، ومن ثمّ ستقدّمُ قائمة خياراتنا ممّا نبتاعه من أمازون بحيث تتوافق رغائبنا مع ما يعرضه لنا موقع أمازون. يبدو أمازون هنا وكأنّه معلّم حكيم (غورو) إعلاني يستبطنُ دواخلنا وعقولنا ويعلم كلّ تفاصيل حياتنا اللاشعورية، ولا يكتفي بترسيخ رغبة توّاقة في نفوسنا تجاه منتجات بذاتها فحسب، بل يعمل فوق هذا كقوة جبارة تجلب ما نشاء من المنتجات إلى أعتاب بيوتنا متجاوزة كلّ منافس محتمل مهما بلغت قوته وقدراته. كلّ هذا يحصل لكي تنتهي الأمور في صالح تعظيم موارد شاب يدعى (جِف) وتوسيع نطاق قدراته يومًا بعد آخر.
هذه القدرة المُمَركزة في شخص واحد يجبُ أن تصيب بالذعر كلّ عقل اعتاد الحرية الليبرالية، ونبذ التمظهرات الشمولية والاحتكارية. كلّ مَنْ أبدى طيلة حياته التزامًا مخلصًا بفكرة الأسواق الحرّة (لن أذكر الذات الفردية المستقلة. سأبدي بعض التواضع في رغباتي) يتوجّبُ عليه إدراكُ حقيقة أنّ ما نشهدهُ اليوم هو قرعُ الأجراس المؤذنة بموت هذه اللمسات الليبرالية في حياتنا. يجب أن تخضّ هذه الحقيقة المشكّكين بأهمية السوق الحرة المفتوحة ـ الاشتراكيين منهم على وجه التخصيص ـ، وبالتحديد يجب على هؤلاء الابتعادُ عن ذلك الافتراض المطمئن لهم ولضمائرهم القلقة بأنّ أمازون ليست سوى سوق رأسمالية تغوّلت وانفلت لجامُها. الحقيقة أنّ حكاية امازون أسوأ بكثير من هذا التوصيف البسيط من جانب الاشتراكيين المعتدلين.
“إذا لم تكن أمازون سوقًا رأسمالية فما الذي ندخله بحقّ السماء في الفضاء الإلكتروني كلّما ضغطنا على عبارة Amazon.com?”: هذا ما سألني إياه طالبٌ في جامعة تكساس الأميركية. أجبته: “أنت تدخلُ حينها نوعًا من إقطاعية رقمية، ما بعد رأسمالية، تستمدُّ جذورها التاريخية من ميراث أوروبا الاقطاعية”.
في ظل الإقطاع سيمنحُ السيد الإقطاعي الأعلى/ Overlord ما يسمى بالإقطاعيات/ Fiefs لمرؤوسيه الذين يُطلَقُ عليهم وصفُ التابعين. هذه الإقطاعيات الصغيرة ستمنحُ التابعين حقًا شكليًا لاستغلال جزء صغير من مملكة الإقطاعي الكبير اقتصاديًا (مثلًا زراعة محاصيل زراعية فيها، أو رعي الماشية) في مقابل جزء من المحصول. بعد هذا سيطلقُ السيد الإقطاعي الأعلى العنان لرجاله من أجل مراقبة عملية استغلال أراضي الإقطاعيات الصغيرة بغية جمع نواتج حصصه المتفق عليها من التابعين. علاقة جِف بالبائعين على موقع أمازون لا تختلف كثيرًا عمّا كان يحصل في أوروبا الإقطاعية، وكما شرحت في السطور السابقة. بدلًا من الإقطاعيات الخاصة بالأرض الزراعية يمنحُ جِف صغار البائعين إقطاعياته الرقمية لقاء أجور محدّدة، ثمّ يترك الأمر كاملًا لرقيبه الخوارزمي لكي يدقق في كل شيء، ويجمع العوائد المترتبة، والمتفق عليها معهم.
أمازون كان البداية فحسب. موقع (علي بابا Alibaba) استخدم التقنيات ذاتها لدى أمازون لخلق إقطاعية رقمية مشابهة لأمازون في الصين. ثمّة منصّات مقلّدة للتجارة الإلكترونية تقدّمُ تنويعات عديدة لفكرة أمازون، وعلي بابا، وهي تظهر في كل مكان، وتغزو الإعلام الإلكتروني في نصف الأرض الشمالي كما في جنوبها أيضًا. الأمر الأكثر دلالة هو أنّ القطاعات الصناعية الأخرى باتت تنحو أكثر فأكثر باتجاه أن تصبح إقطاعيات رقمية أيضًا. فكّرْ على سبيل المثال في تِسلا، شركة إيلون ماسك للسيارات الكهربائية. أحد الأسباب الجوهرية التي تجعل المموّلين يقيّمون هذه الشركة ماليًا بأكثر ممّا يفعلون مع شركة فورد، أو تويوتا، هو أنّ كلّ دائرة كهربائية في سيارة تسلا متّصلة بالشبكة السحابية. تتيحُ مثل هذه الحقيقة لشركة تسلا إبطال عمل سيارة من سيارات تسلا لأي سبب (مثل فشل مالكها في القيام بواجب الصيانة الدورية لها بالشكل الذي تريده الشركة)؛ لكن لو وضعنا هذا الأمر جانبًا فإنّ مالكي الشركة يستحصلون معلومات لحظية في الزمن الحقيقي/ Real-Time Information كلما كانت السيارة في حالة استخدام فعلي (من هذه المعلومات نوع الموسيقى التي يستمع لها السائق)، وهذا ما يعملُ على تعظيم محتوى الرأسمال المعلوماتي المخزّن في الخوادم (السيرفرات) السحابية الخاصة بالشركة. قد لا يرى مالكو السيارات أنفسهم عبيدًا؛ لكنّ هذا بالضبط هو ما يراه مالكو سيارات تسلا المدهشة فيهم. نحن هنا إزاء شكل جديد من نظام العبودية الرقمية.
تطلّبَ أمر هذا التطوير الرقمي العديد من الابتكارات المثيرة للعقل البشري، والكشوفات العلمية التي هي أقرب إلى الانعطافات الثورية في تاريخ العلم، والشبكات العصبية خارقة الأداء، وبرامج الذكاء الاصطناعي التي تتجاوز حدود الخيال البشري. كل هذا من أجل ماذا؟ الجواب: من أجل خلق عالمٍ جديد يجري فيه استبدالُ الأسواق وعلى نحو متزايد بالإقطاعيات الرقمية، وكذلك لأجل دفع قطاع الأعمال ليلعب دور التابعين الأجراء، ومن ثمّ في نهاية المطاف لأجل تحويلنا كلّنا إلى عبيد رقميين، مرتبطين على نحو لا ينفصم مع هواتفنا الذكية وحواسيبنا اللوحية، ونحنُ ننتجُ مزيدًا من رأس المال الرقمي الذي يغذّي ثروة اللوردات الرقميين الجدد بكيفية تتعاظم يومًا بعد آخر.
الإقطاعية الرقمية/ Technofeudalism تبني مصدّات حاجزة عظيمة بالضد من أي حراك مضاد لها؛ لكنها في الوقت ذاته تمنحُ قوة جديدة لهؤلاء الذين يمتلكون جرأة الحلم بطريقة ما لإسقاطها عبر بناء تحالفات منظّمة لها القدرة على الفعل في العالم الحوسبي السحابي، وتلك ظاهرة يطيب لي توصيفها بالحراك السحابي. ليس هذا الأمر سهلًا ميسّرًا أو محتّمًا؛ لكن هل هو أشقُّ أو أبعدُ من التحقق ممّا تطلّع إليه عمّال المناجم، أو الخيّاطات البائسات، أو عمّال المرافئ، ممن ضحّوا بحيواتهم من أجله في القرن التاسع عشر؟ الشبكة المعلوماتية السحابية تأخذ منّا كثيرًا؛ لكن يمكنها أيضًا أن تمنح كثيرًا لهؤلاء الذين يسعون جاهدين لإصلاح الحرية والديمقراطية. يبقى الأمر متروكًا لنا لكي نقرّر أي المشقّتيْن هي الأعظم.
قراءات مقترحة
– Doppelganger: A Trip Into the Mirror World by Naomi Klein (Profile)
– The Handover: How We Gave Control of Our Lives to Corporations, States and AIs by David Runciman (Profile)
– The Age of Surveillance Capitalism by Shoshana Zuboff (Allen Lane)
(*) يانيس فاروفاكيس/ Yanis Varoufakis: وزير مالية يوناني أسبق، ألّف عددًا من الكتب التي لاقت رواجًا عالميًا.
آخر كتبه المنشورة عام 2023 هو الإقطاعية الرقمية: ما الذي قتل الرأسمالية/ Technofeudalism: What
Killed Capitalism
** أليكسا Alexa: يعد أمازون أليكسا، المعروف ببساطة باسم أليكسا، مساعدًا ذكيًا افتراضيًا طورته أمازون، واستخدم لأول مرة في أمازون إيكو وأمازون إيكو دوت السماعات الذكية. النظام قادر على التفاعل الصوتي، تشغيل الموسيقى، إعداد قوائم المهام، إعداد الإنذارات، بث مقاطع صوتية، تشغيل الكتب المسموعة، وتوفير الطقس، وحركة المرور، والرياضة، وغيرها من المعلومات في الوقت الحقيقي، مثل الأخبار. يمكن لـ أليكسا أيضًا التحكم في العديد من الأجهزة الذكية باستخدام نفسها كنظام منزلي (ويكيبيديا).
ملاحظة المترجمة: الموضوع المترجم أعلاه منشور بتاريخ 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في صحيفة “غارديان” البريطانية ضمن سلسلة The big Idea الأسبوعية.
العنوان الأصلي للمادة هو:
Has The Digital Economy Killed Capitalism?
المترجم: لطفية الدليمي
ضفة ثالثة