حين تصبح الهوية عبئاً (المثال السوري)/ راتب شعبو
2024 / 3 / 12
الهوية ليست شيئاً يختاره المرء، ومع ذلك ليست شيئاً يسهل التخلي عنه. الهوية التي تكتسبها “مرغماً” في حياتك الباكرة حين لا تمتلك الخيار، تصبح عزيزة عليك في حياتك اللاحقة، أو أكثر من ذلك، تصبح هي أنت. وقد يكون من أكثر التجارب قسوة على المرء أن يجد نفسه وقد باتت هويته عبئاً عليه. مثلاً حين يرفضك الآخرون لأنك من هوية معينة، وأنت في حاجة إلى هؤلاء الآخرين الذين يرفضونك. هذه خبرة عرفها السوريون على مدى العقد الماضي وحتى اليوم. ولهذا العبء نوعان، نوع يعيشه اللاجئ السوري في البلدان المجاورة لسوريا، وآخر يعيشه في البدان الأوروبية. نوعان مختلفان من العبء، مشتركهما الوحيد أنهما عبء هوياتي على اللاجئ السوري، كنموذج عن اللاجئين.
في البلدان المجاورة لسورية، يضطر ملايين اللاجئين السوريين إلى العيش منقوصي الحقوق لأنهم سوريون. تمتلئ الصحف والمواقع بحوادث التمييز المجحف والإساءات التي تصل إلى حدود القتل بحق السوريين في بلدان مثل تركيا ولبنان، في حين يُمنّ على السوريين هناك أنه لم تبن لهم مخيمات لجوء مستقلة. أما في الأردن فقد اختارت السلطات أن تبقى “الهوية” السورية في المخيم. والحال إن الهوية السورية المبخوسة في كل الحالات، لا تختلف عن هوية شعوب هذه البلدان، سوى في الجانب السياسي، أي في التابعية السياسية لدولة محددة.
بالتأكيد لا يُرفض اللاجئون السوريون لأنهم سوريون حصراً، بل لأنهم يسببون ضغطاً على البلد المضيف، ولاسيما مع طول أمد اللجوء. ولذلك يركز الرافضون من أهل البلد المضيف على العنصر المغاير الذي يساعد على النبذ، وهذا العنصر هنا هو التابعية السياسية، فهي ما يميز السوري عن رعايا الدول المجاورة، وهكذا فإن اسم النسبة (سوري) يمتص كل هوية اللاجئ في هذه البلدان.
الدول الأوروبية، من ناحية أخرى، عاملت اللاجئين الذين استطاعوا الوصول إليها، وفق قوانينها الخاصة وبحقوق المواطنين نفسها ما خلا الجنسية، على أن نسبة لا بأس بها من السوريين حصلوا أيضاً على جنسية بلد اللجوء الأوروبي بعد تحقيق شروط الجنسية. يعود ذلك إلى أن عدد اللاجئين إلى كل دولة أوروبية قليل بالمقارنة مع الجوار، وأن القدرات الاقتصادية والسياسية للبلدان الأوروبية أعلى. ولكن، بالمقابل، تباين هوية اللاجئين عن هوية الشعوب الأوروبية واسع.
مع ذلك تبقى هوية اللاجئ السوري عبئاً عليه في البلدان الأوروبية، ولكنه عبء من نوع مختلف. فما يثير المشكلة هنا هو البعد الحضاري للهوية وليس البعد السياسي كما هو الحال في بلدان الجوار.
الرسالة التي تصل إلى اللاجئ السوري في البلدان المجاورة هي أنه من غير المسموح لك أن تلغي الفارق الذي يفصلك عنا بوصفك سورياً، وأن هذا الفارق في الحقوق والعمل والنظرة سوف يبقى قائماً، وسوف يكون على الدوام هو السبب في إشارات الرفض وفي تهديدات الترحيل وفي بخس الحقوق. في حين أن الرسالة التي تصل إلى اللاجئ في البلدان الأوروبية هي رسالة معاكسة تقول إنه من الأسلم لك أن تلغي الفارق الذي يفصلك عنا، أن تصبح مثلنا، أن تندمج أو، بتعبير اليمين المتطرف، أن تُهضم.
في الحالتين تبقى الهوية عبئاً. سواء حبسك الآخرون في هويتك كي يحافظوا على مرتبتك المتدنية في بلادهم، أو طالبوك بالخروج من هويتك كي يسهل قبولك. كيف ينعكس هذا الحال على اللاجئ، نقصد الشخص الذي أُجبر على العيش خارج بلاده، والممنوع من العودة إليها، حتى لو كان المنع غير رسمي أو غير معلن. الحقيقة أن عدم التصريح الرسمي بالمنع قد يخفي مخاطر أشد يعرفها اللاجئون وهم لذلك قد يقبلون كل صنوف المرارة في بلد اللجوء على أن يفكروا بالعودة.
التمييز السلبي في بلدان الجوار يقوم، كما ذكرنا، على التابعية السياسية، فلا يستطيع السوري أن يتجاوز أو أن يلغي كونه سورياً. وهو لذلك تمييز لا يمكن للسوري معالجته، فيبقى لاجئاً ما بقي خارج بلده. أما التمييز السلبي بحق اللاجئ في الغرب، فإنه يخضع بدرجة ما لإرادة اللاجئ، ذلك أن شعوره بالتمييز السلبي يقل كلما نجح أكثر في “الاندماج”. نتكلم عن الاندماج ليس فقط بمعنى الدخول في سوق العمل والالتزام بالقوانين (هذا مهم بحد ذاته بالطبع)، بل أيضاً بالمعنى “الثقافي” المتصل بالسلوك اليومي وباللباس والأكل واللغة ونمط الحياة.
يمكن لهذا أن يفسر الميل الارتدادي الذي يمكن ملاحظته عند اللاجئين في أوروبا، ارتداد باتجاه التشديد على هويتهم بدلاً من التساهل في شأن الهوية في بداية الأمر. ظاهرة الارتداد ملموسة في أوروبا ولاسيما عند الجيل الشاب. أعرف من تجربة مباشرة، عائلة سورية تحول شعور الأولاد فيها، بعد سنوات، من الامتنان الكبير للبلد الأوروبي الذي احتضنهم حين فروا من بلادهم، حتى أن أحدهم طلب أن يدهن جدار غرفته بألوان علم هذا البلد، إلى زيادة الشعور بالفارق وارتفاع منسوب الحاجة إلى التمايز بالانتساب إلى هوية خاصة، إلى ذات سورية جامعة، في الوقت الذي تعاني هذه الهوية كسوفاً شديداً تحت ثقل الفشل السياسي والوطني. الهوية التي تسحقها الحاجات الحياتية الأساسية، تعود للظهور لاحقاً، حين يتاح للاجئ ما يكفي من الاستقرار “للبحث” عن هويته.
لا يمكن قصر مشكلة اللجوء على وصف الظروف المريعة التي ولدت موجات لجوء من ملايين البشر الساعين إلى النجاة، ولا على قصص الصعوبات ومشقة الانتقال إلى بلدان آمنة، أو قصص الموت دون ذلك، كالغرق في البحار، أو الضياع والتجمد في الغابات، أو الاختناق في برادات الشاحنات، أو السقوط من طائرات تعلق الناس بأجنحتها للفرار من موت أكثر مأساوية يتخيلونه لو بقوا، أو للفرار من حياة أصعب من الموت، أو الموت برصاص حراس الحدود والشواطئ. فمشكلة الهوية عند اللاجئين في مستقراتهم الجديدة هي أيضاً من المشكلات المعقدة والحساسة التي يعيشها اللاجئون.
ما يجعل الهوية مشكلة هو أن اللاجئ مجبر على العيش خارج بلاده، ومجبر، أيضاً، على حمل هويته الخاصة. فالمرء ليس حراً في اختيار هويته، وليس حراً في التخلي عنها. هذا حكم عام، يبقى أن عبء الهوية ليس بنفس القدر من الثقل على الناس. يتصل هذا، وإن بطريقة ملتوية، بصراعات الغلبة. هذا يفتح الباب لحديث آخر.
رصيف 22