مائدة البرامكة: الطعام والمدينة في ألف ليلة وليلة/ محمد تركي الربيعو
22 – مارس – 2024
لا يتوقف الأكاديمي العراقي محسن جاسم الموسوي، عن إمتاعنا، وهو يعيد قراءة حكايا من عالم ألف ليلة وليلة. فالرجل ومنذ سنوات، غدا واحدا من أهم مفسري وشارحي الليالي العربية في العالم، وهذا ما بدا من خلال عدد من الكتب والدراسات التي صدرت له في هذا السياق، والتي لم تتوقف ليومنا هذا. مؤخرا وفي سياق الاهتمام بإنتاجه، قامت مؤسسة كلمة للترجمة، بترجمة معظم أعماله، ومن بينها عمله المهم «المرجعية الإسلامية لألف ليلة ليلة» ترجمة حبيبة حسن.
حاول الموسوي في هذا الكتاب الدفاع عن فكرة أن الليالي العربية ليست مجرد قصص، أو حكايا مقتبسة، بل هي قبل ذلك تعكس المدينة العربية، وإن الإسلام وقيمه كان لها حضور قوي في الحكايا، ويظهر بصفته أسلوب حياة وثقافة ومرجعية للتطلعات وقصص الحب. وقد نعود لاحقا للحديث أكثر عن هذه النقطة، لكن من بين الزوايا التي نرغب بالتوقف عندها حاليا، هي القراءة الممتعة التي يقدمها المؤلف لموضوع الطعام، وعلاقته بالمدينة والحب في العصر الوسيط الإسلامي.
ففي العصر العباسي، نرى الطعام والوليمة بصفتهما مظاهر للفرح والاحتفالات والرفاهية، وايضا كساحة للتدخل ونصب الفخاخ. ففي المدينة المتغيرة وخطوط سيرها المحيرة، نرى ألف ليلة وليلة وهي تعكس مزاج الصوفية أحيانا حيال الطعام، إذ ترى هذه الجماعات أن احتفاء الإسلام بالطعام مقتصر على نعيم الجنة، في ما عدا ذلك ينبغي على البشر أن يرضوا بالقليل من الطعام، الذي يضمن لهم معيشة طيبة، وألا يصبح الطعام ساحة للتباهي بالامتيازات والرخاء، مثلما كانت الحال في القصور العباسية، لأنه دليل حينها على الفساد وعلى الانهيار. وهذا ما نراه مثلا من خلال حديث الليالي عن المائدة البرمكية (عائلة البرامكة) للنظر في الكارثة التي أصابت أغنى الأسر وأشدها ترفا. وهي حكايا تحمل في طياتها نموذج الصعود والسقوط داخل مركز السلطة.
وفي حكاية شقيق الخياط السادس، الذي وجد نفسه قريبا من منزل أحد أفراد أسرة البرامكة. وعندما دخل المنزل دعاه البرمكي لتناول الطعام معه، وأخذ يستحلف على ضيفه تذوق الحلوى «كل من هذه اللوزية، فإنها في غاية من الجودة، ومن هذه القطايف» إلا أن فطنة الأخ السادس جعلته يدرك أن إطعامه والترحيب به لم يكن من باب كرم ابن البرامكة، وإنما محاولة لإظهار تفوقه عليه، وعلى العامة، فما كان منه إلا أن قام بحيلة، جعلت مضيفه يعود لصوابه ويدرك أن سلوكه غير أخلاقي. وبذلك جاءت هذه الحكاية لتعبر عن نقد غير مباشر لمجتمع أصبح يَضنُّ بالضيافة والرحمة على الفقراء. وعلى الرغم من أن البرامكة اشتهروا بالجود والإحسان، لكن الشاب يكشف التغيير الذي غلب على الشريحة الأغنى في المجتمع، على حساب المثل الإسلامية، وهو ما كان سببا في أفول زمنهم. فالترف بالطعام يغدو دليلا على انهيار المدينة وقادتها.
الطعام: والانقسام الطبقي والجنون
وفي ليالٍ أخرى، نرى الطعام وهو يتحول إلى ساحة للكشف عن الفروقات الطبقية داخل المدينة الوسيطة الإسلامية. ففي دمشق، تتعاقب الأحوال بأحد الشبان، ما بين سراء وضراء بسبب وصفة الرمان التي تعلمها من والدته، وحين يبدأ العمل في مطعم صغير خاص به، يصبح السوق موقعا لمغامراته ولقاءاته، ومساحة تتباين فيها آداب العامة بصورة واضحة عن مجتمع النخبة. فالناس الذين ينتمون إلى هذه السوق بالكاد يستطيعون الاندماج في الطبقات العليا، حتى حين يفضي الحب والمودة إلى زيجات بين أشخاص من طبقة التجار والطبقة العليا.
تروي قصة القماش البغدادي مع طبق الزيرباجة هذا التوت، فقد أدى تناوله لهذا الطبق دون غسل يديه بالشكل الكافي إلى إغضاب زوجته الغنية، التي أمرت بقطع أصابعه، لأنها وجدت في ذلك تجاوزا لحدود المكانة الاجتماعية التي رفعته الزوجة إليها، وتجاهلا لها.
من بين الرمزيات الأخرى المتعلقة بالطعام، يشير الموسوي إلى سلسلة من الحكايا التي تتحدث عن العلاقة بين الجنون والحب بالطعام، فها هو أحد السذج في الليالي، يقول: «كل من كان عاشقا فهو مجنون لا يميل إلى الطعام ولا يلتذ بمنام» ولذلك نرى، أن الطعام يستحضر بوصفه دليلا على الشهوة، وامتحانا للشوق والجنون بالمحبوب.
وغالبا ما يظهر الطعام في هذه المعادلة بوصفه المرادف للمكان الفردوسي لاختبار الحبيب. إذ يقوم راوي الليالي بإحصاء الزهور والفواكه جنبا إلى جنب مع وصف المكان نفسه، وهو إغراء مقصود، فالغرض منه اختبار العاشق، فالجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرمة، وللعاشقين دليل على الحب.
ولذلك تذهب بعض الليالي إلى الربط بين النحول والحب والعاطفة المهلكة، بينما يغدو الطعام والانشغال، به دليلا على أن الفرد خالٍ من الشواغل والموانع الأخرى. مع ذلك، نرى في الليالي العشاق وقد وقعوا في فح الملذات بعد نفاد صبرهم، فيحولون حبهم من الحبيبة إلى الطعام.
واللافت هنا أنه يتم استحضار بعض مكونات الطعام لإنقاذ هذا العاشق اليائس مرة أخرى. في أحد الأيام ينام عاشق يائس، اختار الطعام على الحب، وفي المنام وجد على بطنه ملحا وفحما، وعندما سأل إحدى النساء عن معنى ما حدث له، فكان جوابها بأن الملح قد جاء ليذكر هذا العاشق اليائس، بأن لا طعم لحبه، وأما الفحم، فيعني سود الله وجهه، لأنه ليس عاشقا بل هو مغفل، لا هم له في الحياة سوى الشرب والأكل والنوم.
ما يلفت نظر الموسوي أن إحدى الليالي التي تحدثت عن قطع أصابع الزوج كعقوبة له على تناول الطعام دون غسل يديه بشكل كاف، لا تشير فقط إلى موضوع التفاوت الطبقي، بل تحمل أيضا رؤى سردية حضرية أوسع تتعلق بالمدينة وتناول الطعام فيها، وهو ما يتقاطع مع عالم العباسيين الحضري، إذ تزحز فترة العباسيين بالأدبيات التي وضعت حول أخلاق المائدة بالأمثلة التي ينزعج فيها الخلفاء والشخصيات البارزة من رؤية أحد من المناديم أو الجلساء، يلمس لحيته أو وجهه بعد غسل الأيدي استعداد لتناول الطعام، حتى يقال إن الخليفة العباسي المأمون طلب أحد الايام من أحد الضيوف غسل يديه ثلاث مرات بعد إخفاقه في اتباع آداب المائدة.
والشيء ذاته نراه أيضا في حكاية السمسار النصراني، الذي شعر بالصدمة كون التاجر الشاب الذي حضر وليمته، استخدم يده اليسرى في تناول الطعام بدلا من اليمنى، ما عده سلوكا محرجا، لأن الثقافة العامة آنذاك كانت تنظر لليد الشمال على أنها غير نظيفة كونها مخصصة للاعتناء بالاحتياجات الجسدية الأخرى.
وهذه الحكايا وغيرها، والتي تستخدم الطعام لإرسال رسائل تتعلق بالأخلاق، وقواعد تناول الأكل، تكشف وتعكس أن الطبخ قد حظي باهتمام خاص بوصفه فنا في الإسلام الوسيط، وأن آداب السلوك الرفيعة والعادات الحسنة متطلبات أساسية للرجل المهذب العباسي، وأن الدراية بفنون الطهي هي مما يجب أن تشتمل عليه آداب السلوك الرفعية، ودونها لا يمكن أن يكون المرء حضريا عباسيا.
كاتب سوري
القدس العربي