سياسة

عن الاحتجاجات الطلابية الداعمة لفلسطين في الغرب

تحديث 28 ايار 2024

————————-

عن اللاساميّة ومظاهرات الطلاب/ عزمي بشارة

2024.05.22

مقدمة

أرسل إليّ أحد الأصدقاء مقالًا لعالمة الاجتماع الإسرائيلية، إيڤا إيلّوز، التي لم أسمع بها من قبل لجهلي بنجوم هذه الأيام في الأكاديمية الإسرائيلية، الذين تحتضنهم الأكاديميات الغربية. وقد نُشر المقال في جريدة زودويتشه تسايتونغ[1

] الألمانية. المقال يردّ بالإيجاب عن السؤال: هل كانت الاحتجاجات في الجامعات معادية للساميّة؟ لا علاقة لردّي عليه بموقفٍ من الكاتبة، التي لا أكنّ لها مشاعرَ إيجابية أو سلبية، بل لأنه ينتقل من مجرد التحريض إلى محاولة إثبات التهمة، على نحوٍ يتيح فرصةً لمناقشة الموضوع. وكان ممكنًا أن يناقَش من دون ذكر المصدر. لكنّ هذا لا يجوز.

تبدي الكاتبة استغرابًا إلى حدّ الاندهاش من الاحتجاجات في الجامعات الأميركية والأوروبية، ومن الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل. وهي تكرِّر أنّ المظاهرات حملت أيضًا شعار تفكيك إسرائيل، وهو شعار لم يُستخدَم، في رأيها، حتى ضد “الإمبريالية العدوانية الروسية” و”رواندا الجينوسايدية” بتعبير الكاتبة Genocidal، ولا حتى ضد جنوب أفريقيا نفسها. ولا تميّز بين الدعوة إلى تفكيك نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا وإسرائيل وتدمير بلاد على شعبها، كما فعلت الحركة الصهيونية في فلسطين، وكما تفعل إسرائيل حاليًا في غزة. وتفكيك نظام الأبارتهايد هو موقف بعض المشاركين في المظاهرات، باعتبار أنّ ما نشأ في إسرائيل نتيجة للاستعمار الاستيطاني هو نظام كهذا. والموقف يطابق في صياغاته لغة الحركة المناهضة للأبارتهايد في جنوب أفريقيا في حينه؛ ولكنه ليس شعار مجمل الحراك الطلابي الداعي إلى وقف الحرب، وسحب استثمارات الجامعات من إسرائيل.

تستغرب الكاتبة اعتبار أن ردَّ إسرائيل على عملية إرهابية بحجم عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وإن كان متمثِّلا في قصف منطقة كثيفة بالسكان، ونتيجة له سقط ضحايا مدنيون، هو عمليةَ إبادة؟ يرى العديد من الباحثين والحقوقيين، ومنهم كاتب هذا المقال، أنّ إسرائيل تستهدفالمدنيين والمنشآتِ المدنيةَ في غزة، بما في ذلك المدارس والجامعات، لأهداف الانتقام وتلقين المجتمع الغزّي كلّه درسًا لردعه عن دعم أيّ مقاومة مسلّحة للاحتلال في المستقبل وتأليبه على حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، لأنّ إسرائيل تجعله يدفع ثمنًا غاليًا لعملياتها. وتضمّنت مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، يوم 20 أيار/ مايو 2024، تهم التجويع وارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين. وحتى من يرى أنّ قتل المدنيين ليس كافيًا للحديث عن جريمة إبادة (جينوسايد)، لأنه ناجم عن كثافة السكان وتحصّن حركة حماس في الأنفاق بين المدنيين، يعود ويؤكد أن نهج التجويع الذي تتبعه إسرائيل في غزة هو “جينوسايد” فعلًا[2

].

تصرّ الكاتبة على أن تبعدنا عن الاحتلال وفظائعه، وجرْح أكثر من 80 ألف، والتسبب في إعاقةٍ لعشرات الآلاف، وقتل أكثر من 35 ألف فلسطيني (خلال سبعة أشهر)، إضافةً إلى حوالى 10 آلاف من المفقودين، ثلثاهم من النساء والأطفال، وتدمير قطاع غزة وجعله غير صالح للعيش، لتصل إلى نقاشٍ حول ما يكمن في اللاوعي الثقافي للطلاب في جامعات الولايات المتحدة الأميركية، أو التراكمات الثقافية العميقة الكامنة في وعيهم.

يتميز هؤلاء الطلاب المدفوعون بحوافز أخلاقية نبيلة للتضامن مع شعب في قارة أخرى ولمعارضة تورّط بلادهم المباشر في الظلم الواقع عليه، بترفّعهم عن أيّ مصلحة مباشرة، وذلك خلافًا لحراك الطلاب الأميركيين ضد الحرب في فيتنام، الذي كان أيضًا أخلاقيًا، لكنّه لم يخْل من اعتبارات أخرى؛ لأنّ الحرب كانت تمسّهم وتمسّ عائلاتهم مباشرةً، ومن المتوقّع أن يُجنَّدوا ليقاتلوا فيها بعد أن يتخرّجوا. ولكن الكاتبة، لسبب ما، تعدّ احتجاج الطلاب ضد الحرب في فيتنام أكثر أصالة من الاحتجاج الحالي الذي تشهده جامعات الولايات المتحدة. فهي لا تستطيع أن تنكر أخلاقية حراك الطلاب؛ لذلك، تلجأ إلى ادّعاء تأثّره بالعناصر المعادية لليهود في الديانة المسيحية والقائمة في مداميك ثقافية عميقة مدفونة في اللاوعي. ليست لديها أيّ أدوات عقلانية لإثبات أيّ مظاهر أو تعبيرات لاساميّة في الاحتجاج الطلابي، ولذلك تلجأ إلى افتراض اللاوعي الثقافي الجمعي الذي يغنيها عنها.

تلجأ الكاتبة إلى أدواتٍ يستخدمها يساريون وليبراليونفي نقد مظاهر العنصرية والشوفينية الذكورية التي قد لا تكون واعية لذاتها، لكنّها تُعبِّر عن تلك المداميك الثقافية المتراكمة عبر تاريخ المجتمعات والمستبطنة في لاوعي الأفراد، وتتجسد في تعابير لفظية وسلوكيات اجتماعية. وإذا كان الأساس المنهجي للمقال هو أبحاث الكاتبة بشأن العواطف في السياسة، فاستخدامه هنا يقول الكثير عن عملها الأكاديمي؛ فثمة طرائق كثيرة يجري التعامل بها مع ما تعدّه هي مستويات ثقافية مستبطنة في اللّاوعي. قد يعِيها الناس، خاصة جيل الشباب هذا، في صراعهم مع الجيل السابق ويقاومونها ويتمردون عليها. وقد تُكبَت ومن ثم يُعبَّر عن الكَبْت بمواقف تماهٍ غيبي عصبوي ضد ما يُكبت، كما تتماهى المسيحية الصهيونية مع إسرائيل، مع أنها الأقرب في جذورها إلى اللاساميّة الدينية. وتتوافر آليات عديدة في التعامل معها غير الانسياق الأعمى لها. وفي حالات التأثر غير الواعي بالأفكار الدفينة، ينشأ توتر مع مواقف الإنسان الأخلاقية. وسرعان ما يصحح نفسه حين يعي ذلك بسبب مبادئه الأخلاقية وقدراته العقلية على التمييز. ويكاد يكون التذكير في حالة اللاسامية كلّيَّ الحضور؛ إذ تكاد تكون العنصرية الوحيدة التي يحاسب عليها القانون في البلدان الأوروبية، والتي تعمل المدارس والأدب والمسرح والسينما على التثقيف ضدها. لقد تبلور إجماعٌ ثقافي ضدّها، وضد النظرية العرقية التي تلبّست بها في تحوّل اللاساميّة الدينية إلى العلمانية.

لا يتحدّر هؤلاء الطلاب غالبًا من مثل هذه الثقافة التي لم تنتشر في الولايات المتحدة بالدرجة نفسها كما في أوروبا. ويتحدر العديد منهم من جنوب الكرة الأرضية، حيث لم تنتشر هذه الثقافة التي تُفرِد الكاتبة لها الجزء الأكبر من مقالها، وأقصد العداء للساميّة في المسيحية. تدفع المقاربة الأخلاقية هؤلاء الطلاب إلى مناهضة أشكال العنصرية كافة، ومنها اللاساميّة. وتعلم الكاتبة أنّ دوافعهم أخلاقية؛ لذلك تنهي مقالها الذي تهاجم فيه هذا الحراك الأخلاقي الفريد بالجملة التالية “لم تكن الأخلاق يومًا إلى هذه الدرجة ضد الخير”. والحقيقة أنّ قلة الأخلاق لم تكن يومًا ضد الخير إلى هذه الدرجة (التي بلغتها في هذه الحرب). يمكن أن تتهم الكاتبة الطلاب بأنهم ساذجون ولا يفقهون السياسة، ومن ثم، يتسببون في ضرر “للخير” المتمثل عندها كما يبدو ب”معسكر السلام في إسرائيل” (المتضرر من هذه المظاهرات وفقًا لتحليلها العجيب). في هذه الحالة تكون التهمة هي السذاجة الكامنة في الدوافع الأخلاقية النبيلة، وليست اللاساميّة التي تحرّكهم من دون أن يدروا.

لا تنجح الكاتبة في إخفاء دوافعها؛ فهي تريد أن تحافظ على امتيازات إسرائيل في الغرب رغم ما تقوم به في المناطق المحتلة، وأن تُحسَب على معسكر السلام، في الوقت ذاته. وهكذا تكسب العالَمَين. تموضع نفسها في معسكر السلام، وتعدّ مظاهرات الطلاب ضد الحرب مدفوعة بمشاعر مسيحية لاساميّة عميقة تعود إلى صلب المسيح، رغم مشاركة شباب يهود ومسيحيين ومسلمين وبوذيين وآخرين فيها. لقد غاب ما يسمّى معسكر السلام في إسرائيل في هذه الحرب قبل أن تنطلق هذه المظاهرات بأشهر، واندمج ضمن القبيلة التي جرى تحشيدها للانتقام. ولن نحلل الطبقات الثقافية العميقة التي تحرّك الكاتبة، والتي لا تعيها حين تحاول إلصاق تهمة اللاساميّة بمظاهرات ضد الحرب. ونكتفي بمناقشة ما تكتب.

 لماذا لا يتظاهرون ضد روسيا والصين وإيران؟

ذكّرتني الكاتبة، لسببٍ ما، بتساؤلات داعمي الدكتاتوريات في الدول العربية في زمن الثورات العربية: لماذا لا يتظاهرون ضد إسرائيل وسياسات الولايات المتحدة في العراق؟ حين تساءلت في بداية مقالها باستهجان: متى كانت آخر مرة احتج الطلاب أنفسهم بالكثافة نفسها على النظام الإيراني القمعي وعلى الإبادة التي تجري في الصين ضد الإيغور؟ لقد تركزت مطالب المظاهرات الجارية بالأساس على طلب أن تسحب الجامعات استثماراتها من إسرائيل. فهل تريد الكاتبة أن يدعو الطلاب جامعاتهم لتسحب استثماراتها من إيران، وأن توقف الولايات المتحدة دعمها للصين؟ لا يحتاج الطلاب إلى التظاهر ضد سياسات الولايات المتحدة في كوريا الشمالية أو إيران أو الصين أو روسيا؛ لأنّ دولتهم منخرطة أصلًا في سياسات معادية لأنظمة هذه الدول، وتتخذ ضدها خطوات عملية مثل الحصار والعقوبات (إيران)، وتدعم خصوم هذه الدول في الحروب ضدّها (أوكرانيا ضد روسيا)، في حين أنها تساند الاحتلال الإسرائيلي سياسيًا بالمال والسلاح من دون قيد أو شرط. ولا تكتفي الولايات المتحدة بعدم اتخاذ أيّ إجراء ضد إسرائيل، بل تحظى الأخيرة بامتيازات فيها وفي أوروبا الغربية. هل تبعد الجوائز الأكاديمية أصحابها عن الواقع السياسي إلى هذه الدرجة؟ إنها تعرف، على الأقل، أنّ إسرائيل تحظى بامتيازات في الدول الغربية، بما في ذلك في المؤسسات الأكاديمية من خلال التعاون والتبادل والاستثمارات ودعم البحث العلمي. ومن الواضح أنّ الكاتبة لا تريد أن تخسر هذه الامتيازات، وذلك من خلال موقفها الحادّ ضد مظاهرات الطلاب.

تفتتح الكاتبة حجاجها لصالح اتهام الحراك الطلابي بمعاداة الساميّة بأنّ نقاشًا Debate دار حول كون هذه المظاهرات معادية للساميّة أم لا. والحقيقة أنّ كلمة نقاش في هذا السياق تجميل للواقع؛ فما تعرَّض له الطلاب من افتراءات واستخدام أداتِي إسرائيلي للّاساميّة، على طريقة نتنياهو وبعض نواب الكونغرس المتطرفين الجهلة، هو تحريض حقيقي لنزع الشرعية عن حراكهم، واتخاذ خطوات لقمعه، وتشتيت الانتباه عن مضمونه، وتحويل الطلاب إلى الدفاع عن أنفسهم في وجه هذه التهم الباطلة. لقد أثارت المظاهرات حوارًا في الجامعات حول عدالة قضية فلسطين، أما تهمة اللاساميّة فجاءت لتعطيل النقاش العقلاني والأخلاقي. لم تكن إسرائيل في الماضي في حاجة إلى أن تقيّد حرية التعبير في الدول الحليفة دفاعًا عنها، فقد حقق خطابها وسرديتها بشأن فلسطين والمنطقة هيمنةً ثقافيةً في دول الولايات المتحدة وأوروبا، لكنها أصبحت في حاجة إلى تقييد حرية التعبير في الإعلام وفي الجامعات في الدول الديمقراطية؛ لكي تحمي سرديتها التي لم تعد مهيمنة، ولا بد من فرضها بالقوة.

ثانيًا: عن التعريفات

بعد أن قررت الكاتبة أنّ المتظاهرين غاطسون في معانٍ ثقافية عميقة معادية للساميّة، عن وعيٍ أو من دونه، فإنها تعرّف اللاساميّة تعريفًا عجيبًا. وهي تشدد في البداية على عدم الخبرة في الموضوع وعدم الاختصاص. ولولا أنّ كلامها هذا هو مقدمة من أجل وضع تعريف خاص بها للاساميّة، لقلت إنه تواضع العلماء؛ فالباحث الذي أشبع موضوعه بحثًا وحده يتجرأ على وضع تعريف للظاهرة، أما غير المتخصص فيلجأ إلى تعريفات قائمة. وأما الكاتبة التي تقول إنها غير متخصصة ولا مؤرخة في هذا المجال الشاسع، فخلافًا للمتوقع يدفعها ذلك، كما تقول، إلى أن تُعرِّف اللاساميّة “شخصيًا” (يبدو أنّ كل شخص غير متخصص يمكنه أن يختار التعريف الذي يناسبه) بكونها “النظرية التي تعدّ يهودًا مسؤولين عن سفك دم غير يهود” the theory that holds Jews responsible for the spilling the blood of non-Jews. وهو تعريف عجيب من منظور الاختصاص وغير الاختصاص. لقد وضعت هذا التعريف على مقاس موقفها من معارضي الحرب الحالية. وبما أنّ اللاساميّة هي الادّعاء “أنّ يهودًا مسؤولون عن سفك دماء غير يهود” من دون أداة التعريف “الـ”، فكيف تهرب في هذه الحالة من تداعيات هذا التعريف الكامن في أعماق مشاعرك على ادعائك أنّ يهودًا يسفكون دماءَ غير يهود في غزة. عليك أن تحذر في كلامك!

تشتق الكاتبة تعريفها هذا ممّا ورد في الأناجيل من اتهام ليهودٍ بصلب المسيح. وتعتبر أنّ سفك الدم هو الخيط الذي يربط جميع الافتراءات اللاساميّة التي انتشرت في أوروبا في العصر الوسيط. لكنّ اللاساميّة أوسع من ذلك في الحقيقة. وهي تعني كراهية اليهود لأنّهم يهود؛ وهي كراهية متطرفة لا يتسع المقام لشرح ما يميّزها. كانت هذه كراهية دينية، وأصبحت كراهية قومية، واستُخدمت كذلك في حرف الصراعات الاجتماعية الطبقية نحو معاداة اليهود بوصفهم مرابين أو طفيليين (رأس مال غير منتج) مسؤولين عن الأزمات الاقتصادية، أو لأنهم طعنوا الأمة في الظهر في الحرب العالمية الأولى، أو خانوا، أو غير منتمين قوميًا في زمن صعود الفكر القومي في فرنسا وألمانيا وغيرهما، كما ركِّبت في منتصف القرن التاسع عشر النظرية “العرقية” على كراهية اليهود لتصبح كراهية مبررة بعلمٍ زائف Pseudoscientific.

الحجج

1- تعتبر الكاتبة أنّ العداء لإسرائيل يتضمن العداء لليهودية؛ لأنّ الإسرائيليين يهود، وهذه حجة عجيبة. تاريخيًّا كان المتنورون من بيننا، ومن كانوا يسمّون يومًا التقدميين، اليهود والعرب، يحاولون أن يقنعوا الإنسان الفلسطيني العربي بأن يميّز بين اليهود والصهيونية، وبين اليهود وإسرائيل، وألّا يعمم غضبه مما تقوم به إسرائيل على اليهود. تأتي هذه العالمة وتقول العكس: لا يجوز التمييز بين اليهود وإسرائيل، فمن يتظاهر ضد إسرائيل يتظاهر في الحقيقة ضد اليهود. أيّ نهج للتفكير هو الأقرب إلى اللاساميّة هنا؛ نهجها أم نهج من يميزون بين إسرائيل واليهود، ويرفضون هذه التعميمات؟ إنها تستدعي التعميم. ولسذاجتنا، كنّا نحسب أنّ العنصرية تقوم على التعميم. إنّ نمط التفكير الأقرب إلى اللاساميّة هو نمط تفكيرها، وليس نمط تفكير هؤلاء الطلاب أو غيرهم من الليبراليين والتقدميين، العلمانيين والمتدينين، العرب واليهود، المسلمين والمسيحيين، الذين يميّزون بين اليهود وإسرائيل. وبهذا المعنى، نعم من المهمّ وجود شباب وأساتذة يهود بأعداد كبيرة في المظاهرات ضد الحرب، وهي حقيقة تهملها تمامًا وتعتبرها حجّة سخيفة. وسنأتي على هذا الموضوع.

2- لقد استخدم الجزائريون في مقاومتهم الاستعمار الفرنسي تعابيرَ دينية إسلامية، واستخدمها غيرهم في التعبئة ضد مستعمرين مسيحيين. أيعني هذا أنهم قاوموهم لأنهم مسيحيون أم لأنهم مستعمرون؟ العداء لإسرائيل هو عداء للاحتلال. والصراع هو صراع بين شعبٍ واقع تحت الاحتلال ودولةٍ محتلّة. ولا شك في أنه في جميع الصراعات في العالم تُستخدم تعميمات قبلية (دينية أو قومية أو غيرها) ضد الطرف الآخر. حصل هذا في أوروبا بين الشعوب المسيحية، وبين الشعوب المسلمة والمسيحية، وبين شعوب تدين بالبوذية. تختلق دائمًا صفات سلبية تعبّر عن الفرق وتُستخدَم للتعميم ضد العدوّ. يظهر هذا كله على السطح، وليس بالاستناد إلى اللاوعي والطبقات الثقافية العميقة الدفينة. وبما أنّ أيًا من هذا لا يظهر في الحراك الطلابي ضد الحرب، فإنّ الكاتبة تبحث عنه في لاوعيهم الثقافي الجماعي.

تعتبر الكاتبة أنّ أحد أهم مظاهر اللاساميّة هي تغذية كراهية اليهود من خلال تشكيلهم أو تركيبهم في الوعي بوصفهم “تهديدًا للنظام الأخلاقي”. ووفقًا لتعابيرها: حين يُركَّب اليهود باعتبارهم كيانًا خطِرًا يسفك الدماء ويتجاهل القوانين ويعيث خرابًا، تصبح اللاساميّة هي حزب الإنسانية والأخلاق والنظام والقانون. واضح أنّ التركيب الذي تقوم به، وتحديدًا سفك الدماء وتجاهل القوانين والتدمير، هو ما تقوم به إسرائيل حاليًا في غزة، وقد جعلته الكاتبة جزءًا من تشكيل اللاساميّة لصورة اليهود. يمكن أن تسفك إسرائيل الدماء وتتجاهل القوانين وتدمّر، وهذا ما تقوم به فعلًا، لكنّ قول ذلك قد يعرّضك لتهمة اللاساميّة؛ لأنك بذلك تحاكي هذا التركيب. ليس مفاجئًا، في نظرها، أنّ المتظاهرين الشباب في العالم كله الذين يوجّهون هذه التهم لإسرائيل لا يعدّون أنفسهم لاساميّين، لكن ما يعبّرون عنه هو لاساميّة دفينة. وفي رأيي، إنهم لا يعدّون أنفسهم لاساميّين بحق، فهم لا يتهمون اليهود. والأساس في العنصرية هو تعميم الصفات السلبية وليس نوع التهم التي توجَّه.

3- وتدّعي الكاتبة أنهم ينكرون حق إسرائيل في الوجود “وهو حق لا يُنكر لأيّ شعب آخر على وجه البسيطة”! (ربما نسيَت الشعب الفلسطيني على ما يبدو وشعوبًا أخرى عانت طويلًا الاستعمار)، لأن الطلاب المتظاهرين “يدافعون بشغف عن بقاء العالم الذي تهدده هذه الدولة المتفردة في إجراميتها”، وفقا لما تنسبه الكاتبة إليهم. والحقيقة أنّ الطلاب لا يريدون “إنقاذ العالم من هذه الدولة المجرمة”، بل يريدون إنقاذ الشعب الفلسطيني (والإسرائيلي أيضًا) من الاحتلال، ويدعون دولهم ألّا تتورط في دعمه على حساب المواطن الذي يدفع الضرائب. وتقول الكاتبة: “لا يوجد عنف آخر يستخرج هذا الكمّ من الغضب الأخلاقي الذي تستخرجه إسرائيل من الناس”. ولكنّ العكس هو الصحيح. فقد حظيت إسرائيل بتسامحٍ لم يحظ به أيّ احتلال، بما في ذلك خرقها المتكرر للقانون الدولي. وتأخّرت المظاهرات ضدها عقودًا. وتتمثل الفرادة في تأخّرها كلّ هذا الوقت، وإلّا لما كانت الكاتبة متفاجئة ومستغربة إلى هذه الدرجة. والمدهش أنّها لا ترى أنّ العالم شهد احتجاجات كثيرة ضد الحرب في فيتنام وعلى العراق وضد نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وضد سياسة فرنسا في الجزائر، وكلّ الأمور التي كانت دول غربية متورطة فيها، إلا قضية فلسطين. وتكمن الفرادة في قضية فلسطين في عدم قيام احتجاج واسع بشأنها حتى الآن! وثمة أسباب عديدة لذلك ليس هذا مقام الخوض فيها. وأحدها بالتأكيد هو المسألة اليهودية وتعقيداتها في الغرب، ومساعدة إسرائيل الدول الغربية في التخلّص من عقدة الذنب بإسقاطها على العرب والفلسطينيين.

4- تقول الكاتبة: “يعود الأمر برمّته، في رأيي، إلى أنه في عمق الثقافة الغربية تكمن فكرة أنّ اليهود يهددون العالم”. لا أدري ما علاقة هذه المقولة العجيبة بالمظاهرات الاحتجاجية للطلاب؟ وتقول إنّ هذا يظهر حينما تقوم الدولة الإسرائيلية “أحيانًا” بخرق القانون، كما تفعل دولٌ عديدة في العالم. لقد خرقت إسرائيل القانون الدولي، كما تقول، لكنها تجد صعوبة في الاعتقاد أن الولايات المتحدة أو غيرها من دول العالم الحر كانت ستتصرف على نحوٍ مختلف لو تعرّضت لما تعرّضت له إسرائيل يوم 7 أكتوبر. لا تقوم إسرائيل بعمل استثنائي في حربها على غزة يبرر الاحتجاج عليه، إذًا؛ فما يجري، وفقًا للكاتبة، طبيعي جدًا، وإذا اتّهَمتَ إسرائيل بارتكاب جرائم فإنكَ تكرر، بوعيٍ أو من دونه، المقولات اللاساميّة التي تتهم اليهود بأنهم مجرمون يهددون النظام الأخلاقي في العالم. الويل لمن ينتقدون إسرائيل من منطلقات أخلاقية! إنهم يعرّضون أنفسهم لتحليل عالمة اجتماع إسرائيلية ترى أنّ موقفهم الأخلاقي هو في الحقيقة تعبير عن أفكار دفينة عميقًا في اللاوعي مفادها أنّ اليهود يهددون النظام الأخلاقي السائد.

5- يتهم الطلاب المتظاهرون حكومة إسرائيل ومن يتبعها عينيًّا بارتكاب جرائم بل فظائع ضد الإنسانية، ولا يعممون ذلك إطلاقًا على اليهود. وبما أنّ اليهود يعتقدون أنّ إسرائيل جزء من هويّتهم، بحسب استطلاعات تقتبسها الكاتبة، وهذا أمر متوقع، فإنّ من يهاجمها يهاجمهم، وهذا استنباط غيبي لا علاقة له بالعلم. بين الطلاب المحتجّين في الجامعات الأميركية والأوروبية أتباع لديانات وإثنيات متعددة، علمانيون ومتدينون. وهم في الحقيقة يتظاهرون ضد حكوماتهم وسياساتها، وربما يتضمن ذلك تمردًا جيليًا عند بعضهم كما حصل في ستينيات القرن العشرين. وتتظاهر فئتان فقط بدواعي الهوية أيضًا، تتمثلان في الطلاب من أصول فلسطينية الذين من خلال هذه المظاهرات يؤكدون على هويتهم وتضامنهم مع شعبهم، واليهود الذين بسبب هذه الصلة الدينية بينهم وبين إسرائيل يريدون القول إن إسرائيل لا تمثّل هويتهم. إنّ وجود علاقة هوياتية بين أتباع الديانة اليهودية وإسرائيل لا يعني أنّ اليهودي متّهم إذا هوجمت إسرائيل، وحتى ذلك الذي يشعر أنه متّهم، إذا ما هوجمت، فلديه أدوات عقلانية وعاطفية ليتعامل مع هذا الأمر، إحداها التماهي معها كما تفعل الكاتبة. وثمّة أدوات أخرى، مثل اتخاذ موقف أخلاقي من سياسات إسرائيل التي تحرجه (بسبب شعوره بصلة الهويّة)، أو فكّ الارتباط الشعوري بها، وغيرهما. وبغضّ النظر عن هذا كلّه، لا يُستنتَج من وجود رابط ذاتي بين اليهودي وإسرائيل أو غيابه، أنّ من يهاجم إسرائيل يقصد مهاجمة اليهود.

6- تقول الكاتبة، أخيرًا، إنّ وجود يهود في المظاهرات لا يعني شيئًا؛ فالجميع في حركة “حياة السود مهمة” يَعون أنّ هناك سودًا يضطهدون سودًا آخرين أو لديهم أفكار مسبقة عنهم، كما يدرك كثير من اليهود أنّ يهودًا شاركوا في قمع اليهود في الاتحاد السوفياتي. لكننا نضيف إلى معلوماتها أنّ الطلاب يعرفون أنّ ثمة فلسطينيين يتعاونون مع الاحتلال، ومسلمين لا يترددون في قمع مظاهرات الاحتجاج ضد الحرب، مثل الحكّام العرب، ورئيسة جامعة كولومبيا. ويعرف كثير من اليهود أنّ ثمة يهودًا في إسرائيل يخدعون يهودًا آخرين ويقمعونهم، ويُضحّون بهم في هذه الحرب، وأن الكاتبة هي الأكثر شبهًا بهؤلاء حين تتهم الشباب، بمن فيهم اليهود، الذين يعارضون الحرب بمعاداة الساميّة.

————————

تحية للطلاب/ سنان أنطون

24 – مايو – 2024

يشرّفني أن أتحدث في حفل «تخرّج الشعب» هذا وأن أشارككم هذه اللحظة. من اللائق أن نجتمع هنا، في مكان اخترتموه أنتم، وحفل نظمتموه بأنفسكم، أنتم، الطلاب. هذا بعد أن منعت الجامعة عدداً منكم من الدخول إلى بناياتها، ومن الاشتراك في طقوس التخرّج الرسميّة، فنفتكم وأعلنت عدداً منكم رسمياً «أشخاصاً غير مرغوب بهم» وكأنكم تمثلون دولاً معادية! تفتخر هذه الجامعة في أدبياتها ودعايتها أنها «جامعة بلا جدران» وتسأل على موقعها الرسمي: «ما هو سحر جامعة نيويورك؟» وتأتي الإجابة بسرعة: «إن حرمنا الجامعي بلا جدران، ويعد الطلاب بتجربة فريدة ستوسّع آفاقهم وتريهم العالم. تزيل جامعة نيويورك الحدود بين قاعة الدرس والعالم الحقيقي».

كانت هذه الكلمات خاوية قبل بدء حرب الإبادة ضد غزّة، لكنها باتت مذّاك أكثر خواءً، فقد سقطت الأقنعة، لتكشف المزيد من الأقنعة. الأقنعة التي تسقط لتكشف الوجوه القبيحة، لبشر ومؤسسات، في كل مكان، لقد رأينا ها هنا في جامعة نيويورك الوجه القبيح لمؤسسة استعمارية، متورطة خطابياً ومادياً في آلة الحرب الأمريكية -الإسرائيلية. مؤسسة أكاديمية تمعن رئاستها و«قادتها» في محو حيوات الفلسطينيين خطابياً، بإنكار الإبادة التي نراها كل يوم، ويستمرون بدعم مشروع الاستعمار الصهيوني.

لقد تحوّلت الجامعة في الأشهر الأخيرة إلى فضاء مُعسْكر ومحتلّ، فامتدت يد قوات الأمن إلى المزيد من الأماكن داخل الحرم الجامعي، ورسمت حدوداً اعتباطية، وأقامت جدراناً وحواجز، وتلاعبت بالقوانين لقمع حرية التعبير والحركة والتجمّع. واستدعت الشرطة لمهاجمة الطلاب والأساتذة واعتقالهم، ولم تكتف رئاسة الجامعة بكل هذا، بل شوهّت سمعة الأساتذة والطلاب ببياناتها واتهاماتها الكاذبة بمعاداة السامية. لا يتضامن المسؤولون على جامعة أقيمت على أرض مسروقة، إلا مع مؤسسات أكاديمية أقيمت، هي الأخرى، على أرض مسلوبة وقرى مهدّمة. لقد دمّرت إسرائيل كل جامعات غزة، واغتالت العمداء والأساتذة والطلاب وحرمت الناجين من التعليم ومن مستقبلهم. ومع كل هذا لم تذكر البيانات والرسائل التي وجهتها رئيسة الجامعة طوال الأشهر الماضية كلمة واحدة عن تدمير البنية التحية الأكاديمية، أو عن آلاف الضحايا.. ولم يذكر العمداء ورؤساء الأقسام في الاجتماعات غزّة، أو طلابها وأساتذتها، بكلمة، واكتفوا باستخدام مفردات وتعابير هلامية، مكتفين بالحديث عن «الوضع الصعب» أو «الحرب في الشرق الأوسط». إن جامعة كهذه بحاجة إلى من يحرّرها وأنتم بدأتم بذلك. فقد حررتم أمكنة داخلها لفترات قصيرة، ولكنها مؤثرة. لقد أصررتم بشجاعة وإبداع على كشف آليات وطقوس التواطؤ وفضحتم التخاذل والتورط المؤسساتي في آلة الحرب، ووضعتم النقاط على الحروف، فعاقبتكم الإدارة بقسوة وفرضت عليكم كتابة نصوص تعبّرون فيها عن ندمكم وتقرّون بخطأ ما فعلتموه، لكن رئيسة الجامعة وزملاءها في بناية الإدارة هم الذين يجب أن يراجعوا أنفسهم، بل وأن يعاقبوا على أفعالهم اللاأخلاقية ومواقفهم المخزية. ربما يجب أن نعود إلى أساليب العقوبات التقليدية ونجبر رئيسة الجامعة، على أن تكتب على اللوح ألف مرة: لن أنكر الإبادة ثانية أبداً!

نجتمع هنا اليوم لنحتفل ونفرح بتخرجكم بالطبع، لكن من دون أن ننسى الآلاف الذين قتلتهم همجية إسرائيل، وأولئك الذين ما زالت جثثهم تحت الركام. تمر اليوم الذكرى السادسة والسبعين للنكبة، هذا الجرح الهائل الذي يغطّي غزّة اليوم، الرحمة لكل الذين ماتوا وسيموتون. أعرف أن زملائي يتفقون معي حين أقول لقد تعلّمنا الكثير منكم هذه السنة. فقد ألهمتمونا بشجاعتكم ونضجكم وثباتكم. سأعترف أنني ولسنين طويلة كنت أشعر بالاغتراب في الحيز الأكاديمي ولأسباب عديدة لا شك أنها واضحة لكم. لكن الحراك الطلابي أعاد لي شيئاً من الأمل وجعلني أشعر بالفخر أن أنتمي إليكم وأن أقف معكم. يعلمنا الفلسطينيون، مثل كل الشعوب المناهضة للاستعمار، أن الألم العظيم يتحول إلى مقاومة ويُترْجم إلى صمود وتوق إلى الحرية. إنهم يتشبّثون بالأمل وبالحياة التي يحبونها إذا استطاعوا إليها سبيلا، كما قال شاعرهم العظيم. ولعلّكم رأيتم صورة الفلسطيني الذي دافع عن أطروحة الماجستير في خيمة في غزّة. اليوم ينتهي فصل من رحلتكم، لكنكم ستبدأون رحلة أخرى. ستمضون وتنصبون خيمكم في أماكن أخرى. سترفعون اللافتات والأصوات. ستهتفون ولن تسكتوا عن الظلم والإجرام والتواطؤ. ستقرنون القول بالفعل. وستحاولون إسقاط الجدران وتشيدون عالماً جديداً.

سأختتم كلمتي بجملة من غسّان كنفاني، المثقف والمناضل الفلسطيني الذي اغتالته إسرائيل في بيروت عام 1972: «لك شيء في هذا العالم، فقم!»

لكم شيء في هذا العالم. وليكن عالماً تكون فيه فلسطين حرة من النهر إلى البحر.

كاتب عراقي وأستاذ في جامعة نيويورك

نص الكلمة التي ألقيت في حفل «تخرج الشعب» الذي نظمه طلاب جامعة نيويورك في مدينة نيويورك في 15 مايو 202

القدس العربي

—————————

قراءة في الحراك الطلابي الأمريكي/ محمد الخليفي

24 – مايو – 2024

شكلت الحركة الطلابية أحد أهم ركائز الفعل الاحتجاجي عبر العالم، وقد عرفت زخما كبيرا مع نهاية الحرب العالمية الثانية حيث ارتبطت بالفعل الاحتجاجي الشبابي المستقل والثوري المتصل بالقضايا الاجتماعية والتحررية لشعوب العالم، فقد شكل “الاتحاد العالمي للطلاب” إضافة ” للمؤتمر العالمي للطلاب” النواة الأولى للحراك الطلابي العالمي المناهض للمنظومة الرأسمالية والرافض لواقع الاستغلال والهيمنة الرأسمالية. وفي المقابل كان الحراك الطلابي في المعسكر الشرقي دائما ما يعتبر نفسه جزءا لا يتجزأ من البناء الاشتراكي في أفق إنشاء المجتمع الشيوعي.

وفي هذا السياق يعتبر الحراك الطلابي الداعم لفلسطين، الذي بدأ من أعرق الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية ليمتد إلى مؤسسات أكاديمية أخرى داخل وخارج أمريكا، استمرارا لهذه الحركات التي عرفت أوجها خلال الستينيات من القرن الماضي خاصة من خلال رفض الغزو الأمريكي لفيتنام، ومناهضة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إضافة لمساندة الحرب التحررية الجزائرية.

ظاهرة غير مسبوقة

بذلك يشكل هذا الحراك ظاهرة اجتماعية غير مسبوقة جديرة بالتأمل والتقدير لما يحمله في طياته من دلالات عميقة و إستراتيجية على مستوى انقلاب السرديات والصور النمطية وما لها من تداعياتها الكبرى على الواقع السياسي والفكري والاجتماعي داخل و خارج بلاد العم سام، حيث يمكن إجمال هذه الدلالات كالتالي:

وعي الشباب الأمريكي والغربي عموما بعدالة القضية الفلسطينية وأهميتها: وذلك ليس فقط باعتبارها قضية تحرير شعب محتل ولكن أيضا على مستوى كون القضية الفلسطينية هي قضية عابرة للشعوب والأديان وهي قضية تحرير هذا الشباب الغربي نفسه من سيطرة وتضليل الرأسمال العالمي وآلياته المختلفة والتي عملت منذ أجيال على إنتاج سرديات تحريفية وصور نمطية غير واقعية وكذا إنتاج معرفة مضللة عن الآخر.

وفي هذا السياق فإنه حتى على المستوى المادي الصرف هناك فئة من الشباب الرافض لتمويل الحروب والنزاعات على ظهر دافعي الضرائب في أمريكا وغيرها من الدول الغربية.

رفض المفهوم الليبرالي المتوحش في إدارة المؤسسات الأكاديمية: التي تسمح لرأسمال الشركات الكبرى بالتغلغل في كافة مفاصل هذه المؤسسات والتحكم المطلق في مدخلات ومخرجات التعليم الأكاديمي والذي يجب أن لا يشذ عن الأطر العامة لليبرالية على مستوى القيم والتصورات نحو إنتاج نخب موالية ومدافعة عن النظام الرأسمالي العالمي.

سقوط أقنعة الحرب الناعمة: لقد كشف الحراك الطلابي في أمريكا عن مدى هشاشة الآلة الدعائية والإعلامية الأمريكية بالرغم من ضخامتها وتعدد أساليبها وحجم إمكانياتها المالية، مما يطرح سؤال جدوى آليات الحرب الناعمة في التأثير المستمر على الشعب الأمريكي خاصة الأجيال الشابة منها، فمع بروز ما يسمى بالإعلام البديل وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من التقنيات الالكترونية أضحت السردية الغربية ومنظورها للعالم في مهب الريح ومحل نقد شديد من قبل الحراك الطلابي.

انكشاف شعارات احترام الحقوق والحريات العامة: فكما كشفت حرب غزة عن مدى نفاق المجتمع الغربي الرسمي وتوظيفه لقضايا ومآسي الشعوب في ما يخدم مصالحه بمعزل عن أي أطار قانوني أو حقوقي أو إنساني فإن الحراك الطلابي في أمريكا أبان الهوة الساحقة بين شعارات احترام الحقوق والحريات العامة وعلى رأسها حرية التعبير وبين واقع القمع والعنف والطرد والحرمان من الحقوق الجامعية وعسكرة الجامعات وفصل ومحاكمة أساتذة الجامعات والاعتقالات، الذي قوبل به هذا الحراك، وبشكل لا يختلف ع ما تفعله أعتى الدول الديكتاتورية الذي طالما انتقدته الولايات المتحدة الأمريكية !!

تعدد خلفيات الحراك الطلابي: إن السمة الأساسية للحراك الطلابي المتضامن مع فلسطين هو تعدد خلفيات المشاركين فيه خاصة المشاركة الفعالة للطلبة اليهود في هذه الفعاليات والرافضين لجرائم الإبادة في فلسطين بغض النظر عن مرتكبيه، مما يعري تماما تهمة “معاداة السامية” التي يتم توظيفها فقط لتكميم الأفواه والتضييق على حرية التعبير وتصفية الحسابات مع معارضي الطرح الإمبريالي، فليس من المعقول أن يعادي الطلبة اليهود أنفسهم!

انطلاقا من الدلالات الآنفة الذكر يمكن التوصل إلى كون الحراك الطلابي الغربي المساند للقضية الفلسطينية والمندد بالجرائم المرتكبة في غزة هو تضامن مع فسطين القضية ومع الإنسان الغربي نفسه الرازح تحت نير ديكتاتورية الرأسمالية العالمية، مما ستكون له تداعيات خطيرة وإستراتيجية على البناء السردي والقيمي وعلى النسيج النخبوي في أمريكا والغرب عموما كما سيشكل ضربة قوية لقناع الوهم والزيف الذي تختفي وراءه الرأسمالية العالمية وتوظفه في السيطرة والتدمير والنهب وتخريب القيم الأصيلة للإنسان بما هو إنسان.

آثار فكرية

وكما أن “مدرسة فرانكفورت” مثلا قد خرجت من رحم تناقضات النظام الرأسمالي ووجهت له نقدا لاذعا لما أنتجه من حروب وكوارث وفظاعات تجسدت في الحروب العالمية، فإن الحراك الطلابي في أمريكا لا بد أن يتمخض عن “مدرسة جامعة كولومبيا” الرافضة للأطروحة الفكرية والبناء القيمي النظري والعملي للرأسمال العالمي.

ومن جهة أخرى فإنه من المؤكد أن ما بعد الحراك الطلابي الأمريكي ليس كما قبله، شأنه في ذلك شأن الحرب على غزة والحرب في أوكرانيا وغيرها من الأحداث المفصلية التي لا شك ستترك تأثيراتها الواضحة على بنية النظام الدولي قاطبة.

كاتب مغربي

——————

فوكوياما وحراك الجامعات: غزّة خارج المعادلة/ صبحي حديدي

23 – مايو – 2024

تطالع المرء مقالةٌ مسهبة بعنوان «ما هو الخطر الفعلي الذي يتهدد حرّية التعبير داخل الحرم الجامعي؟» ينشرها موقع أمريكي يزعم اعتناق الفلسفة الليبرالية، ويوقعها فرنسيس فوكوياما دون سواه؛ صاحب النظرية الأشهر حول نهاية التاريخ عقب انهيار جدار برلين، وأحد أبرز أدمغة اليمين الأمريكي المعاصر. هو أيضاً، كما يقتضي التنويه الضروري، أحد كبار الموقّعين على النصّ الشهير «مشروع القرن الأمريكي الجديد» الذي نُشر سنة 1997 بتوقيع صقور عجائز من أمثال ديك تشيني ودونالد رمسفيلد وبول ولفوفيتز وجيب بوش وريشارد بيرل وريشارد أرميتاج وزلماي خليلزاد؛ وهو النصّ الذي لا يتردّد الكثيرون اليوم في القول إنه كان المسوّدة الأولى التي مهّدت لغزو العراق.

فما الذي يعثر عليه المرء بعد قراءة المقال المطوّل؟ خلاصة أولى تسير هكذا: حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، والتي يتجاهلها فوكوياما تماماً وكأنها ليست قائمة وجرائم الحرب فيها لا تنتقل من توحش همجي إلى آخر، ليست هي سبب الاعتصامات الطلابية. أمّا الأسباب الأعمق فيردّها إلى فذلكة أخرى حول إشكاليات حرّية التعبير في المجتمع الأمريكي، الذي يعتبره «أكثر المجتمعات حرّية على امتداد تجارب التاريخ الإنساني». وإذْ يدين أصوات اليسار والـ»ووك» الأكاديمية التي تندب تغييب حقوق التعبير داخل الحرم الجامعي، فإنه في الآن ذاته يغمز من قناة نظرائهم الليبراليين ممّن يبالغون في تشخيص الأخطار ويستسهلون استدعاء الشرطة وكسر حصانة الجامعات.

وفي شرح الإشكالية كما يراها، يشير فوكوياما إلى أنّ التعديل الأوّل، الدستوري، يحظر فرض الحدود والقيود على حرّية التعبير من جانب الحكومة، لكنه فعلياً يصون حقّ «المجموعات الفردية» في السيطرة على أشكال التعبير لدى أفرادها؛ وبهذا المعنى فإنّ صحيفة مثل «نيويورك تايمز» أو جامعة مثل برنستون، لها الحقّ كلّ الحقّ في مراقبة ما يُنشر على صفحاتها في مثال الصحافة، أو ما يُدرّس في قاعاتها بالنسبة إلى الجامعات. في المقابل، ليس من حقّ الدولة أن تفرض على صحيفة ما سياسة تحريرية أو تراقبها، أو أن تُلزم جامعة ما بمناهج محددة.

فأيّ ممارسة للحرّيات هذه، إذا كانت تقتصر على تدخّل الدولة وليس المؤسسات أو الجماعات أو الأفراد؟ وما مفهوم «الدولة» أصلاً، وفي هذا المقام الليبرالي أو النيو ــ ليبرالي أو الرأسمالي، أو الأمريكي باختصار؟ وبأيّ معنى يمتلك امرؤ، موظف في وزارة الخارجية الأمريكية، الحقّ في التظاهر أمام مبنى الوزارة، احتجاجاً على السياسة الخارجية الأمريكية إزاء حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، أو أيّ موضوع داخلي اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي؟ وكيف، والحال هذه، تظلّ أمريكا «أكثر المجتمعات حرّية على امتداد تجارب التاريخ الإنساني»؟

على قارئ مقال فوكوياما التأكد من أنّ كاتب هذه الخلاصات هو نفسه صاحب المقال الشهير الذي نُشر في أيلول (سبتمبر) من العام 1989، واحتوى على تشييع التاريخ إلى مثواه الأخير، على يد «الإنسان الأخير». أهذا هو نفسه صاحب الأطروحة التي قالت ما معناه: التاريخ لعبة كراسٍ موسيقية بين الإيديولوجيات (الأنوار، الرأسمالية، الليبرالية، الشيوعية، الإسلام، القِيَم الآسيوية، ما بعد الحداثة…)؛ وقد انتهى التاريخ، وانتهت اللعبة، لأنّ الموسيقى توقفت تماماً (انتهاء الحرب الباردة) أو لأنّ الموسيقى الوحيدة التي تُعزف الآن هي تلك القائمة على سلّم موسيقي وحيد خطّته الرأسمالية والليبرالية واقتصاد السوق؟

فإذا تأكد القارئ أنّ هذا هو فوكوياما، دون سواه؛ فإنّ مستوى لاحقاً من الحيرة سوف يعصف به، أمام سؤال يقول: فهل هو فوكوياما الذي، في سنة 1999، احتفل باليوبيل العاشر لمقال نهاية التاريخ إياه؛ فنشر البشرى بأنّ مرور عقد كامل لم يشهد أيّ تبديل على الأطروحة، لا في شؤون السياسة الدولية، ولا في الاقتصاد الكوني، ولا في استمرار القِيَم الليبرالية واقتصاد السوق في إحراز الانتصارات؟ لا شيء تغيّر، لا الحروب الإقليمية، ولا الأشباح الإثنية التي استيقظت وتستيقظ من سبات قرون طويلة، ولا انهيار الاقتصادات الآسيوية العتيدة أو انفجار التكنولوجيا الصينية، ولا صعود قوى اليمين المتطرف والفاشي هنا وهناك في أوروبا، ولا حروب الصومال أو مذابح رواندا أو انفجار البلقان أو تعطّل عملية السلام في الشرق الأوسط وصعود النازية الإسرائيلية… لا شيء، حرفياً!

بل إنه، إلى هذا وذاك، فوكوياما نفسه الذي، في كتابه «الهوية: طلب الكرامة وسياسة السخط» 2022، تراجع قليلاً (والبعض لم يتردد في الشماتة به، لأنه انقلب رأساً على عقب!)؛ حين سلّم بأنّ موجة الديمقراطية آخذة في الانحسار على صعيد عالمي: في سنة 1970، كانت هناك 35 ديمقراطية انتخابية؛ وازداد العدد خلال ثلاثة عقود حتى بلغ 120 نظاماً، خاصة خلال سنوات 1989 ــ 1991 مع تفكك المعسكر الاشتراكي؛ ولكن، ومنذ أواسط 2000، انكمش الاتجاه وانحسر، وباتت البلدان «التسلطية» الأوتوريتارية وفق تعبيره، أكثر ثقة وتمكناً. ولقد طمأن العالم إلى أنه لا يرى مفاجأة في عجز «الديمقراطية الليبرالية» عن التجذّر في بلدان مثل أفغانستان والعراق، رغم التدخل العسكري الأمريكي المباشر؛ ورأى باعثاً على الخيبة، في المقابل، أن ترتدّ روسيا إلى التقاليد الأوتوريتارية.

لكنّ فوكوياما هو فوكوياما الذي تنبه، بعد مرور سنوات 10 و33 و35 على أطروحته الإنهائية، إذا جاز التعبير؛ إلى أنّ الناس أساءت فهم مفردة التاريخ، التي عنى بها المفهوم الهيغلي ـ الماركسي للتطوّر والتحديث؛ وأنه لم يقصد بالمفردة الثانية، End، معنى النهاية، بقدر الغاية والهدف! تفصيل ثالث أساء الناس فهمه، ويتنبه إليه فوكوياما بعد تلك السنوات والتواريخ: أنه لم يفترض نهاية النزعة القومية أو الدين، لأنه أصلاً عاب على الفلسفة الليبرالية عجزها عن ملاقاة حاجات البشر الروحية وطموحاتهم إلى الكرامة، وما تفرزه هذه من مظاهر غضب وسخط ونقمة. كذلك أقر، بتواضع العالم/ العرّاف/ الزائف، أنّ أطروحته حول الدولة الليبرالية الحديثة بوصفها «الصيغة السياسية التي تتوّج التاريخ» كانت «خاطئة تماماً»؛ وذلك «لأنّ التاريخ لا يمكن أن ينتهي، ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة لم تبلغ نهايتها بعد».

وكيف لا تغيب حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة عن «تفكيك» فوكوياما للاعتصامات على امتداد الجامعات الأمريكية، إذا كان منذ العام 2012، في سياق قراءاته حول «الربيع العربي» لم يشأ أن يتباكى على أي نظام آخر أكثر من… النظام السوري! «الدولة هي الجهة التي تحتكر العنف المشروع» بدأ بالافتراض، ثم انتقل إلى الاستخلاص: «لكنّ سوريا سوف تواجه مشكلة كبيرة إذا سقط الأسد، لأنّ الدولة سوف تتفكك» وبالتالي سوف تنهار «ركيزة» بناء الديمقراطية! تعساً للسوريين إذن، طبقاً لمخطط فوكوياما، لأنهم لن يفلحوا أبداً في تحقيق مطالبهم المشروعة: لا ديمقراطية من دون دولة قوية ومكينة (يمثّلها نظام بشار الأسد، الذي يتولى امتياز الدولة) ولا سبيل إلى ديمقراطية حقة إلا بإسقاط هذا النظام؛ فما العمل، إزاء وضع كافكاوي عالق، مغلَق وممتنع؟ الأحرى القول إنه وضع فوكويامي، قبل أن يكون كافكاوياً، يحيل إلى سلسلة الأطروحات السالفة التي ظلت تقود الرجل من تناقض إلى آخر.

وليس حجب حقّ التعبير، بوصفه امتيازاً للجامعات الأمريكية يسوّغ استدعاء الشرطة وتفكيك المخيمات واعتقال الطلاب والأساتذة؛ سوى أحدث الأفانين الفوكويامية، في مسلسل مستدام طويل الحلقات.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

——————–

احتجاج الجامعات الأجنبية والسبات العربي/ محمد المحسن

20 – مايو – 2024

الجامعات الغربية في عدد كبير من دول العالم تقول اليوم كلمتها من خلال الحراكات الطالبية، وليس غريبا أن تكون غزة، التي تشهد أفظع جريمة ضد الإنسانية في التاريخ الحديث، شعار الحراك الاحتجاجي وموضوعه. أما الجامعات العربية فتغط في سبات عظيم.

في الضفة الغربية 21 مؤسسة جامعية عرفت بثوراتها الدائمة ونضال طلابها المستميت من أجل التحرر والاستقلال وبناء الدولة المستقلة. لكنها لم تتفاعل بعد مع التحولات الكبرى في شأن القضية الفلسطينية، على عكس عادتها وطبيعتها الثورية.

الحق الفلسطيني

ليس غريبا أن تكون غزة، التي تشهد أفظع جريمة ضد الإنسانية في التاريخ الحديث، شعار الحراك الاحتجاجي وموضوعه، وليس غريبا أن تكون جامعة كولومبيا نقطة البداية، ذلك أنها منبر إدوارد سعيد أبرز من عرّف بالسردية الفلسطينية والحق الفلسطيني بالحرية والاستقلال. وليس غريبا أن تمتد شرارة الاحتجاج إلى كل الجامعات الأخرى عندما تمس حرية التعبير، وعندما تظهر الفجوة فجة بين القيم المدعاة والممارسات السياسية للسلطات الحاكمة. وربما غزة اليوم هي المرآة الفاضحة للتناقضات في النظام العالمي وفي داخل الأنظمة الغربية، مثلما كانت حالة جنوب إفريقيا في التسعينيات وقبلها حالة فيتنام في السبعينيات.

وهنا أقول: المظاهرات بمثابة صرخة في وجه النظام العالمي الفاسد الداعم لإسرائيل جاءت في الوقت المناسب لتفضح نفاق الغرب المتملق المتباهي بالديمقراطية الزائفة، انطلقت من جامعة كولومبيا التي كانت البوابة الموصلة صوت غزة للمجتمع الأمريكي المنتفض طلابه ضد كل أنواع العنف والقتل، فيما السلطات الحاكمة تتهم أولئك الطلبة بمعاداة السامية ودعم الإرهاب، وهي تهم لم تنجح في لجم الحراك هذه المرة كما تعودت إسرائيل منذ سبعين سنة، مما أدى إلى ذعرها ودفع رئيس وزرائها “بيبي”، كما يلقب، للتدخل في الشؤون الأمريكية وتوجيه الأمر بقمع حركة الطلاب بأسرع وقت ممكن، مما خلق نوعا من عدم الرضا في أوساط الصحافيين والمثقفين الأمريكيين الذين اعتبروه إهانة في حقهم، فنتنياهو يعرف أن هذه الثورة الطلابية لن تتوقف حتى الإطاحة بدولته العنصرية كما حدث في فيتنام بوقف الحرب وإفريقيا بإسقاط الأنظمة العنصرية، وقوانين التمييز العنصري ضد السود في أمريكا. لذا فهو خائف من انفجار هذه الثورة واتساع دائرتها لجامعات أخرى أوروبية وشرقية، وبدايتها من جامعات النخبة الأمريكية مثل “كولومبيا” و”هارفارد” في بوسطن. وذلك معناه أن الجيل القادم من أبناء أعضاء مجلسي النواب والشيوخ ورجال الأعمال لن يصدق أكاذيب الصهيونية التي كان من بين معارضيها يهود رفعوا الأعلام الفلسطينية وارتدوا الكوفية وهذا ما زاد من وتيرة القلق عند الرجل المشهر لشعار “معاداة السامية والعداء لليهود”.

وإذن؟ فلسطين تحضر عبر هذه الحراكات المتنقلة بين العواصم والمدن والجامعات الكبرى في الوجدان العالمي وتعود قضيتها إلى صدارة الاهتمام، وتبرز في حضورها الطاغي مدى انتهاكات الغرب وأنظمته لحقوق الإنسان وهي التي تدعي أنها حصنه المنيع، ولا تنفك تكيل بمكيالين، ولا تكتفي بغض النظر عن إبادة جماعية تجري على أرض القطاع على مرأى من العالم، بل تعمد إلى تغطيتها وتتورط فيها حتى النخاع.

إبادة جماعية

نخبة الطلاب الجامعيين في أمريكا وأوروبا وأستراليا يقولون في اعتصاماتهم وتحركاتهم: لا للعنف المفرط، لا لإطلاق يد إسرائيل في جرائمها، لا لانتهاك العدالة الدولية، لا للتمادي الأمريكي الغربي في فرض رؤية أحادية الجانب للعالم، لا للظلم الذي يمارس ليس فقط في حق الفلسطينيين، بل في حق شعوب كثيرة مصنفة في عداد المهمشين.

وتلاقت رؤية الشباب الفلسطيني المنفي مع تغيرات عميقة ووعي مختلف في أوساط الشباب الأمريكي، ومن بينهم خصوصا الجيل الجديد من الشباب اليهود الرافضين لسياسة الفصل العنصري والإبادة الجماعية الجارية في فلسطين. هؤلاء باتوا محركا أساسيا من محركي الاحتجاج وربما هذا أكثر ما يقلق نتنياهو وزمرته وداعمي إسرائيل في الكونغرس الأمريكي لأنه إذا ما تواصل واستمر بهذا الزخم لأمكنه زج هؤلاء في قفص الاتهام واستكمال ما بدأته جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية في لاهاي. تحرك جعل نتنياهو يقوم ولا يقعد لما فيه من ضرر على حركته المتصهينة.

إني لعلى ثقة بأننا لم نكن لنرى نتنياهو على تلك الحال المضطربة في سريره لو أن هذه التحركات قد حصلت في شوارعنا العربية لثقته أن الحكام العرب لن يكونوا إلا تحت أمرته في قمع تلك التحركات. لكنها لن تنتهي إلا في جعل حركات هذه الحكومات كحركات طير النعام عندما يدس رأسه في الرمل ليبق في سبات عميق.

حراك طلابي غربي تمنينا أن يكون للعرب نصيب منه، حتى لا يوصف طلبتنا وأساتذتهم بالجبناء والمتخاذلين إزاء قضية أمتهم. لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن! وتسألوننا – اليوم – عن القومية والعروبة وإخوة الدم؟! سيظل سؤالكم حافيا عاريا بلا روح.

كاتب تونسي

القدس العربي

————————–

تلك المسافة بين الحركتين الطلابيتين المصرية والعالمية/ شريف هلالي

26 مايو 2024

أشاد كثيرون بما قام به آلاف من الطلاب في جامعات أميركية وغربية من اعتصامات واحتجاجات تضامناً مع القضية الفلسطينية، ورفض جرائم الحرب التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، كما لقي ذلك إعجاب الرأي العام العربي والإسلامي، خصوصاً في ظل الحصار الرسمي على ردود الأفعال الشعبية لإعلان موقفها بالمثل ضد ما يحدُث من جرائم في قطاع غزّة، وهي به أولى. وفي السياق، تساءل مراقبون عن غياب ردود الأفعال في الجامعات المصرية وضعفها.

الجانب الأساسي الذي يتجاهله المراقبون في المقارنة بين التجربتين الغربية والمصرية (والعربية عموماً) أسلوب التعليم، ومدى احترام حريات المجتمع الطلابي تجاه القضايا السياسية والاقتصادية في كل منهما. هناك عقلية علمية تعتمد على المناقشة، وتكوين وجهة نظر خاصة من الطلاب تعتمد على الحوار المتبادل، ولا تكتفي بالاعتماد على كتاب موحّد يتداوله الطلاب، بالإضافة إلى تكوين اتحادات مستقلة تستطيع مخاطبة الإدارة الجامعية على قدم المساواة والضغط عليها في مختلف الشؤون العامة والطلابية. بعكس التجربة المصرية والعربية التي تعتمد على منهج السلطة الأبوية ومفاهيم الحفظ والتلقين، وتعمل على إعادة صياغة المناهج بما يلائم وجهة النظر الرسمية، وهذه أقرب إلى نموذج لجان الحقيقة والدولة القمعية في رواية جورج أورويل “1984”، حيث تعمل السلطة على إعادة صياغة كل المعلومات والحقائق بما يلائم ما تراه، حتى لو على عكس الواقع.

وطوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات وحتى ثورة يناير، كانت التجمّعات الطلابية بارزة في جامعات القاهرة وعين شمس والمنصورة وطنطا وجامعة الأزهر والجامعة الأميركية كذلك، وهي التي تناولها شريط سينمائي شهير للفنان محمد هنيدي، وكانت حاضرة في مواقف كثيرة خاصة بالقضية الفلسطينية. وما يحدُث في الفترة الأخيرة في حقيقته يعكس تغييباً قسرياً لطلاب الجامعات عن إبداء آرائهم، ليس فقط مما يحدُث في فلسطين، بل في كل القضايا المهمّة في الشأن الداخلي لأسباب عدة، يتعلّق بعضها بالنظام نفسه وموقفه الرافض ضد كل المبادرات الجماعية المستقلة في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ ترفض السلطة المصرية أي عمل طلابي سياسي أو حزبي مستقلّ عنها. ويظهر ذلك في حجم القيود التي تفرضها أجهزة الدولة على العمل الطلابي في المجال السياسي، ولطالما كانت الجامعات منبراً للتظاهر الدائم وإقامة المعارض والمؤتمرات السياسية داخل أسوارها وخارجها. وسبق أن عبرت الاتجاهات السياسية المختلفة يساراً ويميناً عن نفسها في أسر وأندية فكرية من اليسار إلى اليمين، معارضة للسلطة في عهدي أنور السادات وحسني مبارك.

وعندما دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى التظاهر لرفض تهجير الفلسطينيين في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وسمحت الدولة للأحزاب الداعمة للنظام بتسيير مظاهرات في مختلف المحافظات شهدت تجاوباً طلابياً واضحاً. لكنها لم تتسامح مع فعاليات احتجاجية أخرى للهدف نفسه، دخل بعضها ميدان التحرير وسط القاهرة، لمجرّد أنها نظمّت بشكلٍ مستقل، ولأنها رفضت مبدأ التفويض الرئاسي الذي دعت إليه المظاهرات الرسمية، وقبضت على عشرات الشباب من الذين قادوا هذه المظاهرات ولا يزالون محبوسين.

كما عملت الدولة منذ 2013 على التراجع عن كل المكتسبات التي حققتها حركة استقلال الجامعات عقب ثورة يناير، سواء في إلغاء الحرس الجامعي وانتخاب عمداء الكليات ورؤساء الجامعات لصالح مبدأ التعيين من رئيس الجمهورية، واختيار الأشخاص الذين يمكن توجيههم من الأجهزة الأمنية، لضمان البقاء في مناصبهم.

وانتهجت الدولة سياسات تقييد حرّية الرأي والتعبير وكل الحريات الأخرى، مثل حرّية التنظيم والتجمع السلمي لمختلف الفئات عمّالاً وطلاباً ومواطنين، من خلال الحبس الاحتياطي المطوّل والتدوير، والتي تصل إلى سنوات في السجون.

على مستوى الجامعات، هناك غياب كامل للانتخابات المستقلة، حيث تسيطر أجهزة الدولة الأمنية والإدارية على مجريات تلك الانتخابات من خلال اللائحة التي جرى فرضها بموجب قرار وزير التعليم العالي 352 لسنة 2019، بديلاً للائحة 2013. وحذفت منها كل ما له علاقة بالشأن السياسي، ولم تجر الانتخابات الأخيرة في موعدها في بداية العام الطلابي 2023 ـ 2024. وتختار الإدارة الجامعية لجان الاشراف على تلك الانتخابات من أعضاء هيئات التدريس والطلاب، ومن صلاحياتها إعلان قوائم الترشيح النهائية، والإشراف على التصويت والفرز واستبعاد المرشّحين الذين يخالفون الآداب العامة والقيم والتقاليد الجامعية في الدعاية الانتخابية، وهو ما يفتح الباب لاستبعاد المعارضين.

ولا تسمح أجهزة الدولة إلا بالتشكيلات التي صنعتها بهدف إظهار التأييد والدعم الطلابي لها، وأهمها ما تسمّى أسرة “طلاب من أجل مصر”، والتي أسّست عام 2017 وتوسّع وجودها في الجامعات، بما فيها الأهلية المنشأة حديثاً، وتحظى هذه الأسرة بدعم رسمي، وهو ما يظهر في حضور رؤساء الجامعات جميع الأنشطة الخاصة بها، على غرار أسرة حورس التي رعاها جمال مبارك نجل الرئيس الأسبق حسني مبارك. وتحظى هذه الحركة بالمساندة الكاملة في الانتخابات الطلابية التي لا يسمح بخوضها إلا للطلاب المرضي عنهم سياسياً وأمنياً، حيث تستبعد اللائحة كل من قد سبق الحكم عليه بعقوبة جنائية أو بعقوبة مقيدة للحرية في جريمة مخلّة بالشرف، وألا يكون منتمياً إلى أي تنظيم أو كيان أو جماعة إرهابية مؤسّسة على خلاف القانون. وترفع هذه الأسرة ضمن لافتاتها “معاً لبناء الجمهورية الجديدة”، وتشيع خوض المعارك الوهمية تجاه ما يسمّى حروب الجيلين الرابع والخامس، ومواجهة الشائعات، في إشارة إلى أي آراء تخالف وجهة نظر النظام الرسمي. بل وزعت هذه الأسرة عبوات زيت وسكر على الأسر الأكثر احتياجاً، في مسلك شبيه بما يفعله حزب مستقبل وطن في أثناء الانتخابات البرلمانية والرئاسية لشراء ضمائر الفقراء والمحتاجين.

عملت أجهزة الدولة على تقييد الحرّيات الأكاديمية داخل الجامعات، بالإضافة إلى اعتقالها عشرات الباحثين والأكاديميين بتهم التحريض على الإرهاب والانتماء إلى منظمّات إرهابية، ومنهم أساتذة جامعات، وجديد هذه الاعتقالات ما جرى مع مؤسّسي حركة طلاب من أجل فلسطين التي أصدرت عدّة بيانات تضامنية مع الشعب الفلسطيني، وتم القبض على مؤسّسيها، ولا يزالون تحت الحبس الاحتياطي. وبالرغم من كل هذه القيود، لم تنته هذه الحركة، بل تحاول إعادة تأسيس نفسها من خلال الوجود داخل الأحزاب وخارجها، وهو ما ظهر في الحراك الطلابي أخيراً.

العربي الجديد

————————–

لماذا غابت الجامعات العربية عن ثورة غزّة العالمية؟/ لميس أندوني

19 مايو 2024

فيما تستمرّ وتتوسّع ثورة غزّة الطلابية، التي بدأت في أميركا ووصلت إلى أوروبا، لا نجد في الجامعات العربية، وحتّى الفلسطينية، حراكاً يُذكر. وهذا السكون الملحوظ مُؤشّر على شلل الحركات الجماهيرية العربية، وضعف الأحزاب والمؤسَّسات المدنية، وهو مُؤشّر خطير على حالة العجز عن تحرّك جمعي، ليس ضدّ حرب الإبادة الصهيونية فحسب، بل على المطالبة بالعدالة والحرّية عموماً. فالتراجع بعد انتكاسة الانتفاضات العربية، التي نهضت أواخر 2010، وبدأت بالضمور في 2015، كان له تأثير عميق في المجتمع العربي كلّه، فانتصار الثورات المُضادّة، وفشل الانتخابات في إحداث تغيير نحو الأفضل، وغياب قيادات وجبهات مُوحَّدةٍ تحمل رؤىً وطنية تقدّمية، أصاب كثيرين بالإحباط، وحتّى اليأس. أما الأنظمة، فالدرس الوحيد الذي تعلّمته هو ابتداع أساليب جديدة في كبح الحرّيات، من سَنّ قوانينَ تخنق حرّية التعبير والعمل السياسي، إلى إغلاق الساحات والميادين، حتّى لا تصبح مراكز تَجمّع ورموزاً لإرادة الشعب والتغيير.

ما تقدم كلّه أثّر، أيضاً، في حركة التضامن مع القضية الفلسطينية، وفي مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، باعتباره خطراً على فلسطين والدول العربية، مجتمعة وفرادى. وفي المحصّلة، أشاع تقييد الحرّيات والقهر أجواءَ الخوف والترهيب من اعتقال وتدخّل أجهزة الأمن، ومن فصلٍ من الجامعات، ومن تدمير مستقبل الطلبة، وأوصل الجامعات إلى هذه الدرجة من السكون المخيف. مع أهمّية غياب الحرّيات عاملاً رئيساً في تحليل عدم انضمام الطلبة في العالم العربي إلى الثورة الطلابية العالمية، لكنّه ليس العامل الوحيد، بل يجب أن نواجه حقيقةَ وتداعياتِ تدهور وتشويه الوعي والثقافة، الذي غيّب الجامعات العربية عن الحراك ضدّ حرب إبادة ليست بعيدةً عنّا، ونتابع أحداثها لحظة بلحظة على شاشات قنوات التلفزة والهواتف النقّالة.

معظم الأنظمة العربية مسؤولة عن تغييب ممنهج للقضية الفلسطينية في المدارس والجامعات، وبخاصّة، بعد سلسلة من اتفاقيات تطبيع رسمية مع الدولة الصهيونية. فهناك جهل أو نقص معرفي بجذور القضية، بما في ذلك فهم الحركة الصهيونية، وطبيعة المشروع الصهيوني وخطره على الأمن القومي العربي، يضاف إليه تسطيح معرفي بطبيعة الصراع وتداعياته على الاستقرار في المنطقة. الأخطر، ربّما، عملية الفصل الممنهجة، أيضاً، بين نضال الشعب الفلسطيني والتحرّر الوطني العربي، وقضايا الحرّيات والعدالة والحقوق الاجتماعية، بحجّة أنّ الانشغال بالقضية الفلسطينية يُعرقل تقدّم المجتمعات العربية، وهذا التيار، بالمناسبة، ليس في أوساط النخب الحاكمة، بل لدى بعض التيّارات الليبرالية “التنويرية”. فتحتَ عنوان “الحداثة” يناصب هؤلاء العداء للقضية الفلسطينية، وهو في جزء منه تأثرٌ بتيّار ليبرالي غربي مُنافقٍ، وأحياناً عنصري، يُسوّغ السياسات الاستعمارية، وفي جزء مُهمّ منه، يُجسّد التأثيرات الفكرية والإقليمية العنصرية و”المالية” في تفكير أحزاب، وأشباه مثقّفين، وحتّى مُثقّفين.

بدأ هذا التيّار الليبرالي الانتقائي، وأحياناً الإقصائي، في العالم العربي، يتغلغل في هيئات التدريس الجامعية، ومراكز الأبحاث والإعلام، وساهم في تشويه الوعي عند أساتذة الجامعات والطلبة. وأكثر مقولات هذا التيّار أهمّية أنّه يقف في مواجهة تيار الإسلام السياسي، ويعتبرها أولوية في التغيير، بل ربط الشقّ الأسوأ في هذه التيارات القضية الفلسطينية بكراهية “تخلّف التيار الديني”. وهنا تُقزّم القضية الفلسطينية إلى صراع ديني يجابهونه بـ”المحبّة” للجيش الذي يُنكّل بالفلسطينيين، وبقبول الاحتلال، وتفوّق إسرائيل.

هذ التيّار، وإنْ لا يبدو قوياً، غير أنّ تأثيره في الشباب أعمق مما يظهر في السطح، لأنّ بعض الحكومات تقبل هذا التيّار “الليبرالي”، وتستخدمه من خلال منظّمات غير حكومية، بعضها مموّل أجنبياً، أو “تمكين” الشباب داخل الجامعات وخارجها، لضمان الولاء ولمواجهة تيّار الإسلام السياسي. وهذا ما فتئت بعض الحكومات تمارسه لمنع حدوث انتفاضة عربية ضدّها، بعد تجربة “الربيع العربي”، ولذا، كان التخويف أو زرع وعي مشوّه ضدّ دعوات الإصلاح، خصوصاً أنّ كثيراً من المنظّمات شبه الحكومية، التي تضمّ بعض “الليبراليين”، تكون مُختَرَقةً أمنياً، وتمثّل توجّهات عنصرية ضدّ الفلسطينيين، تحت غطاء مواجهة الحركات الإسلامية. فقامت بعض الدول بتوظيف هذا التيّار عند بدء التحركات في الجامعات تضامناً مع غزّة، بحجّة الخوف من تأثير “انتصار حركة حماس” أو حتّى صمودها في تقوية الحركات الإسلامية، تتقدّمها جماعة الإخوان المسلمين.

اللافت، غياب حركة طلابية قوّية في لبنان، الذي حمل في الستينيات والسبعينيات شعلة الانتصار للثورة الفلسطينية، فبالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي، واليأس من حكومات تعتمد التقاسم الطائفي بين قيادات الطوائف، فإنّ ربط القضية الفلسطينية بمعاداة النظام السوري وإيران أصبح من مبررات النفور من تأييد القضية الفلسطينية. وترى ذلك بين فئات من المُعارَضة السورية من الطلبة ومن الشباب، أي إنّ من يناصب العداء لأنظمة تحمل شعار الممانعة والمقاومة انتقل من رفض لطهران إلى رفض للقضية الفلسطينية.

من الغريب ألا يتقدّم الطلبة الاحتجاجات، وبخاصّة ضدّ الجريمة المروّعة والمستمرّة في فلسطين، لكنّ حالة التشوّه في النظام السياسي العربي انعكست على حالة الجامعات وعلى حراك الطلّاب، الذين ليسوا في منأى، أيضاً، عن حالة الإحباط العام من جدوى المظاهرات في الضغط على الحكومات العربية، وجعلها تُغادر حالة الخذلان للفلسطينيين، إن لم يكن ممالأة أميركا وإسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني. فهناك طلبة مصريون اعتُقلوا لتأييدهم غزّة، ورفض جريمة الإبادة، وفي بعض دول الخليج العربي، غير مسموح إظهار التأييد للفلسطينيين أو حتّى رفع علم فلسطين. وفي الأردن، نجحت الحكومة والأمن، إلى حدّ ما، في فرض حالة خوف وأجندة شعارها “مصلحة الأردن أولاً”، جعلت من الحراك تأييداً للفلسطينيين خطراً على الأردن، إلى حدّ اتهامه بالانصياع لتحريض أو أوامر “حماس”. وكاتبة هذه السطور شبه متأكّدةٍ لو أنّ بعض الطلبة العرب كانوا يدرسون في الجامعات الأميركية أو البريطانية، لكانوا قيادات في ثورة غزّة الطلابية، لكنّ قمع الفكر وحرّية التعبير في مدارسنا وجامعاتنا العربية، وحتّى في قاعات التدريس والصفوف، ينتج طلاباً خائفين على فرصهم في الشهادة الجامعية، ويخشون التضحية بمستقبلهم، خصوصاً، أنهم فقدوا الثقة بقدرة الشعوب على التغيير.

ما تقدّم ليست مسوّغات أو تبريرات لحالة الصمت في الجامعات العربية، بل إدانة للأنظمة، التي جعلت العقلية العُرفية الأمنية العربية تتحكم بالجامعات. والبديل، الآن، هو في تحرّك طلّابي جماعي، فلا يمكن فصل المئات والزجّ بالآلاف في المعتقلات، خصوصاً أنّ الدفاع عن فلسطين، في هذه المرحلة، هو دفاع عن الأردن وفلسطين وسورية ومصر والإمارات، وكلّ بلد عربي. لكن، على النُّخب، أيضاً، أن تتحرّك ولا تترك الشباب والطلبة فريسة العملية الأمنية والاعتقال، وهذا جزء كبير من المشكلة، فمن دون وقوف النخب بحزم أمام أيّ هجمة أمنية، لا يحقّ لنا أن نطالب الطلبة بالتحرك ونحن صامتون.

أما الأنظمة، فمحاولاتها لتكوين طلبة موالين وخانعين ستنقلب عليها. فأميركا نجحت سنواتٍ، بعد الاحتجاجات ضدّ حرب فيتنام، في كبح الحركات الطلابية، إلى أن انفجرت بوجهها رفضاً لحمايتها مشروعاً استيطانياً إحلالياً عنصرياً يهدف إلى إلغاء هُويّة الشعب الفلسطيني، حتّى لو تطلّبت إبادته.

العربي الجديد

————————-

بالإجابة عن سؤال.. ما أهمية المشاركة الطلابية في القضايا السياسية؟/ محمد السكري

2024.05.26

سعت الأنظمة “المستبدة” باستمرار لاحتكار العمل السياسي لنفسها عندما جردت الفضاء العام من مساحاته الحرّة وذلك خلال مساعيها على مدار العقود الماضية لإعادة تعريف المجتمع من جديد بما يتماهى مع نظرتها تجاه الدولة بتعريفها السلطوي، وقد سعت لتجريد المجتمعات من كل أدواتها العامة ومساحات نضالها وقد ربطت المجتمع المدني بها كأداة تعبّر عنها وعن إرادتها لا عن إرادة الناس أنفسهم؛ وذلك بالنظر إلى النموذج السوري وطريقة تعاطي نظام الأسد مع النقابات الطلابية وفق سياقات مختلفة على اختلاف أهدافها لكن دائماً كان العنوان العريض اعتباره أداة سلطة.

لم تكن هذه المقاربة تجاه المجتمعات القاطنة في دول تصنف أنّها في دول مستبدة وحدها ولم تكن مجرد تكتيك لضبط المجتمعات بقدر ما أّنها تحوّلت لثقافة عامة ضمن إطار محاولة تجفيف السياسة وإبعاد المجتمعات عن أي مطالب خاصة بقضايا ربما عنوانها الأخلاقي أكثر من السياسي نفسه مع أنّه بات من الصعب الفصل بين القضايا وتجريدها المطلق من التداعيات السياسية كما في الحالة السورية والفلسطينية.

ورغم أن سؤال الفصل بين السياسة والشأن العام مطروح منذ عقود في المنطقة وشغل نقاشات واسعة إلّا أنّه بعد الربيع العربي بات أكثر إلحاحاً الإجابة عليه؛ ليس لأسباب علمية بقدر الحاجة الواقعية له، لأنه ارتبط بقرارات مصيرية في المنطقة، لا سيما عندما يتم الحديث عن ضرورات الانخراط في الربيع العربي أو لا أو مناصرة القضية الفلسطينية أو لا.

وقبل الإجابة على التساؤل نفسه، لعلّه من المهم القول إنّ هياكل السلطات المستبدة كلها معرضة للثورة وقد نقل أرسطو ذلك واصفاً هياكل الحكم كلها، لكن ربما “المستبدة” هي أكثر عرضةً من غيرها وذلك لأسباب ذاتية خاصة بواقع النموذج نفسه أو موضوعية بخصوص الاستبداد نفسه.

ومثال الجامعات السوريّة من أهم مساحات الفضاء العام التي انطلقت للتظاهر معربةً عن قطيعتها التامة مع منطق السلطة “فصل السياسة” وقد برر طلبة سوريا حينها تلك الثورة بأنها استحقاق وطني وأخلاقي أكثر من كونه سياسيا مع أنه لا يخلو من محاولاته السياسية بلا شك، هذه القطيعة لم تكن فقط مع نظام الأسد وإنما مع هياكل حكمه وكانت ربما مع ثقافة الأسد أو الاستبداد بتعبير أوسع وأدق.

هذا التحوّل خاضته الجامعات الفرنسية مطلع ستينيات القرن الماضي لدوافع مختلفة؛ عندما رفضت سياسات الرئيس الفرنسي “شارل ديغول” بخصوص الواقع الاقتصادي والتعليمي ولعلّ أسباب الثورة كانت إقليمية أكثر من أن تكون محلية، وهذا يدفع للاعتقاد أنّه من الصعب فصل السياسة عن فئات اجتماعية مختلفة على رأسها الطلبة، كانت حينها ثورة مايو/ أيار التي حملت شعار “من اللا ممكن إلى المستحيل” أو “كن واقعياً واحلم بالمستحيل” إذعاناً لضرورة انخراط الطلاب في الاستحقاقات السياسية المؤثرة في حياتهم وواقعهم وتفضيلاتهم التعليمية وسرعان حينها ما انتشرت الثورة لمعظم دول العالم، وساهمت بتغيرات كبيرة ومتغيرات أكبر منها إمكانية مساهمة الطلاب في التغيير بالتالي تغيير اعتقاد اللا ممكن السابق، وبالفعل كانت سبباً غير مباشر لإنهاء حكم ديغول في فرنسا لكن المساهمة الأهم أنّها وضّحت دور الطلبة حول العالم في دائرة الحياة السياسية والقضايا الدولية.

لم تكن ثورة مايو وحدها منعطفاً في الحركات الطلابية بقدر ما كانت استمراراً لتلك الحركات، ربما كان الحراك الطلابي في الولايات المتحدة الأميركية ذا صخب أوسع وقد ارتبط بقضايا مختلفة منها: القضية الفلسطينية، الاستعمار الخارجي، التمييز بين البيض والسود. لكن كان حضور القضية الفلسطينية هو الأكثر زخماً من قبل الطلبة في جامعات عريقة ومهمة خاصة في الحراك الأخير الذي أخذ طابعاً غير عادي من جراء الدعم الأميركي للعمليات العسكرية على غزة وحصارها منذ الربع الأخير من عام 2023.

أربك هذا الحراك المؤسسات الأميركية الرسمية بما في ذلك الرئيس الأميركي “جو بايدن” الذي اضطر لصياغة تصريحات “شرق أوسطية” فيها تمازج مع فقه الاستبداد في تبرير عمليات ملاحقة الطلبة في الجامعات ومنعهم، وأحياناً اضطر بعض الساسة بالولايات المتحدة إلى استعارة مصطلحات رجعية تمثل حالة لا دولة بما في ذلك اتهام المتظاهرين بأنهم غير أميركيين أو لاجئين أو مغتربين وذلك بالاعتماد على سياسات تميزيّة مشابهة لحد كبير تلك التي يطلقها قادة في مجموعات غير رسمية أو ساسة متطرفون.

وكان جزء من الدعوات للطلبة بضرورات الاهتمام “بشؤونهم” الدراسية بدلاً من الانخراط في قضايا “سياسية” ومن هنا يمكن لحظ مدى تماهي عناصر الخطاب بين الغرب والشرق عند استحقاقات كهذه، ليس على مستوى الشعوب وإنما على مستوى القيادات؛ وعند هذه النقطة لا بدّ من القول إنّ الكثير من الطلبة الذين ناصروا القضية الفلسطينية بكونها إنسانية وأخلاقية وهذا ربما يفتح نقاشاً أوسع على ضرورة عدم تضييق أو أدلجة أيّ قضية أخلاقية لأنها قد تعبّر عن شعوب واسعة حول العالم بصرف النظر عن الانتماءات الدينية أو التصنيفات بين الغرب والشرق، بما أنه من الصعب في الحالة الفلسطينية فهم مقولات العدالة والمساواة والحرية داخل المنطقة وحدها.

لذا، من الصعب فصل الحياة السياسية عن الاستحقاقات المتعلقة بقضايا تلامس حياة الناس بشكل مباشر أي “لا حزبية” تلك التي فيها نزعة وطنية أو أخلاقية كحال القضيتين الفلسطينية والسورية، الفلسطينية كونها تعتبر الدولة الأخيرة المستعمرة في الشرق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولم يستطع لحد اللحظة أهلها “تقرير مصيرها” وفقاً للقانون الدولي والإنساني وميثاق الأمم المتحدة، أمّا السورية بكونها تعتبر صراعاً بين مجتمع أراد التغيير -ومازال- وبين سلطة مستبدة كانت سبباً رئيسياً في دمار البلاد، صحيح أن دور النقابات الطلابية وحتّى تعريفهما يندرجان ضمن نطاق الدفاع عن مصالح الأفراد لكن هذه التعريف السائل من الصعب اعتماده دون لفت النظر لمتغيرات السياقات نفسها خاصة عندما يرتبط الأمر بقضايا أخلاقية وشعوب يتم إبادتها بشكل جماعي، في هذا الإطار تميّز اليساري النقدي “أنطونيو غرامشي” في تعريف “المثقف العضوي” المنخرط في القضايا العامة أو (The Intellectuals) من منطلق أخلاقي والقادر على التغيير بالقدرة على “الاشتباك” في القضايا العادلة وتحقيق الهيمنة الثقافية للمضطهدين، كما استخدم عزمي بشارة مصطلح “المثقف العمومي” (Public) خلال توصيفه للمثقف الذي تتجاوز ثقافته الاختصاص ومتفاعل مع الشأن العام بأدوات عقلانية ومنطلقات أخلاقية أي القادر على الجمع بين الثقافة والموقف الأخلاقي ولعلّ هذا النموذج ينطبق على الكثير من المفكرين العرب كمحمد كرد علي، نازك العابد، ساطع الحصري، بطرس البستاني وغيرهم كثر.

بالتالي ابتعاد الطلبة بوصفهم مثقفين عضويين أو عامين عن مسؤوليات أخلاقية كهذه سيساهم في تعزيز الاستعمار والاستبداد في المنطقة، وقد يكون من الصعب الاعتقاد بأن هناك تغييراً اجتماعياً ووطنياً وإنسانياً يمكن أن يحصل بإبعاد الطلبة عن معادلة التغيير نفسها، وبالقدر الذي يتحمل الطلبة مسؤولية النضال يتحملون مسؤولية بناء النظام الديمقراطي والدولة التي تمثل مصالح شعبها عبر “احتكار العنف” وفق مفهومين أساسيين؛ الديمقراطية والدولة بمفهومها المواطني وليس السلطوي لأنه إذ تجردت الدولة من المفاهيم الأخلاقية وأركانها وحواملها المجتمعية تصبح مجموعة من التجريدات العامة المستقرأة من فلسفة الاستبداد.

———————-

==================

تحديث 18 أيار 2024

——————————–

طلّاب الجامعات: إعلام جديد؟/ فاطمة العيساوي

17 مايو 2024

قدّم الإعلام (أو معظمه) النزاع بين الطلاب المُعتصمين في أحرام الجامعات الأميركية، وإدارات هذه الجامعات، التي استدعت الشرطة لقمعهم والطاقم التعليمي المُتضامِن معهم، أنّه إحدى ساحات الصراع في مناطق الحروب بين طرفيْن، يستخدم كلاهما العنف لخدمة أهدافه. بدأ تبسيط الرواية بتقديم الحراك الطلابي حالةَ تمرّدٍ طلابٍ خرجوا عن السلوك المُتوقّع منهم ليتحولوا محتلّين لأحرام جامعاتهم، يعيقون مسار نشاطاتها خدمةً لأغراض خارجية. تحوّلت الرواية، مع تدخّل الشرطة العنيف في معظم هذه الجامعات، تماشياً مع الدعاية الإسرائيلية واليمين المُتطرّف، إلى عملية تأديبٍ لمجموعات طلابية تبنّت فكراً راديكالياً، وبذلك، أصبحت تشكّل خطراً على الجامعات وعلى المجتمع، خارج أحرام الجامعات.

انتشرت رواية الطلاب “الحثالة” عبر وسائل التواصل، وبعض الإعلام التقليدي، وعلى لسان المُعلّقين، لتصوّر الطلاب أنّهم مجموعة من الأولاد المُدلّلين نجحت حركة حماس في اجتذابهم وتجنيدهم لخدمة أجندتها، يحملون فكرَ الإسلاميين وتطرّفهم، وهم بالضرورة معادون للسامية، رغم مشاركة أعداد كبيرة من الطلاب اليهود في الحراك. قال أحد المسؤولين الإسرائيليين إنّه كان يعتقد أنّ “حماس” تسلّلت إلى جامعات غزّة، ليجد أنّها تسلّلت إلى الجامعات الأميركية أيضاً. علّق أحد ضيوف شبكة “سي أن أن” إنّه يصعب عليه أن يتصوّر ما سيكون وضع طالبة يهودية تعبر الحرم الجامعي ليلاً مع وجود مُخيّم الاعتصام، مكرّراً بذلك القوالب الجاهزة عن الرجال العنيفين مغتصبيّ النساء. هذه الشيطنة للطلاب، عبر تعبيرات مُتباينة لم تواجه بحجج مضادّة في الغالب، في منصّات الإعلام، بل وُضعت ببساطة في خانة “التحليل” أو “المواقف”. في حالات أخرى، تولّت الصحافة نفسها عملية التشهير مباشرةً، من دون حاجة إلى مُعلّقين؛ نشرت إحدى كبريات الصحف الألمانية (بيلد) لائحةً بأسماء الأساتذة المُؤيّدين للحراك الطلابي في الجامعات الألمانية، ناعتةً إياهم بـ”المرتكبين”، بعد أن وقّع هؤلاء رسالةً انتقدوا فيها عنف الشرطة ضدّ الطلاب المُعتصمين. لعلّ أبرزَ الصور المُعبّرة عن هذه الشيطنة مقطع مصوّر تناقله الإعلام الحديث لشرطيّ وهو ينزع الكمّامة عن وجه طالبة، كما الغطاء عن رأسها، حتّى يراها العالم كما هي؛ أقلّه مشاغبة وأكثره راديكالية أو حتّى إرهابية.

شيطنة الطلاب مسألة خطيرة، ليس بالنسبة لكيفية تعاطي الإعلام مع القضايا التي يدافع الطلاب عنها، وهستيريا التهويل حولها، فقط، إنّما أيضاً، مستقبل الطلاب أنفسهم أفراداً. هم مجموعة هشّة، ولو أنّهم ليسوا من أبناء الطبقات الكادحة، وليسوا بالضرورة مُعرّضين للتهميش. تصويرهم أنّهم ضحية غسل دماغ من جانب الإسلاميين، وأنّ حراكهم شكل من أشكال معاداة السامية، انعكس على مستقبلهم العلمي (أعداد كبيرة منهم طُردت أو علّقت دراستها) كما على مستقبلهم المدني (المئات أوقفوا وبعضهم طلب منه إخلاء البيوت أو الغرف التي استأجروها للدراسة). من غير المبالغة القول إنّ الحملة ضدّهم ستؤثّر على فرص العمل المستقبلية، وفرص اندماجهم في مجتمعاتهم الأوسع، في ظلّ الانقسامات الحادّة بشأن القضايا التي يرفعونها، ولو أنّ كلّ هذه الاعتبارات لم توقف حيوية الحراك، الذي بات تياراً عالمياً يجتذب مئات الطلاب في جامعات العالم، من الولايات المتّحدة إلى أوروبا (بريطانيا وهولندا وفرنسا وألمانيا وسويسرا، وغيرها) إلى أميركا اللاتينية، وحتّى سيئول.

التصوير السالب للطلاب في قسم كبير من التقارير الإعلامية (مع استثناءات مُهمّة جدّاً) يعكس، أيضاً، المبارزة بين هؤلاء الطلاب والإعلام التقليدي بشأن معنى ما يجري في غزّة؛ حرب الإبادة التي لا يزال الإعلام يُقدّمها نزاعاً بين طرفين يدفع ثمنه المدنيون. لا تزال أسئلة من نوع “هل تعارض حقّ إسرائيل في الوجود” أو “هل تدين حماس” تتردّد في الحوارات الإعلامية عن حرب الإبادة، رغم التقارير المتواترة عن جرائم الحرب الإسرائيلية، وعن رعبٍٍ يفوق الخيال في غزّة أو ما تبقّى منها. الأكثر أهمّية من ذلك كلّه أنّ الطلاب قاموا بما لم يقم به الإعلام التقليدي، المعني بالدرجة الأولى في تحرّي القضايا التي يطرح الطلاب أسئلةً حولها: لمَ تستثمر جامعات عريقة في السلاح الذي يقتل المدنيين في غزّة أو غيرها؟ ما مسؤولية الجامعات في التأكّد من أنّ استثماراتها أخلاقية، ولا تتعارض مع التزامها خدمة مجتمعاتها؟ ما معنى الحرّية الأكاديمية في إمكاناتها وحدودها في المجتمعات، التي تعيش تجاذباً حادّاً في قضايا مصيرية؟ لمَ أصبحت الجهات نفسها التي كانت تدافع عن الحرّية الأكاديمية، متهمة ما يسمى ثقافة إلغاء الآخر بتقييد هذه الحرية، تدعو للحدّ من هذه الحرّية التي أضحت في عرفها فوضى، باسم منع التعبيرات التي ينظر إليها معادية للسامية؟ كيف التمييز بين معاداة السامية والنقد المشروع للسياسات الإسرائيلية؟ كيف يمكن إعادة تعريف حقّ الدفاع عن النفس، الذي لا يسمح بارتكاب جرائم حرب تحصد الآلاف من أرواح المدنيين؟ كيف يمكن أن نعيش يوميات الإبادة وكأنّها حدث عادي؟ وغيرها من الأسئلة العاجلة.

كان علينا أن ننتظر انطلاق هذا الحراك الطلابي المُبهر حتّى نسمع في الإعلام كلاماً مباشراً، غير ممجوج أو مخفّف عما يجري في غزّة؛ إنّها كارثة إنسانية بحجم إبادة لا مُجرّد أزمة إنسانية. كان علينا أن ننتظر شجاعة الطلاب الشباب حتّى نسمع في الإعلام نقاشات غابت، منذ بدء حرب الإبادة، عن آلة القتل، ومَنْ وراءها، وتاريخ النزاع قبل السابع أكتوبر (2023). هؤلاء الطلاب باتوا صوتنا عندما صمت الإعلام.

العربي الجديد

————————–

هل تحرّر العالم أخيرًا من إسرائيل؟/ سميرة المسالمة

16 مايو 2024

فتح الحراك الشعبي وضمنه الطلابي في العواصم والجامعات الأميركية والأوروبية ضد الحرب الإسرائيلية الظالمة على غزة أبواب التعريف بالقضية الفلسطينية من منظور غربي جديد، سقطت من حساباته حالة “الرهاب المزمن” من الرواية الإسرائيلية، واستغراق الكيان الصهيوني بدور الممثل الشرعي لضحايا مذبحة “الهولوكوست”، ما أزاح عن كاهل بعض الأنشطة والفعاليات الأوروبية مسؤولية قراءة الأحداث من وجهة نظر صهيونية، ضمن مفهوم قدسية كل ما يتعلق بدولة إسرائيل وسياساتها ووسائل دفاعها، ووجوب تبرير عنفها وتعسفها على حقوق الفلسطينيين.

فبينما أدخلت صدمة عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس ضد مواقع إسرائيلية (في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023) معظم دول الغرب في ثنائية أخلاقية متناقضة، بين أحقية المقاومة في ممارسة مناهضتها للحصار الذي تفرضه عليها إسرائيل، وبين أحقية الأخيرة في الرد على الهجوم، بما يحفظ أمنها، ويمنع تكراره، ويحرّر رهائنها، حسب تبريرات ساسة اسرائيل، إلا أن هذه الثنائية أيضًا دخلت في متاهات متعددة بعد أن تحوّل الرد إلى حرب إسرائيلية شاملة، هدفها إبادة الشعب الفلسطيني، ومعاودة احتلال ما تبقى من أرضه في قطاع غزة، الذي كان ولا يزال في حصار ظالم ومشدد طيلة 17 عامًا، وإعادة رسم خارطة جديدة لمفهوم اتفاقية أوسلو التي لا تزال معظم بنودها مجهولة المصير إسرائيليًا، وعلى قيد الانتظار فلسطينيًا.

فمنذ ما يزيد عن سبعة أشهر، وعبر مراحل تصاعدية، أسهمت الحرب في سماع أصوات بعض النخب الفكرية ضد الحرب الإسرائيلية، بعد أن بدأت تتلمس تحول الرد الإسرائيلي إلى حرب إبادة جماعية، لم تتوقف مع دخولها الشهر الثامن على التوالي، وبعضهم من اليهود، الذين لم ينكروا حقيقة ما يجري في فلسطين من مجازر جماعية على أيدي القوات الإسرائيلية، ومنهم الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر التي قالت بعد نحو شهر واحد فقط من الهجوم الإسرائيلي على غزة، حسب مقال في “بي بي سي نيوز” (5/11/2023): “إنه يجب أن نأخذ تعبير (إبادة جماعية) على محمل الجد لأنه يصف ما يحدث بالفعل، فالهجمات لا تستهدف المقاتلين فقط، وإنما تستهدف أيضا السكان والمدنيين في غزة، وهم يتعرضون للقصف والتهجير”.

أي نحن بإزاء حرب بالقدر الذي أضرت فيه بالشعب الفلسطيني، بالقدر الذي أزاحت فيه الغطاء عن حقيقة فلسفة سياسة هذه الدولة الصهيونية الاستعمارية، وممارساتها العنفية ضد أصحاب الأرض، بهدف إبادتهم وانهاء قضيتهم، كما أنها بدّدت ادعاءات الصهاينة بالتفاف يهود العالم حولهم، وهو ما ظهر في الحراك الغربي الشعبي، والآخر النخبوي، الذي يقوده طلبة من الجامعات وأساتذتها، في حراك نوعي، ومبني على حقائق تاريخية، وهو مؤثر بين الشعوب ويتنامى ضد دعم حكوماتهم لإسرائيل، التي وصفتها المظاهرات بأنها دولة عدوانية وعنصرية، مطالبة حكوماتها بالعمل على وقف الحرب الظالمة على الفلسطينيين.

ما يعني أن الصورة التي حرصت إسرائيل عليها في إعلام الغرب عن هذه الحرب وحيثياتها ومجرياتها، قد كسرت، وتم تبديد مصداقيتها، على ذات الصفحات الإعلامية التي نقلت أخبار الاحتجاجات، وصورت “بروشوراتها” المحمولة بأيدي طلبة جامعيين ومدرسين، وجميعها مناهضة للحرب والسياسة الإسرائيلية، في معقل الدول الداعمة لها، من الولايات المتحدة الأميركية إلى ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول التي تساند إسرائيل ماليًا وعسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا.

نعم يمكن القول إن تلك الحرب أفرزت تعريفات جديدة للقضية الفلسطينية، وللصراع مع إسرائيل، سواء في مفهوم المواطن الغربي العادي أو المثقف، فلم تعد القضية هي نزاع الوجود اليهودي الخائف دائما في مواجهة أعدائه، بل هي نزاع بين محتل إسرائيلي وأصحاب أرض، ولم تعد هذه المقولة سرًا يخشى قائله من إذاعته علنًا، فقد دعت الصحافية الكندية نعومي كلاين، وهي يهودية أيضًا، في تجمّع في بروكلين نيويورك في نهاية شهر نيسان/ أبريل الماضي إلى “التحرّر من صنم الصهيونية الزائف الذي يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا”، وقالت: “إن فكرة الصهيونية عن التحرّر هي دنسة بحدّ ذاتها، واقتضت منذ البداية تهجير الفلسطينيين من بيوتهم وأرض أجدادهم”.

هكذا صار الغرب يعرف القضية الفلسطينية بقضية حقوق مواطنية، لا تختلف عن حقوقه، بل هي اليوم في مساراتها صارت المرآة التي عكست عيوب ما اعترى ديمقراطية الغرب في بعض الدول، وعرت سياسات الأحزاب الحاكمة فيها باسم الديمقراطية، وهو ما أوجد نخبة جديدة من الناشطين الحقوقيين، المطالبين بعودة الحراك الشعبي من أجل صيانة الحريات الغربية، التي هي مرتكز نهضتها، من حرية الرأي، والتظاهر، إلى حرية التعبير والإعلام، التي تراجعت تقييمات دول كبرى في تصنيف حرية الصحافة وحماية الصحافيين فيها، منها على سبيل المثال الولايات المتحدة الأميركية التي تراجعت عشر درجات حسب نسخة 2024 من التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي أعدته منظمة “مراسلون بلا حدود”.

ولعل من نتائج الحرب أيضًا أنها فتحت المجال أمام تعمق أكبر في حقيقة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ببعده القانوني والإنساني والحقوقي، بعيدًا عن “التابوهات الدينية”، والأساطير التي استخدمتها إسرائيل خلال العقود السبعة الماضية، لإعاقة أي تحرك شعبي ضد سياسات الموالاة العمياء لدولتها الموعودة من الله، وهو ما نفهمه من مقولة المؤرخ إيلان بابيه الساخرة “معظم الصهاينة لا يؤمنون بوجود الله، لكنهم يؤمنون أنه وعدهم بفلسطين”.

ضمن هذا التحرّر الفكري من إسرائيل ورواياتها، تكمن أهمية مطالبة المتظاهرين بوقف مدّ إسرائيل بالسلاح، أي من فكرة الإيمان بسقوط حق استخدام العنف ضد الشعب الفلسطيني، تحت ذرائع متخيلة ومنها ما يدّعيه ساستها “الدفاع الاستباقي عن يهود العالم”.

*كاتبة سورية.  

ضفة ثالثة

———————–

عن الاحتجاجات الطلابيّة في الغرب وعن حدودها…/ حازم صاغية

15 مايو ,2024

ينتظر كثيرون من خصوم الاحتجاجات الطلاّبيّة في الولايات المتّحدة (وأوروبا الغربيّة) عطلة الصيف بوصفها ما يُنهي تلك الاحتجاجات. ويقول بعض المعوّلين على العطلة إنّ تراجع العمليّات العسكريّة في غزّة، وانحسار صُور الموت والدمار على وسائل التواصل الاجتماعيّ، يتكفّلان بالباقي.

لكنّ أصحاب هذا الرأي، حتّى لو أسعفتْهم العطلة وضمور الصور، يَنمّون عن قصر نظر يحرّكه الإنكار. فليس من السهل، بعد اليوم، التغافل عن الانحياز الأميركيّ والغربيّ الأعمى لإسرائيل، أو عن الأفعال الإسرائيليّة المتوحّشة نفسها. وإلى هذا، نجحت مسألة فلسطين في التحوّل بؤرةً تصبّ فيها اعتراضات كثيرة ومتفرّقة، وإن غير متجانسة بالضرورة، على سياسات غربيّة داخليّة وخارجيّة شتّى، وهذا فيما غدا أصعبَ من أيّ وقت سابق تقبّلُ تمثيل إسرائيل الإسبارطيّة للمحرقة اليهوديّة بوصفها أرفع أشكال الضعف والضحويّة في مواجهة جبروت القوّة والتوحّش. وفي وسع العوامل تلك مجتمعةً، إذا ما أُحسنت إدارتها ضمن استراتيجيّة ذات نَفَس طويل، إحداث تعديلات تدريجيّة وتراكميّة في أوساط مؤثّرة من الرأي العامّ الغربيّ.

مع هذا فإنّ خطأ مقابلاً يرتكبه المراهنون على التحرّكات الطلابيّة بوصفها مدخلاً إلى تغيير نوعيّ في السياسات وفي توازنات القوى في الغرب. وتبدو المفارقة على أشدّها حين يجتمع في عبارة واحدة تقدير متفائل كهذا وتقدير آخر متشائم بأنّ الغرب يعيش اليوم انبعاث اليمين المتطرّف. وكم يدعو إلى التنبّه والحذر أنّ الولايات المتّحدة ستجد نفسها بعد أشهر مُخيّرةً بين جو بايدن المتَّهَم بـ»الإباديّة» ودونالد ترمب الذي يعلن نيّته ترحيلَ مَن يتظاهرون دعماً للفلسطينيّين! وهكذا لا يبقى للأمل السياسيّ سوى المرشّح كورنيل ويست ورفيقته لنيابة الرئيس ميلينا عبد الله.

أمّا في بريطانيا فهناك ما يشبه الإجماع على أنّ حزب العمّال، الذي لفظ جيريمي كوربن، وتُتَّهم قيادته الحاليّة بمحاباة إسرائيل، هو الذي سيحلّ محلّ المحافظين في 10 داوننغ ستريت. وأمّا في فرنسا فالمؤكّد أنّ العنصريّة مارين لوبين ستكون، بلا قياس، أقدر على منافسة يمين الوسط من الشعبويّ اليساريّ جان لوك ميلونشون.

ولم يعد سرّاً أنّ مسألة الهجرة واللجوء تلعب دوراً كبيراً في هذه الوجهة التي تتغذّى، أوروبيّاً على الأقلّ، على عناصر أخرى كالوضع الاقتصاديّ وحرب أوكرانيا وتراجع الموقع الأوروبيّ في العالم.

وفي وضع كهذا يُستحسن بالمراهنين على «الصوت الإسلاميّ» أن يحسبوا الأمور بطريقة أفضل. ذاك أنّ الصوت المذكور سيكون، في زمن احتدام الهويّات، سيفاً بحدّين، بحيث يترافق تأثيره الانتخابيّ مع تظهير اختلافه وبرّانيّته. وهذا قبل أن نضيف التأثيرات التي يخلّفها شعار لـ»حماس» قد يخترق تظاهرة هنا، أو علم لـ»حزب الله» قد يرافق تظاهرة هناك.

والحال أنّنا شهدنا، في السنوات القليلة الماضية، تطوّراً خطيراً في أوروبا مفاده تراجع التحريم الذي نشأ بعد الحرب العالميّة الثانية وطال الائتلافَ مع أحزاب اليمين المتطرّف. فقد عقد المحافظون في النمسا ائتلافاً مع «حزب الحرّيّة» غير عابئين بفرض الاتّحاد الأوروبيّ عقوبات عليهم. كذلك بات يحكم إيطاليا، صاحبة الاقتصاد الثالث في الاتّحاد المذكور، حزب تعود جذوره إلى «الفاشيّة الجديدة». أمّا فنلندا، وبعد سجالات حادّة وحارّة، فضُمّ فيها حزب «الفنلنديّين» المتطرّف إلى الائتلاف الحاكم، وبات «ديمقراطيّو السويد»، المعارضون للهجرة وللتعدّديّة الثقافيّة، الحزب الثاني في البرلمان، بينما حقّق حزب «الصوت» في أسبانيا نتائج لافتة في آخر انتخابات مناطقيّة، وغدا حزب «البديل» في ألمانيا أحد الأحزاب الأساسيّة في البرلمان. وإذ تحوّل الموقف السلبيّ من الهجرة محطّ إجماع في الدانمرك، حصل حزب «الحرّيّة» الهولنديّ على عدد المقاعد الأكبر في الانتخابات العامّة الأخيرة… وهذا ناهيك عن أوروبا الوسطى والشرقيّة التي تستحوذ عليها أحزاب وخيارات أسوأ.

وهكذا سيكون من الصعب، أكان في الولايات المتّحدة أم في أوروبا، أن ينتقل ما يعيشه الحيّز الأكاديميّ إلى خارجه، أو أن يكون انتقال كهذا نوعيّاً في حجمه ودلالاته. فكيف وأنّ عالم الجامعة لا يختصر المدن بأكملها، ناهيك عن المدن الأصغر والبلدات والمناطق الريفيّة؟

والتجربة، بغضّ النظر عن مدى دقّة المقارنة مع الستينات الأميركيّة والأوروبيّة، لا تشجّع على توقّع انتقالات من هذا اللون. ففي 1972 خاض جورج ماكغفرن معركة الحزب الديمقراطيّ الرئاسيّة في مواجهة «الصقر» الجمهوريّ ريتشارد نيكسون. وكانت فيتنام العنوان الأبرز لحملة ماكغفرن، المدعوم من يساريّي حزبه ومن أقصى ليبراليّيه، فضلاً عن البيئة الثقافيّة في الولايات المتّحدة. فهو تعهّدَ بسحب كلّ الجنود الأميركيّين من الهند الصينيّة وبخفض الإنفاق العسكريّ بنسبة تتجاوز الثلث وبالعفو عن الشبّان الذين امتنعوا عن أداء الخدمة العسكريّة، ولم يطالب الفيتناميّين، في المقابل، إلاّ بتحرير الرهائن الأميركيّين لديهم. لكنّ نسبة التصويت كانت الأدنى منذ 1948 فلم تتجاوز الـ55 بالمئة، وإذ نال ماكغفرن 37 بالمئة ممّن اقترعوا و17 كلّيّة اقتراعيّة، نال نيكسون 61 بالمئة و520 كلّيّة اقتراعيّة.

وفي فرنسا، وبعد استقالة شارل ديغول عام 1969، تولّى الرئاسة الديغوليّ جورج بومبيدو، كما احتلّ المسيحيّ الديمقراطيّ جيوفاني ليوني رئاسة الحكومة الإيطاليّة الديغولي، وبقي الحكم في عهدة حزبه عشرين سنة أخرى.

وهكذا يُستحسن إرفاق التوقّع بالحذر، وفي حالتنا الرغبويّة، جعل الحذر رقيباً صارماً على التوقّعات، لأنّ من يقفون وراء الباب، ومَن قد يستفيدون من حماسة المتحمّسين واستعجال المستعجلين، كثيرون وخَطِرون.

* نقلا عن “الشرق الأوسط

—————————

علم فلسطين شهادة تخرّج في جامعات أمريكا

14 – مايو – 2024

رأي القدس

حرصت مجلة «نيويوركر» الأمريكية على استباق واحد من المشاهد الاستثنائية وغير المألوفة في الحياة الجامعية عموماً، وفي شهر أيار/ مايو خصوصاً حيث تجري غالبية حفلات تخريج الطلاب، فأعلنت عن الغلاف الذي سيتصدر العدد الجديد، بريشة باري بليت أحد كبار رسامي المجلة. والرسم، الذي اشتهر سريعاً وانتشر على نطاق واسع تجاوز الولايات المتحدة إلى العالم بأسره، يصوّر طالبات وطلاباً يتسلمون شهادات تخرجهم من إدارة الجامعة، ولكن أيديهم مكبلة إلى الخلف ويخفرهم رجال الشرطة.

مناخات غير بعيدة عن روحية هذا المشهد تكررت بالأمس خلال مراسم التخرج في كلية الحقوق، جامعة كولومبيا الامريكية، حين أصرّ عدد غير قليل من الخريجات والخريجين على ارتداء الكوفية الفلسطينية، أو ضمّ العلم الفلسطيني إلى ثيابهم، كما امتنع بعضهم عن مصافحة نفر من الأساتذة الذين أحجموا عن تأييد الحراك الطلابي أو سكتوا عن إدخال الشرطة إلى الحرم الجامعي. وكل هذا تحت سمع وبصر زملائهم وذويهم والجهاز الأكاديمي والإداري، ولكن أيضاً أمام عدسات العديد من وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى.

وهذا خيار طلابي وشبابي يتجاوز فعل احتجاج عادي رمزي أو ملموس، لأنه يذهب أبعد في نقل حقوق التعبير وحريات الرأي إلى مستوى صميمي يتحدى ما تتعرض له الجامعات الأمريكية من تضييق وقمع وانتهاك على أيدي الشرطة، بقرارات عليا من ساسة يحتلون مناصب رفيعة في المدينة أو الولاية، ويحدث أن مساندتهم لحرب الإبادة الإسرائيلية ليست خافية ولا هم أصلاً يجدون حرجاً في إعلانها على الملأ.

وبات معروفاً أن مواقع الاحتجاج تتعدد من حيث الجغرافيا المترامية بين الولايات المتحدة وكندا وأوروبا وأستراليا ونيوزيلندا، وتحديداً داخل البلدان التي تعتمد حكوماتها سياسات مساندة لحرب الإبادة الإسرائيلية أو متواطئة معها عن طريق تزويد آلة الحرب الإسرائيلية بالسلاح والعتاد والمال. لكنها تكاد تجمع على هدف أول هو التضامن مع أهل قطاع غزة، من الأطفال والنساء والشيوخ خاصة، كما أخذت شعاراتها تتجذر من حيث تعرية الأساليب الديماغوجية للحكومات ومجموعات الضغط الإسرائيلية، لجهة أكاذيب وصم الحراك الطلابي الجامعي باتهامات مستهلكة من نوع العداء للسامية أو مناهضة الصهيونية.

وليس أقل جذرية ما أخذت مخيمات الاعتصام تجمع عليه بخصوص مطالب مقاطعة دولة الاحتلال على أصعدة حساسة، مثل التعاون الأكاديمي والاستثمار المالي بين الجامعات الغربية ومؤسسات إسرائيلية متورطة في حرب الإبادة، خاصة في ميادين أبحاث الأسلحة الفتاكة أو تكنولوجيا المراقبة والتجسس، أو طرائق الاعتقال والتوقيف والتحقيق والتعذيب.

وأن يُطرّز علم فلسطين على ثوب جامعية شابة في حفل تخرّج واحدة من أعرق جامعات أمريكا، أو أن تتجاور الكوفية الفلسطينية مع شهادة عالية في الحقوق، أو كما فعل غلاف «نيويوركر» حين جمع بين تكبيل الأيدي وانعتاق العقول وتحررها من الأكاذيب والأضاليل، كلّ هذه الوقائع وسواها ليست سوى شهادات الحدّ الأدنى على توحش إسرائيلي انفلت من كل عقال، وبلغ أقصى الهمجية في ارتكاب جرائم الحرب بعيداً عن المساءلة والردع.

——————————

الاحتجاجات الطلابية الجامعية الأميركية… خلفياتها وتداعياتها وآفاقها

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

12 مايو 2024

تشهد جامعات أميركية عديدة، بما فيها هارفارد وييل وكولومبيا وكاليفورنيا في بيركلي، منذ أسابيع، موجة احتجاجات ضد العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يطالب فيها المحتجّون جامعاتهم بقطع أيّ علاقات استثمارية وأكاديمية مع إسرائيل. وفي حين أن غالبية إدارات الجامعات انحازت، تحت ضغوط سياسية ومن متبرعين كبار، فضلًا عن اللوبي الاسرائيلي، إلى الحلول القمعية والعقابية لفضّ الاعتصامات الطلابية السلمية بذريعة أنها “معادية للسامية”، فإن عددًا قليلًا منها اختار طريق التفاوض مع الطلاب المعتصمين. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الطلابية الحالية لم تصل بعد إلى مستوى الاحتجاجات الطلابية الكبرى في أواخر ستينيات القرن الماضي ضد حرب فيتنام أو في الثمانينيات ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فإنها تمثّل “أكبر حركة احتجاج طلابية” في العقود الأخيرة. ولا تقتصر تداعياتها على الجامعات الأميركية وسمعتها ومكانتها عالميًا فحسب، بل إنها قد تؤثّر في المشهد الانتخابي الأميركي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024.

خلفية الاحتجاجات

أصبحت الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين والمنددة بإسرائيل سمة بارزة في حرم الجامعات الأميركية منذ انطلاق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة. وتتركز مطالب الطلاب في دعوة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إنهاء انحيازها الكامل إلى إسرائيل ووقف المساعدات العسكرية لها، والضغط من أجل فرض وقف إطلاق نار فوري ودائم في القطاع، فضلًا عن مطالبة جامعاتهم بوقف تعاونها مع الصناعات العسكرية الإسرائيلية، وسحب استثماراتها، التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، من شركات الأسلحة والتكنولوجيا التي تتعاون مع إسرائيل، وإنهاء أيّ علاقات أكاديمية مع جامعات إسرائيلية. وإضافة إلى ذلك، يطالب المحتجّون بالعفو عن زملائهم من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين تعرّضوا لعقوبات بسبب مشاركتهم في الحركة الاحتجاجية ودعمهم لها.

وأجّج دخول مجلس النواب الأميركي، في كانون الأول/ ديسمبر 2023، بأغلبيته الجمهورية وتواطؤ ديمقراطيين عديدين، على خط الحركة الطلابية، الأوضاعَ في الجامعات، حيث مارسوا نوعاً من الترهيب ضد الإدارات الجامعية وحرّضوا على الطلاب المحتجين. وبعد جلسة استماع لثلاثة رؤساء جامعات مرموقة (هارفارد، وبنسلفانيا، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) أمام لجنة التعليم والقوى العاملة النيابية، كانت أشبه بجلسة تحقيق من الحقبة المكارثية، حول مزاعم عن تغاضيهم عن “معاداة السامية” وتهديد سلامة الطلاب والعاملين اليهود في جامعاتهم، على الرغم من أن كثيرًا من الطلاب اليهود شاركوا في الاحتجاجات، اضطرت رئيستا جامعتي بنسلفانيا وهارفارد إلى الاستقالة تحت وطأة الضغوط والاتهامات الموجّهة إليهما بعد أن حاولتا الموازنة بين “حرية التعبير” المصونة دستوريًا، والخطاب المحرّض على العنف أو العنف ذاته وضمان سلامة الحرم الجامعي. في حين ما زالت رئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تتعرض لانتقادات وضغوط بهدف دفعها إلى التنحي.

وفي 17 نيسان/ أبريل 2024، عقدت اللجنة النيابية جلسة استماع أخرى لرئيسة جامعة كولومبيا في نيويورك، نعمت (مينوش) شفيق. وعلى عكس سابقاتها، حاولت شفيق التركيز على جهود إدارتها في “محاربة معاداة السامية بدلًا من حماية حرية التعبير”، وهاجمت عددًا من أعضاء الهيئة التدريسية في جامعتها والطلاب المحتجّين، إلا أن ذلك لم يشفع لها، إذ اتهمها مشرّعون بالضعف في مواجهة الاحتجاجات الطلابية وطالبوها بالاستقالة. وفي تعبير عن استيائهم مما جاء في شهادة شفيق، بدأ عدد من طلاب جامعة كولومبيا، في مساء اليوم نفسه، اعتصامًا في حرم الجامعة تضامنًا مع غزّة، وتأكيدًا على مطالبهم بضرورة أن تُوقف الجامعة استثماراتها في الشركات التي لها علاقة بإسرائيل وقطع أيّ صلات أكاديمية بها. وتمثَّل رد شفيق باستدعاء شرطة نيويورك في محاولة لفض الاعتصام. ومع هذا، وخلال أيام قليلة، انتشرت اعتصامات الجامعات في طول البلاد وعرضها، وألهمت طلاب جامعات أخرى خارج الولايات المتحدة الأميركية، كما في كندا وبريطانيا وفرنسا وأستراليا وإسبانيا وبلجيكا وسويسرا والمكسيك. وفي 30 نيسان/ أبريل، اقتحمت شرطة نيويورك حرم جامعة كولومبيا بعد أن سيطر طلاب على مبنى “هاملتون هول” فيها، وفضّت الاعتصام واعتقلت العشرات منهم، وهو ما حصل أيضًا في جامعات أميركية أخرى، حيث جرى اعتقال ما لا يقل عن 2400 طالبًا في 46 حرمًا جامعيًا أميركيًا منذ 17 نيسان/ أبريل.

يعمل الجمهوريون في الكونغرس على وضع تشريعات تستهدف تمويل الجامعات، بما في ذلك الإعفاءات الضريبية التي تحصل عليها، والمنح البحثية الفدرالية، وكذلك المساعدات المالية للطلاب. وكان مجلس النواب قد أقر، بأغلبية كبيرة من الجمهوريين والديمقراطيين، مطلع أيار/ مايو الجاري، مشروع “قانون التوعية بمعاداة السامية”، الذي يتبنّى تعريف “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست” لـ “معاداة السامية”. ويخلط هذا التعريف بين خطاب التنميط ضد اليهود والتحريض على كراهيتهم، وانتقاد إسرائيل. وتنص الأمثلة الملحقة بالتعريف، والتي يجعلها الكونغرس جزءًا من التعريف، على أن “استهداف دولة إسرائيل باعتبارها مجموعة يهودية […] (و)إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير المصير عبر الادعاء أن وجود دولة إسرائيل مجرد اجتهاد عنصري، وما شابه […] (و)تطبيق معايير مزدوجة من خلال مطالبة إسرائيل بتصرفات غير متوقعة من أي دولة ديمقراطية أخرى” كلها صور من صور “معاداة السامية”.

معضلة بايدن والديمقراطيين

يواجه الرئيس بايدن وحزبه الديمقراطي معضلة حقيقية نتيجة الاحتجاجات الطلابية؛ فالفئات الشبابية المتعلمة تقع ضمن تحالف بايدن الانتخابي، وهو ما ينعكس في محاولة إدارته الموازنة بين التأكيد على حرية التعبير والحق السلمي في التظاهر من جهة، ورفض ما يزعمونه من “فوضى” و”عنف” و”معاداة للسامية” تحفل بها تلك الاحتجاجات، من جهة أخرى. وهذا ما يفسّر أيضًا انقسام أعضاء الكونغرس من الديمقراطيين على خلفية الموقف من الاحتجاجات الطلابية، كما أن ثمَّة انقسامًا جيليًا واضحًا داخل المعسكر الديمقراطي في الموقف من إسرائيل وعدوانها على قطاع غزّة.

وقد تجلت محاولات البحث عن توازن صعب بعد بدء الطلاب احتجاجاتهم واعتصاماتهم انطلاقًا من جامعة كولومبيا، في تصريح بايدن الذي قال فيه “أدين المظاهرات المعادية للسامية […] كما دين هؤلاء الذين لا يفهمون ما يعانيه الفلسطينيون”. بدا بايدن في هذا التصريح كأنه يحاول اتخاذ موقف يعبّر عن التعاطف مع أهداف المتظاهرين من دون أن يؤيد احتجاجاتهم. وبعد يومين من فضّ شرطة نيويورك اعتصام الطلاب في جامعة كولومبيا، قال بايدن إن الاحتجاجات المستمرّة تضع الولايات المتحدة أمام مبدأين أميركيين أساسيين، “الأول هو الحقّ في حرية التعبير وحق الناس في التجمع السلمي وإسماع أصواتهم. والثاني هو سيادة القانون. ويجب الحفاظ على كليهما”. وأضاف، “لا ينبغي أن يكون هناك مكان في أيّ حرم جامعي، ولا مكان في الولايات المتحدة لمعاداة السامية أو التهديد بالعنف ضد الطلاب اليهود. لا يوجد مكان لخطاب الكراهية أو العنف من أيّ نوع، سواء أكان معاداة السامية أم الإسلاموفوبيا أم التمييز ضد الأميركيين العرب أو الأميركيين الفلسطينيين”. وعلى الرغم من محاولاته تحقيق توازن، فإن روايته ظلت تميل إلى صالح الرواية الإسرائيلية، عبر محاولة تصوير الاحتجاجات على أنها تخريبية وفوضوية و”معادية للسامية”، وهي الصورة التي ينفيها الواقع؛ إذ إن أغلب العنف يأتى من قوات الأمن، ومن المتظاهرين المؤيدين لإسرائيل.

وعلى صعيد الحزب الديمقراطي، فالتجاذبات فيه أشد وضوحًا. فمن ناحية، تتبنّى قياداته في الكونغرس، كزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، وزعيم الأقلية في مجلس النواب، حكيم جيفريز، خطابًا تشويهيًا واتهاميًا وتحريضيًا ضد الاحتجاجات الطلابية. بل إن الأخير حضَّ رئيس مجلس النواب، الجمهوري مايك جونسون، على الإسراع في طرح مشروع “قانون التوعية بمعاداة السامية”، على أساس “أن الجهود المبذولة لسحق معاداة السامية والكراهية بأيّ شكل ليست قضية ديمقراطية أو جمهورية، بل إنها قضية أميركية يجب معالجتها بمشاركة الحزبين على نحو عاجل”. أما النواب التقدّميون في الحزب، كرشيدة طليب وجمال بومان وكوري بوش وإلهان عمر، فيقفون بقوة مع الاحتجاجات الطلابية على أساس أن “المعارضة قيمة أميركية أساسية”.

تتمثل معضلة بايدن والقيادات الديمقراطية، عمومًا، في كيفية التعامل مع الفئات الشبابية في المجتمع الأميركي. فقد أظهر استطلاع رأي أجرته “رويترز/ إبسوس” Reuters/ Ipsos في آذار/ مارس 2024، مثلًا، أن الأميركيين الذين تُراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا يفضّلون بايدن على دونالد ترامب بفارق 3 نقاط مئوية فقط (29 في المئة لبايدن مقابل 26 في المئة لترامب)، علما أن بايدن كان قد فاز بأصوات الشباب بفارق 24 نقطة في عام 2020. ووفقًا لاستطلاع رأي ثانٍ أجراه مركز بيو للأبحاث في نيسان/ أبريل، فإنّ نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين ضمن الشريحة العمرية 18-29 عامًا تبلغ 33%، مقارنة بــ 14% يتعاطفون مع إسرائيل، و21% مع كلا الطرفين. أما نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين ضمن الشريحة العمرية نفسها من الديمقراطيين أو من يميلون إليهم فتبلغ 47%، مقابل 7% فقط مع إسرائيل، و23% مع كلا الطرفين. في حين أظهر استطلاع رأي ثالث أجرته جامعة كوينيبياك في نيسان/ أبريل أنه من بين الناخبين الأميركيين المسجلين الذين تُراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً، أيد 25% فقط منهم المساعدات العسكرية التي تقدّمها إدارة بايدن لإسرائيل، مقابل 66% يعارضونها.

وقد انعكس ذلك في سلوك منظمة “ديمقراطيو الكليات الأميركية”، وهي الجناح الطلابي للحزب الديمقراطي، التي تحاول كسب ناخبي جيل الشباب (الجيل Z) لصالح الحزب، حيث إنها أيدت الاحتجاجات الطلابية لأنها تملك، بحسب المنظمة، “الوضوح الأخلاقي لرؤية هذه الحرب على حقيقتها: مدمرة وإبادة جماعية وغير عادلة”، ودانت رؤساء الجامعات لاستعانتهم بقوات الأمن لفضّها واعتقال الطلبة. كما دانت الرئيس بايدن وزعماء الحزب الديمقراطي في الكونغرس لعدم إلزامهم إسرائيل بوقف إطلاق النار على نحو فوري ودائم، وإنجاز صفقة تبادل أسرى، والدفع لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وقالت المنظمة في بيان لها “باعتبارنا ناخبين شبابًا، ندرك جيدًا أنه بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، ستحدد أصواتنا من سيفوز بالبيت الأبيض. لقد اتخذ البيت الأبيض المسار الخاطئ المتمثل في استراتيجية العناق لبنيامين نتنياهو، وتبنّى استراتيجية إدارة الظهر لقواعده الانتخابية، وجميع الأميركيين الذين يريدون رؤية نهاية لهذه الحرب”.

في المقابل، يرى معسكر بايدن أن ثمّة مبالغة في تصوير تداعيات الحرب في قطاع غزة على فرصته بالفوز فترةً رئاسية ثانية. ويشير هؤلاء إلى أن الأعداد القليلة للمتظاهرين لا تعبّر عن 41 مليون ناخب مؤهل من الجيل Z للتصويت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. في حين يجادل آخرون بينهم بأن الغضب بشأن حملات القمع في الجامعات الأميركية يتوجه نحو رؤساء الجامعات والمسؤولين المحليين أكثر من بايدن نفسه. ويعتقد فريق بايدن أن غالبية الشباب لن يصوّتوا على خلفية الموقف من حرب غزة، وإنما على أساس قضايا داخلية، مثل الاقتصاد والمناخ والإجهاض. ويحيل مؤيدو وجهة النظر هذه إلى عدد من استطلاعات الرأي التي يقولون إنها تؤيد تحليلاتهم، مثل الاستطلاع الذي أجراه معهد السياسة الدولية في كلية كينيدي في جامعة هارفارد، إذ وجد أن 51% من الشريحة العمرية 18-29 عاماً يؤيدون وقف إطلاق النار في قطاع غزة مقابل 10% يعارضونه، وأن 18% فقط يؤيدون طريقة تعامل بايدن مع الحرب، إلا أن الاستطلاع وجد أن تصويت تلك الشريحة لن يكون مرتبطًا بسياسة بايدن نحو قطاع غزة أو أيّ قضية خارجية أخرى، إذ تهمّهم القضايا الداخلية أكثر، كالتضخم والرعاية الصحية والسكن. وبحسب استطلاع آخر للرأي أجرته “الإيكونوميست/ يوغوف” The Economist/ YouGov Poll، قال 63% من الشباب إنهم لم يحضروا أيّ نوع من الاحتجاج السياسي أو التجمعات أو المظاهرات. وعلى هذا الأساس، أطلق البيت الأبيض في الأسابيع الأخيرة سلسلة من الإجراءات يحاول عبرها التودد للشباب، مثل إعلان إجراءات جديدة لتخفيض القروض الطلابية، والتوجه إلى تخفيف العقوبات الجنائية على اقتناء الماريغوانا.

ومع ذلك، يحذر بعضهم من خلل في حسابات حملة بايدن الرئاسية إذا ما قللت من تأثير سياسته المتواطئة مع إسرائيل في حربها في قطاع غزة. فمثلًا، يرى السيناتور بيرني ساندرز أن بايدن يخاطر برئاسته إذا استمر في نهجه الداعم لإسرائيل من دون حدود، وأن الحرب في قطاع غزة “قد تكون فيتنام بايدن”. ويخشى كثير من الديمقراطيين من أن استمرار الاضطرابات في الشارع الأميركي وحرم الجامعات قد يُلقي بظلاله على المؤتمر الوطني الديمقراطي الذي سيُعقد في مدينة شيكاغو في آب/ أغسطس 2024، حيث سيجري ترشيح بايدن رسميًا لمنصب الرئيس، وخاصة أن كثيرًا من الشباب التقدميين ينظرون إلى الاحتجاجات ضد إسرائيل باعتبارها جزءًا من النضال من أجل العدالة الاجتماعية؛ إذ إن القضية الفلسطينية باتت بالنسبة إليهم ترتبط بقضايا محلية مثل التمييز العنصري.

خاتمة

على الرغم من أنه من غير المتوقع أن تنجح احتجاجات الحركة الطلابية في تحقيق أهدافها الرئيسة المتمثلة في وقف التواطؤ الأميركي في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة وسحب الجامعات الأميركية لاستثماراتها مع إسرائيل، فإنها تمكّنت من جعل دعم الولايات المتحدة غير المحدود لإسرائيل وجرائمها محل نقاش وطني واسع. إضافة إلى أن التحوّلات داخل قواعد الحزب الديمقراطي تبدو عميقة، خصوصًا بين الشباب، وهذا أكثر ما يُقلق إسرائيل وأنصارها في الولايات المتحدة. من هنا، نفهم إدانة نتنياهو للاحتجاجات الطلابية وتحريضه عليها. ويبدو أنّ اللوبي الصهيوني وحلفاءه في الولايات المتحدة قد خسروا الجيل الأميركي الشاب، ولم تنجح محاولاتهم في تخويفه ودفعه إلى الاختيار بين مستقبله التعليمي والوظيفي، وقناعاته الأخلاقية وضميره الإنساني. وهو ما يعزّز الأمل حول إمكانية حدوث تغيير مستقبلًا في الانحياز الأميركي المطلق لصالح إسرائيل، إذا أُحسِن استثمار هذا الزخم وتنظيمه.

العربي الجديد

—————————

هيلاري كلنتون: حماقة أعيتْ مَنْ يداويها/ صبحي حديدي

12 – مايو – 2024

الحبل على الجرّار، كما يُقال في المثل الشعبي، ومثلها الدلاء الكثيرة على قارعة هذا الطريق أو ذاك، لكلّ وأيّ سياسي أمريكي يدلو بدلوه في سياق السعي إلى خطب ودّ دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ عن طريق انتقاد أنساق الحراك الطلابية التي تشهدها الجامعات الأمريكية ضدّ حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة في قطاع غزّة. وهيلاري كلنتون، السيدة الأولى الأسبق والمرشحة الرئاسية الفاشلة (وأستاذة العلاقات العامة في جامعة كولومبيا هذه الأيام!) هي بين الأحدث في رهط المتدافعين/ المتهافتين على الدخول إلى هذا النادي؛ حتى إذا اقتضى الانتساب المرور من بوابات الكذب والاختلاق والتزوير، واستغفال العقول.

ففي إطلالة عبر قناة الـ MSNBCالأمريكية، حكمت كلنتون على الطلاب المعتصمين بالجهل التام حول حقائق الصراع في الشرق الأوسط، وأنّ حواراتها مع «العديد من الشبان» أثبتت أنهم لا يعرفون الكثير، حتى عن «التاريخ في أماكن عديدة من العالم، بما في ذلك بلدنا». ويجب على أناس مثل البروفيسورة كلنتون أن يقوموا بـ»عمل أفضل» مع الشبان، لمساعدتهم على «استيعاب كيفية تصفية وتأويل ما يتلقونه من معلومات»؛ داخل قاعات التدريس الجامعية أيضاً، تحاشياً للسقوط في إسار «المطلقات السهلة ــ على شاكلة أن تكون إما مع أو ضدّ. ذلك لأنّ الحياة أكثر تعقيداً، وكذلك التاريخ».

وفي عداد دُرر المعلومات التاريخية التي اقترحتها على الطلاب «الجهلة»، قالت كلنتون إنّ مشروع السلام الذي اقترحه زوجها (الرئيس الأسبق) كان يعطي الفلسطينيين دولة على مساحة 96% من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأنّ الـ 4% الإضافية تبرعت بها دولة الاحتلال من أٍراضيها. حبل الكذب لا طول له، بالطبع، فما الذي جعل ياسر عرفات يرفض هذا العرض السخي الفريد الاستثنائي، إذن؟ هنا إجابة السيدة كلنتون: لأنه خشي أن يتعرض للاغتيال، على غرار «صنّاع سلام سابقين» مثل الرئيس المصري أنور السادات و»صديقنا العزيز العزيز» رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين!

ولولا قتامة المأساة الدامية المفتوحة التي يعيشها قطاع غزّة تحت وطأة جرائم الحرب المتواصلة منذ 8 أشهر، فقد كان يحقّ للمرء أن يضحك ملء شدقيه في الواقع، على هذا الاستغباء المعلَن للعقول، والفجاجة السقيمة في تزييف حقائق ثابتة مدوّنة بصدد مفاوضات كلنتون/ عرفات، والحماقة في اعتماد الطرائق الأكثر بلاهة لإدانة الحراك الطلابي الجامعي والزلفى إلى دولة الاحتلال ومجموعات الضغط الإسرائيلية في أمريكا. وكأنّ غليل كلنتون لم يشبع من تهمة الجهل التي ألصقتها بطلاب جامعيين، بعضهم يستكمل دراسات عليا تخصصية، وقسط غير قليل في صفوفهم من بنات وأبناء وأحفاد نكبة 1948 في فلسطين وبلدان العرب والعالم على النطاق الأوسع؛ فتوجب أن تكذب وتختلق وتلفق، أيضاً وأيضاً…

ولا غرو، فهذه هي كلنتون مؤلفة كتاب «التاريخ الحيّ»، 2004، وفيه تروي كيف مرّت على آل كلنتون حقبة كان فيها الكلب «بَدي» هو الوحيد المستعدّ لمعاشرة عميد الأسرة، الرئيس الأسبق بيل؛ على خلفية فضيحة الأخير مع المتدربة في البيت الأبيض، الشابة مونيكا لوينسكي. غير المصرّح به، في الكتاب كما في مجمل سلوكيات السيدة الأولى الأسبق خلال أشهر انكشاف التفاصيل الـ»غرافيك» للحكاية، أنّ السيدة كلنتون كانت خير مَنْ استفاد من الملفات الفاضحة، والأكثر انتهازية في توظيفها؛ لقد تصرّفت بذهنية وصولية مكشوفة، سياسية وسيكولوجية وإعلامية، فسحبت البساط من تحت قدمَي الزوج/الرئيس المستسلم أمام كلّ السكاكين؛ ثمّ استأثرت بصورة الزوجة/الضحية التي كبرت على جراحها، وتطلعت إلى أمام وإلى بعيد، أي إلى ما هو أسمى من الفضيحة ذاتها. وهكذا، حين كان بيل لا يعرف من أين تأتيه الطعنات، كان نجم هيلاري يصعد ويصعد، وباتت المحامية السابقة ترنو إلى سدّة أخرى: مبنى الكابيتول، ثمّ البيت الأبيض… رئيسةً هذه المرّة، لا سيّدة أولى فحسب.

وكلنتون مؤلفة كتاب آخر بعنوان «خيارات صعبة»، 2014؛ غطى 3 سنوات من ابتداء «الربيع العربي» حين كانت وزيرة الخارجية، وسرّب خفايا عن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الانتفاضات العربية. ولم يكن خافياً أنّ أولى أغراض الكتاب كان الهندسة المسبقة للحملات التي سوف تنغمس كلنتون فيها، ضمن سياق المعركة الانتخابية الرئاسية لسنة 2016. الشطر الثاني من التكتيك انطوى على إكثارها من اللقاءات والمقابلات والتصريحات، بذريعة الترويج للكتاب، بينما كان الهدف الأبعد هو النأي بالنفس عن السياسات الخارجية للرئيس الأسبق باراك أوباما، والغمز من خياراته في الملفّ السوري تحديداً. ذلك الانفكاك عن خطّ البيت الأبيض أكسب كلنتون جولة معنوية، وإعلامية بالطبع، حين تعاظمت قوّة «داعش» في العراق بعد سوريا؛ وصار لزاماً أن تقترب توجهات أوباما من أطروحات كلنتون، وتمنحها فضيلة الحكمة والتبصر. وللمرء أن يفترض، بذلك، أنّ المرشحة الرئاسية الديمقراطية في وجه دونالد ترامب خلّفت وراءها ذلك الفاصل العاطفي الحزين، سنة 2008، حين ترقرقت الدموع في مقلتيها بعد فشل سعيها إلى بطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي، ضدّ البلدوزر الكاسح يومذاك، أوباما.

حماقات بالجملة، أعيتْ مَن يداويها منفردة أم متسلسلة؛ وبالتالي فإنّ خزعبلات قناة الـ MSNBC لن تكون آخر الأحزان، أغلب الظنّ.

القدس العربي

—————————–

ثورة الطلاب بين فيتنام وغزّة/ بشير البكر

11 مايو 2024

الطلبة في العالم غاضبون من أجل غزّة. كرة من الثلج تكبر كلّ يوم. هذا أقرب توصيف للحراك الطلابي، وخاصّة في الولايات المتّحدة، التي تستخدم السلطة فيها أساليب شرسة لكسر الاحتجاجات، ولكنّها لم تنجح. ويكشف الموقف الرسمي عن أمرين. الأول، الخوف من النتائج السياسية. والثاني، أنّ الحراك بات محل رهان أطراف سياسية واجتماعية، من أجل تصحيح مسار السياسة الرسمية في أميركا وأوروبا. ومن دون مبالغة، تلعب غزّة اليوم الدور نفسه الذي نهضت به حرب فيتنام في النصف الثاني من الستينيات في القرن الماضي. وفي حينه، نجح الطلبة في إجبار السياسيين في الولايات المتّحدة على تغيير الاتجاه العام، ووقف الحرب، كما أنّهم أحدثوا نقلة نوعية سياسية واجتماعية وثقافية. ولم تكن ثورة الطلاب في فرنسا في مايو/ أيار 1968، منفصلة عن ذلك. وكان من أبرز نتائجها تغيير مجرى الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، وإحداث انقلاب نوعيّ تجاه تركة احتلال الجزائر، والتعاطي مع الإرث الثقيل لفرنسا في مستعمراتها السابقة، وهو ما انعكس في القوانين المدنية والحرّيات الحزبية والصحافية، ووصول اليسار إلى الحكم في مطلع الثمانينيات.

تراهن السلطات على خنق الحراك بالقوة، من خلال استخدام العنف لفضّ المظاهرات والاعتصامات، والتهديد بالطرد والترحيل، وسحب التأشيرات، لكنّ الأمر لن ينتهي عند هذا الحد، فما يحدُث ليس عاصفة عابرة، بل هو مجرى جديد يحفر بقوّة، ويشقّ طريقه وسط بيئات تمتلك فيها اللوبيات المُؤيّدة لإسرائيل حضوراً قوياً، والنتيجة الماثلة للعيان الآن أنّها تخسر جزءاً أساسياً من حضورها ونفوذها داخل أكثر المحافل الأكاديمية أهمّية في العالم، بعدما حاولت في الأعوام الأخيرة تطهيرها من حركة المقاطعة لإسرائيل. ومن هنا يُعدّ الرهان على الآثار اللاحقة ذا أهمية قصوى لجهة تغير زاوية النظر إلى إسرائيل. وقد أصبح واضحاً أنّه لم يعد من الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فقد سلّطت الحرب الضوء بقوة على الوجه الحقيقي لإسرائيل، وهي أنّها دولة تأسّست على نكبة الشعب الفلسطيني، وكي تستمرّ ليس لديها غير أدوات الإبادة والاستيطان والأبارتهايد. ومن المُؤكّد أنّ هذا الوجه ليس وليد هذه الحرب، فجذورُه تعود إلى عقود عدّة، ولكن لم يكن له أن يظهر، على هذا القدر من الوضوح، لولا التوحّش المُفرط الذي مارسته إسرائيل في غزّة، وما قامت به من تدمير وقتل وتجويع وتهجير للمدنيين، وهو نمط من السلوك يرتبط فقط بالاستعمار، وبالحكومات الخارجة على القانون. وما يهمّ فلسطين هنا، هو أنّ هناك حالةً من التضامن الدولي تشكّلت للوقوف مع الحقّ في الحرية والخلاص من الاحتلال. وهذا يعني أنّ معركة الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال باتت عالمية على مستوى الرأي العام، مثلما أصبح عليه نضال شعب جنوب أفريقيا في الأعوام الأخيرة التي سبقت تفكيك نظام التمييز العنصري.

وتكمن أهمية الحراك الطلابي، قبل كلّ شيء، في أنّه مستقلّ لم يحرّكه أحد، وكان دافعه الأساسي الإحساس بعدالة القضية الفلسطينية. ونظراً إلى أنّه غير مسبوق بهذا الزخم من أجل التضامن مع فلسطين، فإنّه يشكّل ظاهرة تمتلك مقومات الديمومة والاستمرارية، وتمد جسوراً قوية نحو المستقبل. والأمر الآخر الذي يشكل أحد أبرز مصادر قوّة الحراك الطلابي هو التنوع الكبير داخل مكوّناته، وعلى مستوى انتشاره الجغرافي، في أوروبا والولايات المتّحدة وكندا وأميركا اللاتينية واليابان وأستراليا. ولا تقتصر المظاهرات الطلابية على طلبة فلسطينيين وعرب، بل يحتلّ الأجانب الأغلبية فيها، من أبناء البلاد والأفارقة والآسيويين، واليهود الذين لعبوا دوراً بارزاً في فضح الحرب وتعرية تهمة “معاداة السامية” التي لجأت إليها أغلبية الحكومات سلاحاً للترهيب من أجل تغطية وتبرير انحيازها إلى جانب إسرائيل.

العربي الجديد

—————————-

الجامعات الأميركية والدبلوماسية “العارية”/ يقظان التقي

11 مايو 2024

تتواصل المظاهرات الطلابية في جامعات أميركية عديدة تشهد احتجاجات واسعة يطالب فيها الطلاب بمقاطعة الشركات والأفراد الذين لهم علاقات مع إسرائيل خلال الحرب على غزّة، والشرطة الأميركية تدهم المباني الجامعية، وتتدّخل بشكل وحشي لتفريقها، وتعتقل طلاباً كثيرين، وتهدّد آخرين بالمغادرة أو الطرد. والمتظاهرون في تحدّ، يواجهون أعمال الضرب والاعتقالات، ويواصلون مظاهراتهم المؤيّدة للفلسطينيين والوقوف في وجه القمع، ورفع شعارات تتعدّى “حلّ الدولتين” إلى استعادة الأرض كلّها. المفارقة، أنّ هذه المؤسّسات التعليمية قطعت علاقاتها مع الجامعات الروسية، عقب غزو روسيا لأوكرانيا، ولم تقطع وتعلّق شراكاتها علاقاتها مع الجامعات الإسرائيلية.

يمكن للاحتجاجات أن تسير بسرعة كبيرة، وتتناول قضايا محلّية أو عالمية في وقتٍ قصير، ويمكن أن يؤدّي ذلك إلى زيادة الوعي وتحفيز المشاركة الأوسع فيها، بفعل التنظيم والحراك السريع، والتواصل الفعّال والفوري. والقضية الفلسطينية تحظى بتغطية واسعة وتؤثّر في الرأي العام، وتدفع بالضغط على السلطات الجامعية للاستجابة بطرائق معيّنة لمطالب الشباب، الذين نجحوا في جذب الانتباه إلى الجرائم الدولية التي ترتكبها إسرائيل في غزّة وفي الضفّة الغربية. أهمّية الحراك الطلابي في مركزيته في كبرى المدن الأميركية، وفي مدينة مثل نيويورك، فيها ثاني أكبر تجمّع لليهود في العالم، كما أنّ نسبةً كبيرةً من الطلاب اليهود يشاركون في الاحتجاجات، سواء في جامعة كولومبيا أو في غيرها، وهي رسالة مفادُها بأنّ هذه الاحتجاجات لا يمكن أن تندرج في إطار”معاداة السامية”، وهو تصوّر معيّن لليهود، يمكن أن يتجلّى في كراهية تجاههم (من قال إنّ العرب والمسلمين ليسوا ساميين؟). في حين، يصوّر اليمين المُتطرّف، وجزءٌ من الطبقة السياسية، الجامعاتِ “بؤراً للمتعاطفين مع الإرهاب، وتهديداً للقيم الأميركية الأساسية، مثل حرّية التعبير، وترفع شعارات معادية لإسرائيل”. وبالفعل، صوّت مجلس النواب الأميركي على توسيع التعريف المُعتمد في وزارة التعليم لمصطلح “معاداة السامية” على أثر الاحتجاجات، ويتّهم معارضو النصّ أعضاء الكونغرس بالعمل على إقرار هذا التوسيع سريعاً، بغرض استخدامه للحدّ من حرّية التعبير في الجامعات، سيّما أنّ سياسة القمع تساهم في تحوّل المظاهرات الصغيرة إلى حركة احتجاجية في أنحاء البلاد كافّة، وعلى “أرض الحرّية”، وتهدّد بالتوسع داخل النُخب الحزبية الجمهورية والديمقراطية، وتعكس أزمة الثقة التي دفعت الشباب إلى الاعتراض بطريقتهم الممكنة، وهو أمر طبيعي في وجه مجازر إسرائيل المفتوحة.

يؤكّد انتقال الحراك إلى مستوى يطاول المجتمع الأميركي (له تأثير كبير في التجارب التاريخية السابقة) أنّ تغييراً كبيراً يطاول دور الشباب الأميركي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهم أكثر انخراطاً في العملية السياسية، وأفضل تعليماً من الأجيال السابقة، ومواطنون رقميون، وقد لا يعطون أصواتهم للرئيس جو بايدن. والمشهد ينسحب هذه المرّة على السياسة، كما على الاقتصاد، وعلى قضايا فاعلة ومؤثّرة. وهذا يشمل الدبلوماسية “العارية” في الدفاع عن نفسها أمام الطريقة التي يعبّر فيها الشباب وأساتذتهم عن حقوقهم وحرّيتهم في التعبير.

وتعاني الدبلوماسية في العالم من انتشار التقنيات والتواصلية الحديثة، فلم يعد هناك أسرار، تقريباً، في العالم، الأمر الذي يطرح التساؤل بشأن مسار يعود تاريخه إلى زمن ما قبل الميلاد. لقد قفزت حركة الدبلوماسية قفزة كبيرة منذ مائتي سنة، وعرفت أكثر في القرن العشرين مع دبلوماسية هنري كيسنجر (دبلوماسية الكونكورد). لكنّ التغيير الكبير حصل مع بروز وسائل التواصل والانتقال إلى التكنولوجيا. كان الدبلوماسي هو القادر على الإيحاء، التحدّث، والتعبير، ومن صفاته الهدوء والتواضع، وهو يملك القدرة على الاستماع معظم الوقت، وقادر على جمع المعلومات المفيدة لدولته. ومن الصفات الغريبة والمضحكة، التي يجب أن يتمتع بها الدبلوماسي، قدرته على تناول الطعام مع أيّ شخص، في أيّ مكان وزمان. الدبلوماسية الدولية اليوم “خارج الصحن اليومي”، على درجة عالية من الفشل أمام العالم المعلوماتي المفتوح؛ الأكثر تأثيراً في القرن الحادي والعشرين. حدثت تغييراتٌ مُهمّة في أداء عمل الدبلوماسية منذ ما قبل التاريخ، وحتى دخولها الحيّز الأوروبي (1389-1464)، وإلى مراحل اختراع الطباعة حتّى ظهور التقنيات الحديثة على المستوى الشعبي، امتداداً إلى فضائح و”يكيليكس”. أثبتت التغيرات، وآخرها في حرب غزّة، أنّه لم يعد هناك شيء يمكن إخفاؤه عن الأجيال الجديدة. صار التحدّي أكبر. سلطة الطلاب والجامعات في مواجهة سلطة الدولة والأمن، والمعلومات والحقائق في متناول الجميع، وليست موجودة في مكان واحد، وبينها القصص الخاصّة والقصص العامة. والسؤال يدور حول الحاجة إلى الدبلوماسية لمعرفة أسرار الدول الأخرى، وأنّ هناك اليوم مليارات من الأشخاص متصلين بالإنترنت والهواتف الذكية. التطورات التقنية نفسها هي التي عرفتها أوروبا، ومكّنتها في العام 1913، من السيطرة على 60% من العالم، وجني 80% من مقدراته.

ما يحدث في الشرق الأوسط من أوضاع مأساوية كشف ضعف السياسات في عرض القضايا، مثل الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار على المدنيين، وعلى المنكوبين واللاجئين في غزّة ورفح. ويجد الشباب الجامعي مناصرة حقيقية، وأصبحت مطالبهم علمية، وثقافية ومعلوماتية وعالمية. كان هناك من يرى أنّ الهيمنة الأميركية على شبكة الإنترنت ستحد من الديمقراطية في العالم، ومن المستوى الفكري للناس، مع ظهور إقطاعيين/ أباطرة القرن الرأسمالي الجدد، أمثال إيلون ماسك وآخرين. ما يجري في الجامعات، يستحق القراءة بتوازن وواقعية، ويعكس دلالاتٍ صحيّة على أنّ الناس أصبحت أكثر علماً وذكاءً، بينما بات عمدات مدن الدول الكبرى؛ باريس ولندن ونيويورك، يشبهون الدبلوماسية التقليدية.

تحوّلت قضية غزّة، والحرب على الفلسطينيين، قضية وقوف الطلاب والشعوب ضدّ الظلم، وتكشف ضعف الإدارة الأميركية، التي تعمل على مفهوم قديم من التوازنات، وسط تراجع مؤسّسات الدبلوماسية المعروفة منذ الحرب العالمية الثانية، ومساهماتها في الحفاظ على السلم والأمن، مثل الأمم المتّحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. ويكتشف العالم كلّ ما يعزّز وفرة حظّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحظ الرئيس السوري بشّار الأسد، في بقائهما، وبنيامين نتنياهو في ارتكاب مزيد من المجازر في حقّ الفلسطينيين. ينبغي أن تبقى مثل هذه الاحتجاجات سلمية. أمّا محاولات التصدّي لها بإشاعة فوضى وجرّ الشباب إلى العنف والتطرّف، وعدم إيجاد مسار آخر لوقف التصعيد، فستمثّل مشكلة عالمية، تخسر فيها الدبلوماسية الغربية السيطرة على الشارع وعلى الإعلام.

المعلومات تحرّرت، ومعها تحرّرت الحقيقة من كلّ أطر مرجعية مركزية. ثمّ ما عادت وسائل الإعلام الغربية هي التي تنظّم الإعلام العالمي. عناصر مهمة مقبلة ستحدّد شكل وتطوّر المجتمعات الديمقراطية. الجامعات يمكن أن تعكس وتعزّز القيم والمصالح السياسية والاقتصادية، والتأكّد من أنّ السلام الحقيقي لا يجلب العنصرية والاستغلال والاستعمار، بشكليه الجديد والقديم، في مناطق العالم والشرق الأوسط خاصّة.

العربي الجديد

———————–

شيطنة الطلاب/ سامر أبوهواش

11 مايو 2024

إحدى مفارقات الخطاب المناهض للتحركات الطلابية في الولايات المتحدة الأميركية والعالم، أنه ينتقل بسهولة من تقليل شأن هذه التحرّكات، التي لن توقف الحرب ولن تغيّر الموقف الإسرائيلي ولا الأوروبي ولا الأميركي، إلى فعل العكس تماما، أي تضخيمها إلى حدّ زعم أنها صمّمت لخطف الأضواء من حرب غزة.

بالطبع، منطلق ذلك، ومعظم المواقف المناهضة للتحركات الشعبية، بما فيها مقاطعة الشركات والمؤسسات الداعمة لإسرائيل والتظاهرات والإضرابات وغيرها، هو الخشية من أنها تصبّ في نهاية المطاف في خدمة “حماس”، فهي، وعلى غرار الخطاب اليميني الغربي الراسخ حول هذه الحرب برمتها، تكرّر خطاب “حماس” وتكرّسه، وهذا كما يعلم كلّ من هو على قرب منها ومتابع لمنطلقاتها وحججها، أبعد ما يكون عن الحقيقة. ولعلك تجد بعضهم يحتجّ بصورة رفعت هنا، أو شعار رفع هناك، لتعميم الحكم المعمّم سلفا على جميع المشاركين في تلك التحركات. وفي حين يمكن، على سبيل المثل، فهم أن تعتبر بعض الأصوات اليمينية كلمة “انتفاضة” معادية للسامية، وهذا أبعد من أن يكون مجرد سوء تفاهم لغوي/ ثقافي، فإن بعضا آخر لا يتوانى عن شجب تلك التحركات لمجرد صدحها بشعار “الحرية لفلسطين” أو “أوقفوا المذبحة” أو “قاطعوا إسرائيل” إلخ.

المطلوب، بالنسبة إلى هذه الأصوات، ووفق هذا المنطق، ألا يحرّك العالم ساكنا. فلا تظاهرات يجب أن تخرج إلى الشارع، ولا طلاب يجب ان يطالبوا بأن تقطع جامعاتهم علاقاتها مع المؤسسات الإسرائيلية، وفي نهاية المطاف فإن أصحاب هذا المنطق لا يرون بأسا في قمع هذه الأشكال الاحتجاجية، لأنها موضع ريبة، وكما تعاقب إسرائيل جماعيا جميع سكان غزة، بل جميع الفلسطينيين على السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فإنه تجب معاقبة كلّ صوت محتجّ على المذابح الإسرائيلية في غزة، وقد ذهب بعض المشرّعين والقضاة الأميركيين إلى إعلان هذه العقوبات التي من شأنها القضاء على مستقبل آلاف الطلبة، ناهيك عن التعامل الوحشي لأجهزة الشرطة في الولايات المتحدة وفي أكثر من بلد أوروبي.

على المستوى البسيط والمباشر، فإن الانزعاج من هذه التحركات يعكس شيئا من جرح الكبرياء لدى أصحابه. فهم في الغالب “النخب”، وبوصفها نخبا فإنها تضع نفسها في موقع الحكم الأخلاقي والسياسي الأول. وبالتالي، لا بدّ من أن ثمة مؤامرة ما، إيرانية أو إسلاموية، تقف وراء كلّ تلك التحركات، ولا بدّ من أنها تسيء إلى القضية الفلسطينية بدلا من أن تخدمها، ولا بدّ من أن أولئك الشباب هم مجرد جهلة غرّر بهم وخدعوا بالدعاية المضللة للوقوف في المعسكر الخاطئ.

لكنّ المسألة تتجاوز ذلك بالطبع. إنها مسألة عجز تلك النخب عن استيعاب أنها لم تعد نخبا في المقام الأول، وأنها لم تعد تمثّل خطابا أخلاقيا متفوقا أو متعاليا، تماما مثل الحكومات والمؤسسات السياسية الغربية، وأنها بعجزها عن رؤية الكارثة الإنسانية في غزة والاعتراف بها، وباحتكامها فقط إلى معايير المعادلات السياسية واشتراطات “الواقعية السياسية”، لم تعد قادرة على تقديم أيّ خطاب يتجاوز الشعاراتية والبلاغات الكلامية السهلة والسائغة و”المطلوبة”. هذه النخب عاجزة إلى درجة أنها باتت ترى أن إدانة إسرائيل قد تكون انتصارا لـ”حماس” ولجماعات ما يسمى بـ”الممانعة”، وبالتالي لإيران التي تقف خلفها، وهي بذلك تقف، من حيث تعرف أو لا تعرف، وتعترف أو لا تعترف، على أرضية أخلاقية واحدة مع تلك الحركات التي تتهمها بأنها لا تقيم وزنا لحياة البشر أمام المعادلات السياسية.

بالتأكيد، هذه التحرّكات لن تغيّر اتجاهات الحرب في غزة، ولن تثني نتنياهو وحكومته عن المضي قدما في جرائمهم ضدّ الفلسطينيين تحت ذريعة “القضاء على حماس” و”تحرير الرهائن” (هدفان أبعد ما يكونان عن الواقع بعد سبعة أشهر من الحرب)، وبالتالي ليس علينا سوى أن نتخيّل، وفق أصحاب الخطاب الآنف الذكر، سوى شوارع هادئة، ومنصات تواصل اجتماعي أليفة، وطلاب لا يتسببون بإزعاج أحد، حتى يكون كلّ شيء على ما يرام. سنكتفي بالقول إن إسرائيل بالغت في ردّ فعلها (حتى لا نقول إنها ترتكب جرائم حرب أو إبادة)، لكنّ من أطلق هذا الوحش من القمقم هي “حماس”، وبالتالي فالإدانة تقع عليها أولا وأخيرا.

سوف نرى بعض عتاة مناهضي حكم بشار الأسد في سوريا، يتبنّون بكل أريحية هذا الخطاب المريح، لأنهم ببساطة لا يريدون أن تقع أيّ كلمة قد يقولونها، أو أيّ موقف جاد قد يتخذونه من إسرائيل، في حضن إيران التي يكنّون لها العداء الأكبر. يجب القول إن هذا ليس إلا أحد النجاحات الكبرى التي حققها بشار الأسد (ومعه إيران، وربما روسيا) على مناهضيه. لقد حوّلهم إلى مجرّد آلات أيديولوجية، فاقدة للمعايير الأخلاقية التي يفترض أن ثورتهم ضدّه تأسست عليها.

لهذا السبب، يغضب هؤلاء من التظاهرات والاحتجاجات، وخصوصا الطالبية منها. إنهم لا ينظرون إلى العالم إلا من تلك الزاوية الضيقة للمعارك التي خسروها ولا يزالون يرفضون الاعتراف بأنهم خسروها. المتظاهرون والمحتجون، بحسب هؤلاء، هم “فلسطينيون” أو “عرب” أو “مهاجرون” أو “مسلمون” أو “متأسلمون” إلخ، إنهم كلّ شيء إلا ما هم عليه حقا، بغالبيتهم العظمى، مجرّد شباب يرون أن المؤسسات السياسية العالمية تمضي في الاتجاه الخطأ، وتقضي على المبادئ الديمقراطية، وتدمّر الكوكب، لصالح حفنة من الشركات ورجال الأعمال، وتهدّد مستقبلهم المهني والإنساني.

خطاب المنفعة والواقعية السياسية، لم يستطع حجب آلاف الصور ومقاطع الفيديو المتدفقة من غزة، ليس خلال هذه الحرب ولا قبلها، ولا استطاع حجب حقيقة أن هناك احتلالا جاثما على صدور الفلسطينيين منذ نحو ثمانية عقود، ولا حقيقة أن هناك 25 ألف طفل وامرأة على الأقل ذبحوا حتى اليوم (إذا استثنينا الرجال وكبار السن)، وآلافا غيرهم دمّر مستقبلهم وبترت أطرافهم ويتّموا، ومئات الآلاف فقدوا مساكنهم وجامعاتهم ومستشفياتهم. هؤلاء الشباب لا يرون، على سبيل المثل، في الشاعر والمربّي رفعت العرعير الذي قتله الإسرائيليون في غزة، رمزا إسلاميا، ولا “حمساويا” ولا إيرانيا، ويعرفون أن لا صلة له بذلك كله. هم يرون فيه شاعرا تجسّد في مقتله الظالم، اضطهاد بمستويات تاريخية لا يقيم وزنا لحياة الفلسطينيين، بل يعتبرهم أقلّ إنسانية من أن يقام لهم وزن. لذلك يرنّ صوت رفعت العرعير في التجمعات والتظاهرات ليطلق الطلاب من خلاله صرخة يبدو أن العالم لم يسمعها بعد: أوقفوا القتل، أوقفوا المذبحة، أوقفوا الاحتلال.

————————–

رسائل الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية/ عبد الحميد صيام

9 – مايو – 2024

شهد الأسبوع المنصرم تطورات كبرى في ميدان مواجهة حرب الإبادة في غزة، وعلى المستويات السياسية والمفاوضات والوساطة. فمن جهة قامت القوات الفاشية باحتلال معبر رفح، والشريط المحاذي للحدود المصرية، وبالتالي قطع جميع وسائل التواصل بين غزة والعالم الخارجي، وتوقفت المساعدات الدولية تماما، وخرج مستشفى أبو يوسف النجار في رفح عن الخدمة بسبب نقص الوقود. كما قامت السلطات الصهيونية بإخلاء أكثر من 100 ألف مواطن من مواقعهم في رفح، ما أدى إلى فوضى عارمة ونوع من الهلع والإحساس بالضياع. فليس هناك مكان آمن ينتقلون إليه، ولا عملية انتقال آمن أصلا.

والتطور الآخر المهم هو قبول حركة حماس، الصفقة التي توصلت إليها الوساطة الأمريكية المصرية القطرية، والتي صاغتها الولايات المتحدة وقدم وليام بيرنز رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية، ضمانات بتنفيذها من قبل الجانب الإسرائيلي، إلا أن الرد الإسرائيلي كان باقتحام رفح ورفض الاتفاقية بالإجماع من قبل حكومة الحرب. وقد يكون ذلك متفقا عليه كنوع من الضغط على المقاومة لتقديم تنازلات أكبر. كل هذه التطورات جاءت في أعقاب الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية، الذي بدأ يوم 17 أبريل الماضي انطلاقا من جامعة كولومبيا، وانتشر كالنار في الهشيم ليشمل أكثر من 120 جامعة وكلية وينتقل إلى فرنسا واستراليا وكندا وبريطانيا وتونس وغيرها. وأود أن أقدم بعض الملاحظات على هذا الحراك المبارك:

أولا: لقد تأخر الحراك الطلابي كثيرا. فمن عادة الطلاب أن يكونوا الأكثر تفاعلا مع الأحداث الدولية، التي تتعلق بالحرب والسلام والعنصرية والتمييز والعنف، لكن لماذا تأخر الحراك، فأمر بحاجة إلى تمحيص وبحث أكثر، فالحراك الجماهيري في الولايات المتحدة انطلق من الشارع والجاليات العربية والإسلامية ومحبي السلام والأقليات المضطهدة، وحركة «حياة السود مهمة»، حيث أقيمت المظاهرات الضخمة مرارا وتكرارا في العاصمة واشنطن ونيويورك وشيكاغو، وبقية المدن الكبرى بوتيرة عالية، ورغم ذلك بقيت الجامعات هادئة، إلا من بعض الندوات واللقاءات والاستفتاءات، على موضوع الاستثمار في الشركات الإسرائيلية. يبدو أن الحملة الشعواء التي شوهت الرواية الفلسطينية، وما تم تعميمه من أكاذيب حول هجوم 7 أكتوبر، الذي استهدف النساء والأطفال والعجزة وأدى إلى قطع رؤوس 40 طفلا واغتصاب وقتل عدد من النساء، قد ترك مفعوله لمدة طويلة، إلى أن بدأت تتكشف الحقائق، وتتهاوى الأكاذيب وتنتشر أخبار المجازر والتدمير والقتل واستخدام القوة المفرطة، واقتحام المستشفيات، وقتل الموظفين الدوليين، وقطع الماء والغذاء والدواء. انتشرت الأخبار والفيديوهات وأصبحت مادة متوفرة على وسائل التواصل الاجتماعي فبدأت بعض الحراكات الطلابية تنتشر منذ شهر مارس، ولكن بشكل خافت. وما شهدته جامعة كولومبيا يوم 17 أبريل عبارة عن اعتصام متوسط الحجم ولو لم يتم التدخل فيه، لربما انتهى بشكل طبيعي وعاد الطلاب بعد يومين أو ثلاثة أيام إلى مقاعدهم في نهاية الفصل الدراسي بانتظار مراسم التخرج.

ثانيا- لقد جلبت نعمات شفيق رئيسة جامعة كولومبيا المصرية الأصل، عقلية قمع المظاهرات من تجربتها في مصر، وصداقتها الحميمة مع رأس الدولة وأجهزته القمعية التي تخفي البشر عن الوجود ولا تسمع لهم أثرا. وقد اعتقلت قبل حادثة كولومبيا 14 طالبا وطالبة لمظاهرة سلمية أمام مكتب الأمم المتحدة، وما زالوا في السجون. أرادت نعمات شفيق أن تستعين بالأمن على الطريقة العربية في أنظمة الاستبداد، لكن انقلب السحر على الساحر فانضم بقية طلاب الجامعات الأمريكية للحراك وهم يرون زملاءهم الـ107 تعتقلهم الشرطة مكتوفي الأيدي بطريقة فظة، ما أقنع بقية الطلاب الانضمام إلى الحراك ثم تجاوبت مع الحراك جامعة نيويورك، وانتقلت الظاهرة إلى هارفرد وييل ومعهد ماستشوستس للتكنولوجيا وبراون وجامعات كاليفورنيا وتكساس وغيرها.

ثالثا: كان الهجوم على حق الطالب في التعبير من بين الشعارات الأساسية التي طرحها الطلبة، بل تخوفوا من مصادرة هذا الحق. فالحق في التعبير أمر مكفول في التعديل الأول على الدستور الأمريكي، ولا أحد يستطيع مصادرته من الشعب. في الولايات المتحدة يجوز لتنظيم الكي كي كي (KKK) النازي الذي يدعو علنا إلى التمييز ضد السود، ولكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل تتهاوى كل الشعارات، وكل القوانين وكل الأنظمة وكل مواد الدستور. لا توجد دولة في العالم لا تعاقب من ينتقد قيادتها ونظامها ورئيسها وأحزابها، لكنها تعاقب وتعتقل كل من ينتقد دولة أجنبية (هذا هو المفروض).

ثالثا: لقد استخدمت الأجهزة الأمنية العنف المفرط في بعض الحالات مثل جامعة كولومبيا وجامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلس ودالاس ـ تكساس وغيرها الكثير. واستخدمت الغازات المسيلة للدموع في 100 جامعة/كلية، وهو أمر غير مسبوق، ولو كانت هذه المظاهرات داعمة للكيان الصهيوني لأصبحوا أبطالا. لقد سمح للطلاب المؤيدين للكيان أن يصطدموا مع أنصار فلسطين في جامعة جنوب كاليفورنيا- لوس أنجلس، ولم يعتقل أحد منهم، بينما اعتقل أكثر من 2200 طالب وطالبة في بقية الجامعات، خاصة في نيويورك. لقد شمل العنف الأساتذة نساء ورجالا، وكان لاعتقال أستاذة في جامعة إيموري في اتلانتا جورجيا بطريق عنيفة حيث تشارك شرطيان لإخضاعها وهي تصرخ «أنا بروفيسورة» أثرا كبيرا على تحرك الطلاب، ولو كان هذا المشهد في إيران أو الصين أو فنزويلا لتحركت كل أجهزة الدولة للإدانة والشجب وفرض العقوبات، الولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل تصبح دولة من دول الاستبداد الشرق أوسطية.

رابعا: لقد شارك اليهود في هذه المظاهرات بشكل أساسي، كما شاركوا في مظاهرات المدن وقدموا نماذج مشرفة للشجاعة والإبداع، كاقتحام الكونغرس ومحطات القطارات وتمثال الحرية والمطارات، لكن للأمانة والصدق كان هناك بعض الشعارات المسيئة، وهتف بعض المتطرفين بأقول تسيء لفلسطين وللإسلام وللمتظاهرين أنفسهم. إن أقحام بعض الشعارات يجب أن تنتهي لأنها تؤخذ من سياقها وتعمم على أنها معادية لليهود كيهود. إن من أكثر الأصوات شجاعة في الدفاع عن فلسطين وغزة وإدانة الحرب الدموية، التي تقوم بها إسرائيل هم من اليهود، مثل نورمان فنكلستين وبيرني ساندرز وفيليس بينس، وغيرهم العشرات ممن تصدوا للدعاية الصهيونية، علما أن كثيرا من الأساتذة العرب والفلسطينيين المرموقين لم تسمع أصواتهم ولم يكتبوا سطرا واحدا على مواقعهم.

خامسا: لقد حقق الطلاب في بعض الجامعات انتصارات كبرى من دون اللجوء للعنف، فقد حققت جامعة رتغرز ((Rutgers التي افتخر بالانتماء لها ثمانية مطالب من مجموع عشرة. وبقي مطلبان قيد المفاوضات يتعلقان بسحب الاستثمارات وقطع العلاقة مع جامعة تل أبيب. وعلى أساس ذلك تم حل المخيم الذي انطلق يوم الإثنين 29 أبريل بعد خمسة أيام من المفاوضات. وقد نشرنا تفاصيل الاتفاق في «القدس العربي» في حينه. وكذلك حققت جامعة مونتكلير في نيوجيرسي قرار سحب الاستثمارات، وحققت جامعة ساكرمنتو في كاليفورنيا قرار الجامعة بإلغاء الاستثمارات كافة في إسرائيل، وكذلك عدد من الجامعات في ولايات بنسلفانيا ماستشوستس وواشنطن وغيرها. الشيء المقلق أن الفصل الدراسي سينتهي هذه الأيام وستقفر الجامعات من الطلاب، لكننا على موعد في أوائل الخريف إذا استمرت الحرب ولم تتحقق الوعود. انتظروا حراكا أكبر وأشمل وأكثر مواجهة.

وأخيرا لقد أرسل الحراك الطلابي رسالتين مهمتين للإدارتين المهزوزتين في واشنطن وتل أبيب مفادهما أن هذا الحراك إذا ما استمر بهذا الزخم فسيطيح بإدارة بايدن في الانتخابات المقبلة، ويوصل نتنياهو إلى السجن. وليس غريبا أن تضغط الحكومة الأمريكية على قيادات حرب الإبادة في الكيان للوصول إلى اتفاقية هدنة تبدأ بوقف إطلاق النار، وإطلاق الرهائن وصولا إلى نهاية الحرب. في الأيام القليلة المقبلة سنرى النتائج: استكمال لحرب الإبادة، أو وقف المجازر، من دون أن يتمكن الكيان الصهيوني من إعلان الانتصار؟

كاتب فلسطيني

—————————–

لماذا فجّر الهجوم على غزة انتفاضة الجامعات؟

9 – مايو – 2024

نشاهد حاليا ظاهرة لافتة تتمثّل في الاتساع المتزايد للحراك الطلابي في جامعات العالم رغم تعرض الجامعات والطلاب لضغوط هائلة، تبدأ من قمة الهرم السياسي (مثل تدخلات رؤساء أمريكا وفرنسا وألمانيا، ورؤساء وزراء بريطانيا وغيرها) مرورا بتشريعات الكونغرس الأمريكي بخصوص تشديد تعريف «معاداة السامية» وأشكال الضغط الأخرى في البرلمانات والأحزاب الحاكمة (والمعارضة) الغربية، وصولا إلى التدخّل المباشر، كما حصل في جامعة كولومبيا، مع هجوم قرابة 100 طالب من المؤيدين لإسرائيل على محتجين في مخيم اعتصام.

شهدت هذه الظاهرة تمددا ضمن قوس جغرافي هائل الاتساع من أستراليا واليابان حتى البرازيل مرورا بأوروبا وأمريكا، وكان آخر تطوّر في هذا السياق انضمام مجموعة من أعضاء هيئة تدريس في كلية في نيويورك لمخيم الاعتصام في جامعتهم ومطالبتهم بإنهاء وجود الشرطة في الحرم الجامعي وإلغاء التهم التأديبية ضد الطلاب الذين تم اعتقالهم.

كان هناك شبيه لهذه الواقعة في ألمانيا حيث أرسل نحو 100 محاضر جامعي في جامعاتها رسالة لوزيرة التعليم العالي يستنكرون فيه قمع الشرطة للطلاب، ويطالبون بوقف المساعدات العسكرية لإسرائيل، وكان طبيعيا، ضمن هذا الميزان المهتز بين السلطات والطلاب (مدعومين بكثير من الأساتذة) أن تعبّر وزيرة التعليم المذكورة عن «صدمتها» من الرسالة لأنها «لم تتخذ موقفا واضحا مناهضا للكراهية ضد إسرائيل» و«لتحويلها محتلي الجامعات الى ضحايا»!، وهو يشبه ما فعلته وزيرة التعليم البريطانية التي تحدثت، بعد نصب خيام طلابية في أكثر من 12 جامعة في المملكة المتحدة، عن الخوف من أن تصبح الجامعات «أمكنة غير آمنة للطلاب والعاملين» وتبعت ذلك تصريحات لرئيس الوزراء ريشي سوناك يدعو قيادات الجامعات «لحماية الطلاب اليهود» (في تجاهل طبعا لتواجد العديد من الطلاب اليهود مع المحتجين على الحرب).

عكست انتقادات «المجلس المركزي ليهود ألمانيا» للاعتصام في جامعة برلين الحرة نمطا خطيرا من ردود الفعل. لم يشف فضّ الجامعة للاعتصام غليل «المجلس» المذكور فهاجم «عدم تطرق إدارة الجامعة للأساس الأيديولوجي» للاعتصام، معتبرا «كراهية إسرائيل والخلفية المعادية للصهيونية» «جزءا من الحمض النووي لهؤلاء الأشخاص» وهو تذكير بائس بطريقة تفكير النازيين تجاه اليهود أنفسهم (إضافة إلى الأقليات الإثنية والعرقية والبيولوجية والسياسية التي تعرّضت بدورها للمحرقة).

في مقاربة كاشفة، اعتبر أكاديمي أمريكي معروف أن الطلاب المشاركين في الحراك الذي أججته الحرب الإسرائيلية على غزة هم «أساتذة يعلمون الناس ما يفترض بهذه الجامعات أن تفعله وهو التعليم والصقل والارتقاء والتميز الفكري والثقافي والأخلاقي كونهم يخرجون الناس من الجهل إلى الفهم». لا أحد، في تلك الجامعات، على حد رأيه، «يفعل هذا حاليا أكثر من هؤلاء. إنهم يعلّمون أساتذتهم الكبار وإداراتهم. إنهم يعلمون كل المجتمع والحضارة. ليست هذه دروسا في العلوم السياسية والاقتصادية والشؤون الدولية أو التاريخ، برأيه، بل هي دروس تشريح الإمبراطورية الأمريكية، والاستعمار، فاضحين بيولوجيا العنصرية وأهم أورامها: الصهيونية.

قدّمت مجلة «كاونتربنش» اليسارية الأمريكية في مقال لأكاديمي عرضا يشرح الإطار العامّ للأزمة الجارية، ضمن إطار العلاقة الاستتباعية للجامعات الأمريكية بالشركات العسكرية المرتبطة، طبعا، بآلة الحرب الصناعية الإسرائيلية وتزويدها (وهو نمط يكرر نفسه في بلدان أخرى مثل كندا وأستراليا وبريطانيا).

هدف مزاعم «معاداة السامية» ضمن هذا السياق التغطية على قضاء المركّب العسكري ـ السياسي على حرية الجامعات، مما أدى للهيمنة عليها وجعلها مورّدا أساسيا لموظفيها، كما تفعل شركة «لوكهيد مارتن» في حرم الجامعات الأمريكية. فضح مطلب سحب استثمارات الجامعات في إسرائيل، الذي رفعه الطلاب، العلاقات الوثيقة بين الشركات العسكرية، والساسة، وإدارات الجامعات، وهو ما يفسّر الغضب الشديد الذي قوبل الحراك به، من جهة، كما يفسّر، اتساعه رغم القمع، فإلى كشفه علاقة إسرائيل بهذه الشبكة الأخطبوطية من المصالح، فقد كشف أيضا دور الطلاب والأساتذة الخطير في الدفاع عن الديمقراطية والمدنية والحضارة.

القدس العربي

—————————

نعمت شفيق أو درسٌ في “الاستبداد الشرقي”/ مالك ونوس

09 مايو 2024

بقدر ما يتوفّر لجامعة كولومبيا الأميركية من مكانة وأهمية بين الجامعات والمجتمع الأميركييْن، خصوصاً من ناحية تصنيفها ومثيلاتها من صروح النيوليبرالية الغربية، بقدر ما نُكبت هذه الجامعة وطلبتها برئيسةٍ تسري في عروقها سموم الاستبداد، الذي قد يستنتج طلبتها الذين أمرت بقمعهم، إذا ما تفكَّروا فيه، أنّها قد ورثته من منبتها في الشرق. وتعمَّق هذا التصور عند بروز نزعتها الفردية، حين بدا أنّها مُستعدّة للتضحية بكثير من ركائز الحرّية الأكاديمية والحقّ في التعبير، وكذلك بمستقبل الطلبة، من أجل بقائها في مركزها الوظيفي المرموق. وقد يفتح هذا الأمر لدى بعضهم في الغرب البابَ أمام استنتاجاتٍ بشأن ما إذا كانت نظرية أو مفهوم “الاستبداد الشرقي”، الذي حاول كثيرون تفكيكَه ونقضه، حقيقي وقائم، وليست ممارسات رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق إلا أحد أشكاله.

كان خيار شفيق شمشوميّاً حين لم تراعِ ميراثاً طويلاً من الحرّية الأكاديمية، التي لا يتنازل عنها طلبة الجامعات الغربية وأساتذتها، ويعدّونها شرطاً أساسياً للمُضي في دراساتهم وبحوثهم؛ إذ لم تَعْرِفْ أنّ تيار القمع الذي دعت إلى اعتماده مع الطلبة سيجرفها هي أيضاً عندما يتحكّم بقبضته البوليسية بجامعة أو أيّ مؤسّسة، يدعوه المسؤولون فيها إلى تولّي عملية التعامل مع “الخلل” الذي قد يتسبّب به منتسبوها. وهذا ما حدث حين اتُّهِمَت شفيق ذاتها بالتقصير في تعاملها مع الطلبة، وطُلبَ منها تقديم استقالتها إثر ذلك. لكنّ الأمرَ قد لا يتوقّف عند استقالتها، بل سيبقى زملاؤها، والطلاب الذين أمرت بقمعهم، يتذكّرون فعلها الاستبدادي، وسيستمرون في النظر إليها باعتبارها آتية من مجتمعٍ تختلف ثقافته واقتصاده السياسي عن ثقافة المجتمعات الغربية واقتصادها، هذا المجتمع الذي يعتمد القسر في عمليات الإنتاج، وفي النشاطات الاجتماعية الأخرى كافّة. وسيستدعون النظرة السابقة التي تكوّنت عنه في قرون، والتي كانت ترى فيه مجتمعاً منغلقاً وراكداً ومتخلّفاً بفئاته كلّها، وحتى فئة النخبة التي تخرُج منه، والتي يمكن لها أن تحوز تحصيلاً علمياً عالياً، سيعتقدون أنّه لا يمكنها التطوّر والخروج من ذلك الانغلاق لكي تُجاري النخب في الدول الغربية وبقيّة الدول المُتقدّمة، من ناحية التحرّر وتبنّي حرّية التعبير واحترام الرأي الآخر، وهو ما أثبتته شفيق. كما سيعودون إلى الصورة الدائمة بشأن هذه المجتمعات، والتي تقول إنّ الاستبداد مُتجذّر في الثقافة العربية حتى لا يمكن للإنسان في هذه المنطقة الفكاك منه، وربما لذلك قد يستنتجون سبب فشل الانتقال إلى الديمقراطية في جميع الدول العربية، كذلك سبب فشل ثورات الربيع العربي التي كان التحرّر والحرّية من أهدافها.

لن نُغرِّب كثيراً أو نشرِّق للتأكّد من استبداد نعمت شفيق الفردي، حين اتخذت قرار قمع الطلاب المُحتجّين على دعم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الفلسطينين في غزّة، ودعمها الكيان الإسرائيلي بالسلاح والمال، وللمطالبة بسحب الجامعة استثماراتها من الكيان. بل سنعود إلى كتاب عبد الرحمن الكواكبي: “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، ونقف على تعريفه الاستبداد، فندرك كم كانت تلك البروفيسورة مُستبدّة، وكم يمكن تشبيهها بأيّ طاغية من طغاة شرقنا المنكوب حين طلبت من شرطة نيويورك التدخّل لفضّ اعتصام الطلاب، واعتقال ما يُتاح لها اعتقاله من الطلبة. يقول الكواكبي: “الاستبداد لغةً هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة”. فاعتماداً على هذا التعريف، يمكن القول إنّه من المُحتمل أنّ الرئيسة شفيق لم تتحاور مع الطلبة أو تحاول ثنيهم عبر النقاش عن فعلهم في الاحتجاج الذي يُعدّ من حقوقهم، بل اتخذت من فورها قرار دعوة شرطة المدينة إلى وقف احتجاجهم. ويتبين من فعلها أنّها ربما كانت غير مُدركة قوانين الجامعات في الغرب التي جعلت دخول قوات الشرطة إليها أمراً محرَّماً لا يمكن لها الإقدام عليه، ولا تنفّذه إلا في حال طلبت إدارة الجامعة ذلك. وقد تُلام شفيق بسبب جهلها هذا الأمر وقد لا تلام. فهي قد ترعرعت في مجتمع يسيّس نظام الحكم فيه المدارس، ويجيّش طلاب الجامعات والمدرّسين، ويتّخذ من مبانيها مقرّات لأجهزة أمنه السرّي. وفي حالاتٍ مُتقدّمة يُخضع الطلاب فيها للتحقيق وربما التعذيب بسبب آرائهم، بدلاً من سوقهم إلى مراكز الأمن المتوفّرة بكثرة خارج أسوار الجامعات. لذلك، ربّما ظنت شفيق أنّها قد تُساق إلى مراكز الأمن السرّية في الولايات المتحدة وتعاقَب، فسارعت إلى تنصيب نفسها مُخبراً متطوّعاً لتحافظ على رأسها، كما حال بعضٍ من أمثالها في كثير من الجامعات العربية.

ولكن، لماذا هذا التركيز على نعمت شفيق، بينما عارض رؤساء جامعات أخرى مطالب طلابهم، ووقفوا ضدّ احتجاجاتهم، وسمحوا لقوات الشرطة بفضّ اعتصاماتهم، واعتقال أعدادٍ منهم، حتّى وصل عدد الطلبة المُحتجّين إلى أكثر من ألفي طالب معتقل؟… قد يصحّ هذا السؤال لو لم تكن شفيق من أصول مصرية، وتحمل الجنسية المصرية؛ إذ ربما عوَّل الطلاب على جنسيتها و(عروبتها) وتوقّعوا منها أن تنضمّ إليهم أو ألا تعارض احتجاجاتهم، وهو أضعف الإيمان، بسبب انتمائها الجغرافي والثقافي. لذلك، ربما يكون هذا الأمر الدافع للعودة إلى التفكّر في نظرية “الاستبداد الشرقي”، التي طُرحت قبل مئات السنين، بدءاً بأرسطو الذي افترض أنّ شعوب الشرق تميل إلى الاستبداد لأنّهم أكثر خنوعاً من غيرهم من الشعوب، مروراً بمنظّر الثورة الفرنسية جان جاك روسّو، الذي عزا الاستبداد إلى الدين، ثم المفكّر فريدريش هيغل الذي يردّه إلى النظام الأبوي القائم تاريخياً في الشرق، وصولاً إلى النظرية المادّية عبر كارل ماركس، الذي ربط بين الاستبداد ونمط الإنتاج الآسيوي، الذي يقوم على القسر. إلا أنّ نظرةً سريعةً إلى تاريخ الدول العربية الحديثة، والحركات الاجتماعية التي انطلقت قبل التحرّر من الاحتلال العثماني، يقول إنّ النزوع إلى الحرية لم يُفارق وجدان شعوب الشرق، والتي منها الشعوب العربية، التي وصلت إلى الاستقلال عن الاستعمار الغربي عبر انتفاضات وثورات ونضالات طويلة. غير أنّ التاريخ المعاصر يبين أنّ الاستعمار الجديد قد تولّى دعم الحكّام والأنظمة القائمة في المنطقة العربية، ودعم توجههم إلى الفردية والحكم الديكتاتوري لكي يضمن هيمنته وعدم وصول الشعوب إلى القدرة على بناء الديمقراطية بوصفها شرطاً طبيعياً لنموّ المجتمعات والاقتصادات في أيّ منطقة، وتحرّرها. ومن هنا، لا يمكننا إلا أن نقول إنّ نعمت شفيق ليست سوى إفراز غير مباشر لنزعة الهيمنة والتسلّط الغربية التي تحقّقت عبر ديكتاتوريات ساندت استبدادها ففرّخت أفراداً مُستبدّين، وهم أفراد تساعد ثقافتهم وتطور شخصياتهم في تخليصهم من تأثيرات الأنظمة، وثقافتها، وممارساتها، وقد لا تفعل، كما في مثال البروفيسورة شفيق.

العربي الجديد

—————————

الحراك الطلابي الداعم لفلسطين/ لمى قنوت

05 مابو 2024

تصاعد الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية مؤخرًا، احتجاجًا على حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في غزة، داعيًا إلى وقفها ورفع الحصار عنها، ووقف المساعدات الأمريكية لإسرائيل، والمقاطعة الأكاديمية وبضمنها وقف برامج التبادل مع الجامعات الإسرائيلية، وسحب استثمارات جامعاتهم من الكيان المحتل.

وصم وشيطنة

في نيسان الماضي، وصم الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الأجواء في الأحرام الجامعية بأنها “معادية للسامية”، ومارس “الكونجرس” سلطته لتحريض الجامعات على قمع الحراك، عبر استدعاء رئيسات لثلاث جامعات، تم استجوابهن حول “تزايد معادة السامية”. ووصف نتنياهو الحراك الطلابي بالأمر المروع، وبـ”سيطرة جحافل معادية للسامية على جامعات رائدة”، تنادي بالقضاء على إسرائيل وتهاجم الطلاب وأعضاء هيئة التدريس اليهود، واعتبره تذكيرًا بما حدث في الجامعات الألمانية بالثلاثينيات، وطالب بإدانته ووقفه، وكان لافتًا ألا يعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، فيدانت باتيل، طلب نتنياهو هذا تدخلًا في الشأن الأمريكي، بل رحب بأي تصريحات يدلي بها نتنياهو.

يصر القادة الصهاينة وشركاؤهم على إنكار مشاركة اليهود في الحراك العالمي المناصر لفلسطين، علمًا أن منظمة “أصوات يهودية من أجل السلام”، التي بغالبها تضم يهودًا، يشاركون في تنظيم الحراك الطلابي بالجامعات الأمريكية مع منظمة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين”، التي تضم بأغلبها طلابًا وطالبات من أصول عربية ومسلمة. ومنذ بدء حرب الإبادة على غزة، حرص اليهود المناصرون لفلسطين على ألا يمارس الإجرام الصهيوني باسمهم.

التضحية بالحريات لمصلحة الإمبريالية

في أمريكا، عندما اصطدمت الليبرالية مع سياستها الإمبريالية، تم التضحية بالأولى بسهولة فائقة، وقد شهدنا محطات لها عبر:

أولًا، عودة المكارثية، وهو مصطلح سمي على اسم السيناتور جوزيف مكارثي، ويعود إلى عام 1950، إبان فترة تم فيها قمع سياسي واضطهاد لليساريين، وتوزيع اتهامات غوغائية ومتهورة، لخلق مناخ قائم على الخوف والشك من انتشار الشيوعية في الحكومة الأمريكية.

وقد شُبه استجواب لجنة التعليم والعمل في مجلس النواب لرئيسات ثلاث جامعات، كلودين جاي رئيسة جامعة “هارفرد”، وإليزابيث ماجيل رئيسة جامعة “بنسلفانيا”، وسالي كورنبلوث رئيسة معهد “ماساشوستسس للتكنولوجيا”، في 5 من كانون الأول 2023، بعودة الممارسات المكارثية، بسبب تمحور الاستجوابات المتتالية حول “تزايد معاداة السامية” لوصم الحراك الطلابي، وأدت الضغوط الصهيونية التي لم ترضَ عن أجوبتهن إلى استقالة كل من جاي وماجيل من منصبيهما.

لقد أسهمت التغطية الإعلامية الواسعة والضخمة للحراك الطلابي في تسليط الضوء على القمع المتعدد المستويات والممارسات المكارثية التي طالت المدافعين والمدافعات عن حرية فلسطين، من اعتقال وتعليق العضوية وفصل تعسفي من الجامعة والطلب منهم إخلاء سكنهم الجامعي خلال 15 دقيقة، إلى محاصرة مستقبلهم وتشويه سمعتهم وترهيبهم، فمثلًا، حذّر ستيفن دافيدوف سولومون، أستاذ القانون التجاري في كلية الحقوق بجامعة “بيركلي” في ولاية كاليفورنيا، الشركات من توظيف طلابه، متهمًا بعضهم بأنهم “معادون للسامية” ويروجون لكراهية اليهود.

ثانيًا، مع الخيار الأمني الذي انتهجته رئاسة جامعة “كولومبيا” واستدعاء الشرطة لفض المخيم الاحتجاجي للطلبة، تفشى العنف ضد المشاركين والمشاركات فيه، وفشلت رئيسة الجامعة، نعمت شفيق، خلال استجوابها في “الكونجرس” بالدفاع عن الحق في حرية التعبير، وقوضت الحريات الأكاديمية، وفشلت أيضًا في الدفاع عن علمانية الجامعة وخضعت للترهيب الديني المتصهين عندما سألها عضو “الكونجرس” الأمريكي ريك ألين الذي طوع النص الديني ليماهي بين الهوية اليهودية القديمة وبين دولة الاحتلال الصهيوني: “هل تعلمين بسفر التكوين (12: 3)؟ وتابع بأنه كان عبارة عن عهد واضح جدًا أقامه الله مع إبراهيم “إذا باركتَ إسرائيل فسوف أبارككَ، وإذا لعنتَ إسرائيل سألعنكَ”، “في العهد الجديد إن جميع الأمم ستتبارك عبركم”، وبعد أن أجابته شفيق بأنها تعرف ذلك وبالأخص بعد شرحه، سألها مجددًا: “هل تعتبرينه شأنًا جديًا، هل تريدين أن يلعن رب الإنجيل جامعة كولومبيا؟” فأجابته: “كلا، بالطبع”.

لقد عزز عنف الشرطة في أمريكا من أهمية مطالب حركة إلغاء الشرطة، كحركة سياسية تطالب في تفكيك مؤسسة الشرطة واستبدالها بنظام آخر للأمن العام، بسبب تجذر تفوق العرق الأبيض والاستعمار الاستيطاني فيها، ولا يمكن فصل هذه المؤسسة عن الأساس الذي تشكلت منه، كجهاز يحمي الأثرياء البيض وأعمالهم ويقمع العمال والعاملات خلال ما يُعرف باسم “حروب الفحم”.

إن عنف الشرطة في أمريكا قديم- جديد ومتواصل، ركزت عليه حركة الحقوق المدنية وحركة “حياة السود مهمة” ونضال السكان الأصليين كحملة “إعادة الأرض”. وشهدنا عنفًا في الحراك الطلابي الحالي، مثل اعتقال وسحل البروفسورة في جامعة “واشنطن” جيل ستاين التي دعمت وتعاضدت مع طلابها وطالباتها بعد تدخل الشرطة الذين وصفت تعاملهم بالوحشي، أو في سحل وكسر ضلع ويد البروفيسور ستيف تاماري أستاذ التاريخ في جامعة “واشنطن سانت. لويس”، ووصف الأستاذ في جامعة “إيموري” إيميل كيمي والمشارك في دعم فلسطين بأنه شعر وكأنه في منطقة حرب، عندما رأى قوات الشرطة بكل عتادها يبعدون الطلبة بالقوة ويدمرون الخيام.

لقد أدى تصاعد الحراك الطلابي في أمريكا، والعنف الذي واجهوه وسيواجهونه، إلى تحفيز الحراك الطلابي التضامني العابر للحدود، في كل من كندا وفرنسا وطوكيو وإسبانيا والأردن وتونس والكويت ولبنان وغيرها من الدول. وفي مقابل القمع والترهيب الذي حصل في جامعة “كاليفورنيا”، أشاد 1000 أكاديمي وعالم، من الرجال والنساء بتنوعاتهن، ومن جميع أنحاء العالم، بدور الطلبة فيها، وأدانوا الجامعة والشرطة والإعلام الأمريكي الذي يحاول تشويه صورتهم.

واستقطب الحراك شرائح واسعة أبعد من المجتمع الأكاديمي، فذوي بعض الطلبة يشاركون في الحراك، وانضم لهم العديد من الناشطين والناشطات، وبضمنهم الناشطة ضد حرب فيتنام بيث ماسي، التي استعادت ذكريات حراكهم واحتلالهم للمباني في جامعة “كولومبيا” بشكل غير قانوني، وتَحمُلِهم للمخاطر حين قتلت الشرطة عددًا منهم آنذاك واعتقلت آخرين. كما شاركت الناشطة ماريون إنغرام (88 عامًا)، وهي ناجية من الهولوكوست، في تظاهرة دعمًا لفلسطين في حديقة جامعة “جورج واشنطن”، ووصفت المحتجين والمحتجات بـالأبطال.

يتقاطع الحراك الطلابي مع الحراك العالمي لمقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال، التي حققت نتائج ملموسة خلال الأشهر الماضية، فقد بدأت مطالب الحراك الطلابي في بعض الجامعات تأتي أُكلها فمثلًا، أعلن رئيس جامعة “بورتلاند”، في رسالة أرسلت عبر البريد الإلكتروني إلى الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، نساء ورجالًا، يُعلمهم فيها بأن الجامعة قررت تجميد علاقتها مع شركة بوينغ، وتوصلت جامعة “براون” في ولاية رود آيلاند إلى اتفاق مع طلابها وطالباتها على إعادة النظر في علاقاتها مع شركات مرتبطة بإسرائيل مقابل إزالة مخيمهم من داخل الحرم الجامعي.

بين الواقع والقوننة، فقدت تهمة “المعاداة للسامية” وطأتها في ظل استخدامها المفرط كتهمة فضفاضة جاهزة لكل من ينتقد الاحتلال وسياسته وجرائمه أو يطالب بوقف إطلاق النار أو وقف الإبادة الجماعية، وعليه فقد سارع مجلس النواب الأمريكي في الأول من هذا الشهر إلى إقرار مشروع قانون يجرم وصف الاحتلال بأنه “دولة عنصرية” ويجرم المقارنة بين جرائمه وجرائم النازية وسياساتها، ويحتاج إقرار هذا القانون إلى موافقة مجلس الشيوخ عليه.

الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية هو جزء من الحراك العالمي المناهض للاحتلال الصهيوني وشركائه وداعميه والمطبعين معه، فاليوم يخوض الطلاب نضالًا مهمًا متصاعدًا عابرًا للحدود والقوميات والأديان، يتقاطع مع النضال ضد كل أشكال التمييز، وقد يقود استمراره إلى نفس الأثر الذي حققه الحراك الطلابي خلال أواخر ستينيات القرن الماضي وما تلاه من حراكات، وهو أمر أدركه الصهاينه فشيطنوه.

عنب بلدي

——————-

طُلّاب 1968 وطُلّاب 2024/ حسن مدن

05 مايو 2024

قبل أربع سنوات من عام 1968، عندما كان الجنرال شارل ديغول رئيساً لفرنسا، سأل مندوب مجلة فرنسيّة الكاتب جان بول سارتر عن تفسيره انصراف الشبيبة عن السياسة. قال الصحافي: “إنّ فرنسا تفقد اهتمامها بالسياسة، وهذا اللاتسييس يتجلى في انصراف الشبيبة الفرنسية ليس عن الأيديولوجيات فحسب، بل حتى عن الأفكار، فما يستحوذ على اهتمام الشبيبة هو التقنيّة بوصفها سبيلاً للرفاه”.

لم يمضِ وقتٌ طويل على طرح هذا السؤال على سارتر، حين حلّ عام 1968، الذي شهدت فيه فرنسا انبثاق الحركة الطلابية التي غيّرت أشياء كثيرة في فرنسا وفي أوروبا، لا بل في العالم كله، سواء في السياسة أو في الفكر أو في الثقافة، أي إنّ الشبيبة التي قال مندوب المجلة الذي حاور سارتر بأنها تنصرف عن السياسة هي ذاتها التي ملأت الشوارع في باريس وبقيّة المدن الفرنسية رافعة الشعار الشهير: “كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل”، في ما يشبه “الثورة” على ما شَرع في الظهور من نموذجِ حياةٍ يقومُ على الفرجة والاستهلاك.

بدأت تلك الحركة في فرنسا، واجتاحت، فيما بعد، البلدان الأوروبية الأخرى، ثم شملت آثارها البلدان النامية، بما فيها البلدان العربية، وعلينا ملاحظة أنّ هذا العام، عربياً، كان الذي تلا هزيمة 5 حزيران التي شكّلت صدمة في الوعي العربي، وردّة الفعل يومها لم تكن التسليم بالهزيمة، بل التمرّد على العوامل التي قادت إليها، لذا فإنّ أفكار الانتفاضة الطلابية الفرنسية صادفت هوىً في نفوس الجيل الجديد من الشبّان العرب، ولا سيما طلبة الجامعات. من مفاعيل ذلك انبثاق الحركة الطلابية المصرية في مطالع السبعينيات التي قامت تحت عنوان رئيسي هو الدعوة إلى الحرب، للثأر من الهزيمة ولتحرير الأراضي المحتلة.

نحن الآن في عام 2024. ها نحن أمام احتجاجات طلابية حاشدة وعاصفة، تُذكّرنا بالتي جرت في 1968، بدأت من الجامعات الأميركية وأخذت تأثيراتها تمتدّ إلى بلدان أوروبية، وربما غير أوروبية. ومثلما لاحظ مندوب المجلة الفرنسية التي حاورت سارتر أنّ الشبيبة في فرنسا وفي العالم منصرفة، لحظتها، عن السياسة، كان بوسع أيّ منّا أن يقول، وقبل أشهر قليلة فقط من اليوم، الملاحظة نفسها عن حال الشبيبة في أميركا وغيرها، خصوصاً لجهة عدم الاكتراث بمحنة الشعب الفلسطيني المحروم أبسط (وأهمّ) الحقوق التي يتمتع بها أي شعب، في أن تكون له دولته الوطنية المستقلة ذات السيادة. وكما فاجأت أحداث 1968 كثيرين، بسبب النقلة التي جرت من حال لامبالاة الشياب وانصرافهم عن السياسة، ها هي احتجاجات طلبة أميركا وغيرها تأتي بمثابة مفاجأة صاعقة لدوائر صنع القرار في واشنطن وتل أبيب وكل المتورّطين في العدوان على غزّة ودعمه.

يشارك طلّاب وبعض أساتذة أكثر من مائتي جامعة أميركية في هذه الاحتجاجات، ومنها جامعات شهيرة، مثل هارفارد، نيويورك، ييل، كولومبيا، ماساتشوستس، إيموري، ميشيغان، براون، همبولت بوليتكنيك، بيركلي، جنوب كاليفورنيا، تكساس، مينيسوتا، وغيرها. وأصبح المحتجون المناهضون للدعم العسكري الأميركي لإسرائيل أكثر صخباً في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، بعد أن اتسع حجم المخيم المؤيد للفلسطينيين داخل الحرم الجامعي. وعلى مدار أكثر من أسبوعين، اتسعت رقعة الحركة الاحتجاجية الطلابية التي أشعلها اعتقال أكثر من مائة شخص في جامعة كولومبيا، لتشمل، أيضاً، جامعات أتلانتا وبوسطن.

آخر ما توقعته إسرائيل، ومعها صنّاع القرار في واشنطن، أن تأتي الاحتجاجات بهذا الزخم الكبير من داخل الولايات المتحدة تحديداً، في ضغط كبير على إدارة بايدن عشيّة الانتخابات الرئاسية الوشيكة. ثمّة “اطمئنانٌ” إسرائيلي مستقر من أن الدعم الأميركي لسياساتها لا يأتي، فقط، من الإدارات المتعاقبة، جمهورية كانت أو ديمقراطية، بل من قطاعات واسعة داخل الرأي العام الأميركي، حيث نجحت الدعاية الصهيونية في إظهار إسرائيل، واليهود عامة، في صورة “الضحية”، وتصوير المقاومين لاحتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية “إرهابيين” و”متطرّفين”، بالاستخدام الفظّ ليافطة، أو شمّاعة، “معاداة السامية”، لتفيق تلك الدوائر من نشوتها أمام التحرّكات الطلابية ضد أنفاق أصول الجامعات الكبرى في شركات تصنيع الأسلحة التي تدعم العدوان على غزّة، وللمطالبة بمنع الإبادة الجماعية هناك، لتصيب منظومة الدعاية الصهيونية ومُروجيها في مقتل، رغم كل مساعي تشتيت الرأي العام وإنهاء الحراك الطلابي بالقوّة.

العربي الجديد

————————–

عنصرية هاريسون فورد والسذاجة السياسية/ رشا عمران

03 مايو 2024

انتشر أخيرا على وسائل التواصل الاجتماعي كلام مُقتطع من خطابٍ طويلٍ للممثل الأميركي هاريسون فورد، يصف فيه الشباب في حراكهم السياسي بـ”الجيش الأخلاقي للبلاد الذي خذلناه، ويجب ألا نقف بعد الآن في طريقهم… إنّهم القوّة الطبيعية الغاضبة التي تتحرّك في العالم”. وتداول نشطاء عرب كلام فورد بوصفه كلاماً داعماً للحراك الطلابي الأميركي في الجامعات الأميركية، المتضامن مع القضية الفلسطينية والمناهض للحرب الإسرائيلية على غزّة. وطبعاً، استُقبِل هذا الكلام، عربياً، بمزيد من التهليل والترحيب بوصفه مكسباً جديداً لفلسطين، سيّما أن الكلام لشخصية شهيرة مُؤثّرة بحجم هاريسون فورد. لكنّ الحقيقة أنّ هذا الكلام كان قد قيل في سياق مختلف تماماً، وفي مناسبة قديمة لا علاقة لها، لا من قريب ولا من بعيد، بالحراك الطلابي الحالي. قيل هذا الكلام في 2019، في أثناء قمّة المناخ في مقر الأمم المتّحدة، التي شهدت حراكاً شبابياً غاضباً مدعوماً من مشاهير العالم، ومنهم فورد.

أمّا سبب استعادة كلام هاريسون فورد (ممثل ومنتج وكاتب يهودي أميركي) حالياً، فهو بلاغة كلامه في التعبير عن حال المعتصمين والمحتجّين مع الحكومة الأميركية، التي تعمل على قمع حراكهم اليومي بطرائق تتعارض والآليات الديمقراطية التي لطالما كانت حكومة الولايات المتّحدة تتباهى بها، وبأساليب تتنافى مع حقّ التظاهر والاعتراض، الذي يكفله الدستور والقوانين المنبثقة عنه، لكنّ فورد لم يقله مطلقاً في السياق الراهن، ولم يصدر عنه أيّ موقف مُعلن تجاه الحراك الطلابي. وفورد ليس مُرشّحاً، حتماً، لمناصرة الحركة الطلابية الحالية المؤيّدة لفلسطين، ذلك أنّ له تصريحات ومواقف عديدة أظهر فيها عنصرية بالغة السوء تجاه العرب والمسلمين والفلسطينيين. ورغم ادّعائه المتواصل بأنّه غير معني بالسياسة، إلا أنّه عبّر، غير مرّة، عن عدائه الشديد للعرب والمسلمين، معتبراً أنّ “إبادة العرب ضرورية لأنّهم سوف يدمّرون العالم إن كانت لديهم قوة كامنة” (!) كما أنّه يَعتبر العرب “مخلوقات أكثر قذارة من الحيوانات، ونحن اليهود، الشعب المختار يجب عدم مقارنتنا بهم”. ورغم أنّ تصريحاته هذه كانت في أثناء الحرب الإسرائيلية على غزّة في عام 2009، لا خلال الحرب الحالية، إلا أن لا شيء يدلّ على تغيير مواقفه، فمن كان يحمل هذا المقدار من العنصرية والاستعلاء الديني والحضاري لن يتحوّل، يوماً، إلى داعية سلام، خصوصاً أنّ لا شيء قد تغيّر في الصراع العربي الإسرائيلي، كما أنّ الدعاية ضدّ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023) زادت في عنصرية العنصريين ضدّ العرب، واستخدمت المظلومية اليهودية التاريخية للحشد ضدّ الفلسطينيين، وتبريراً للحرب المجنونة على غزّة.

هناك مواقف متعدّدة في التظاهرات الطلابية المُؤيّدة لفلسطين في الجامعات الأميركية، رغم نبلها وإنسانيتها، تدلّ على شيء من السذاجة السياسية، وعدم فهمٍ لتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وتشعباته وتركيبه وتداخلاته كلّها، منها استخدام كلام فورد في غير موقعه، ومنها تجيير الحراك لمصلحة إيران ومليشياتها الطائفية، من دون أيّ اعتبار لما فعلتاه اثنتاهما، في العراق وسورية ولبنان، وكأن الاثنتي عشرة سنة الماضية، بكلّ ما فيها، مقتطعة من تاريخ الصراع العربي الفلسطيني، وكأنّ الإجرام الذي يحصل في حقّ الشعوب ليس بفعل شراكةٍ غير معلنةٍ بين إيران وإسرائيل وأنظمة الاستبداد العربية الحاكمة. وكأنّ الشعوب العربية الأخرى، التي دفعت على مدى عقود أثماناً باهظة باسم قضية فلسطين، والتي تقتل يومياً منذ 2011 بسبب المصالح والطموحات الإيرانية، هي لا شيء في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. وفي الحقيقة، ليست هذه فقط سذاجة سياسية لدى الحراك الطلابي الأميركي، بل جهل يُعيد الصراع إلى مربّع خطير، إلى ما قبل “الربيع العربي”، ما يعني تبييضاً جديداً لصفحة أنظمة الإجرام في الشرق الأوسط، واستعادة ثنائية الخير والشر في الصراع العربي الإسرائيلي، وهي الثنائية التي كشف “الربيع العربي” زيفها حين فضح الدعم الإسرائيلي الكامل لأنظمة الاستبداد في الدول المجاورة لفلسطين المحتلّة أو المترابطة معها.

العربي الجديد

————————-

في الحراك الطلابي وقضايا التحرّر والحرّية في أميركا/ عمار ديوب

03 مايو 2024

شكّل يوم 18 من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) يوماً مفصليّاً في تاريخ الحركة الطلابية في الجامعات الأميركية، إذ استُدعيت الشرطة الأميركية لإنهاء اعتصام في إحدى باحات جامعة كولومبيا، واعتقِل أكثر من مائة طالب، ووصل عدد المعتقلين في مختلف الجامعات الأميركية إلى نحو ألفي طالب وأستاذ، وهذا ذكَّرَ الأميركيين بعام 1970، حين استدعت رئاسة الجامعة الشرطة، وقُتل أربعة طلاب في جامعة كينت في ولاية أوهايو، واندلعت مظاهرات واسعة حينذاك، وكان السبب رفض إرسال الجنود إلى فيتنام وكمبوديا، ومقتلهم هناك، وإيقاف الحرب. القضية هي ذاتها الآن، إذ نصب الطلاب خِيامَاً في جامعة كولومبيا مطالبين بوقف إطلاق النار في غزّة، ووقف كلّ أشكال التعاون الأكاديمي بين الجامعة وجامعات دولة الاحتلال، وطالبوا بسحب الأموال الخاصة بالجامعة من المعامل الداعمة لصناعة الأسلحة في دولة الاحتلال أو دعمها، وبالتالي، حراك الجامعات الأميركية هو من أجل قضايا تحرّيرية، خارجية، في فيتنام أو غزّة، وكذلك كانت تحرّكت الجامعات في الثمانينيات من أجل إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

الاحتجاج الطلابي، والشعبي العام، في أميركا لم يبدأ في 18 من الشهر الماضي، بل مع العدوان الصهيوني على غزّة بعد السابع من أكتوبر (2023)، ولكنّه توسّع إلى أكثر من 40 جامعة أميركية، وعشرات الجامعات في العالم؛ كندا، وأستراليا، وبريطانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، وتركيا، واليابان، وفرنسا، ومصر، وسواها كثير. الأخطر بالنسبة للإدارة الأميركية ولمراكز القوّة فيها، وفي مجلسي الشيوخ والنواب، أنّ الاحتجاجات لم تعد مُقتصرة على جامعاتٍ، عادة ما تَشهد تظاهراتٍ تضامنية، بل إنّها تركّزت أولاً في جامعات النخبة، وامتدت إلى مختلف الجامعات، وليست تلك الليبرالية أو اليسارية؛ وبالتالي، تشعر الإدارة، ومعها دولة الاحتلال أنّ هناك إمكانية لحدوث تغيير كبير في الرأي العام الأميركي والغربي عامةٍ، وليس فقط في أوساط الطلاب وأساتذتهم، وهناك من يؤكّد أنّ الطلاب سينتهون قريباً من امتحاناتهم، وسيتفرّغون للقيام بتظاهرات ستتزامن مع عقد مؤتمر الحزب الديمقراطي الأميركي في أغسطس/ آب المقبل، وضدّ السياسات الداعمة لدولة الاحتلال في حربها على غزّة. إذاً، هناك مؤشرات لـ”ربيعٍ طلابي عالمي”، وليس فقط في أميركا، وإن كانت قضيته الأساسية تحرّر فلسطين، لا قضايا داخلية، ولكنّ شدّة القمع والتضييق على الطلاب طرحَت قضايا حرّية التعبير والنقد والصحافة، والحرّيات الأكاديمية، وبدأت التحليلات تتحدّث عن مكارثية جديدة، كما كانت في الخمسينيات ضدّ الشيوعيين، والتخويف من هكذا تهمة، وهذا سيُسهم في خلق رؤية فكرية جديدة يقودها الطلاب، وتتجه نحو قضايا التحرّر، وقضايا الحرّية في آن واحد. لقد بدأت أوساط كثيرة، في الولايات المتّحدة وخارجها، وفي منظّمات دولية حقوقية، تؤكّد أنّ هناك انتهاكات واسعة ضدّ الحرّيات في أميركا. إنّ توسّع المظاهرات، إثر اعتقال الطلاب في جامعة كولومبيا، وإلى جامعات أخرى، يشير إلى أزمة متصاعدة في الداخل الأميركي، وفي الإدارة الديمقراطية للبيت الأبيض، وسيستفيد الحزب الجمهوري من أجواء كهذه من أجل المعركة الانتخابية الرئاسية القادمة.

شعار “فلسطين حرّة من النهر إلى البحر”، إضافة إلى شعارات تطالب بإيقاف إطلاق النار والإبادة الجماعية في غزّة، هي أكثر الشعارات أهمّية ضدّ دولة الاحتلال، يتبنى طلاب الجامعات الأميركية مطالبها، وبالضدّ من السردية الصهيونية التي تزعم أنّ فلسطين هي لليهود، وأنّ العرب احتلوها، وأنّ المظاهرات معادية للسامية، وإذ يستقي الطلاب معلوماتهم عمّا يجري من وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّ وسائل الإعلام، والقوات التلفزيونية بصفة خاصّة، تكرّر السردية الصهيونية. إنّ شعارات الحركة الطلابية الأميركية تؤسّس لسردية مناهضة للسردية السائدة، وهي تستقطب كثيرا من النخب الأكاديمية والثقافية والفنّية، وراح التضييق على الطلاب يستقطب القطاعات الشعبية، وتتعزّز الرؤية التحرّرية، وبالتالي، انتقلت قضية فلسطين إلى الداخل الأميركي، ولم تعد محصورة في غزّة، كما أرادت الإدارة الأميركية. ويسهم وجود منظمات يهودية طلابية، ومثقّفين يهود في إطار التحركات الطلابية أو داعمين لها، في تحطيم السردية الصهيونية، ويوضّح فشل زعمها إنّ المشكلة تكمن في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر. وجود هؤلاء اليهود، يوضّح أن قضية غزّة ليست متعلّقة بسلطة “حماس”، بل بوجود دولة احتلالية استيطانية، يجب تفكيكها ليتحرّر اليهود والفلسطينيون معاً، وليتمكّنوا من إقامة دولة، تجمع كلّ سكان فلسطين. الأمر السابق، يستدعي بدوره طرحاً فلسطينياً وعربياً لقضية اليهود في فلسطين والمنطقة العربية، باعتبارهم جزءا من المنطقة، وفي فلسطين، وسيكونون جزءاً من الدولة المستقبلية الجامعة لهما. إنّ وضوح الموقف، عربياً، من اليهود في فلسطين والعالم، مهمّ للغاية من أجل توسعة الرأي العام العالمي، الساعي لتفكيك الدولة الصهيونية. إذاً، وجود كتلة يهودية مناصرة لإيقاف العدوان على غزّة، ولأجل تحرّر فلسطين يَطرح، عربياً وفلسطينياً، ضرورة مقاربة جديدة للعلاقة مع اليهود، بعيداً عن عقلية الشيطنة.

خافت إدارة دولة الاحتلال من “الربيع الطلابي” في أميركا؛ فشبّهه بنيامين نتنياهو بالحراك الطلابي في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، وأنّه سيُفضى إلى “فاشية جديدة”، وهذا بمثابة ضغط على الإدارة الأميركية لتمارس القمع ضدّ الطلاب، وفي الإطار ذاته، أعلن إيتمار بن غفير ضرورة تسليح الطلاب اليهود في أميركا لمواجهة “الإرهابيين” من الطلاب “المعادين للسامية”، ولليهود، وآخرين يُؤكّدون السردية ذاتها. عكس ذلك، ردَّ مثقفون يهود بأنّ الحراك الطلابي ليس ضدّ اليهود، بل هو ضدّ الصهيونية، وضدّ الإبادة الجماعية في غزّة. القضية هنا، أنّ الإدارة الصهيونية، ومعها الأميركية، تشعران بخطر الحراك الطلابي الأميركي، والعالمي، وبخطر انفكاك قطاعات من يهود العالم عنهما. إنّ تعميق هذه المخاطر يقتضي إنتاج سردية فلسطينية عربية تستفيد من التضامن العالمي مع غزّة، والمشكلة هي في تعدّد السرديات: شراكات مع دولة الاحتلال، دولتين، دولة واحدة، تنسيق أمني… إلخ، وفي الانقسامات الفلسطينية، وفي تلكؤ القيادات الفلسطينية عن مواجهة هذه المهمّة، وتزجية الوقت بما لا يسمح للفلسطينيين، ويعاكس رغبتهم، بعقد المجلس الوطني وتوسعة منظمّة التحرير الفلسطينية. وإنّ كلّ تأخير في ذلك، سيشكّل ضرراً كبيراً للقضية الفلسطينية، والاستمرار في تأجيل وقف العدوان على غزّة، وفي النهاية، لن يُستفاد من الحراك العالمي، والطلابي خاصّة، الذي أخاف الإدارتين الأميركية والإسرائيلية، اللتين تعملان على الالتفاف عليه، وإخماده أو تحويله قضايا داخلية محلية، نحو الدفاع عن الحقّ في التعبير، والحرّيات الأكاديمية، وهو ما يُحذّر منه بعض المحلّلين، وبالتالي، تظلُّ فلسطين مُحتلّة، وسكّانها معرضين لمختلف أشكال المظالم والحروب المستمرّة والترانسفير.

العربي الجديد

—————————

بين انتفاضتَيْ 1968 و2024: عناصر التماثل والتباين/ صبحي حديدي

2 – مايو – 2024

قد تتوفر أسباب جدّ قليلة تدفع المرء لاستبعاد سلسلة المقارنات بين انتفاضة 1968، الطلابية أساساً؛ وانتفاضة 2024 الراهنة، التي تتابع إطلاقها شرائح طلابية، هنا أيضاً. تتوفر، في المقابل، أسباب كثيرة متنوعة، في الركائز والمنطلقات كما في الخلفيات والتكوينات، كي يتوقف المرء ذاته أمام مقادير التماثل بين الانتفاضتين؛ من دون إغفال هذا أو ذاك من اعتبارات التباين.

وقبل أيام قليلة أقدمت إدارة جامعة كولومبيا في نيويورك على توقيف الطلاب الذين رفضوا مغادرة مخيّم الاحتجاج على حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، فلم تتأخر مجموعات طلابية في الردّ واحتلال قاعة هاملتون الشهيرة؛ في تكرار، حمّال دلالات شتى، للواقعة التي شهدتها القاعة ذاتها، ولكن يوم 30 نيسان (أبريل) 1968، حين فرّقت شرطة نيويورك الاحتجاجات الطلابية ضدّ حرب أمريكا على فييتنام، واعتقلت 1000 طالبة وطالب.

قبل نيسان 1968، كان شهر كانون الثاني (يناير) من ذلك العام قد دشّن سلسلة من تظاهرات التضامن الطلابية مع الشعب الفييتنامي؛ في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا واليابان وبريطانيا وبلجيكا والولايات المتحدة (شباط/ فبراير، كارولاينا الجنوبية) والجزائر وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والسنغال وفرنسا (22 آذار/ مارس، جامعة نانتير في ضواحي باريس) والبرازيل والسويد والدانمرك وفنلندا والأورغواي وكندا… وصولاً، بالطبع، إلى 2 أيار (مايو) في فرنسا، مع «اليوم العالمي لمناهضة الإمبريالية» وما أعقبه من أيام اعتصامات جامعة السوربون، ونشر الشرطة في الحيّ اللاتيني، والإضراب العام يوم 13، واحتلال مسرح الأوديون وكلية الفنون الجميلة؛ وإحدى أبكر ذرى الانتفاضة، يوم 30، حين أعلن الرئيس الفرنسي شارل دوغول حلّ الجمعية الوطنية.

كلية العلوم السياسية في باريس، أو كما تُعرف أكثر تحت تسمية الـScience Po، لم تكن حينذاك شرارة الاحتجاجات كما هي حالها اليوم، في سنة 2024؛ وليست فرنسا الراهنة، والعاصمة على وجه التحديد، مرشحة للمقارنة بين حراك 1968 ضدّ حرب فييتنام، وحراك هذه الأيام ضدّ حرب الإبادة الإسرائيلية. غير أنّ الموقع الخاصّ المتميز الذي شغلته وتشغله هذه الكلية في صميم جغرافية التظاهرات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، لا يخلّف أثراً عابراً أو محدوداً من حيث طبائع التأثير على الرأي العام الفرنسي بهذا الصدد (سواء لجهة اكتساب التأييد، أو استثارة غضب مجموعات الضغط الإسرائيلية والصهيونية واليهودية، وأحزاب اليمين التقليدي أو أقصى اليمين)؛ فضلاً، بالطبع، عن ردود أفعال قصر الإليزيه بلسان الرئيس الفرنسي ذاته، أو رئيس الحكومة ووزراء الداخلية والتعليم العالي والعدل؛ وليس بمعزل عن غالبية وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، المملوكة غالباً من رجل الأعمال اليميني المحافظ فنسان بولوريه.

إنصاف انتفاضة 1968 الطلابية العالمية قد يقتضي الرجوع إلى كتاب أساسي، وتأسيسي أيضاً، صدر بالإنكليزية سنة 1987، ولم يقتصر على انتفاضة السوربون، بل رصد الصورة الأعرض لنشوء «اليسار الجديد» من وارسو إلى براغ، ومن باريس إلى لندن ومدريد، قبل بلوغ أمريكا الشمالية واليابان. ذلك الكتاب عنوانه «سنة المتاريس: رحلة في 1968» للروائي والمؤرخ البريطاني دافيد كوت، اليساري حتى النخاع، ولكن ذاك الذي أقضّ مضجع الأنظمة الستالينية في أوروبا، حين انقلب إلى شبح يجوس ظلمات عقائد الجمود أينما أرخت سدولها. وذاك كتاب استجمع قسطاً كبيراً من أفضل مزايا كوت في التحليل والتفكيك والتركيب، ومنهجيته الصارمة في اقتفاء أثر الوقائع، ولغته الأدبية الرشيقة التي تخفف من مشاقّ المتابعة الرتيبة لأحداث معروفة، وانحيازه المعلن إلى الماركسية في غمرة النقد الشديد لأصنامها.

كانت حرب الولايات المتحدة على شعب فييتنام هي دافع الاحتجاجات الأبرز في 1968، ومن غير المبالغة الافتراض اليوم أنّ حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني عموماً وقطاع غزّة خصوصاً هي دافع الاحتجاجات الطلابية المتعاظمة في أماكن عديدة من العالم؛ يجوز في قراءة مشهدية اتساعها التشديدُ خصيصاً على الولايات المتحدة وأرجاء أوروبا المختلفة، حيث التأييد الأعمى لدولة الاحتلال انقلب مراراً إلى أنماط من تجميل جرائم الحرب أو حتى التواطؤ فيها وتزويد الإجرام الإسرائيلي بالسلاح والمال والتغطية الإعلامية. وإذا صحّ أنّ المضامين الطبقية المباشرة تغيب اليوم عن حراك التضامن مع فلسطين، ليس كما كانت عليه الحال سنة 1968 حين تقاطعت مطالب التغيير السياسي والاجتماعي مع روحية التضامن ضدّ حرب فييتنام؛ فإنّ اصطفاف قوى اليمين المحافظ ضدّ احتجاجات الطلاب الحالية يوفّر مغزى سياسياً واجتماعياً غير ضئيل، حول الانحيازات الإيديولوجية في الباطن الأعمق من دوافع اعتصامات الطلاب هنا وهناك.

ولعلّ الوجهة الأخرى لعقد المقارنات بين 1968 و2024 تتمثل في استعراض مؤشرات جرائم الحرب في الحالتين، بما يتيح استقراء الدوافع الأعمق، الإنسانية والأخلاقية في المقام الأوّل، التي تحفز الطلاب على الاحتجاج والاعتصام والتضامن والتنديد. السجلّ الإسرائيلي أسفر، حتى الساعة، عن 34.600 شهيد، بمعدلات عالية في صفوف النساء والأطفال؛ و77.816 مصاباً، في شروط طبية وعلاجية شبه منعدمة؛ وجرائم حرب تبدأ من قصف المشافي والمدارس ومراكز اللجوء والإغاثة، ولا تنتهي عند التهجير القسري والتطهير العرقي والعقاب الجماعي. ليست معروفة، بعد، أرقام الكمّ التدميري الوحشي الهائل الذي أنزله جيش الاحتلال بالقطاع، وعواقبه على البشر والبيئة والبنى التحتية سواء في المدى القصير الراهن أو على نطاق المستقبل والعقود المقبلة. القادم أدهى، بالطبع، لأنّ انفلات التوحش الإسرائيلي من كلّ عقال لم يُفتضح تماماً أو في حدود كافية، ويُنتظر بالتالي أن يتكشف عن فظائع أشدّ هولاً ومجازر أكثر دموية.

ليس عجيباً، ولا طارئاً في الأصل والتاريخ، أنّ هذه الولايات المتحدة التي باتت اليوم تنفرد، تقريباً، عن أمم العالم في مساندة التوحش الإسرائيلي والتواطؤ معه وتغذية آلته الإجرامية؛ هي، ذاتها، الدولة التي انتفض طلابها سنة 1968، لأنّ سجلها في التوحش ضدّ الشعب الفييتنامي سجّل سابقة بربرية وهمجية هي الأبشع والأفظع. الجيش الأمريكي قتل أكثر من مليونَي آدمي في فييتنام وكمبوديا ولاوس، وجرح أكثر من 3 ملايين، وشرّد 14 مليون لاجئ في عموم الهند الصينية، ويتّم وأعاق ملايين الأطفال. كذلك أسقط على فييتنام، بشراً وعمراناً، 8 ملايين طن من القنابل و400.000 طن من النابالم، وخلّف 21 مليون حفرة جراء القصف، وصبّ نحو 18 مليون غالون من سوائل مقشِّر أوراق الشجر تاركاً غابات متصحرة انقرضت فيها الطبيعة والطير والحيوان، ونشر أوبئة سرطان الكبد والإجهاض الاضطراري وتشوهات الولادة…

فهل يصعب الافتراض بأنّ مشاهد جرائم الحرب الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة هي المحرّك، الأوّل أو الثاني أو العاشر، وراء استعادة ذاكرة التوحش الأمريكي ضدّ فييتنام لدى طلاب جامعات كولومبيا وهارفارد وييل وماساشوستس والعشرات سواها؟ وإذا كانت الشرائح الشبابية في أمريكا وفرنسا، ومواقع أخرى على امتداد الديمقراطيات الغربية، ليست الرائدة في إيقاظ الضمائر وإطلاق الاحتجاج، فمنذا الذي سيفعلها: في أمريكا جو بايدن/ دونالد ترامب على حدّ سواء، أو في فرنسا إمانويل ماكرون ومارين لوبين بالتكافل والتضامن؟

وليست مفارقة أنّ تهمة العداء للسامية لم تُرفع في وجه الحراكات الاحتجاجية سنة 1968، وأنها اليوم اللافتة المشتركة التي يرفعها بايدن وماكرون؛ فللتاريخ تنويعاته على مآس تتماثل في الكثير من العناصر، ولا تتباين إلا في معدلات التشوّه وأفانين التشويه، حيث لا يبدّل جوهر الحال انقضاء 56 سنة، أو مرور عقد أو قرن.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

—————————–

الحرب على غزّة تتحوّل حرباً على الديمقراطية/ راتب شعبو

01 مايو 2024

الاستباحة العسكرية التي تمارسها إسرائيل على غزّة منذ ما يقارب سبعة أشهر، وغايتها المعلنة تحرير الأسرى الإسرائيليين وتفكيك حركة حماس واستئصالها، تحوّلت أكثر فأكثر، بفعل طول أمد العملية العسكرية وعدم تحقيق أهدافها المعلنة رغم جرائم الحرب المرتكبة، إلى ضغط سياسي ثقيل على حكومات الدول الديمقراطية المؤثّرة في العالم، والتي عرضت موقفاً في مساندة إسرائيل لا نظير له، وصل في بعض هذه الدول إلى تعقّب الآراء المخالفة وممارسة ما اعتبره كثيرون مكارثية جديدة تستبدل الشيوعية بمعاداة السامية.

لا غرابة في أن الإنكار الفعلي الذي تُبديه الحكومات الديمقراطية الرئيسية تجاه حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ودعمها غير المحدود لدولة الاحتلال الإسرائيلي التي ترفض منذ عقود طويلة تنفيذ القرارات الدولية التي كان آخرها قرار مجلس الأمن في 25 مارس/ آذار الماضي، بوقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار في غزّة، يضع الحكومات الغربية تحت ضغط سياسي داخلي، الأمر الذي يجعلها تلجأ، من أجل حماية موقفها غير العادل، إلى تقييد الحريات بشتّى السبل المتاحة لها.

الحكومات الغربية ذات موقع مؤثر في إدارة العالم، وهي محكومة لقواعد ومبادئ وقيم ديمقراطية تضمن تعدّد المواقف السياسية والتعبير السلمي عنها، من الطبيعي، والحال كذلك، أن يمارس المتضامنون مع الفلسطينيين في محنتهم أشكال الضغط الشعبي الممكنة على هذه الحكومات، من أجل دفعها نحو سياسات ومواقف أكثر عدلاً في ما يتعلق بالحرب الإسرائيلية على غزّة اليوم. على هذا، تخدم آليات الحكم الديمقراطية في البلدان الرئيسية في العالم في توفير قنوات لانتقال الصراعات التي تنشأ في محيط العالم المنفعل إلى مركز العالم الفاعل والمؤثّر. يساعد في ذلك ما توفّره التقنيات الحديثة من وسائل التواصل الفوري ونقل المعلومات بما يخفّف إلى حدٍّ لا بأس به من قدرة الحكومات وجماعات المصالح على التحكّم في الإعلام.

يذهب في الاتجاه نفسه ما يشهده العالم من حركات هجرةٍ واسعةٍ تحت ضغوط طبيعية واجتماعية، يتّجه معظمها إلى البلدان الديمقراطية. بحسب تقرير الهجرة في العالم للعام 2022، شكّل المهاجرون في العام 2020 حوالي 3.6% من عدد سكّان العالم، أي حوالي 281 مليون مهاجر. وأن نسبة كبيرة من مهاجري العالم تصل إلى 40%، تعيش في بلدان أوروبا وأميركا الشمالية. هذا يعني أن الهجرة تصنع داخل هذه الدول الرئيسية جمهوراً تعود أصوله إلى مناطق الصراع في الأطراف، ويحمل الثقافات والحساسيات السياسية لشعوب هذه المناطق التي تعاني الصراعات، ويمكن لأفرادٍ من هذا الجمهور الوصول إلى مناصب في الدولة. إلى هذا الجمهور يضاف جمهور آخر من أبناء البلد نفسه ومن غيرهم، من المتضامنين وأصحاب الرؤية السياسية الأقرب إلى مبادئ الإنسانية والعدالة الدولية. والحقيقة أنه في ما يخصّ القضية الفلسطينية، يوجد جمهور غربي كبير ومطّلع، نظراً إلى وضوح القضية وطول أمدها وما تحمله من بعدٍ أخلاقي مؤثر.

للتغلّب على الضغط السياسي الناجم عن مساندتها حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، لجأت الحكومات الغربية إلى التضييق على الجمهور المتضامن مع فلسطين من خلال تقييد الحرّيات بطرق مختلفة، مثل الانحياز الإعلامي والامتناع عن منح تراخيص لمظاهرات التضامن مع الفلسطينيين، واستخدام أجهزة القوة لتفريق مظاهرات لم تُمنح الترخيص، أو استخدام جهاز القضاء لمحاكمة سياسيين خارجين على الخط المنحاز، كما يجري اليوم في فرنسا مع حزب فرنسا الأبيّة الذي جعل الحرب على غزّة الموضوع المركزي في حملته الانتخابية للبرلمان الأوروبي، فقد ألغي مؤتمر تضامني مع فلسطين للحزب في إحدى جامعات شمال فرنسا، واستدعيت إحدى مرشّحات الحزب للبرلمان الأوروبي إلى القضاء بتهمة تبرير الإرهاب (apologie)، كما استدعيت إلى القضاء رئيسة الكتلة النيابية للحزب للسبب نفسه، في خطوة وصفها المعلّقون بأنها قَضْيَنة (juridicisation) للسياسة.

أشار التقرير السنوي لمنظمّة العفو الدولية، الصادر في 24 نيسان/ إبريل الجاري، إلى هذه الممارسات بالقول “إن السلطات الفرنسية قد فرضت قيوداً شديدة وغير مشروعة على الحقّ في التظاهر”، وعن موضوع الحرب على غزّة يقول التقرير “إنه في تشرين الأول/ أكتوبر، عمّم وزير الداخلية الفرنسي على قادة الشرطة في المحافظات طلب منع أي مظاهرةٍ تنظّم تضامناً مع فلسطين، وهو ما يشكّل انتهاكاً غير متناسب وتمييزياً للحقّ في التظاهر السلمي”.

الحال في ألمانيا وفي المملكة المتحدة وبقية الدول الغربية ليس أفضل منه في فرنسا، وإن كان موقف بعض الحكومات الأوروبية، مثل بلجيكا وإسبانيا، أكثر اعتدالاً. يتحدّث التقرير، في ما يخص أوروبا الغربية، عن “ازدواجية المعايير في خطاب دول كثيرة وسياساتها تجاه إسرائيل في مقابل القيود المتزامنة المفروضة على التضامن مع الحقوق الإنسانية للفلسطينيين”.

ما يستوقف في هذه البلدان وجود قدرة لافتة على تهيئة الرأي العام أو حتى تجييشه إلى حد يصبح الرأي المخالف بمثابة وصمة، ويمكن لصاحب الرأي المغاير أن يخشى من تبعات التعبير عن رأيه، حتى يصبح للرأي السائد قوة مستقلة عن الأفراد، بحيث يتبنّاه ويدافع عنه في المجال العام أفراد لا يؤمنون به في الحقيقة، كما في مسرحية ناظم حكمت “البقرة”. كان هذا ملحوظاً على سبيل المثال في الرأي حيال الغزو الروسي أوكرانيا، وتراه اليوم في الرأي حيال موضوع ترويج المثلية الجنسية، والشيء نفسه كان واضحاً حيال الحرب الإسرائيلية على غزّة، وشكّل ستاراً لممارسة إعلامية شديدة التحيّز. في جميع هذه الحالات “يُفرض” موقف موحد مدعوم بتغطية إعلامية كثيفة، ويتّسم بالهجومية والقطعية والنفور من أي تلكؤ أو استدراك. ولافتةٌ قدرة هذه الظاهرة على الثبات في وجه توفّر وسائل الاتصال والنشر الإلكترونية ووجود قنوات إعلام فردية تتفوّق أحياناً على محطّات تلفزيونية في عدد المشاهدين.

هكذا يبدو أن الحرب الإسرائيلية على غزّة في انتهاكها المعايير الإنسانية والقانونية، تتحوّل في الغرب إلى حرب على الديمقراطية تشنّها حكومات غير عادلة في تعاملها مع الموضوع الفلسطيني، لتخفيف الضغط عنها من خلال تقييد حركة التضامن مع فلسطين.

العربي الجديد

——————————

ماذا فعلت حرب غزة بالغرب وقيمه؟/ بكر صدقي

1 – مايو – 2024

اقتحمت قوات الشرطة الأمريكية حرم جامعة كولومبيا في نيويورك وفضوا تجمعات الطلاب وأزالوا خيمهم بالقوة، يوم الثلاثاء، واعتقلوا مئات الطلاب المحتجين على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ سبعة أشهر.

هذه أحدث وقائع المعركة التي تخوضها الحكومات الغربية، منذ السابع من تشرين الأول، في مواجهة الاحتجاجات السلمية المتصاعدة في مختلف المدن الأمريكية والأوروبية تضامناً مع الشعب الفلسطيني، بالتوازي مع قمع أي بوادر تعبير عن الرأي في وسائل الإعلام المجيّرة بالكامل لدعم ما تسميه «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» ولوصم أي انتقاد للفظاعات التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين بـ«معاداة السامية».

بل إن محاولات قمع الاحتجاجات الطلابية لم تقتصر على هؤلاء، بل تجاوزتهم لتطال رؤساء جامعات مرموقة في الولايات المتحدة لأنهم لم يمنعوا تلك الاحتجاجات! فقد أرغمت رئيسات جامعات بنسلفانيا وهارفارد وماساشوستس على الاستقالة بعد جلسات استماع في الكونغرس، وبعد تعرض إدارات تلك الجامعات لتهديدات بسحب التبرعات المقدمة إليها من أثرياء مؤيدين لإسرائيل. وكانت الذرائع المقدمة لتبرير الضغوط على رؤساء الجامعات هو أن الطلاب المحتجين أطلقوا شعارات أو وزعوا منشورات تنطوي على «معاداة السامية» أو «تحرّض على إبادة اليهود»! ولم يشفع للمتهمين أن بين المحتجين يهوداً يتبرؤون من وحشية إسرائيل.

وبات اعتقال المشاركين في المظاهرات الاحتجاجية في مختلف المدن الأمريكية والأوروبية واستخدام القوة لفض المظاهرات والتجمعات حدثاً يومياً مألوفاً، على رغم أن تهمة الإبادة التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين لم تعد كلاماً مرسلاً بل تتمتع بأساس قانوني وينظر فيها أمام محكمة الجنايات الدولية، بل هناك توقعات عن قرب إصدارها مذكرات توقيف بحق نتنياهو وقادة سياسيين وعسكريين في إسرائيل.

قد لا يكون غريباً استخدام مفهوم معاداة السامية لقمع أي صوت معارض لإسرائيل في الدول الغربية، فقد تعرض كثير من المفكرين وصناع الرأي لمحاكمات بهذه التهمة في العقود الماضية، لكن الغريب هو هذا الاستسهال في استخدامها اليوم لقمع أي رأي مخالف للتوجهات الرسمية لتلك الحكومات في الوقت الذي لا يمكن لأحد إنكار فظاعات الجيش الإسرائيلي المرتكبة الآن على مرأى ومسمع العالم، ولم توفر حتى عمال إغاثة أجانب وطوابير الفلسطينيين الذين يتجمعون لاستلام المساعدات الغذائية الدولية.

ربما في الأيام الأولى التي أعقبت «طوفان الأقصى» كان بوسع الحكومات الغربية أن تسوّغ دعمها السياسي والعسكري والمالي والإعلامي المطلق لحرب إسرائيل في ظل الصدمة التي أصابت الرأي العام بفعل عملية حماس والعدد الكبير من القتلى والأسرى في صفوف العسكريين والمستوطنين الإسرائيليين، من خلال صنع صورة شيطانية عن حماس للتغطية على الرد الإسرائيلي الوحشي، باعتبار أن إسرائيل تعرضت لاعتداء «إرهابي» تم تشبيهه في وسائل الإعلام بهجمات الحادي عشر من أيلول 2001. لكن الأمور سرعان ما تغيرت بوضوح أمام الرأي العام الذي بات يرى فيما تقترفه ضد الفلسطينيين حرب إبادة كاملة الأركان. كما أظهرت القيادة الإسرائيلية أنها لا تحفل كثيراً بحياة أسراها لدى حماس الذين قتل عدد منهم بفعل القصف الإسرائيلي، وذلك من خلال رفضها العرض الذي قدمته الحركة لمبادلتهم بآلاف الأسرى الفلسطينيين مع شرط وقف إطلاق النار.

وهكذا كان من الطبيعي أن تظهر ردود الفعل الاحتجاجية على الحرب كما على الدعم المطلق الذي تقدمه الحكومات الغربية لإسرائيل لتتمكن من مواصلة حربها الإبادية.

الغريب هو استمرار التضييق الغربي على حرية التعبير حين يتعلق بالتضامن مع الفلسطينيين وإدانة حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل ضدهم، على رغم أن الإجراءات القمعية لم تمنع استمرار الاحتجاجات وتصاعدها المطرد على إيقاع المجازر اليومية في صفوف المدنيين الفلسطينيين في غزة والضفة والغربية وارتفاع أعداد القتلى بصورة مهولة، إضافة إلى التهديد اليومي باجتياح آخر معقل للنازحين في مدينة رفح. فرواية «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» التي ربما كانت مقبولة نسبياً لدى الرأي العام الغربي، تآكلت بمرور الوقت وانقلبت الأدوار بين القاتل والضحية، لكن الإجراءات القمعية لم تتوقف بعناد يصعب فهمه. صحيح أن الإدارة الأمريكية غيرت لهجتها نسبياً تجاه إسرائيل في الأشهر الأخيرة، لكن الدعم المادي والعسكري استمر في تصاعده، على رغم أن المؤشرات باتت تتحدث عن احتمال خسارة بايدن في الانتخابات الرئاسية القادمة بسبب هذه السياسة المتطرفة في دعم إسرائيل.

ليس ثمة تعارض بين الدعم المطلق لإسرائيل وعدم التعرض لمظاهر الاحتجاج ضد الحرب وضد هذا الدعم. من المفترض أن تلك الدول الديمقراطية يتسع صدرها لمختلف وجهات النظر بما في ذلك تلك المتعارضة مع السياسة الرسمية. ليس هناك تفسير مقنع يبرر تخلي تلك الحكومات عن قيمها الديمقراطية، وما يترتب على ذلك من زيادة التطرف ليس فقط في البلدان ذات الحساسية العالية تجاه القضية الفلسطينية، بل كذلك في البلدان الغربية نفسها. كيف يمكن للساسة الغربيين بعد اليوم أن ينتقدوا الدول المحكومة بأنظمة استبدادية أو يفرضوا عليهم العقوبات بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان، في الوقت الذي تنتهك بنفسها حرية التعبير في بلدانها؟

الخلاصة أن إسرائيل التي تجاوزت كل الحدود في انتهاك القوانين والمعايير الدولية للحروب تمكنت من جر بلدان ديمقراطية إلى هذا الدرك الأسفل.

هذه المقالة غير موجهة لأولئك الذين لا يفاجئهم شيء ويعرفون منذ العصور السحيقة أن الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يرفع الغرب شعاراتها إنما هي كذبة، وأن الحل الوحيد هو الحرب العدمية على كل شيء.

كاتب سوري

القدس العربي

———————————

في اتساع احتجاجات طلبة الجامعات الأميركية/ عمر كوش

28 ابريل 2024

اتسعت رقعة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية ضدّ الحرب الإسرائيلية على غزّة، وامتد نطاقها إلى خارج الحرم الجامعي في جامعة كولومبيا، ليصل إلى جامعة جورج واشنطن العريقة في العاصمة الأميركية، التي أسّسها أول رئيس للولايات المتّحدة في عام 1821، وإلى جامعات مرموقة أخرى مثل جامعة نيويورك وييل، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة نورث كارولاينا وتكساس، وسواها، وذلك رغم إجراءات اتّخذتها إدارات بعض الجامعات، والتعامل العنيف والتمييزي لعناصر الشرطة الأميركية، الذين لم يتردّدوا في استخدام العنف، والاعتداء بالضرب على مجموعات من الأكاديميين والطلبة، واعتقلوا عديداً منهم. ولعلّها المرة الأولى التي تدين فيها منظّمة العفو الدولية “التعامل العرقي والقمعي”، الذي واجهته احتجاجات الطلاب الداعمة حقوق الفلسطينيين، والمندّدة بما ترتكبه إسرائيل من جرائم ضدّهم.

تدخل احتجاجات الجامعات الأميركية ضمن موجةِ تضامنٍ عالميٍ واسعةٍ مع القضية الفلسطينية، تطالب بوقف الحرب الإسرائيلية التي تشنّها إسرائيل منذ أكثر من ستّة أشهر. ومن الطبيعي أن تُلهم هذه الاحتجاجات طلاب جامعاتٍ أخرى في العالم، إذ تظاهر طلاب جامعة السوربون في باريس، ولأول مرة منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزّة، دعماً لفلسطين، وعبّروا عن احتجاجهم على الحرب الإسرائيلية خلال إلقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محاضرة له في الجامعة، وقاطعوا خطابَه على خلفية الموقف الفرنسي من الحرب الإسرائيلية على غزّة. وكذلك، احتجّ طلاب في الجامعة الأميركية في القاهرة. ومن المرجّح أن تصل شرارات الاحتجاج إلى جامعات أخرى في أوروبا وسواها.

ليست هي المرّة الأولى التي يعتصم فيها طلاب جامعات أميركية داخل الحرم الجامعي احتجاجاً على سياسات بلادهم، بل خرجوا في مناسبات عديدة إلى شوارع المدن والساحات رافعين شعارات احتجاج غاضبة ضدّ قضايا وسياسات معيّنة. وكانت أبرزُ احتجاجاتِهم موجّهةً ضدّ حرب فيتنام، وضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ودفاعاً عن مطالب الحقوق المدنية التي أسهمت بإنهاء التمييز ضدّ الأميركيين من أصل أفريقي. كما أنّهم حملوا مطالبات التغيير في قضايا ترتبط بسياسات حكومات بلادهم، وإدارات جامعاتهم، وأنظمتها التعليمية، وسوى ذلك.

وأثارت هذه الاحتجاجات العارمة ضدّ الحرب الإسرائيلية، التي أضحت تشكّل ظاهرةً لافتةً في الولايات المتّحدة، جنون قادة حكومة الحرب الإسرائيلية على غزّة، فوصف بنيامين نتنياهو ما يحدث في جامعات أميركية بأنّه “مُروّع”، واتهم “غوغاء معادين للسامية” بالسيطرة على الجامعات الأميركية البارزة. ولعلّ المثير للسخرية والاستهجان تشبيهه الولايات المتّحدة بألمانيا خلال فترة ثمانينيات القرن العشرين المنصرم، في إيحاء مُخاتِلٍ وزائفٍ للفترة التي انتشرت فيها النازية وانتقلت إلى أوروبا. ولم تسعف نتنياهو، الذي أصابته الاحتجاجات بنوع من الهلوسة، عودته إلى عُدّته القديمة، متهماً كلّ الفلسطينيين والمتضامنين معهم بـ”معاداة السامية” التي أوجدها أسلاف الأوروبيين الداعمين لحرب الإبادة الجماعية، التي يشنّها نتنياهو وحكومته على الفلسطينيين في القطاع. أمّا وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، فقد طلب من قائد جهاز الأمن الإسرائيلي تشكيل مجموعات مُسلّحة أو بالأحرى مليشيات من أجل “حماية الجاليات اليهودية هناك”. ويعكس طلبه عقلية رجل العصابة، الذي يريد تشكيل مليشيات إسرائيلية مُسلّحة من أجل قمع الطلاب الأميركيين وسواهم في دول العالم الأخرى، بغية إسكاتهم ومنعهم من مواصلة الاحتجاجات التي يقومون بها في جامعاتهم، وذلك تيمّناً بما يقوم به عناصر وزارته من تعذيب وتضييق على الأسرى، ومن دعم وإسناد للمستوطنين في اعتداءاتهم على الفلسطينيين في الضفّة الغربية، وحمايتهم خلال ممارستهم أفعال تدمير وتخريب وحرق ممتلكات الفلسطينيين.

ويظهر التاريخ الاحتجاجي أنّ معظم الاحتجاجات الطلابية كانت لها تأثيرات عميقة على المجتمع والمشهد السياسي الأميركي العام، وشكّلت محطاتٍ فارقةً في مسار النضال المطلبي من أجل الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية، وطاولت تداعياتها نُظُمَ عملِ وسياساتِ الجامعات الأميركية.

أطلق الطلبة في احتجاجاتهم دعوات لوقف دائم لإطلاق النار في غزّة، وطالبوا بإنهاء تقديم المساعدات المالية والعسكرية الأميركية لإسرائيل، وسحب استثمارات الجامعات من شركات توريد الأسلحة، وغيرها من الشركات المستفيدة من الحرب، والعفو عن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين تعرّضوا لإجراءات تأديبية أو الطرد بسبب الاحتجاجات. لكن دعواتهم ومطالبهم لم تجد آذاناً صاغية لدى الإدارة الأميركية، الماضية في دعم إسرائيل على مختلف المستويات. كما أنّ إدارات جامعاتهم لم تلتفت إلى مطالباتهم بكشف جميع علاقات تلك الجامعات مع إسرائيل، واستثماراتها فيها، ولا قطع العلاقات مع جامعات إسرائيل.

العامل الأساس الذي دفع إلى زيادة زخم حركة الاحتجاج الطلابي، هو قرارات الإدارات الجامعية وإجراءاتها الصارمة، التي يعتبرها المحتجّون انتهاكاً لحرّيتهم في التعبير عن الرأي بشكل سلمي، إذ قرّرت جامعة كولومبيا، في نوفمبر/ كانون الأول عام 2023، تعليق نشاط مجموعتي “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” و”الصوت اليهودي من أجل السلام”. ثمّ وصل الأمر إلى حدّ أنّ رئيسة الجامعة نعمت (مينوش) شفيق، استدعت شرطة نيويورك لإخلاء مخيّم اعتصام الطلبة في حرم الجامعة، بعد يوم من إدلائها بشهادتها أمام لجنة في مجلس النوّاب الأميركي، ثمّ قررت اعتماد نظام دراسة هجين، يجمع بين الحضور الشخصي والافتراضي. كان متوقّعاً أن يقابل قرار رئيسة جامعة كولومبيا استدعاء الشرطة إلى الحرم الجامعي بردّات فعل غاضبة من أعداد كبيرة من الطلبة، ومن أعضاء في هيئة التدريس، لكنّ القرار يعكس مدى ارتهان رؤساء الجامعات، وخوفهم من ضغوط الساسة والمشرّعين، وذلك بعد المحاكمات والاستدعاءات التي تعرّض لها رؤساء جامعات، وأفضت إلى استقالة رئيسي جامعتي هارفارد وبنسلفانيا.

ويبدو أنّ الدرس الذي تعلّمه رؤساء الجامعات الأخرى هو أنّه يترتب عليهم الظهور بمظهر المُتشدّد أمام موجة الاحتجاجات والتظاهرات، ما يعني أنّهم باتوا تحت ضغط نوع جديد من المكارثية، التي فعلت فعلها في الولايات المتحدة في خمسينيات القرن العشرين المنصرم. لكنّ الولايات المتّحدة تغيّرت كثيراً، وما تشهده من حراك احتجاجي في الفترة الراهنة يقوده الشباب، وسيكون له أثر كبير على صورتها، وقد يُفضي إلى تغيرات واسعة في سياساتها الحالية.

العربي الجديد

—————————-

الإنصات إلى طلاب أميركا/ بيار عقيقي

27 ابريل 2024

هل يُنصت من هم مثلنا في الشرق الأوسط إلى هدير الطلاب في الجامعات الأميركية، دعماً لفلسطين وتنديداً بالعدوان الإسرائيلي عليها؟ أن تشاهد وتقرأ وتسمع شيء، وأن تُنصِت شيءٌ آخر. هناك، يصنع الطلّاب المتحدّرون من خلفيات عرقية ودينية عدّة سياقاً جديداً للسياسة الأميركية، كما فعل أسلافهم رفضاً لحرب فيتنام، ثمّ لمنع الأسلحة النووية، وصولاً إلى الاعتراضات الهائلة ضدّ حربي العراق وأفغانستان. في كلّ الاحتجاجات السابقة، لم يسقط النظام الأميركي، بل استوعب المتغيّرات، مثلما فعل مع حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي. والأكيد أنّه سيستوعب الاحتجاجات الحالية المُمتدّة من جامعات الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي، في بلاد الـ9.1 ملايين كيلومتر مربع.

يرفع الطلاب منذ أيام أعلاماً فلسطينية في تظاهراتهم واعتصاماتهم، وفي ذلك إيمانٌ، أرادوا ذلك أم لا، بأنّ أيّ نوع من التقدّم البشري في الكوكب، لا يستقيم من دون تحقيق العدالة لفئات بشرية فيه. تاريخ البشر يزخر بالظلم، الذي لن يتوقّف مستقبلاً طالما أنّ الوعي مُغيّب والغرائز المتفلّتة حاكمة، غير أنّ الومضات التاريخية لحراك شباب، من المفترض أن يقودوا لاحقاً مجتمعاتهم الصغيرة والكبيرة في الولايات المتّحدة (ولمَ لا يصل أحدهم إلى رئاسة الجمهورية في حقبة ما؟)، تُظهر أنّ بلاداً مثل الولايات المتّحدة قادرة على استيعاب مختلف الأفكار والعقائد، ما دام حكم القانون، الذي ارتضاه كلّ الأميركيين، هو السائد.

لم يخرُج بعد في واشنطن من يقول إنّ “السفارات تحرّك الطلاب”، وإنّ “أجهزة مخابراتية تابعة لدول عدوّة تريد ضرب الاستقرار الوطني”، وإنّ “القومية والشعب والدين في خطر بفعل الاحتجاجات المشبوهة”، وصولاً إلى آخر المعزوفة عن “اكتشاف خلايا لعملاء”، أو في أفضل الأحوال “كان المتظاهرون مغشوشين”. نسمع دائماً أنّ هناك تقليلاً من شأن الوعي والتفكير عند الطلاب، والشباب عموماً، على قاعدة أنّ كبار السن وحدهم “الحكماء”. لو كان الأمر كذلك، لما أُرسل شبّانٌ لم يتجاوزوا سن الـ25 إلى القتال في حروب يجلس قادتها خلف المكاتب، ويرفعون شعاراتهم الطنّانة. تسمع على ألسنة متطرّفين أميركيين اتهامات للطلاب بالانتماء لحركة حماس أو معسكر يساري، لكنّه ليس موقفاً رسميّاً، كما حصل ويحصل في عديدٍ من دولنا العربية.

في المقابل، لم تخرج جامعات في روسيا والصين وإيران وفنزويلا، على سبيل المثال لا الحصر، للتنديد بالاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، في غزّة والضفّة الغربية المحتلّة. هؤلاء لا يطلبون أكثر من كرسيّ إلى جانب النظام الأميركي، لا محاولة القضاء عليه. موسكو مشغولة بإيجاد أيديولوجية عرقية باسم “القومية الروسية”، فيما طلّاب أميركا تجاوزوا كلّ ما يمكن وصفه بالاختلافات العرقية والدينية والثقافية من أجل عدالة فلسطين. بكين منهمكة في إحكام قبضتها على سكّانها ومراقبة كلّ حركة لهم، لأنّ “للحرية حدوداً”. طهران مندفعةٌ إلى الحفاظ على مكتسباتها الإقليمية باسم فلسطين، لا من أجل فلسطين، بل من أجل أحلام عتيقة. كراكاس تسعى للحلول مكان هافانا في سلّم أولويات موسكو، لا أكثر. كلّه باسم فلسطين.

من المهم العودة إلى شعار “الموت لأميركا” في هذه الحمأة، ومعرفة أنّ التنميط والتعميم في عالم يقدر فيه شخص ياباني على مشاهدة آخر إكوادوري مثلاً، وهو ينشر يوميّاته في تسلق جبال الأنديز، يُعدّان تجميداً لأيّ فكر تطوّري. ليس في الجامعات الأميركية من يهدّد الطلاب، في المستوى الرسمي، أنّهم سينالون عقاباً لأنهم تكلّموا سعياً للعدالة فقط. في المقابل، يحتّم الصدق في الدفاع عن القضية الفلسطينية على المتصالحين مع أنفسهم، والواقفين على الجانب الصحيح من التاريخ، معرفة أنّ العدالة لا تتحقّق إذا ادّعى طرفٌ واحدٌ دفاعه عن فلسطين والفلسطينيين، لقمع كلّ مدافع آخر، سواء باسم أيديولوجية دينية أو سياسية. ما يفعله طلاب أميركا هو تأكيد أنّ العدالة تبقى أسمى من أيّ محاولة للاستئثار بأهم قضية على وجه الأرض.

العربي الجديد

——————————

قمع التضامن مع غزة/ سنان أنطون

26 – أبريل – 2024

لطالما كانت الجامعات في الولايات المتحدة ساحات تخاض فيها الصراعات الأيديولوجية، داخل قاعات المحاضرات، وخارجها أيضاً، حيث يحتدم الجدل، فهي، أي الجامعات، في أفضل حالاتها ومواسمها، أرض خصبة لرفض السائد ثقافياً وسياسيا، والتشكيك بهما، وللوقوف بوجه تمثّلات وتمظهرات الأبوية السياسية والسلطوية الفكرية والاجتماعية ولتكوين وإنضاج وعي نقدي. وهذا يجعلها هدفاً مفضّلاً لليمين والمحافظين الذين يشوهون صورتها، خصوصاً حين تتمرد، فيتهمونها بالتطرّف وتشجيع العنف والتخريب، ولعل ذلك يتجلّى في أزمنة الحروب والأزمات الكبرى التي تعصف بالعالم فتوحّد وتقسم شرائح المجتمع. هناك تاريخ عريق للحراك الطلابي في الولايات المتحدة، يعود إلى سنين مناهضة حرب فيتنام، وبعدها موجة النضال ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب افريقيا، الذي كانت الولايات المتحدة من داعميه الرئيسيين، والمطالبة بسحب الاستثمارات من اقتصاده. ويمكننا أن نضيف الحراك ضد حروب أفغانستان والعراق في بدايات الألفية، وبعدها موجة «حياة السود مهمة» ضد العنصرية المؤسساتية وعنف الشرطة ضد الأقليّات في السنين الأخيرة.

منذ بدء الحرب على غزة أظهرت ليندا ملز رئيسة جامعة نيويورك، مثل غيرها من رئيسات ورؤساء كبرى جامعات الولايات المتحدة، انحيازها الواضح ودعمها الصريح لإسرائيل، قولاً وفعلاً، وبينما سارعت رئيسة جامعتنا للتنديد بهجوم السابع من أكتوبر، وصنفته في خانة الإرهاب في الرسائل التي وجهتها إلى الطلاب والأساتذة، وطالبت بإطلاق الأسرى الإسرائيليين، فإنها لم تندد ولا مرة بحرب الإبادة الإسرائيلية والقصف الوحشي المستمر. ولم ترد مفردة «الإبادة» أو «غزة» أو «الفلسطينيين» في أي من بيانات رئيسة الجامعة ورسائلها، التي تتميّز بلغة هلامية تتحدث عن «الحرب في الشرق الأوسط» و «الأوضاع الصعبة» وما شابه.

ولم تحرك الرئيسة، ولا مَن حولها ساكناً، حتى بعد تدمير كل جامعات غزّة واغتيال مئات الأساتذة وحرمان عشرات الآلاف من الطلاب من سنة دراسية، بل سنوات من مستقبلهم. وحرصت إدارة الجامعة وعمادات الكليات على توبيخ ومعاقبة الطلبة، وعدد من الأساتذة، لأنهم عبروا عن تضامنهم مع غزة، بتوجيه الإنذارات، أو حتى الفصل من الجامعة، لأنهم نزعوا أو مزقوا صور الأسرى الإسرائيليين التي تم وضعها من قبل جهات صهيونية من خارج الجامعة، أو توجيه تنبيه لطلاب وأساتذة لقراءة أشعار من فلسطين في باحة المكتبة! كما غيّرت الجامعة القوانين أكثر من مرّة، فخرجت بقانون جديد يمنع وضع أي ملصقات على الجدران داخل البنايات، أو خارجها، وفعلت ذلك مباشرة بعد أن بدأ الطلاب يعلقون شعارات تتضامن مع غزة وتندد بالإبادة. وبعد أن رفع عدد من الطلاب الصهاينة بتشجيع من ذويهم دعوى ضد الجامعة تتهمها بعدم توفير الحماية الكافية للطلاب اليهود، أعلنت رئيسة الجامعة تأسيس مركز لدراسة المعاداة للسامية، ونظم أول نشاطاته قبل أسبوعين. كما أوقعت عقوبات قاسية بحق طلاب وأساتذة وتم فصلهم من الجامعة، من أجل أن تستخدم هذه كأدلة على نواياها ولإثبات موقفها الحازم وإسقاط الدعوى.

اختار أعضاء «طلاب من أجل العدالة في فلسطين» ورفاقهم باحة «غولد» أمام بناية كلية الأعمال المطلة على أحد الشوارع التي يمر منها الطلاب من وإلى محاضراتهم ليقيموا مخيّم غزة. نصبوا خيمهم في الرابعة من صباح الإثنين الثاني والعشرين من أبريل، واختاروا ذلك التوقيت المبكر بالذات لوجود أقل عدد من أفراد ومسؤولي الأمن الجامعي، الذين يسارعون منذ بداية الحرب على غزة إلى التضييق على أي فعالية، ومنع الطلاب من ممارسة حقهم في حرية التعبير والتظاهر السلمي، فقد أغلقت الجامعة مدرجا في إحدى البنايات الكبيرة، كان الطلاب يستخدمونه دائماً للفعاليات السياسية والنشاطات وللتظاهر ووضع الملصقات. وحين استخدم الطلاب باحة بناية أخرى، وهي حيّز عام قانونياً، حسب العقد الذي وقعته الجامعة مع مدينة نيويورك قبل إنشاء البناية، أصدرت إدارة الجامعة تعليماتها بالتضييق على الطلاب. واستدعت شرطة مدينة نيويورك قبل كل فعالية لمراقبة الطلاب. حين اكتشف نائب رئيسة الجامعة المسؤول عن الأمن المخيم في الصباح الباكر طالب بإزالته حالاً. وحين سُئِل عن السبب ادّعى أن الموقع «ملكية خاصة»، وكأن الطلاب قدموا من مكان آخر وليسوا في حرم جامعتهم، بدأ أفراد أمن الجامعة بالتضييق على المخيم والاعتصام مبكراً، فوضعوا حواجز حديدية حول الساحة لمنع المزيد من الطلاب والأساتذة من الانضمام بعد انتهاء محاضراتهم، ولم يسمحوا لأي شخص بالدخول إلا إذا خرج آخر ليحل محله. لم أتمكّن من الدخول إلا حين تركت واحدة من زميلاتي. وبحلول الظهر تجمع عدد كبير من الطلاب المؤيدين والراغبين بالانضمام على الرصيف المجاور للساحة. وأشهروا هوياتهم مطالبين بالدخول، لكن أفراد الأمن كانوا يمنعونهم، ثم عبر حوالي عشرين منهم الحواجز الحديدية وانضموا إلى الاعتصام دون أن يوقفهم أحد. ادّعت رئيسة الجامعة في ما بعد في بيان أصدرته أن ذلك كان «اقتحاماً» أدى إلى دخول «عناصر» أخرى. حين أخبَرَنا مسؤول الأمن بهذا الادعاء، اقترحنا عليه أن يقوم الأساتذة، الذين يراقبون الاعتصام والذين جاءوا، كالعادة، لدعم الطلبة، بتدقيق هويات الطلاب للتأكد من أنهم جميعا من طلاب جامعتنا، لكنه رفض. قيل لنا بعدها بساعة إن رئيسة الجامعة ستأتي إلى الساحة للتفاوض مع الأساتذة والطلاب، لكنها لم تظهر. الذي ظهر في سماء الجامعة هو طائرة مسيرة تابعة لشرطة نيويورك تراقب المشهد. في الرابعة طلبت الجامعة من الطلاب إخلاء الساحة، ولكنهم رفضوا.

كان الاعتصام سلمياً والأجواء حماسية، لكن بلا أي توتّر أو عنف، أما الهتافات والشعارات فكانت ذاتها التي يرددها المتظاهرون هذه الأيام في كل مكان.. هتافات تنادي بالتضامن مع أهل غزة وتدعو لوقف إطلاق النار، وتندد بالإبادة الوحشية وباشتراك الولايات المتحدة بالجريمة، ولافتات تنادي بتحرير فلسطين وإنهاء الاحتلال. أما المطالب الخاصة بالجامعة، وهي ليست وليدة الساعة، بل تعود لسنوات خلت عند تأسيس حركة المقاطعة الأكاديمية، فتطالب بالشفافية بخصوص استثمارات الجامعة، كما تطالب بسحب الاستثمارات من الشركات الإسرائيلية، وتلك المساهمة بالاحتلال، وإغلاق فرع جامعة نيويورك في تل أبيب ومقاطعة الجامعات الإسرائيلية. وقرأت واحدة من زميلاتنا وهي مؤرخة، رسالة كان قد كتبها عدد من الأساتذة اليهود ووجهوها إلى إدارة الجامعة، نددوا فيها بالتضييق والقمع وباستخدام تهمة العداء للسامية لإسكات وتجريم كل من ينتقد إسرائيل، ويندد بحرب الإبادة التي تشنها، كما نددوا بالخلط المتعمد بين معاداة الصهيونية والعداء للسامية. احتفل الطلاب اليهود المشتركين في الاعتصام بعيد الفصح، وصلى الطلبة المسلمون المغرب بعدها. أذكر كل هذا لتفنيد ما ذكرته رئيسة الجامعة ورددته وسائل الإعلام الأمريكية. قبيل المغرب كانت عربات الشرطة وعشرات رجال الشرطة قد طوقوا المنطقة، وصدر أمر من أمن الجامعة يمنع الطلاب من الخروج أو الدخول إلى أي بناية. وبدا واضحاً أنهم يستعدون للتحرك. استدعت الجامعة وحدة خاصة من شرطة نيويورك، هي «مجموعة الرد الاستراتيجي» التي تأسست عام 2015 خصيصاً لمواجهة الإرهاب والمعارضة السياسية. وكانت قد انتُقدت مراراً لاستخدامها أساليب عسكرية شديدة العنف ضد تظاهرات حركة «حياة السود مهمة»، حتى إن منظمة «هيومان رايتس ووتش» أصدرت تقريرا في 2020 يتهم هذه الوحدة بخروقات لحقوق الإنسان والحقوق الدستورية.

حين علمنا باستعداد الشرطة لاقتحام المخيم والقبض على الطلاب، وقف الأساتذة مشكّلين حاجزاً بشرياً من صفّين لحماية الطلبة. لكن رجال الشرطة قبضوا علينا وعلى عشرات الطلبة وقيدوا معاصمنا واقتادونا إلى عربة الشرطة التي أخذتنا إلى مركز الشرطة الرئيسي. بعد أخذ معلوماتنا وصورنا، وضعونا في زنازين مع زملائنا وطلابنا لساعات، ثم أطلقوا سراحنا بعد تحديد موعد للمثول أمام المحكمة الشهر المقبل بتهمة «التجاوز». أرسلت رئيسة الجامعة في اليوم التالي رسالة مليئة بالأكاذيب تدّعي حدوث شغب وفوضى تخللتها أقوال معادية للسامية لتبرير قرارها. وقد أغضب هذا الكثير من الأساتذة والطلاب الذين استهجنوا قيام الإدارة باستدعاء الشرطة إلى الحرم الجامعي لقمع اعتصام سلمي واعتقال الأساتذة والطلاب. في اليوم التالي، تم وضع حاجز عال حول الساحة يمنع الدخول إليها. وبعد ساعات بدأ الطلاب يكتبون شعارات منددة بالحرب وبقمع حرية التعبير على الجدار. وفي اليوم التالي كانت هناك مظاهرة أمام الجدار وأخرى أمام مسكن الرئيسة. وهناك خطط لإقامة المخيم من جديد في مكان آخر في الجامعة. وهناك رسائل من عدد من الأقسام وحملة لجمع التواقيع للتصويت على سحب الثقة من رئيسة الجامعة والمطالبة باستقالتها. وهناك اليوم عشرات المخيمات وموجة احتجاجات تجتاح الجامعات.

كاتب عراقي وأستاذ في جامعة نيويورك

القدس العربي

——————————-

انتفاضة الجامعات الأميركية/ جمانة فرحات

26 ابريل 2024

تجسّد المشاهد الآتية من جامعات عدة في أميركا، بما في ذلك جامعة كولومبيا، أوضح صورة عن التضامن الشبابي الطلابي مع القضية الفلسطينية وأهميته. صحيحٌ أن الطلاب ينطلقون في حراكهم من رفض العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزّة، وتحرّكهم المجازر اليومية المستمرة منذ أكثر من ستة أشهر بدعم وغطاء غربي يخفّ حيناً لكنه لا يتلاشى، ويتكيّف مع كل مرحلة، لكن الصحيح أيضاً أن حراكهم يعبّر عن رفض موقف الإدارة الأميركية الداعم لإسرائيل إلى أقصى مدى ممكن، بحيث تصبح المجازر بحق الفلسطينيين مجرّد وجهة نظر، وكذلك المقابر الجماعية، وتبرئة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من جميع مزاعم الاحتلال. وبالنسبة لإدارة بايدن، وحدها سردية الاحتلال تستحق الترويج، بغض النظر عن حجم الأكاذيب التي تحتويها ومستوى التضليل الذي يعتريها. كما أنهم ينخرطون في المواجهة انطلاقاً من وعيهم أن انتقاد جرائم الاحتلال اليوم لم يعد كافياً، وإنْ كان مهماً، ولذلك لا بد من إجراءات ليس أقلها مطلبهم بوقف استثمارات الجامعة في دولة الاحتلال.

وفي صلب هذه الأحداث، وجد الطلاب أنفسهم حكماً يخوضون معركة أخرى لا تقلّ أهمية ضد قمع رأيهم ومنعهم من الحراك. وهم يدركون جيداً أنه إذا كان العنوان اليوم القضية الفلسطينية والمجزرة في غزّة، فإنه قد يتغير بعد سنوات، وتحلّ حرب وإبادة أخرى، لكن القيود قد تصبح أشد في حينه، إن سمحوا للسلطات بالتمادي في أساليب الترهيب والقمع.

و”الجيد” أنه كلما زادت حملة التحريض والتشويه ضد الطلاب، تمكن ملاحظة اتّساع الحركة الاحتجاجية، حتى إن هناك من بات يشبهها بما جرى في 1970 إبان الاحتجاجات على حرب فيتنام. وليس الانقسام اليوم بشأن العدوان على غزّة بأقل مما كان عليه إبان الحرب الأميركية في فيتنام، وإن كانت الاختلافات حاضرة، ولا يمكن القفز عنها، لا سيما لجهة الانخراط الأميركي المباشر يومها بينما تقف واشنطن اليوم شريكاً سياسياً وعسكرياً في جرائم إسرائيل.

يبقى أن ما جرى في جامعة كولومبيا في الأيام الأخيرة الأكثر إثارة للدهشة والاستغراب. وليس مردّ ذلك فقط إلى حجم الحراك، الآخذ بالتصاعد، ونوعية المطالب المرفوعة من الطلبة، والتي تعكس حجم وعيهم السياسي، بل أيضاً إلى ممارسات رئيسة الجامعة نعمت شفيق، التي وضعت حماية رأسها والحفاظ على منصبها أولوية، على عكس رؤساء جامعاتٍ آخرين اختاروا مواجهة صلف أنصار إسرائيل في الكونغرس وفي الإعلام، ودفعوا أثمان ذلك مناصبهم التي عملوا جاهدين للوصول إليها، بعدما نال منهم التحريض ما ناله، من دون أن يدفعهم ذلك إلى التنازل عن مبادئهم ليس دفاعاً عن القضية الفلسطينية، بل بشكل أساسي عن مفاهيم ومبادئ وحقوق أساسية كانوا يرون أنه لا يمكن التفريط بها، من بينها الحق في التعبير والاختلاف.

بلغت الوقاحة بنعمت شفيق حد استدعاء شرطة نيويورك إلى داخل الحرم الجامعي لطرد الطلاب، لتؤجج عملياً الاحتجاجات عوضاً عن إخمادها كما كانت تأمل. وما أقدمت عليه يؤسّس في نظر الطلاب لمرحلة جديدة غير مسبوقة، أقله في السنوات الأخيرة من محاولات إسكاتهم. ولذلك يتصدّون اليوم لما يجري ضدهم لمنع تحقيق أكثر من هدف.

والمهم أيضاً في حملة التصدّي أنها أظهرت بوضوح كيف أنه لم يعد من الممكن اليوم إسكات أي انتقاد لإسرائيل وجرائمها بحقّ الفلسطينيين بذريعة معاداة السامية… تلك التهمة الفضفاضة التي كان في الماضي يكفي رميها ليرتعب من يتعرّض لها وتشلّ حركته. ولكثرة ما استخدمت هذه التهمة، باتت الجرأة في التصدّي لها أكبر ليس فقط في أميركا، بل أيضاً في دول أوروبية عدة تسير حكوماتها والقوى الداعمة فيها لإسرائيل على النهج نفسه.

العربي الجديد

————————————

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى