تحقيقاتسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

سجينات بلا تهمة… نظام الأسد يبتز المعارضين بالنساء

“أريج” منصة للصحافة الاستقصائية

06.03.2025

يكشف التحقيق عن تعرض نساء وفتيات سوريات بين عامي 2011 و2017، للاعتقال باتهامات ملفقة تتعلق بالإرهاب أو الصلة بمطلوبين، بالإضافة إلى احتجاز أخريات من دون أي تهم واضحة، واستخدام بعضهن كورقة مساومة أو ابتزاز لعائلاتهن والضغط عليهم لتسليم المطلوبين. كما خضعت المعتقلات لتحقيقات قاسية داخل مقرات الأمن السورية، وتعرضن لتعذيب ممنهج شمل الصعق بالكهرباء، والضرب، والاعتداءات الجنسية، والترهيب النفسي لكسر إرادتهن.

سارة أبو شادي ومحمد طلبه

12 عاماً انتظرتها “أمينة” لتثأر من سجّانها الملقب بـ”أبو الموت”؛ الضابط الذي جردها من ملابسها بالكامل وتركها عارية أمام جنوده لنحو سبع ساعات داخل خيمة بالفرقة الرابعة، حيث تعرضت للضرب والإهانة أثناء الاستجواب حتى نزفت. مشاهد ظلت عالقة بذاكرتها “حية” كأنها حدثت اليوم. كانت تهمة “المرأة الستينية” أن نجلها البكر “حاتم”، معارض مطلوب من نظام الأسد، الذي حكم سوريا “بالوراثة” منذ تولي حافظ الأسد السلطة عام 1971، وحتى سقوط نظام ابنه بشار عام 2024. ألقت قوات النظام القبض على والدة حاتم، للضغط عليه حتى يُسلّم نفسه.

لم تكن أمينة أحمد كعكو سوى رقم في قائمة طويلة من الضحايا. فبحسب تحليل البيانات المسربة من فرع المخابرات الجوية (الأكثر قساوة في دمشق)، اعتقل نظام بشار الأسد ما يزيد على ألف و500 امرأة تعسفياً ما بين عامي 2011 و2017، باتهامات مُلفقة مثل “الإرهاب” أو من دون أي اتهامات بالأساس. لم تكن الاعتقالات سوى أداة ابتزاز للضغط على العائلات لتسليم أبنائها، أو لتحقيق مكاسب في مفاوضات تبادل المعتقلين. ورغم تسجيل أسماء الضحايا، لا يزال مصير آلاف المعتقلات مجهولاً حتى اليوم، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.

من بين 17 امرأة وردت أسماؤهن في الوثائق، وافقت ست نساء فقط -من حماة وإدلب- على الحديث عن تجاربهن، في حين رفضت البقية الحديث، مفضّلات الصمت بعد معاناة طويلة في السجون، شهدن خلالها أقسى أنواع التعذيب والتنكيل.

جهاز المخابرات الجوية

أُسّس في ستينيات القرن العشرين.بدأ مهامه بحماية سلاح الجو، ثم توسع ليشمل الأمن الداخلي والسياسي.أحد أقوى الأجهزة الأمنية في سوريا، ويتمتع بسلطة واسعة وعلاقات مباشرة مع القيادة السياسية والعسكرية.متهم بقمع الاحتجاجات وممارسة انتهاكات حقوق الإنسان منذ اندلاع احتجاجات حماة في الثمانينيات، وأثناء الثورة السورية عام 2011.شهدت مقرات وأفرع المخابرات الجوية اعتقال آلاف السوريين والتنكيل بهم.

واجهت أمينة ساعات من التعذيب الشديد، رافضة الإفصاح عن أي معلومة تتعلق بنجلها حاتم. ومع تمسكها بالصمت، قرر ضابط التحقيق اللجوء إلى وسيلة ضغط أخرى، فأخذ هاتف زوجة أحد أبنائها، المعتقلة معها، واتصل بـحاتم.

في تلك اللحظات، كان الابن جالساً في منزله، غارقاً في التفكير بمصير والدته التي ظل يبحث عنها من دون جدوى، حتى سمع رنة الهاتف. رفع السماعة، فأخبره الضابط أن والدته محتجزة لدى الفرع، وعليه الحضور للإفراج عنها، وهدّده قائلاً: “إذا لم تُسلم نفسك، سنرسل لك والدتك وزوجتي شقيقيك مقطعتي الأوصال”.

لكنّ حاتم كان يدرك جيداً أنه حتى لو سلّم نفسه، فلن تفرج السلطات عن والدته ومن معها، لذا فقد الأمل تماماً في عودتهن. حينها، هدّد حاتم الضابط المتصل بأنه سيعرف هويته وسينتقم منه، ليأتيه الرد بنبرة باردة: “أنا أبو الموت… لا تهددني”.

رحلة النزوح والمأساة

عاشت أمينة كعكو مع عائلتها، التي تضم أبناءها وأحفادها في معضمية الشام، إحدى أكبر مناطق غوطة دمشق، التي تبعد نحو أربعة كيلومترات عن مركز العاصمة. كانت المدينة من أوائل المناطق التي انطلقت فيها شرارة الثورة السورية عام 2011؛ لذا وجدت أمينة نفسها محاصرة تحت نيران القصف العنيف. ومع اشتداد وطأة الحصار، اضطرت إلى الفرار مع زوجات أبنائها وأحفادها نحو إحدى مناطق جبل الشيخ.

استقرت العائلة هناك لبعض الوقت، حتى ساءت حالة إحدى زوجات أبنائها، التي كانت قد وضعت مولودها قبل ثلاثة أيام فقط. لم يكن أمامهن خيار سوى التوجه إلى دمشق لطلب الرعاية الطبية، غير مدركات أن رحلتهن ستنتهي خلف القضبان.

في العاشرة والنصف صباح يوم 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، وعند مرورهن بحاجز للفرقة الرابعة عند مفرق داريا، أوقفت قوات نظامية السيارة للتحقق من الهويات. دقائق مرت عليهن وكأنها دهر، قبل أن يأتي الأمر باعتقالهن جميعاً؛ أمينة، وزوجتا ابنيها، وحتى الأطفال الصغار، ووُجهت لها تهمة الارتباط بمطلوب أمني.

تكشف بيانات اعتقال السوريات، خلال الفترة 2011-2017، التي حصلنا عليها من داخل فرع المخابرات الجوية، أن نصف المعتقلات واجهن تهماً تتعلق بـالمسلحين أو الاشتباه الأمني، حيث بلغت نسبة “المتهمات بـالعلاقة مع مسلحين 27 في المئة، والمشتبهات فيهن أمنياً 23 في المئة”. في حين لم تُوجّه تهم واضحة إلى 16 في المئة من المعتقلات، وتم احتجاز 12 في المئة لمجرد كونهن قريبات لمطلوبين. كما استُخدمت 9 في المئة من المعتقلات كورقة مساومة في عمليات التفاوض والتبادل.

انعكست هذه الاتهامات في توزيعهن (المُتهمات) على الأقسام والجهات التي تولت التحقيق معهن داخل المقرات الأمنية المختلفة، حيث كان لكل من قسم التنظيمات والتيارات التكفيرية، وقسم التحقيق الأمني ومكافحة الإرهاب الدور الأبرز في إجراء التحقيقات واتخاذ القرارات.

ولم يكن الإخفاء القسري وسيلة جديدة في سوريا؛ إذ يعود استخدامه إلى فترة حكم الرئيس الأسبق حافظ الأسد في الثمانينيات، لكنّه بلغ ذروته خلال السنوات الأولى من الثورة السورية. ووفقاً لتقرير أصدرته الحركة السياسية النسوية السورية في أيلول/سبتمبر 2023، فإن الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثّقت أكثر من 112 ألف حالة إخفاء قسري منذ عام 2011، من بينها نحو سبعة آلاف امرأة.

سلمى سيف، مسؤولة مبادرة “ناجيات من المعتقل”، أوضحت أن النظام كان يركز على توجيه تهم معينة لإلحاق الأذى بالمعتقلات وعائلاتهن؛ ومن أبرز هذه التهم “جهاد النكاح”، التي كانت شائعة بشكل خاص خلال الفترة التي قضتها سلمى داخل سجن عدرا بين عامي 2014 و2015. بالإضافة إلى ذلك، وُجّهت للمعتقلات تهم أخرى، مثل المشاركة في الثورة، وتمويل الإرهاب، وجرائم جنائية، واستدراج العساكر والضباط. حتى سلمى نفسها، وبسبب طبيعة عملها مديرة جمعية خيرية، اتُهمت بتمويل الإرهاب، ما أدى إلى اعتقالها لمدة عام.

قصص التعذيب داخل مقرات الاحتجاز جميعها مأساوية، تتنوع بين الصعق بالكهرباء، والضرب، والتعليق، والاعتداءات الجنسية، وهي الجريمة الأكثر شيوعاً داخل السجون، إلى جانب الإهانات اللفظية والترهيب. كانت التهديدات سلاحاً نفسياً يُستخدم “لكسر المعتقلات”، فكانوا يهددون الأم بأولادها، والزوجة بزوجها، ولم تسلم أي امرأة داخل السجن من هذه الأساليب. مثلما حدث مع أمينة، التي رفضت الإفصاح عن مكان نجلها حاتم، فتعرضت للضرب بأداة معدنية على يد “أبو الموت”؛ ما أدى إلى إصابتها بجروح استلزمت نحو 11 غرزة في رأسها.اتهامات مفبركة وتعذيب ممنهج داخل المعتقلات

أدى الصراع المستمر في سوريا إلى انتهاكات لا حصر لها لحقوق الإنسان، من بينها اختطاف النساء السوريات وإخفاؤهن قسراً. تأثرت النساء بشكل كبير بالثورة السورية، فاعتُقلت كثيرات منهن من منازلهن أو عند نقاط التفتيش، غالباً من دون توجيه أي تهم واضحة أو أي مبرر قانوني. وفي حالات كثيرة، تُترك عائلاتهن من دون أي معلومات عن مكان وجودهن أو مصيرهن، في حين تظل الأبواب مغلقة أمام أي محاولة للحصول على إجابات من السلطات.

توصلنا إلى ست فتيات من مدينة حمص -ضمن الحالات التي توصلنا إليها من خلال البيانات- اعتُقل بعضهن لمجرد ابتزاز عائلاتهن والضغط عليهن، في حين اعتُقلت أخريات بسبب ارتباطهن بالثوار. وبعد نحو عامين قضتها الفتيات داخل المعتقلات، تعرضت اثنتان منهن لانتهاكات جسدية، وأُفرج عنهن مقابل مبالغ مالية ضخمة.

وهو ما أكده العقيد المنشق أحمد الحمادي بأن النساء كانت تُعتقل أحياناً للضغط على عائلاتهن بغرض الابتزاز المادي، فكانت تُطلب مبالغ مالية ضخمة تصل إلى “الملايين” من أجل إطلاق سراحهن. وكان هذا يُعد بمثابة عمل إضافي للأفرع الأمنية؛ خاصة المخابرات الجوية والعسكرية.

إضافة إلى ذلك، كانت هناك عمليات انتقامية تتم عن طريق “الشبيحة”، وهي مجموعات شبه عسكرية تعمل لصالح النظام من دون أي وظيفة رسمية. في مدينة حمص، على سبيل المثال، اعتُقلت أعداد كبيرة من النساء والفتيات كجزء من هذه العمليات الانتقامية، فكان الشبيحة يقومون باعتقالهن من الأحياء التي يرتبط أفرادها بالثوار، ويُنقلن إلى أماكن مجهولة، وهي غالباً مقرات اعتقال سرية.

الفرقة الرابعة

تعد من أفضل تشكيلات الجيش السوري تدريباً وتجهيزاً.مجهزة بأحدث الآليات الثقيلة مثل دبابات “تي 72” الروسية.يبلغ عدد أفرادها نحو 15 ألف مقاتل.أسّسها رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد عام 1984.ارتكبت مجازر بحق الشعب السوري تحت قيادة ماهر الأسد شقيق بشار الأسد.

وشهدت أعداد المعتقلات، وفقاً للبيانات، تطوراً ملحوظاً عبر السنوات؛ إذ أظهرت البيانات أن الاعتقالات بدأت بوتيرة منخفضة عام 2011، ثم ارتفعت في السنوات اللاحقة، لتبلغ ذروتها عام 2015، ثم انخفضت أعداد المعتقلات في عامي 2016 و2017.

الاعتقال كورقة تفاوض: كيف استخدم نظام الأسد النساء في صفقات المبادلة؟

وبينما أظهر تحليل البيانات أن عمليات الاعتقال شهدت نمطاً متقلباً، يتصاعد تارة وينخفض أخرى، لم تتوقف هذه الممارسات حتى اللحظات الأخيرة من حكم النظام، وفق شهادة مسؤولة مبادرة “ناجيات من المعتقل”، سلمى سيف، التي كشفت عن خديعة خاصة استخدمها النظام فيما يتعلق بقرارات العفو؛ إذ أكدت أن النظام استمر في استخدام الاعتقال كأداة ضغط، خصوصاً حين كان يخطط لإصدار عفو. وقبل إصداره، كان يعتقل بعض الأشخاص ويبقيهم لمدة شهر أو شهرين، ثم يطلق سراحهم تحت مسمى العفو، في حين لم يُطلق سراح المعتقلين في القضايا القديمة.

مسؤولية حاتم تجاه والدته وزوجتي شقيقيه جعلته يجمع نحو 600 شاب من أبناء قريته للهجوم على حاجز النظام التابع للفرقة الرابعة، حيث اعتُقلت والدته ومن معها. خطّط حاتم للانتقام من “أبو الموت”، لكنّه تراجع عن تنفيذ الخطة خوفاً من سقوط عدد كبير من الشباب في المعركة.

علم النظام بخطة حاتم، فأرسل إليه شيوخ مصالحة للتفاوض معه. حينها، أُفرج عن عدد من معتقلات المعضمية، لكن لم تكن من بينهن والدته أمينة، أو زوجتا شقيقيه مرام ومنال. رغم ذلك، قرر حاتم التراجع خوفاً على عائلته، على أمل أن يخرجوا في وقت قريب.

اتبعت الحكومة السورية نظام المبادلات عادة، فأفرجت مثلاً عن معتقلة من مدينة أريحا برفقة 45 امرأة أخرى ضمن صفقة تبادل، وكانت هذه المعتقلة والدة أحد قادة المجموعات المسلحة في المنطقة.

وأظهرت البيانات أن الاعتقال على أساس القرابة بدأ خلال عام 2013، حيث شهد تسجيل 54 حالة بحسب ما توفر لدينا من بيانات؛ وهى التهمة التي استمرت خلال الأعوام التالية. وظهر الاعتقال لأغراض التفاوض والتبادل والضغط بدءاً من عام 2014، الذي سجل 21 حالة، ليبلغ ذروته خلال عام 2015 مسجلاً 90 حالة اعتُقلت من أجل التفاوض عليها.

في تقرير لها، أكدت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، التابعة للأمم المتحدة، أن استخدام الحكومة السورية السابقة للاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري بشكل منهجي لقمع المعارضة “يشكل جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب”. الأمر الذي أكده المحامي عبد الناصر حوشان، الباحث والكاتب في مجال حقوق الإنسان، بأن الأصل هو عدم توقيف أو احتجاز أي مواطن سوري من دون مذكرة قضائية، وهو ما ينص عليه الدستور. وأضاف أن النظام السابق كان يمارس الاعتقال خارج إطار القانون، ولم يكن يحترم الحريات وحقوق الإنسان؛ بما في ذلك حقوق الفئات الضعيفة.

أفرزت هذه الممارسات الانتقامية والوحشية تداعيات إنسانية ونفسية مأساوية، فكثير من المعتقلات، بعد الإفراج عنهن، واجهن واقعاً قاسياً؛ فبعضهن طُلّقن نتيجة ما تعرضن له، وأخريات لم يستطعن العودة إلى عائلاتهن فاخترن اللجوء إلى أماكن بعيدة. ومنهن من خرجن من المعتقل ولديهن أطفال لا تعرفن آباءهم. كما حدث مع “صفية”، التي كان زوجها يقاتل مع الجيش الحر في الغوطة، حيث اعتُقلت مع آخرين من أفراد الأسرة للضغط على زوجها. أثناء الاعتقال، تعرضت صفية وشقيقتا زوجها “للاغتصاب المتكرر”، وبعد خروجها من المعتقل، طلقها زوجها لفترة بسبب تعرضها للاغتصاب، لكنه عاد إليها لاحقاً.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى