مراجعات الكتب

ياسوناري كاواباتا يكتب مواجهة بين الماضي والمستقبل/ محمد الحمامصي

رواية “أستاذ الـ’غو’” أنقى وأجمل ما كتبه كاواباتا في حياته.

“غو” لعبة تعبّر عن الروح اليابانية

2024/05/15

مثلت روايات الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا دروسا هامة لكل من جاء بعده من الروائيين اليابانيين وفي مختلف أنحاء العالم، حيث مثلت تجربته تلك القدرة العجيبة على استنطاق أكثر الأحداث بساطة لنشر أفكاره حول الثقافة المتوارثة والتاريخ والذات البشرية وغيرها من أفكار يستنطقها بحكمة الأستاذ كما نقرأ في روايته “أستاذ الـ‘غو‘”.

إن قدرة الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا الحائز على جائزة نوبل للآداب على فضح المشاعر الإنسانية ونفسية شخصياته تحقق التماهي مع القارئ، وأحد موضوعاته هو الصدام بين التقاليد والحداثة، وهي رحلة قامت بها اليابان منذ نهاية القرن التاسع عشر. يقول “ما نسميه الماضي ليس ملكا لأحد. ولكن إذا تم الضغط عليّ لقول شيء ما، فسأقول إننا ربما نمارس فقط ملكية الكلمات الحالية التي تحكي الماضي”.

لقد أثّر كاواباتا على العديد من الكتاب اليابانيين اللاحقين، ولكن أيضا في أجزاء أخرى من العالم ترجمت أعماله إلى عدة لغات، والتي حاولت أن تعكس جمال وإثارة رواياته من منظور متعدد الثقافات.

حكاية اللعبة

كاواباتا يتحدث عن اللعبة والبيئة والأشخاص والأمكنة بملاحظات حزينة ووصف دقيق متنقلا بين المواقع والأزمنة كاواباتا يتحدث عن اللعبة والبيئة والأشخاص والأمكنة بملاحظات حزينة ووصف دقيق متنقلا بين المواقع والأزمنة

هذه الرواية “أستاذ الـ‘غو‘” تأتي لتضيء تاريخ اللعبة اليابانية “غو” وآخر مباراة لعبها “الأستاذ” وهو لقب يمنح تقليديا لأقوى لاعب غو في اليابان والذي لم يقهر حتى الآن، ومنافس أصغر سنا وأكثر حداثة.. وهي أيضا بمثابة مرثاة مثيرة لمجتمع بأكمله. حيث سجل كاواباتا اللحظة التي واجهت فيها التقاليد الثابتة للإمبراطورية اليابانية هجمة القرن العشرين.

تستمر المنافسة بين الأستاذ شوساي وخصمه أوتاكيه على مدار عدة أشهر ويتم تنظيمها في مهرجان كويو قرب شاطئ مدينة آتامي. ولكن تحت لياقة اللعبة تكمن التوترات التي لا تستهلك اللاعبين أنفسهم فحسب، بل عائلاتهم وخدمهم، فالتوترات التي تحوّل هذه المنافسة بالذات إلى مبارزة لا يمكن أن تنتهي إلا بالموت، مضيئة في تفاصيلها، مشوقة وهادئة على حد سواء، مكتوبة بالاقتصاد الشعري والفطنة النفسية التي جلبت لكاواباتا جائزة نوبل للآداب.

الرواية التي ترجمها الكاتب صبحي حديدي وصدرت طبعتها الأولى عن دار التنوير والثانية دار الأهلية، تمثل علامة مضيئة في مسيرة كاواباتا الروائية، وقد لفت حديدي إلى أن كاواباتا اعتبر روايته هذه “أنقى وأجمل” ما كتبه في حياته. لقد أسماها “رواية وقائع أمينة”. واستخدم تعبير shosetsu الذي يتجاوز مفهوم الرواية بمعناه المعروف إلى شكل أكثر مرونة وسخاء وكونية يأخذ شيئا من ثراء وشمول السيرة الذاتية وحرارة الذاكرة في قالب فني، حيث يصف كاواباتا في هذا العمل الرثائي الحزين مباراة “غو” فاصلة جرت فعليا سنة 1938 وحضرها بنفسه وغطاها لصحيفة نيشينيشي.

“غو” وفقا لكاواباتا، هي لعبة لوحية يابانية نشأت في الصين منذ حوالي ثلاثة آلاف عام، ولكنها “ازدهرت في اليابان فقط”. وعلى الرغم من أن الفرضية الأساسية للعبة بسيطة للغاية، إلا أنها تعتبر في الواقع واحدة من أصعب الألعاب الموجودة. يتناوب لاعبان (أبيض وأسود) في وضع الحجارة على اللوحة ويهدف كل لاعب إلى تطويق أحجار اللاعب الآخر من أجل الاستيلاء على منطقته. المربعات التي يتحكم فيها اللاعب أو الحجارة التي استولى عليها تستحق النقاط وأيّ لاعب لديه أكبر عدد من النقاط في النهاية يفوز.

“غو” في الأساس تعبّر عن الروح اليابانية. كتب كاواباتا عن اللعبة والمباراة الحقيقية للصحف اليابانية، وهنا يرويها بضمير المتكلم طامسا الخط الفاصل بين “المذكرات” و”الرواية”، ولكن في سياق المنافسة التي استمرت ستة أشهر بين الأستاذ ومنافسه المبتدئ، يستخدم كاواباتا اللاعبين ليعكس صور اليابان التي تتلاشى أو في طريقها إلى التلاشي. وهنا نرى تعاطفه مع الحرس القديم والتقاليد، لكن دون تطرف. في الواقع، فإن اللاعبين، وشخصية كاواباتا الجديدة، وجميع اللاعبين الآخرين، والقضاة، والمراسلين، وأفراد الأسرة، والشهود ليسوا أبدا سوى مهذبين للغاية تجاه بعضهم البعض.

الموضوع المفضل لكاواباتا في أعماله هو الحنين والتقاليد، وهنا يصور نفسه كمدافع عن الثقافة اليابانية التقليدية

الرواية مبنية على المباراة الأسطورية التي جرت عام 1938، بين الأستاذ ومنافسه الأصغر منه بكثير. كان كاواباتا يتابعها بالفعل، حيث كتب حوالي ستين مقالا صحفيا علقت على الحدث واللاعبين أثناء حدوثه. وبعد سنوات، قرر كاواباتا أنه يريد إعادة كتابة المقالات في رواية، وهكذا ولدت الرواية.

وفقا للقواعد اليابانية التقليدية، يتمتع كل لاعب محترف في اللعبة بلقب ورتبة؛ والطريقة الوحيدة للتقدم في التصنيف هي هزيمة جميع اللاعبين الآخرين في نفس مستواك؛ للتقدم من المركز السادس إلى المركز السابع، عليك هزيمة جميع اللاعبين الستة الآخرين. هنا أستاذ واحد فقط؛ بالنسبة إلى عالم “غو”، لم يتم تحديه رسميا لمدة عشرين عاما على الأقل، الأمر الذي يمثل مخاطرة كبرى.

على الرغم من أن اللعبة الموصوفة في الرواية كانت حقيقية، إلا أن كاواباتا قام بتغيير أسماء الأستاذ شوساي ومنافسه أوتاكيه ـ الاسم الروائي ـ أو كيتاني مينورو الاسم الواقعي. حتى أنه قام بتغيير اسمه، حيث ظهر بصفته “مراسل المباراة” السيد أوراغامي. هناك تشويق درامي: في الفقرة الأولى يوضح لنا أن الأستاذ سيخسر مباراته الأخيرة، ويتنازل عن لقبه ومنصبه لرجل جديد قبل أن يتقاعد ويموت مبكرا خلال العام المقبل. لا يهتم كاواباتا بالتوتر السردي أو التشويق، بل بشخصيتي أوتاكي والأستاذ. وبالنهاية، يوضح كاواباتا أن روايته ستدور حول شيء أكثر أهمية بكثير من نتيجة اللعبة.

إن خصوصيات لعبة “غو” وعمومياتها ليست في الحقيقة الهدف من الرواية، ولا القارئ يقرأ لمعرفة من سيفوز. يتحدث كاواباتا عن اللعبة والبيئة والأشخاص والأمكنة بملاحظات حزينة ووصف دقيق، حيث تتنقل فصول الرواية بين المواقع والأزمنة، بحيث تقرأ في لحظة ما عن التحركات التي تمت في يوليو في هاكوني وفي اللحظة التالية عن جدال في أغسطس في إيتو. هذا فضلا عن أن هناك تفاصيل دقيقة قد لا تظهر إلا لليابانيين فقط، وربما لليابانيين من جيله فقط. ومع ذلك، فإن الطريقة التي يربط بها كل شيء باللعبة، وهو يفعل ذلك بطريقة يمكن للقارئ من خلالها القراءة دون معرفة قواعد اللعبة مع الاستمرار في اتباعها والشعور بتوتر الصراع، إنها طريقة رائعة جدا.

“القواعد الصعبة” للعبة والتي تشغل قدرا كبيرا من الرواية تتسبب لكل من الأستاذ شوساي وأوتاكيه باعتلال الصحة، فعلى الرغم من أن أوتاكيه يبلغ من العمر 30 عاما فقط والسيد أكثر من ضعف ذلك، إلا أنهما يتفاوضان بشكل متكرر حول مكان اللعب، وعدد المرات التي سيلعبان فيها، ومدة الاستراحة بين جلسات اللعبة، وما إلى ذلك.

يشعر الأستاذ بسبب نظام “الحركة المختومة” الجديد، حيث يتم إغلاق آخر لعبة في اليوم في مكان مغلق. ويظل مخفيا حتى بداية الجلسة التالية، حتى لا يتمتع الخصم بميزة القدرة على قضاء فترة الاستراحة في التفكير في رده، أو ربما التشاور مع طلابه. (الحصول على نصيحة خارجية هو بالطبع مخالف للقواعد، وبالطبع غالبا ما يتم اتهام محترفي “غو” بالقيام بذلك. يتهم أوتاكيه في مرحلة ما بالقيام بخطوة محكمة لكسب الوقت).

ثوابت جديدة

يذكر أن الموضوع المفضل لكاواباتا في أعماله هو الحنين والتقاليد، وهنا يصور نفسه كمدافع عن الثقافة اليابانية التقليدية، قبل أن تنفتح الأمة على الغرب وتبدأ في التغير مع ظهور الحداثة فالأستاذ شوساي يمثل عصر ميجي (1868 – 1912). فيما يمثل المنافس أوتاكيه العصر الحديث، القرن العشرين، عصران يواجهان بعضهما البعض، القديم مقابل الجديد، والتقليد مقابل الحداثة، حيث تقف لعبة “غو” كمعركة من أجل روح الأمة.

يستفيد أوتاكيه البالغ من العمر ثلاثين عاما استفادة كاملة من التكتيكات الجديدة التي قدمتها لعبة “غو” الحديثة، وذلك باستخدام فترات التوقف المؤقت في اللعبة والحركات الخفية للمطالبة بالنصر بمكر. من ناحية أخرى، يلعب الأستاذ مثل التمثال الحجري: صامت تماما وضائع في اللعبة، وينسب كاواباتا الفضل إلى الأستاذ في الاحتفاظ بـ”عطر غو” كشكل فني بدلا من المنافسة الأساسية. لقد شعرنا بأن هزيمة الأستاذ شوساي تبشر بعصر العلم والعقل، الذي سيهدم عالم الفن والصقل.

ويشير حديدي في مقدمته للرواية إلى أن كاواباتا أدخل الوقائع الثابتة في نسيج تحليلي معقد يسقط عنها مصداقيتها الوثائقية بهدف إعادة استخراجها كثوابت أخلاقية وسيكولوجية جديدة. لقد عرف عن “الأستاذ” الواقعي أنه أقرب إلى المكر والمخاتلة والشراسة، لكن كاواباتا يفكك شخصية الأستاذ ويعيد تركيبها بحيث تبدو أقرب إلى القداسة والإعجاز والرمز لمرحلة اجتماعية كاملة بأخلاقها وقيمها ومواصفاتها. يصبح الأستاذ شوساي رمزا نبيلا مأساويا رمم تحصيناته في آخر قلاع التراث الياباني والتقاليد الأرستقراطية ثم خاض معركة ضارية ضد اجتياح متحضر “تقني” متحلل من القيم والأصول وبارد لا يرحم. لهذا تتحول هزيمته في الـ”غو” إلى هزيمة لمجمل الإرث الياباني الأرستقراطي الذي كان حتى حرب 1945 أساس الأخلاق في اليابان.

ويرى أن كاواباتا الذي رفض الانخراط في هستيريا الجعجعات الأرستقراطية التي رافقت حرب 1945 يرفض أيضا الأوهام “الديمقراطية” و”الليبرالية” لسنوات ما بعد الحرب. إنه ينصف أصالة اليابان بإسباغه على الأستاذ شوساي في الرواية سمات النبل والقداسة، لكنه يؤكد هزيمة الأصالة الهشة ويكشف ذرائعية من صنعوا تلك الهزيمة وانكشاف ظهورهم أمام الأخلاق الرأسمالية الوافدة.. من خلال رمز أساسي هو مباراة “غو”.

كاتب مصري

العرب

لتحميل الرواية اتبع الرابط التالية

أستاذ الـ’غو’

أو الرابط

أستاذ الـ’غو’

أو الرابط

أستاذ الـ’غو’

أو الرابط

أستاذ الـ’غو’

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى