مقالات سينمائية

جولة استفزاز جديدة لليوناني يورغوس لانثيموس في فيلم “أنواع اللطف”/ هوفيك حبشيان

الشرطي لا يصدق أن زوجته الغريقة عادت في “كان”

18 مايو 2024

ملخص

هل يمكن أخذ أعمال المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس على محمل الجد، هل تكفي قدرة عالية على الاستفزاز لصناعة سينما مشاكسة عندما تكون فقيرة بالأفكار؟ سؤالان يصح طرحهما بعد مشاهدة أحدث أفلامه “أنواع اللطف” المنافس على “السعفة الذهبية” في مهرجان “كان” السينمائي من 14 – 25 مايو (أيار) الجاري. وهذان السؤالان ليسا الوحيدين، فالفيلم يطرح مزيداً من علامات الاستفهام حول جدواه، وما أراد أن يقوله المخرج من خلاله؟

“أنواع اللطف” هو ثاني فيلم يقدمه يورغوس لانثيموس في أقل من عام، فعمله الأخير، “كائنات مسكينة”، كان نال “الأسد الذهبي” في موسترا البندقية الأخير في سبتمبر (أيلول) الماضي، وها هو يأتينا بجديد يعرض في مهرجان “كان”، وعينه على “سعفته” التي لم ينلها يوماً رغم مشاركته المتكررة فيه. يأتي الفيلم في ثلاثة فصول، كل واحد منها يمتد على نحو 45 دقيقة، لمجموع تبلغ مدته ثلاث ساعات إلا ربعاً. كتب لانثيموس النص مع سيناريسته الشهير إفتيميس فيليبو الذي كان خلف نجاحهما المشترك وتكريس اسمهما دولياً. هذا النوع من الأفلام الذي ينطوي على حكايات مختلفة يتولى “أفلمتها” عدة مخرجين، عرف بسينما الإسكيتشات وظهر في سنوات الـستينيات والسبعينيات في السينما الفرنسية والإيطالية، مع الفرق أن لانثيموس هو مخرج هذه الأفلام الثلاثة. تفصيل آخر ذو شأن: الممثلون أنفسهم يلعبون أدواراً مختلفة في الأفلام الثلاثة. بطلا “كائنات مسكينة”، إيما ستون وويلم دافو، يعودان في هذا العمل الجديد مساندين مخرجهما، مما يشي بعلاقة متينة بين الأطراف الثلاثة.

مهما كان رأينا في الفيلم، فلا يمكن الإنكار أن ثمة كيمياء بين هؤلاء الثلاثة. لكن، يجب عدم الاعتقاد أن لانثيموس يعيد الكرة معهما، فلا شيء مشترك بين شخصياتهما السابقة والحالية. يقلب المخرج الطاولة على رأسيهما، ليخرج من تحتها بشخصين جديدين، أشد جنوناً وتطرفاً وغرابة. ينضم إلى هذين، الممثل جس بلامونز، القلق الذي يبث الذعر في النفوس بمجرد نظرة.

يعرف الفيلم عن نفسه على النحو الآتي: رجل معدوم الخيار يحاول إعادة السيطرة على حياته، فيما شرطي قلق لأن زوجته تاهت في البحر ثم عادت، لا يصدق أن التي عادت هي زوجته. وأخيراً ثمة امرأة تبحث عن شخص يملك قدرات خارقة لتصبح مرجعاً روحياً. يتفرع الفيلم، عموماً، من هذه الخطوط الثلاثة، ولكن لكم أن تتخيلوا كمية التفاصيل متى امتد على 165 دقيقة، يعبر السيناريو خلالها، لحظات صعود وهبوط مستمرين، نبتعد من جرائها من الفيلم وندنو منه على نحو متقطع.

كالعادة عند لانثيموس، تدور المسائل على السلطة والسيطرة والإرادة الحرة وديناميكيات العلاقات الإنسانية وتقلبات الإرادة الحرة، إضافة إلى الصراع الأزلي بين حرية الاختيار وحرية ترك الأشياء تحدث. وكما يشرح المنتج أندرو لوي في كلمة لافتة، فإن جزءاً كبيراً من عمل لانثيموس هو استكشاف كيف يعيش الناس حياتهم وفقاً لقواعدهم الخاصة ووفق قواعد يفرضها عليهم المجتمع أو سلطة أعلى. وغالباً ما يأخذ المخرج هذه المسائل إلى مستويات عبثية (أقرب إلى الفكاهة السوداء) وهي أساسية في عمل لانثيموس الذي يقول، إنه يستمتع في النظر إلى الإنسان الذي يعتقد أنه يتحكم في الأشياء أو أنه حر في اتخاذ القرارات وهو في الحقيقة عبد مأمور.

يضع لانثيموس كل أمراضه وعقده النفسية في هذا الفيلم. السينما بالنسبة إليه ملاذ، لا يمكن تخيله يعمل في متجر لبيع الأحذية أو جالساً خلف الكونتوار في مصرف. القصص التي يأتينا بها لا منطق لها، وكل محاولة لشرحها وتحليلها قضية خاسرة، لكنها تساعده على العلاج. في هذا الفيلم، كما الحال سابقاً في “قتل الغزال المقدس” و”سرطان البحر”، أشياء مشبوهة كثيرة، شخصيات لا تتمنى أن تجلس بجوارها في حديقة عامة، أحداث مترابطة هدفها الأوحد إحداث صدمة عند المشاهد من خلال مواقف اعتباطية. العنفان، الجسدي والنفسي، يجتمعان هنا في نمط سينمائي يمنحنا الشعور بأن سينمايي تود سولوندز وكوانتن تارانتينو وضعتا في خلاطة، وما فعله لانثيموس هو استخراج الخلاصة. لكن أكثر الأشياء إثارة للدهشة هو أن الممثلين يسلمون أنفسهم كلياً لاستيهامات المخرج التي لا تراعي أي قيود أخلاقية وضوابط اجتماعية. حتى إنهم لا يمانعون عن الظهور في صورة “منحطة” وبائسة، كما حال ويلم دافو وهو يتجول بسرواله الداخلي، أو كما عندما توافق إيما ستون على قطع إصبعها وطبخها نزولاً عند رغبة زوجها. في الملف الصحافي، يقول المخرج: “أحياناً، يكفي أن نكون مثيرين للسخرية، كي ننجح في تحقيق ما نسعى إليه”. جملة توضح كثيراً من السلوكات التي لا تجد مبرراً في ذاتها، إلا من خلال ما يفرضه المخرج كمنطق خاص يجب الإذعان له.

غالب الظن أن لانثيموس لا يملك شيئاً يقوله أكثر من مجرد عموميات، فهو فاقد للهم الاجتماعي وخال من امتدادات فكرية. لكن سينماه لا تحتاج إلى هذا. فهو لا يزال في مرحلة اكتشاف سطوة الصورة وإيقاعها وتداخل بعضها ببعض عبر فن المونتاج، على عقل المشاهد، ولذلك يختار ما يخدم هذه الحاجة والرغبة لديه. وقد يهدأ ذات يوم، بعد أن يكون قد استهلك احتمالات هذا الوسيط، لينجز أخيراً أفلاماً توظف الغرابة ولا تستغلها، تتسلل إلى كل المواقف من دون أن تكون هي البطلة الوحيدة.

مع ذلك، فهناك أشياء في الفيلم محفزة، لحظات يلتقط فيها جوهر السينما، ليتطور في إطار منفصل عن كل ما يحيط به. أما الإخراج فهو بدوره محل احترام. قد تكون كلمة “احترام” في ذاتها، مخالفة لمفهوم الفن الذي يفرض عادة الإعجاب أو الشغف. لكن في النهاية، هذا ما تصنعه يدا لانثيموس: فيلم يمكن الثناء عليه كقطعة فنية مشغولة بصورة صحيحة، لكنه يتبخر بسرعة ولا يترك أثراً خلفه، في حين تأتي التساؤلات التي من حوله في إطار الاستفسار لا التأمل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى