خطوة بول أوستر الأخيرة/ عائشة بلحاج
10 مايو 2024
“أحياناً يصبح وهَني عظيماً، وأشعر بأنّ خطوتي التّالية لن تحدث أبداً”، فـ”هذه هي الأشياءُ الأخيرة. إنّها تتوارى الواحد تلو الآخر ولا تعود ألبتّة. في مقدوري إخباركَ عن تلك التي شاهدتها، أو التي انعدمت. ولكنّي أشكّ في أنّه سيكون لديّ مُتّسع من الوقت”.
رحل بول أوستر صاحبُ “بلاد الأشياء الأخيرة” (ترجمة شارل شهوان، دار الآداب، بيروت، 1993)، و”اختراع العزلة” (ترجمة أحمد العلي، أثر للنشر والتوزيع، الدّمام، 2016)، و”ثلاثية نيويورك” (ترجمة. كامل حسين، دار الآداب، بيروت، 1993)، تاركاً خريطةً مرئيّةً لأدب الغُربة، الغُربة الدّاخلية، وغُربة الأشياء الأخيرة، بعد حياة خاطفة في أحسن الأحوال. لم يكن بول محظوظاً بأبيه ولا بابنه ولا بحفيده. أيّ لعنة هذه لـ”رجل في الظلام”، الذي كانت الحياة بالنسبة إليه “موسيقى المصادفة”. مجموعة من الأحداث الغريبة التي تقع لشخص، وكان يمكن أن تحدُث لآخر. لكنّه هو مَنْ تعثّر في كومة الأحداث تلك، وأدّى إلى بعثرتها في طريقه. كما حدث معه في علاقة غريبة مع أبيه، التي كانت محور “اختراع العزلة”، أعقبتها علاقة أغرب مع ابنه المُدمن، الذي انتحر بعدما تسبّب في مقتل رضيعه.
هل يجتذب الكُتّاب مصائر أبطالهم؟… ربّما. وربّما هذه، ترتفع نِسَبُها عند أوستر، الذي لا يتردّد في منح اسمِه لشخصيات رواياته، مثل شخصٍ عشوائي يتصّل به البطل أو كاتب مجهول. مُصرّاً على أنّه، أوستر، يمكن أن يكون أيّاً كان، كما فعل بشكل مباشر في أحد أضخم وآخر مشروعاته “1234” (نقلها إلى العربية وراجعها أحمد أحمد. شارك في الترجمة: حسام موصلي وسوسن سلامة، منشورات المتوسط، ميلانو، 2018). رواية ضخمة تفترضُ أربع نسخ لحياة شخص واحد؛ “آرتشي فيرغسون”، في الأسرة نفسها، ولكن بمصائر مختلفة لأفرادها، ما يؤدّي إلى مصير مختلف لآرتشي. يُصرّح بول في هذا العمل، بأنّ حياتنا نتيجة لما يحدث قبلنا وحولنا، نتيجة الأسرة والثقافة والديانة، وحين نصل عمراً يمكن لنا فيه تحديد من نحن، يكون الأوان قد فات على تغير هويّاتنا التي تشكّلت قبلها نتيجةً لاختيارات آبائنا.
لكني أُفضّل ما كتبه أوستر قبل ذلك، إذ قدّم لقطات سريعة لأحداث ورؤى وهواجس، وصُدف كان لتركيبتها الخاطفة مفعول السّحر. لعلّ القارئ الباحث عن معنى مباشر، من كلّ رواية وكتاب، سيُخذل، لكن إن كان مُحبّاً لإعمالِ العقل، فسيحبّ عالم أوستر، إذ لا شيء مطلق ولا نهائي. كلّ شيء ممكن “في المدينة تتعلم ألّا تسلّم فيها جدلاً بمطلقِ شيء، أغلِق عينيكَ لحظة، استدر لتنظر إلى شيء آخر، وسيتوارى فجأةً ما كان أمامك. لا شيء يدوم، ولا حتّى الأفكار داخلك. وينبغي ألا تضيّع وقتك بحثاً عنها”.
هذا ما يحدُث في “بلاد الأشياء الأخيرة”، لكن ألا نعيش فيها جميعاً؟ ألسنا نحن “الأشياء الأخيرة”؟ فكلّ منّا يختفي اختفاء نهائياً، لأنّه ما من نُسَخٍ لنا. بل فقط هذه القابلية العجيبة على الاختفاء بلا سابق تحذير؛ نوبة قلبية، جلطة، نوبة سُكّري، حادث سير، حادث عمل، صدمة نفسية… عدا عن الاختفاء من حياة أحدهم هكذا.. كأنّنا لم ندخلها. كم صديقاً وحبيباً غادرناه أو غادرنا، ولم نعد مرة أخرى إلى حياة بعضنا؟
غادرنا بول أوستر تاركاً لنا نسخاً كثيرةً منه في كتبه، شخصاً غريباً غرابة مألوفة، مُرتبك، مُتعثّر، لكنه يواصل المشي، له تصرفات غير منطقية، لكنّها مفهومة كما يَفهم أحدُنا تناقضاته. هذا ما ميّزه، أنّه لم يطرق المعنى بصخب، ليُسمِع العالم الصدى عالياً، بل كَركبَهُ على شكل حصى تُقعقع، حتّى تصل إلى سفح الجبل، وتستقرّ في شكل لم يتوقعه أحدُنا. فإفهامنا لم يكن مُهمّة أوستر في الحياة، بل فقط الإشارة إلى المنجم الذي قد يختبئ فيه المعنى، وسط جبال من الحجارة.
نحن أيضاً قد نكون هذه القطعة الصغيرة من الرصاص أو الفضة أو الذهب، وسط جبال من الحجر، وفقط الصدفة، حسب منظور أوستر، من سيقود المُنقّبين إلينا. فنحن، أشياء وُجدت وسط بيئة غير مُحفّزة، ولا تسمح بالنّمو أو بالإزهار، فتموت بلا ندم على ما تركته خلفها. لا فرق بينَ أن تتلاشى أو أن تجدها يد تنحتُها حتّى تلمع. لكن ليس الإنسان وحده المُفتقر للفرادة، عند أوستر، بل الأمكنة أيضاً. فـ”من خلال التجوال دونما هدف، أصبحت كلّ الأماكن متساوية… كانت نيويورك هي اللّامكان الذي بناه حول نفسه، وأدرك أنّه لا يعتزم مغادرتها أبداً”.
العربي الجديد