خمس مقالات وحوار عن الإبادة الجماعية في غزة لكتاب سوريين
القسم الأول من هذا الملف على الرابط التالي:
أوقفوا حرب الابادة الجماعية التي تقوم بها اسرائيل في غزة – مقالات لكتاب سوريين حصرا- القسم الأول
القسم الثاني من هذا الملف على الرابط التالي:
أوقفوا حرب الابادة الجماعية التي تقوم بها اسرائيل في غزة – مقالات لكتاب سوريين حصرا- القسم الثاني
القسم الثالث من هذا الملف على الرابط التالي:
أوقفوا حرب الابادة الجماعية التي تقوم بها اسرائيل في غزة – مقالات لكتاب سوريين حصرا- القسم الثالث
صنفت هذه المقالات في هذا الملف حسب الموقع الذي نشرت فيه ورتبت حسب التاريخ، الأحدث في الأعلى
———————————–
امتحان العرب في غزّة/ برهان غليون
20 مايو 2024
كانت إسرائيل، فكرة ودولة، خلال معظم القرن الماضي، مشروعا غربيا، بريطانيا فرنسيا حتى الحرب العالمية الثانية، ثم أميركيا، بمقدار ما كانت مشروع اليهودية الصهيونية، فقد استخدمت الدول الغربية على التوالي إسرائيل وجيشها ذراعا طويلة وقوية للضغط على حكومات الدول العربية وإخضاعها لمصالحها القومية والاستراتيجية. ويكتسي انخراط الولايات المتحدة وحلفائها اليوم بكل ثقلهم وقوتهم إلى جانب إسرائيل أهمية أكبر في مناخ دولي مزعزع الاستقرار، تواجه فيه سيطرة الولايات المتحدة وحلفائها التاريخية وشبه المطلقة على منطقة تتمتع بأهمية استراتيجية وجيوسياسية استثنائية في حسابات القوى والصراعات الدولية تهديدات غير مسبوقة، فانهيار أسطورة الردع والقوة الضاربة لا يهدّد أمن الدولة الإسرائيلية وحدها، وإنما يزعزع أيضا أحد أركان نظام الهيمنة الأميركية الغربية في الشرق الأوسط والعالم. من هنا، يشكل التناول شبه المقدس لمفهوم أمن إسرائيل وضمان سطوتها وقوة ردعها تجاه دول المنطقة، النازعة إلى توسيع هامش مبادرتها الاستراتيجية واستقلال قرارها الوطني، وإزاء القوى الدولية الصاعدة التي تطالب بنظام دولي جديد متعدّد الأقطاب، أحد أهم مفاتيح التدخل الدائم في الشرق الأوسط واحتكار التحكّم بمصيره.
قد يساعد هذا التحليل على فهم أفضل للديناميكيات الخاصة التي تحرّك هذا الصراع والتحدّيات التي يفرضها على الأطراف المنخرطة أو المتورّطة فيها بالرغم منها، فبالرغم من أن هذا الصراع لا يجري إلا على أضيق رقعة جغرافية سياسية في المنطقة، إلا أنه يعكس صراعات عميقة ومتعدّدة تهز مصير الدول والشعوب، وربما تعيد رسم مستقبلها وخريطة الشرق الأوسط ذاته في العقود المقبلة، بما في ذلك علاقات دوله فيما بينها ومصير نظم الحكم السائدة فيه.
هذا ما يفسّر العلاقات الحميمة التي تجعل الكيان الإسرائيلي يبدو، في عيون الولايات المتحدة وحلفائها، أكثر من حليف قوي، بل شريكا استراتيجيا استثنائيا يحقق لواشنطن ما لا يحقّقه أي حليف آخر بين الدول الغربية، وأكثر قيمة استراتيجية من أي ولاية أميركية، فهو يمثل قلعةً متقدّمةً على أرض “موعودة” من مصلحة واشنطن تعزيز قوتها فيها، وتحطيم كل من يقف في وجه توسّعها وتقوية شوكتها في منطقة تتنافس على النفوذ فيها، والسيطرة عليها كل القوى الطامحة إلى لعب دور قيادي في صوغ أجندة السياسة العالمية. وهذا ما جعل من السيطرة على الشرق الأوسط منذ بدء تشكل دوله الحديثة حكرا على التحالف الغربي، بعد القضاء على طموحات شعوبه في انتزاع حقها في تقرير مصيرها فيها، وفي الوقت الراهن ضد المحاولات الروسية والصينية والإيرانية للنفاذ إليه، ومشاركتها في المصالح الاستراتيجية الكامنة في هذه السيطرة.
وليس هناك سوى هذا الدور الجيوستراتيجي الكبير من أعطى لإسرائيل المكانة الاستثنائية التي تحتلها في الاستراتيجية الغربية الشرق أوسطية والعالمية ودفع العواصم الغربية، طوال العقود الماضية، إلى الاستثمار الهائل في إسرائيل وتمويل بناء المستوطنات في الأراضي التي اعترفت بها أراضي فلسطينية وليس التغاضي عنها فحسب، وهذا بالرغم من التصريحات الجوفاء عن حلّ الدولتين لذرّ الرماد في العيون. ولأن الإسرائيليين فهموا أن الولايات المتحدة والغرب يريدون منهم أن يكونوا أقوياء، وأن تكون إسرائيل عصا غليظة لمعاقبة الشعوب العربية وإجبارها على التسليم بالأمر الغربي القائم طلبوا مشاريع السلام والتسويات السياسية، وأطلقوا العنان لأطماعهم التوسّعية، وتبنوا الأفكار والمشاريع العنصرية، وأصبح هدفُهم تحويل إسرائيل إلى دولةٍ قوميةٍ عنصريةٍ صافية وترحيل الفلسطينيين أو ما بقي منهم في أرض فلسطين التاريخية، بل لم يعد بعضهم يخفي حلم إسرائيل من الفرات إلى النيل.
فليس سوى إسرائيل قوة ضاربة وطاغية من يستطيع وهو في عين المكان أن يلوي ذراع دول المنطقة، وتشتيت شمل شعوبها وإجبار حكّامها على السير في الطريق المرسوم لهم، والتخلي عن طموحاتهم الوطنية والعمل على خط الاستراتيجية الأميركية والغربية، فإسرائيل الضعيفة لن تكون من دون فائدة فحسب، لكن عالة على الولايات المتحدة والغرب، ففي تمرّد إسرائيل على القوانين والقرارات والأعراف الدولية واستعدادها لاستباحة حقوق شعوب المنطقة وتهديدها العلني والدائم لحكّامها، تكمن فائدتها. من هنا أيضا، حرص الغرب على التعاون الوثيق معها في كل المجالات، لضمان تفوقها العسكري والأمني والتقني والعلمي وتزويدها بكل ما يقوّي سطوتها في الإقليم ونفوذها في العالم. ولم يكن الرهان على إسرائيل والاستثمار الاستراتيجي المتعدّد الأبعاد خاسرا، فقد كان لهذه الدولة الأداة الدور الأبرز في إجهاض مشاريع النهضة والتقدّم والتنمية في البلدان المحيطة، وفي ترويع الشعوب العربية وتقويض صدقية دولها وتهديدها وإخضاع حكوماتها واستخدامها أدوات لتطويع هذه الشعوب وحبسها وتقييدها.
لا يقلل هذا التحليل من أثر اللوبي الصهيوني ولا الصهيونية المسيحية في إحداث التعاطف مع إسرائيل. لكنه لا يفسّر هذا التماهي والتعامل مع إسرائيل بمنطق المصير المشترك. ولو كانت السياسات الدولية تبنى على المشاعر والوفاء للضحايا كما تدّعي حجة التكفير عن الذنب في تبرير الدعم الشامل واللامشروط لإسرائيل من الغرب، لكان من المفروض أن تتوقف الحرب في غزّة منذ أشهر عديدة أمام مشاهد الإبادة اليومية والتدمير المنهجي لكل معالم الحضارة والمدنية التي تعرض على الشاشات يوميا. كل ما يقال في هذا المجال لا يعدو أن يكون تبريرا للتواطؤ الكامل مع حرب الإبادة والترحيل دفاعا عن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الكبيرة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. وليس للتذكير بقوة اللوبي الإسرائيلي وبالشعور بالذنب إزاء اللاسامية سوى هدف واحد، هو التخفّي وراء أسطورة إسرائيل التي لا تنضبط (وهذا مصدر قوتها وأهميتها للغرب) للهرب من المسؤولية الدامغة لواشنطن وحلفائها في تعميم العنف والتشجيع على العنصرية والقتل بالجملة بكل أشكاله، ومن ثم تبريرهما بطريقة مواربة.
من هنا، إذا كان هدف إسرائيل في هذه الحرب الدائرة اليوم القضاء على المقاومة الفلسطينية وإخضاع غزّة أو تهجير سكانها وإبادتهم السياسية (وواشنطن شريكة أيضا في هذا الهدف ولم تخف مشروع ترحيل سكان غزّة إلى سيناء في بداية الحرب)، فإن إنهاء هذه الحرب لا يمكن أن يحصل ما لم تحقق الولايات المتحدة وحلفاؤها هدفين أساسيين استراتيجيين: الأول، إعادة قوة الردع الإسرائيلية التي يراهن عليها التحالف الاستراتيجي الغربي للحفاظ على نفوذه الاستثنائي في عموم المنطقة، والثاني تأكيد ولاء الدول العربية وخضوعها الثابت والمتجدّد للغرب، وإعلان استسلامها والتحاقها بالسياسات الغربية ونواته التطبيع مع إسرائيل، أي التحالف معها والعمل على الأجندة الغربية الأميركية التي تمثلها وتجسّدها في سياستها الاستيطانية ذاتها. وهذا ما يفسّر سياسة إدارة بايدن التي تستخدم العصا الإسرائيلية والجزرة الأمنية لإخضاع دول المنطقة لإرادتها. وهي تريد في الواقع أن تضمن مسبقا، قبل أن توقف الحرب، الإسرائيلية شكلا والأميركية فعلا، توقيع العرب، ودول الخليج بشكل خاص، على صكّ التحالف معها على بياض. وهذا ما يزال أغلب حكام الخليج يخشون إثاره على شرعية حكمهم ما لم يرتبط بحد أدنى من إرضاء المطالب الشعبية العربية بحل مقبول للمسألة الفلسطينية.
السؤال: من الذي سيضعف قبل الآخر ويتنازل عن مطالبه، العرب أم الأميركيون؟ فإذا قبل العرب بالتوقيع على بياض على صكّ الولاء والالتحاق بالحلف الأميركي الغربي، خرجوا من هذه المواجهة الإقليمية الدولية الاستراتيجية الخطيرة والمعقدة مذلولين أو صاغرين، محرومين من أي هامش مناورة، ومن ثم أتباعاً مخلدين لواشنطن وحلفائها. وهذا ما تسعى إليه واشنطن لتقطع عليهم أي فرصة للمناورة في المستقبل مع الصين أو روسيا أو مجموعة البريكس التي تشكل أكبر مجموعة ضاغطة في اتجاه الخروج من منظومة السيطرة الأحادية ونظام القطب الأميركي الواحد المترنّح.
في المقابل، إذا استمرّ العرب، والخليجيون خصوصاً، في مقاومة الضغوط، ورفضوا التسليم بالأمر الواقع وقبول التطبيع مع الغرب وإسرائيل من دون ثمن، أو لقاء وعود وهمية أثبتت خواءها طوال القرن الماضي والعقود الثلاثة الماضية بشكل خاص، ونجحوا في إجبار واشنطن وحلفائها على تقديم الثمن: اعتراف ومشروع جدّي وواضح لإقامة دولة فلسطينية مقابل أي تطبيع وتوقيع على اتفاقات استراتيجية أمنية مع الغرب، فسوف يشكل ذلك خطوة أساسية وقوية أولى على طريق تأكيد استقلال قرارهم الوطني وتوسيع هامش مبادرتهم السياسية والاستراتيجية، وحقهم في إقامة علاقات نديّة مع جميع الدول وصوغ سياساتهم حسب متطلبات مصالحهم ومصالح شعوبهم الوطنية.
بهذا المعنى، لم تعد الحرب على غزّة عموماً وفي رفح حالياً، بعد سبعة أشهر من القتال والدمار، إسرائيلية، ولا أعتقد أن إسرائيل تجني أي عائد منها، إنها بالدرجة الأولى أميركية. وواشنطن تستخدم تطرّف نتنياهو، تماما كما يستخدم هو هدفها في تمديد الحرب، لشيّ العواصم العربية على نار ساخنة لانتزاع استسلام حكوماتها وقادتها.
لا ينبغي أن تخدعنا المظاهر، وأن تعمينا المخاوف التي زرعتها فينا الهزائم والدعايات الإسرائيلية المضلّلة الماضية. ليست إسرائيل في المحصلة الأخيرة سوى كلب حراسة وأداة يستخدمها الغرب، والولايات المتحدة في مقدّمته، لترهيب الدول العربية وإخضاعها لإرادته وإجبارها على العمل في خدمته وتأمين مصالحه. والولايات المتحدة وحدها التي تملك اليوم، بعد تراجع دور القوى الاستعمارية الأوروبية القديمة، مصير إسرائيل بين يديها، وتحدّد لها دورها وقوتها حسب ما تقتضيه شروط إخضاع الشعوب العربية وإكراهها على السير في ركابها. وهي وحدها التي تحدّد شروط حروب إسرائيل مع الدول العربية، وحالياً مع غزّة وفلسطين: توقيتها ووتيرتها ونوعها ومدتها وشكلها ومستوى عنفها ونوع الأسلحة المستخدمة فيها، ولا يتورّع أحد أبرز نوابها، ليندسي غراهام، عن تذكير العرب بأن من الممكن لإسرائيل (واشنطن) أن تستخدم السلاح النووي إذا اضطرّ الأمر لذلك كما استخدمته الولايات المتحدة ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية. والواقع أن إسرائيل هي بذاتها القنبلة النووية الرئيسية التي استخدمتها العواصم الغربية خلال القرن الماضي، والولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لتفجير المنطقة، وردع الشعوب العربية وترويعها وإجبارها على الخضوع والإذعان وفرض سيطرتها على إحدى أهم مناطق العالم من الناحيتين، الاستراتيجية والجيوسياسية.
ولا يغشّنا تكرار الحديث الكاذب عن الحرص على تقليل عدد الضحايا المدنيين. بالعكس، يشكّل استهداف المدنيين هنا أحد أبرز تكتيكات الحرب التي تهدف إلى ردع الشعوب، وتهديد استقرار الحكومات وإيصال رسالة أساسية إلى جميع سكان المنطقة أنه لا يوجد هنا في هذه الحرب، وهذا الصراع حوّل إسرائيل وفي سبيل تعزيز وجودها: كلب صيد وحراسة وقاعدة للسيطرة الأميركية الغربية، أية حدود أو محرّمات قانونية أو أخلاقية. والحقيقة أن واشنطن وحلفاءها لم ينتظروا الهجوم الصاعق على غزة وحرب الإبادة فيها كي يعلنوا أن كل شيء مباح في هذه المنطقة. إنها دينت بأن تكون منطقة مستباحة منذ إعلان إسرائيل دولة عنصرية من جانب واحد بدل أن تكون دولة فلسطينية لجميع سكانها. وهذا ما أظهرته العقود القليلة الماضية من العراق إلى سورية إلى لبنان إلى ليبيا إلى اليمن قبل الضفة الغربية وغزّة اليوم. وهم مصمّمون على الاستمرار في ذلك، وسائرون على خطى ذاك الرئيس الذي اختاروه لسورية وفرضوه بالقوة المجرّدة تحت شعار: الأسد أو نحرق البلد. اليوم نحن أمام شعار مثيل: إسرائيل أو نحرق المنطقة. وإذا استمر التصعيد من واشنطن من خلف نتنياهو وحكومته العنصرية التي لا تخفي أهدافها الإبادية، فربما ينتشر الحريق قريبا في عموم المنطقة وفي ما وراءها أيضا. هذا هو الجنون المنظّم والاستراتيجي الذي قاد اليمين العنصري الأميركي المحافظ في التسعينيات وبداية القرن الحالي إلى حرق العراق، وتسليمه ومن ورائه بلاد الشام بالتفاهم لقمة سائغة للمليشيات الإيرانية الطائفية والعنصرية التي دمّرت الدول، ومزقت الشعوب وردّت المجتمعات إلى عصور الظلام البائدة.
العربي الجديد
———————————–
الطغيان ومقاومته: في سؤال المسؤولية/ صادق عبد الرحمن
عن ماذا يمكن مُساءَلة حماس والتنظيمات التي تقاوم؟
طرَحت عملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة عشرات الأسئلة، التي تبدأ من التفكير في العملية نفسها والموقف منها ومن منفّذيها، ولا تنتهي عند التفكير في أبعاد الإبادة الإسرائيلية وتَبِعاتها. في هذا الملف نناقشُ بعضاً من تلك الأسئلة تباعاً، في سلسلة من المقالات التي تُقدِّم وجهات نظر متنوعة ومُتباينة، تتفاعل في جوانب منها مع الحكاية السورية في الطغيان ومقاومته، وذلك دفاعاً عن الحق في التفكير والسؤال والنقاش رغم الشرط الإبادي الرهيب و«الحتميات» التي يقتضيها.
هذا المقال هو الأول ضمن ملفّ «جدل المقاومة: أسئلة من حرب غزة».
*******
يَشيعُ في النقاشات بشأن حرب الإبادة الإسرائيلية أن يتمَّ تحميلُ حماس مسؤولية ما يجري في غزة، وأن يُرَدَّ على هذا بالقول إنه لومٌ للضحايا يُعفي إسرائيل من مسؤوليتها، سواء قصدَ أصحابه ذلك أم لم يقصدوا. يَنطلقُ هذا المقال من شَكٍّ في كلا الموقفين، ويسعى للتأمّل في النسيج المُعقّد من الأفكار والوقائع التي تقف خلفهما، في محاولة لنقاش سؤال المسؤولية في ظلِّ أوضاع كهذه.
في الطغيان ومقاومته
تُمارس إسرائيل طغياناً مفتوحاً على الشعب الفلسطيني منذ قيامها، فهي تحرم الفلسطينيين حقوقهم السياسية والإنسانية، وترتكب في سبيل ذلك شتى أنواع الجرائم من حصار واستيلاء على الأراضي وتهجير وقتل. ولا يمكن تبرير أفعال إسرائيل، ولا نفي صفة الطغيان عنها، إلا إذا اعتبرنا أن للفلسطينيين حقوقاً أقل من حقوق الإسرائيليين، وهو ما يعني عنصريةً ليس النقاشُ مع أصحابها موضوعَنا هنا.
فإذا اتفقنا أن للناس جميعاً حقوقاً متساوية، كان ما تفعله إسرائيل طغياناً، ثم كانت مقاومته أمراً مشروعاً، لكن الأهمَّ أنه أمرٌ محتومٌ بصرف النظر عن سؤال المشروعية، ذلك أن الناس لا يستسلمون لما يعتبرونه طغياناً إلّا عندما يعجزون عن مقاومته. يقاوم الفلسطينيون الطغيان الذي يتعرّضون له منذ عقود، وتَرُدّ إسرائيل على مقاومتهم في كل مرة بتصعيد أعمال القتل والانتهاكات والتدمير والتهجير.
هكذا تكون هذه الآلام كلُّها مسؤولية إسرائيلية تتحمّلها دولة الاحتلال مع حلفائها وداعميها، وتكون المقاومةُ ردَّ فعلٍ لا ينبغي لومُ أصحابه بحال. لكن هذه الخلاصة على ما فيها من وجاهة تحمل في داخلها تبسيطاً بالغ الخطورة، وهو ما ستحاول الأسطر التالية نقاشه.
في «المقاومة» ومسؤوليتها
تُبنى مقولة عدم جواز «لوم المقاومة» على فكرتين أساسيتين: أن إسرائيل استعمارٌ استيطانيٌ هو الذي يقتل ويُدمّر وهو الذي بدأ الطغيان أصلاً، وأن المقاومة ليست إلّا ردّاً طبيعياً على العدوان. أما الأولى فهي صحيحةٌ بدلالة الوقائع التي لا مجال إلى دحضها، وأما الثانية فهي التي تحتاج وقوفاً متأنياً قبل الأخذ بكل نتائجها.
يستخدم كثيرون هذه المقولة اليوم للردّ على كلّ نقدٍ يطالُ حماس وعملياتها، بما فيها عملية طوفان الأقصى، ما يعني أنهم يعتبرون أن «طبيعية» فعل المقاومة تضعُ أصحابه خارج كل نقد ومسؤولية، فكأنهم يعتبرون «المقاومة» شأناً من شؤون الطبيعة بالمعنى الحرفي للكلمة، أو نوعاً من ردود الفعل التي نَعرِفها في الفيزياء، حيث كل فعل يقابله ردُّ فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه.
لكن البشر بأفعالهم وردود أفعالهم ليسوا موضوعات فيزيائية، والأهمّ أن هذه المقاربة تمحو الفارق بين مقاومة العدوان غير المُخطَّط لها، من قبيل أن يُدافع أحدهم عن بيته ضد هجوم يتعرّض له، وبين أفعال المقاومة المُخطَّط لها، التي تمارسها جماعة مُنظَّمة لديها إيديولوجيا تبني مشروعها وشرعيتها من خلالها.
حماس ليست «ردّ فعل طبيعي» على العدوان، بل هي تنظيم مسلّح لديه حلفاء ومشروع سياسي، وسلطة يمارسها على سكّان قطاع غزة منذ نحو 17 عاماً، ولديه قبل ذلك وبعده داخل غزة وخارجها شبكات وخطابات وسياسات، تعمل عليها قيادةٌ لديها مطامح ومصالح وتكتيكات أوصلتها إلى كسب الانتخابات، وإلى التأثير بقوة في المسارات السياسية لشعب بأكمله.
ليس صائباً إدراجُ هذا كلّه في خانة «ردّ الفعل الطبيعي»، وهو قولٌ يقود إلى المُطابقة بين حماس بوصفها تنظيماً وبين «المقاومة» بوصفها فكرة مجرّدة، وبالتالي إلى وضع حماس خارج كل مُساءَلة تجاه شعبها، ذلك بينما تتنطّع حماس لقيادة مقاومة الشعب الفلسطيني، بل وحُكمه إن أمكنها، مع خطاب عام يسعى إلى التخفُّفِ من المسؤولية التي ينبغي أن يحملها من يريد «القيادة» و«الحُكم».
إسرائيل هي التي ترتكب الإبادة والجرائم، وهي التي تتحمّل المسؤولية السياسية والقانونية والأخلاقية، وينبغي محاسبة قادتها وإجبارها على السير في طريق سلام حقيقي ينتزع بنتيجته الفلسطينيون حقوقهم، ولا سبيل إلى ذلك طبعاً دون كفاح من جانب الشعب الفلسطيني. لكن التنظيمات والأحزاب التي تتصدّى لمهمات الكفاح والمقاومة مسؤولةٌ أيضاً، مسؤولةٌ عن دماء شعبها وتضحياته ومستقبله، ومسؤولةٌ عن رسم سياسات وانتهاج تكتيكات تُحقِّق أفضل نتائج ممكنة بأقل دماء وآلام مُمكنة.
في نتائج الاستقالة من المسؤولية
خططت كتائب القسّام ونفّذت عملية عسكرية ضخمة شارك فيها آلافٌ من مقاتليها، ويبدو أنها استعدّت جيداً وطويلاً لمقاومة اجتياح بري واسع والصمود في معركة طويلة، لكن الوقائع لا تُشير إلى أي استعدادات ناجحة أو حسابات عميقة تتجاوز ذلك: لا خطط بشأن مصير سكّان القطاع وكيفية تخفيف آلامهم، ولا حسابات دقيقة للأوضاع الدولية والظروف الإقليمية، ولا تخطيط لكيفية حصاد ثمار العملية سياسياً بما يصبّ في صالح عموم الشعب الفلسطيني.
ما الذي كان المخطّطون لطوفان الأقصى يتوقعونه بعد عملية بهذا الحجم غير المسبوق في تاريخ كفاح الفلسطينيين ضد الاحتلال؟ هل توقّعوا أسابيعَ من القصف والمعارك البرية ثم وقف إطلاق نار وتفاوض؟ لعلّ هذا ما ظنّوا أنه سيحدث، لكن ظنّهم لم يكن في محلّه، ونجحت إسرائيل في استغلال العملية للمضي في مشروعها لإبادة الشعب الفلسطيني وتدمير وجوده السياسي، وهم بالتالي مسؤولون تماماً عن فشل خططهم وتوقعاتهم بصرف النظر عن أي صمود عسكري لاحق.
كذلك يبدو أن الحركة لم تُفكّر في ضرورة تَجنُّب استهداف مدنيين في سياق عمليتها، وهو الأمر الذي ضَخّمته الآلة الإعلامية الإسرائيلية وأضافت عليه أكاذيب كثيرة لتبرير حربها الإبادية، لكن أحداً لا يستطيع إنكار وقوعه. ثمة أطفالٌ إسرائيليون تم فصلهم عن ذويهم والتفاوض عليهم، وهذه لوحدها جريمةٌ أياً يَكُن سياقُها وظرفُها. وقد حاولت حماس لاحقاً التنصُّلَ من مسؤوليتها عن استهداف مدنيين بالقول إن جهات أخرى فعلت ذلك، لكن هل كان مستحيلاً على حماس أن تتفادى ارتكاب جرائم ضد مدنيين في عمليتها؟ وهل يبدو صعباً إلى هذا الحدّ أن تلتزم حركة سياسية بمقتضيات حقوق الإنسان التي تطالب العالمَ بنصرة قضيتها استناداً لها؟ وهل يصعبُ اكتشافُ أن جهات كثيرة في العالم ستسغلّ كل انتهاك يرتكبه المقاومون للتنكيل بالشعب الفلسطيني أو لتبرير التنكيل به؟
وقبل ذلك وبعده، فإنه لا يمكن حصاد نتائج عملية بهذا الحجم وتوظيفها سياسياً لصالح الشعب الفلسطيني دون مشروع وطني فلسطيني جامع، وهو المشروع الذي تعرف حماس جيداً أنه لا وجود له، بل وكانت قد ساهمت بنشاط إلى جانب السلطة الفلسطينية وحركة فتح في تقويضه، بصرف النظر عن نسبة المسؤولية التي يتحمَّلها هذا الطرف أو ذاك. ويبدو جلياً أن غياب المشروع الوطني الفلسطيني يعني استحالةً شبه تامة في تحويل هذه الكارثة الرهيبة إلى فرصة للشعب الفلسطيني، ويعني أنّه يمكن أن تذهب هذه التضحيات العظيمة بما فيها تضحيات المُقاتلين سُدىً، وأنه على حماس أَخذُ هذا الأمر في حسبانها عند التخطيط لتحرُّكاتها.
تصرَّفتْ حماس في السابع من أكتوبر كما لو أن مسؤوليتها تنحصر في إطلاق النار بكفاءة، ويقع الباقي كله على عاتق الآخرين والعالم والحظّ وقوانين الطبيعة، في استقالة شبه تامة من المسؤولية السياسية. وهذا تفسيرٌ فيه كثيرٌ من حُسن النية، أما في أسوأ التفسيرات، فقد يمكن استنتاج أن الحركة لم تفكّر في غير تعزيز موقعها بإنجاز عسكري ونصر تفاوضي، وذلك لو أنها نجحت فعلاً في إجبار الإسرائيليين على التفاوض سريعاً، الأمرُ الذي لم يحدث.
لا معنى للتفتيش في النوايا هُنا، لكن الأفعال ونتائجها واضحة للعيان أياً تَكُن النوايا. لقد نجحت حماس عسكرياً بالقياس إلى ما هو مُتاح لتنظيم في منطقة محاصرة، لكنها فشلت في كلّ شيء آخر حتى الآن. ويتحدّث أكثر المتحمسين عن فائدتين عادت بهما عملية السابع من أكتوبر حتى اللحظة: الأولى عودةُ القضية الفلسطينية إلى النقاش السياسي بعد أن كان العمل جارياً على تجاهلها وتصفيتها، والثانية حركةُ تضامن عالمية واسعة. لكنه ليس معروفاً كيف يمكن أن يعود هذا بفائدة على قضية الفلسطينيين اليوم، ذلك بينما لا تستطيع حماس ببنيتها وخطابها وتاريخها أن تفعل الكثير على صعيد استثمار هاتين المسألتين وطنياً، حتى إذا خلصت نوايا قادتها.
في جدوى سؤال المسؤولية
لا تتحمّل قيادة حماس وحدها مسؤولية غياب مشروع وطني فلسطيني طبعاً، بل لعلّ سلطة عباس تتحمّل المسؤولية الأكبر على هذا الصعيد اليوم. كذلك لم تهبط حماس على الشعب الفلسطيني من السماء، وهي ليست ابنة المال القطري ولا الدعم الإيراني رغم أهمية الأخيرَين الحاسمة لاستمرارها، وهي ليست صانعة شروط الحصار والاحتلال والاستيطان والإبادة، ويشهد على ذلك ما يجري في الضفة الغربية وغيرها قبل السابع من أكتوبر وبعده، وقبل صعود حركة حماس في صفوف الشعب الفلسطيني وبعده. وقد يبدو صعباً التفكير في مدى مسؤولية حماس عن ما يجري، بينما تسمح الأوضاع الدولية والإقليمية بوقائع لا يمكن احتمالها، من قبيل ما قالته اليونيسف عن أنه يتمّ بتر أطراف أطفال بلا تخدير في غزة.
على هذا قد يبدو التفكير في سؤال المسؤولية مُرافَعة أخلاقية مجرّدة، ذلك بينما تتحكم بمصائرنا قوى ضخمة تقود العالم إلى مزيد من التدهور والتطبيع مع الإبادة والعنصرية، وبحيث تبدو قرارات أفراد حتى لو كانوا في قيادة فصيل مسلح مثل حماس مُجرَّدَ تفصيلات في لوحة كبيرة بالغة القتامة والدموية.
لكن هذه ليست مُرافعة أخلاقية مجرّدة ولا تفكيراً فلسفياً في المسؤولية الإنسانية، بل هي مُرافعة سياسية تهدف إلى التفكير في المُمكنات في ظلّ هذه اللوحة القاتمة، وفي الخطابات والبُنى التي أدت إلى إنتاج تنظيم قادرٍ على تنفيذ عمل عسكري ضخم في ظروف استثنائية بالغة الصعوبة، لكن دون إنجاز سياسي ملموس لصالح الشعب الذي يناضل ببسالة ويدفع دماءً عزيزة ويعيش آلاماً لا تُحتمَل.
نحتاج التفكير في سؤال المسؤولية لأن القوى التي تتصدّى للدفاع عن ضحايا العدوان ينبغي أن تكون مسؤولة سياسياً عن أفعالها، وإلّا فإنها ترتفع فوق السياسة فتصيرُ بدورها طغياناً عصياً على المُساءَلة، أو تنحطُّ إلى ما دون السياسية فلا يبقى من أفعالها سوى العنف العاري.
نحتاج التفكير في المسؤولية أيضاً لأن الخطاب الذي يرفض «لوم الضحايا» بات يخلط بين الضحايا؛ الذين لا ينبغي لومهم على ما وقع لهم طبعاً، وبين تشكيلات سياسية تُمارس سلطة وتعقد تحالفات وتحوز موارد في سياق النضال لأجل حقوق الضحايا. ليست حماس هي «الضحية» هنا، بل الشعب الفلسطيني، ويُفترَض أن «مُناضليه المُنظَّمين» في حماس وغيرها يناضلون أصلاً لانتشاله من وضعية الضحية، وليس لتكريسها واستخدامها سياسياً.
نحتاج أيضاً إلى التفكير في مرجعية المسؤولية السياسية؛ هل تشعر حماس والتنظيمات الإسلامية عموماً أنها مسؤولة تجاه شعبها؟ أم أن مرجعية المسؤولية بالنسبة لها ليست هنا في هذا العالم أصلاً؟ ثم كيف ترى تلك التنظيمات شعبها وكيف تُعرِّفه؟ كانت حماس في بدايتها بالكاد تعترف بالوجود السياسي للشعب الفلسطيني، وتنظر إلى فلسطين على أنها وقفٌ إسلامي، وقد تغيّرَ خطابها تدريجياً وصولاً إلى وثيقتها الأخيرة التي حملت ملامح خطاب وطني. لكن التجارب التي نعرفها عن التنظيمات الإسلامية لا تبشّر بكثير من الخير على هذا الصعيد. لقد انتصر حزب الله في 2000 ثم في 2006، وراح يقدّم خطاباً نظرياً مُطعَّماً بعناصر وطنية، لكن هذا التطعيم لم يمتدّ أبداً إلى الممارسات العيانية على الأرض، كما أن انتصارته الكبيرة تلك لم ترجع بفائدة على عموم اللبنانيين، وقد عرفنا نتائجها لاحقاً بأبشع صورة ممكنة في لبنان ثم في سوريا أيضاً.
مُحاكاة سوريّة
رغم الفوارق الكبيرة بين وضعية السوريين في مواجهة نظام الأسد ووضعية الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، فإنه لا يمكن تَجاهلُ ما بين الحكايتين من عناصر متشابهة، ذلك أن السوريين الثائرين على النظام واجهوا ويواجهون سلوكاً إبادياً، ولديهم فصائل إسلامية بتحالفات إقليمية، وواجهوا بُنية سياسية إقليمية وعالمية سمحت باستباحة حياتهم وحياة أهلهم، وفوق ذلك كان حُلفاء حماس في الإقليم شركاءَ في تحطيم حياة السوريين.
كثيراً ما دَفعَنا هولُ العنف الأسدي المدعوم بقوى كبيرة إقليمية وعالمية إلى السكوت، أو الارتباك على الأقل، في مواجهة التفكير في مسؤولية القوى التي تتصدى للأسديين. وبينما وصلَ عنفُ النظام حدَّ ارتكاب مذابح إبادية كما في البيضا ورأس النبع في بانياس مثلاً، كانت قوى متنوعة في صفوف المعارضة المسلّحة تبني سلطات وفصائل وشبكات بدعم من جهات إقليمية. وفي بعضٍ من أكثر المشاهد السورية رثاثة ويأساً، كانت فصائل إسلامية سورية تتصارع على السلطة في مناطق محاصرة أو مُستباحة من الجو، وكانت تتحدث عن احتقار «المساومات السياسية» في «أروقة المفاوضات والمجتمع الدولي»، بينما كانت تمارس سياسة بالغة العنف والتسلّط على الأرض، وتجد عُذرها في أنها «تقاوم» قوات النظام وحُلفاءَها على الجبهات، وتطلب صرف هذه المقاومة على شكل سلطة مؤقتة لم تحقّق شيئاً لأحدٍ غير قادتها ومشاريعهم.
ويبدو أنه في خلفية ذلك ذهنيةٌ أشاعها خطاب محور المقاومة المدعوم من إيران والنظام السوري في العقود الأخيرة، وتَقمصّتها جزئياً واستفادت منها فصائل إسلامية سورية مناهضة للنظام في محطات كثيرة، عندما كانت تُعلي من شأن القتال بوصفه فعلاً يمنع انتصار النظام، لكن دون أن يكون أصحابه موضعَ مُساءَلة عن تحقيق إنجازات لصالح قضية تَحرُّر السوريين وخلاصهم.
غنيٌ عن القول إنه يستحيل أن تتم مقاومة الطغيان، استعماراً استيطانياً كان أم استبداداً متوحشاً، بلا تنظيمات سياسية قد تحمل السلاح في ظروف بعينها، وهذه الأخيرة لا بدّ أن تحمل إيديولوجيا ما وأن يكون لها مشروعها. وبالتالي فإن الكلام أعلاه لا ينطلق من افتراض إمكانية قيام «حركات تحرّر» مُنزَّهة عن الإيديولوجيا والمطامح السياسية، بل من القول إنه ينبغي أن تكون هذه الأخيرة مسؤولة عن أفعالها، وإن الموقف منها لا يمكن أن يكون منفصلاً عن الموقف من مرجعياتها وسلوكها وخطابها.
في أثمان المقاومة وأساليبها
لا يدفع المقاومون الثمن وحدهم في أي حكاية نعرفها من حكايات الطغيان ومقاومته، بل يدفع المجتمعُ كلّه أثماناً تتباين بحسب طبيعة الطغيان ومقداره وبحسب طبيعة المقاومة ومقدارها. يعني هذا أنه لا معنى واقعياً لمحاولة تَصوُّر مقاومة بلا أثمان يدفعها المقاومون وأهلهم، لكنه يعني أيضاً أن أساليب المقاومة وسياساتها وتكتيكاتها أمورٌ تُغيّرُ كثيراً من حجم المعاناة، ومن الحصاد السياسي لهذه المعاناة أيضاً، وهنا تكمن مسؤوليتها بالتحديد.
لا يمكن لوم حماس على فعل المقاومة في ذاته، إلّا من باب المطالبة بالتزام النضال السلمي ونبذ اللجوء إلى السلاح، وهي مُطالَبةٌ لا يبدو أن لها حاملاً موضوعياً على الأرض رغم معقوليتها الأخلاقية. ومن المفيد على كل حال أن نتذكر الردّ الوحشي الإسرائيلي الرهيب على مسيرات العودة السلمية من غزة، كي نُذكِّرَ فقط بأن الشعب الفلسطيني جرّبَ أنماطاً من النضال السلمي مراراً. كذلك لا يمكن لوم حماس على حجم الوحشية الإسرائيلية، فهذه يُسأل عنها مرتكبوها في تل أبيب وحلفاؤهم في عواصم العالم.
أما ما يمكن لوم حماس عليه، فهو أنها تنتهج تكتيكات عسكرية متهورة بلا ظهير سياسي يُعوَّل عليه ولا إعداد معقول لتخفيف آلام السكّان، وأنها لا تحمل مشروعاً يجعل من معاركها قابلة للصرف وطنياً، وأنها تحمل إيديولوجيا إقصائية فئوية لا تستقيم مع مطلب التحرّر الوطني، وأنها تسلك سلوكاً تسلطياً على الأرض يهمّش قوى المجتمع الحية ويصادر فعاليتها وقرارها.
مهما كان الشرط الإبادي رهيباً ومفتوحاً على الاستدامة، بل لأن الشرط الإبادي رهيبٌ ومفتوحٌ على الاستدامة، فإنه لا بد من الانتقال من «مقاومة الطغيان» إلى العمل على تفكيك شروطه. وليس الطريق إلى ذلك معلوماً ولا مضموناً، لكن لعلّه يمرّ عبر الانتقال من مقولة «المقاومة» إلى مقولة «الكفاح من أجل التحرّر الوطني»، غير أنه في كلّ حال لا يمرّ عبر مقاومة تكتفي بإطلاق النار، ثم تتذرّع بتضحيات مقاتليها لبناء سلطات لا تُخطّط لأكثر من بقائها.
موقع الجمهورية
——————————–
من المقاومة إلى المقاولة: «نحن» في مواجهة بنادق للإيجار/ شكري الريان
طرحَت عملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة عشرات الأسئلة، التي تبدأ من التفكير في العملية نفسها والموقف منها ومن منفّذيها، ولا تنتهي عند التفكير في أبعاد الإبادة الإسرائيلية وتبعاتها. في هذا الملف نناقش بعضاً من تلك الأسئلة تباعاً، في سلسلة من المقالات التي تُقدِّم وجهات نظر متنوعة ومُتباينة، تتفاعل في جوانب منها مع الحكاية السورية في الطغيان ومقاومته، وذلك دفاعاً عن الحق في التفكير والسؤال والنقاش رغم الشرط الإبادي الرهيب و«الحتميات» التي يقتضيها.
هذا المقال هو الثاني ضمن ملفّ «جدل المقاومة: أسئلة من حرب غزة»، ونُشرَ قبله مقال صادق عبد الرحمن «الطغيان ومقاومته: في سؤال المسؤولية».
من نحن؟
يظهر العنوان أعلاه قاطعاً في اتهامه للحركات المسلّحة، تحت أي غطاء إيديولوجي كان، بصفتها حركات مأجورة للرُعاة الإقليميين أو الدوليين، وفي مواجهة اتّهام قاطع كهذا قد يبدو أنّ الجدلَ لا معنى له، ولكن مع ذلك، كفلسطيني سوري عاش الكوارث المتتالية التي جرّنا إليها الفرع المُسلَّح من ظاهرة الإسلام السياسي، منذ مذبحة حماة 1982 إلى مذبحة غزة المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023، وإلى يومنا هذا؛ أقول إن عذري في توجيه التهمة أعلاه هو أنني فعلياً، وبعد كل هذه العقود، ما عدتُ قادراً على الهروب من فكرة أنَّ جانباً مهماً من المشكلة، الجانب الذي يعنيني بشكل رئيسي، هو في طريقتنا نحن؛ الجمهور المنتمي إلى ما يسمى بالطيف الديمقراطي العريض ضمن الرأي العام العربي، في النظر إلى الأمور. وبالذات في النظر إلى تلك الحركات المسلحة، وبالأخص الإسلامية الجهادية منها، التي نراها في سياقٍ ما إرهابية مأجورة، ونراها في سياقٍ آخر جزءاً من حركة تحرر وطني، مع أن من أسَّسوا تلك الحركات وقادوها، وقادونا إلى تلك الكوارث، وعدا عن كونهم ينهلون من النبع نفسه ويحملون البنية الإيديولوجية الفاشية المغلقة نفسها، فإنهم أيضاً لم ينظروا إلينا، كرأي عام في عمومه، إلا بصفتنا ضحايا (دروعاً بشرية في حالة غزة) أو في أحسن الأحوال مروّجين لـ«بطولاتهم». فإن أحجمنا وقرَّرنا المراجعة أو طَرَحنا بعض الأسئلة، حَوّلونا إلى «خونة»، أي أعادونا إلى خانة الضحايا، ولكن على أيديهم بشكل مباشر هذه المرة، دون الاضطرار إلى انتظار ردة فعل… العدو.
مُشكلتنا، نحن، كطيف ديمقراطي عريض، بعلمانييه وإسلامييه غير الجهاديين والمؤمنين بالديمقراطية كخيار أفضل للجميع، على نُدرتهم، هي في تفكيرنا الذي لم يكفَّ يوماً عن القفز بين السياقات فقط ليبرر وجوده أمام تلك الحركات وجمهورها، كائناً ما كان حجم هذا الجمهور وتأثيره الفعلي على مسار الأحداث، في عالم بات أكثر حساسية في مواجهة أي شكل من أشكال الإرهاب تجاه المدنيين، خصوصاً بعد جريمة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).
طبعا سيقفز من يقول: وماذا عن مدنيي غزة، ماذا عن مدنيي سوريا قبلهم ومعهم، أليسوا ضحايا إرهاب؟! أقول بالمختصر، لا.. هؤلاء ليسوا ضحايا إرهاب، إنهم ضحايا إبادة جماعية، والفرق كبير بالطبع. وهو فرقٌ من المهم أن نأخذه بعين الاعتبار، ليس لنزيد «جرعة» الأسى على حالنا، بل لنعرف ما لنا وما علينا بالاستناد إلى تعريف واضح، عسانا نخرج من حالة الهروب التي نمارسها، والتي تنتهي بنا دائماً إلى الارتطام، وبكامل قوتنا، بالجدار نفسه. التجربة التي نخلص منها دائماً بـ«الحكمة» نفسها، وهي أننا مجرد ضحايا لعالم يريد أن يُسيء فهمنا، ويُؤطرنا، على طول الخط!
نحن، الموصوفون أعلاه، خائفون، بل شديدو الخوف. هذه حقيقة يجب أن نعترف بها إن أردنا أن نخرج من الحالة المزرية التي نعيش فيها جميعاً، كرأي عام بكافة أطيافه، ديمقراطي وسواه، باتجاه وضع أكثر إنسانية يُعطي فسحة تنفّس وتعبير عن الرأي للجميع دون الخشية من البندقية، سواء كانت في يد سلطة غاشمة أو تنظيم إرهابي مأجور. مشكلتنا هنا، كانت وستبقى مستمرة مزمنة متقيحة، ما لم نَقُم بتحديدها ومواجهتها مباشرة: إنها البندقية، كائنة ما كانت اليد التي تحملها.
البندقية، بدولة وبدونها
إذاً، ليست بندقية الحركات الجهادية الإسلامية وحدها القابلة للإيجار، إنها أي بندقية، هكذا بالمُطلَق، في يد أي تنظيم ميليشياوي خارج عن الدولة؛ بالتحديد تلك الدولة المحكومة فعلياً بنتائج صندوق الاقتراع، وبالتالي بإجماعات مواطنيها وحدهم، ولخدمتهم. وهنا نجد أن التعريف أعلاه يعطينا فهماً أعمق لسبب خوفنا من تلك البندقية، الميليشياوية بالذات، ذلك أنها ببساطة، وعلى شاكلة البندقية في يد «التنظيمات الحاكمة» في دولنا غير الخاضعة لنتائج صندوق الاقتراع، يمكن أن تُطلِقَ على الجميع دون تمييز، وبالاستناد فقط لإرادة ومصالح قادة تلك الميليشيات ومموليها ومُحرِّكيها. وهنا فإن فعل الخوف ليس تقليلاً من قدر صاحبه، بقدر ما هو دليل تَعقُّل في الحقيقة، ولكن ذلك التَعقّلَ إن بقي في مكانه مُراوِحاً، فإنه لن يلبث أن يشلَّ أي حركة ممكنة للخروج من تلك الورطة.
يُشير حازم صاغية، في أكثر من مقال وموضع، إلى تفشي ظاهرة الميليشيات في المشرق العربي، وعلى حساب الدولة. والحقيقة أن الإحالة إلى بداية هذه الظاهرة، مع بداية ظهور «المقاومة الفلسطينية» في الأردن أولاً، وبعدها لبنان، وما قادت إليه من حروب وكوارث، أمرٌ دقيقٌ كلَّ الدقة. وهو من خلال تصديه، وبشجاعة على عادة صاغية، لواحدة من «المقدسات» في تفكيرنا السياسي المعاصر، أي ظاهرة المقاومة الفلسطينية المسلحة، إنما يشير وبوضوح إلى تلك المشكلة المزمنة التي بقينا نعاني منها عقوداً طوالاً في مواجهة استبداد لا رحمة فيه، سواء في مواجهة أنظمة قمعية حتى آخر نَفَسٍ فيها، أو في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي. ومع أن الدولة، في حالة الأنظمة القمعية، سوريا والعراق بشكل رئيسي، لم تلبث أن خضعت لحكم الميليشيات (مع استثناء الحالة اللبنانية، السابقة على الحرب الأهلية، من خضوعها لحكم استبدادي كما كان الحال في الدول المحيطة)، إلا أن الحالة الإسرائيلية بقيت «دولتية» بامتياز، وبقي الجيش فيها خاضعاً للمستوى السياسي، الذي يخضع بدوره لنتائج «صندوق الاقتراع». أي أننا في الحالة الإسرائيلية نواجه شيئاً مختلفاً تماماً عن ذلك الذي واجهناه في ظل أنظمة قمعية اكتسبت شرعيتها من البندقية نفسها.
وما دمنا عاجزين في مواجهة بندقية، وهذا طبيعيٌ في حالة أي شخص مدني وجد نفسه في تلك الورطة، فمن باب أولى أن نُطلق مخيلاتنا قليلاً لنُعوِّضَ حالة العجز الجسدي، ونبدأ فعلَ تفكيرٍ يحاول مراجعة ما حصل معنا، وكيف وصلنا إلى هنا، وما هي تلك الأخطاء التي ارتكبناها بأنفسنا، ومَكَّنت مجموعة من الأشخاص، يتراوح وصفهم هنا بين المتطرفين الدينيين، بعضهم مُخلِص لفكرته (وهذا بحد ذاته كارثة)، إلى شذّاذ الآفاق وقطّاع الطرق، كائنة ما كانت أشكالُ اللِّحى التي يطلقونها والإيديولوجيات التي يتبنونها؛ مَكَّنتهم من التحكم برقابنا بعد أن كنا مناضلين من أجل الحرية.
البندقية مرتدية ثوب «القداسة»
اختيار غطاء إيديولوجي مُحكَم، والاختباء خلف قضية «عادلة»، من ضرورات الترويج لتلك البندقية، بينما الحقيقة، التي نعرفها جميعاً، هي أن تلك البندقية ما كان لها أن تُوجَد لولا جهات قادرة على تمويلها وضمان استمراريتها لخدمة أهداف محددة، وأنه ما كان لتلك الجهات أن تُغامر بالدخول في هذا المشروع لولا تلك الأهداف بالذات. أي أن أمر «الإيجار» سابقٌ على وجود البندقية نفسها، ولعلّنا لا ننسى أنه وقتَ كان التيارُ اليساري هو «الترند» السائد، كانت هناك الكثير من الفصائل المسلحة ذات «التوجه اليساري المُتطرّف»، والتي كانت تُزاود على الجميع في «وطنيتها» بينما كامل عملياتها «النضالية»، ذات الطابع الإرهابي في مُجملها، موضعَ اشتباه في كونها جرت بأوامر من الممول ولخدمة مصالحه. هل يكفي طرح مثال «أبو نضال» وتنظيمه، أو حتى «القيادة العامة»، بنُسختيها اليسارية والإيرانية، كعيّنات هنا؟
ما جعلَ الأمر ملتبساً بالنسبة للقطاع الأوسع من الرأي العام العربي في مواجهة تلك البندقية، «يسارية» كانت أم «إسلامية»، هو «قداسة» قضيةٍ ما، غير القابلة للجدل أبداً. في حالتنا، «فلسطين» هي قدسُ أقداس القضايا كلها (وتلك مشكلة كبيرة جداً بات من المُلحّ أن تُناقَش، ولكن في سياق آخر تماماً). وبالتالي فإن ظاهرةً كـ«المقاومة الفلسطينية المسلحة»، والتي يعود ظهورها العلني إلى النصف الثاني من عقد الستينيات في القرن الماضي، هذا الظهور الذي كُلِّلَ بنصرٍ عزَّ انتظاره بعد هزيمة منكرة، والنصر المقصود هو معركة الكرامة التي جاءت مباشرة بعد هزيمة حزيران، هذه الظاهرة اكتسبت بدورها قداسة هائلة مرتبطة بذلك النصر، وكذلك بوجود اسم فلسطين في اللُّبِّ منها. ولكن مراجعةً ما، لتلك الظاهرة، على ضوء المياه الهائلة التي جرت تحت جسر ذاك النصر طيلة عقود لاحقة، باتت أمراً لا مفر منه. ليس فقط بشأن نقاش ما إذا كانت بندقية تلك «المقاومة الفلسطينية المسلحة» قابلة للإيجار أم لا، وهذا أمرٌ سأتناوله بعد قليل، بل أيضاً، والأهم، من ناحية ما جرَّته تلك «البندقية» على كامل المشهد السياسي في منطقتنا من ويلات بتشريع وجود «بنادق» لاحقة، تلطّت خلف تلك «البندقية» بالذات وأخذتها مثالاً يحتذى.
في السياق الذي نشأت فيه «المقاومة الفلسطينية المسلحة» كان من الصعب جداً الحكم على موضوع «الإيجار»، أو حتى التفكير فيه بالصيغة التي نراها الآن، وذلك لأسباب عدة. أولاً، كانت ظاهرة «المقاومة» جديدة وتُمارَس للمرة الأولى في منطقتنا. تنظيمات فلسطينية مسلحة، وضعت مشروع تحرير فلسطين شعاراً لها، ومضت في محاولة تحقيقه بشتى السبل الممكنة، وبالاستناد إلى أي «ساحة» تُتيح لهذا المشروع أن ينطلق. وما كان من الممكن أبداً الإنكارُ على «المقاومة الفلسطينية المسلحة» أنها بقيت وفية فعلا لاستقلال قرارها، رغماً عن كل الضغوط التي مُورست عليها من قبل أنظمة عدة تريد تجيير الموضوع الفلسطيني لصالحها.
ثانياً، ثمة نقطة مهمة جداً يجدر الانتباه إليها، وهي التي أكسبت تلك «البندقية» منعَتَها في مواجهة الأنظمة التي أرادت فرض سطوتها عليها، وهي أن تلك الأنظمة لم تكن المُموِّلَ لتلك البندقية (نظام الأسد)، أو المُمولة لها بشكل جزئي فقط (نظامي صدام والقذافي)، بل كان مصدر التمويل الرئيسي في ذلك الوقت خليجياً، كويتياً سعودياً بالدرجة الأولى. وكلا الدولتين لم تكونا في وارد فرض سطوة على أحد في ذلك الوقت، بقدر ما كانتا تسعيان لتلميع صورتيهما أمام رأي عام عربي. تلك الصورة التي حاول نظام ناصر، وبقية جوقة الأنظمة «القومجية»، تشويهها بشكل مستمر على طول الخط، وصولاً إلى حرب تشرين 1973، والدور الكبير الذي لعبته السعودية عبر سلاح النفط فيها.
ورغم نجاح «المقاومة الفلسطينية المسلحة» بالحفاظ على استقلالية «بندقيتها» بالسير على خطوط الصراع شديدة التوتر بين الأنظمة العربية المختلفة، مستغلّة السياق المشار إليه أعلاه، لا يمكن إنكار الأثمان الباهظة التي دفعتها المجتمعات الأهلية التي تبنّت هذه البندقية (أو «الساحات»، عوضاً عن المجتمعات الأهلية، وهي الكلمة التي عادت للاستخدام مؤخراً). فمن حرب أيلول الأسود في الأردن، إلى الحرب الأهلية في لبنان، لغاية الاجتياح الإسرائيلي المدمر 1982، مروراً طبعاً بـ«درة تاج» تلك الظاهرة، والمقصود «جمهورية الفاكهاني» في بيروت، كنا فعلياً في مواجهة مجتمعات تتفتت لصالح قضيةٍ نُفِخَت حتى صارت «أم القضايا كلها»، في تغطية على قضايا لا تقل إلحاحاً وقداسة، قد يكون أهمها قضية «الديمقراطية» على سبيل المثال لا الحصر.
فلسطين، مرة أخرى، ودائماً!
على الجانب الآخر، وعندما بدأت «بنادق» أخرى بالظهور، فإنها حاولت سلوك الطريق نفسه الذي سلكته «المقاومة الفلسطينية المسلحة» لتكريس شرعيةٍ لها. لا يمكن مثلاً أن نتجاوز ما طرحه عبد الله عزام في جولاته لتأمين متطوعين للقتال في أفغانستان، من أن القتال هناك هو مجرد بداية للوصول إلى الوجهة الأسمى: فلسطين. وكان هذا «مهد» ظاهرة الجهاد الإسلامي المسلح، وبصفتها «مُقاولة» لصالح الراعي الدولي والإقليمي، وبداية طريقها نحو ما تلا من كوارث لا عدَّ لها ولا حصر.
بقيت «فلسطين» هي النقطة التي تُلجَم ألسنة الجميع عندها، حتى في سوريا، إبّان ربيعها، وعند الدخول في نقاش المقاومة المسلحة لنظام مسلح حتى أسنانه، وشديد التوحش تجاه محكوميه، كنا جميعاً، مؤيدين لهذا الخيار ومعارضين له، لا يغيب عن بالنا أبداً تلك «التجربة الفلسطينية». بل إن الميل نحو الأخذ بـ«البندقية» في الحالة السورية كان يستند بشكل كبير على «نجاحٍ» ما حققته التجربة الفلسطينية! ناسين جميعا أن هذا «النجاح» ما حصل إلا بعد أن أُخرجت «البندقية» الفلسطينية من كل «الساحات»، وأن الذي أعاد «المقاومة الفلسطينية» إلى المشهد هو شيءٌ آخر غير تلك «البندقية»، بل وعلى الضد منها: الحجر في يد مدني أعزل في مواجهة «بندقية»؛ البندقية الإسرائيلية هذه المرة. إنها الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي أوصلت «المقاومة الفلسطينية» إلى طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين، والتي أوصلتنا جميعاً إلى «اتفاق أوسلو»، الذي بالرغم ممّا عليه، وما عليه كثير، فإن ما له هو أفضلُ ما تَمكَّنت تلك «المقاومة الفلسطينية» من إحرازه في تاريخها كله، وبعد تضحيات جسام من جهة الفلسطينيين والعرب في البيئات التي احتضنت تلك «المقاومة»: بداية الطريق نحو دولة فلسطين.
طبعا لم تلبث «المقاومة الإسلامية في فلسطين / حماس» أن أطلت برأسها تريد تدمير هذا الاتفاق بشكل تامّ، بدعم كامل من الأسد، الكبير، وبعدها بدعم من إيران وقطر، ولأسباب لا داعي لسردها هنا، حتى لا نضيع الوقت في أشياء يعرفها الجميع.
ومع ذلك، فإن استطراداً هنا، ليس بسيطاً في الحقيقة، لا بدّ منه. كثرٌ يرون أن «حماس» لم تأت من فراغ، وأنها لم تكن مجرد «عميل» لقوى إقليمية، إنما كانت تعبيراً عن مصالح قوى موجودة فعلياً داخل المجتمع الفلسطيني، أبعدتها القيادة «التقليدية» للمنظمة، ممثلة بعرفات ورجاله. كان هذا الكلام وازناً فعلاً لو أن «حماس» اختارت طريق الانضمام إلى «منظمة التحرير الفلسطينية» والدفاع عن مصالح تلك «الفئات» التي تمثلها من داخل ما أجمع الفلسطينيون على أنه «مكسبهم السياسي الأبرز»، تلك المنظمة التي باتت رسمياً هي الناطق الوحيد باسمهم وبعد تضحيات هائلة. نعم، لم يكن الطريق سهلاً للاعتراض من داخل «جسمٍ» كان عرفات ورجاله قد سيطروا عليه تماماً، ولكنه في النهاية كان «البيت» الفلسطيني الوحيد المتبقي للجميع، وكان يمكن لحماس أن تحميه فعلاً بصفته «بيتاً» للجميع، وتكتسب بذلك «شرعية» لا تُنكَر، ليس أمام من يُفترَض أنها تمثلهم فقط، بل وأيضاً أمام عموم الفلسطينيين بدون تمييز.
ما حصل كان العكس تماماً، رفضت «حماس» الانضمام إلى المنظمة، بحجة خضوعها لإملاءات عرفات. ما حصلَ هو تركُ المنظمة للموت تحت سطوة «حزب السلطة»، فتح، والالتفاتُ إلى مقارعة هذا «الحزب» عبر أي وسيلة يمكن الوصول إليها، ومن أي طرف إقليمي مستعد لتقديم العون للوصول إلى هذا الهدف. إذن فنحنُ لسنا أمام ارتهان ما، كائناً ما كان حجمه ومبرراته، بسبب الحاجة إلى بندقية، بل إنه ارتهانٌ سياسيٌ عن سبق إصرار وتصميم، بُغية الوصول إلى هدف محدد: السلطة ولا شيء سواها!
وهذا للأسف حال جميع القوى التي تريد الوصول إلى الهدف نفسه: السلطة المطلقة. وبالطبع فإن الأداة الأكثر فاعلية في هذا المسعى هي البندقية مع ما تستتبعه من «التزامات» تجاه الراعي. وبالتالي فالموضوع ليس موضوعَ «قوى محلية» مُنِعَت من التعبير عن رأيها أو تم قمعها بواسطة سلطة ما، بل موضوع «قوى محلية» تريد أن تحلّ محل «قوى محلية» أخرى تمسك بالسلطة عنوة بدورها، بينما «الغالبية الصامتة»، ولأنها غير مسلحة، ليس عليها إلا أن تتفرج وتدفع من دمها لكلاً الطرفين، منتصراً كان أو مهزوماً.
هذا، وبدون مبالغة، يُلخّص حال «القوى الإسلامية» كلها في عموم منطقتنا، وليس «حماس» وحدها؛ مسعىً دؤوبٌ نحو سلطة يرون أنهم الأحق بها، حيث الاعتراض الوحيد على المُمسك بتلابيب تلك السلطة، سواهم، لا يقوم على مبدأ أنه طاغية مستبد، بل فقط لأنه لا يمتلك الحق «الإلهي» بممارسة ذلك الطغيان على بقية العباد كما يمتلكونه هُم.
البندقية الإسلامية، إلى أي مدى يمكن إن تكون مستقلة؟!
الحقيقة أننا لو حاولنا إحصاء الحالات التي ظهرت فيها «بندقية» الفصائل الجهادية الإسلامية كبندقية مؤجرة سلفاً للراعي الرئيسي، فإننا سنعجز عن إيجاد حالات تثبت العكس تماماً، وفي أي سياق تناولنا فيه تلك الظاهرة، بِدءاً من مرحلة «الجهاد» الأفغاني، وصولاً إلى حماس، مروراً بالفصائل الجهادية السورية، سريعة التكاثر، شديدة الشراسة، ليس فقط تجاه عاثري الحظ من المدنيين الواقعين تحت قبضتها، بل وتجاه بعضها بعضاً؛ هذا طبعاً دون أن ننسى الميليشيات الإيرانية في العراق ولبنان. ولكن، وكما ذكرتُ أعلاه، فإنه كائناً ما كان الاتجاه الإيديولوجي الذي يتبنّاه الفصيل المسلح، هو في النهاية دخل في مشروع «إيجار» مُسبَق، منذ اللحظة التي قرَّرَ فيها حمل «البندقية» مع كامل احتياجاتها.
حالات نادرة استطاعت فيها «البندقية» أن تكون خاضعة لقرار قيادة الفصيل، منها تلك الحالة التي مَثَّلتها «المقاومة الفلسطينية المسلحة»، نتيجة للظروف المُفصَّلة أعلاه، ومنها أيضاً حالة «القاعدة» التي اعتمدت، في مرحلة المواجهة المباشرة مع الراعي السابق، الولايات المتحدة الأميركية، على تمويل قائدها ومؤسِّسها بن لادن. دون أن ننسى طبعاً أن «القاعدة» نفسها ما كانت لتوجد لولا أنها استندت إلى البنية التنظيمية والعسكرية للمرحلة الجهادية الأفغانية، المُموَّلة والمُدرَّبة والمسلحة من قبل المخابرات الأميركية والمخابرات السعودية. ما عدا ذلك، فبالتأكيد لا يمكن لـ«أبو عبيدة»، على سبيل المثال، أن يقوم بهذه المهمة وحده، مهما رفع إصبعه مُهدِّداً في وجوه الجميع، وفي وجوهنا نحن، ومعنا أهل غزة، قبل الجميع.
المشكلة إذاً في تركيبة «المشروع»، جهادياً كان أو «نضالياً» من أي لون كان، وفي الأداة الرئيسية فيه: البندقية.
هل كنا واعين إلى هذه الحقيقة، ونحن نناقش في سوريا، عشية بدء ربيعها، ذلك الخيار وإكراهاته؟ ما نشاهده الآن من نقاش حول تلك النقطة بالذات، وفيما يتعلق بـ«المقاومة الإسلامية في فلسطين» وبنادقها وصواريخها وأنفاقها وخطابات ناطقيها الرسميين، وبعد كل الهول الذي عاناه أهل غزة، ونراه على مدار الساعة بأم أعيننا، يقول بوضوح إننا لم نفتقد فقط إلى ذلك الوعي المطلوب، سابقاً والآن، بل إننا أيضاً ما نزال في مرحلة التخبُّط باحثين عن إجابات لأسئلة ما زالت مطروحة منذ مرحلة الربيع حتى يومنا هذا، رغم أنهار الدم التي سالت في عموم منطقتنا حتى الآن!
ما العمل؟!
ومع ذلك، يبقى هناك سؤال لم يتم التطرق إليه في هذا السياق: ماذا كان بإمكاننا أن نفعل، نحن الطيف الديمقراطي العام في المنطقة، بمختلف تياراته (أودُّ هنا أن أضيف صفة «المدني» أيضاً إلى الطيف هذا)، في حال أننا تصدَينا للأسئلة المطروحة بكل الجرأة المطلوبة وأَجبنا عليها؟! هل كان هذا سيمنعُ تلك التيارات المُسلَّحة، على فرض أن هناك اتفاقاً عاماً على أنها جميعاً مأجورة، من المضي في مشاريعها رغماً عن إجاباتنا وأنوفنا معاً؟! هل كان هذا سيُقلّل من «الشعبية» التي تتمتع بها تلك التيارات، خصوصاً بعد إحرازها لـ«اختراق» بحجم ذلك الذي حصل صبيحة السابع من أكتوبر، أو بحجم جريمة الحادي عشر من أيلول؟!
ثم من أين جاءت تلك «الشعبية»، وهل، بعد كل هذا الهول والهزائم التي مُنينا بها بقيادة تلك التيارات «الإسلامية»، ما زالت تلك التيارات تتمتع بـ«الشعبية» فعلاً؟! أما آن الأوان للحديث عن «خامس من حزيران إسلامي» بعد؟! كل هذه الأسئلة تشكل موضوع مبحث آخر، لا مجال للخوض فيه الآن. ولكن، تكفي فقط الإشارة إلى أن من يريد الحديث عن «شعبيةٍ» ما، لأي تيارٍ كان، عليه أن يأخذ في الاعتبار أن النازيين في ألمانيا، مع بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، تمتعوا بشعبية كاسحة جداً. وكذلك يمكن أن نضيف أن «الأسديين» في سوريا كانت لهم شعبية هائلة في أوساط البيئة «العلوية»؛ فهل هذا يعني أن الألمان عموماً، والعلويين في سوريا في عمومهم، كانوا موافقين على التوحش النازي أو الأسدي، أم أن الأمر برمته كان بسبب لعب كلا الطرفين، النازي والأسدي، على أوتار الخوف المسيطر على الجموع؟
وفي كل الأحوال، كنتُ قد فصّلتُ سابقاً في توضيح الملامح «الفاشية» للتيارات الإسلامية في عمومها، السلفية الجهادية بشكل خاص، وقدرتها على الحشد بالاستناد إلى اللعب على وتر الخوف من الآخر، في عدة مقالات منشورة هنا في موقع الجمهورية.
تتطلّبُ محاولة الإجابة على الأسئلة كلها أعلاه الاستناد إلى شيء واحد بشكل رئيسي، وقبل أي شيء آخر، وهو مدى ثقتنا بأنفسنا وبما نحمله من رأي. وهذا ليس كلاماً «رومنطيقياً»، بل إنه الأساس «الأخلاقي» الذي لا غنى عنه، الذي يقف عليه كل من يرى أنه صاحب حق غُبنَ حقه من قبل من يفوقونه قوة وبطشاً، وأن عليه أن يمضي خلف حقه هذا، أياً تكُن الظروف. وبالأصل، ماذا كان الدافع خلف الربيع العربي كله، إن لم يكن هذا اليقين عند كل من شاركَ فيه؟! فإن لم تكن «الأخلاق» وحدها كافية للقيام بثورة، فإن غياب تلك «الأخلاق» سيعني أن «الحراك» مجرد تمرّد سيقود في النهاية إلى حرب أهلية… هذا ما وصلنا إليه في سوريا، وأجزم، بأن «البندقية» لعبت دوراً حاسماً في الوصول إلى هذه النتيجة.
عندما بدأنا تلك «المغامرة»، ثورة ربيعنا، كانت «فلسطين» موجودة في أذهاننا جميعاً… فهل يمكن لـ«فلسطين» الحجر في يد المدني، عوضاً عن البندقية في يد المُلثَّم، أن تأخذ مكانتها الجديرة بها فعلاً؟ بهذا يمكن أن ندرك بأن من انتفضوا في ظرف هو استحالةٌ قائمةٌ بذاتها، إنما ابتكروا، بعد أن جُرِّدوا من بنادقهم. في حالتنا، يجب أن نقوم بتجريد تلك «البندقية» أياً كانت، من قداستها… لنبدأ بدورنا بالابتكار.
—————————
ردّاً على الإبادة وليس سبباً لها: السابع من أكتوبر بوصفه يوماً واحداً من تاريخ طويل/ أمجد علي
يعرض المسلسل البرازيلي «3%» وضعاً بائساً لا يمكن تَخيُّلُ وجوده في الواقع، حيث يعيش أغلب السكّان في فقر مدقع وقمع مستمر، مع فرصة ضئيلة للخروج من هذا الوضع بالانتقال إلى منطقة الوفرة، وذلك عن طريق اختبار صعب يتجاوزه فقط 3 بالمئة من المتقدمين. لكن الواقع في غزة يتجاوز تَخيُّلات المسلسل، والحديثُ هنا عن ما قبل السابع من أكتوبر؛ إذ واجه السكان حياةً تحت الحصار والفقر والقصف المتكرر، مع شبه انعدام لفرص تغيير هذا الواقع المرير. في غزة، عانى الناس من نقص في الموارد الأساسية والخدمات، ما دفعهم للبحث عن أي فرصة لتحسين حياتهم، حتى لو تطلَّبَ ذلك مُخاطرة كبيرة. وكما في مسلسل «3%»، حيث يتمسّكُ الناس بالأمل ويحاولون بكل جهدهم الانتقال إلى حياة أفضل، نجد سكان غزة يبحثون عن مخرج من ظروفهم الصعبة، سواء عن طريق الهجرة أو عن طريق محاولات مستحيلة لتغيير واقعهم.
في هذا السياق جاءت عملية طوفان الأقصى، حتى أنه لا معنى للحديث عنها دون وضع هذا السياق في الاعتبار، وهي بالتأكيد غيَّرت الواقع في قطاع غزة والكلّ الفلسطيني، وتختلف الآراء والتحليلات اليوم بشأن ما إذا كان هذا التغيير سيحمل مستقبلاً أفضل أم أسوأ للفلسطينيين وقضيتهم.
هل كانت العملية التي نفذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر مغامرة غير محسوبة؟ هل كان يمكن أن تكون محسوبة تماماً أصلاً؟ وهل يمكن لما يجري على فظاعته أن يفتح باباً للشعب الفلسطيني للخروج من وضع «3٪»؟
هل بدأت الإبادة في سبعة أكتوبر؟
كنتيجة لسياسات استقدام المستوطنين الجُدد ذوي الميول الدينية الصهيونية، بهدف إسكانهم في مستوطنات الضفة الغربية، استطاع هؤلاء تنظيم أنفسهم مُعطين للصهيونية الدينية دفعة سياسية قوية، جعلتها قادرة على تَصدُّر المشهد السياسي بعد تحالفها مع حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو.
لم يُخفِ هذا التيار أجنداته حتى بعد الوصول رسمياً إلى السلطة وتَسلُّم مقاعد وزارية في 2022، حيث بقي يُطالب علناً بضرورة ترحيل فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن وفلسطينيي غزة إلى سيناء. وكانت هذه المطالبات تأتي في سياق من الحصار الشامل على قطاع غزة وتدمير شروط الحياة فيه، وخنق شروط الحياة في مناطق الضفة ومصادرة المنازل والأراضي الزراعية، وحصار الفلسطينيين في منعزلات منفصلة عن بعضها بعضاً بشبكة من المستوطنات والطرق التي يُمنَع الفلسطينيون من استخدامها، وبالتالي تحويل الضفة إلى مكان يصعب العيش به.
علينا أن نتذكَّرَ هنا أنه رغم انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، إلا أن القانون الدولي بقي يعتَبر القطاع محتلاً، بسبب استمرار السيطرة الإسرائيلية المُطلَقة على كل منافذ القطاع البرية والبحرية والجوية، إضافة إلى سيطرته الكاملة على شبكات الاتصال وأجزاء مهمة من البنية التحتية أهمها المياه النظيفة والوقود. تضمّنت الممارسات الإسرائيلية في غزة حصاراً طويل الأمد، عمليات عسكرية دورية، وقيوداً شديدة على الحركة والاقتصاد، ما أدّى إلى معاناة كبيرة للسكّان. وقد وصفت منظمات حقوقية هذه الممارسات مراراً بأنها ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وفي الواقع، تتطابق ممارسات إسرائيل، منذ ما قبل السابع من أكتوبر، مع البنود الثلاثة الأولى من المادة الثانية لاتفاقية «منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها»:
«في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المُرتكبَة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة. (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. (ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً. (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى».
هذا كلّه قبل السابع من أكتوبر، وقد كان مَردُّ التردُّدِ في وصف الممارسات الإسرائيلية بأنها إبادة جماعية هو أنها تتطلّبُ إثباتَ نية الإبادة الكلية أو الجزئية لجماعة معينة، وهو ما يُشكّل تحدياً قانونياً وسياسياً كبيراً، وذلك رغم وجود سياسة قتل متكرر إسرائيلية مُعلَنة يسميها كثيرون من بينهم مسؤولون إسرائيليون «جزّ العشب»، التي يمكن اعتبارها عملية إبادة بطيئة وطويلة الأمد.
خلاصة القول إن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ومحاصرته لم يَكُن إلّا احتلالاً بتكاليف أقلّ، مكّنَ الاحتلال من التحكم بحياة الفلسطينيين، ومن ممارسة عمليات إبادة وقتل جماعي متكررة في دورات زمنية تتراوح بين عامين وأربعة أعوام.
هذا الوضع هو ما دفع كثيرين، منهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غويتيريش، إلى القول إن عملية طوفان الأقصى لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة سياق تاريخي طويل يمتدّ منذ النكبة الفلسطينية، أي أن العملية هي انفجارٌ نتيجة انسداد الأفق والأمل في وجه الفلسطينيين وتحديداً في قطاع غزة. ولم يكن هذا الانفجار هو الأول.
في العام 2008 تدفّقت مجموعات كبيرة من السكّان الغزيين، قُدِّرَت بحوالي مليون ونصف المليون فلسطيني، مخترقين الحدود المصرية بعد أن تم تفجير السياج الذي بُني عام 2003، متجهين إلى رفح المصرية والعريش للتزوّد بالمواد التموينية التي فُقِدَت في القطاع نتيجة الحصار الإسرائيلي والمصري المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية. وفي العام 2018، في ذكرى يوم الأرض في 30 آذار (مارس)، انطلقت «مسيرات العودة وكسر الحصار»، التي قابلها الاحتلال بطريقة عنيفة لا تتناسب مع الطابع السلمي لهذه المظاهرات، إذ راح ضحيتها 215 فلسطينياً إضافة إلى نحو عشرين ألف جريح.
أما عملية طوفان الأقصى، فقد جاءت مُختلفة عن تلك الانفجارات رغم أنها وليدة الأسباب نفسها، ذلك أنه تم التخطيط لها بطريقة عسكرية احترافية، ما يجعلها انفجاراً مخططاً له من قبل جهة مسلّحة بعينها.
عن الجهة التي خطّطت للانفجار وارتباطاتها وتَحوّلاتها
كانت حركة حماس هي المُخطِّطَ والمُنفِّذَ لعملية طوفان الأقصى، وعلى ما يبدو بطريقة سرية جداً، إذ لم يكن لفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى علمٌ بالعملية، ولم تبدأ مشاركتهم إلا بعد أن اخترقَ مقاتلو القسّام حدود القطاع؛ الجوية عن طريق الطائرات الشراعية، والبرية بعد أن فجَّروا أجزاء من السور الذي يحاصر القطاع من كل الجهات، ومن هذه الفتحات دخلت لاحقاً باقي الفصائل إضافة إلى أعداد غفيرة من المدنيين سيراً على الأقدام أو بالدرّاجات.
كذلك يبدو أن حلفاء حماس في «محور المقاومة» لم يكن لهم أي علم بالعملية، ورغم تأكيدهم في كل مناسبة مُتاحة على مباركة العملية، كانوا ينفون مراراً أي علم أو صلة لإيران بها، كما أعلنت الإدارة الأميركية أنها لا تملك أي أدلة تشير إلى أن إيران متواطئة في الهجوم. وبحسب رويترز، قام المرشد علي خامنئي بتأنيب إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحماس، لعدم قيام الحركة بوضع إيران في الصورة، وأبلغه أن إيران لن تدخل الحرب نيابة عن حماس. نفت حركة حماس ما نقلته رويترز، لكن الأجواء كلها كانت ولا تزال تشير إلى أن المحور لم يكن مستعداً للتعامل مع تبعات حدث بهذا الحجم، وتشير في الوقت نفسه إلى أهمية تحالف حماس مع «المحور» بالنسبة للطرفين.
يبرر كثيرون لحماس انخراطها في «محور المقاومة» نتيجة تعرُّضها لحصار ونبذها من مختلف الدول العربية، وتحديداً جلّ دول الخليج إضافة إلى مصر، وهكذا تَظهرُ إيران كداعم وحيد لحماس بالمال والسلاح والخبرات، لكنها تجني في مقابل دعمها أضعافاً مضاعفة، ذلك أن شرعية «المحور» بالكامل تُستمَدُّ من القضية الفلسطينية.
لكنه من الواجب القول إن هذه العلاقة لم تُحوِّل حماس إلى أحد الأذرع الإيرانية كما هو حال حزب الله وجماعة الحوثي مثلاً، وهو ما بدا واضحاً بعد الثورة السورية عام 2011 وانحياز حماس لها ومشاركتها الفاعلة فيها، ما أدّى إلى خروج خالد مشعل رئيس الحركة حينها من سوريا في 2012. وقد شارك فلسطينيون سوريون كثيرون بقوة في أنشطة الثورة السورية السلمية والسياسية والإغاثية والمسلّحة، بما فيها مشاركة عسكرية إلى جانب فصائل الجيش الحر، كانت حماس من أبرز الفاعلين فيها كما تقول شهادات ومصادر كثيرة لا مجال لاستعراضها هنا.
يبدو قولُ هذا ضرورياً اليوم لأن كثيرين باتوا يتجاهلون الدور الفلسطيني المنخرط في الثورة السورية، ويُسلّطون الضوء أكثر على «شبيحة» النظام من الفلسطينيين، ولأن كثيرين يتحدثون عن حماس كما لو أنها فصيلٌ إيراني.
كانت التشكيلات المُؤسَّسة من قبل حماس أو المدعومة منها ضمن الثورة السورية، ومن أبرزها «كتائب أكناف بيت المقدس» التي أسّسها مسؤول الحركة في سوريا يحيى الحوراني، تنتهج نهجاً إسلامياً يمكن تصنيفه ضمن الوضع السوري بالمعتدل، وهذا ما جعلها في حالة صِدام ليس مع النظام فحسب وإنما مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة أيضاً، ولم يُعرَف عن هذه التشكيلات أي ممارسات منهجية من القتل العشوائي والسرقة والبلطجة.
كما أن انخراط حماس ضمن الثورة السورية جعلها في حالة صِدام مباشر مع المليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني، فدخلت العلاقة بينها وبين إيران في حالة برود لم تَعُد إلى سابق عهدها حتى تسلَّمَ يحيى السنوار رئاسة الحركة في قطاع غزة عام 2017، وهو الذي لعب مع القيادي صالح العاروري دوراً رئيسياً في مسار إعادة إحياء هذه العلاقة، الذي تم تتويجه بإعادة العلاقات مع النظام السوري في 2022.
بعودة علاقتها مع النظام السوري، قدمت حماس تنازلاً لم تجنِ منه شيئاً، بينما استمرّت شيطنتها من قبل النظام السوري وتحديداً بشار الأسد رأس النظام، كما أنها خسرت كثيراً من شرعيتها الشعبية فلسطينياً وعربياً، وتسبَّبَ ذلك في خلافات حادة داخل صفوف الحركة، سواء من القواعد أو القيادات التي انتقد بعضها علناً تَوجُّه الحركة الجديد.
لقد خرجت الحركة من دمشق في 2012 في موقف جريء، رفعَ أسهمها لدى الشعب السوري خاصة والشعوب العربية عامة، لتعود بعد عشرة أعوام بموقف هزيل خسرت بسببه كل المكاسب الأخلاقية والجماهرية المتراكمة خلال هذه الأعوام. إن دخول حركة حماس في المناورات البراغماتية عادةً ما يترتب عليه نتائج عكسية، لكن ليست تحالفات الحركة مع «محور المقاومة» و مناوراتها السياسية هي ما يمكن نقد حماس عليه فقط، بل الإيديولوجيا التي تحملها أيضاً.
طالبَ ميثاق حماس لعام 1988 ببناء «دولة فلسطينية إسلامية»، لا بل طالبَ منظمة التحرير الفلسطينية بالتخلي عن علمانيتها وتبني الإسلام منهجاً: «يومَ تتبنى منظمة التحرير الإسلام منهجَ حياة، فنحن جنودها ووقود نارها التي تحرق الأعداء». إن محاولة أسلمة مؤسسات الثورة، ولاحقاً الدولة، أمورٌ ستؤدي بالضرورة إلى تهميش أجزاء واسعة من الشعب الفلسطيني، وإلى خسارة حلفاء عالميين لا يرون في القضية صراعاً دينياً بل قضية شعب يرزح تحت احتلال استيطاني استبدالي، وقضية إنسانية عالمية وجزءاً من الصراع مع القوى الإمبريالية. والأهمّ أن بناء الدول على أساس ديني يخلق بالضرورة سلطات وأنظمة دكتاتورية، تُميّّزُ بين مواطنيها وتُمّيزُ ضد النساء على وجه الخصوص، ولا يمكن لها أن تُنتِجَ دولة لكل المواطنين، خلافاً لمشروع دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة، الذي يشكل تناقضاً جوهرياً مع المشروع الصهيوني.
وقد تبدّلَ موقف الحركة النظري في وثيقتها لعام 2017: «منظمة التحرير الفلسطينية إطار وطني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه، مع ضرورة العمل على تطويرها وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية تضمن مشاركة جميع مكونات الشعب الفلسطيني وقواه، وبما يحافظ على الحقوق الفلسطينية». شكَّلت تلك الوثيقة من هذه الناحية تحولاً إيجابياً، لكنها حملت كثيراً من المناورات السياسية التي ترفض اتفاق أوسلو لفظاً بينما تُبدي وراء السطور مرونة تجاهه.
قد تنسى الحركة أنه ليس نهجها الإسلامي، ولا مناوراتها البراغماتية التي قادتها إلى حكم جزء من الشعب الفلسطيني، هي الأمور التي ساهمت في صعود نجمها، بل موقفها الجذري الثابت من حقوق الشعب الفلسطيني بالتزامُن مع تراجع منظمة التحرير الفلسطينية عن دورها التحرّري بعد اتفاقية أوسلو، التي شكلت مَخرجاً مُربِحاً للاحتلال من الانتفاضة الأولى دون أن يُقدِّمَ أي تنازلات جدية، بل خلقت السلطة الفلسطينية التي تحكمت بالمنظمة وأضعفت دورها بشدة، والتي تحولت إلى أحد أجهزة الاحتلال الأمنية في قمع الشعب الفلسطيني، بينما راحت إسرائيل تُعزّز من سياسة مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والحصار والخنق والقتل.
يهدف العرض أعلاه إلى التذكير بظروف وتاريخ الجهة التي خططت للانفجار، وإلى القول إنها ابنة مسار معقّد فيه الكثير مما يمكن انتقادها عليه بما في ذلك ممارساتها السلطوية، دون أن يكون ممكناً اختزالها في أنها «مجرّد ميليشيا تُشكّل جزءاً من محور المقاومة»، ودون أن يكون ممكناً تجاهل المسار الذي قاد إلى لحظة سبعة أكتوبر كما لو أنها لحظةٌ جاءت من الفراغ.
هل كان يمكن التخطيط لانفجار «محسوب»؟
راكمت حركة حماس خلال الأعوام الماضية انتكاسات متتالية، جعلتها تخسر الكثير من شرعيتها وحاضنتها الشعبية، إلى أن نفّذت عملية السابع من أكتوبر، التي أعادت لها كثيراً من الجماهيرية المفقودة خاصة بعده صمودها المفاجئ في غزة خلال الأشهر الثمانية الماضية.
ويتم نعتُ العملية بأنها «مغامرة غير محسوبة» نتيجة حرب الإبادة الجماعية التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، إلا أن مثل هكذا نعت قد يتم استخدامه، ولو من غير قصدِ أصحابه، لإعفاء الاحتلال وحلفائه من المسؤولية عن هذه الإبادة، بينما هم وحدهم المسؤولون عنها وعن معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ أكثر من مئة عام. ثم كيف يمكن أن تكون أفعال المقاومة «محسوبة» وهي ستجرّ رداً من الاحتلال حتماً؟ هل يعني ذلك أن المقاومة نفسها يجب أن تتوقف عند اختلال موازين القوى مع المُستعمِر؟
هل ينطبق وصف «المغامرة غير المحسوبة» مثلاً على حرب التحرير الجزائرية بين عامي 1954 و1962، حين قتلت فرنسا بدعم من الناتو وإسرائيل مليوناً ونصف المليون جزائري في حرب إبادة أجهزت على ما يقارب سُدس الشعب الجزائري. أدّت هذه التضحيات الجَمّة في نهاية المطاف إلى إعلان استقلال الجزائر في الخامس من تموز (يوليو) 1962، كما تحولت الثورة الجزائرية إلى رمز عالمي للتحرَّر من الاستعمار، اقتدت بها العديد من حركات التحرر في العالم وفي مقدمتها حركة التحرّر في جنوب أفريقيا.
كي تخرج حركة نضالية ضد الاستعمار، أو أي شكل من الطغيان المديد المُنظَّم، من حالة المغامرة غير المحسوبة، فإنه يجب تَوافُرُ مجموعة من الظروف الذاتية والموضوعية التي تضمن تفوّقَ، أو على الأقل تكافؤ القوى، بين المُستعمَر والمستعمِر أو بين قوى الطغيان والقوى التي تقاومها، وهذا يَشترِطُ بدءَ انهيار المُستعمِر أو القوة العدوانية.
في الحالة الفلسطينية، لم تكن تلوح لا في المدى القريب ولا البعيد أي ملامح انهيار للمشروع الصهيوني، ذلك باستثناء التنافر الذي بدأ يظهر بين الصهيونية الدينية والصهيونية العلمانية، والذي راهنَ عليه بعض المفكرين من أمثال إيلان بابيه كبداية انهيار هذا المشروع، بينما قد يقود هذا التنافر فقط إلى شكل من أشكال التحول في النظام القائم، شبيه بالتحول من الاشتراكية إلى الليبرالية الذي حدث في ثمانينيات القرن الماضي، إذعاناً للمساعدات الأميركية التي أنقذت إسرائيل من الانهيار الاقتصادي.
مكاسب رغم الخسائر الرهيبة
يبدو من المبكر الحديث عن ما قد يحققه الشعب الفلسطيني من مكاسب رغم خسائره الفادحة، المكاسب التي سيضيع كثيرٌ منها على ما يبدو بسبب عجز القيادات السياسية الفلسطينية عن الالتقاء في جسم سياسي قادر على التعبير عن تطلّعات الشعب الفلسطيني، وعلى استثمار التضحيات العظام التي قَدَّمها ويُقدِّمها بشكل يومي.
إلا أن العملية استطاعت أن تُعيدَ خلط الأوراق في المنطقة، فبعد اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية بين العديد من الدول العربية والاحتلال الإسرائيلي، تم تعزيز العلاقات في مجالات الاستثمار بين إسرائيل ودول عربية، وخاصة الإمارات العربية المتحدة التي غيّرت قوانينها لتفتح الباب على مصراعيه أمام دولة الاحتلال الإسرائيلي. كما شرَعت الدول المُطبِّعة بملاحقة الفلسطينيين، وبدت وسائل الإعلام التابعة لها، وتحديداً في الإمارات والبحرين، جزءاً من الهاسبرا الإسرائيلي مع الدور الذي لعبته في تشويه وشيطنة الفلسطينيين. وكانت السعودية قد بدأت تحذو حذو الدول المُطبِّعة الأخرى، ثم جاءت العملية التي أَخَّرت التطبيع السعودي الإسرائيلي إلى أجل غير معروف، وأدّت إلى إرباك خطط «المسار الإبراهيمي».
ويبدو أن الإيرانيين حلفاء حماس كانوا ممن خُلطت أوراقهم أيضاً، فقبل قرابة الشهرين من العملية بدا أن الجليد في التفاهمات الأميركية الإيرانية قد بدأ بالذوبان، من خلال اتفاقية تحرير السجناء الخمسة مقابل تحرير 6 مليارات دولار لصالح إيران كانت قد جمّدتها كوريا الجنوبية. شكَّلَ ذلك أملاً جديداً للإيرانيين في تفكيك الحصار الاقتصادي المضروب عليهم، خاصة أن صادرات إيران من النفط ارتفعت لتصل إلى أكثر من 1.5 مليون برميل يومياً، رغم أن إيران قدمت مقابل ذلك تنازلات من جيب دولٍ أخرى وتحديداً لبنان، عندما باركَ ودعمَ حزبُ الله ترسيم الحدود البحرية بين الحكومة اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي، باتفاقية لا يمكن أن يُفهَمَ كيف تم التوقيع عليها إلّا ضمن هذا السياق.
وحتى تركيا لم تسلَم من خلط أوراقها، بعد أن أعادت علاقاتها الدبلوماسية وطَوَّرت علاقاتها التجارية مع إسرائيل. لم يظهر من الحكومة التركية في البداية سوى تصريحات بلا أفعال، إلى أن شعر حزب العدالة والتنمية بمعاقبة أنصاره له في الانتخابات البلدية الأخيرة، وهذا ما دفعه لاتخاذ إجراءات تجارية غير مسبوقة وصلت حدّ قطع العلاقات التجارية بالكامل، ومن ثم إعلان تركيا انضمامها إلى دعوى جنوب أفريقيا لدى محكمة العدل الدولية.
كذلك فإنه حتى إذا كانت العملية مغامرة غير محسوبة، فإن ردّ الاحتلال الإسرائيلي الإبادي يبدو رداً غير محسوب بدوره أيضاً. لقد تم إحياء القضية الفلسطينية بعد أن كانت تُدفَعُ دفعاً إلى التصفية والنسيان والتجاهُل، وباتت الآن تتصدّرُ المشهد العالمي بشكل غير مسبوق لم تشهده في تاريخها منذ النكبة، ومن سوء التقدير عدم الاهتمام بالحراك العالمي وعدم التعويل عليه، وتناسي الدور الذي يلعبه التضامن العالمي في انتصار حركات التحرر، ولنا في التضامن مع جنوب أفريقيا ونتائجه خير مثال على ذلك.
لا يمكن لحركات التحرر الانتصار دون دعم وتضامن عالمي، ولا ينشأ التضامن العالمي تلقائياً نتيجة وجود الضحية، وإنما يستلزم الأمر بالضرورة أن تناضل الضحية.
اليوم، تحظى القضية الفلسطينية بتأييد شعبي عالمي ساهمَ حتى في إحياء اليسار في العالم وإعادته إلى الواجهة من جديد. خرجت المظاهرات بالملايين في مختلف دول العالم، وعاد للطلاب إلى دورهم الفاعل بعد أن همّشه النظام النيوليبرالي الجديد، ليمتد الحراك الطلابي من جامعات الولايات المتحدة إلى كثير من الجامعات الأخرى في مختلف دول العالم. قوبلَ الحراك الشعبي والطلابي بقمع غير مسبوق، يضع أنظمة دول ترفع شعارات الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان مثل الولايات المتحدة وألمانيا أمام امتحان تاريخي. كما أن مشاركة كثير من اليهود في العالم، ومنهم ناجون من الهولوكوست، في المظاهرات الداعمة لفلسطين، باتَ يُفرِغُ تهمة معاداة السامية من معناها، خصوصاً عند قيام قوات الأمن بضرب وسحل واعتقال العشرات منهم وعلى مرأى ومسمع من الجميع. يدلّ هذا العنف على سقوط هيمنة السردية الصهيونية في دول المركز العالمي، التي لم تضطر سابقاً لاستخدام العنف ضد مُعارضي هذه السردية.
كذلك انتعشت حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل اقتصادياً وثقافياً وأكاديمياً، ثم جاء إعلان كلٍّ من إسبانيا وايرلندا والنروِج الاعتراف بالدولة الفلسطينية، الأمر الذي يشكل أهمية رمزية بالغة ستدفع بالضرورة دولاً أخرى إلى المسار نفسه.
كذلك، دفعَ الردُّ الإسرائيلي غير المحسوب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان، ورغم أن ثمة شكوكاً بشأن انحيازه لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، إلى طلب إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، وذلك رغم فضائح التهديدات التي تلقاها ومعه محققو المحكمة من إسرائيل والدول الداعمة لها، التي ستجد نفسها في مأزق قانوني ودبلوماسي في حال صدور مذكرات الاعتقال.
أما الدعوى المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، التي تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، فإنها في حال انتهت إلى حكم من محكمة العدل الدولية بإدانة الاحتلال بهذه الجريمة، ستكون مؤشراً على بداية هزيمة الاحتلال. تاريخياً، لم يُحاكَم أي منتصر وإن كان احتلالاً، وإنما المحاكمات تكون دائماً للمهزومين.
قد يكون مبكراً الحديث عن أننا ذاهبون فعلاً في هذا المسار، لكن علاماته تلوح في الأُفُق.
موقع الجمهورية
—————————–
غزة والعرب والعالم اليوم: حوار مع حسام عيتاني
جذور ومحصّلات ما يجري في منطقتنا وما حولها
ملاذ الزعبي
article
لا يمكن لحوار سياسي اليوم عن منطقتنا وعالمنا إلا أن ينطلق من الأوضاع في قطاع غزة، وهو ما ينطبق على هذا الحوار مع الكاتب اللبناني حسام عيتاني، لكن المقابلة هنا لا تجعلُ من التعليق على التطورات اليومية غايتها، قدرَ ما تحاول أن ترسم سياقات تاريخية مختصرة وأن تستشرف شيئاً من التغيُّرات الحاصلة والمُتوقَّعة، وعلى أكثر من صعيد: إسرائيلياً، وفلسطينياً، وعربياً، وغربياً، وفي أماكن أخرى.
وإن كانت الحرب المستمرة في القطاع تستحوذ على صدارة الاهتمام، فإن الحوار أفسح المجال كذلك لأسئلة أخرى، عربية ودولية: لبنان بعد سنوات على انتفاضة تشرين وتفجير المرفأ، والثورات العربية المهزومة، ووضع الديمقراطية عالمياً، وربطاً على ذلك أخيراً الصعودُ المستمرُ لليمين المتطرّف..
حسام عيتاني، كاتب وصحافي وباحث لبناني، من مؤلفاته: «هويات كثيرة وحيرة واحدة- سيرة لبنانية»، و«الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»
* * * * *
منذ ما قبل هجوم السابع من أكتوبر، وفي السنوات الأخيرة عموماً، تتردد عبارة تقول إن إسرائيل الحالية هي «أسوأ نسخة من إسرائيل»، وخاصة بعد وصول حكومة تضم تحالفاً من اليمين من جهة واليمين القومي واليمين الديني المتطرفَين من جهة أخرى. وبعد السابع من أكتوبر، بدت لافتةً حالةُ الإجماع الإسرائيلية بشأن الحرب وكيفية خوضها، وتواترت على وسائل الإعلام الإسرائيلية عبارات على ألسنة ساسة ومحللين وشخصيات عامة تدعو للإبادة الصريحة، وأحياناً إلى قتل الأطفال، دون أن تثير إلا اعتراضات خافتة ومتفرقة… إلى أين تتجه هذه النسخة من إسرائيل بعد الحرب الحالية؟
أيّاً كانت الوجهة، فإسرائيل ليست ذاهبة لوحدها، بل هي ذاهبة مع المنطقة، ومع الفلسطينيين بالدرجة الأولى.
صحيحٌ أن عدداً من الأسباب لجنوح إسرائيل نحو اليمين يعود للتغيّر الديمغرافي الإسرائيلي وطغيان اليهود الشرقيين، ومجيء أعداد كبيرة من يهود أوروبا الشرقية الذين غيروا المناخ السياسي في إسرائيل في التسعينيات، ومن الممكن قول إن صعود اليهود الشرقيين ابتداء من عام 1977 مع انتخاب مناحيم بيغن مؤشر على أن اليسار العمالي الإسرائيلي كان في حالة أزمة، وإن انتعشَ هذا اليسارُ أوائل التسعينيات مع مشروع السلام. لكن، هنا ثمة خلفية تاريخية ونقطة مهمة تجب الإشارة إليهما، وهي أن التطرّف الإسرائيلي ليس صناعة محض إسرائيلية، بل هو صناعة إسرائيلية فلسطينية مشتركة، إذ علينا ألا ننسى أن من «ناضل» إلى جانب اليمين الإسرائيلي هي حركة حماس، والسنوات بين 1994 إلى 1996 شهدت سلسلة عمليات انتحارية لإفشال اتفاق أوسلو، وتم إفشال أوسلو بالتكافل والتضامن مع اليمين الإسرائيلي، وانتُخِبَ بنيامين نتنياهو للمرة الأولى رئيساً للوزراء عام 1996، وكان إسقاط حزب العمل الإسرائيلي مناسبة للاحتفال عند معسكر الممانعة.
ثم جاءت بعد ذلك الانتفاضة الثانية فتورّطت بالعسكرة وبالتفجيرات الانتحارية التي شاركت بها كل الفصائل الفلسطينية، ضمنَ وهمٍ مَفاده أن الانتفاضة الأولى حققت لنا أوسلو، فسيكون بإمكان الانتفاضة الثانية حالَ إيقاعها خسائر بشرية إسرائيلية أكبر أن تجلب لنا الاستقلال، وهذا الوهم كان فادحاً وتورطت به كذلك الفصائل الفلسطينية الرئيسية في منظمة التحرير، وما زالت تدفع ثمنه إلى يومنا هذا. بالإمكان القول إن هناك ما يمكن وصفه بتبادل خدمات بين معسكر حماس والإسلاميين من جانب واليمين الإسرائيلي المتطرّف من الجانب المقابل، كلاهما يقومان على مشاريع خلاصية تتضمن أوهاماً خرافية لا يمكن تحقيقها، وكلا الطرفين يعتمدان على تسويق الأوهام بين جمهوريهما.
طبعاً في النهاية إسرائيل وحكومتها لديها حلفاء حقيقيون كما رأينا منذ السابع من أكتوبر ولغاية اليوم، فالغربُ كله، بيمينه ويساره، باستثناء أقلية صغيرة، يقف مع إسرائيل، بينما حماس وقفت لوحدها، والشعب الفلسطيني بالتالي وقف لوحده يتحمّل أوزار أخطاء حماس.
إلى أين من هنا؟ أنا لست متفائلاً. إذا أردنا أن نستعمل الماضي لقياس المستقبل، أعتقد أن الانتعاش الذي أظهره الجمهور «الديمقراطي» في إسرائيل خلال الاعتراض على التعديلات القضائية والحد من صلاحيات المحكمة العليا تعرَّضَ لضربة قاسية وقُضي عليه، لأن عملية السابع من أكتوبر هزّت المجتمع الإسرائيلي أعمق كثيراً مما نتصور، وأحيت مخاوف قديمة ترجع للهولوكوست. وبالطبع يجري استغلال هذه المخاوف وتضخيمها، ولكن بات من الصعب جداً اليوم أن نرى حركة اعتراض يقودها معارضون لليمين المتطرف، إن كان هناك من اعتراض فسينبثق من معسكر اليمين نفسه ويمثله يائير لابيد وبيني غانتس. أعتقد أن اليمينَين القومي والديني المتطرفين سيبقيان في المستقبل المنظور اللاعبَين الرئيسيين في الساحة الإسرائيلية، فيما قوى الاعتدال الإسرائيلية ستكون في غاية الضعف.
وبتقديرك، فإن أزمة اعتراض اليهود المتدينين «الحريديم» على مسألة التجنيد الإلزامي مثلاً ستمرّ من دون عميق تأثير؟
ستمرّ. هذه التيارات براغماتية، إذا عُدنا لتاريخ انخراط اليهود الشرقيين، سواء من الحريديم أو من غير الحريديم، بالحياة السياسية انطلاقاً من الستينيات، وكيف تمكنوا من تحسين مواقعهم على طريقة «خذ وطالب»، وعبر العمل من داخل مؤسسات الدولة، فسيتمكنون على الأرجح من إيجاد حلول وسط. ثمة تصورات يُقدّمها الإعلام تسعى إلى إيهام القارئ أو المشاهد العربي أن هناك أزمة عميقة ومصيرية وأن إسرائيل على وشك الانهيار بسببها، وأعتقد أن قراءة متأنية للواقع الإسرائيلي وتاريخ إسرائيل الحديث تدلّان أن هذه الأمور ليست بتلك الخطورة. أذكر تماماً أنه في أعقاب حرب 73 صدرت كتب ودراسات تتحدث عن التقصير وتُحذّر من انهيار الدولة. يمكن الحديث كذلك عن مدرسة إعلامية وفكرية إسرائيلية، قد يرجع أساسها إلى الدياسبورا القديمة، عبارة عن مدرسة نواح وشعارها «سنفنى الآن». إذا قرأت تقرير فينوغراد الذي أُعِدَّ بعد حرب 2006 ستصل إلى نتيجة تقول إن الجيش الإسرائيلي انتهى.. جيش متهالك ومترهل وقيادته فاشلة، وكذلك بعد السابع من أكتوبر كان الحديث عن فضيحة عسكرية واستخباراتية تاريخية، ولكن ما حصل بعد ذلك أن الجبهة الداخلية الإسرائيلية تماسكت وصارت أكثر تطرُّفاً. دائماً ما نفعله كقرّاء ومشاهدين عرب هو أن نعلّق أوهاماً على أدب النواح هذا، وعباراته التي تتحدث عن مؤسسات فاسدة وجيش فاسد. علماً أن الوضع قد يكون كذلك بشكل أو بآخر، ولكن عليك كذلك أن ترى من هو الخصم وما هي أوضاعه. قد تكون المؤسسات الإسرائيلية فاسدة والجيش مترهلاً بالفعل، لكن من يقاتل؟
هل تعتقد أن المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه ينتمي إلى مدرسة النواح هذه؟
هناك جانبان لدى الحديث عن إيلان بابيه، أولهما عمله كمؤرخ، وهو عمل محترم وأكاديمي وجاد ودقيق؛ وجانبه الثاني قائم إلى حد ما على الاستسهال. ألقى محاضرة قبل أشهر في حيفا، يبشر بها بانهيار إسرائيل، وعدَّدَ خلالها خمسة أسباب للانهيار، وبتقديري هي أسباب غير جدية ولعدة عوامل، منها مستوى الدعم الغربي لإسرائيل، إذ لا يمكنك أن تُخرِجَ هذا العامل من الحسابات، وبالإمكان أن نضرب مثلاً بتدخل الطيران الأميركي والبريطاني والفرنسي والبحرية الأميركية للدفاع عن إسرائيل ضد الهجمة الإيرانية المتوسطة في الثالث عشر من نيسان (أبريل)؛ هذا يقول الكثير.
ماذا عن الوجهة الفلسطينية، أنت كتبت مؤخراً مقالاً بعنوان لا يوماً تالياً فلسطينياً أيضاً، تشير فيه إلى غياب أي تصور لدى السلطة أو حماس بشأن ما بعد الحرب، هذا فيما لم تحمل الأشهر الماضية أي مؤشر على تقارب فلسطيني فلسطيني وإنهاء الانقسام رغم جسامة ما يحصل، هل المشهد قاتم بالمطلق؟
فلسطينياً، الكارثة ستستمر. السابع من أكتوبر إن لم يتسبب بالنكبة الثانية فهو ظهَّرَ النكبة الثانية، وأوضحَ بطريقة فاقعة أن القضية الفلسطينية في أزمة عميقة وهي غير قادرة بقواها الذاتية أن تخرج منها. وفي الوقت نفسه لا توجد حاجة دولية لحل هذه الأزمة.
الاقتتال الدموي بين حماس وفتح بدأ منذ 2007، ومنذ ذلك الوقت عُقدت عشرات جلسات المصالحة والحوار ومفاوضات تشكيل حكومات مؤقتة وانتقالية وغيرها بدون أن تُفضي إلى شيء. هناك أوهامٌ لدى الجانبين باحتكار تمثيل الشعب الفلسطيني وباحتكار الحق بالنطق باسم الشعب الفلسطيني، كل طرف منهما يستند إلى شرعية معينة، أحدهما يستند إلى الشرعية التاريخية والثورية وأحدهما إلى الشرعية الانتخابية والتي كرَّسها كذلك بشرعية المقاومة، وهو ما يشكل تناقضاً غيرَ قابل للتسوية.
إذا عدنا للوراء قليلاً، ومنذ بدء الانتفاضة الثانية عام 2000، جرى الكلام كثيراً عن مشروع وطني فلسطيني مُتوافَق عليه، على الأقل لإيصال الانتفاضة الثانية إلى نتيجة ملموسة مثلما وصلت الانتفاضة الأولى إلى نتيجة ملموسة في أوسلو، طبعاً مع التذكير بأن لأوسلو سياقه الخاص بفترة ما بعد حرب الخليج وانهيار الاتحاد السوفيتي ومؤتمر مدريد للسلام، ولكن لم يتم الوصول لنتيجة بسبب تشبّث الطرفين بعنادهما وأوهامهما. هذه الأوهام تجلّت في هجوم 7 أكتوبر. لا أعرف إن كان هناك شخص جاد يمكنُ أن يصدق أن حلفاء حماس سيتدخلون في اليوم نفسه تلبية لنداء القائد العسكري لحماس محمد الضيف. هل هذا تفكير جدي؟ هل يصدر عن أناس يعرفون ماذا يحدث في العالم حولهم؟ عن أناس واعين لما يجري في المنطقة وحسابات القوى وحسابات الربح والخسارة، وكيف يمكن أن تتصرف مختلف القوى، بما في ذلك المتحالفة مع حماس؟ بتقديري كان هناك وهمٌ لدى العقل الذي صاغ فكرة 7 أكتوبر. كان هناك وهمٌ كبيرٌ عن إمكانات وقدرات الحلفاء سواء إيران أو حزب الله أو أي جهة أخرى. ولكن هذه الأوهام ليست جديدة، إذا عُدنا إلى أواسط الستينيات وألقينا نظرة على الأدبيات التي كانت حركة فتح تُحضِّرها لانطلاقتها المسلحة، حين كتبوا مجموعة أوراق وبيانات ما زالت موجودة، وهي تتشابه بشكل مزعج مع البيانين اللذين أصدرهما محمد الضيف. الأدبيات القديمة والبيانان الحديثان تتشارك جميعها في وهم أن جماهير الأمة ستزحف مع أول طلقة. هذا موجود في أدبيات فتح في الستينيات وموجود في بيانات حركة حماس، كلاهما غير صحيحين، كلاهما يعتمدان على رؤية منفصلة عن الواقع لموقع القضية الفلسطينية عند العرب، لفهم خاطئ لمعنى كلمة عرب أصلاً. من هم العرب؟ العرب ليسوا جسماً واحداً ولا مجتمعاً واحداً ولا دولة واحدة، العرب عشرات الانتماءات والهويات والطبقات والفئات الاجتماعية التي قد لا يجمع بينها شيء.
قادة فتح في أواسط الستينيات راهنوا على ما أسموها استراتيجية التوريط، التي بمعنىً ما ساهمت في إنتاج أسباب حرب 1967، وترى أن كل الشعوب والدول العربية ليس لديها ما هو أهم من صدور بيان من فتح أو من محمد الضيف يدعوها للانضمام للحرب كي تنضم للحرب. العالم ليس هكذا، والعرب ليسوا هكذا، والمجتمعات والسياسات العربية ليست هكذا، هذا تجاهلٌ لوقائع قائمة. وحماس تجاهلت حتى حقيقة حلفائها الذين تبرؤوا من 7 أكتوبر في 7 أكتوبر، وقالوا ليس لنا علاقة بالهجوم، الجهات التي راهنْتَ عليها منذ اليوم الأول تبرأت منك، فما بالكَ بأعدائك.
وما هو تصورك العام لوضع المسألة الفلسطينية في مستقبلها القريب؟
تصوري سيء.
من الممكن أن يكون هناك اعترافٌ بدولة فلسطينية، ولكن ما شكلُ هذه الدولة؟ دولة منزوعة السيادة وأشبه بمنطقة حكم ذاتي وبدون أي سلطات وبدون أي سيادة على أراضيها ومواردها. لا أظن أن موازين القوى حالياً تسمح بالسير خطوة للأمام لتحقيق مصالح الشعب الفلسطيني واسترجاع حقوقه الأساسية.
يجب هنا توضيح مسألة كذلك، التظاهرات والمقالات ومواقف الشخصيات المعارضة للإبادة الإسرائيلية حول العالم لا تستطيع أن تنتج تسوية معقولة، فهذه القوى أضعف بمراحل من أن تُحوِّلَ احتجاجها إلى واقع سياسي أو إلى فعل سياسي. سأضربُ مثالاً كنتُ قريباً منه، وهو مظاهرات تشرين الأول في عام 2019 في لبنان، كنتُ أقول حينها إن مئات الآلاف الذين كانوا في الشوارع لا يملكون فعالية سياسية، وبالتالي حراكهم سينتهي إلى لا شيء، وذلك لسبب غاية في البساطة: عدم وجود أقنية يصبُّ هذا الحراك فيها، أي أن 200 ألف متظاهر في ساحة الشهداء ببيروت سيصوتون في 30 دائرة انتخابية مختلفة، وبالتالي هم ضعفاء في مختلف المناطق وتذهب أصواتهم سدى.
وكذلك الوضع بشأن التظاهرات حول العالم، سواء كان هناك مليون متظاهر في لندن أو 500 ألف في نيويورك، هؤلاء ليس لهم وزن سياسي أو فعالية سياسية، وبالتالي، وبغض النظر عن القيمة الأخلاقية والمعنوية التي تشكلها هذه المظاهرات، إلا أنه من غير الممكن تَجييرُها أو توظيفها في عملية سياسية معقولة.
لا أريد أن أُغرِقَ بالتشاؤم، لكن بسبب السابع من أكتوبر رجعنا خطوات إلى الوراء على المستوى الفلسطيني، و7 أكتوبر كان تعبيراً عن غياب القدرة على تحقيق حلّ، سواء عبر المفاوضات التي اندثرت أو عبر القتال. هاتان الوسيلتان اللتان قامت عليهما الحركة الوطنية الفلسطينية على مدار ستين عاماً انتهتا.
وهل من الممكن لحماس أن تنتهي كما تسعى إسرائيل؟
حماس لديها مبررات وجود تُعبّرُ عن حساسيات معينة، من الممكن أن تستمر بشكل أو بآخر، ولكن ليس بالشكل الذي كانت عليه قبل 7 أكتوبر.
في النطاق العربي، يجري الحديث عن فراغ فيما يتعلق بالوضع الفلسطيني، ويبدو مثيراً للانتباه هذه المرة غياب أي انقسام عربي واضح بشأن ما يجري، حتى التراشق اللفظي المعتاد بين بعض الأنظمة لم يعد مسموعاً.
هناك اتفاق على التعاطف الإنساني، بمعنى أن ما يحدث هو كارثة إنسانية، بيد أن خطورة هذا الموقف أنه ينزع عنها الصفة السياسية، ويُجرِّدها من المعنى السياسي، أي أن هناك مجموعة من البشر يتعرضون للإبادة ونحن كبشر نتعاطف ونتضامن معهم، لكن ليس أكثر من ذلك.
عند الانتقال إلى الحقل السياسي قد تبدأ الخلافات. فالتضامنُ الإنساني هو الحد الأدنى المُتوافَق عليه، لكن الكلام السياسي مختلف تماماً، وهذا بسبب وصول كثير من الدول العربية إلى قناعة باستحالة الاستمرار بالتنمية أو بالحكم القائم في ظل الانقسام الفلسطيني. ليس بإمكانك أن تؤيد طرفاً فلسطينياً ضد آخر، وفي الوقت نفسه أن تنحازَ إلى فكرة عامة عن فلسطين. تنتفي في هذه الحالة الفكرة العامة، إما أن تؤيد هذا الطرف أو ذاك.
وقبل تحميل الأنظمة العربية المسؤولية وتوجيه الاتهامات والشتائم لها بشأن عدم تقديمها العون اللازم وما إلى ذلك، دعنا نرى من أين نَبَعَت هذه المشكلة. نبعت من مصدرين: الانقسام الفلسطيني وكذلك من التناقض الذي ظهر في أوائل السبعينيات بين محاولة الدول العربية «التقدمية» استغلال القضية الفلسطينية ومقولة «القرار الوطني الفلسطيني المستقل»، وهذا المصدر الأخير تسبَّبَ بحروب أشهرها الحرب بين ياسر عرفات وحافظ الأسد. ما أريد قوله هو أنه لا إجماع عربي حول معنى القضية الفلسطينية: هل هي قضية إنسانية؟ هل هي قضية تتعلق بمستقبل الدول العربية؟ الجواب عن السؤال الثاني هو لا. هي بالنسبة للأنظمة العربية قضية إنسانية يمكنُ التعاطف مع ضحاياها ولكن ليس لها مغزى سياسي في المستقبل العربي، وهذا ما يرفض الفلسطينيون الاعتراف به، أنهم لم يعودوا يؤثرون على صياغة المستقبل العربي، لأن كل دولة عربية اختارت طريقها وتَوجُّهها السياسي المستقبلي، وكل هذه الدول العربية أجرت حساباتها على أساس أن لا مكان للموضوع الفلسطيني فيها.
هناك من يرى أن هزيمة 67 مثلاً كانت بداية غير مباشرة لتراجع المد القومي وصعود العواطف والأفكار الإسلامية، وفي مواجهة حدث مفصلي بهذه الضخامة وهذا التأثير كالذي يحدث في غزة، هل تعتقد أن ما يحصل قد يؤدي لتغييرات فكرية وثقافية عميقة على المدى البعيد؟ سواء سلباً أو إيجاباً؟
هذا يُحيلنا على السؤال السابق، موقع القضية الفلسطينية ليس مؤثراً ولا مقرِّراً في المجتمعات العربية ولا في الدول العربية. فكرة القضية المركزية لم تعد موجودة، كل دولة عربية لديها قضيتها المركزية.
خُذ على سبيل المثال الخلاف المغربي الجزائري؛ إذا استمعت لما يقوله الجانبان تخرج بانطباع أن هذا صراعٌ وجودي، قبل فلسطين وغيرها من المسائل. أسباب الخلاف المغربي الجزائري ليست محلَّ الحديث هنا، ولكن القضية الفلسطينية ليست الأولوية، وإنما تُستخدَم عبر اتهامات بالتطبيع مثلاً أو بالانحياز للجانب الإيراني، أي لتسجيل النقاط دون أن تكون محورَ الخلاف.
اختفت تماماً الفكرة القائلة بأن حلَّ القضية الفلسطينية يساهم في تَقدُّم وتنمية الدول العربية، واختفت كذلك فكرة أن إسقاط الأنظمة العربية الموالية للغرب هو الطريق لحل القضية الفلسطينية، وهما فكرتان سيطرتا لوقت طويل على منظمة التحرير وعلى اليمين واليسار الفلسطينيين. القضية الفلسطينية لم يعد لها موقع مركزي في الوعي العربي أو في المصالح العربية.
بعض المواقع والأشخاص ما زالوا يفكرون بالطريقة التي كانت سائدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، دون أن يروا ماذا حصل في المجتمعات العربية وما شهدته هذه المجتمعات، من هزيمة 67، إلى الربيع العربي، إلى هزيمة الربيع العربي. هناك من لا يزال يتكلم بشعارات السبعينيات نفسها، وهناك من أدخلَ عليها طريقةَ ما بعد الكولونيالية في التفكير، عبر رمي كل المسؤولية على الغرب واتهام الغرب بتدمير المجتمعات العربية، لكن هذا كله لا ينفي أن المجتمعات العربية تعيش في أزمة، وهي غير قادرة أن تخرج من أزماتها إلا عبر الطرق التقليدية التي تُؤمِّنها وتُمثِّلها الأنظمة القائمة.
ثمة تهمة مُكرَّرة عند الحديث عن التطبيع مع إسرائيل أو إهمال القضية الفلسطينية بأن هذه أنظمة غير شرعية وتمالئ الغرب وتطبق سياساته، لكن يجب النظر إلى نقطتين هنا؛ أولاهما أنه بمجرد وصول أنظمة لا تمالئ الغرب إلى الحكم تحصل كوارث في هذه الدول، والأمثلة كثيرة من صدام حسين لحافظ الأسد لوضع العراق وسوريا حالياً، والثانية أن هذه الأنظمة يصبحُ همها الرئيس بمجرد الوصول للحكم هو كيف تمالئ الغرب.
لنتحدث عن المسألة من الجانب الغربي الآن، أودُّ أن أسألك عن نقطتين، هل سيستمر الدعم الغربي لإسرائيل بشكله الحالي، وهل ترى أن هناك تأثيرات سلبية حصلت على حرية التعبير في بعض الدول الغربية وخاصة في ألمانيا مثلاً، أم أنها مجرد سحابة صيف عابرة؟
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، نعم، التحالف الغربي مع إسرائيل سيستمرّ. دائما ما ننسى جوانب أساسية في هذا الإطار، أن إسرائيل أُنشئت بقرار من الأمم المتحدة، وأن إسرائيل هي الحل الذي توصل الغرب له للمسألة اليهودية التي بدأت بالقرن التاسع عشر وبلغت ذروتها بالهولوكوست، ولا يُفهَم التمسك الغربي بإسرائيل لا عبر تأمينها مصالحه أو حماية الخطوط الإمداد، ولا بصفتها قاعدة استراتيجية غربية في الشرق الأوسط، من دون العودة إلى حقيقة أن إسرائيل هي الحل الذي توصَّلَ له الغرب للمسألة اليهودية.
بشأن النقطة الثانية، علينا أن نسأل: حرية التعبير لِمن؟ نلاحظ أن أكثرية المعترضين على وضع الحريات ينحدرون من بلاد لا حريات فيها، أي أننا نسمع فلسطينيين ومناصرين لهم يتحدثون عن تعرُّضهم لمضايقات في ألمانيا، لكننا لا نسمع الألمان يحتجون، نسمع أصوات مهاجرين وعرب ومنتمين لليسار الراديكالي، لكن المناخ العام في ألمانيا لا يعترض، وذلك لأسباب تراوح بين القبول الكامل بالسلوك الإسرائيلي والتماهي مع فكرة حق الدولة بالدفاع عن نفسها، وصولاً إلى فكرة التماهي الضمني بين الألمان واليهود كما كتب أحد النقّاد في لندن ريفيو أوف بوكس، أي أن الألمان ليس لديهم مانع بما يحصل لأن إسرائيل برأيهم هي امتداد للحضارة الغربية إلخ.
لكن ألا توجد أصوات لمثقفين أو يهود ألمان يعترضون على التضييق على حرية التعبير؟
أفرادٌ فقط، ودائماً ما يهتم بهم الإعلام العربي ويُبرزهم بشكل أكبر بكثير من حجمهم الحقيقي، فهم لا يمثلون حالة عامة ولا يمثلون فاعلاً سياسياً. هناك عدد كبير من المثقفين والأكاديميين والمفكرين اليهود أبدوا اعتراضات على سلوك الحكومة الإسرائيلية واعتراضات على الاحتلال الإسرائيلي منذ 1967 إلى اليوم، لكن هؤلاء في وادٍ وصُنعُ القرار والأكثريةُ الشعبية والسكانية، سواء في إسرائيل أو في الغرب، في وادٍ آخر. ما الفرق الذي يصنعه مثقف يهودي يقدم دائماً البراهين على عنصرية إسرائيل بينما في المقابل يتشكل الكنيست الإسرائيلي من عنصريين؟ ما الفائدة الواقعية هنا؟
نعود إلى فكرة الفعالية السياسية التي لا تُنتجها مقالة في جريدة أو مقابلة تلفزيونية، وإنما تُنتجها كمية من الناس المقتنعين أن القضاء على الفلسطينيين هو حلّ القضية الفلسطينية! وهؤلاء موجودون بالملايين في إسرائيل، أو من المقتنعين بأن أي كلمة لتأييد الحق الفلسطيني هي مُعاداة للسامية كما هو المناخ العام في ألمانيا. لا أزعم أنني خبير بالشأن الألماني، ولكن من نسمعهم يعترضون على ما يحدث هناك هم أفراد، ليسوا أحزاباً مثلاً.
ماذا عن القوى الدولية الأخرى؟ وهنا أقصد بشكل أساسي ثلاث دول، الهند الصاعدة التي تميلُ بشكل متزايد رسمياً وشعبياً نحو إسرائيل، وكل من الصين وروسيا اللَّتين صدرت عنهما مواقف متفرقة دون تأثير حقيقي على المشهد.
قد تكون الهند هي النموذج الفاقع بين هذه الدول الثلاث، فدلهي كانت تُعتبر مركز ثقل للعالم الثالث وحركة عدم الانحياز والجنوب العالمي، وتحولت إلى واحدة من أشرس الحلفاء لإسرائيل. هذه الظاهرة ليست بسيطة، وتفسيرها لا يُعزَى إلى أن العرب لم يهتموا أو لم يبدوا العناية اللازمة بالحليف الهندي، وإنما لأنّ الهند نفسها تحولت، والمناخ الهندي الداخلي يركز على القومية الهندية وعلى إنتاج إجماع وطني قائم على الهندوسية والثقافة الهندية، وهذا الإجماع الوطني جعلَ من المسلمين الهنود عدوه الأول، واستطراداً المسلمون الهنود يمثلون العرب والفلسطينيين، وبالتالي من الطبيعي أن يكون العدو للهند الجديدة هو الفلسطينيين.
أما الصين فلديها جدول أعمالها المستقل وتوجهها وقضاياها واهتماماتها التي لا تُعنى كثيراً بمنطقتنا. إذا استمعت إلى خطاب ممثل الصين في مجلس الأمن خلال الجلسة التي تم التوافق فيها على قرار لوقف إطلاق النار برمضان الفائت، فإن خطابه كان يُزايد حتى الدول العربية، لكنه ينتهي هنا. بكين غير مستعدة للذهاب أبعد من ذلك، فهي في النهاية جزءٌ من النظام العالمي، وهناك تريليونات الدولارات بالتبادل والصلات مع شركات التكنولوجيا العالمية لا تسمح لهم بأن يزيدوا عن الدعم اللفظي أو أن يتحولوا إلى فاعل حقيقي في الشرق الأوسط أو غير الشرق الأوسط. يدعمونك لفظياً وعاطفياً ومعنوياً فقط.
لروسيا وضعٌ مشابهٌ إلى حد ما، ولا يحول دون فاعليتها انشغالُها بأوكرانيا فقط. وكذلك إذا استمعت إلى خطاب المندوب الروسي في مجلس الأمن، فهو يتحدث عن الجرائم الإسرائيلية والإبادة.. إلخ، لكن لموسكو حساباتها الخاصة ورؤيتها للعالم.
لننتقل إلى لبنان الآن. أكثر من 4 سنوات مرت على انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 2019، بينما نقترب من الذكرى الرابعة لتفجير المرفأ في آب (أغسطس) 2020، وأنت تحدثت في مناسبات عدة عن مسؤولية المجتمع اللبناني نفسه عن وضعه الحالي وركوده الرهيب. هل ترى أن لبنان حالة ميؤوس منها!
أعتقد نعم، هو حالة ميؤوس منها، إذا استخدمنا المنظور القائل إن المجتمعات يجب أن تسير نحو طريق ما، هناك من يسميه التقدُّم، هناك من يسميه العدالة الاجتماعية، وفريقٌ ثالث يدعوه المساواة، وآخرون الدولة. أي أن المجتمعات النامية يجب أن تسير في هذا الطريق، أن يكون هناك وجهة ما. قد تنحدرُ هذه الفكرة من العقائد الخلاصية، واستُكمِلَت مع الماركسية ومع الدول القومية في أوروبا ثم مع القومية العربية..إلخ. المجتمع اللبناني هو نموذج اللّا وجهة. تتشاركُ مجموعاتٌ شكلاً من أشكال الهيمنة على أكثرية سُكّانية راضية.
إذا أخذنا انتخابات 2018 وهي آخر انتخابات قبل الأزمة، وانتخابات 2022 وهي انتخابات ما بعد تفجير المرفأ والمظاهرات والفضائح والانهيار الاقتصادي وسرقة الودائع، نجد أن ما أنتجته كل هذه الأزمات هو 7 أو 8 نواب متصارعين ومختلفين، بينما عاد إلى البرلمان نحو 115 إلى 120 نائب من القوى التقليدية الأكثر رثاثة والأكثر تَورُّطاً في صناعة الأزمة وفي الاستفادة منها. ما السبب؟ هو اعتقادٌ عند أكثرية اللبنانيين أن حماية وجودها وسلامتها تضمنه هذه الزعامات الطائفية أكثر مما يضمنه مشروع غائمٌ وضبابي عن الدولة غير الموجودة أساساً. أي أنا أضعُ رهاني على شيء موجود وملموس ولديه مؤسساته، وحتى جيشه إن شئت، ونفوذه القادر على خدمتي وعلى أن يدخلني إلى المستشفى أو يدفع أقساط المدارس أو يؤمن لي فرصة عمل، على أن أراهن أو أتعلَّقَ بمشروع وهمي اسمه الدولة أو الديمقراطية أو العدالة أو التقدُّم.
إذا عُدنا مرة أخرى إلى تجارب قديمة، القوى اليسارية في لبنان كانت تدرك هذا الجانب، كان لديها مستوصفات، كانت تشقّ الطرقات، وترسل طلاباً لاستكمال دراستهم في الاتحاد السوفييتي، كانت تُؤمّنُ مصلحة، تُؤمّنُ فرصة للتطور في الحياة العادية. القوى التي تقول اليوم بمعارضة المنظومة الطائفية ليست لديها القدرة على أن تفعل شيئاً مماثلاً أو أن تُقدِّمَ خدمات. ما فائدة أن يكون لدي نائب آدمي ومحترم وفهمان، دون أن يكون قادراً على أن يفيدني.
هؤلاء الفاسدون الطائفيون المتخلفون قادرون على تقديم أشياء ملموسة تُفيد قواعدهم الانتخابية، ولا يمكن استبدال ذلك بالكلام فقط، بل عليك إحلال ما هو أفضل منه، وبالتالي نبقى ضمن المعادلة نفسها، وليس من مَخرج.
الحرب الأهلية كانت دخلت بما يشبه الدائرة المُفرغة بين 1975 و1990، ولم تنكسر هذه الدائرة المُفرغة إلّا عند تدخّل الخارج، لمّا اتَّفقَ الأميركيون والسعوديون والسوريون أن الحرب يجب أن تنتهي وبات هناك مشروعٌ عنوانه رفيق الحريري. اتَّفقَ الجميع حينها لعدة أسباب إقليمية وعالمية فرضت نهاية الحرب الأهلية، وانتهت على شكل تفويض عربي ودولي لنظام حافظ الأسد أن يدير لبنان، وأَدارَهُ بما يَعرِفْ، بأسلوبه الذي يُديرُ الأشياء به، فاستمرت الحياة بشكل ما. بعد اغتيال الحريري عُدنا للنقطة صفر، الانقسامات نفسها عادت لتترسّخ، والمناطق تقريباً مُقسَّمة والمؤسسات مُنهارة والوضع مشلول، ولا يوجد توافق دولي لإنهاء الأزمة لأن لا أحدَ يحتاج لبنان، لا فائدة لأحد من حلّها، بالعكس هي عبء. من العبء التورّطُ مع مجموعة من الفاسدين والكاذبين ومجرمي الحرب والميليشيات، ومن أجل ماذا؟ لا جدوى. في الفترة السابقة بين 75 و90 كان لبنان يمثل ساحة تُفرَّغُ فيها كل احتقانات المنطقة، والآن ما الفائدة من حل الأزمة اللبنانية من وجهة نظرة قوة دولية كبرى؟ وضعُ سكانه كوضع ملايين آخرين حول العالم.
يبدو السؤال عن الثورات العربية مُحيِّراً، فأوضاع كل الدول التي شهدت انتفاضات أو ثورات تتراوح بين سيئة وأكثر سوءاً، بين استقرار هشّ يُرافقه إما قمع أو تردٍّ اقتصادي في أفضل الأحوال واحتلالات وحروب أهلية متفجرة في أسوئها، هل من الممكن أن نشهد أي تغييرات أو اضطرابات بسبب تفشي الفقر مثلاً؟
أستبعدُ ذلك، الأسباب التي أدّت إلى هزيمة ونهاية الثورات ما زالت موجودة، وهذه الأسباب عميقة وحقيقية، بمعنى أن دُولاً ومجتمعات عربية راسخة ومتناسقة اجتماعياً وطائفياً مثل مصر لم تستطع أن تنتج قوة منظمة تتولى السلطة إلّا الإخوان المسلمين، وكانت النتيجة التي رأيناها، والإخوان رُفِضوا من الشارع قبل وصول العسكر إلى السلطة.
الكلام العاطفي والرومانسي الذي شاعَ في بدايات الثورات حول قدرة الثورات على إنتاج النخبة التي تديرها وتقودها تبيَّنَ أنه خاطئ بالمطلق، والقوى المتضررة من الثورات أكثر تنظيماً ووعياً وأكثر إمساكاً بأدوات التخريب والإدارة، وكما حدث دومينو ثورات، حدث دومينو ثورات مضادة أسقطتها. بتقديري هذه الأسباب ما زالت موجودة وتتعمّقُ بشكل أكبر.
المجتمعات العربية تفقد، ليس قدرتها على تنظيم نفسها فحسب، بل وقدرتها على إنتاج ثقافة ومعرفة وعلى النظر إلى نفسها ونقد نفسها، وذلك من خلال صعود الشوفينية والقضايا الضيقة، فالشوفينية تُريح العقل وتُجنِّبه التفكير والنقد. وكذلك كثيراً ما يتم إلقاء اللوم على قوى قاهرة خارجية شريرة لديها نوايا سيئة تقطف ثمار الثورات. لا تطرحُ أسئلةً على نطاق واسع عن ماذا تمثّل داعش أو جبهة النصرة، ولماذا تمكنوا من الاستمرار كل هذه الفترة، وحتى لو وجدنا إجابات عقلانية ومنطقية ومقنعة، فهذه الإجابات بينها وبين الفعل السياسي سنواتٌ ضوئية.
إذاً لا مخرج أيضاً في هذه البلدان أيضاً..
لا يوجد طلبٌ على الديمقراطية، فالديمقراطية كما يفهمها الغرب ليست مرغوبة لدينا، أي الديمقراطية التي تنطوي على حريات فردية وتحرر اجتماعي، هذه الديمقراطية غير مرغوبة وغير مقبولة وليس لديها الأساس الاقتصادي والاجتماعي الذي يحملها. الشكل المقبول والمطلوب هو نوع من الحكم البطريركي الذي يحافظ على القيم التقليدية والعائلة المتماسكة تحت سلطة الأب، ورأس الهرم الذي يمثله رئيس الدولة، هذه نحن غير قادرين على التخلي عنها. أنور السادات كان يقولها بصراحة «أنا كبير العيلة»، وهذه الطريقة هي الأسهل والأكثر قُرباً من الثقافة السائدة، وبتقديري فهي مستمرة، بينما المجتمع ما يزال يعيش القيم نفسها والأفكار نفسها وطريقة الإنتاج نفسها.
ربما يكون عدد الانتخابات التي أقيمت وستقام هذا العام هو الأكبر في التاريخ، وفي دول متفاوتة من حيث الأهمية الدولية ومستوى وشكل الديمقراطية فيها، من إندونيسيا أكبر ديمقراطية في العالم الإسلامي، مروراً بالهند أكبر ديمقراطية في العالم، وصولاً للولايات المتحدة أهم الديمقراطيات وأكثرها تأثيراً. ومع ذلك حذَّرَت الإيكونوميست، ليس وحدها بطبيعة الحال، خلال استشرافها العام الحالي، من أن الديمقراطية في خطر. إلى أي درجة تتفق مع هذا الرأي؟
عندما نتكلم عن الديمقراطية، علينا أن نتحدث بشكل واضح؛ هل المقصود هو الديمقراطية الليبرالية أم الديمقراطيةُ الإنتخابية أم أشكالٌ أخرى من الديمقراطية، والأمثلة المذكورة في السؤال ليست متطابقة بالطبع. النموذج السائد غربياً هو الديمقراطية الليبرالية، وبعودة سريعة للماضي، فالديمقراطية والليبرالية مسألتان مختلفتان، وزواجهما كان متأخراً، ربما بعد الحرب العالمية الثانية. في البداية كان هناك ما هو ديمقراطي يعتمد على الأكثرية بغض النظر أين تصب، وهناك ما هو ليبرالي يترك الأشياء لحركة السوق ويركز على حريات من دون قيود وخصوصاً حرية رأس المال. زواج الديمقراطية والليبرالية هو ما أنتجَ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الغرب ودولها الحديثة وضبطَ دور الدولة ودور الاقتصاد. هذه الديمقراطية الليبرالية تتعرض منذ أيام مارغريت تاتشر ورونالد ريغان إلى محاولة للتضييق لمصلحة الليبرالية.
مثلاً في هنغاريا، لدينا رئيس الوزراء فيكتور أوربان، وهو ديمقراطي وغير ليبرالي، والأغلبية الساحقة من الهنغاريين انتخبوه، علماً أن منافسه مسيحي محافظ.
الخطر الحقيقي هو على الديمقراطية الليبرالية القادرة على الموازنة بين دور الدولة ودور المجتمع بالرقابة على الدولة وبين الحريات العامة والفردية، بما فيها حرية رأس المال التي يجب أن تخضع للرقابة إلى حد ما.
الولايات المتحدة تجسّد ذروة الديمقراطية الليبرالية وساحةَ اختبارها الأولى، وما يمثله دونالد ترامب وأشباهه هو عملياً أزمةٌ في الديمقراطية، والتي وصلت إلى مكان أصبحت معه تُهدِّدُ الحريات، وليس صدفة أن الحديث عن التعديل الثاني في الدستور الأميركي، والذي يتيح امتلاك السلاح، دائماً ما يتم ربطه بالحرية، وبرأي المدافعين عنه أن الحكومة يمكن أن تنحو إلى الطغيان وعلى المواطن أن يكون مُسلحاً لمقاومتها. ضمن هذه القسمة الأخيرة، الحكومةُ يمثلها الحزب الديمقراطي والمواطن يمثله الجمهوريون الذين يقدمون أنفسهم حماة الحريات الدستورية ومن ضمنها الحق في حمل السلاح. ومن الأسباب الأخرى التي يجب أخذها بالاعتبار أن المسار الاقتصادي الذي سلكته الولايات المتحدة في آخر خمسة عقود أدى للقضاء على ما يسمى الحلم الأميركي، لم يعد متاحاً لشخص لا يحمل شهادة جامعية كما كان سابقاً أن يؤمن معيشته ويؤسِّسَ أسرة ويرسل أبناءه للجامعة، ويختلف تشخيصُ سبب ذلك من جهة لأخرى، سواء كان السبب هو الضرائب، أو الـ outsourcing أي نقل الأعمال إلى خارج أميركا، أو تغوُّلُ عقلية الربح السريع؛ كلُّ ذلك قضى على آلية التراكم التي كانت تعمل لعشرات السنين وأنتجت ما يسمى الحلم الأميركي، حيث يحصل كل شخص على فرصة. هذا ما يفسر لماذا اليسار الراديكالي واليمين المتطرف في الولايات المتحدة أصبحا أكثر قوة بشكل متزامن، وذلك نتيجة انتفاء القدرة على المبادرة الفردية، والارتباط إما بمؤسسات أو التفلّت من القوانين، وهذه ظاهرة موجودة بدرجات أقل وبأشكال مختلفة في كل الدول الأوروبية، حيث يصعد اليمين المتطرف في ألمانيا، وكذلك حزب الإصلاح في بريطانيا، ومارين لوبان في فرنسا، وجميعهم يمثلون الديمقراطية غير الليبرالية.
هذا يقودني إلى سؤال آخر، حال انتصار دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية المرتقبة مع نهاية العام، وهو الانتصار المُرجَّح بشكل طفيف حتى الآن، هل سنكون أمام موجة جديدة من صعود اليمين المتطرف عالمياً؟ هل الربط الآلي بين المسألتين دقيق؟
هناك رهانات تذهب بهذا المنحى، أنَّ الانتخابات التي ستشهدها دول أوروبية بعد انتصار مُحتمَل لترامب في الانتخابات الأميركية ستنعكسُ عليها الموجة التي سيسببها انتخاب ترامب مجدداً، حتى أنَّ ثمة استعدادات للاستفادة من هذه الموجة. بيد أنه إذا جرَّبنا النظر إلى النقاط المشتركة بين الجميع، وهي المهاجرون والأزمة الاقتصادية وسخافة بعض الاتجاهات في ثقافة الووك Woke Culture ووصولها إلى مساحات غير مجدية وغير مقنعة، واللعب على هذه القضايا جميعاً واستغلال عواطف شرائح من الناخبين تجاهها، وهي مسألة مشتركة بين كل الدول الغربية ودول الشمال، فمن الوارد جداً أن تمتد هذه الموجة.
لكن بالمقابل، وبالنظر إلى التجارب التي شاهدناها، مثل تجربة اليمين الراديكالي في إيطاليا سواء خلال الحكومة السابقة أو مع حكومة جورجيا ميلوني، فإنها تشير إلى وجود حدود لم يتمكن هذا اليمين من اختراقها، كالضوابط التي يضعها الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، إذ لا تستطيع أي حكومة داخل الاتحاد الأوروبي أن تخرقها، سواء فيما يتعلق بالمهاجرين أو حقوق الإنسان أو الحريات وغيرها. من هنا يمكن فهم الهجوم على هذه المؤسسات وعلى الاتحاد الأوروبي بدعوى أنه مؤسسة بيروقراطية غير مُنتخَبة، وأن لديها صلاحيات أكبر مما يحق لها، وأنها تتدخل بالشؤون الداخلية للدول الأعضاء ذات السيادة.. إلخ. أعتقدُ أن العام المقبل سيكون مثيراً للاهتمام.
سأختم مع سؤال شخصي، هل تُحضِّرُ لأي كتاب جديد، وخاصة مع النجاح المعقول الذي حققه كتابك الأخير «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، والذي صدرت له أربع طبعات لغاية الآن؟
لدي مشروعان الآن، لا أعرفُ أي منهما قد أتمكن من إنجازه أولاً، ما زلتُ في المراحل الأولية، والفكرة لم تختمر بشكل كامل. يُفترَض أن يتناولا مسائلَ عن المسلمين وعلاقتهم ببعضهم وغيرهم. عندما يُتاح لي الوقت، سأعمل عليهما.
موقع الجمهورية
————————————-
بين رفض شرط الإبادة وتطبيعه: ردّ على حسام عيتاني/ عبد الوهاب الكيالي
في حواره مع ملاذ الزعبي، يطلّ علينا حسام عيتاني ليطرحَ رؤيته للواقع العالمي كما يراه: غرقُ لبنان في التلاشي البطيء، تعفّنُ الحياة الفلسطينية تحت وطأة الانقسام القيادي ما بين فتح وحماس، فشلُ عملية السلام المزمن، ومآلاتُ اليمين المتطرف الأوروبي والديمقراطية العالمية. يُخيّمُ على طروحات عيتاني «عدم التفاؤل»، حيث يتبيّنُ أن مرافعته الكبرى تأتي في وجه «أناس [لا] يعرفون ما يحدث في العالم حولهم»، فيتوهمونَ أن إسرائيل تمر بمرحلة حرجة جرّاء حرب الإبادة، وأن الطرف الفلسطيني يحقق مكاسب ما بعد عملية 7 أكتوبر. يبدو أن عيتاني يخاطب جمهوراً يعتمد منظوراً إيديولوجياً تبسيطياً للعلاقة بين الفلسطينيين والعرب من جهة وإسرائيل والغرب من جهة أخرى، ويمتلكون حسب عيتاني تفكيراً غير جدي. يدعو عيتاني إلى «الواقعية» في التعاطي مع الشأن العالمي، وفي النظر إلى التحديات التي تواجه منطقة المشرق ومُحبِّيها.
فيما يلي، أُراجعُ «واقعية» عيتاني و«جدية» بعض طروحاته، وأُسائل جدواها. بدايةً، يجب أن أقول إنني أفوقُ عيتاني تشاؤماً، وإنه ليست لدي أي أوهام عن ضَعفِ القوى التي تُغذّي شرط الإبادة وتريد تطبيعه في العالم. والهدف من ردّي على عيتاني هو مُساءلَة طروحاته والتشكيك في فرضياتها، التي أعتقد أنها تنتمي إلى زمنٍ ولّى كان أبسطَ من زمننا هذا، وربما كانت تمثّل طروحات عيتاني الاستقطابية تمرُّداً عليه في وقتها على صعيد المنطقة العربية. أسفاً، تبدو هذه الطروحات اليوم مفرطة في الإيديولوجيا، مُفتقِرة للشمولية والحساسية والخيال. وأخشى أن تُساهم هذه الطروحات، دون دراية أصحابها بالضرورة، في تطبيع شرط الإبادة.
تطبيع شرط الإبادة
بداية، لا يبدو أن عيتاني يكترثُ البتّة بشرط الإبادة، ولا بزمنه ولا بواقعه، ولا بالمسؤولية السياسية والأخلاقية لتطبيعه. في ردّه على السؤال الأول حول المُنعرَج الإبادي الصريح الذي تتخذه إسرائيل في الأشهر الأخيرة، يقول إن من غذّى التطرّف الإسرائيلي المزمن هو فشل العملية السياسية السلمية (الميتة منذ أكثر من عشرين سنة)، وأن التطرّف هذا «صناعة إسرائيلية فلسطينية مشتركة»، ويشير إلى دور حركة حماس التي «ناضلت» لإجهاض العملية في التسعينيات من القرن الماضي (ويَذكرُ فرحَ محورِ الممانعة لذلك، لماذا؟ لا ندري). هنا يطرأ سؤال: هل عيتاني جادٌ في كلامه هذا؟ ما هي نسبة مسؤولية الطرف الفلسطيني في صناعة الخطاب والفعل الإبادي لخصومه؟ 50 بالمئة؟ أقلّ؟ لماذا يكرّرُ عيتاني كلام إيهود باراك وبيل كلينتون عن المسؤولية الفلسطينية في فشل العملية السلمية ليُسقطه على واقعنا اليوم (بعد أكثر من 24 سنة على انهيار العملية، وفي ظلّ شرط الإبادة)؟ هل على أحدٍ أن يُحيط كاتباً بحجم معرفة واطّلاع عيتاني بواقع الاستيطان الاستعماري، الذي لم يتراجع لا في زمن العملية السلمية (الجميل ربما بحسب عيتاني) ولا بعده، أو بموازين القوى في العلاقة ما بين المُستعمِر (إسرائيل) والمُستعمَر (الشعب الفلسطيني)؟ أم أن عيتاني يرفض تماماً، وهذا على الأرجح، هذا الإطار (الاستعمار) لوصف العلاقة ما بين الأطراف المُتحارِبة، ويرى أنها تتشارك المسؤولية (السياسية حتماً، وربما أيضاً القانونية والأخلاقية)؟
يتماهى كلام عيتاني هنا مع أشدّ الآراء انحيازاً للطرف الإسرائيلي، وهو الرأي الذي يُضخِّم دور حركة حماس ليُحاجِج أنها هي التي أجهزت على اليسار الإسرائيلي وجعلت من بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الأطول عمراً في تاريخ دولة إسرائيل. وكأنَّ الحركة هي التي اغتالت اسحق رابين، وهي التي تُشارك في الانتخابات الإسرائيلية منذ تسعينيات القرن الماضي وتُؤيد اليمين المتطرف دون علمنا. يكفي حركة حماس مَذمةً ما اقترفتهُ بحق المجتمع الفلسطيني عبر حكمها المديد لقطاع غزة، أما أن تتحمَّلَ الحركةُ مسؤولية الانحناء الإبادي للمجتمع الإسرائيلي اليوم، فهذا ما لا يقوله أحدٌ في إسرائيل نفسها ولا في الدول التي تؤيدها وتؤازرها في الإبادة.
وهنا أتساءل، ما الهدفُ من طرح هذا الرأي على الجمهور القارئ بالعربية اليوم؟ بعد 17 عاماً من الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، والذي كانت تُقاسُ فيه السعرات الحرارية المطلوبة لسكّان القطاع ويمنع أن يتجاوز الغذاءُ الحدَّ الأدنى لإدامة حيواتهم؟ هل هي نوستالجيا للتسعينيات، لزمنٍ بائد وصلت فيه البشرية إلى «نهاية التاريخ»، وكان علينا (الطرف الفلسطيني) الرضوخَ لتسوية خالية من أبسط مكونات العدالة لكي نتفادى المنحى الإبادي؟ هل يُقدّم عيتاني في محاججته اليوم أي نقدٍ للشرط الإبادي أم يقبلهُ كأمر واقع؟ ومتى تصبح هذه الواقعية تطبيعاً للشرط الإبادي؟ ثمة جدلٌ طويلٌ في نقد المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية باعتبار أنها، مع القبول بالحرب وعنف الدولة كحجر أساس لها، تُعيد إنتاج هذا العنف وتسوّقهُ كـ«الواقع» الوحيد. أرى أن كلام عيتاني يقع في هذا الفخ.
إسرائيل وحلفاؤها الأقوياء
أيضاً في معرَض جوابه عن السؤال الأول، يقول عيتاني: «في النهاية إسرائيل وحكومتها لديها حلفاء حقيقيون»، فيما يُشابه كلامَ مؤيدي واعتذارييّ بشار الأسد. «للنظام حلفاء حقيقيون» قال الأسديون المتشفّون بمصير معارضي الرئيس الإبادي عند تبريرهم مآلات الثورة والثوار وسحقهم، وعند تفسيرهم هَبّة روسيا وإيران وحزب الله وغيرهم لنجدة بشار الأسد فيما تردّدَ حلفاء الثورة في مناصرتها. وكأنَّ الإقرار بدرجة الدعم الدولي الذي يحوزه الطرف الإبادي يُفسّر ويبرّر المنحى الإبادي، والدرجة الإجرامية التي يصلها هذا الطرف ذو الحلفاء الأقوياء.
هنا يسائل المرء نفسه، هل ألوم نفسي على أنني مشمئزٌ من الإبادة وأطرافها؟ هل كان عليَّ أن أتوقعها وألّا أتفاجأ بها لأن من يقترفها «قوي» ولديه «حلفاء حقيقيون»؟ هل أريد أن أعيش في هذا «الواقع» ومع هؤلاء الذين يتشفّون بي لعجزي عن مقاومة الشرط الإبادي؟ نَرى هنا أن عيتاني يتبنّى خطاباً مُشابهاً لخصومه الأشدّ في محور الممانعة، وأن النتيجة المنطقية لهذا النهج الخطابي دون الجزم بنوايا عيتاني هي ما يُعرَف بالـ«التلاعب بالعقول» أو الـgaslighting. يمارسُ الطرف الإبادي أو الاعتذاريُ للإبادة هذا التلاعب على الآخر، حيث يسعى إلى زرع بذور الشك في الأطراف الرافضة للإبادة، ما يجعلهم يشكّون في ذاكرتهم وإدراكهم وسلامتهم العقلية، باستخدام الإنكار المستمر والتضليل. والغرض الأساسي من الـgaslighting هو التهرّب من المُساءلة من خلال مهاجمة الضحية.
لا يذكر عيتاني ولا مرة واحدة في الحوار الطويل أن القضية الفلسطينية قضية استعمار ومقاومته، وعندما يذكر «ما بعد الكولونيالية» يتهكّمُ عليها. ويصوّر عيتاني «حلَّ المسألة اليهودية» وكأنه فعلاً حلٌّ لمشكلةٍ ما وليس أساسَ مشكلتنا نحن مع إسرائيل (وأحد عناصر المشكلة المزمنة مع أوروبا وأميركا الشمالية). شخصياً، أرى في ذلك تضليلاً بشأن واقع انعدام العدالة المطلق في «الحلول» الدولية التي طُرحت للقضية الفلسطينية، وبشأن عنصرية حلِّ «المسألة اليهودية» الذي أدى إلى استعمار فلسطين وتطهيرها عرقياً. وأخيراً، لا يعثر قارئ عيتاني على أي إدراكٍ لفداحة الشرط الإبادي، ولا على استهجانٍ له. على العكس، يبدو استهجان الإبادة بالنسبة له نوعاً من التفكير الرغبوي عند القارئ العربي، الذي لا يدرك أن «واقع» العالم إباديٌ إلى هذه الدرجة.
واقع الحال أن الانقسام العالمي اليوم ليس بين محور الممانعة (أعداء إسرائيل) والعالم الديمقراطي (حلفاء إسرائيل) كما يودّ عيتاني وخصومه الممانعون إقناعنا، وإنما ما بين المطبعين للإبادة (من حلفاء وأعداء إسرائيل) والمعترضين عليها. والتهديد الأكبر للديمقراطية اليوم لا يأتي من عالَم الأنظمة السلطوية الهزلية (المتصالحة مع الإبادة قولاً وفعلاً)، وإنما من العنصرية الإبادية الدفينة التي تفجّرت ما بعد 7 أكتوبر في أرسخ ديمقراطيات العالم، والتي أدّت إلى حماية الإبادة والتراجع الديمقراطي الصريح، أو ما يسمى في أدبيات العلوم السياسية «democratic backsliding».
«حرية التعبير لمن؟»
نصلُ هنا إلى أكثر النقاط إشكالية في ما طُرح في المقابلة مع عيتاني، وهو تبخيسه واستخفافه بالتضييق على حريات التعبير والتجمُّع والرأي في أوروبا الغربية وشمال أميركا بعد 7 أكتوبر، واستنكار السؤال عنه. يقول عيتاني: «أكثرية المعترضين على وضع الحريات ينحدرون من بلاد لا حريات فيها، أي أننا نسمع فلسطينيين ومناصرين لهم يتحدثون عن تعرُّضهم لمضايقات في ألمانيا، لكننا لا نسمعُ الألمان يحتجون. نسمع أصوات مهاجرين وعرب ومنتمين لليسار الراديكالي، لكن المناخ العام في ألمانيا لا يعترض».
مجدداً يوجبُ هذا الردُّ طرحَ سؤال: هل هذا كلام جدي؟ ألم يرى أو يسمع عيتاني بالتضييق الذي يطال اليهود والإسرائيليين في ألمانيا من الذين يعترضون على الأبارتايد وعلى الإبادة في مجتمعهم، من أمثال المخرج والصحفي يوفال إبراهام؟ هل يعتبر عيتاني أن من يعترضون على الإبادة في ألمانيا وغيرها غير جديرين بالاعتراض لأنهم «يأتون من بلاد لا حريات فيها»؟ أم أنه يُعرِّفُ المجتمع الألماني تعريفاً عرقياً كما يُعرّفه عُتاة اليمين العنصري المتطرف؟ وإن لم يعترض المناخُ العام على الردة الفاشية التي يتعرّض لها المجتمع الألماني، ألا تكون المشكلة أكبر بكثير من تضييق الهوامش على من هم أصلاً في الهوامش؟
في الحقيقة لا يليق هذا الجواب لا بالسؤال ولا بالتحدي الذي يُشكّلهُ انهيارُ منظومة الحريات، ولا بمكانة عيتاني ولا بعقول قُرّائه. وإن كان إيلان بابيه يتحدث عن إسرائيل باستسهال، فلا يوجد وصفٌ مناسبٌ لهذا المنظور الذي يرى تداعي المنظومة الحقوقية في العالم ولا يكترث لأن «المناخ العام لا يعترض». رشيدة طليب، وإن كانت من أصول فلسطينية، هي من الجيل الثالث للّجوء والثاني للهجرة، وهي بنت المجتمع الأميركي وليس الفلسطيني. طليب نائبة كونغرس ممثِّلة عن الحزب الديمقراطي، ولا تشكل بأي حال جزءاً من اليسار الراديكالي الأميركي. عندما يقرر الكونغرس توبيخها لاعتراضها على الإبادة، فإنه لا ينكّل بهوامش المجتمع الأميركي فحسب، وإنما بفئة واسعة من أبناء وبنات مجتمعه، وينسحب من مسؤوليته في تمثيل هؤلاء والتعبير عن هواجسهم. وعندما يَخرجُ جاستن ترودو وريشي سوناك ويُشيطنون المتظاهرين والمتظاهرات الذين يرفعون الأعلام الفلسطينية، فإنهم لا يعتَدون على الفلسطينيين في مجتمعاتهم فحسب، وإنما على كل من يعترض على الإبادة ويرى عدم جواز ديمومة الاحتلال (ومن هؤلاء نقابات وأحزاب مُمثَّلة في البرلمانات في جميع هذه البلاد عكس ما يقول عيتاني). ومستقبلاً، تنخفض عتبة الشيطنة والتنكيل بأيٍّ كان في المجتمعات الغربية (العنصرية والكولونيالية بنيوياً) ليصبح أيٌّ شخصٍ كان هدفاً للإقصاء.
وهنا نأتي إلى مشكلة أساسية في طروحات عيتاني، وهي تبني المنظور الهوياتي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وأركانه في أوروبا وأميركا الشمالية، بالطريقة نفسها التي نجدها لدى خصومه الإيديولوجيين في محور الممانعة؛ هذا صراع بين عرب مسلمين ومسيحيين من طرف وبين أغراب يهود ومسيحيين من طرف آخر، ولا مكان هنا للأفراد اليهود والمنظمات اليهودية المعترضة على الإبادة، ناهيك عن سائر البشر المُشمئزّين من تعفّنُ جثث الأطفال في المستشفيات. تُرى، ما هي النتيجة المنطقية لقول عيتاني إن شخصاً مثل رشيدة طليب «ينحدر من بلاد لا حريات فيها» (تنحدر طليب من ديترويت ميشيغان) سوى المُطالبة بـ«عودتهم من حيث أتوا»، أي بانهيار النموذج الغربي الديمقراطي للمواطنة من أساسه؟ إذا خرجَ «المناخ العام» في أوروبا وأميركا الشمالية وطالبَ بترحيل من هم على شاكلة رشيدة طليب، أو سَوْقهم مثلاً إلى معسكرات العمل في السخرة، هل يبقى هذا «ديمقراطياً» وفقاً لعيتاني؟ لا يشكل الانحناء العنصري نحو تعريف من يحق له التعبير ومن لا يحق له التعبير من مواطني الدول الديمقراطية أي سببٍ للقلق أو الذعر عند عيتاني، بل على العكس يتبنّى هو هذا المنظور ضمنياً. ولا يُشكّل التصدُّع الذي تتعرّض له مؤسسات لها تاريخ من الاستقلالية الإدارية والمعرفية (الإعلام، الجامعات، الحقل الثقافي)، ولا إغلاقها في وجه المعترضين على الإبادة، مصدرَ قلق لعيتاني. ربما لأن هذا الانهيار كلّه تتحمل مسؤوليته حركة حماس أيضاً.
في كأس العالم الماضي، خرجَ المنتخب الألماني إلى أرضية الملعب في قطر واعترضَ (محقاً) على تكميم الأفواه في قطر حول تجريم المثلية الجنسية. ألا يستطيع أحدٌ المحاججة كما عيتاني أن «المناخ العام لا يعترض» على هذا التجريم في قطر؟ وإذاً ماذا يصبح الفرق بين ألمانيا وقطر في تكميم الأفواه سوى انحيازات المراقب؟ إما حماية الفلسطينيين إن لم يُشهروا مثليتهم، أو حماية المثليين شرطَ ألّا يعترضوا على الإبادة؟
أُفق القضية الفلسطينية اليوم
يُصيبُ عيتاني في طرحه أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب المركزية اليوم، وهذا في صالح القضية بقدر ما هو في صالح المجتمعات العربية. خرجت فلسطين من العباءة العربية وأصبحت قضية معارضي العنصرية والاستعمار والاحتلال في العالم كله. وليس غريباً أن نجد دول أفريقية مثل جنوب أفريقيا وناميبيا ودول أميركية لاتينية مثل نيكاراغوا وكولومبيا (وهي جميعها دول ديمقراطية بطبيعة الحال) تقود الجهد الحقوقي والدبلوماسي العالمي لمحاسبة إسرائيل وعزلها دولياً، بينما تقف الدول العربية ضمنياً في صفّها، وتقف في صفّها جلياً دول الاستعمار والاستغلال والعنصرية والهيمنة في العالم، التي حركت أساطيلها وجيوشها بعد 7 أكتوبر لحماية الإبادة وتدعيم الشرط الإبادي.
اعتقدنا سابقاً أن على إسرائيل نفسها أن تختار بين يهوديتها وديمقراطيتها، وإذ بقادة العالم الديمقراطي كلّهم يختارون الدولة اليهودية وإن جاءت على حساب ديمقراطياتهم ونسيجهم الاجتماعي نفسه. ولا يمكن تفسير هذه الإبادية العدمية إلا بالعنصرية الدفينة تجاه اليهود والعرب على حد سواء، فلا يمكن لأحد أن يؤيد نتنياهو وسموتريتش وبن غفير ويدّعي حرصه على يهود العالم. وعندما يقول جو بايدن إنه لولا إسرائيل لما شعرَ أحدٌ من يهود العالم بأمان، فهو يلمّح ليهود بلاده بأنهم لا يجب أن يشعروا بأمان فيها، وأنّ عليهم الهجرة إلى إسرائيل، وليس هناك معاداة للسامية أكبر من تلك. لا يعثر القارئ في الحوار الطويل مع عيتاني على إشارة واحدة للعنصرية كعامل مؤثّر في خيارات النخب السياسية الغربية، لا بيمينها ولا بيسارها.
أما على الصعيد الشعبي، ما زالت القضية الفلسطينية حاضرة عند الشعوب العربية وعند العالم أجمع، بل وزاد حضورها في ظل الإبادة الحالية، حيث باستطاعة فلسطين أن تحشد الآلاف في كل شوارع العالم في الوقت نفسه الذي لا تتمكن فيه قضايا محقة أخرى من حشد بضعة مستنكرين من دول ومجتمعات الغير (تطهير أرمن آرتساخ وأهل السودان والكونغو كنماذج حديثة رافقت الإبادة الفلسطينية أو سبقتها بقليل، على سبيل المثال). هذا ليس مفخرة للقضية، لكنه دليلٌ على وضوحها عند قطّاع عريض من جمهور العالم، ربما يملك امتيازَ عدم تشكيل رأي بما يخص قضايا أخرى (ومنها، للأسف، قضية السوريين المعارضين لرئيسهم الإبادي). هؤلاء المعترضون والمعترضات على الإبادة الفلسطينية، وتماماً لأنهم غير مُمثَّلين في مؤسسات الدول التي يعيشون فيها، يُعبِّرون عن أزمة التمثيل العالمية وانتهاء صلاحية النظام الليبرالي العالمي. لا يرى عيتاني هؤلاء، ويبخس من أثرهم، وفيما يخوضون معاركهم في مجتمعاتهم اليوم (طلبة جامعات أميركا مثلاً) ليُطالِبوا بإيقاف الإبادة، فإنهم يشكلون آخر خط دفاع أمام انحدار العالم كله في الهمجية الإبادية العدمية. هذا ما تُمثِّله القضية الفلسطينية اليوم: محاولةٌ لمقاومة شرط الإبادة، ورفضٌ تامٌ لواقعه وزمنه وتطبيعه.
موقع الجمهورية