في مسألة العودة إلى سوريا/ رشا عمران
2024.05.28
لنتفق أولا أن سوريا هي ملك لأهلها جميعا، وليست ملكية حصرية لا لفئة ولا لطبقة ولا لطائفة ولا لمذهب ولا لدين. ولنتفق أيضا، أن ما تم الإطلاق عليه اسم سوريا المفيدة، هي سوريا الخالية من معظم سكانها، سوريا التي تم تهجير النسبة الكبيرة من أكثريتها لتبقى نسب مكوناتها متساوية إلى حد ما، أسوة بالعراق ولبنان (هل كان التهجير مدروسا وممنهجا كي تتحقق سوريا المفيدة كما يرونها وكي لا تكون هناك أكثرية مذهبية أو دينية متفوقة العدد في بلاد الشام والعراق وفلسطين المحتلة؟).
ولنتفق أيضا أن السفر والهجرة والعودة والتنقل وحرية الحركة هي من حق من حقوق الانسان الذي تكفله كل القوانين البشرية؛ ولنتفق أيضا أن فكرة الاندماج والتأقلم والتعود على العيش في مجتمعات جديدة هي فكرة بقدر ماهي عملية بقدر ما هي مجازية، وأن ثمة درجات لها بحيث لا يمكن تطبيقها على جميع البشر، هناك بشر يمتلكون القدرة علي التخطي والتجاوز والتأقلم والعيش في أي مجتمع يتواجدون فيه متغلبين على كافة المصاعب والعقبات التي تواجههم وعلى رأسها اللغة والثقافة الجديدة؛ وهناك آخرون عاجزون عن ذلك، وفاشلون في خلق أدوات تمكنهم من الاندماج، وغير قادرين على إحداث قطيعة مع الماضي ومسقط الرأس ومكان الطفولة والنشأة واللغة الأم، وغير قادرين أصلا على اعتياد العيش مع مشاعر الحنين أو إخفائها أو التغلب عليها؛ هؤلاء عادة ما يصابون بأعراض اكتئاب حاد يؤدي إلى اضطرابات نفسية شديدة وعزلة وفشل في الإنجاز الاجتماعي أو المهني، وبعضهم قد يتجه نحو الإدمان والانتحار البطيء؛ ولقد سمعنا جميعا خلال السنوات السابقة عن حوادث موت مفاجئة وقعت للعديد من الشباب السوريين كان أغلبها الانتحار أو جرعة زائدة.
المنطق الطبيعي يقول إننا علينا جميعا البحث عن آليات وضمانات دولية داعمة لعودتنا جميعا والبدء من جديد في النضال من أجل خلاص سوريا بمنظومات فكرية ونضالية جديدة.
“لا معنى لأية هوية تمتلكها في وطن ليس وطنك الحقيقي” هذه الجملة قد تعبر جيدا عن حال كثير من السوريين الذين يعيشون خارج سوريا حاليا، تكمن المشكلة أولا في الثقافة المجتمعية الجديدة التي وجد كثر من السوريين أنفسهم وسطها دون أن يكون لديهم أية فكرة حقيقية مسبقة عن ماهيتها، لديهم مسلمات مروية عن هذه الثقافات لكن الاحتكاك بها كشفها أمامهم وكشف عجزهم عن الانتماء إليها، ما يجعلهم يبحثون عن أي ملجأ ليحتموا به، عن هوية ينتمون إليها خارج وطنهم الأصلي، غالبا ما تكون تلك الهويات ناقصة ومشطورة وسوف تزيد في مكابدات أصحابها مع الاندماج؛ وسوف تزيد من مساحة القلق وفقدان الأمان والضياع في دواخلهم، ما الحل إذا للنجاة وسط كل هذا؟ قد يكون التفكير في العودة إلى سوريا، الوطن الأم، هو الخيار الوحيد أمام من ضاقت به سبل العيش في البلدان الجديدة، وهنا يمكننا الحديث أيضا عمن يعيش بفاقة وشعور بالذل نتيجة حصوله على مساعدات مالية لا تكفيه للعيش بالكفاف، مع عجزه عن التأقلم والاندماج في اللغة وسوق العمل.
أو من يعيش وحيدا في قرية نائية في دولة أوروبية باردة وبدأ شعور العزلة والوحشة ينهش روحه، وأيضا عن أولئك الذين يعيشون في مخيمات مذلة ويتعرضون لخطاب عنصري كاره ومنفر شعبي ورسمية كل هؤلاء قد يشعرون أن العودة إلى سوريا قد تحمل لهم بعض السلام مهما كانت الأوضاع سيئة. علينا هنا أيضا أن نتذكر أن ليس جميع هؤلاء قد خرجوا من سوريا هربا من النظام وخوفا من الاعتقال. كثر لم تكن لهم أية علاقة بالثورة سوى أن القصف طالهم والمعارك طالت حياتهم فهربوا من الموت والحصار، هؤلاء لا يشعرون أن لديهم مشكلة شخصية مع النظام، لذلك قد يرون أن العودة ربما تكون أكثر رأفة بهم مما هم فيه.
ذات يوم قالت لي صديقة مناضلة ومعتقلة عدة مرات ولا يمكن لأي أحد الشك في انتمائها للثورة وما قدمته لها: ( أظن أنني سوف أموت قريبا من الوحشة والاكتئاب ولولا خوفي من التعرض للهجوم والشتائم من قبل الثوار لعدت إلى بيت أهلي في دمشق القديمة على الأقل سأشعر بين جدرانه ببعض الألفة)، سألتها ألا تخاف من عقاب النظام لها، أجابتني بأنها قد تعرضت أكثر مرة للاعتقال وتحملت، وإن كانت عقوبتها الآن الموت فهي تكاد تموت حرفيا من الوحدة؛ صديقتي هذه تعيش في قرية بعيدة جدا عن المدن الرئيسية في السويد وعاجزة عن التأقلم والحياة وحدها وهي في هذه السن. لكم أن تتخيلوا وضع هذه الصديقة التي تخشى من تنمر السوريين (الثوار) عليها لو أعلنت أنها تريد العودة إلى سوريا أكثر من خشيتها من بطش النظام! فهي تعرف جيدا أثر الحملات التي يشنها من يسمون أنفسهم ثوارا، ويعيشون في المجتمعات الأوروبية على من يكتبون على صفحاتهم عن حنينهم وشوقهم للبلد، فما بالكم بمن يفكر بالعودة جديا إليها؟ مع أن المنطق الطبيعي يقول إننا علينا جميعا البحث عن آليات وضمانات دولية داعمة لعودتنا جميعا والبدء من جديد في النضال من أجل خلاص سوريا بمنظومات فكرية ونضالية جديدة، إذ يفترض أن ما يقرب من خمسة عشر عاما قد غيرت فينا الكثير وكشفت أمامنا أخطاءنا وأخطاء الثورة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه وعليه.
ترعبني فكرة تخوين كل من يفكر بالعودة إلى سوريا وأكرر لمن ليس من الشخصيات العامة المؤثرة ممن سوف يضطر لدفع ثمن عودته بموافقة من رأس النظام أو باعتذار عن المواقف السابقة.
حسنٌ، دعوني أقول عن نفسي شيئا، أنا شخصيا أرفض العودة إلى سوريا طالما هذا النظام، من رأسه حتى أصغر مسؤول أمني فيه، ما يزال في حكم سوريا، الأمر عندي مسألة مبدأ أولا، ومسألة أنني قادرة على العيش حيث أنا وليس لدي شعور حارق بالحنين تجاه سوريا وأعتبر العودة المجانية لأية شخصية من الشخصيات السورية العامة والمعروفة (شخصيات سياسية وثقافية وفكرية وفنية) هي قبول بشروط النظام وخيانة لكل الشهداء وموافقة على الخراب الذي تسبب به النظام السوري، فأمثالنا لن يعودوا سوى بموافقة شخصية من رأس النظام، شخصيا أرفض أن أضع اسمي ليمنحه قاتل مغفرة وسماحا؛ لكن في حال كانت هناك ضمانات دولية لعودة الجميع دون التعرض للأذى ودون تقديم تنازلات، ومترافقة مع حل سياسي ولو مبدأي أو مؤقت
فيجب علينا جميعا التفكير في ذلك والبدء بالثورة من جديد، لطالما كنت أفكر هكذا ولطالما طلبت سابقا من الأصدقاء في الهيئات السياسية المعارضة قبل سنوات طويلة السعي مع المجتمع الدولي لضمان مثل هذه العودة. وهذا ما لم يحصل أبدا للأسف.
لفتني مؤخرا ما تعرض له الشاب الذي يدعى (الشامي) من شتائم وتهكم بسبب عودته إلى سوريا من قبل سوريي الخارج أو من يسمون أنفسهم ثوارا، والحقيقة لم أفهم سبب الحملة ضده، شاب في مقتبل عمره خرج من سوريا طفلا تقريبا، ليس لديه أي وعي سياسي، استطاع عبر استخدام وسائل الاتصال أن يكون لنفسه جمهورا لصوت أراه متواضعا جدا لكنه يتناسب مع حالة المديوكر السائدة حاليا في عالمنا العربي، وليست لديه أية ميزة أخرى غير الاجتهاد ليصبح نجما، هو لا يفكر لا بثورة ولا بمستقبل جماعي تغييري لسوريا، ماذا سوف تقدم عودته أو تأخر بالنسبة لسورية وثورتها ومستقبلها؟
ترعبني فكرة تخوين كل من يفكر بالعودة إلى سوريا وأكرر لمن ليس من الشخصيات العامة المؤثرة ممن سوف يضطر لدفع ثمن عودته بموافقة من رأس النظام أو باعتذار عن المواقف السابقة.
ترعبني الفكرة لأن فيها حسا سلطويا عقابيا لا يختلف عن آلية تفكير النظام؛ وفيها أيضا تسليم كامل بأن سوريا هي لآل الأسد وأتباعهم وليست لشعبها كله، فيها بيع سوريا لفكرة النظام عنها ولما اشتغل خلال السنوات الماضية ليصل إليه في رؤيته عنها؛ فيها تخلٍّ كما تم التخلي عن الثورة، وفيها استعلاء مبني على الفراغ وتفاخر بثورية لم يعد لها أية مقومات، وفيها تطهرية مواربة وبطريركية تمنح بركاتها لمن ترضى عنه وتمنعها عمن يخالفها. فهل هذا ما أردناه حقا لسوريتنا ولثورتنا معا؟!
تلفزيون سوريا