مقالات سينمائية

كوبولا يطلق ثورة في مهرجان كان مع “ميغالوبوليس”/ هوفيك حبشيان

تجربة بصرية مذهلة ورحلة تتجاوز المتوقع ترصد نهوض اميركا وانحطاطها

17 مايو 2024

ملخص

فاجأ المخرج الاميركي الكبير فرنسيس فورد كوبولا  الذي يبلغ الخامسة والثمانين، جمهور مهرجان “كان” بفيلمه الجديد “ميغالوبوليس” الذي يفيض بجماليات بصرية ومشهدية، ويقدم رؤية فريدة الى العام الراهن والى اميركا بين حركتي نهوض وانحطاط.

يصعب الحديث عن “ميغالوبوليس”، فيلم المخرج الأميركي فرنسيس فورد كوبولا المنتظر الذي شاهدناه أمس في مهرجان “كان” السابع والسبعين (14 – 25 مايو /أيار)، فيكاد يستحيل إيجاد نقطة محددة ننطلق منها للاحاطة بكل جوانب فيلم متشعّب أُنجِز “خارج السيستم” ويوفّر تجربة بصرية مذهلة نتعامل معها بكل حواسنا، خصوصاً اذا كان لكاتب المقال هاجس ان ينقل إلى قارئ المقال ما شعر به خلال المشاهدة، وهو يعيش تفاصيل هذا الفتح السينمائي طوال أكثر من ساعتين من رحلة تتجاوز المتوقّع. فالسينما أولاً وأخيراً، أحاسيس متداخلة ومتشابكة، ولا يمر التأمّل والتفكير الا عبرها. 

ينافس “ميغالوبوليس” على “السعفة الذهبية” ويعيد صاحب “العراب” و”القيامة الآن” إلى “الكراوزيت” بعد نحو نصف قرن على فوزه بجائزة المهرجان الأكبر، وهذا وحده حدث في ذاته يستحق الاحتفاء به. لكن التعمّق في الفيلم يجعلنا نصرف النظر عن هذه الجزئية، وبعد السكرة لا بد ان تأتي الفكرة. في الواقع، كوبولا ذو الخمسة والثمانين عاماً، قدّم وهو في مثل هذا العمر فيلماً يصعب على الذين في العشرين إنجازه فكيف بالأحرى تخيله. انه من هذا النوع من الأفلام التي يحتاج الفنان إلى ان يعيش حياة كاملة تفضي به في نهاية الأمر إلى الحكمة والبصيرة اللتين تخولانه ان يترك خلفه مثل هذه الوصية السينمائية التي تؤكد، مرة جديدة ان المخرج الكبير لا يزال أكثر شباباً وبراءةً وشفافيةً من كثر، والأهم انه استطاع الاحتفاظ بهذا الشباب وهذه النضارة رغم العقود الثمانية التي عبرها بحلوها ومرها.

كوبولا لا يزال طالباً في مدرسة السينما، يختبر بثقة عالية وحماسة شديدة وشغف أكيد كل احتمالات اللغة السينمائية. في الفيلم كم هائل من اللحظات التي تتراءى خلفها بهجة الشخص الذي “يؤفلم” الحياة والبشر. أما الطموح الذي لا حدود له عند كوبولا، وقد احتاجه لتحقيق هذا المشروع، فينعكس في كلّ لقطة من الفيلم. 

فاجأنا كوبولا بعمل آخر لا يُصنَّف، ينظر إلى الوجود بكليته (على طريقة ترنس ماليك وغودار)، من خلال نص حر على قدر كبير من الجنون والعبث والجرأة والانفتاح على العالم. عمل يملك أبجديته، جمالياته، خطابه، يخلط الأوراق بين التجريب والنمط الهوليوودي الذي يخاطب الملايين. عمل لا يحكمه قانون، يقع خارج أي موضة أو تيار، يتبلور في نطاق من الاستقلالية الفكرية والفنية التي لطالما سعى اليها كوبولا، مؤكداً على الدوام ان “العراب” كان محض مصادفة وقد أساء اليه، بمعنى انه لم يطمح يوماً الا ان يكون مخرجاً مستقلاً على غرار معلّمه روجر كورمان الذي غادرنا قبل أيام.

”ميغالوبوليس” مفصّل على قياس صاحبه، بل هو بورتريه له، لأفكاره وتطلعاته، عمل يمعن في شخصانية تتجسّد على الشاشة من خلال الممثّل آدم درايفر، النابغة الذي يملك رؤية محددة للمدينة الفاضلة التي على الناس ان يعيشوا فيها، بقعة جغرافية تبث الحلم في نفوس قاطنيها. بطلنا هو أيضاً مخترع لمادة ثورية لا يمكن تلفها، لكنه يملك قدرة إيقاف دوران الزمن. رؤيته هذه تشعل احتراباً بينه وبين عمدة المدينة التي بحسبه، يجب ان تكون أشبه بملهى ليلي. الفكرة التي تُعتبر عادةً تفصيلاً في أفلام كثيرة، تخطف الفيلم بأكمله، لترينا مدى الاصطفافات والانقسام الذي نعيشه في كل المجالات الحيوية، ومن سخرية القدر ان هذا الانقسام ينسحب أيضاً على الفيلم.

ما يصوّره كوبولا هو نظرتان إلى العالم، يختار معسكره في واحدة منهما. يفتح النار على كل شيء يغذّي حرائق عالمنا الحالي، ولكن في محاولته لاخماد النيران رغبة في الاصلاح، وإيمان عميق بالإنسان. المستقبل الأفضل في نظره  يضمنه الفنّ والحبّ والعدالة. 

هذا كله في فيلم يحمل أصداء زمن ماض وهواجسه وأحلامه وفراديسه الإصطناعية وأوهامه، لعلها الفترة التي شهدت بزوغ الفكرة في مخيلة المخرج. هل يصح قولها اليوم؟ بكل تأكيد. فالمستقبل ملك الحالمين، وليس الذين ماتت فيهم الرغبة في التغيير. وكوبولا يعلم ذلك جيداً ويحاول ان يقولها بصراحة وبصوت عال. قد لا يعجب البعض هذا الكرنفال الـ”باروك”، وقد يخرج آخرون بطاقة الخيبة من جيوبهم، ولا نعرف ما كانت توقعاتهم. لكن هذا نصيب يلقاه أي عمل فني كبير يعبر فوق أسوار الزمن الذي هو فيه، يكون رأسه في المستقبل وجسده في الحاضر. هذا ليس جديداً عند كوبولا، فهو لطالما كان رؤيوياً، ثمة عدد من أفلامه لم يُفهم الا بعد سنوات. ونعم، قد نخرج من الفيلم حائرين ومربكين، لأننا لن نستوعب كل شيء، وربما حتى كوبولا لم يستوعبه. لكن ما هو الفن سوى هامش من الغموض الذي يترك العديد من الأسئلة الشائكة معلقة. كما ان البعض سيشعر انه في سباق محموم مع تطورات فيلم ذي إيقاع جهنمي، يموضعنا في فوضى خلاقة، كحال العالم الذي نعيش فيه حيث يطرح كوبولا نفسه، معلّماً تنويرياً وفيلسوفاً، قلبه على الناس والشرط الإنساني ككل.

يحاول ان يأتي بأشياء كثيرة متداخلة، من دون ان يبدو بيداغوجياً، إنما من خلال الفن الذي عشقه وتحدّث لغته وفهم أسراره، معيداً ايانا إلى روما وقافزاً من هناك إلى أميركا الحالية، ليطرح سؤالا حاسما: هل يمكن بعضة أشخاص ان يتسببوا بانهيار حضارة ما؟ نعم، مهما حاول اللف والدوران حول اطروحاته، فهذا فيلم عن أميركا، عن صعودها وانحطاطها، بحسب كوبولا.

——————————–

فرانسيس فورد كوبولا سكب كل نبيذه في مشروع العمر: ذاكرة الفن السابع ستحفظ «ميغالوبوليس»/ شفيق طبارة

18 أيار 2024

فرانسيس فورد كوبولا سكب كل نبيذه في مشروع العمر: ذاكرة الفن السابع ستحفظ «ميغالوبوليس»

كان | وجود فيلم مثل «ميغالوبوليس» في «مهرجان كان السينمائي» بدورته الـ 77، هو بحد ذاته شيء عظيم! في صناعة تهيمن عليها مصالح شركات الإنتاج، كان فرانسيس فورد كوبولا (1939) قادراً على تقديم فيلم تجريبي، متغطرس ومتطرف ووقح وعبقريّ وحرّ، ينتقل من الابتذال إلى الاستثناء. ينقل «ميغالوبوليس» قصصاً مجازية ذات قيمة تواصلية عالية وطبيعة فلسفية وأدبية. هذه رؤية كوبولا الخاصة والخالصة، هذه هي الملامح الساكنة في أفكاره الأكثر وجوديةً والمتولّدة من تجاربه الشخصية، ومن العقد والتناقضات، ومن عملية اصطدام وتلاقح للتاريخ والدين والسياسة والفلسفة والحضارات. لقد أدار كوبولا الدفة كما أحبّ. «ميغالوبوليس» كوبولا خيالية لا تتبع أي مسار منطقي، فالمخرج يستذكر ويكذب، يريد أن يقول لنا إنه لا بأس في تنميق أنفسنا وهندسة عقولنا وتحقيق أحلامنا وإضفاء العبث على فنّنا… علها هذه المدينة الخيالية تكون الملاذ المثالي للفرار من واقعنا.في «ميغالوبوليس» مشروع العمر الذي سكب بسببه كل نبيذه، ترك لنا كوبولا، هواجسه وعبقريته، وروح رجل عجوز يهدينا فكرةً كبيرة عن هذا العالم. خيّب «ميغالوبوليس» آمال كثيرين، وأسعدهم في الوقت نفسه. مع نهاية عرض الصحافة في المهرجان، علت صيحات استهجان مغلّفة بتصفيق حار، وهذا مفهوم، فهو فيلم يستحق أن تتصارع معه داخل رأسك وقلبك، كما يستحق أن تعطيه كل روحك. فيلم لفنان يحلم بالمستقبل نيابةً عنّا كلّنا، مع دراية كافية بهواجسه الخاصة التي يسخر منها بينما لا يزال يحتضنها. ساعتان وربع ساعة، مدّة كانت ثقيلة ومشوشة وعظيمة، تخلّلتها أطروحة عن تاريخ الإنسانية وحالة العالم اليوم، وسقوط روما القديمة، والفن والثقافة والشعر والحب والهندسة المعمارية والأعمال العظيمة للإنسانية. مجموعة من الأفكار والأحلام والكوابيس والمفاهيم والرغبات عن كل ما يمكن القيام به عبر السينما. خلطة لا يمكن التنبؤ بها، ولا تستطيع إلا الاستسلام لها، بينما يمنحك كوبولا، وهو في الخامسة والثمانين من عمره، فكرته، وهو لا يشعر بالقلق بشأن ما قد يعنيه ذلك لك.

سيزار كاتالينا (آدم درايفر) مهندس معماري صاحب أفكار ثورية، يريد بناء المدينة العملاقة التي يحمل الفيلم اسمها. مدينة مصنوعة من مادة الـ«الميغالون»، محسّنة، ستمنح البشر تعايشاً مجتمعياً أكثر انسجاماً. يعارضه العمدة فرانكيلن شيشيرو (جيانكارلو إسبوزيتو)، الذي يريد جعل المدينة أكثر جاذبية للسياح، وترك أي ابتكار طوباوي غير مجد بالمعنى التجاري، إلى جانب عائلة المصرفيين الرائدين الذين يمثلهم هاملتون دراسيوس الثالث (جون فويت)، والمريب كلوديو (شيا لابوف). بينما يتصارع المذكوران، يحاول ناش بيرمان (داستن هوفمان)، رؤية مصلحته، تماماً مثل واو بلاتينوم (أودري بلازا)، بينما جوليا (ناتالي إيمانويل)، ابنه شيشيرو، تكنّ «تقديراً» كبيراً لسيزار، ونكتشف أنّهما يشتركان في أكثر من مجرد انجذاب، ما يضعها في موقف حرج مع والدها.

في ربط تاريخ روما القديمة بالولايات المتحدة الآن بصفتها أكبر إمبراطورية إمبريالية على الكوكب، يبدأ فيلم «ميغالوبوليس» بالتدفق عبر لقطات تتأرجح بين الخطابية والرمزية والمباشرة. لا توجد عملية صقل ولا غربال يغربل أفكار المخرج ورؤيته السينمائية قبل أن تصل إلى الشاشة، فكوبولا حرّ في كل ما يفعله، فكرياً وسينمائياً، ويظهر على الشاشة كأنه يحدّثك مباشرة. ضجيج وابتذال وارتباك وقبح وجمال وعظمة وفن لا نهاية له، ولا تعرف كم سيستمرّ هذا، وما عليك سوى الاستسلام، وترك عبقري سينمائي يجمع كل شيء في مكانه بشكل مثير للإعجاب. صراع هائل يسبّبه لك كوبولا: جنون وتميّز يتشابك مع السخافة والأخطاء المقصودة، ومشاهد تصل أحياناً إلى مستوى الفكاهة، وتارة أخرى إلى عمق يصعب مضغه. تتحرك كاميرا وشخصيات كوبولا بحرية، كما أنه يقسم الشاشة كما يريد، ويوقف الوقت، ويلعب لعبته مع المتفرجين، حتى إنّه يتجرأ على توقيف الفيلم، ليخرج رجل على المسرح مع ميكروفون ليأخذ من سيزار (الموجود على الشاشة) مقابلة صحافية أمامنا جميعاً (هكذا حدث خلال الفيلم في المهرجان، لا نعرف كيف سيتم ذلك في الصالات لدى عرض الفيلم). طوال الفيلم، هناك رومانسية ومشاجرات واتهامات وتلاوة عبارات شهيرة، وشكسبير، وأزياء رومانية قديمة، وألعاب ومسارح وملاعب رومانية، وتعليقات صوتية من الراوي، وجنس، ومونتاج سريع، وقمر صناعي سوفييتي يقترب من الأرض، وأخبار تلفزيونية. الجميع يصرخ ويلعب ويضحك ويقفز ويتحدث (حتى باللغة اللاتينية)، ومغنّو بوب يقدمون عروضاً حية، وسلسلة من اللحظات الغريبة تضفي على الفيلم إحساساً كأنه سيرك.

لا تتوقع فيلماً تقليدياً. هناك تقلبات في السيناريو قد لا تضيف شيئاً، وهناك عدد كبير من الزخارف والأزياء الممتعة، وترف فنّي لا يستطيع فعله سوى محارب سينمائي قديم. ليس هناك خطوط حمر بالنسبة إلى كوبولا، فهو قادر على تخيّل المستقبل ولو كان مبتذلاً ولونه ذهبي. «ميغالوبوليس» مرادف للبذاخة والخيال وحتى الباروكية في السينما والفن بشكل عام. يصف الفيلم العالم الجمالي والاجتماعي والسياسي الذي يتغلغل في أمة بأكملها، ويظهر التوتر بين الإنسان المعاصر ونواة الماضي، والأحلام المثيرة، والرجولة الكرتونية. مزيج غريب من النقد والعاطفة، وخليط من الذاكرة والأحلام والخيال لرؤى شخصية ذات خصوصية عالية.

لعلّ «ميغالوبوليس» الأكثر خصوصية وجموحاً في سينماتوغرافيا المخرج العظيمة. قد يبدو الفيلم كالألعاب النارية التي لا تتوقف، حيث يصطدم كوبولا بالسماء، بطريقة أكثر اضطراباً وشراهة. نرى الماضي يتكرر في الحاضر وينبئ بالمستقبل، فهو ليس مجرد هجوم على النظام الاجتماعي. إنه محاولة لتأمّل الحياة، واستيعاب السخرية، وعدم الخشية من المواقف واللحظات الغبية، والبحث الدائم عن السعادة والأحلام، والاعتراف باللحظات رغم عدم ديمومتها وبالحياة رغم بلاهتها.

لن نتوقف عن الحديث عن الفيلم لمدة طويلة، ومفتاحه هو الوقت، كما هي الحال دائماً مع أي عمل فني عظيم. ولهذا قد يكون متعالياً جداً، ومتغطرساً، لكنّ «خطاياه» مغفورة لأن كل شيء مباح بالنسبة إلى كوبولا، فهو لا يدين لأحد بشيء. في تاريخ السينما، قلّة هي الأفلام التي تشكل علامة فارقة، وتحمل على أكتافها سلوكاً جديداً مستهجناً لدى بعضهم. «ميغالوبوليس» هو واحد من هذه الأفلام، تركيب بصري فكري فائق التعقيد والعمق. كوبولا على عجل ينتقل من جزء إلى آخر، من مشهد إلى آخر بطريقة سريعة وبقفزات راديكالية، فجاءت النتيجة ضخمة وساحقة، إلى حدّ أن القصة لم تستطع احتواء الصورة، وهذا نادر الحدوث.

ملحق كلمات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى