هل تتخلّى أميركا عن سورية؟/ شفان إبراهيم
24 مايو 2024
نشرت سفارة الولايات المتّحدة في سورية تغريدةً عبر منصة إكس، تقول فيها: “تقديرا للنسيج الغني للثقافات والأديان والتاريخ الذي تعايش في سوريا على مر القرون، تشجع الولايات المتحدة جميع الأطراف في سورية على وضع الظروف اللازمة للعودة إلى التعايش السلمي واحترام التنوع وحقوق الإنسان”. وهو ما اعتبرته بعض النُخب السياسية بداية التنصّل من المهامّ الأخلاقية، وترك السوريون لمصيرهم، وسط بحر الدماء والقتل على الهويّة، واستمرار نزيف الهجرة والجوع والفقر المدقع. كما تسببت زيارة مدير المديرية العامة لعلميات المساعدات الإنسانية في الاتحاد الأوروبي (أكبر جهة مانحة تقدّم المساعدات للسوريين) ماسيج بوبوفسكي إلى دمشق، ولقائه مع الفريق القُطري الإنساني من أجل ضمان استمرار الدعم للسوريين، ودعوته إلى بقاء “سورية في دائرة الضوء”، في تأجيج مشاعر الخوف تلك، خاصّة أنّ الزيارة جاءت عقب الانتهاء من مؤتمر بروكسل الثامن للمانحين في 30 إبريل/ نيسان 2024. إضافة إلى إعادة نشر نائبة الموفد الأممي الخاص إلى سورية نجاة رشدي تغريدة الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريس، التي قال فيها: “لقد شهدت الكرم الهائل للشعب السوري. يؤلمني رؤية سورية في وضعها الحالي مع ما تشهده من كثير معاناة. إنني أدعو جميع السوريين إلى الالتقاء في ظلّ الروح السامية للمصالحة، وكذلك احترام تعدّديتهم وتنوعهم واحترام ضمان حقوق الإنسان للجميع”، ذلك كلّه شكل هواجس للسوريين لها جذورها؛ نتيجة التجارب، وشعور الخذلان الذي يعيشه السوري.
في طبيعة الحال، ورغم مواقفَ لأطراف أقوى وأكثر فاعلية داعمة للسوريين في محنتهم، إلا أنّ عامل الخوف واليأس يلعب دوراً محورياً في تحريك سلوكيات وأفكار سلبية ومخيفة، خاصّة مع طول أمد النزاع، وغياب آليات تنفيذ القرارات الدولية بشأن سورية، وتكرار الفيتو الصيني – الروسي على العديد من المقترحات والمبادرات التي تقدّمت بها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، والتقليص الحاد في حجم وكمية ونوعية المساعدات المقدّمة للسوريين في الداخل، عبر مختلف البرامج والمنظّمات، سواء الأممية أو الدولية، إضافةً إلى غياب حماية السوريين اللاجئين في دول الجوار، خاصّة في لبنان، وعمليات التحريض على القتل أو العودة الجماعية، وسط غياب أبسط مقوّمات العيش في الداخل، تلك العوامل كلّها تُشكل جزءاً مُهمّاً من أيّ توجّه أو قناعة للسوريين باحتمالية تخلّي الإدارة الأميركية، وعموم المجتمع الدولي، عنهم، خاصّة أنّ أجيالاً راحت تكبر على وقع الحرب، والفقد العميق لكلّ شيء.
لكنّ الواضح أنّ سورية تحديداً تُشكّل عُمقاً غايةً في الأهمية والحساسية للأمن القومي الاستراتيجي الأميركي، خاصّة مع حركية ونوعية الصراعات في الشرق الأوسط، وتحرّكاتٍ مكثّفة لأطراف عسكرية تُناهض أميركا وتُناصبها العداء، حيث القتال بين إسرائيل و”حماس” في غزّة، وتحرّكات حزب الله في لبنان، وعدّم رغبة جميع الأطراف بتوسيع جغرافية الحرب. في الطرف الأخر، يقوم الحوثيون، بكل جهدهم، بعرقلة حركة التجارة في البحر الأحمر، وذلك كلّه يُشكّل ضغوطاً جيوسياسية على المصالح الأميركية في المنطقة. بيد أن سورية، تحديداً، تشكّل نوعاً آخر من الضغوط على الجانب الأميركي، فالخريطة الجغرافية تذهب في عكس اتجاه التوقّعات الأميركية منذ 2015، والاعتقاد السائد أنّ روسيا ستغرق في مستنقع لن تخرج منه إلا مُنهارة وباحثة عن أيّ طوق نجاة، في حين أنّ المُجريات ذهبت في اتجاه آخر، وسنجد أنّ موسكو وطهران ابتلعتا مناطق شاسعة من سورية، حيث سيطرة سلاح الجو الروسي على سماء سورية، إضافة إلى بعض الموانئ والمنشآت الحيوية بالغة الخطورة والأهمية، مثل ميناء طرطوس، وغيره. مع سيطرة إيران على الطرق البرّية، خاصّة الرابطة مع لبنان والعراق، بل يُمكن القول إنّ مناطق الوجود الإيراني في سورية تحوّلت إلى ساحاتٍ لتدريب العناصر والاستفادة من تجربتهم في الحرب السورية لمواجهة المصالح الحيوية الأميركية، والتحالف الدولي، في داخل سورية وفي خارجها.
وبطبيعة الحال، شكلّ الجانبان (الروسي والإيراني) معاً دعماً حيوياً للنظام السوري. لكنّ الحرب الروسية على أوكرانيا لعبت دوراً سلبياً في مخطّطات موسكو ضمن سورية، ولعبت دوراً تحوّلياً عكسياً لمصالحها؛ فالانشغال بتلك الحرب فتح المجال أكثر، وبكثافة، للقوات الإيرانية لبسط النفوذ وتشكيل خطر وجودي حقيقي على إسرائيل، عبر نقاط التماس مع سورية، وخلق أكبر قدر ممكن من المشكلات لها، وألهاها داخلياً. فسهولة الحركة لإيران في سورية واضحة، بل إنّها تتمتع بحرّية تامة في التحرّك والتصرّف، وتتحكم بحركة المعابر مع العراق، ما جعلها هدفاً واضحاً لسلاح الجو الإسرائيلي، إضافة لاستهداف الأخير مطاري دمشق وحلب الدولييْن، وكأنّ تل أبيب تقول لطهران “نعلم ما تفعلون” في عموم سورية.
مع ذلك، الوجود الإيراني كفيل بإحداث ضاغط مخيف، وتهديد جدّي لتل أبيب، خاصّة مع امتلاك حزب الله السلاح النوعي، وسيطرته على مراكز المدن والمناطق الحيوية والاستراتيجية في عموم لبنان، وبيروت بشكل أخص، وفشل الحكومة اللبنانية في السيطرة على مفاتيح السلطة والحكم، وفرض القرار الذي ترغب به خارج موافقة ومصالح حزب الله وإيران، وهي حالة مشابهة كثيراً لما في العراق، حيث لا قدرة للحكومة والبرلمان العراقيين على فرض قراراتهما أو تمرير قضايا وقوانين خارج مصالح وموافقة “كارتيلات” السلطة الموالية لطهران، خاصّة عبر تسييس المحكمة الاتحادية، التي تصدر القرارات بالضدّ من مصالح حلفاء وأصدقاء أميركا في العراق، مثل إقليم كردستان، أو الكتل السّنية. الإهمال الكبير للإدارات الأميركية لكلّ تلك الملفّات، وأمام تشكيل القوى المسيطرة على سورية والعراق ولبنان مثلثاً معادياً للمصالح الأميركية، أفسح المجال للجميع بالتمدّد وفرض مزيد من السيطرة، ما عدا حلفاء أميركا أنفسهم، وهو، أيضاً، عامل أضافي لزيادة مخاوف السوريين من تركهم لمصيرهم المحتوم.
بدت عودة دول عربية إلى التعامل مع النظام في سورية، أملاً بإعادة سورية إلى الحضن العربي السّني مُجدّداً، واحدةً من الخيارات الناجعة، لكنّها على ما يبدو فشلت هي الأخرى، ولعل دعوة سورية إلى حضور القمّة العربية في المنامة في 16 مايو/ أيار الجاري من الفرص الأخيرة لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، وهو ما أكّدته القمّة عبر بيانها الختامي، أو رُبما نجد حدّية جديدة في قانون مكافحة التطبيع مع النظام السوري، والمزيد من العزلة له. كما شكّل تنامي خطر الإسلام السياسي، المنتشر في شمال غرب سورية، وفرضه أيديولوجيا تحتّل تدريجياً الفضاء السياسي العام، وسيطرته على مقاليد السلطة والقرار في تلك المناطق، من دون أن يحقّق أدنى متطلّبات الاستقرار والحرّيات والعدالة، مع تحكّمه بقرابة أربعة ملايين إنسان.. شكّل هذا الإسلام السياسي مأزقاً عميقاً لتصوّر مستقبل البلاد، وخطراً مُحدقاً بالمصالح الأميركية في المنطقة، وخطراً على إسرائيل، في وقت تسعى واشنطن جاهدةً إلى إكمال قطار التطبيع الإبراهيمي بين الدول العربية وإسرائيل.
في العموم، الانسحاب الأميركي من سورية والمنطقة، على الأقلّ في المنظور القريب، غير وارد، نظراً إلى الكُلَفِ الباهظة على حساب مصالح واشنطن وأمنها القومي. لكنّ مُجرّد البقاء، أيضاً، غير كافٍ للجم التطرف والحروب والمجاعة، فالسوريون جائعون وخائفون، وجرّبوا أشكال الموت وطرائقه كلّها في هذه الحرب، ولن يُقنعهم أيَّ شيء سوى الخطوات الجدّية والفعلية التي تُنهي هذه المآسي.
العربي الجديد