نصوص

هوس المراسلة: الرسالة حدث كبير في الوحدة/ إميل سيوران

 8 مايو 2024

ترجمة وتقديم: نجيب مبارك

كان إميل سيوران يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا عندما كتب أولى رسائله، وتسعة وسبعين عامًا عندما وقّع آخر رسالة من بين 161 رسالة التي يحتويها هذا الكتاب، الذي صدر مؤخرا بعنوان “هوس المراسلة: رسائل مختارة 1930-1991” (غاليمار، 2024). لقد رافقت سيوران عادة كتابة الرسائل طوال حياته، وباللغات الثلاث التي كان يتقنها (الرومانية، الألمانية والفرنسية)، منذ مراحل التوتر العظيمة للفيلسوف الشاب، المنحدر من إقليم ترانسيلفانيا (رومانيا)، وحتى خاتمة سنوات الشيخوخة في باريس، مرورًا بأهم المحطات في رحلته الروحية، قبل وبعد النفي.

وأغلب الرسائل المنشورة في هذا الكتاب، والتي تم اختيارها من بين آلاف الرسائل الشخصية، موجهة إلى عائلته، أصدقائه، أقرانه، قرائه، كما إلى منتقديه، وهي تُظهر سيوران (تقريبًا) في كل مراحل حياته، وغالبًا ما تُفاجئ صاحبها في موقف متناقض لمفكّر خاص ينخرط في مغامرات معاصريه، يشارك في محنهم ويربط محنته الخاصة بهم. إن بعض الصفحات تلامس جوهر التعارض الذي “مزّق” هذا العدمي الفريد: مثلا، هناك رسالة إلى أخيه الأصغر يستخدم فيها “مريد القديسين” كل طاقته لصرف هذا الأخ الأصغر عن الطريق الديني؛ ثم ذلك الاعتراف الذي يؤكد فيه متجوّل الحي اللاتيني عام 1947، في منعطف شخصي ووجودي حاسم: “لم أعد الشخص نفسه”؛ وأيضا الرسالة التي بعث بها العجوز في السبعين من عمره إلى امرأة شابة، في ربيعه الأخير؛ أو حتى التعازي التي انشغل بها مغنّي اليأس بين الحين والآخر لرفع معنويات الآخرين.

فيما يلي ترجمة لمقدمة كتاب “هوس المراسلة” لإميل سيوران، وهو مختارات من رسائله غير المنشورة، علما أنه سبق له أن نشر هذا النص في حياته، ضمن كتاب جماعي بعنوان “2 زائد 2: مجموعة من الكتابات العالمية” (مطبعة ميلابريس، لوزان – سويسرا)، وأعيد طبعه من طرف غاليمار في تشرين الأول/ أكتوبر 1993:

لأنني كنتُ محظوظًا بعدم ممارسة أيّ مهنة أو العمل على كتب جادّة، فقد توفّر لي الكثير من الوقت على مرّ السنين، وهي ميزة محفوظة، من حيث المبدأ، للمتشرّدين والنساء. هناك عدد متزايد من المتشرّدين، لكنهم لا يتكبدون عناء الكتابة؛ أما النساء، فهن يذهبن اليوم إلى المكتب، أي إلى جحيم مُغفل. لهذا، فالرسالة كنوع أدبي مهدّدة، لأن النساء كنَّ الأكثر تميزًّا فيها. لا يمكن تخيُّل وجود مدام دو ديفاند في عصرنا، حتى وإن لم تكن الأعظم، فهي بالتأكيد الأعمق بين كتّاب الرسائل. كانت عمياء ومصابة بالأرق، تملي رسائلها على سكرتيرها في وقت متأخر من الليل، وكان من بين المتلقّين الرئيسيين فولتير ووالبول. لم نقل أبدًا كلامًا أقسى عن أكثر التجارب دمارًا: تجربة الملل، امتياز من يملكون وقتهم بالكامل. إن الملل أشد تعذيبًا من الكدح، حتى لو كان المرء في قاع منجم. الملل هو تسجيل لعدمية كل لحظة، مع اليقين بأن اللحظة التالية ستكون أكثر تفاهة.

تمثّل الرسالة، بما أنها حوار مع غائب، حدثًا كبيرًا في الوحدة. ابحث عن حقيقة مؤلِّف ما في مراسلاته بدلًا من أعماله. فالعمل غالبًا ما يكون قناعًا. يلعب نيتشه في كتبه دورًا، يتخذ موقف القاضي والنبي، يهاجم الأصدقاء والأعداء، ويضع نفسه، بشكل رائع، في مركز المستقبل. لكن بالمقابل، يشكو في رسائله، يعاني من البؤس، الإهمال، المرض، إنه رجل بائس، عكس ما كان عليه في تشخيصاته القاسية ونبوءاته، أي مجموعة حقيقية من الخُطب اللاذعة.

من المستحيل عليّ إعادة قراءة روايات فلوبير؛ لكن رسائله، بالعكس، ما زالت حيّة إلى اليوم. لا يمكن قول الشيء نفسه- وهذا استثناء مأساوي- عن رسائل بروست المزعجة للغاية، فهي تبالغ في المجاملة بشكل لا تطاق، كتَبها شخص اجتماعي أراد أن يخفي حياته بأيّ ثمن. لم أكن مغرمًا أبدًا بإعادة قراءة أيّ منها، بينما الجزآن الأخيران من “البحث عن الزمن المفقود”، و”الزمن المستعاد” – وهما أروع ما كُتب عن دناءة الشيخوخة بشكل مؤثّر- قرأتهما وأعدت قراءتهما بشغفٍ وصل حدّ التشنج.

دعونا نترك الأمثلة الكبيرة جانبًا. في هذا المجال، حيث الفضول هو القاعدة، لكل منا تجاربه الشخصية، ومن الشرعي الحديث عن النفس دون الوقوع بالضرورة في خطيئة الغرور. ولأنني كنت محظوظًا، كما أسلفت، بأن عشتُ عاطلًا عن العمل، كتبت عددًا كبيرًا من الرسائل. ضاع معظمها، خاصة تلك التي كتبتها في شبابي. وإذا كنت أتأسف لذلك، فليس لأنها كانت ذات قيمة موضوعية، ولكن لأنها كانت الوسيلة الوحيدة التي كان يمكنني من خلالها استعادة الشخص الذي كنتُه قبل وصولي إلى فرنسا، في سن السادسة والعشرين. الوسيلة الوحيدة لإعادة بناء هذه الشخصية غير متوفرة بالنسبة لي، لذلك لم يتبق لي سوى صورة مجردة عنها. كنت أعيش في مدينة إقليمية حيث كتبتُ إلى صديقة في بوخارست، ممثلة و… ميتافيزيقية، رسائل طويلة عن حالتي كمجنون بلا جنون، وهي حالة أيّ شخص يهجره النوم. حسنًا، كان عليها أن تخبرني، قبل بضع سنوات، أنها ألقت بخرافاتي البريدية في النار، بقليل جدًا من الخوف الميتافيزيقي. وهكذا اختفت الوثيقة الوحيدة الهامة عن سنواتي الجهنمية. حتى الكتب الخمسة التي كتبتها بالرومانية، في الفترة نفسها، أشعر نحوها بالغربة إلى حد ما، وأجدها حية وغير قابلة للقراءة في الوقت نفسه. إن الكتب، في الأساس، هي مجرد حوادث؛ رسائل، أحداث: من هنا تنبع سيادتها.

إن الرسائل التي نتلقّاها هي أعلى قيمة بكثير من تلك التي نكتبها. عندما نشرت “رسالة في التحلل” في عام 1949، وهو أول عمل لي بالفرنسية، كنت في غرفتي الصغيرة في فندق بالحي اللاتيني، حين تلقيت رسالة من مجهولة، مفعمة بالحماس إلى درجة الجنون، جعلتني أقول فورًا: “بعد كل هذا، لا طائل من الكتابة مجددًا. مسيرتك انتهت”. كان شعورًا بالذروة والنهاية. متحمسًا، خافق القلب، خرجت إلى الشارع، عاجزًا عن البقاء وحدي لفترة أطول. وجودي كطالب أبدي اكتسب فجأة معنى. التقيت لاحقًا بصاحبة تلك الرسالة، وهي شابة من الأقاليم، مرة واحدة فقط، قدمت لي في تلك المناسبة تفاصيل لا تُصدق عن حياتها، غير مسموح لي بكشفها.

بالنسبة للكسول، يمنح تبادل الرسائل وهمَ النشاط. لا شيء يرضيه أكثر من أن يحمل كل يوم رسالة إلى البريد. لفترة طويلة، كنت أحافظ على مراسلات بلا هدف مع كل أنواع المختلّين. ولكن للأمر نكهته حقًا مع النساء، متّزنات أو لا، لأنك معهن لا تعرف أبدًا إلى أين أنت ذاهب. لأكثر من عام، ظلّت سيدة ترسل لي بانتظام إطراءات مبالغًا فيها، ومدائح تجعلك تشعر بالخجل. لم أكن أعرفها ولم تكن لدي أي رغبة في معرفتها. ذات مساء، في نوبة من الكآبة، شعرت فجأة برغبة في سماع أكاذيب ممتعة، مطمئنة، قادرة على سحبي من حجج الازدراء الذاتي، الخبيثة والمقنعة. فاتصلت بالسيدة. المفاجأة الأولى: صوت ملفت، لا يقاوم. قلت لها إنني سأكون سعيدًا بالدردشة معها قليلًا. بعد ساعة، كانت أمام بابي. عند رؤيتها، انفجرت ضاحكًا، وهو أمر بدا أنه لم يزعجها. كانت امرأة عجوزا، محنية، قصيرة، شبه قزمة، لباسها يصدم بغرابة وتضع نظارات سوداء أيضًا. دعوتها للدخول وتركتها تتحدث. روت لي كل حياتها، وهي واقفة، لمدة أربع ساعات، بحركات وتفاصيل موسّعة (لم تنسَ شيئا، حتى ليلة الزفاف)، بموهبة غير متوقعة ولغة متحضرة تارة وفظة تارة أخرى، جعلتني أتأرجح بين الذهول والتأثر، وبين الاشمئزاز والتواطؤ. كم هو مؤسف أن أكون الوحيد الذي يستمتع بهذه العجائب والفظائع! هكذا كنت أردّد مع نفسي. لا داعي للقول بأنني ظللت صامتًا تقريبًا طوال المساء. لماذا كان عليّ أن أشهد مثل هذا الأداء الفريد؟ بسبب فضولي المرضي تجاه الناس، هوسي بكتابة الرسائل والرد على تلك التي أتلقاها. لم أعد أستطيع الاعتماد الآن على هذا الهوس. لقد هجرني، وهذا الهجر علّمني، أكثر بكثير من مختلف الأعراض، أنه يجب عليّ الآن أن أكتفي بالدور المخزي للناجي من الموت.

باريس، 1984

المترجم: نجيب مبارك

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى