أبحاث

وثيقتي “المناطق الثلاث” و”المبادئ الخمسة” -مقالات مختارة-

وثيقة المناطق السورية الثلاث… قراءة نقدية/ علي العبدالله

01 مايو 2024

محاولات قوى سياسية واجتماعية سورية التحرّك عبر طرح مبادرات ومبادئ من أجل فتح الطريق أمام الشعب السوري للخروج من حالة الاستعصاء القاتلة التي تخيّم على البلاد أمر جيّد، ويستحقّ التقدير والثناء، من دون أن يعني هذا غضّ النظر عن النواقص والهنات التي قد تعتور هذه المحاولة أو تلك؛ وتجنّب التساهل مع بعض الجهات وما تعلنه بشأن محاولاتها باعتبارها صائبة وقادرة على توفير الحل، ومن دون الحذر من مبالغاتها، لأنّ العبرة، في النهاية، ليست في الإعلان عن القدرة على تحقيق الهدف، بل في توفير شروط تحقيقه، خصوصاً شرطي المعقولية، أي صياغة المبادرة بمعايير العقل والمنطق، لا الرغبة والهوى، والعملية، أي أن تكون المبادرةُ قابلةً للتنفيذ في الشروط والتوازنات القائمة، وهما شرطان ضروريان لأيّ تصوّر أو خطّة أو برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي.

مناسبة هذا الكلام ما صدر من مبادرات سياسية أخيرا، خاصّة وثيقتي “المناطق الثلاث” و”المبادئ الخمسة”، وما أثارتاه من حوار وسجال سياسي خاصّ وعام. طرحت الوثيقتان جملةَ مبادئ سياسية وتنظيمية، ووضعتاها تحت نظر القوى السياسية والفكرية والاجتماعية السورية، لطلب المبارَكة والتأييد والالتحاق، وهذا منطقي، لأنّ ما تختارُه لنفسك تختارُه للآخرين، مع أنّ عدم الإعلان عن الشخصيات المُوقّعة على الوثيقتيْن وعدم معرفتهم من الوسط السياسي والاجتماعي السوري معرفة كافية بابٌ واسعٌ لإثارة الأسئلة وعلامات الاستفهام، الوثيقتان ليستا في موقع المُحتاج لإثارتها، ما كان يقتضي طرح هذه المبادئ للحوار العام والعلني لتكون ثمرةَ جهودٍ واسعةٍ ومعروفةٍ أو تقديم سيرةٍ ذاتيةٍ وسياسيةٍ للشخصيات المُوقّعة عليهما كي يُزاح القلق والشكّ لدى الرأي العام المُعارِض، فالمأزق الذي تعيشه المُعارَضَة، وما فيه من شكّ وعدم ثقة واتهامات قاسية، سيضع الوثيقتيْن، تحت تأثير هذا المناخ، في خانة المُتَّهم حتّى تثبت براءته. وزاد الطين بِلَّة انخراط أصحاب الوثيقتيْن في تنافسٍ غير صحيّ على خلفية توقيع الشيخ أحمد صياصنة عليهما، ثم سحب توقيعه عن الثانية (المبادئ الخمسة) بحجّة تغيير في النصّ جرى بعد التوقيع عليه، يتعلق بتبنّي العلمانية صفةً للدولة، وهو قولٌ ليس مقنعاً في ضوء أنّ “وثيقة المناطق الثلاث”، هي الأخرى، تتبنّى العلمانية بشكل موارب عندما تُعلن أنّ “الدولة الوطنية لجميع أبنائها، وليست دولة ملّة أو طائفة أو جماعة عرقية أو تيار سياسي: إنّها دولة سورية فحسب، تحتضن أبناءها كلّهم من دون استثناء، فليس للوطن نعرة عصبية”، وهذا جوهر العلمانية. هل انطلى الكلام الموارب على الشيخ الصياصنة، القادم إلى السياسة من عالم المشيخة والخطابة المُرْتَكِزَة إلى موروث تقليديّ قائمٍ على حفظ آيات القران الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وكتابات الفقهاء، وسّير كثيرة ومتنوعة، من دون اعتدادٍ بالعلوم الحديثة؛ العلمية والسياسية والاجتماعية، وهذا جعل بضاعته السياسية ضعيفةً ولا تمتلك قدرة على تمييز مرامي الكلام وما بين السطور، أم أنّ الحقيقة في مكان آخر، وهي، حسب تقدير كاتب هذه السطور، اعتراض شركائه في “وثيقة المناطق الثلاث” على ذلك، لأنّ توقيعه على “وثيقة المبادئ الخمسة” يعني أنّ وثيقتهم ليست وحيدة في الساحة، وأنّ ثمّة مُبادرات أخرى غيرها تنطوي على مبادئ يمكن الركون إليها. الضّرة مرّة كما يقال، وبالتالي فقدان “وثيقتهم” مكانتها خياراً وحيداً وحصرياً أمام السوريين.

ما دفعني لهذا التقدير تعليق شريك الصياصنة في وثيقة المناطق الثلاث مُضَر الدبس على وثيقة المبادئ الخمسة في حديث لـ”العربي الجديد” (21 إبريل/ نيسان 2024)، إذ عبّر عن استهجانه اختيار القائمين على هذه المبادرة اسماً قريباً من اسم “وثيقة المناطق الثلاث”، وعدّ ذلك “محاولةً لنيْل الشهرة والاستفادة من التأييد الشعبي لوثيقة المناطق الثلاث، وهذا أمر مُستنكَر”، فانتقاد الدبس أصحاب “وثيقة المبادئ الخمسة” لا يعكس تبرّمه من المنافسة، ونزوعه إلى احتكار الفضاء السياسي، وعدم احترامه أسس الديمقراطية فقط، بل يشير إلى وجود تنافس واحتكاك مع أصحاب هذه الوثيقة من أبناء محافظته؛ السويداء، علماً أنّ “المبادئ الخمسة” تتقاطع مع “المناطق الثلاث” في الهدف العام، وإن اختلفت معها في الصياغة، فحدّدت خطواتٍ للوصول إلى هذا الهدف، ما كان يستدعي البحث عن سبيل للدمج أو التنسيق والتعاون في الحدّ الأدنى، فما الحال إذا ظهرت وثائق تعارض “وثيقة المناطق الثلاث”؟ وقد لفتني جنوح الدبس إلى المبالغة عندما زعم إنّ أصحاب وثيقة المبادئ الخمسة اعتمدوا تسميةً قريبةً من تسمية وثيقتهم؛ “المناطق الثلاث”، في “محاولة لنيل الشهرة والاستفادة من التأييد الشعبي لوثيقة المناطق الثلاث”، أين هو هذا “التأييد الشعبي” للوثيقة وكيف قاسه ووصل إلى هذا النتيجة؟… طبعاً المقصود بالتأييد الشعبي جموع المواطنين لا القوى السياسية.

امتازت “وثيقة المناطق الثلاث” بصياغة قوية ومتماسكة، مع نزوع نُخبوي وتجريدي، ما جعل فرص التوافق عليها والاختلاف بشأنها متعادلة، من جهة، وجعل نجاحها شعبياً موضع تساؤل، من جهة ثانية. ولتوضيح ذلك، يمكن البدء من مبدئها الأول؛ “تأميم السياسة”، الذي شرحه نصّ الوثيقة بجعلها عمومية، أي حقّ للجميع. وهو قولٌ مُستغرَبٌ لأنّ السياسة عموميةٌ بالجوهر بفعل طبيعتها وفحواها وأبعادها، وإنّ تآكل هذه العمومية في واقعنا السوري مُرتَبِطٌ بغياب الشروط اللازمة لممارستها؛ من انشغال غالبية المواطنين، تحت ضغط متطلّبات الحياة اليومية، عن الاهتمام بالشأن العام، وصبّ جلّ جهودهم ووقتهم على الشأن الخاص، إلى غياب قدرات وإمكانيات مناسبة لممارستها بسبب الأمّية ومتوسط مستوى التعليم، مروراً بانعدام مناخ عام وأطر رسمية لذلك، بسبب قمع النظام ومحاربته حرّية التعبير والعمل في الشأن العام. هذا وقد زاد شرح النص أهداف المبدأ تأميم السياسة الموقفَ خطورةً بتحويله من مشكلة إلى إشكالية، وهذه تعني الاستحالة لا الضخامة، كما هو دارج في الكتابات الصحافية، عندما قال: “فإنّنا نعلنُ بوضوح، أنّ تسليم القرار العمومي السوري إلى قوة أجنبية… مصادرةً لقرار السوريين ويجب أن يتوقف”. ذلك أنّ تسليم القرار السوري لا يتم لدوافع ذاتية، باستثناء حالة الخيانة الوطنية، وهي حالة نادرة الحصول، بل لتوازنات قوى سياسية واقتصادية وعسكرية، ما يجعل السيادة الوطنية واستقلالية القرار السياسي عُرضَة لضغوط وتقلّبات ومساومات وابتزازات مستمرّة، تستدعي من القادة السياسيين العمل على تثقيل أوراق الدول السياسية والاقتصادية والعسكرية، والانخراط في صراعات وتحالفات ومساومات وتقاطعات ومقايضات، مرحلية ودائمة، وفق الضرورة الوطنية، لتعزيزهما وتثبيتهما، فموقف الوثيقة الحدّي يعزل أصحابها، لأنّه يغلق أمامهم باب الحوار والمناورة والتحالف والتقاطع مع العالم الخارجي. كان الأجدى الحديث عن العمل على الحفاظ على استقلالية القرار الوطني، وعدم التفريط أو التهاون بالسيادة الوطنية.

في المبدأ الثالث؛ “رفض الانطواء المحلي: وحدة سورية”، قالت الوثيقة: “الدولة الوطنية لجميع أبنائها، وليست دولة ملّة أو طائفة أو جماعة عرقية أو تيار سياسي: إنّها دولة سورية فحسب، تحتضن أبناءها كلّهم من دون استثناء، فليس للوطن نعرة عصبية”. هذا وصفٌ شديد التجريد للدولة الوطنية ليس له نظير في العالم، تُسقطه الوثيقة على سورية، وكأنّ سورية بلا تاريخ ولا بنية ولا هوية. السؤال هنا: هل يمكن أن يقوم وطن من دون نعرة عصبيّة، فنعرة العصبية المبنية على تاريخ ووقائع صحيحة أو مدّعاة هي الملاط الذي يجمع أبناء الوطن. يبدو أنّ أصحاب الوثيقة أرادوا التضحية بالتاريخ والبنية والهوية كي يحصلوا على التوافق، وهذا سيقود إلى عدم التوافق وإلى معارك فكرية وسجالات لا تنتهي. هنا أيضاً، تحوّل الموقف من مشكلة إلى إشكالية، علماً أنّه يمكن للدولة أن تكون ذات تاريخ وبنية وهوية ونعرة عصبية، ويكون نظامها السياسي وقوانينها في مصلحة كلّ مواطنيها، كما هو الحال في الولايات المتّحدة وأوروبا واليابان.

في المبدأ الخامس؛ “وحدتنا في كثرتنا: بناء الثقة”، قالت الوثيقة: “الثقة أداة تأسيس سياسية تؤطّر اجتماعنا الوطني وتعيد بناء رأس مال اجتماعي وطني، يمهّد الطريق لـ(الوحدة في الكثرة)، واحترام التعدّدية وترسيخها قناعةً وعملاً، ويمهّد الانتقال إلى الديمقراطية، فكراً وسلوكاً”. ثمّ تدعو السوريين “إلى التعبير عن الثقة، والعمل على تعزيزها، وإيلائها أهمية في السلوك السياسي والخطاب”، متجاهلةً أنّ مسألة الثقة شديدة الحساسية وسريعة العطب وأنّ الوصول إليها بين السوريين، خاصّة بعد ما حصل من قتل ودمار ونزوح وهجرة، وتفكّك المجتمعات المحلية، وانقسام عمومي بين المواطنين، يحتاج إلى أكثر من الدعوة؛ يحتاج إلى معايشة وتعاون. وهذا يحتاجُ إلى زمن طويل نسبياً، وإلى ملاط لتثبيتها. وهذا يستدعي بدوره نسبة عالية من الشفافية والعلنية لا تتناسب مع السرّية وإخفاء الهويات والأوراق.

ثالثة الأثافي، كما تقول العرب، جاءت في الخاتمة، إذ قالت الوثيقة: “إنّنا، أبناء هذه المناطق الثلاث، التي لا تزال تنبض بروح الثورة، وتحتفظ بذاكرتها، بآلامها وآمالها، على مرّ السنين، بتقدّمها وتعثّرها، نعلن أنّنا نعمل معاً انطلاقاً من هذه المبادئ السابقة، طامحين إلى خلق روح جديدة في التفكير في مستقبل وطننا، وفتح حوار سوري عمومي عابر للمحليات، والعصبيات كلّها، يقود إلى تصوّر مُشترَك للخطوات الأولى لبناء اجتماع سياسي تواصلي توافقي وطني حقيقي، قادر على تمثيل طموحات السوريين وتضحياتهم، وآلامهم. وندعو السوريين، في كلّ أنحاء الوطن، إلى المساهمة معنا، والانضمام إلينا، لتحقيق هذه الغاية النبيلة”. فرغم الروح الطيّبة بدعوة كلّ السوريين، بمن فيهم الموالون للنظام، للمساهمة في التحرّك إلا أنّها تعسّفت وتجاوزت المعقول حين اعتبرت “إنّنا، أبناء هذه المناطق الثلاث، التي لا تزال تنبض بروح الثورة، وتحتفظ في ذاكرتها بآلامها وآمالها، على مرّ السنين، بتقدّمها وتعثرها… إلخ”، بخستا المناطق السورية الأخرى نضالها وتضحياتها، ناكرة عليها قيامها بمثل هذا الجهد، وحملها آلامه وآماله. لن يكون مفاجئاً أن يرفض المواطنون من المناطق الأخرى، بما في ذلك قوى سياسية واجتماعية، التعاطي بأريحية مع مبادرة تُنكر عليهم نضالهم وتضحياتهم، وتدعوهم للالتحاق بها فقط.

تنطوي النُخبوية والتجريد على خطر قتل المبادرة، عبر عزلها عن وسطها الطبيعي، على خلفية فوقيتها وتعاليها، ما يجعلهما؛ النخبوية والتجريد، لا تناسبان عملاً سياسياً جاداً مهما كان هدفه أو قوّة من يقف خلفه.

العربي الجديد

——————————-

سورية…. الخروج من المستنقع/ علي العبدالله

15 مايو 2024

دخلت العملية السياسية في سورية في استعصاء خانق، على خلفية تمسّك النظام ليس بالبقاء في السلطة فقط، بل وبإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل انفجار ثورة الحرية والكرامة، وتمسّك المعارضة بإحداث تغيير سياسي وإقامة نظام ديمقراطي يتناسب مع حجم التضحيات الكبيرة التي قدّمها الشعب السوري ثمنا للحرية والتحرّر من الاستبداد والتمييز والفساد. وقد زاد الطين بلة انخراط قوى إقليمية ودولية، إيران وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة وروسيا… إلخ، في هذا الصراع سياسياً وعسكرياً، وتحويله إلى صراع على سورية، عبر سعي كل منها إلى تحقيق مصالحها بالعمل على تعزيز أوراقها وتوسيع نفوذها وتحقيق مكاسب جيوسياسية على حساب المنافسين، من جهة، وزرع العقبات في طريق المنافسين وعرقلة تحرّكاتهم واحتواء نفوذهم، من جهة ثانية، وسفور التنافس المديد عن نجاح روسيا وإيران في حماية النظام من السقوط وتكريس سيطرته على مساحة معتبرة من الأرض السورية، حوالى 60% منها، وتآكل الإجماع بين مجموعة أصدقاء الشعب السوري الـ103 دول، وتحول المتبقين منها نحو خيار تغيير سلوك النظام بدل إسقاطه. هذا من دون اعتبار لمصالح الشعب السوري وتطلعات قوى الثورة وحواضنها الاجتماعية الكبيرة المشروعة نحو التغيير الديمقراطي والاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي.

لم يحصل الاستعصاء دفعة واحدة، بل مرّ بمراحل عديدة من بيان جنيف 1 عام 2012، وتركيزه على تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات وانتخابات ودستور، وربطه تنفيذ هذه الخطوات بالحوار والشراكة بين النظام السوري والمعارضة، إلى قرار مجلس الأمن 2254 عام 2015 وتكريسه، رغم تعنّت النظام ومراوغاته لتخريب الجهود العربية والدولية لإيجاد حلٍّ سياسي للصراع، لمبدأ الموافقة المتبادلة شرطاً لتشكيل هيئة الحكم الانتقالية، إلى سلال ديمستورا الأربع، والغرق في مفاوضات عبثية في اللجنة الدستورية، بدءا من عام 2019 بجولاتها الـثماني من دون إنجاز يُذكر، مرورا بجنيف 2 عام 2014 ومسار أستانة بدءا من عام 2017 بجولاته الـ21، آخر جلسة عقدت في يناير/ كانون الثاني 2024، ومؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي عام 2018، وصولا إلى مؤتمر بروكسل الثامن للدول المانحة عام 2024 وما عكسه من سيطرة الإحباط ليس على مداخلات ممثلي المعارضة ومنظمّات المجتمع المدني السورية فقط، بل وعلى كلمات وفود الدول المشاركة بما في ذلك كلمة ممثل القوة العظمى، الولايات المتحدة، وممثلي دول الاتحاد الأوروبي.

تكرّس الاستعصاء بفعل التنافس المحموم بين القوى الإقليمية والدولية المذكورة أعلاه بعد نزولها بجيوشها ومليشياتها على الأرض السورية واستقطابها واستتباعها قوى محلية وزجّها في معارك بالوكالة للتأثير في توازنات القوى ميدانيا؛ وبسطها سيطرتها على مساحات منها وإقامة سلطات أمر واقع عليها؛ تقسيم سورية عمليا، لفرض شروطها وحل الصراع بالصيغة المناسبة لمصالحها. وقد زاد تصاعد التنافس بين القوى العظمى، الولايات المتحدة وروسيا والصين، عالميا وانعكاسه على الساحة السورية تعقيد الموقف وجعل إمكانية التحرّك نحو حل سياسي للصراع في سورية وعليها مرهوناً بتطوّرات هذا التنافس وتحولاته في أكثر من ساحة وإقليم، أوكرانيا تايوان، أرمينيا، جورجيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط والقطبين الشمالي والجنوبي، وبنجاح هذه القوى في عقد اتفاقات وتسويات حول ملفات ساخنة بينها، ما جعل التحرّك المحلي لإيجاد حل سياسي بغياب تحرّك دولي فاعل صعبا إن لم يكن مستحيلا. يمكن الاعتبار من فشل التحرك العربي، لإيجاد حل سياسي عبر آلية خطوة مقابل خطوة، لأنه لم يحظ بمباركة دولية شاملة.

وقد كان لافتا أن تجري في هذا المناخ الإقليمي والدولي المعقد والسلبي محاولات سورية معارضة لإطلاق حراك جديد عبر دعوة المواطنين السوريين إلى الالتفاف حول مبادئ محدّدة ودفعهم إلى التوافق على مخرج سياسي يحظى بإجماع وطني شامل، وثيقتا المناطق الثلاث والمبادئ الخمسة اللتان أعلنتا أخيراً، بتجاهل تام للشروط الموضوعية المطلوبة لتسويق أي خطة ونجاحها، ما يعني مجانية المحاولة وتضييع الجهود سدى.

يستدعي المنطق والحصافة من قوى المعارضة ومثقفيها مراعاة الشروط الذاتية والموضوعية للنجاح وعدم التوهم والقفز نحو استنتاجات مضلّلة على خلفية بيانات التأييد والانضمام الصادرة باسم قوى مجهولة الحجم والتأثير، لأن العبرة بالفعل على الأرض، لا بالبيانات والجمل الثورية، والبدء من نقطة عملية هدفها المحافظة على جمر الثورة متقداً تحت الرماد، عبر ترميم المشروع الوطني السوري بالعمل على تخليصه مما علق به في العقد الأخير من شوائب وتشوهات، نتيجة انعدام استراتيجية واضحة تحكُم تحرّك الثورة ومؤسّساتها السياسية والميدانية، وعدم اعتماد التفكير والتخطيط الجماعي والعمل المؤسّسي المنظم والمدروس، وافتقارها إلى مرونة سياسية وميدانية تراعي التطورات والتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وسيادة عقلية الارتجال والتجريبية، والممارسات الشائنة التي قامت بها الفصائل المسلحة وسلطات الأمر الواقع بتعدّيها على المواطنين وحقوقهم بالقتل والخطف والتعذيب ومصادرة الأملاك ونهب الأرزاق، وتحويل المقاتلين إلى مرتزقة في ليبيا وأرمينيا والنيجر، وانعكاسها السلبي، بل شديد السلبية، على صورة الثورة والثوار وتآكل تأييدهما بين المواطنين الذين كفروا بالثورة والتغيير على خلفية ما عانوه من قهر وذلّ وجوع. وأول خطوة على طريق عملية “الترميم” هي الشفافية ومصارحة السوريين بشكل عام وحواضن الثورة بشكل خاص بما جرى والاعتراف بالأخطاء والتقصير الكبير الذي حصل.

صحيحٌ أن الظروف الذاتية والموضوعية التي حكمت مسار الثورة من أجل التغيير الديمقراطي، من هيمنة النظام الأمنية والاقتصادية عقوداً، إلى ترهّل الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، إلى التوجّه الإقليمي والدولي لتكريس الاستقرار على حساب الحريات والعدالة والمساواة، مروراً بعفوية الثورة والتحرّك السياسي والميداني على قاعدة رد الفعل، قد ساهمت في إخفاق محاولة الثوار تشكيل بديل مقبول للنظام، بالرغم من وجود عشرات الأحزاب والكيانات والمنظمات المدنية والتكتّلات السياسية والشخصيات النافذة، وفي خسارة الثورة الدعميْن العربي والدولي، فإبقاء جمر الثورة متّقداً تحت الرماد يستدعي البدء بمراجعة شاملة ودقيقة لمسيرتها في العقد الماضي، وأدبياتها السياسية وممارساتها العملية، ونقد مكامن الخلل والرؤية الوطنية الناقصة التي قادت التحرك الثوري نقدا جوهريا، جدّيا ومسؤولا، وتحديد الرؤية البديلة بدلالة مصالح الشعب السوري والتغيير الوطني الديمقراطي وتحديد الأهداف الواقعية والممكنة، فالمراجعة النقدية الحقيقية، الجادّة والمسؤولة، والاعتراف بالأخطاء الفردية والجماعية ضرورية لاسترجاع الثقة وتمتين الروابط اللازمة لحسن سير العمل مستقبلا.

انطلاقا من ذلك، التبرم من النقد أو استنكاره، الذي تروّجه القوى السياسية المهيمنة، وبعض مثقفي المعارضة، غير منطقي، ويضرّ بفكرة السياسة بربطها بإرادة القائد، أو القيادة، والالتفاف على دور المواطنين وحقهم في المشاركة في اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتحديد المطالب والأهداف الوطنية.

تكريس ثقافة النقد الجوهري وتعميمه على كل مستويات ممارسة المعارضة والثورة السياسية والميدانية وإجراء مراجعة نقدية مسؤولة لكل الخيارات السياسية والنضالية وأساليب العمل وإدارة الصراع السابقة ضرورية جدا لتهيئة المسرح لولادة بديل أكثر نضجاً، وأقدر على القيام بمهام المرحلة وقيادة السفينة نحو برّ الأمان، وإلا بقيت القوى والشخصيات المتصدّرة مشهد المعارضة والثورة مسيطرة كسلطة أمر واقع، وواصلت ممارساتها الهزيلة وغير المُجدية، فالدعوة إلى بديل من دون ممارسة نقد جوهري وجذري وتحديد الأخطاء ونقاط الضعف والقصور ليس أكثر من وصفة للفشل، لأنها لن تنجو من الوقوع في حبال الوصفات العامة والفضفاضة عن التغيير والديمقراطية والمواطنة وتوحيد القوى، والإمعان في تكرار الأخطاء السابقة.

يتمثّل الجهد الثاني المطلوب لإبقاء جمر الثورة متّقداً تحت الرماد بتنشيط المجتمعات والتجمعات السورية في الداخل والخارج، بعمل مباشر وتأطير قواها النشطة في لجان وفرق عمل لتنفيذ مهام عينية، مثل جمع التبرّعات للنازحين في المخيمات وتوفير مستلزمات علاجية وتعليمية وخدمية لهم، والتواصل مع المنظمّات الدولية والعربية والإقليمية لحثها على تقديم مساعدات غذائية وطبية وخدمية وعينية لهذه المخيمات أولا، ولبقية السوريين المحتاجين للدعم في مناطق عيشهم تاليا، وإنشاء أطر زراعية وبيطرية لمساعدة النازحين والمزارعين من السكان على تنفيذ مشاريع زراعية مثمرة ومربحة وتربية مواش ودواجن وإقامة صناعات صغيرة على منتجاتها من الحليب والبيض واللحوم، وأطر اقتصادية للتشجيع على إقامة مشاريع صغيرة تحرّر النازحين من العوز والفقر، وتشكيل أطر إعلامية وإذاعات محلية لرصد ومتابعة التطورات والانتهاكات ونشرها على الرأي العام المحلي والعربي والدولي، وأطر ثقافية مناطقية لتنظيم لقاءات ثقافية وفكرية لترويج مطلبي التغيير والديمقراطية، وعقد لقاءات سياسية وفكرية مناطقية لشرح تطوّرات الموقف والجهود المبذولة لتحسين أوضاع النازحين واللاجئين والعمل على كسر حالة الاستعصاء السياسي وبثّ الأمل في النفوس والتشجيع على الإيجابية والتفاعل، وأطر فنية وفرق مسرحية ومسارح للتثقيف والترفيه ولتشجيع الأطفال في المخيمات على المشاركة والكشف عن مواهبهم وتنميتها وللترفيه عنهم، وأطر رياضية لتشجيع الأطفال على دخول عالم الرياضة الواسع وشغلهم بما يفيد وإخراجهم من حالات العزلة والاكتئاب واليأس، وأطر لتنظيم فعاليات ونشاطات، اعتصامات ومسيرات ومهرجانات خطابية، بمناسبات محددة، ذكرى المجازر والقصف بالمواد الكيماوية السامة والمناسبات الوطنية العامة، الجلاء، الاستقلال… إلخ، لإعطاء انطباع راسخ بالاستمرارية والثبات.

صاغ مارتن لوثر كينغ الابن في رسالته من سجن برمنغهام الموقف النضالي في مواجهة الإنكار والرفض لحقوق السود بقوله: قد تسأل لماذا العمل المباشر؟ لماذا الاعتصامات والمسيرات وما إلى ذلك؟ أليس التفاوض طريقاً أفضل؟ أنت محقّ تماما في الدعوة إلى التفاوض. في الواقع، هذا هو الهدف من العمل المباشر. يسعى العمل اللاعنفي المباشر إلى إحداث مثل هذه الأزمة، وتعزيز مثل هذا التوتر الذي يجبر المجتمع الذي يرفض التفاوض باستمرار على مواجهة القضية.

العربي الجديد

——————————–

وثيقة المبادئ الخمسة… اختراق حالة الاستنقاع السوري/ أحمد مظهر سعدو

24 ابريل 2024

يتعيّن نجاح الثورات والانتفاضات بدلالة ما يمكن أن ينتج عنها من متغيّرات وسياقات، تحرّك المياه الراكدة وتعيد إنتاج الواقع المتحرّك وفق محدّدات جديدة، وعلى هدي ديناميات متجدّدة أخرى، تواكب حالة الحراك الشعبي الميداني الجارية. فقد تمكّنت ثورة السوريين، عبر حِراكِها السلمي المُنتفض في الجنوب السوري (السويداء)، منذ أكثر من ثمانية أشهر، أن تعيد الحياة إلى جُلّ الحراك الوطني السوري الديمقراطي، الذي كاد أن يخبو، كما اقترب فعلياً من حالة أشبه بالاستنقاع. ويبدو أنّ نشاط (وحركة) شباب السويداء، ونسائها وشيّابها، وتآلف الجميع بكلّ الفعاليات الوطنية والمنظمات المحلية من أجل سورية الحرة المدنية، والعمل على أساس الوصول إلى بناء دولة المواطنة المفتقدة في سورية منذ عقود طويلة، وإصرارهم الحثيث على المضي في مسارات العمل الوطني السوري الفاعل، ومن ثمّ اجتراح الحلول تلو الحلول، وأيضاً بعث الروح المعطاءة في زوايا ومنعرجات الوطن السوري وجغرافيته على امتدادها، بدءاً بوثيقة “المناطق الثلاث”، ثم انضمام الساحل السوري وفعّالياته المعارضة لها، لتغدوا “المناطق الأربع”، ذلك كلّه، على ما يبدو، واستمرار النجاحات والمراكمة في العمل الوطني على أيدي تجلّيات العمل الوطني في جبل العرب وسهل حوران، قد آتى أُكله هذه المرّة، وأسهم في إنتاج وثيقة وطنية تحمل المبادئ الخمسة وتصقل الأفكار، عبر إنتاج وإشاعة حالة غير مسبوقةٍ في الحالة السورية، وقادرة على الفعل، إذ عمل نشطاء السويداء، وعبر أشهر عديدة، على فتح حوار مفيد بشأن مبادئ أوليّة تلامس كلّ الوضع السوري، وتعيد بناء الحياة في الواقع السوري على أسس جديدة، فالجميع قد أسهم في صياغة هذه الورقة/ الوثيقة، ثمّ وقّع عليها أكثر من 60 تنظيماً ومنظّمة مُعارِضَة سوريّة على امتداد الجغرافيا السورية، بالإضافة إلى عشرات من الأفراد والنشطاء، بعد أن عجزت متفرّعات واستطالات المُعارَضَة الرسميّة السوريّة كلّها، خلال سنواتها الثلاث عشرة السابقة، عن القيام بمثل هذه النتاجات اللافتة والجدّية. ولعلّها اليوم، وبعد أن واكبت احتفالات السوريين بيوم جلاء المستعمر الفرنسي عن أرض سورية إبّان نضالات شعبية سورية كثيرة ومريرة، لعلّ هذه الوثيقة المُنْتَجَة في تاريخ 19 إبريل/ نيسان 2024 تؤسّس لأن تكون بداية مهمّة من أجل إنتاج وصياغة العقد الاجتماعي الوطني السوري المطلوب والمأمول، الذي تعثّرت فيه المعارضة السورية قبل ذلك كثيراً، كما أصابها التشظّي والتذرّر والانفلاش، والمزيد من الضياع. ورقة حراك السويداء وجبل العرب أضحت وثيقة وطنيّة بامتياز، بعد تمكّن نشطاء السويداء من أن يحصلوا على توقيعات كثيرة، كما أسلفنا، لم يتوقعها أحد، فشملت عدداً من القطاعات والامتدادات الشعبية السورية العريضة والكبرى. فهل ستكون، بهذا الشكل وهذا الإخراج، بمثابة الاستفتاء الشعبي الأكثر أهمية الذي لم يحصل منذ زمن طويل؟

هذه الوثيقة/ الرسالة، القصيرة والمعبّرة والموجّهة إلى السوريين كلّهم، وإلى هيئة الأمم المتحدة، وكذلك إلى المجتمع الدولي المنشغل هو الآخر عن القضية السورية والمسألة السورية، في كثير غيرها، أطّرت بنقاط خمس تتركّز في: أولاً، أحقّية التظاهر السلمي، سواء المستمر في السويداء منذ ثمانية أشهر ضدّ سلطة النظام أو ضد قوى الأمر الواقع العنصرية والمتطرّفة أو في أيّ منطقة سورية. ثانياً، التأكيد على الثوابت الوطنية المتمثلة في وحدة التراب والهوية الوطنية، ورفض المشاريع الانفصالية. ثالثاً، تفعيل الحلّ السياسي بمرجعية قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015، وبيان جنيف 1 لعام 2012، والقرارات الدولية ذات الصلة، والدخول الفوري في المرحلة الانتقالية وتحقيق التغيير السياسي الذي يهيئ البيئة الآمنة لاستعادة السوريين قرارهم الوطني، ويحفّز العودة الآمنة للمهجرين منهم، ويفضي إلى الوصول لدولة الحقّ والقانون والمواطنة للسوريين كلّهم، تحدد دستورها ونظام حكمها السياسي والإداري هيئة تأسيسية مُنتخَبة من السوريين كلّهم في المرحلة الانتقالية. رابعاً، الإفراج الفوري عن المعتقلين، والكشف عن مصير المغيبين قسرياً، وإلغاء جميع الأحكام التعسّفية التي طاولت شرائح المجتمع السوري كافّة، وأكثرها أهمية أحكام محكمة الإرهاب غير الشرعية، ومحاسبة كلّ من تلطّخت أيديهم بدماء وحياة السوريين، وتحقيق العدالة الانتقالية. خامساً، خروج القوات الأجنبية والمليشيات الطائفية والمتطرفة كافّة، وعودة الأمن والأمان إلى جميع الأراضي السورية.

لا بد من القول، وبوضوح، إن هذه المحدّدات والأساسات الوطنية السورية المُهمّة، التي يجمع عليها السوريون اليوم، ويتوافقون عليها، يمكن اعتبارها بمثابة إعلان مبادئ، بل حالة جدّية وصيغة يُبنى عليها، كما يمكن الاشتغال فيها وعبرها نحو إنتاج العقد الاجتماعي الوطني السوري الذي طال انتظاره، وتقاعس الجميع ولم يتمكنوا من إنجازه بعد، لا بدّ من أن يكون عقداً اجتماعياً حقيقياً شاملاً السوريين كلّهم، ولا يَستَثْني أحداً من إثنيات وقوى سياسية، وطوائف أيضاً.

ويبقى السؤال: هل سيتمكن نشطاء الحراك الوطني في جبل العرب والجنوب السوري عبر هذه الوثيقة الأكثر أهمّية، التي حصل فيها ومعها ما يشبه الإجماع الوطني السوري، من أن يُحدثوا فيها تراكماً حقيقياً، فتمسك بدفّة العمل الوطني السوري، وتؤسس لما بعدها؟ وهل يمكن اعتبار ذلك (كما يقول بعضهم) إحراجاً فاقعاً للمعارضة السورية الرسميّة؟ بما أنها عجزت وتعاجز كثير منها منذ سنين طويلة، ولو لمرة واحدة، عن فعل أو إنتاج مثل ذلك، وتعثّرت دائماً في محاولات قليلة كانت لها، في هذا المضمار، نتيجة أوضاعها ومحاصصاتها ومصالحها، التي عادة ما تقلّل من الاهتمام بمن يحمل مثلها من دون مصداقية. وهل سيتقبلها المجتمع الدولي والإقليمي والعربي المعني بالملف السوري أو الذي ما يزال يعتبر نفسه من أصدقاء الشعب السوري، بعد أن هرول كثير من هؤلاء الأصدقاء نحو التطبيع البيني مع “ملك الكبتاغون” وقاتل الشعب السوري، ومن ثمّ دعواته المستمرّة إلى المشاركة في القمم العربية؟

وفي العموم، فهناك كثير من المتابعين والمراقبين المعنيين بالشأن السوري يرون في هذه الوثيقة خطوة مهمّة تُخرج الواقع السوري والمسألة السورية من حالة الاستنقاع الكبرى، لتكون بداية جديدة تسهم في إخراج القضية السورية من عنق الزجاجة، في المستقبل.

العربي الجديد

———————————–

سورية بين وثيقتين وصراع القوى العظمى/ سوسن جميل حسن

26 ابريل 2024

قبل نحو تسعة أعوام؛ في 18 سبتمبر/ أيلول، أعلن المجلس الإسلامي السوري وثيقة المبادئ الخمسة. وقّع عليها نحو 140 من الشخصيات والكيانات والفصائل السوريّة المُعارِضة، وتتضمّن “مجموعة ثوابت وطنية لقطع الطريق على محاولات إجهاض الثورة السورية وإعادة تأهيل النظام السوري”، كما أُشهِرَت حينها. اليوم، وبعد تسعة أعوام، تغيّرت فيها الجغرافيا السورية والمجتمع السوري، الذي أصبح “مجتمعات”، وتغيّرت ديمغرافيا سورية، والمنطقة والإقليم والعالم، يُعلن سوريون من مختلف شرائح المجتمع السوري في الداخل والخارج، في 18 إبريل/ نيسان الحالي، وثيقةً تحت عنوان “وثيقة المبادئ الخمسة – سورية دولة للسوريين”، أكّدوا فيها بمناسبة ذكرى “استقلال” سورية؛ في 17 إبريل، على خمسة مبادئ أيضاً.

وضعت الوثيقة الأولى مبدأ “إسقاط بشّار الأسد وجميع أركان نظامه، وتقديمهم للمحاكمة العادلة” في أول القائمة، بينما استهلت الوثيقة الحالية مبادئها بإعلان “أحقّية التظاهر السلمي سواء الجاري والمستمر في السويداء منذ ثمانية أشهر ضد سلطة النظام أو ضد قوى الأمر الواقع العنصرية والمتطرفة، وفي أيّ منطقة سورية”، وهذا ينمّ عن دراسة متغيرات الواقع. وإذا كانت الوثيقة الأولى قد نادت بخروج “كل القوى الأجنبية والطائفية والإرهابية من سورية” (الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله، ومليشيا أبي الفضل العباس، و”داعش”)، فإنّ الوثيقة الحالية نادت بخروج “القوات الأجنبية والمليشيات الطائفية والمتطرفة (كافّة) وعودة الأمن والأمان في جميع الأراضي السورية”. في الواقع، سورية محتلّة من عدة جيوش، عدا الفصائل المسلّحة التي ترعاها من الخارج دول أخرى، فإذا كان المطلوب هو “وحدة الأراضي السورية”، كما تشير الوثيقتان، فلا بدّ من أن تكون كلّ الأطراف الموجودة، بالفعل وبالوكالة، على الأرض السورية مستهدفة من دون تمييز.

إنّ مشكلاتنا في سورية باتت متجذّرة وأعقد من أي وثيقة، مع احترام نيّات وجهود كلّ الحريصين على وحدة التراب السوري، وسلامة شعبه، ولن يكون هناك حلّ، مهما صَفَتْ النيات وازدادت حزمة المتوافقين أو المتّفقين على مبادئ أساسية، من دون ترتيب أمور المنطقة؛ حلّ القضية السورية يتبع حلّ كلّ القضايا العالقة، وأولها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والصراع الإيراني الأميركي، وترتيب مصالح إيران وتركيا إقليمياً، أمّا صراعات الدول الكبرى أو صراع أميركا وحلفائها، مع روسيا وحلفائها، فهذا مرهون بنتائج الحرب في أكرانيا، وبإدارة الحرب الباردة بين أميركا والصين.

ما تطرحه هذه المقالة ليس تشاؤماً أو يأساً، إنّما هو واقع من التعقل الإقرار به، فما وصلت إليه سورية والمنطقة يزداد “بؤساً”، وتزداد الفجوة اتساعاً في الواقع بين مكوّنات الشعب السوري، فمهما كانت الوثائق شاملة وملمّة بمطالب يحتاج إليها تغيير الوضع وتشكّل عتبات أساسية من أجل بناء سليم في المستقبل، فإنّ وعي الحاضنة الشعبية المأمولة أو التي تناديها الوثائق وتضعها في صلب أهدافها، أمر ضروري وأساس، إذ ما زلنا إلى اليوم، ورغم كلّ الأثمان التي دفعها الشعب، وتقسيم سورية إلى مناطق احتلال ونفوذ، نسمع الخطاب الطائفي على ألسنة المحلّلين، الذين تمطرنا الشاشات والمواقع بأحاديثهم، وعلى ألسنة بعض السياسيين أو أصحاب النفوذ وصنّاع القرار في المناطق السورية. ليس الخطاب الطائفي فحسب، بل العنصري من قبل الشرائح بعضها تجاه بعض، إنّ 12 سنة من “الخراب” السوري، قد دقّت أسافين التعصب والتفرقة، هذا أمر واقع لا يمكن تجاهله، ولم يُخلق من العدم بعد انتفاضة الشعب السوري وانزلاقها إلى العسكرة أمام العنف الذي قوبلت به، ثم ارتمائها في أحضان القوى الإقليمية والخارجية، من كلّ الأطراف، بل كان مخبّأ كجمرة تحت رماد الشعب، الذي كان يحترق على مهل طيلة عقود، وطيلة عقود أيضاً، أفرغت الشعارات التي كان النظام السياسي يُشهرها بينما الواقع يناقضها تماماً، فأصبحت بعض المصطلحات مرفوضة ومنبوذة بسبب ما ترجمت إليه في الواقع، وأكثرها أهمّية “علمانية” الدولة والمجتمع، فسورية لم تكن في يوم من الأيام دولة علمانية، ولم يكن الشعب في غالبيته يترجم هذا المصطلح في ممارسة حياته، سورية تعزّزت فيها على مدى العقود الماضية أسس الانتماء الديني والطائفي والقبلي، فصار الشعب مكوّنات متجاورة تشكّل مجتمعاً يبدو من الخارج أنّه مستقر، بينما كان يمور في عمقه بالخلافات بين مكوّناته، واستقراره كان حالة استنقاع تضبطه سلطة قوية قمعية. لذلك، فإنّ مفهوم العلمانية، التي تعدّ مصطلحاً مذموماً لدى بعضهم، بحاجة إلى إعادة تأصيل في وعي الشعب، ما دام أنّها تشكّل الضامن الأكثر فعّالية لحقوق الجميع في ممارسة شعائرهم وطقوسهم، من دون أن تطغى فئة على أخرى، وتصادر حقّها في ترجمة حياتها سلوكاً وواقعاً.

العلمانية كانت بالنسبة إلى الشيخ أحمد الصياصنة الكلمة التي دفعته إلى الانسحاب من الوثيقة الأخيرة، بعدما كان قد وقّع عليها، لسببين بيّنهما الصياصنة. الأول، إنّه جرى تعديل الوثيقة بعد توقيعه، وهذا أمر مقبول، فأيّ فرد من حقّه الانسحاب من موافقته على أمر مُنجَز يُعدّل فيما بعد. والثاني، كان مفهوم العلمانية الذي لا يوافق عليه، على الرغم من أنّه أتبع رفضه بقوله “لست مع طائفة ولا مع حزب ولا مع أيّ أيديولوجية”، فماذا عن العقيدة الدينية، وعن الحكم وفق الدين والشريعة؟ فإذا كان “مع كلّ سوري في كلّ مكان… ومع السوريين جميعاً”، فلماذا يرفض العلمانية ما دامت تحفظ لكلّ سوريّ حقّه إذا ما طُبّقتْ قولاً وفعلًا؟

ما نحتاج إليه، قبل الأمل في ترجمة أيّ وثيقة إلى فعل، هو توعية الشعب السوري وطرح أفكار أمامه، وتوضيحها، كي يكون قادراً مستقبلاً على ترتيب واقعه، والبدء في لملمة شظاياه، بعد هذا التخريب كلّه، والدمار الذي مورس في حقّه.

كان من المجدي وضع وعي الحاضنة الشعبية أولويةً بالنسبة إلى الجهات التي نَصّبت نفسها ممثلة للشعب وقضيته وتطلعاته، فمن دون وعي قادر على استيعاب كلّ المفاهيم مقدمةً لاختيار الأنسب لن يكون هناك إشراك فعلي للشعب بجميع مكوناته في المرحلة المقبلة، التي لا يمكن التكهّن بالمسافة التي تفصلنا عنها، فنحن جزء من أزمة كبيرة، كلّ ما حولنا خراب، وكلّ الدول المجاورة تعاني المشكلات المستعصية، من دون أن ينجز ترتيب المصالح بين الدول الكبرى والإقليمية، والعالم اليوم يوجّه جلّ اهتمامه إلى الحرب الإسرائيلية على غزّة، التي هي بالنسبة إلى إسرائيل وداعميها جسر عبور فائق الخطورة والحساسية، في طريق تحقيق استراتيجية إسرائيل المدعومة من أميركا والغرب، إلى اليوم على الأقلّ. تلك الاستراتيجية التي تهدف منذ إعلانها إلى القضاء على القضية الفلسطينية، بمحدّداتها كلّها، من مشكلة اللاجئين، وحقّ العودة، الذي تترجمه المحاولة الحثيثة من أجل القضاء على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من منطلق أنّ اللجوء لا يستمر إلى الأبد، وأنّه آن الأوان للكفّ عن اعتبار الفلسطينيين في الشتات لاجئين، إلى القضاء التام على فكرة الدولة الفلسطينية، ومن ثمّ محو الهوية الفلسطينية مع الزمن.

هذا الصراع تستند إليه القوى الكبرى والإقليمية. لذا، لن تكون القضية السورية، وكلّ الوثائق التي يمكن أن يضعها ممثلون للشعب السوري، مع احترام النيّات كلّها، قابلة للحل والتطبيق، قبل ترتيب القضايا التي تعدّها القوى الكبرى أكثر أهمّية وأولى.

العربي الجديد

——————————————-

أسئلة صعبة تواجه المبادرات السوريّة الجديدة/ رانيا مصطفى

05 مايو 2024

يتوسّع الاهتمام السوري بمبادرة 8 آذار (وثيقة المناطق الثلاث)، رغم عمومية خطابها، وأسلوبه الإنشائي الفضفاض، وابتعاده عن المطالب السياسية الواضحة. انضمّت إلى المبادرة قوى مُجتمعية من السويداء ودرعا وريف حلب الشمالي، ومجموعات من الساحل، وشخصيات من إدلب، ورحّب بها “مجلس سوريا الديمقراطية”. ومن الواضح أنّ هذا الخطاب العُمومي يمثّل أساساً للعمل بدءاً من القواعد الاجتماعية العريضة في مناطق سورية كلّها، بمن فيها المؤيدون للنظام، وهو ما سمّته الوثيقة “بناء رأسمال اجتماعي وطني”، بعيداً عن قوى الأمر الواقع الحاكمة والمُعارَضَة التقليدية، من أجل الانتقال لاحقاً إلى المستوى السياسي في العمل، فيما تؤجّل المسائل الخلافية بين السوريين، التي تُمثّل التحدي الأكبر.

يتلمس السوريون المستنقع الذي وقعت فيه سورية. بلادٌ مقسّمة إلى مناطق نفوذ تسيطر عليها قوى الأمر الواقع المدعومة من احتلالات متعدّدة، هذا دفع المُوقّعين على الوثيقة إلى البحث عن كيفية “بناء شبكات ثقة عابرة للمناطق والطوائف والعصبيات”، كما ورد في مبادئ الوثيقة الخمسة، أملاً في تشكيل قيادات وطنية جديدة بديلة من النظام والمُعارَضَة. إنّ وعياً جديداً يتبلور لدى السوريين، لا يتجاوز النظام فحسب، بل أيضاً يتجاوز سياسات المُعارَضَة، المُرتَهِنَة لأطراف إقليمية ودولية ظنّتها ستدعم مطالب السوريين في الحرّية والديمقراطية، ولا يحصُر هذا الوعي مشكلة المُعارَضَة في فسادها وعجزها عن التوحّد وصراعاتها واحتكارها الرأي المُعارِض فقط، بل يراها تتجاوز كلّ بنيتها المؤسّسة على هذا الارتهان للخارج، وأنّه القناة الوحيدة للتغيير السياسي وإهمال دور الشعب، وخطابها المعادي لقطاعات أيّدت النظام، الذي يغلب عليه النفس الطائفي، والسماح بسيطرة حالة مليشياوية على الثورة والشعب، وتبرير سياسة تحرير المدن والقرى الطرفية، وقبول اتفاقيات تسليم المناطق للنظام، ما أسّس مشاريع حُكْمٍ إسلاميةٍ فئويةٍ في “المناطق المحرّرة”، والدفاع عن تلك المشاريع؛ (جبهة النصرة، وأحرار الشام، مثلاً)، بوصفها جزءاً من الثورة. يضاف إلى ذلك المشاريع الكردية الانفصالية، والإدارة الذاتية شمال شرقيّ سورية، وارتهان المُعارضة للأجندة التركية المُعادية للأكراد، الأمر الذي أدخل العرب في حالة عداء مع الأكراد، وساهم في تعزيز التقسيمات المناطقية والعصبية.

اختير يوم 8 آذار، الذي يعود إلى ذكرى تأسيس الدولة السورية في العهد الفيصلي 1920، لإعلان المبادرة، والذي اتفق فيه على ميثاق دستوري فيدرالي، في المؤتمر التأسيسي السوري المنتخب على عجل، قبل أن يُطيحه الاحتلال الفرنسي بعد بضعة أسابيع. حينها كانت سورية الطبيعية، الدولة الوليدة، تضمّ أيضاً فلسطين والأردن ولبنان، وهذا يُحيلنا على تساؤلٍ بشأن حدود وهوية الدولة/ الأمّة السورية المنشودة، وكيف سيصاغ الدستور المُستقبلي لسورية الحالية، وعن علاقتها بالمحيط العربي، هل هي علاقة انتماء قومي؟ وهل من المُمْكن تشكيل وطن سوري بالحدود الحالية، على أسس المواطنة والديمقراطية كما يطرح كثيرون، من دون الالتفات إلى أهمية العمق التاريخي والثقافي في حياة الشعب السوري، عرباً وكُرداً، ومن باقي الأقوام، بوصفها عواملَ حاسمةَ في تأسيس الأوطان، وبالتالي، حسم نقاش موقع الهوية العربية الأكبر أولاً، مدخلاً إلى نقاش إشكالية القوميات الأصغر؟ وهنا يحضر سؤال مُلحٌّ، في توقيت تصاعد انتهاكات نظام الإبادة الجماعية في فلسطين، عن موقع المسألة الفلسطينية من الدولة السورية الوطنية الناشئة. تتجاهل المعارضة في كلّ مؤسساتها ومواثيقها هذه المسألة، انطلاقاً من فكرة إمكانية الانكفاء في “سورية الديمقراطية”، وهل سيقبل الشعب، إذا امتلك “الحرّية والكرامة والإرادة”، بأيّ تنازلات مستقبلية تتعلق بالتطبيع مع الدولة اليهودية؟

في الحديث عن الديمقراطية المنشودة، يحضر سؤال علمانية الدولة، بسبب تشويه كلّ من الديكتاتورية والتيارات الإسلامية لها، بل وربطها بالديكتاتورية تارَةً، وبمعاداة الأديان تارَةً أخرى. لا ديمقراطية حقيقية من دون علمانية، لأنّ الأخيرة تعني رفع القداسة الدينية عن السياسة وحماية الأديان، إرثاً ثقافياً وتاريخياً يعني كلّ السوريين، من الاستغلال السياسي، وأنّ من حقّ الجميع، حتى الجماعات الإسلامية، العمل السياسي والمشاركة في الحُكْم، والنشاط السلمي، والدعوة كلّ وفق أيديولوجيته، لكن تحت دستور علماني. ما يزيد من تعقيد الإشكاليات آنفة الذكر، إرث خمسة عقود من حكم البعث الاستبدادي، الذي تحوّل إلى نظام عائلي مافياوي شمولي، فمواقف وآراء كثيرة محكومة بردّات الفعل على سلوك النظام الديكتاتوري وأيديولوجيته الشمولية، وبالتالي، مبنية على سياسات عكسية. حوّل النظام المشاعر القومية العربية إلى أيديولوجيا، وألغى عبرها حقوق القوميات الأخرى، وحكم باسم أولوية القضية الفلسطينية، وفي تاريخه مجازر في حقّ المقاومة الفلسطينية في مخيّم تلّ الزعتر، ويعتمد لبقائه في الحكم على دعم محور “المقاومة” الذي يعمل لمصلحة الأجندة الإيرانية، ولا يخدم القضية الفلسطينية. أما “علمانية” البعث، فشُطبت من التداول، لضرورات حاجة الحكم الشمولي إلى ولاء مشايخَ رجعيين، يدعمون سيطرتَه على المجتمع، بعد حظر جماعة الإخوان المسلمين في سورية، وهنا تحوّلت العلمانية في ظلّ الحكم الشمولي إلى دعم للطائفية، ولكلّ أشكال التفرقة في المجتمع السوري.

هناك تساؤل آخر مُلِحٌّ يخصّ السياسات الاقتصادية التي ستتبنّاها الدولة، وضرورة وضع برامج اقتصادية للنهوض بالواقع السوري، والظن أنّ الإجابة عن هذا السؤال هي ما سيجمع الشرائح الاجتماعية الأوسع حول أيّ مبادرة تطرحها، في ظلّ تأزم الوضع المعيشي للغالبية السكانية في كلّ المناطق السورية، ومناطق اللجوء في دول الجوار. وهنا تحضر تساؤلات بشأن حدود تدخّل الدولة في توجيه الاقتصاد، العام والخاص، وإعادة الإعمار، والانتقال إلى التصنيع، ودعم الزراعة، وضرورة مجّانية التعليم والطبابة، والبحث عن مصادر التمويل المحلّية والدولية، من دون السماح لها بفرض سياسات اقتصادية قائمة على التبعية والتقشّف على حساب الفقراء. وهنا، أيضاً، يحضر في النقاش ردّات فعل واسعة على إرث سياسات البعث الاستبدادية، حول نمط الدولة التدخّلي، وانتهائه بالفساد، ونهب القطاع العام، الذي سببه الحقيقي الارتجالية وغياب التخطيط والمحاسبة، وإقصاء الكفاءات في مقابل التركيز على الولاء للسلطة.

يحتاج الشارع السوري إلى الأمل بالمستقبل للعودة إلى الثورة، في ظلّ حالة العطالة السياسية الراهنة، ومبادرة 8 آذار، وغيرها لتجميع ناشطين من مناطق سورية مختلفة، هي خطوة إيجابية في هذا السياق، لكنّها لا يمكن أن تكون مُؤثّرة في الشارع من دون امتلاك برامجَ واضحةٍ، وهذا يتطلّب حسم الإشكاليات، وتجاوز الطروحات الرومانسية عن الديمقراطية وحدها أو حلّ إشكالية غياب هوية سورية واضحة بمبدأ المواطنة وحده، والارتباك تجاه البعد العربي، متمثلاً بالقضية الفلسطينية، وتجاهل أهمّية وضع خطط لحلّ مشكلة الفقر، والانتقال إلى اقتصاد مُنتج.

العربي الجديد

———————————

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى