عن انشاء منصة “الذاكرة السورية” الإيجابيات والسلبيات في هذا المشروع -مقالات مختارة-
تحديث 28 أيار 2024
————————-
مشروع ذاكرة سورية حرّة/ عبدالله هداري
26 مايو 2024
لطالما أعرب ثوّار وكتّاب ومثقفون كثيرون وغيرهم من المناضلين عامة عن امتعاضهم الشديد من التزييف المقصود الذي تتعرّض له الأحداث في أثناء الثورات، وامتعاضهم كذلك من التحوير الذي يطاول سردية الثورة والمقاومة فيما بعد، فيصير التاريخ غير التاريخ، وتأخذ الفكرة مساراً آخر. وربما أن التسليم أو عدم الاعتناء بالتصحيح ومواجهة هذا التزييف هو ما جعل كثيرين يستسلمون لمقولة أنّ الثورة يصنعها الثوار ويستفيد منها الخونة، مقولة لطالما طفحت بها رواياتنا الأدبية، وبنفَس انهزامي، بلغ به الأمر جعلها بدهية وحقيقة ثابتة.
وما دام الحديث عن الثورة السورية، فإن سلوك الثورة لا يتوقّف عند الخروج إلى الشارع ومواجهة الاستبداد بصدور عارية فحسب، بل يمتد إلى فعل ثوريٍّ آخر لا ينفصل عنه، ولا يقلّ أهمية كذلك، ألا وهو التوثيق العلمي لهذه الثورة، بكل جوانبها المادّية والمعنوية، وبكل من ارتبط بها من قريب أو بعيد، وكل إسهام إيجابي أو مضاد للثورة مهما بلغت حدّته وطبيعته. ولعل هذا الفعل المعرفي هو ما تبنّاه مشروع الذاكرة السورية الذي انطلق سنة 2019 تحت إشراف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
غير أنه لا يعني وصف هذه المبادرة بالثورية تحييد قيمتها العلمية والبحثية، بل الأثر الثوري فيها مختلف عن غيره، ذلك أنها ذات أثر رجعي إن صحّ القول، لأنها تهدف إلى صون الذاكرة من التزييف، كسره احتكار السلطات والحكومات سردية الأحداث الكبرى، كما عنون مدير المشروع، عبد الرحمن الحاج في إحدى تدويناته. أو لنقل تحفظ الصورة المتعدّدة للأحداث، أو لعلها تحاول ذلك ما أمكنها، وتجعلها كذلك أكثر التصاقاً بالوفرة الأرشيفية التي أتاحتها التكنولوجيات الحديثة.
للسوريين، كما لغيرهم في المنطقة، حسابات ثقيلة مع مسألة السردية هاته، يذكر الجميع حدث سحق مدينة حماة والمجزرة التي اقترفها النظام سنة 1982. يستحضر الحاج هذا الحدث الأليم متحسّراً على أن اللحظة التاريخية حينها سمحت للنظام باحتكار السردية من دون منافسة تُذكر، فطمس بذلك الوقائع والأحداث وسمح لروايته بالبقاء على شكل “ذاكرة الخوف”.
من خلال تتبع ما قاله عبد الرحمن الحاج، محاولين أن نستوعب معه أفق هذا المبادرة متعدّدة الابعاد، يتبين أن هنالك عاملاً مهماً، قد أدرك بمعية فريقه أهميته واختلافه النوعي، والذي لعب لصالح الثورات والشعوب لحظة الحراك الديمقراطي في 2011، وهو التكنولوجيات الحديثة وحرية الفضاء الرقمي. هذا الأخير الذي سمح لأول مرّة بأن يوضع التوثيق والرواية على محكّ المنافسة، فالجميع يرصد ويدوّن ويصوّر، بل ويعبّر عن سردية للحدث من زاويته الخاصة، لقد طفقت السرديات تتزاحم أمام مرأى العين الاستبدادية من دون أن تجد حيلة للجمها. فالحرية التي ما تفتأ تفاجئنا المنصّات الرقمية بأبعادها الجديدة في كل آن، جعلت من كل “البسطاء” كما سمّاهم آصف بيات، أو “الإنسان العادي” حسب تسمية الحاج، يسهمون في كتابة تاريخهم الوطني، فلم يعد ممكناً تصوّر تاريخ أحق بالحضور والحفظ من تاريخ آخر، فالكل يدعونا إلى اكتشاف سرديته واستذكار الحدث بعينه وذائقته.
تصف منصّة الذاكرة السورية التي أُطلِقَت يوم 7 مايو/ أيار الجاري 2024 مشروع الذاكرة هذا بأنه منجز علمي بحثي يسعى لتوثيق أكبر قدر ممكن من التاريخ الشفوي (حيث يضمّ مكتبة بلغت 2500 ساعة)، إلى جانب كتابة اليوميات، وأرشفة الوثائق (مسموعة ومرئية زائد الصور والبيانات الخاصة)، وعند الاطّلاع على مواد الموقع، نجد توثيقاً أيضاً للشعارات الصوتية والمسجلة بالفيديو، واللافتات التي درج الثوار على حملها، إلى جانب الدوريات المكتوبة، بالإضافة إلى الأشخاص بشتى تلاوينهم السياسية والعسكرية والدينية والفنية وغيرها، سواء الموالية للنظام أو المعارضة له، إلى جانب الكيانات التي شكّلت جزءاً من الثورة منذ مارس/ آذار 2011، الرسمية والحكومية والعابرة للحدود والعسكرية والدينية، والقبلية والأهلية.
من المثير فعلاً أن نجد توثيقاً للشخوص الأكاديمية الثقافية حسب تصنيف المنصّة، يحفظ للباحثين على سبيل المثال؛ رأي أدونيس من الثورة، وموقفه منها، وتصنيفه أيضاً أديباً موالياً للنظام، بالإضافة إلى حفظ أسماء بحثية أخرى معارضة كبرهان غليون أو عزمي بشارة مؤلف كتاب “سوريا حرب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن”، وجمال الدين باروت والراحلين صادق جلال العظم وسلامة كيلة ورضوان زيادة وياسين الحاج صالح وسلام الكواكبي ورنا قباني ونجيب جورج عوض وغيرهم ممن كانوا فاعلين في إسناد هذه الثورة من قريب أو بعيد.
ولم تتوقّف سلسلة التوثيق للشخوص عند هذا الحد، فنجد في خانة التصنيف الديني توثيقاً لموقف عالم الدين البارز محمد سعيد رمضان البوطي الذي قتل في 20 مارس/ آذار 2013، والذي وُسم بموالاته للنظام، ومعاداة الثورة، وتوثيق فتواه المثيرة للجدل؛ بأن من يقتل من المتظاهرين فمصيره إلى النار، أو نعته مقاتلي الجيش الحر بالحثالة. لنجد في مقابله عالم الدين البارز كذلك الراحل وهبة الزحيلي المصنّف في خانة “المعارضة”. إذن، فالموقف والرأي لم يعد موضعاً للبس والتلاعب، فالجميع سيذكر ما لك وما عليك، والجميع سيوثق كل ما يتعلق بالفاعلين في أدق تفاصيله.
هذا، ومن دون إغفال مسألة حفظ بعض الشهادات المسجلة صوتاً وصورة، والتي ستمنح الباحثين مادّة حية، من واقع التجارب الشخصية، ستساعدهم على تمثل أفضل لهؤلاء الفاعلين المؤثرين والمتأثرين بالثورة، وتمثل لحظتهم بنسبية شخصانية.
لقد حفظ مشروع الذاكرة التصنيفات ذات الانحياز السياسي كذلك: منها تصنيف المرتزقة مثلاً؛ الذين يصنّف في خانتهم كل من فاغنر وشركة موران وشركة فيغا، وكلها شركات أمن خاص، ثم عسكرية تخدم النظام، وشركات عابرة للحدود. ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، حيث يوثق أيضاً دور حزب الله، وحركة أمل، والحرس الثوري الإيراني، التي وردت كلها في خانة الكيانات الموالية للنظام، وأيضاً كتائب حزب الله العراقي، وجيش المهدي، وحزب الله الحجاز (الكيان السعودي الموالي للنظام أيضاً)، وقوات الباسيج أو اللواء 313، إلى جانب قوات البحرية الروسية، والفيلق السلافي… إلخ.
ولا يمكن أن نغفل كذلك الحديث عن فريق العمل، الذي يديره كما سبق القول الباحث السوري عبد الرحمن الحاج، الذي لم يكن سعيه من خروج المشروع إسهاماً في توثيق أحداث الثورة السورية فقط، وإنما الإجابة عن قلق المعاناة مع الاستبداد التي سبقت هذه اللحظة، والتي لا يمكنها أن تشكّل في حالة الحاج هنا إلا إجابة بحثية تستدرك على السردية المهيمنة وتفتح الباب لإعادة كتابة الأحداث دائماً.
إذن، نحن أمام منجز توثيقي هام، لا يمكن إلا أن نعدّه فعلاً ثقافياً وتقليداً علمياً يستحقّ التنويه، كما ينبغي أن تنتقل عدواه إلى دولٍ عديدة في المنطقة التي شهدت حراكاً بطريقة أو بأخرى، لبلوغ هدفٍ أساسي ولدت من أجله هذه المنصّة الرقمية، وهو مواجهة عمليات التزييف المقصودة والمحتملة التي لا تخدم إلا الاستبداد والنسيان واللاعدالة.
العربي الجديد
————————-
===================
تحديث 25 أيار 2024
———————–
عن منصة الذاكرة السورية: حفاظٌ على الحقائق أم طمسٌ لها؟/ أوس المبارك
أعلن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن إطلاق منصة الذاكرة السورية من العاصمة القطرية الدوحة يوم 6 أيار (مايو) 2024. وهي، كما وصفها المركز، «منصة رقمية شاملة المحتوى» تأتي «تتويجاً» لعمل بحثي أُطلق منذ خمسة أعوام، وهدفُها «توثيق أحداث في الثورة وأرشفتها»، كما أنها، بحسب التعريف الذي يقدّمه المركز، تُوفّر «أرشيفاً مرجعياً حول الثورة السورية وما تبعها من أحداث حتى اليوم». كما يذكر المركز أنها تحتوي 50.000 وثيقة و6000 شخصية و10000 كيان و900.000 مقطع فيديو و893 شهادة مسجلة.
وقد تم تقسيم قاعدة البيانات هذه إلى أبواب ثلاثة: اليوميات والشهادات والأرشيف. كما تضمُّ أكثر من 11200 إصدار من الدوريات السورية، وبيانات لأكثر من 10.000 كيان عسكري ومدني و«حوكمي»، أما الشخصيات «فعددها 13000 سيَجري عرض نحو 6000 منها فقط» كما هو مذكور في النسخة المُعدَّلة من الخبر. وقد تم تزويد هذه «المنصة الحديثة بتقنيات متقدمة في البحث معدَّة لتوفير نتائج بحث دقيقة على الرغم من ضخامة البيانات».
أما رؤية المشروع فتنصُّ على «حفظ الذاكرة الوطنية بمنهجية بحث علمية لتُشكِّلَ أساساً لمواجهة عمليات التزييف المحتملة لمراكز السلطة المختلفة والحيلولة دون طمس الحقائق». وكانت فكرة هذا المشروع قد تبلورت بعد انتهاء مشروع وثيقة وطن الذي تترأسُّه بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد، والذي قدّم رواية النظام السوري للأحداث «وفق مقاربة التأريخ الشفوي» كما ذُكر في تعريفهم.
يرأس مشروع الذاكرة السورية الدكتور عبد الرحمن الحاج، الباحث والأكاديمي المتخصّص في الحركات الإسلامية، والحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة العلوم الإسلامية في ماليزيا، والمُنخرط في مؤسسات المعارضة السورية منذ عام 2011. وتدير قسم الشهادات السيدة سهير الأتاسي، المُعارِضة المعروفة، وقسم اليوميات بإدارة أحمد أبازيد، الكاتب والباحث المتخصص في الحركات الإسلامية أيضاً، وقسم الأرشيف منقذ عثمان آغا، طالب الدكتوراه في الدراسات الدولية في جامعة ترينتو (Trento) الإيطالية. كما يضمُّ الفريق عشرات الباحثين والإعلاميين والمصورين وغيرهم من الكوادر، من بينهم فراس ديبة وشيماء البوطي وآخرين من الناشطين المعروفين.
يُوحي المشروع أنه عملٌ ضخم، وهو كذلك بالفعل. وقد احتاج لإنجازه إلى تمويل ضخم قدّمه الدكتور عزمي بشارة عبر مركزه العربي القطري. استمرَّ العملُ على مدى خمس سنوات لإنجازه بدأب ونشاط، ما يجعلنا نرجو لهم العافية على تعبهم، ونتَهيّبُ أمام هذه الهالة التي رسموها حول مشروعهم، والتي ما أن نقترب منها حتى تبدأ، للأسف، بالخفوت رويداً رويداً، لنكتشف ونحن نتصفح «ذاكرتنا» أننا أمام مشروع يشكو حتى اللحظة من الانحياز الإيديولوجي والإنغلاق على الذات وبعض الاعتباطية، ما أدى إلى إغفال أمورٍ أساسية في الثورة، بالإضافة إلى كمّ مؤسف من المشاكل التقنية.
لم يَحُل التمويل الضخم دون إغفال الكثير من الأمور والمؤسسات والشخصيات الهامة لصالح تفضيلات القائمين على المشروع، ولا دون طغيان طرائق تعبير لغوية تصبُّ في تقليل شأن التيار الديمقراطي المدني العلماني داخل الثورة، وإعطاءِ مساحة أكبر للقابلين بالمرجعية الإسلامية والأبوية القطرية، ورَفْعِ قَدْر التيارات الإسلامية المتنوعة والتخفيف من حدة تطرُّف الكثير منها. وعلاوة على ذلك، نقابل أخطاءَ كثيرة حيثما بحثنا، في المعلومات والبيانات، لا علاقة لها بالإيديولوجيا بل ربما بضعفِ الكفاءات البحثية حيناً، والاكتفاء بالقريبين من المشروع دون أصحاب الشأن والمعرفة المباشرة في الأمر المتناوَل، حيناً آخر. كما أنَّ «التقنيات المتقدّمة في البحث المُعدَّة لتوفير نتائج بحث دقيقة على الرغم من ضخامة البيانات» تملؤنا حنيناً إلى زمان البحث اليدوي في المكتبات!
الانحياز الإيديولوجي
قد تكون هذه المشكلة الأخلاقية، والمنهجية في الوقت نفسه، أكثر مشاكل المنصّة وضوحاً وإيلاماً. فالمِنصّة التي «شملت الاطلاع على رواية النظام» بحسب كلام أحمد أبازيد، لم تتّسع لتشمل الاطلاع على رواية التيار الديمقراطي المدني، ومالت إلى تفضيلات أعضاءِ الفريق الذاتية، السياسية والعسكرية، فوقعوا في مزيج من الإغفال والتدليس وتغيير الحقائق. لم أتوقّع بأي حال من الأحوال أن المشروع الذي يُديره عبد الرحمن الحاج المشهود له بالمهنية والاعتدال سيكون على هذا القدر من احتكار «الذاكرة السورية». سنمرُّ على أمثلة، وكذلك على محاولة تبريرها بعد تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي.
لفهم تاريخ العمل المسلَّح في الثورة السورية نحتاج إلى الدقة في تصنيف الفصائل العسكرية وانتماءاتها، لنفهم سلوكها ومآلاتها. لكن القائمين على المشروع ارتأوا طمسَ كل تلك الفوارق والتصنيفات التي كانت جوهرية في أحداث حددتْ مصيرَ الثورة. لا وجودَ مثلاً لكلمة فصيل إسلامي في المنصة، بل المسمى هو «جيش حر» لجميع الفصائل التي لم تكُن ضمن تنظيم الدولة الإسلامية أو تنظيم القاعدة، رغم أن كثيراً منها أعلن مراراً رفضه الانتساب إلى الجيش الحر ولمجالسه العسكرية، بل وحارب فصائلها ونهب مستودعاتها بحجة «رايتهم العمية»؛ أي رفعها لعلم الاستقلال لا راية التوحيد الإسلامية السوداء أو البيضاء، وأقامت تلك الفصائل تجمُّعات إسلامية موازية حتى قضت على هيمنة الجيش الحر وأقصت الضباط المنشقين وجعلتِ الشرعيين أصحاب القرار العسكري والسياسي، وعبَّدتْ بمزاوداتها الدينية الطريقَ لصعود تنظيم الدولة وجبهة النصرة.
تبنّت بعض هذه الفصائل بعد سنين طويلة مسمى الجيش الحر وعلم الاستقلال دون أي اعتذار أو مراجعة أو إعادة اعتبار أو «دية» أو «قصاص» لما اقترفوه ضدّ الجيش الحر. نحن نتحدثُ هنا عن آلاف الأرواح وعن ثورة تم تحطيمها من الداخل بأفعالهم، ومن الخارج بعد أن تهيأت الظروف المناسبة للأسد. هل في تحطيم الثورة ما يستحق مكافأته وتجميله؟ وهل في وصف جميع الفصائل بالجيش الحر مهنيةٌ علميةٌ أو أمانةٌ أخلاقيةٌ تحفظ «الذاكرة»؟
نلحظُ أن ذلك التمييز وتلك الأفعال لا تنالُ اهتمام أحمد أبازيد، رئيس تحرير قسم اليوميات، فلا يوجد ذكرٌ مثلاً في يومياته لعملية نهب مستودعات المجلس العسكري التابع للجيش الحر في الغوطة قُبيلَ عملية دخول عدرا العمالية التي يبدو أن رئيس المجلس العسكري حينها، العميد الركن زياد فهد، رفضها. وكنتُ شاهداً على مكالمة سكايب مع العميد الركن الذي كان في الأردن حينها، يتّهم فيها جيش الإسلام وجبهة النصرة. وقد كان الفصيلان حينها على علاقة طيبة، وصرّحَ زهران علوش قائد جيش الإسلام تصريحه الشهير حول إمكانية تبادل شرعيَّي الفصيلين، كعكة والقحطاني، دون أن يختلَّ أي شيء. هل هناك ذكرٌ لهذا التصريح في يوميات أحمد أبازيد أو الأرشيف أو أي مكان في منصة «ذاكرتنا»؟ الجواب هو لا. ولا وجود لذكر العميد الركن زياد فهد في كل المنصة. أما في التعريف بزهران علوش فيتم ذكر أنه «عادى» تنظيم الدولة وجبهة النصرة، وإغفال أنه قام بمحاربة جيش الأمة، الفصيل المنتمي للجيش الحر، والذي أمر قائدُهُ أبو صبحي طه جميعَ عناصره برمي السلاح بدلاً من الدخول في صراع دامٍ مع جيش الإسلام.
نلحظ أيضاً تسمية أبي عزام الكويتي على المنصة «بالعسكري»، لا بالجهادي أو الإسلامي، دون الإرهابي طبعاً. وهو الذي كان أحد أعضاء جبهة النصرة ولم يكن ضابطاً أو مجنداً يوماً ليحمل تلك الصفة دون غيرها. وكذلك وصف مجدي نعمة/إسلام علوش بالانتماء إلى الجيش الحر، وهو عضو جيش الإسلام سابقاً. وقد قدَّم القائمون في نبذته (هل كاتبها هو صديقه أحمد أبازيد؟) روايتهم دون غيرهم. فقد كتبتُ مقالةً إثر اعتقاله في فرنسا، وكانت ثاني أكثر المواد قراءة على موقع مجموعة الجمهورية لعام 2021، ولم يتم إرفاق المادة مع باقي الروابط عن اعتقاله. هل لم يقرأ أحمد أبازيد المادة؟ أشكُّ في ذلك. لكنه مجدداً الانحيازُ الذي يؤدي إلى عدم الأمانة مع «ذاكرتنا» وعدم أخذ رواية المُختلِف سياسياً بعين الاعتبار، حتى وإن كان جزءاً أصيلاً من الثورة وتاريخها.
وفيما يخص قضية مجلة طلعنا عالحرية، بعد المقال الذي اعتُبِرَ مسيئاً، تذكُرُ المنصة أن «قضاء» جيش الإسلام (لم يذكروا بالطبع أنه تابع له) قام بالسماح بنشر المجلة إلكترونياً ومنعها ورقياً، وأن أسامة نصار، نائب رئيس تحريرها، والمقيم في دوما مركز سيطرة جيش الإسلام حينها، عاد إثر ذلك إلى العمل في المجلة بعد استقالته منها و«تبرئته». هذا غير صحيح على الإطلاق. لا يوجد أي كلام في قرار «قضاء» جيش الإسلام يتحدّث عن السماح باستمرار عمل المجلة إلكترونياً، فضلاً عن عودة أسامة إليها، وهو ما لم يتم إلا بعد خروجه من سوريا.
كذلك ذكروا أن عائلة الأستاذ محمد فليطاني، القيادي السياسي في مدينة دوما، اتّهمتْ «خلايا» النظام باغتياله في مدينة دوما، برغم أنها أعلنت مراراً اتهامها لجيش الإسلام. هل لجيش الإسلام مندوب في فريق المنصة أم ماذا؟
لدينا أيضاً عشرات الشخصيات من السياسيين والناشطين المختلفين عن خط القائمين على المنصة الفكري لا وجود لذكرهم في المنصة، لنأخذ أمثلة منها: عمر عزيز، الأب الروحي لتأسيس المجالس المحلية ولطَرح فكرتها، وقام بتأسيس أوائل المجالس المحلية في أحياء دمشق وغوطتها الشرقية بالتشارك مع كوادر تلك المدن والبلدات. ومحمود مرشد المدلل، أحد أهم قيادات الغوطة السياسية وكان رئيس المجلس المحلي في حرستا وركناً أساسياً في تأسيس أول تجمُّع سياسي في الغوطة (التجمع الوطني لقوى الثورة في الغوطة، غير الموجود في المنصة، أيضاً!) وكذلك في تأسيس إدارة المجالس المحلية ومكتب محافظة ريف دمشق والقيادة المدنية في الغوطة، التي اقتحم زهران عدة مرات اجتماعاتها، قائلاً في إحدى المرات أن لا يُزاودوا عليه في المدنية، فهو يستطيع الآن شلحَ بدلته وارتداء طقم فيصبح مدنياً أكثر منهم! وأجابه أبو مرشد أن من لا ينتسب إلى الجيش الحر ولا يرفع علم الثورة لا يمثله. هل لذلك تم إغفال أبي مرشد من «الذاكرة السورية»؟
أما في حالات أخرى فيتم ذكر الشخصية لكن بطريقة غريبة، فياسين الحاج صالح، الكاتب المعروف على نطاق عربي ودولي، وذو الشعبية في أوساط المعارضين الديمقراطيين العلمانيين، وصاحب العديد من الكتب ومئات المقالات والدراسات، يصبح مجرد «معارض» في نبذة رزان زيتونة، هذا في الوقت الذي يتم فيه وصف أبو عبد الرحمن زين العابدين، أحد «شرعيي» جيش الإسلام، والذي لا يحمل أي شهادة قانونية أو إدارية، وبات رئيس «القضاء» الشرعي بعد سيطرة جيش الإسلام على هذا الجسم في الغوطة، فيتم إعطائه وصف «حوكمي معارض»، دون ذكر انتمائه لجيش الإسلام.
وعلى غرار الشخصيات، لا تنتهي قائمة الكيانات غير الموجودة على المنصة، بِدءاً من كثير من التنسيقيات والتجمُّعات ذات التوجه الديمقراطي المدني أو العلماني التي نشطت في بدايات الثورة، مروراً بالتجمُّع الوطني لقوى الثورة في الغوطة الشرقية المذكور آنفاً، وصولاً إلى لجان التنسيق المحلية!
كانت لجان التنسيق أول كيان سياسي يتشكّل في الثورة. أسستها رزان زيتونة مع شخصيات ثورية أخرى، وصاغ ياسين الحاج صالح وثيقتها السياسية الأولى، والتي حظيت وقتها باهتمام بالغ، بالإضافة إلى شخصيات كثيرة أخرى، لتَجمَع التنسيقيات والهيئات المحلية وتساعدها في تنظيم عملها وتوحيد خطابها الثوري وأهدافها السياسية المتمثلة في إقامة دولة المواطنة الديمقراطية. كان ذلك قبل المجلس الوطني ومؤتمر أنطاليا، وقبل اتحاد التنسيقيات الذي شكَّله إسلاميون رافضون للنهج الوطني غير الطائفي للجان التنسيق المحلية، فمثّلوا أول حالة شقّ صف في الثورة، وانضمّت لهم سهير الأتاسي، مديرة قسم الشهادات في منصة الذاكرة السورية، والتي كانت على غير وفاق مع رزان منذ ما قبل الثورة. هل تم «نسيان» إضافة لجان التنسيق المحلية إلى الكيانات من قبل هذا الفريق أم تأجيله لمرحلة لاحقة؟ يصعب حقاً تصديق ذلك.
جميع ما سبق ذكره من أمثلة هو من دائرة معارفي ومما شهدت شخصياً، والحال كذلك، فلنا أن نتوقّع ما يمكن أن يكون قد تمَّ تجميله أو إغفاله عن الحراك في المناطق الكردية قبل أو بعد هجوم الفصائل الإسلامية عليها، أو عن الحراك المدني في حلب. لا ذكر مثلاً للناشطة والكاتبة مرسيل شحوارو التي اعتقلها فصيل السيد أحمد أبازيد في وقت سابق (فاستقم كما أمرت)، وذلك لعدم ارتدائها الحجاب في حلب، ومنَعَها من تكرار ذلك ما اضطرها إلى الخروج من حلب «المحررة». ولا لزينة ارحيم، الإعلامية والناشطة المعروفة، ولا لوعد الخطيب، مخرجة فيلم إلى سما الذي ترشَّح للأوسكار.
وهناك بالفعل ميل عام ذكوري غير خفيٍّ في فريق المشروع، قد لا يقتصر على الذكور فيه وحسب. فإن كانت الأمثلة السابقة هي من الأمثلة الشهيرة في حلب، ففي دمشق والغوطة ودرعا وريف حلب وإدلب، التي عشتُ في جميعها في الثورة، نستطيع عدَّ مئات النساء غير المعروفات إلا محلياً، قُمنَ بعمل جبّار في الثورة، وكثيرات منهنّ استشهدنَ وقد يُمحى ذكرهنَ. كما أن الميل العسكريَّ جليٌّ أيضاً على حساب الحراك المدني، الذي كانت درجة الأسلمة فيه أقلّ من نظيرتها العسكرية، فضلاً عن تَركُّز القوى الديمقراطية المدنية فيه بعد تفتيت الجيش الحر وتحقيقها لإنجازات محلية ذات شأن في بناء دولة المواطنة الديمقراطية.
الاكتفاء بالذات
من غير الواضح إن كان السعي لإرضاء النزعة الكمية وفق منهج القائمين على المشروع، أو رغبتهم ربما بالتباهي به بين «الخصوم» وحيازة «اليد العليا»، هو ما جعلهم يقَعون في الكثير من الأخطاء صعبة الحصر وغير المتعلقة بتوجّههم أو انتقائيّتهم، بل بتسرُّعٍ وضعفٍ في الكفاءة البحثية وجنوحٍ إلى التقوقع والاكتفاء بدوائرهم وشبكاتهم الخاصة على حساب النتيجة النهائية.
خلال الأيام الأولى لإطلاق المنصة لفتَ كثيرٌ من النشطاء والصحفيين وأصحاب المعرفة المباشرة إلى العديد من الأخطاء في الصور والتواريخ البسيطة، التي يُستغرَب أن تحدث في موقع استغرق هذا الوقت والمال. وفي مفارقة غريبة نرى أن التاريخ المذكور لتأسيس مركز توثيق الإنتهاكات هو 18 آذار (مارس) 2015 على الرغم من أن المركز ناشط منذ ما قبل الثورة، وتم الإعلان عنه خلال شهورها الأولى وترأسّته رزان زيتونة، وأشرفت على إصدار تقريرين شهيرين له، سيّما الصادر بعد مجزرة الكيماوي في الغوطة سنة 2013. هل لا يعلم القائم على «الذاكرة السورية» بهذا؟!
ابتعدتُ عن الحديث عن الشهادات حتى اللحظة لأن الخطأ أو الإغفال أو عدم الدقة في الشهادة يُسأل عنها صاحب أو صاحبة الشهادة، وهي مادة أولية على الباحث مقاطعتها مع شهادات ومعلومات أخرى للتأكد من دقتها وفهم انحيازات صاحبها. ولكن ماذا لو كانت الشهادة لأحد كوادر المؤسسة، وفي موضوع تم تجاهل العديد من أصحاب المُعايَشة الأقربِ بخصوصه؟ أعني هنا شهادة الموظف في المنصة فراس ديبة، وبالتحديد عن موضوع حراك جامعة حلب قبل الثورة، ودور الدكتور المُغيّب قسراً محمد عرب فيه.
فراس ديبة كان، كما يَعرِف طلاب جامعة حلب، في تلك الفترة بعثياً، وقام بالتحقيق معي شخصياً لميولي المُعارِضة وقتها. أعلم أنه ناصر الثورة بعد اندلاعها، والعبرة بمن صدق لا بمن سبق، لكن عند الاطلاع على شهادته في المنصة وتصوير نفسه كمعارض منذ ذلك الحين، ونشرها على المنصة رغم وجود كثيرين يعرفونه في تلك المرحلة، ومعرفة القائمين على المشروع بمن هم أجدرُ لأخذ شهاداتهم عن اعتقال الدكتور محمد عرب، يجعل دحضَ عاملِ الشللية والتقوقعِ وضعفِ المهنية والكفاءة البحثية هنا أمراً غير ممكن. وجدير بالذكر كذلك أنه قال في «شهادته» عن مرحلة ما قبل الثورة إن اتحاد الطلبة في جامعة حلب كانت فيه «حالة ديمقراطية لا بأس بها»، وكان هناك «انتخابات حقيقية» في الهيئات الإدارية في كليات الجامعة. وقد خضتُ في كليتي طب الأسنان في حلب حين كنت في السنة الثانية تلك الانتخابات، وأحرزتُ أعلى عدد من الأصوات بفارق كبير عمّن يليني. لكن عندما جاء زميل بعثي ليجمع معلوماتٍ عني، قلتُ له إني معارض، فقال لي إنه ليس من صالحي تسجيل ذلك، وسجَّلَ عوضاً عنها (غير حزبي)، أي غير بعثي. وعندما جاءت قائمة أعضاء الهيئة الإدارية، لم يكن لاسمي وجودٌ فيها.
وعموماً هذة أمثلة عثرتُ عليها بعد القليل من البحث فقط، ولا نعرف بعد مرور الوقت والاطلاع على محتوى المنصة كم سيتكشَّف لنا من أخطاء التسرُّع وضعف الكفاءة واعتماد الشللية كمرجعية.
المشاكل التقنية
لا أبالغ إن قلتُ إنني لا أتذكُّر إن كنتُ قد استعملتُ محرّكَ بحث أسوأ من محرك البحث في منصة الذاكرة السورية. يعتمد المحرك ذو «التقنيات المتقدمة» على التطابق التام – لا التشابه كما في محركات البحث عادةً – بين كلمة البحث وبين المسمى الموجود في قاعدة بيانات المنصّة. الكثير من الناس كتبوا للدكتور عبد الرحمن مدير المشروع على الفيسبوك عن عدم وجود هذا الكيان أو تلك الشخصية، ليعطيهم بعدها رابطاً لها. اختلاف حرف واحد أو أل التعريف أو زيادة كلمة غير مذكورة في قاعدة البيانات لن تؤدي بنا إلى ما نبحث، وقد نظن أنه غير موجود. وإن كنا لا نتذكر اسم أمر ما وإنما تفصيلاً حوله، فلن نجد هذا الأمر على الأغلب، برغم وجود هذا التفصيل في وصفه ضمن صفحته.
أما البحث في الأرشيف واليوميات فهو الأسوأ، حيث لا ينفعُ وجود كلمات مفتاحية في البحث لتحاشي ظهور مئات النتائج، وربما الآلاف منها، في الفترة التي نتوقع أن الحدث كان فيها، ولا سيّما إن تعددت الكلمات المفتاحية. ننتظر من أي محرك بحث أن يُظهر لنا كأولويةٍ النتائجَ المتقاطعة في عنوانها مع الكلمات الموجودة في البحث، لا إظهارها بحسب الفترة المحددة، حتى لو لم يكن في النتائج الأولى أي كلمة مشتركة في العنوان أو المتن! لنأخذ مثالاً (مظاهرة 15 آذار): تظهر النتائج في اليوميات لمظاهرات بين 15 آذار 2011 و15 آذار 2024، وليس للمظاهرات التي تتطابق مع المكتوب في البحث، أما في الأرشيف فلا تظهر أي نتيجة للمكتوب، وربما لا وجود لأي مقطع فيديو لمظاهرة 15 آذار 2011 في المنصة الرقمية «شاملة المحتوى»!
ونواجه مشكلةً أيضاً في البحث في قسم الشهادات عن حدثٍ ما لنعرف ما قيل عنه في كل الشهادات. شاهدتُ مثلاً مقطعاً من شهادة محمد حاج بكري عن مظاهرة انطلاق الثورة في دمشق 15 آذار (هل يعتبرها القائمون على المشروع كذلك؟)، ويظهر التاريخ في عنوان المقطع، لكن عند وضعه في البحث لن يظهر مقطع شهادة حاج بكري ولا غيره!
وللطرافة أيضاً، فعند الضغط على إحدى (الموضوعات المرتبطة) الموجودة في شهادةٍ ما، أعني مثلاً عند الضغط على (النشاط السياسي قبل الثورة السورية) التي تحتوي 84 شهادة كما هو ظاهر بجانبها، تظهر شهادات في تسع صفحات، وكل الصفحات مكررة عن الصفحة الأولى التي تحتوي عشر شهادات فقط.
هل اختبر القائمون على المشروع هذه «التقنيات المتقدمة في البحث المعدَّة لتوفير نتائج بحث دقيقة على الرغم من ضخامة البيانات» قبل وصفها بذلك؟
خاتمة
تهمني الإشارة في الختام أنه بعد تداول الكثير من النقاط التي أشرتُ إليها على وسائل التواصل، خرج مدير المشروع الدكتور عبد الرحمن الحاج ليقول إن العمل لم يكتمل بعد، وإنه ما زال هناك آلاف الشخصيات والوثائق والشهادات لإضافتها. عدتُ إثرها إلى مادة المركز المذكورة في بداية المقالة، والمنشورة في تاريخ 6 أيار (مايو) لأتأكد مما كنتُ قرأته سابقاً عن انطلاق المشروع، ولا أتذكر في تلك المادة أي حديث عن عدم اكتمال العمل، بل إن الانطلاقة كانت «تتويجاً» لعمل سنواتٍ خمس. وجدتُ أن ذكر عدم الاكتمال موجودٌ فعلاً في المقالة. وعند محاولة الوصول عبر خبيرٍ تقني إلى عمليات تعديل المقالة في موقع المركز الذي يُخفي تاريخ التعديل، لم نصل إلى أقدم من نسخة تم تعديلها يوم 15 أيار (مايو) هذا الشهر، دون إمكانية الوصول لنُسخة يوم الإطلاق. غير أننا وجدنا النسخة الإنكليزية غير المعدّلة، ولا وجود فيها لأي ذكر عن عدم اكتمال العمل.
وخلال هذه الفترة حرصَ الدكتور الحاج على التفاعل مع النقد المتعلق بالإغفالات تحديداً، وتم بالفعل إضافة الكثير من المعلومات وتصحيح بعضها آخر. في حين بقيت أمورٌ أخرى على حالها، خاصة تلك المتعلقة بالتعامل مع الفصائل الإسلامية بصفتها مجرد قوى وطنية ثورية وتجميل دورها على حاله. ربما لا يطمح القائمون على «المنصة الرقمية شاملة المحتوى» إلى حذف ما يكرهون من الذاكرة، فهم يعلمون صعوبة ذلك، لكن لا يبدو أنهم راغبون أو قادرون على قول الحقيقة كاملة عندما يتعلق الأمر بدور «محورهم» الإيديولوجي-الإقليمي، فتحولوا بدورهم إلى «مركز سلطة آخر».
في مادتي الذاكرة في الراهن السوري قبل ثلاثة أعوام، كتبتُ خاتمةً تصلح أيضاً هنا:
والمشروع الذي سيضمنُ لسوريا عقد بناء وطن مُستدام لأبنائه لا يمكن إلا أن يحمل ذاكرات هذا الشعب بأمانة دون عوار، دون انتقامية أو طغيان، دون تحوير أو تجميل أو استخفاف. ذاكرة تنشد التعافي.
موقع الجمهورية
—————————–
عبد الرحمن الحاج مدير “الذاكرة السورية” لـ العربي القديم: لهذا السبب حجبنا سير بعض الشخصيات!
حوار وتعقيب: غسان المفلح
العربي القديم
24 مايو، 2024
تابعت الكثير، مما كتب عن مشروع “الذاكرة السورية”، هذا المشروع الذي أطلقه المركز العربي للدراسات والأبحاث، ومركزه في الدوحة. المشروع يترأسه الصديق الدكتور عبد الرحمن الحاج الذي شكل هذا المشروع بالنسبة له طموحاً، سعى لتحقيقه، سواء على المستوى الشخصي أو العام، معه بالطبع مجموعة من السوريين المهتمين بهذا المشروع. إنها مهمة تتمحور حول إبقاء سردية الثورة، وتفاصيل حدثها في ذاكرة ما محفوظة إلى الأبد، خاصة في ظل الانكسارات المتعددة الأوجه التي أصابت جماهير الثورة ونخبها، منذ ثلاثة عشر عاماً، بما تحويه من وثائق، ووقائع مكتوبة ومرئية ومسموعة، ومنها ما هو شفاهي أيضاً، فلكم أن تتخيلوا حجم هذه المهمة.
سأبدأ ببوست للصديق حسام القطلبي، يشكك من خلاله بهذا العمل، بالمعنى النسبي للعبارة. في الحقيقة لفت نظري؛ لأنه يتحدث عن مؤسسة مهمة من مؤسسات الثورة، وهي لجان التنسيق المحلية، وهذه ليست هفوة، بالطبع بالاعتماد على بحث حسام في الذاكرة، يتحدث حسام كيف لنا أن نثق بالذاكرة، وهي لا تأتي على ذكر لجان التنسيق المحلية! إضافة إلى كتابات تناولت المشروع بالتشكيك والاتهام، لكن ما تابعته يعبر عن الصدى الإيجابي الذي تركه الإعلان عن هذا المشروع أيضاً. قبل أن أدلو بدلوي في ذلك، توجهت ببعض الأسئلة إلى الصديق الدكتور عبد الرحمن الحاج؛ كي أكتب هذه المادة بشيء من التوثيق والمسؤولية. كانت أجوبته واضحة، وكان رحب الصدر.
نص الحوار:
س: ماذا تعني لك شخصياً الذاكرة السورية… خاصة أنك وجهت رسالة لوالدك رحمه الله أنك أنجزت؟!
تعني لي شيئين: مقاومة النسيان، ومنع مراكز السلطة المختلفة من تزوير الحقيقة، كما حصل في العقود السابقة. في الثمانينات جرت فظائع، وأهوال، راح ضحيتها عشرات الآلاف في حماة وفي السجون، سحقت مدينة بأكملها مع سكانها، واعتقل الألوف واختفوا في السجون، وحيث غابت الرواية والتوثيق. وحده النظام تحكّم بالرواية، صار الضحايا منسيين، وتفاصيل الوقائع شبه معدومة، أسباب عديدة سمحت بذلك، لكننا اليوم في وضع مختلف، سمحت تكنولوجيا الاتصالات بإضعاف قدرة مراكز السلطة المختلفة على التحكم؛ ما أتاح فرصة استثنائية للتوثيق، وحفظ الذاكرة الجماعية عن الأحداث، وقد قمنا باستغلالها.
س: هل تعتقد أنكم كفريق عمل تخلصتم من حمولتكم الأيديولوجية والسياسية في التعاطي مع تفاصيل الحدث السوري، وزوايا نظر الرواة أو الموثقين؟
يمكن لكل إنسان أن يدعي أنه غير متأثر بتحيزات مسبقة، ولكن ليس المطلوب من الباحثين الحياد، المطلوب منهم الموضوعية، والالتزام بمنهجية علمية، تلتزم بالمعطيات المتوفرة هذا أولاً، وثانياً الابتعاد عن الأحكام، فما نقدمه هو مادة مرجعية، لا تتضمن أحكاماً قيمية، الأحكام متروكة للقراء والباحثين. ثالثاً السعي إلى الشمول، وعدم تغييب أطراف على حساب أطراف أخرى، لقد حاولنا أن نفعل ما بوسعنا؛ لتجنب أي عملية تهميش أو إقصاء، لا يمكن تقديم ذاكرة وطنية، عبر عمليات الإلغاء والتجاهل، لكن أيضاً لا يعني أننا حققنا إحاطة تامة، ولا ندعي ذلك، لقد قمنا بالعمل الأساسي في ذلك، ولكننا نعلم أن شمول الأحداث وتعقيدها، يتطلب الكثير من الوقت لضمان الإحاطة بها، ويستطيع أي طرف أن يرى ببساطة أن الشمول هو قاعدة أساسية في العمل الذي قمنا به في المنصة.
نحن في إطلاق المرحلة الأولى لم ننشر كل ما يتعلق بالشخصيات والكيانات، هنالك أكثر من 15 ألف كيان ظهرت في الأحداث، أو تم رصدها في عملية المسح الجغرافي، نشر منها نحو 10500، أي إن نحو 4500 كيان لا يزال في طور المراجعة، كذلك الأمر بالنسبة للشخصيات، لقد تم نشر نحو 6000 تعريف من أصل نخو 14000، وبعض هذه الشخصيات حجبنا سيرتها الذاتية لأنها قيد التحرير، لهذا فإن عدم وجود شخصية الآن في المنصة، لا يعني أنها غير موجودة، نحن نقوم بالتحرير وننشرها تباعاً.
هذا النشر المتدرج للشخصيات، قد يعطي انطباعاً مضللاً في التحيز، لكن هذا غير دقيق. كل شخصية ظهرت في الأحداث، أو شاركت فيها أو ظهرت في وثيقة كجهة مسؤولة، أو في مقطع فيديو في حدث كشخص محوري فيه، تم إدراجها في القائمة، باستثناء الشخصيات المعروفة، هنالك الآلاف من الشخصيات التي لعبت أدواراً تفصيلية، تقدم المنصة لأول مرة تعريفاً بها، وتخرجها من التهميش والنسيان.
س: هل يمكن أن نكون قد وقعنا في أخطاء أمام هذا العمل الهائل؟
نعم بالتأكيد هذا وارد، وفرصة التصحيح متاحة للجميع، كيف ذلك؟ منحتنا التكنولوجيا فرصة غير مسبوقة لمشاركة الناس، خارج مراكز السلطة في كتابة تاريخهم، يمكن لأي شخص في أي مادة من المواد المنشورة في كل الأقسام إرسال ملاحظة، هنالك زر “أرسل ملاحظة” بالأحمر في نهاية كل مادة، على يسار الصفحة، يتيح لأي شخص أن يقوم بتقديم ملاحظة تصويبه، أو يقدم تفاصيل إضافية؛ لتحسين المحتوى. باختصار بفضل التكنولوجيا صار بإمكان الجميع المشاركة، ونحن لم نوفر الفرصة، بدلاً من التشهير والتقليل من قيمة المحتوى، يمكن العمل على تحسينه، وتصويب ما قد يكون خطأ، ورد هنا أو هناك، هذه فرصة؛ لتثبيت الأحداث ومقاومة محو الذاكرة.
س: كيف تعاطيتم مع وقائع ملف التفاصيل السياسية لتيارات المعارضة؟
بكل جدية، لم نتجاهل أي واقعة من الوقائع ذات الدلالة، لم ندخل في أحكام قيمة، قدمنا وقائع تم تدقيقها والتثبت منها، على سبيل المثال هنالك 29000 يومية، رجعنا فيها إلى 59 ألف وثيقة وتقرير، ونحو نصف مليون مصدر، كانت عملية شاقة للغاية، لم ندون شيئاً، لسنا متأكدين منه، قدمنا يوميات دقيقة، يمكن الاعتماد عليها، حفظنا الكثير من المصادر على شكل ملفات مرفقة؛ كي لا تضيع وتمحى.
س: أخيراً: ما صحة ما أثاره الصديق حسام حول غياب ذكر لجان التنسيق؟
اللجان وفروعها موجودة على المنصة، لدينا شهادات لقادة لجان التنسيق: مازن درويش، أسامة نصار، خليل الحاج صالح، منهل باريش، إبراهيم فوال، (أسامة نصار وإبراهيم الفوال كانوا في دوما مع رزان حتى اختطافها)، ومازن من أبرز مؤسسي اللجان، لكننا لم نستطع الحصول على شهادة واحدة لجيش الإسلام.
المفكر الفلسطيني عزمي بشارة يتوسط سهير الأتاسي وعبدالرحمن الحاج في حفل إطلاق المشروع بالدوحة
التعقيب على الحوار:
لا للتشكيك، وقضية أنس أزرق أخذت أكبر من حجمها!
في الحقيقة لم يتسنَّ لي استعراض حقيقي للمنصة، رغم أنني حاولت أن أبحث عن بعض ما كان يهمني فوجدته، صحيح أنه غير مكتمل، ويحتاج لإضافات، لكن ما رأيته بالمجمل جيد؛ لكي أقول بداية: المشروع يستحق الدعم النقدي طبعاً.
ملاحظاتي الأخيرة والسريعة:
أولاً: الحديث عن المنصة، وربط المشروع بالجهة الداعمة للتشكيك فيه، دون الاطلاع عميقاً عليه أمر، يحتاج لوقفة موضوعية لأصحاب هذا التشكيك، بعضهم يتبعها بقضية أنس أزرق. أعتقد هذه القضية أخذت أكبر من حجمها، من خلال الحديث عنها في كل مشروع يمكن أن يطرح.
ثانياً: لماذا لا يتم العمل على منصات أخرى، بدل الدخول في سجالات تشكيكية لا طائل منها ولا تفيد؟
ثالثاً: الجهد المبذول حقيقة جهد جبار، يشكر كل من ساهم فيه، وبغض النظر عن موقعه.
رابعاً: هل نحن أمام عملية تتريخ، أم أمام عملية تأريخ، أم هي عملية توثيق فقط لسردية الثورة؟ مع الأخذ بعين الاعتبار، كما يقول المثل الشعبي: “يلي ماله هوى ما له دين”، هذا الأمر تحسمه قادم الأيام، من خلال الاطلاع المعمق والكافي على هذا الجهد الجبار، بعدها يصير للنقد والتشكيك أرضية موضوعية، أما شلف الكلام بدون اطلاع، فهذه عادة يجب أن نتخلى عنها جميعاً.
في النهاية، لا بد من تثمين كل الجهود التي أخرجته للنور.
غسان المفلح
————————–
مشروع ذاكرة سورية حرّة/ عبدالله هداري
26 مايو 2024
لطالما أعرب ثوّار وكتّاب ومثقفون كثيرون وغيرهم من المناضلين عامة عن امتعاضهم الشديد من التزييف المقصود الذي تتعرّض له الأحداث في أثناء الثورات، وامتعاضهم كذلك من التحوير الذي يطاول سردية الثورة والمقاومة فيما بعد، فيصير التاريخ غير التاريخ، وتأخذ الفكرة مساراً آخر. وربما أن التسليم أو عدم الاعتناء بالتصحيح ومواجهة هذا التزييف هو ما جعل كثيرين يستسلمون لمقولة أنّ الثورة يصنعها الثوار ويستفيد منها الخونة، مقولة لطالما طفحت بها رواياتنا الأدبية، وبنفَس انهزامي، بلغ به الأمر جعلها بدهية وحقيقة ثابتة.
وما دام الحديث عن الثورة السورية، فإن سلوك الثورة لا يتوقّف عند الخروج إلى الشارع ومواجهة الاستبداد بصدور عارية فحسب، بل يمتد إلى فعل ثوريٍّ آخر لا ينفصل عنه، ولا يقلّ أهمية كذلك، ألا وهو التوثيق العلمي لهذه الثورة، بكل جوانبها المادّية والمعنوية، وبكل من ارتبط بها من قريب أو بعيد، وكل إسهام إيجابي أو مضاد للثورة مهما بلغت حدّته وطبيعته. ولعل هذا الفعل المعرفي هو ما تبنّاه مشروع الذاكرة السورية الذي انطلق سنة 2019 تحت إشراف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
غير أنه لا يعني وصف هذه المبادرة بالثورية تحييد قيمتها العلمية والبحثية، بل الأثر الثوري فيها مختلف عن غيره، ذلك أنها ذات أثر رجعي إن صحّ القول، لأنها تهدف إلى صون الذاكرة من التزييف، كسره احتكار السلطات والحكومات سردية الأحداث الكبرى، كما عنون مدير المشروع، عبد الرحمن الحاج في إحدى تدويناته. أو لنقل تحفظ الصورة المتعدّدة للأحداث، أو لعلها تحاول ذلك ما أمكنها، وتجعلها كذلك أكثر التصاقاً بالوفرة الأرشيفية التي أتاحتها التكنولوجيات الحديثة.
للسوريين، كما لغيرهم في المنطقة، حسابات ثقيلة مع مسألة السردية هاته، يذكر الجميع حدث سحق مدينة حماة والمجزرة التي اقترفها النظام سنة 1982. يستحضر الحاج هذا الحدث الأليم متحسّراً على أن اللحظة التاريخية حينها سمحت للنظام باحتكار السردية من دون منافسة تُذكر، فطمس بذلك الوقائع والأحداث وسمح لروايته بالبقاء على شكل “ذاكرة الخوف”.
من خلال تتبع ما قاله عبد الرحمن الحاج، محاولين أن نستوعب معه أفق هذا المبادرة متعدّدة الابعاد، يتبين أن هنالك عاملاً مهماً، قد أدرك بمعية فريقه أهميته واختلافه النوعي، والذي لعب لصالح الثورات والشعوب لحظة الحراك الديمقراطي في 2011، وهو التكنولوجيات الحديثة وحرية الفضاء الرقمي. هذا الأخير الذي سمح لأول مرّة بأن يوضع التوثيق والرواية على محكّ المنافسة، فالجميع يرصد ويدوّن ويصوّر، بل ويعبّر عن سردية للحدث من زاويته الخاصة، لقد طفقت السرديات تتزاحم أمام مرأى العين الاستبدادية من دون أن تجد حيلة للجمها. فالحرية التي ما تفتأ تفاجئنا المنصّات الرقمية بأبعادها الجديدة في كل آن، جعلت من كل “البسطاء” كما سمّاهم آصف بيات، أو “الإنسان العادي” حسب تسمية الحاج، يسهمون في كتابة تاريخهم الوطني، فلم يعد ممكناً تصوّر تاريخ أحق بالحضور والحفظ من تاريخ آخر، فالكل يدعونا إلى اكتشاف سرديته واستذكار الحدث بعينه وذائقته.
تصف منصّة الذاكرة السورية التي أُطلِقَت يوم 7 مايو/ أيار الجاري 2024 مشروع الذاكرة هذا بأنه منجز علمي بحثي يسعى لتوثيق أكبر قدر ممكن من التاريخ الشفوي (حيث يضمّ مكتبة بلغت 2500 ساعة)، إلى جانب كتابة اليوميات، وأرشفة الوثائق (مسموعة ومرئية زائد الصور والبيانات الخاصة)، وعند الاطّلاع على مواد الموقع، نجد توثيقاً أيضاً للشعارات الصوتية والمسجلة بالفيديو، واللافتات التي درج الثوار على حملها، إلى جانب الدوريات المكتوبة، بالإضافة إلى الأشخاص بشتى تلاوينهم السياسية والعسكرية والدينية والفنية وغيرها، سواء الموالية للنظام أو المعارضة له، إلى جانب الكيانات التي شكّلت جزءاً من الثورة منذ مارس/ آذار 2011، الرسمية والحكومية والعابرة للحدود والعسكرية والدينية، والقبلية والأهلية.
من المثير فعلاً أن نجد توثيقاً للشخوص الأكاديمية الثقافية حسب تصنيف المنصّة، يحفظ للباحثين على سبيل المثال؛ رأي أدونيس من الثورة، وموقفه منها، وتصنيفه أيضاً أديباً موالياً للنظام، بالإضافة إلى حفظ أسماء بحثية أخرى معارضة كبرهان غليون أو عزمي بشارة مؤلف كتاب “سوريا حرب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن”، وجمال الدين باروت والراحلين صادق جلال العظم وسلامة كيلة ورضوان زيادة وياسين الحاج صالح وسلام الكواكبي ورنا قباني ونجيب جورج عوض وغيرهم ممن كانوا فاعلين في إسناد هذه الثورة من قريب أو بعيد.
ولم تتوقّف سلسلة التوثيق للشخوص عند هذا الحد، فنجد في خانة التصنيف الديني توثيقاً لموقف عالم الدين البارز محمد سعيد رمضان البوطي الذي قتل في 20 مارس/ آذار 2013، والذي وُسم بموالاته للنظام، ومعاداة الثورة، وتوثيق فتواه المثيرة للجدل؛ بأن من يقتل من المتظاهرين فمصيره إلى النار، أو نعته مقاتلي الجيش الحر بالحثالة. لنجد في مقابله عالم الدين البارز كذلك الراحل وهبة الزحيلي المصنّف في خانة “المعارضة”. إذن، فالموقف والرأي لم يعد موضعاً للبس والتلاعب، فالجميع سيذكر ما لك وما عليك، والجميع سيوثق كل ما يتعلق بالفاعلين في أدق تفاصيله.
هذا، ومن دون إغفال مسألة حفظ بعض الشهادات المسجلة صوتاً وصورة، والتي ستمنح الباحثين مادّة حية، من واقع التجارب الشخصية، ستساعدهم على تمثل أفضل لهؤلاء الفاعلين المؤثرين والمتأثرين بالثورة، وتمثل لحظتهم بنسبية شخصانية.
لقد حفظ مشروع الذاكرة التصنيفات ذات الانحياز السياسي كذلك: منها تصنيف المرتزقة مثلاً؛ الذين يصنّف في خانتهم كل من فاغنر وشركة موران وشركة فيغا، وكلها شركات أمن خاص، ثم عسكرية تخدم النظام، وشركات عابرة للحدود. ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، حيث يوثق أيضاً دور حزب الله، وحركة أمل، والحرس الثوري الإيراني، التي وردت كلها في خانة الكيانات الموالية للنظام، وأيضاً كتائب حزب الله العراقي، وجيش المهدي، وحزب الله الحجاز (الكيان السعودي الموالي للنظام أيضاً)، وقوات الباسيج أو اللواء 313، إلى جانب قوات البحرية الروسية، والفيلق السلافي… إلخ.
ولا يمكن أن نغفل كذلك الحديث عن فريق العمل، الذي يديره كما سبق القول الباحث السوري عبد الرحمن الحاج، الذي لم يكن سعيه من خروج المشروع إسهاماً في توثيق أحداث الثورة السورية فقط، وإنما الإجابة عن قلق المعاناة مع الاستبداد التي سبقت هذه اللحظة، والتي لا يمكنها أن تشكّل في حالة الحاج هنا إلا إجابة بحثية تستدرك على السردية المهيمنة وتفتح الباب لإعادة كتابة الأحداث دائماً.
إذن، نحن أمام منجز توثيقي هام، لا يمكن إلا أن نعدّه فعلاً ثقافياً وتقليداً علمياً يستحقّ التنويه، كما ينبغي أن تنتقل عدواه إلى دولٍ عديدة في المنطقة التي شهدت حراكاً بطريقة أو بأخرى، لبلوغ هدفٍ أساسي ولدت من أجله هذه المنصّة الرقمية، وهو مواجهة عمليات التزييف المقصودة والمحتملة التي لا تخدم إلا الاستبداد والنسيان واللاعدالة.
العربي الجديدة
————————-
مشروع الذاكرة السورية، لنقرأ ثم نعترض!/ أحمد جاسم الحسين
2024.05.25
لدى السوريين عامة مشكلة مع كلمة (ذاكرة)، تعود تلك المشكلة في جزء منها إلى تلك الأعمال الفظيعة التي قام بها حافظ الأسد لتغييب الذاكرة السورية الحقيقية واحتكار روايتها، من أجل ربط مسيرة “سوريا” به وحده، وصنع ذاكرة جديدة، فصَّلها على مقاسه، ونصت عليها المناهج الدراسية والكتب والجامعات والمنظمات والاحزاب، تتمثل في كون: “سوريا لا شيء قبله”.
في حين يتذكر السوريون أن آباءهم وأجدادهم وجداتهم يحدثونهم عن الكثير الكثير مما صنعه أولئك بعيداً عن السلطة السياسية. وهذا الصراع “الذاكراتي” جاء ضمن سياق عربي عام، عادة ما اغتَصبتْ فيه السلطة في عدد من البلدان العربية سردية تاريخ الشعب ودوره وأثره وتراثه المادي واللامادي لتبني سردياتها الخاصة بها، ناسبة كل شيء إلى القائد العظيم والعائلة الاستثنائية!
حين خرج السوريون عام 2011 ضمن سياق الربيع العربي، كان أحد الأسباب الرئيسية لخروجهم “كي يحكوا بحرية”، ويعبروا عن آرائهم في سياقات شعاراتية تمثلت في هتافات: الحرية والديمقراطية وإعادة الحقوق، والدولة المدنية. لم يشبعوا بعد من حق “الحكي”. دعْكَ من كون هذا الحكي معبراً عن الواقع أو تجنياً أو إساءة أو مطالبة بالحقوق. عادة ما تترك تلك الرغبة تُشبع وتمتلئ شبعاً، ثم تحدث معلية تنظيمها، وواقع الأمر يكشف أن تلك الرغبة عند الكثير من السوريين لما تشبع بعد!
جانبٌ آخر زاد من حساسية السوريين تجاه كلمة “ذاكرة سورية” أنهم اليوم أبناء ثورة مكسورة، لم تنتصر بالمفهوم العسكري، بل تشرد أبناؤها في مختلف أصقاع الأرض بحثاً عن موطن آمن يحترم إنسانيتهم، ويعيشون على وقود حنينهم وآلام غربتهم، أو بقوا مشردين في الداخل السوري، تتحكم فيهم أنواع من السلطات العنفية. ومعلومٌ أن أبناء الثورة المنكسرة عادة ما يكونون حادّين في ردود أفعالهم ووجهات نظرهم، بخاصة أن اليقين يملأ قلوبهم بصحة خياراتهم التي سلكوها ابتداء من عام 2011، غير أن حساب “قرايا” الثائرين لم ينطبق مع حسابات “سرايا” المجتمع الدولي ومصالح الدول الإقليمية.
في ظل هذه السياقات جاء الإعلان عن هذا المشروع الكبير، مشروع الذاكرة السورية، فجأة ودون مقدمات، ولادة بشروط الاكتمال إلى حد كبير فنياً وتبويباً ورؤية وتنظيماً، دون أن يشارك فيه نفر كبير من السوريين خاصة أبناء الثورة المكسورة، أو يتم التواصل معهم من قبل.
ويحسب أولئك النفر بثقة أنهم الأوْلى برواية ذاكرتهم وثورتهم وسردياتهم. شعر الكثير منهم أنهم غبنوا أو تم تغييبهم، وهذا كله قبل أن يطلعوا على المشروع أو يفتحوا الموقع الخاص به، أو يتعرفوا إلى محتوياته. حضرت في أذهان كثير منهم، نتيجة ما مروا به، فكرة الاحتكار، قبل أن يقرؤوا أن إدارة المشروع معنية بإغناء المادة العلمية وتصحيح الأخطاء وإعادة تنظيم المسارات إن كان هناك خطأ، لم يسمعوا، ولم يقرؤوا، قادتهم الصور النمطية والتجارب السابقة مع الكتابة إلى الأحكام المسبقة، مستفيدين من كون المشروع ولد دون مقدمات، ودون خطة تسويقية أو إعلانية إعلامية لا بمفهوم “البروبوغندا” بل بمفهوم المعلومة الصحيحة، بل إن السرية قد أحاطت به وبفريق العمل فترة طويلة، ولم يعرف كثيرون ماذا يعمل هذا الفريق لسنوات، أو على أي أساس تم اختياره أو ما هي الطريقة التي عمل بها. والسرية وعدم الوضوح فيما يخص الشأن العام، كما هو معلوم، باب مهم للشائعات والمؤامرات والتلفيقات!
وهكذا ما إن أعلن عن المشروع حتى بدأ ما يشبه صراع ضخ المعلومات بين فريق العمل من جهة، وفريق من لم يرضهم العمل من جهة أخرى.
عادة، في الدول والحضارات والشعوب والمؤسسات المعاصرة تعطى الفرصة للأشخاص الذين قاموا بعمل ما أو مشروع ما؛ أن يوضحوا ويقدموا وجهة نظرهم ويطوروا، يأخذون فسحة من الوقت كي يتأكد الفريق المهاجم من رغبتهم بالتطوير وحسن نواياهم، بعد أن فاجؤوا الجمهور بهذا العمل الإشكالي، وخبؤوا تفاصيله عنا نحن معشر الجمهور، في طريقة أقرب إلى رعاية “الولد المدلل” الذي تخاف عليه من “الحسد” أو رغبة بتملكه وأن يبقى لك وحدك وبرعايتك وإشرافك وحدك.
حسناً: إنْ لم يطوروا عملهم ويتجاوزوا هفواته ويردوا على ملاحظات المعنيين والمتأثرين والمهملين والمهمشين والمنسيين والمظلومين وقتها نعلن أنهم لم يردوا، وأنه يجب علينا أن نرفع راية الحرب عليهم! إلا أن الواقع يكشف أن الحرب على المشروع بدأت منذل لحظة إعلانه، حيث تغاضى المهاجمون عن أسماء فريق العمل ومنهجيته ومحتواه وغدت الحرب في وجه من وجوهها لون من ألوان “الحرب لأجل الحرب” والتدمير من أجل التدمير، كما هو الشأن في حروب سورية كثيرة في السنوات الأخيرة، مستهدين بمقولة تقبع في أعماق الكثيرين: إذا كان بلدنا وجغرافيتنا قد ضاعا فلن ينفع الكي بعد الموت!!
نعلم جميعاً أن ذاكرات الشعوب إن توخت الموضوعية لا يكتبها أو يشرف عليها فريق محدود العدد، بل إنه عادة ما تشكل فرق بحثية وعلمية وسياسية وفكرية واجتماعية مختصة، ذات طابع استشاري أو إشرافي على الأقل، لكل مسار من مسارات تلك الذاكرة تمثل أطيافاً من السوريين والأكاديميين العرب والدوليين حيث يقرّ أولئك المنهجيات والآليات والطرائق والإشراف العام، دون الدخول في التفاصيل اليومية للمحررين والموثقين، حيث ستشارك هذه الفرق الإشرافية والاستشارية في شرح المخرجات للجمهور بعد إنجازها، وكذلك تعطي العمل المزيد من المصداقية، ومن جهة أخرى تكشف عن نية ورغبة بِراك أكبر عدد ممكن من المعنيين في تدوين الذاكرة، وبالتالي يكون الجمهور ذاته جزءاً من فريق الإنتاج وليس جمهوراً متلقياً وغير مشارك فحسب!
لا يمكن لكائن من كان، أن يتولى كتابة تاريخ لا يزال الفاعلون والمنتجون والمؤسسون أحياء، ولم يشاركوا برواية أحداثه. من الصعب أن يتولى الدفاع عن مشروع أو شرح فلسفته شخص أو شخصان، الذاكرة وكتابتها مشروع شعبي وطني، لا يستطيع أن يتحمل وزر كتابته والدفاع عنه فرد أو حفنة من الأفراد. هذه مسؤولية جماعية كبيرة.
وأرى أن الباب لا يزال مفتوحاً لرأب هذا الصدع المنهجي والعملي من خلال تشكيل لجان علمية وفكرية وفنية استشارية لكل مسار من مسارات مشروع الذاكرة السورية، تتولى الاستماع للملاحظات وتدقيقها واقتراح الحلول لتطويرها وتوجيه فريق العمل الحالي لرأب الصدوع.
هناك شيء من الخيبة وعدم الشعور بالأمان ضمن السياق السوري والعرب الصعب حالياً، إنْ كان الفريق ذاته الذي عمل سنوات هو من سيقوم بذلك. ومعلوم للمهتمين أنه في تقاليد المؤسسات الحديثة اليوم في سياق الثقافة العالمية حالياً، أنه يجب أن يكون من يعالج الشكوى أو الاعتراض على عمل ما، شخص أو جهة لا تعمل في الفريق أو المؤسسة التي تم تقديم اعتراض أو شكوى بحقها!
الذاكرة ليست خبراً إعلامياً، بل ذاكرة شعب وأنفاس بشر وهجعات أرواحهم، ولا يمكن التعامل معها بطريقة واحدة فحسب، بل هناك طرق أخرى منهجية وعلمية وتدوينية.
أذكر في هذا السياق كمثال أنه وردت في سياقات إخبارية وبحثية قبل سنوات قليلة أن عائلة الملك الهولندي كان لها دور في تجارة العبيد. كان يمكن للملك أن يعتذر ويكتفي بذلك أو يغض النظر، لكن الرجل شكل لجنة علمية محايدة من الجامعات الهولندية قامت بالبحث والتقصي ثم أصدرت تقريرها وبناء عليه اعتذر الملك لمن تأثر بما قام به أشخاص من عائلته!
هناك جانب آخر وهو أن الذاكرة التي تم تدوينها عادة ما يقع الكثير منها ضمن التاريخ الشفوي أو الأثر اللامادي، وتبقى نهباً ليوميات يكتبها هذا الكاتب أو ذاك، لكن ها هنا فريق العمل وإدارة المشروع حاولوا تحويلها من الإطار الشفوي إلى الإطار الكتابي وهي حية الأحداث!
وعادة ما يفعل الزمن فعله فيها إنْ كتبت بعد خمسين عاماً مثلاً، يبقى الأقوى فيها ضمن نظرية صراع القوى، لذلك فإن تحيينها في جانب منه هو أحد الأسباب في ضرورة حدوث ردات فعل عنيفة كما نرى، وهو ما لم يحدث لو كان موضوع الذاكرة السورية هاهنا مرحلة ما بعد الاحتلال الفرنسي مثلاً!
المتأمل لمشهد المعترضين يجد أنهم انقسموا إلى عدد من الفرق التي بدأت بالنظر إلى المشروع كل من وجهة نظره وطريقته وأسبابه:
– الفريق الأول: هم أولئك الذين ورد اسمهم أو أحداث كانوا شهوداً عليها في أحد مدونات الذاكرة السورية بطريقة غير ما يريد أو غير ما قام به، خاصة أن هناك من ذكره وربما أخطأ في الرواية أو نسي تفصيلاً، وهذا الفريق من المهم تدوين وجهة نظره والتواصل معه في إطار التصحيح أو حق الرد.
– الفريق الثاني: هم فريق المغيبين عن الذاكرة السورية، وهؤلاء نفر كبير من السوريين، حيث يمكن للذاكرة أن تكون مشروعاً مستمراً برؤية وآليات عمل واضحة، وأن يكون باب الإضافة والتطوير والتدقيق والتصحيح فيها متاحاً. يحسب هذا الفريق أن من حقه أن يكون موجوداً في الذاكرة حيث إن له سرديته ورؤيته وشهاداته.
– الفريق الثالث: هم أولئك الذين يريدون احتكار الذاكرة السورية لكن بطريقة “السلبطة” والغوغائية والمهاجمة من أجل المهاجمة، شأنهم شأن أولاد الحارة حين كنا أطفالاً تحت شعار حقنا في المشاركة في المباراة “يا لعيبة يا خريبة” يحسبون أن مشروع الذاكرة هو الائتلاف الوطني السوري!
– الفريق الرابع هم من ينظرون بريبة وتشكيك إلى كل ما يصدر عن المركز العربي أو فضاءات ميديا، لا يقرأ أو يشاهد أو يتابع. فريق صارت إيديولوجية حضوره في الحياة العامة السورية قائمة على العداء والتشكيك في كل ما يصدر. له أسبابه ومصالحه ورؤاه ووعيه، لا يقبل حواراً أو نقاشاً ولا يريد أن يقرأ أو يطلع!!
وجزء من هذا الفريق قد يكون لديه مشكلة شخصية مع أحد من فريق عمل الذاكرة، حيث ينسون كل ما قام به هذا الفريق التحريري والفني من عمل كبير وعظيم عبر خمس سنوات ونيف، ليتذكروا الهفوات فحسب! وهذا الفريق لو وضعت القمر في يمينه لن يرعوي، أو يتغير أو يتبدل!
مشروعُ الذاكرة السورية مشروع فكري وبحثي عظيم واستثنائي ومختلف، وغير مسبوق. ومطلوبٌ منا نحن السوريين خاصة بعد أن أن أنجز فريق العمل مهمته بحدود ما استطاع، أن نحافظ عليه ونصونه بالتدقيق والمتابعة والتصحيح والرعاية بل وحسن النوايا كذلك، وتقديم الإيجابي على السلبي فهل سنعبر إلى الأمام، متسلحين بموضعيتنا وحيادنا ورغبتنا بإنتاج محتوى مختلف وتوطير ما هو موجود حالياً أم سنبقى على جسر التشكيك والعدمية والتجريح؟!
————————
عن “خصخصة” الذاكرة السورية/ إبراهيم الجبين
2024.05.26
المرتكز الأساس للحديث عن الثورة السورية، هو رنوّ الملايين من السوريين الذين آمنوا بها وانخرطوا في يومياتها ومنعرجاتها نحو الحرية، والمزيد من الحرية. وحتى يكون لهذا الكلام من معنى على أرض الواقع، عليه أن يُترجم على شكل فعاليات وأنشطة إنسانية وإنتاج يعكسه، كي لا يبقى تجريداً في الفراغ.
من أهم ما في حرية التفكير من “بَرَاح” أنها تتيح لك وللآخر أن تريا المشهد من زاويتين مختلفتين، كل منكما ينظر إليه بقدرات بصره وبصيرته، بذاكرته الذاتية وميوله والمشارب التي أتى منها، بعد ذلك، لا يصحّ أن تنتظر من الآخر أن يقدّم سردية عن المشهد إياه تطابق سرديتك، ويزداد الوضع تعقيداً حين تتحدّث عن ملايين الأشخاص، لا عن اثنين وحسب.
هكذا تصبح القصة مختلفة عمّا يدور من حديث عن “الجريمة الشنيعة” التي اقترفها المشرفون على أصحاب “الذاكرة السورية”
بإطلاق هذا المشروع بحسب ما يقول البعض، في مشهد هو باختصار كل ما جرى ويجرى في مسارات الثورة السورية العظيمة منذ انطلاقتها وحتى تاريخ كتابة هذه السطور.
إن رصد كمّ البيانات والمعلومات والقصص والخرائط والأرقام والشخصيات والأحداث المتصلة بثورة السوريين، أضخم من أن يحتكره أحد، لذلك اختار مشروع الذاكرة السورية، كما يمكن لي أن أتخيّل، أن يجعل معطياتها “تراكمية”، تنمو وتتطوّر ويجري تنقيحها مع الوقت، حتى تصبح فضاءً تفاعلياً واسعاً، صحيح أن قواعد البحث العلمي تحكمه وتضبط مقاصده ومآلاته، لكنه، وفي الوقت ذاته، ابن عصره ولحظته التي تفرض الاستناد إلى أدوات تقنية متقدّمة في تحليل ودراسة وإنتاج بياناته.
ماذا يُحدِثُ فعلٌ هكذا من تفاعل لدى الرأي العام السوري؟ من الطبيعي أن يتباهى أصحاب مشروع الذاكرة بأنهم لم يصنعوا سِفراً ضخماً عن ثورة السوريين وسوريا وتاريخها وحسب، بل أتاحوا فرصة للسوريين كافة، كي يستعيدوا ذاكرتهم ويصقلوا ما تشوّه منها على أيدي أعدائها من جهة، وعلى أيدي العشوائيين من جهة أخرى، فهي إذاً فرصةٌ لإعادة بناء الذاكرة عبر التحاور والتقويم والنقد (حتى المتوتّر منه) تؤكد مجدداً، أن الذاكرة السورية مثلها مثلُ الشخصية السورية، حيّة وحارّة بما يكفي لضخ الهواء من جديد في الرئتين، كلما ذوت ثورتهم وظنّ العالم أنها هُزمتْ وتعفّنتْ واستنقعتْ وانتهى الأمر.
ما هو رد الفعل الآخر المتوقّع من السوريين وهم يراقبون مجموعة عمل “خاصة” تتبع لجهة “خاصة” هي المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (مؤسسة بحثية فكرية مستقلة) تنتج “ذاكرة للثورة السورية” من البديهي أن تكون “خاصة” بدورها؟ كرّرتُ كملة “خاصة” خلال الثواني الماضية أكثر من مرّة للتذكير بأن أحد أكبر مواجع السوريين تأثيراً على تفكيرهم في الوقت الراهن، هو افتقادهم لدور الدولة الراعي، الدولة الأم، الدولة السورية التي كانوا ينتظرون منها أن تقوم هي بتنفيذ مثل هذا المشروع؛ توثيق الذاكرة. هذا الدور الذي كانوا في ما مضى يكافحون من أجل خلق توازنٍ ما يحفظه ويصونه، حتى في صبره السوريين الطويل على الاستبداد في عهد الأسدين وما قبلهما، أو في تقلباتهم كمجتمع قَبِلَ ورَضيَ بالانخراط في الفساد بدلاً من الاحتجاج عليه، فإذا شاءت الأقدار وحصل الانفجار الشعبي الكبير كما جرى في العام 2011، وجدوا أنفسهم في مواجهة دولةٍ يخطفها الاستبداد والفساد رهينة، حتى إذا اضطروا إلى مقاومة عنف ووحشية الاستبداد وحملتهم ظروفهم إلى أصقاع الأرض، عادوا وبحثوا عن ذلك “الدور المفقود” للدولة في أي ظاهرة تقع عليها أعينهم إن تشابكت مع الشأن السوري العام.
الخلط إذاً بين ما تتيحه حرية المشروع الخاص/ القطاع الخاص، وما هو مقيّد بكونه مشروعاً عاماً/ قطاعاً عاماً، يتسبب بمطالبة أي جهة تعمل على ما يشبه مشروع الذاكرة، بأن تكون مثل وزارة التربية أو وزارة الثقافة، وأن عليها أن تكون خاضعة لمعايير السلطة الشعبية التي لم تُمارَس يوماً في الدولة المنتظرَة التي لم نرها في الحقيقة في أي يوم من الأيام، والتي هي ويا للمفارقة، هدف الثورة السورية وثوّارها أجمعين.
مشروع من هذا النوع يبدو أكثر من مجرّد وظيفة لتأسيس موقع إلكتروني أو إصدار بضعة مطبوعات، في الواقع هو ردٌّ حقيقي يحمي هذه الثورة، بتفاصيلها الهائلة، من الاندثار والزوال. وهذا كلّه قبل الدخول في مناقشة المحتوى الذي سيكون بالضرورة إشكالياً، بقدر ما هي ثورة السوريين إشكالية بامتياز، إشكالية بالتباس أسبابها، وبظروف اندلاعها، وإشكالية في ردود فعل العالم عليها، وبالطريقة التي تركت فيما تعرف باسم “الأسرة الدولية” جزاراً مثل بشار الأسد يقتل الأبرياء ويهدم القرى والمدن ويستخدم السلاح الكيماوي المحرّم، دون أن تحرّك ساكناً لمنعه من مواصلة مجازره. إشكالية في انقساماتها، وإشكالية في رؤاها المستقبلية، كما هي سورية كلها إشكالية في مجتمعها المتناقض المتعايش الذي أراد له الاستبداد أن يكون “متجانساً” بلون ولاء واحد وبمستوى وعي واحد.
المحتوى الذي يطيب لأهل هذا الزمان أن يطلقوا عليه تعبير “داتا” هو حزمة الشيفرات التي على السوريين أن يمعنوا النظر فيها جيداً، ففيها انشطار الأسرة بين اتجاهات وتيارات فكرية متعددة، وبالتالي بين أنساق أخلاقية متعددة، وانشطار في الطروحات السياسة والمسالك وآليات العمل، لم تفلح حتى اليوم في الدفاع عن نفسها ضد تهمة التشرذم، بمقابل سوريين آخرين أعفوا أنفسهم من عناء التفكير ورضخوا لنظام يفكّر بالنيابة عنهم ويكتب التاريخ كما يحلو له، سواء عبر مفارز مثقفيه ومؤسساته البحثية والأكاديمية أو من خلال إنتاجه الدرامي التاريخي منه والاجتماعي وغير ذلك مما يسطّر به قصّته وقصّتنا حسب رؤيته.
يكثر الجدل حين يتم تدشين مؤسسة تطول القضايا الهامة والحساسة، ويكون في الغالب لمن امتلك مكيال عقل، ثُلثُه فِطنةٌ وثُلُثاه تَغَافُلٌ، كما قال معاوية، جدلاً إيجابياً خلاقاً، ويحقّ لسائلٍ أن يسأل لماذا لم يكثر اللغط حين أطلق المركز العربي مشروع معجم الدوحة التاريخي
للغة العربية، واللغة هي الهوية الأم، وهي أهم من ذكر فلان وعلان، ووصف هذه الحادثة أو تلك، وإبراز هذا الحزب أو تقليص دور غيره؟ مشروع آخر أطلقه المركز لا يقلّ أهمية عن هاذين المشروعين، هو مشروع “ذاكرة فلسطين
“، الذي كانت غايته، كما كتب المركز العربي على صفحته الأولى؛ الإسهام في تاريخ فلسطين وتوثيق حركتها الوطنية، من خلال تأسيس قاعدة بيانات رقمية، تحفظ أراشيف كيانات وهيئات سياسية، وجمعيات محلية، ومجموعات شخصية، وأوراقًا عائلية، فكيف كان تعاطى الفلسطينيين حينها مع “ذاكرة فلسطين”؟
أما أسوأ رد فعل يمكن أن يبدر عن السوريين أمام مشروع “الذاكرة السورية” المطروح حالياً، فهو الاحتفال به والسكوت عن نقده ونقاشه وتحليل محتواه، فهم بهذا يصبحون نمطاً آخر عن مماليك الاستبداد وعبيده، أما التفاعل المستمر مع الإنتاج المستمر، فمن شأنه أن يُشْرِك الجميعَ في كتابة هذا التاريخ، بالتأثير لا بالرجم، وبالنقد الغاضب لا بالشتيمة والاتهام من دونما وثيقة أو دليل دامغ.
سيُكتَبُ التاريخُ السوريّ مراراً في المستقبل، وسيكون على السوريين آنذاك أن يتناولوا كل نسخة منه بحكمة وإدراك للمهمة الواقعة على كل منهم، المهمة الأبرز والأجلّ بين جميع المهام؛ مهمّة صناعة التاريخ لا التزاحم على تدوينه.
تلفزيون سوريا
———————–
==================
———————————
تحديث 18 أيار 2024
عن التوثيق ومنصّة الذاكرة السورية/ راتب شعبو
14 مايو 2024
التوثيق هو الفعل الذي غالباً ما يفوت المنخرطين في الحدث، لأنّهم منخرطون فيه إلى حدّ يعتقدونه كالشمس التي لا يمكن حجبها، ويندر أن يخطر في بالهم إمكانية أن يُنكر هذا الحدث الذي يشاهدونه بأمّ العين، ويعيشونه ألماً وحرماناً وقهراً، ويدفعون في تضاعيفه الدم. ولكنّ الزمن، مثل عاشق الأخطل الصغير، يخطّ سطراً ثم يمحوه. هذا ما يفرض علينا أن نحمي ما يكتبه الزمن من فعل الزمن الماحي. لا لشيء، إلا لكي نفيد مما مررْنا فيه نحن، ونفيد به أخلافنا، ونحاصر المُستبدّ في دائرة الشرّ التي تصنعها أفعاله، فالنسيان حليف طبيعي للاستبداد. بالنسيان يمكن لمن دمّر مدينة وقتل أهلها بوحشية المهووسين المستأثرين بالسلطة، أن يقول بعد زمن، إنّه لم يفعل شيئاً، وقد يقول إنّه لا يعرف أين تقع هذه المدينة.
الواقع أنّ التوثيق لا يحمي فقط من النسيان، وفعل الزمن الماحي، بل يحمي أيضاً من الفعل المقصود والمدروس الذي تمارسه السلطة المُستبدّة بغرض تحطيم الحقيقة، وتعمية الأحداث، عبر تشويش المشهد وزرع الشك في كلّ رواية. هذه وسيلة استبدادية تواكب وتكمّل فعلي القتل والتدمير. لهذه الوسيلة شقّان، الأول ذو مفعول مباشر على الحدث، يهدف إلى ضرب مصداقية الخارجين على السلطة، وتكون مواجهته بالتحلّي بأكبر قدر من الصدق والدقّة بما يحول، بالقدر الممكن، من دون تسرب الشكّ إلى عقول الفاعلين والمتابعين. والشقّ الثاني ذو مفعول بعيد الأمد، يتمثّل في سلب الخارجين على السلطة روايتهم للمجريات وإحلال رواية الاستبداد محلّها، وتكون مواجهته بالتوثيق بأعلى قدر ممكن من معايير الدقّة والموضوعية. على هذا، يكون هدف الشقّ الأول من هذه الوسيلة هو شلّ الفعل المُضادّ للاستبداد، وهدف الشقّ الثاني هو محو هذا الفعل أو تشويهه وطرد الحقيقة من الذاكرة، والنتيجة التي يتوخّاها حرّاس الاستبداد من ذلك هي الديمومة والتأبيد.
يبقى، على طول الخطّ، أنّ ما يريده المُستبدّ من الذاكرة هو أن تكون حافظة للخوف، في حين أنّ ما نريده نحن من الذاكرة هو أن تكون حافظة للمعرفة، فالخوف نصير الاستبداد، على العكس من المعرفة. والكذب نصير الاستبداد، على العكس من الحقيقة. على هذا، فإنّ التوثيق الدقيق والموضوعي هو عمل مضادّ للاستبداد، ليس فقط بوصف الأخير سلطة مُستبدّة، بل بوصفه عقلية استبداد أيضاً، أي عقلية سيطرة وإخضاع. على سبيل المثال، كان يكفي المخرج السوري عمر أميرلاي أنّ يصور في عام 2003، فيلماً وثائقياً تسجيلياً (طوفان في بلاد البعث) من دون التدخّل بأي تعليق أو نقد، كي يكشف الآثار المدمرة التي لحقت بالمجتمع السوري بعد عقود من سيطرة سلطة مُستبدّة باسم حزب البعث.
منذ 2019، بدأ فريق عمل منصّة الذاكرة السورية، من فكرة التوثيق وحماية الذاكرة، في عمل بحثي أطلقه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لإنتاج منصّة رقمية مرجعية بهدف أرشفة وتوثيق الأحداث التي شهدتها الثورة السورية بين العامين؛ 2011 و2015. من السهل أن نقول إنّ التوثيق وصيانة الذاكرة ضرورة وواجب على شهود الأحداث، ولكن قد يجد المرء أنّ العمل على هذه المُهمّة شاق أكثر مما يتخيل، ولا سيما إذا كان يبتغي الموضوعية واحترام المعايير العلمية والأخلاقية في عمله. من الأمثلة على جسامة مهمّة فريق منصّة الذاكرة السورية، وصعوبة هذه المهمة، أنّ الفريق يذكر أنّه رصد آلاف القنوات وجمع ما يزيد عن مليوني فيديو، ثم دُققت وأُخرج منها 900 ألف فيديو قابلة للعرض، وعمل على إنتاج مكتبة مرئية في التاريخ الشفوي للثورة السورية، تتضمن أكثر من 2500 ساعة، تغطّي مساحة واسعة من الأحداث والمواضيع مع شرائح مختلفة من الشهود، كما أرشف الفريق 29 ألف سجل من يوميات الثورة السورية، بين مارس/ آذار 2011، وسبتمبر/ أيلول 2015. يمكن لنا أن نتخيّل مدى أهمية هذا العمل المرجعي للباحثين، الذين بات لديهم عنوان محدّد يفتح على بحر من المعطيات الموثّقة والموثوقة، التي تفتح الباب أمام آلاف الدراسات المُمكنة.
ولعلّ من أبرز سمات هذه المنصّة أنّها تفاعلية، وتتيح للقارئ التفاعل التالي مع فريق المنصّة، بما يسمح بإمكانية إغناء أو تعديل أو إضافة ما يمكن أن يكون الفريق قد غفل عنه. هذه إحدى السمات التي أتاحها لنا عصر التكنولوجيا الذي نحن فيه، فالتاريخ لم يعد يكتبه أصحاب السلطة فقط، هناك إمكانية لوجود تاريخ موثّق آخر، ورواية أخرى، ترى بعين الساعين إلى المشاركة، وتفكيك الاستبداد، وكسر احتكار السلطة، ويبقى علينا أن نتجرّأ ونمتلك العزيمة لتحقيق هذه الإمكانية.
ستكون منصّة الذاكرة السورية دعامة أساسية في كتابة تاريخ وطني لسورية في مرحلة مقبلة، حين تلتئم فيها سورية حول ذاتية وطنية ونسيج وطني مشترك، بعد أن تفشل مشاريع السيطرة من أي طرف كان، وبعد أن يدرك السوريون، في تعدّد منابتهم العرقية والقومية، وتعدّد مذاهبهم الدينية والسياسية، أنّ خلاصهم يكون مشتركاً أو لا يكون، وأنّ أي مشروع سيطرة، بصرف النظر عن الأساس الذي يقوم عليه، هو مشروع هزيمة في النهاية، هزيمة تحمل معها من الكوارث ما بات للسوريين خبرة وافرة فيه.
إذا كان يمكن النظر إلى مجهود فريق المنصّة على أنّه أحد أشكال الاستمرار في مواجهة استبداد الطغمة الأسدية، التي أوصلت بلادنا في استئثارها السلطوي، الذي يصل إلى حدّ الخيانة (الاستبداد هو في عمقه خيانة)، إلى حالة انقسام تكاد تأتي على كلّ قاسم وطني مشترك بين السوريين، فإن ما نأمله هو أن يندرج مجهود المنصّة في إطار عمل فريق وطني عام، يكتب ويوثّق تاريخ سورية ديمقراطية موحّدة، بعد أن يكون أبناؤها قد توصّلوا إلى تجاوز انقسامهم العميق، وإلى إدراك أنّ مستقبلهم الآمن يكمن في الشراكة والمساواة، وليس في السيطرة والتغلب.
العربي الجديد
——————————–
الذاكرة السورية في زمن الخَرَف/ أرنست خوري
08 مايو 2024
ما يفعله “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” يجدر أن تقوم به دول، بالنظر إلى أهمية المنتوج وضخامته والجهد المبذول فيه والإمكانات البشرية والمادية المطلوبة لإنجازه والحاجة المعرفية والسياسية الملحّة لوجوده. ليس المقصود العمل الفكري الثقافي الأكاديمي البحثي المعروف عن المركز، من مؤتمرات وإنتاجات وإصدارات كتب ودوريات وأوراق بحثية وغيرها مما هو من اختصاص كل مركز أبحاث ودراسات حين يستحقّ لقبه. المقصود هو المشاريع الكبرى التي بدأت مع “المؤشّر العربي” (السنوي)، وهو أكبر استطلاع للرأي يُجرى في العالم العربي منذ 2011، ثم المعجم التاريخي للغة العربية (أنجزت المرحلة الأولى منه أواخر 2018) ثم موقع “القدس: القصة الكاملة” بالإنكليزية (2022)، ثم منصّة “ذاكرة فلسطين” (2023)، وصولاً إلى منصّة الذاكرة السورية التي وُلدت في فضاء الديجيتال أول من أمس الاثنين السادس من مايو/ أيار 2024، عدا عن مشاريع أخرى قيد البناء.
مَن حضر إطلاق “الذاكرة السورية” في مقرّ “المركز العربي” ومعهد الدوحة للدراسات العليا في العاصمة القطرية، ومن شاهد الفعالية عبر منصّات التواصل الاجتماعي أو قرأ الكتيّب التعريفي بالمشروع، ثم تسنّى له تصفّح الموقع الإلكتروني للمنصّة، لا بد أن يكون قد دُهش بحجم العمل الهادف إلى توثيق وأرشفة الأحداث التي مرّت على سورية منذ اندلاع الثورة (مارس/ آذار 2011): 900 ألف مقطع فيديو، 50 ألف وثيقة، 29 ألف حدث يومي، نبذات عن 10500 كيان عسكري ومدني و334 دورية سورية وُلدت خلال الحقبة المشغول عليها بحثياً (2011 حتى أيامنا هذه)، تعريفات بأكثر من ستة آلاف شخصية ظهرت بوصفها فاعلة في الأحداث، أكثر من 2500 ساعة من الشهادات والروايات الشفهية المسجلة، مئات الأعمال الفنية واللافتات والأهازيج والهتافات التي ألّفت مشهد الثورة السمعي والبصري، لتكون إضافة إلى غيرها من تصنيفات الأرشيف والشهادات والحدث اليومي، أكبر قاعدة بيانات تتعلق بالثورة السورية.
إطلاق “الذاكرة السورية” بهذا الكمّ الهائل من البيانات يأتي في زمن دفن الثورة مليون مرّة في اليوم ممّن يعتبر نفسه منتصراً على شعب، راقصاً فوق قبوره، ومن يعترف بخسارة كل شيء، لا لأنه ثار، بل لأن كل شيء عاكسه: الظروف التي نسمّيها حظاً، نقص الخبرات، التآمر، قلة الحلفاء وكثرة مصالحهم، الأخطاء القاتلة، وحشية العدو المدعوم من إمبراطوريات بوزن إيران وروسيا والصين ومليشيات بإمكانات جيوش كحزب الله والحشد الشعبي. لكن منصّة الذاكرة السورية ليست محاولة لإنقاذ أرشيف الثورة من النسيان، ذلك أن “لا شيء يضيع، ولا شيء يُولد من عدم، كل شيء يتحوّل” على قولة الكيميائي والفيلسوف والاقتصادي الفرنسي أنطوان لافوازييه. منصّة الذاكرة السورية بهذا المعنى وثيقة إلكترونية عملاقة برسم السوريين أولاً ومن خلفهم شعوب العالم الذين تؤكد لهم حرب أوكرانيا وصعود اليمين المتطرّف والإعجاب المتزايد بنماذج كارهة لقيمة الحرية والديمقراطية مثل روسيا، أن لا شعب “فوق رأسه خيمة” تقيه التسلّط والقمع والقتل والاحتلال والتعذيب والديكتاتورية وسلب حريته وأرضه.
الشعوب العربية معنيّةٌ بهذا الكنز الذي يقدّمه “المركز العربي”، للاتّعاظ وللتمسّك بقيمة الحرية والديمقراطية ولمحاربة زمن عربي تغلب عليه سمات الخَرَف. “الذاكرة السورية” محاولة لمنع نسيان أن فشل الثورة لم يكن حتمياً بل له أسباب موضوعية وذاتية يمكن تجاوزها بحكمةٍ وذكاء وإصرار، اليوم وغداً، وأن الإخفاق الكبير أوصلت إليه أيضاً أنانيات معارضين وقصر نظر ونرجسيات وتطرّف ديني وجهل سياسي وتدخلات أجنبية وحسابات شخصية وأخطاء جعلت مرتكبيها ينافسون حكّام دمشق وطهران وموسكو وبكين في حساب توزيع المسؤوليات عن الخسارة المزلزلة. منصّة الذاكرة السورية تضاعف الثقة بأن سورية قبل الثورة كانت مقبرة كبيرة يقطنها أحياء، وبعدها صارت أربع مزارع بلا دولةٍ واحدة، وأن الوطن السوري الديمقراطي العلماني الواحد، ودولة المواطنين الأحرار المتساوين، لن يولدا إلا بنجاح ثورة شعبية يتقدّمها سياسيون تجتمع فيهم أنبل صفات السياسة.
العربي الجديد
——————————-
شيء عن منصّة “الذاكرة السورية”/ معن البياري
07 مايو 2024
قد لا يضيف أيٌّ منّا جديداً لو استرسل في الحديث عن وجوب حماية روايتنا عن كل ما يخصّنا، عن ضرورة صيانة ذاكرة كل أمةٍ وكل شعب، غير أن لأيٍّ أن يقول إن هذا يتطلّب معرفة علمية مدقّقة بكيفيّاته، فليس هناك ما هو أسوأ من الارتجال والتلفيقية والتسرّع في أي جهد يتغيّا أمراً كهذا. ولقائل أن يستفيض في أن كل عملٍ في هذا الخصوص تلزمُه، أولاً وقبل أي شيء، رؤية تؤطّره. ومع التقدّم التقني في علوم الأرشفة (وفنونها إن شئت)، لم يعُد الكلام في هذا الأمر يتعلّق فقط بالذي يؤرَّخ ويدوَّن ويُحفظ ويصنّف ويفهرَس ويبوّب، وإنما أيضاً بطرائق العرض ويسر البحث وأساليب الوصول إلى المعلومات، وليس يغيبُ عن أحدٍ في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أن الإشارة هنا إلى النظم الرقمية (الكمبيوترية؟) التي تيسّر أكثر السبل مرونةً وجاذبيّةً وسهولةً من أجل الذي نتوخّاه في مقصدنا في ذلك كله.
تأخًذ منصّة الذاكرة السورية (syrianmemory.org) التي أطلقها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أمس بالبديهيّات هذه، غير أن الأدعى إلى الانتباه الرؤية التي انطلق منها الجهد الكبير في إنجازها، وموجز القول عنها إنها رؤيةٌ تصدُر عن وعي خاص بوجوب توثيق مروياتٍ بلا عدد عن وقائع الثورة السورية، وتهيئة موادّ متنوعة المداخل والخصائص والأبعاد في الموضوع السوري. وعندما نتحدّث عن مئات آلاف المواد، و900 ألف فيديو، و25 ألف يومية، ومائة ألف وثيقة، وغير هذه كلها من نصوصٍ ومرئيات، على ما يُخبرنا المشرف على المشروع وقام عليه مع فريقه، عبد الرحمن الحاج، فإنك لا تملك إلا أن تُشهر إعجابَك بالعمل المضني في جمع هذا كله (وغيره) وتصنيفه وتبويبِه وتحريرِه، فضلاً عن المعالجات التقنية والفنية التي توفر الوصول إلى أيٍّ من المواد التي يحتاج إليها الباحث والمؤرّخ والكاتب. وعندما تعرف أن حضوراً كبيراً لمصنّفاتٍ من التاريخ الشفوي المتصل بالثورة السورية، وأن حضوراً آخر لنتاجاتٍ فنّية وأهازيج وأغنيّات، فذلك من شواهد غير قليلة على إحاطة المنصّة بجوانب عديدة تتصل بالاجتماعي والسياسي والثقافي في سورية في غضون انتفاضاتها ضد نظام الفساد والاستبداد. وبذلك يصير حقّاً إشهار المركز العربي أن مشروعه الكبير هذا أضخم أرشيفٍ موثوقٍ ومدقّقٍ بشأن الأحداث في سورية منذ اندلاع الثورة، سيّما أن المليون وثيقة أرشيفية جرى التحقّق منها ومن بياناتها. ولهذا في الوسع أن يقال إن ثروةً مثل هذه، وبهذا الغنى، وباليُسر التقني الذي يتيحها، تمثل قاعدة بياناتٍ ذات نفعٍ ثقيل، سيّما أن من هذه المواد شهاداتٌ حيّة وشفويةٌ لفاعلين كانت لهم أدوارٌ ومهمّاتٌ في أحداث سورية في معارك ومواجهاتٍ، وفي مداولات سياسية، محلية وإقليمية ودولية، وفي مساهماتٍ إغاثية وفي غير شأن وشأن.
يؤكّد، إذن، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فاعليّته في إطار المنظور التي ينتظم ضمنها ما يُراكمه من عملٍ بحثيٍّ وتوثيقيٍّ وأكاديميٍّ وثقافي، في سياقٍ عربيٍّ موصولٍ بالهمّ العام والأفق الديمقراطي وحاجة الأمة العربية إلى مشاريع معرفية معنيّة بالراهن والماضي والمستقبل. ومعلومٌ أن الشأن السوري، في مختلف أبعاده وأصعدته، كان واحداً من أهم القضايا التي اعتنى بها المركز، وخصّص لها مؤتمراتٍ وملتقيات، واستكتب لها كثيرين من أهل الدراية والبحث، فساهموا في إنتاج دراساتٍ وقراءاتٍ ومطالعاتٍ متنوّعة في سياقه. وهذا هو مشروع توثيق أحداث الثورة السورية وأرشفتها في منصّةٍ رقميةٍ متطوّرة، قام على بنائها، منذ 2019، فريق باحثين سوريين مختصّين، وسهر على تنفيذ متطلبّاتها التقنية اللازمة، بمحرّكات بحثٍ متقدّمة، يؤكّد المؤكّد، وقد كانت وجهة العمل في إنجازها أن يكون مدقّقاً موثوقاً. وإذا ما وقع متصفّح زائر للمنصّة على نقصٍ في هذا الحيّز أو ذاك، فإن الكمال لله، وإن كل منجزٍ بشريٍّ لا يتطوّر إلا بالمتابعة والمثابرة على أن يكون أجودَ وأفضل. وتُخبرنا تجارب وشواهد تتابعت منذ انطلق المركز العربي للأبحاث قبل 14 عاماً أنّ لنا أن نكون في ثقةٍ من تميّز هذه المنصة الجديدة التي تنضاف إلى غيرها من مشاريع مثيلة نجح المركز في تعزيزها.
العربي الجديد
——————————-
منصة الذاكرة السورية.. كي لا تموت الرواية ولا تطمس الحقائق/ محمد إبراهيم
2024.05.07
إذا كان “تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية” على رأي هيغل في مقدمة كتابه “فلسفة التاريخ” فإن كتابة التاريخ الأصلي، من وصف الأعمال والأحوال والأحداث التي جرت والتدقيق في تفاصيلها والتفكر في مساراتها، ما هي إلا مساهمة حقيقية في وعي الحرية ووعي الروح بذاتها وصيرورة كفاحها من أجل امتلاك الحرية بما هي ماهية ذلك الوعي وغاية ذلك التاريخ، فكيف إذا كان هذا التاريخ يرصد لحظة فارقة من لحظات التوق نحو الحرية.
تعتبر منصة “الذاكرة السورية” حصيلة مشروع بحثي أسسه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات منذ عام 2019؛ وأمن له الموارد اللازمة وأشرف عليه من منظور علمي لإدراكه الأهمية أن لا تفوت هذه الفرصة الثمينة لتسجيل تاريخ ثورة هي جزء أصيل من سيرورة وتاريخ وطن، تاريخ سوريا. وتضم هذه المنصة أضخم أرشيف موثوق ومدقق حول الأحداث في سوريا؛ وهي منصة رقمية مرجعية، بمحركات بحث وتصفّح متطورة، وتشمل يوميات الثورة التي جرى تحقيقها وتدقيقها من مصادر موثوقة، وتغطي الأحداث المدنية والعسكرية والسياسية المحلية والدولية منذ بداية الثورة حتى عام 2015. وقام على تنفيذ هذا المشروع فريق بحثي سوري.
إنها الذاكرة السورية إذاً، والتي تغطي مرحلة مهمة من تاريخ سوريا بل من تاريخ أمة تجرأت في لحظة ما أن تقول “لا” للظلم والقمع ونعم للحرية والكرامة ودولة العدل والقانون. إنها مقدمة لمشروع وطني يحفظ السردية الحقيقية في منعطف حاسم من تاريخ الوطن.
لكن بعيداً عن لغة التوصيف والتوظيف، بعيداً عن جفاف السياسة وتأويلاتها، والتاريخ وصرامته، والجغرافيا وتعرج مسالكها، فإن هذا المشروع بتفاصيله من وثائق وصور وفيديوهات وبوح يسعى إلى لملمة نزيف الألم من على حواف قضبان السجون المعتمة كي ينشره بالهواء صوتاً وصورة ونصاً، ويتتبع شقوق الضوء الذي نثرته ثورة السوريين على سواد المشهد ويجمعه ليجعل منه بقعة ضوء تركز على معاني الحرية والكرامة التي انطلقت مع الصرخات الأولى لشباب آمنوا بالتغير لكن الرصاص والاعتقال والموت كان لهم بالمرصاد فكان على الذاكرة السورية أن تلاحق حكاياتهم وصورهم وآراءهم وتجمعها كي لا تموت الرواية ولا تطمس الحقائق ولاتُحرف السردية؛ وهو ما سعت لتحقيقه من خلال العمل على توثيق الأحداث ومراجعة أكثر من مليونَي فيديو للتحقق منها وتصنيفها وتدقيقها، حتى باتت المنصة تضم أرشيفًا ضخمًا يشتمل على 900 ألف مقطع فيديو، إضافةً إلى مجموعة واسعة من الوثائق التي تعود إلى مؤسسات مدنية وفصائل عسكرية وهيئات سياسية متنوعة، مع عرض نحو 50 ألف وثيقة.
جمعت الذاكرة السورية شظايا اللوحة من فوق الدمار والخراب الذي مارسه النظام في بيوت دمشق وغوطتها وفي حمص وأحيائها وحماة وحواريها وحلب وعبق التاريخ في شوارعها ودرعا وجامعها العمري وحتى دير الزور وجسرها الذي كان معلقاً لتكتمل اللوحة، وجمعت شظايا الخراب على امتداد الوطن وانتشلت الحكايا من بين الركام وأعادت ترتيبها لتخبرنا الرواية كلها من بادية الوطن حتى ساحله لتكتمل الصورة ونضع الإصبع على الجرح ونعرف كيف بدأت المسارات وأين ومتى جرت التحولات وما هي المآلات.
تبوح الذاكرة السورية بهمسات الحالمين وهم يرسمون الطريق نحو السماء ولملمة حكاياهم من فوق أرصفة تعفرت بلهاث الراكضين نحو الموت، وتنشر صرخات الثائرين وهم يعلنون بداية الطريق نحو الحرية ويحفرون رايات الكرامة على جدارية التاريخ السوري، وانتشلت الذاكرة السورية الآه المحبوسة من قلب الحزن كي تصبح صرخة في العلن، ولملمت الماضي على صفحات الحاضر كي تخبر المستقبل بآمالنا ويأسنا، بفرحنا وبكائنا، بشجاعتنا وخوفنا، حيث أجرى العاملون على المشروع مقابلات وجاهية مصوّرة مع عدد من الفاعلين الذين كان لهم دور مهم في أحداث هذه المرحلة؛ إذ تحتوي المنصة على أكبر مكتبة للتاريخ الشفوي السوري، تضم أكثر من 2500 ساعة من الشهادات والروايات الشفهية المسجلة.
تختزن الذاكرة السورية تراكم الأنفاس المتعبة ودفء الحب وصهيل الحياة وزفرات الموت وتسارع دقات القلب في لحظة هتافات الكرامة والحرية، حيث كانت مهمة الذاكرة استعادة لحظات الفرح الصغيرة ولملمة صدى الثائرين لنكتشف صوتهم، أغانيهم، أهازيجهم، فوق طرقات ألفت أنفاسهم وبكت على فراقهم، وأرصفة تعبت من رقصهم على إيقاع الحرية حيث اهتمت الذاكرة السورية بتوثيق الهتافات والفنون الغنائية التي عبّر عنها المتظاهرون في أثناء احتجاجاتهم الشعبية خلال تلك الفترة، بما في ذلك نسخة كاملة من لوحات كفرنبل الشهيرة حيث كانت كتابة التاريخ بأقلام ورؤى صانعي تلك اللحظات.
مشروع الذاكرة السورية يضيء البدايات وكيف تجرأ الشباب والشابات على الحلم بسوريا الحرة الكريمة، سوريا لكل السوريين؛ لقد اشتغل العاملون على لملمة الوثائق وقصاصات الروح كي يركبوا الصورة الحقيقية لما حدث وكيف حدث وكيف أصبح، ومن قلب الحدث صنعت اللبنات الأولى لتاريخ الثورة، ومن الآن وهنا رسَمت الذاكرة السورية ما ستراه الأجيال القادمة بكل وضوح فقدمت بيانات ومعلومات عن أكثر من 10 آلاف كيان عسكري ومدني وحوكمي تكررت أسماؤها في توثيق الأحداث، وتعريفات بأكثر من 6 آلاف شخصية ظهرت بوصفها فاعلة في الأحداث، وتوثيقًا مهمًّا للمعارك العسكرية التي دارت في مناطق مختلفة من سوريا.
الذاكرة السورية لا تراوغ الماضي بل تدخل في تفاصيل تفاصيل الحدث وتتحقق منه زمانياً ومكانياً وتركبه في فسيفساء الصورة الكاملة حيث طارد فريق العمل الزمن وسرعة التحولات في شبكات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي لكي يجمعوا لحظات الثورة قبل أن تحذف ليصنفوها وتصبح مادة قابلة للوصول والاسترجاع لحفظ الحقيقة، وإبقاء الذاكرة السورية حية، وتوفير مادة مرجعية شاملة موثوقة تمثل سجلاً للأحداث، يمكن لكل من أراد أن يسبر غور تلك المرحلة أن يجد ضالته في هذه الذاكرة التي جرى تصميمها تقنيًّا بحيث تتيح للمستخدمين أفضل وسائل البحث والوصول إلى المعلومات.
تلفزيون سوريا
————————
لماذا منصة “الذاكرة السورية”؟/ أحمد زكريا
2024.05.04
السادس من أيار/مايو 2024، يفتح السوريون نافذة جديدة على ذاكرتهم الوطنية مع إطلاق “منصة الذاكرة السورية”.
تأتي هذه المنصة الرقمية المرجعية بمثابة أرشيف ضخم يضم ملايين الفيديوهات والوثائق والشهادات الشفهية، لتروي حكاية الثورة السورية من منظور سوري أصيل، بعيدًا عن روايات التضليل والتزييف التي يسعى النظام السوري لفرضها.
إطلاق منصة #الذاكرة_السورية
، أضخم أرشيف موثوق ومدقق حول الأحداث في سورية منذ اندلاع #الثورة عام 2011.
🗓 06 أيار/ مايو 2024.
⏱ 18:30 بتوقيت الدوحة، 15:30 بتوقيت غرينتش.
📍 ينظم الإطلاق حضوريًا بمقر المركز العربي للأبحاث ودراسة بالدوحة. pic.twitter.com/s4inF1WEad
— المركز العربي (@ArabCenter_ar)
May 1, 2024
تُعدّ منصة “الذاكرة السورية
” أداةً هامةً لحماية ذاكرة الثورة السورية ومواجهة روايات النظام المُضللة، أو أي محاولات من النظام تسعى إلى تزوير تاريخ الثورة السورية منذ انطلاقتها عام 2011.
تمثل منصة “الذاكرة السورية” التي سيتم إطلاقها بعد أيام قليلة، نقلة نوعية في مسار توثيق الأحداث التي عصفت بسوريا منذ بداية الثورة في عام 2011.
ففي الوقت الذي يرزح فيه السوريون تحت وطأة الألم والمعاناة، تأتي هذه المنصة لتؤكد على أهمية حفظ الذاكرة الجماعية وتوثيق الأحداث من منظور سوري، بعيدًا عن التشويه والتزييف.
المنصة رقمية مرجعية تضم أرشيفًا ضخمًا من المعلومات والوثائق.
تحتوي على 900 ألف مقطع فيديو و 50 ألف وثيقة تم التحقق منها وتصنيفها.
توفر معلومات عن أكثر من 10 آلاف كيان عسكري ومدني وحكومي و 6 آلاف شخصية.
تضم أكبر مكتبة للتاريخ الشفوي السوري بأكثر من 2500 ساعة من الشهادات المسجلة.
توثق المعارك العسكرية والهتافات والفنون التي رافقت الثورة السورية.
ستكون المنصة متاحة للجمهور بعد إطلاقها في مقر المركز العربي بالدوحة.
تنقسم المنصة إلى:
-الأرشيف: أرشيف رقمي يشمل الوثائق والملتميديا والدوريات والكيانات والشخصيات والمعارك والأغاني. -التاريخ الشفوي: شهادات مرئية مع شهود وفاعلين على أحداث الثورة السورية من مناطق مختلفة.
-اليوميات: الأحداث اليومية في المحافظات السورية والتفاعل السياسي الدولي.
أقسام منصة #الذاكرة_السورية
-الأرشيف: أرشيف رقمي يشمل الوثائق والملتميديا والدوريات والكيانات والشخصيات والمعارك والأغاني
-التاريخ الشفوي: شهادات مرئية مع شهود وفاعلين على أحداث الثورة السورية من مناطق مختلفة
-اليوميات: الأحداث اليومية في المحافظات السورية والتفاعل السياسي الدولي pic.twitter.com/S7ILlOH12G
— الذاكرة السورية (@SyrianmemoryBlo)
May 1, 2024
ولكن ما الذي يعنيه هذا المشروع للسوريين تحديدًا؟
أولًا: يمثل المشروع أرشيفًا ضخمًا ومرجعًا موثوقًا للأجيال القادمة، يمكّنهم من فهم حقيقة ما جرى في بلادهم بعيدًا عن الروايات المشوهة والمضللة.
فمن خلال ملايين الفيديوهات والوثائق والشهادات الشفهية، يرسم المشروع صورة شاملة للأحداث، ويحفظ تضحيات السوريين ونضالهم من أجل الحرية والكرامة.
ثانيًا: يساهم المشروع في تعزيز الهوية الوطنية السورية، وذلك من خلال توثيق التراث الثقافي والفني الذي رافق الثورة والذي يعبر عن روح الشعب السوري وتطلعاته، ويشكل جزءًا لا يتجزأ من هويته الوطنية.
ثالثًا: يفتح المشروع الباب أمام الباحثين والدارسين لتحليل الأحداث وفهم جذورها وتداعياتها، مما يساهم في استخلاص العبر والدروس للمستقبل.
كما يوفر المشروع مادة غنية للكتاب والمؤرخين والفنانين لإنتاج أعمال فنية وأدبية تعكس واقع الثورة السورية وتأثيرها على المجتمع السوري.
باختصار، يمكن القول إنها منصة تفسح المجال أمام الباحثين لدراسة بعض السياقات أو الروايات، ومثال ذلك “الحالة الدينية السنية في سوريا”، أي انعكاس هذه الحالة على الواقع السوري.
كما تأتي أهميتها في سياق حفظ تاريخ سوريا، فمثلا عند وفاة رائد الفضاء السوري اللواء محمد فارس في تركيا، رأينا كيف أن النظام السوري سارع وعبر ماكيناته الإعلامية وأبواقه للإعلان بأن رائد الفضاء السوري الذي يعترف به هو منير حبيب
، ومن هنا تأتي أهمية مشاريع مثل مشروع “منصة الذاكرة السورية” لتقف سداً منيعاً في وجه تزوير النظام السوري لتاريخ الثورة السورية وفي وجه تسويق رواياته داخل سوريا وخارجها.
وذكر المركز العربي للدراسات
في سياق الإعلان عن إطلاق هذا المشروع للسوريين:
حفظ ذاكرة الثورة السورية من الضياع والتزييف.
توفير مصدر موثوق للمعلومات والبحوث حول الثورة.
إتاحة المجال لفهم أعمق لتاريخ سوريا الحديث.
أما عن أهمية المشروع في هذا التوقيت بالذات، فتكمن في عدة جوانب:
أولًا: يأتي المشروع في ظل محاولات طمس وتشويه حقيقة الثورة السورية، ومحاولات النظام وحلفائه فرض رواية مخالفة للواقع. فمنصة الذاكرة السورية تقف سدًا منيعًا أمام هذه المحاولات، وتساهم في حفظ الحقيقة للأجيال القادمة.
ثانيًا: يعاني السوريون اليوم من حالة من التشتت والضياع، نتيجة الحرب والتهجير والنزوح. وتأتي هذه المنصة لتجمع السوريين حول ذاكرة مشتركة، وتساعدهم على استعادة هويتهم الوطنية.
ثالثًا: يشكل المشروع خطوة هامة نحو تحقيق العدالة والمحاسبة، وذلك من خلال توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب التي ارتكبت بحق السوريين. فالمعلومات والوثائق التي توفرها المنصة يمكن أن تستخدم كأدلة في المحاكم الدولية، وتساهم في محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
باختصار، تمثل منصة الذاكرة السورية مشروعًا حيويًا للسوريين في هذه المرحلة الحرجة من تاريخهم. فهي توثق الألم والمعاناة، وتحفظ الذاكرة الجماعية، وتساهم في تعزيز الهوية الوطنية، وتفتح الباب أمام تحقيق العدالة والمحاسبة. إنها مشروع يحمل في طياته الأمل بمستقبل أفضل لسوريا والسوريين.
تُمثل “منصة الذاكرة السورية” أكثر من مجرد أرشيف رقمي، بل هي شعلة أملٍ تُضيء دروب السوريين نحو مستقبلٍ أفضل. فهي تحفظ ذاكرة جماعية غنية بالتضحيات والنضال، وتعزز الهوية الوطنية، وتُمهّد الطريق لتحقيق العدالة والمحاسبة.
مع انطلاق هذه المنصة، يخطو السوريون خطوة حاسمة نحو استعادة روايتهم لتاريخهم، وفتح آفاق جديدة لفهم حاضرهم وبناء مستقبلهم.
—————————
=====================