“غزالي المدلل”… الفن ضد إخفاق الواقع/ أريج جمال
النرجسية بوصفها اضطرابا نفسيا تعاني منه المجتمعات المعاصرة
17 مايو 2024
هل كان ريتشارد جاد، مؤلف عرض “غزالي المدلل” Baby Reindeer، يعلم أن عمله، أو بالأحرى معاناته، ستحقق كل هذين النجاح والتأثير، حول العالم، في غضون زمن قصير؟
حسب إحصاءات منصة “نتفليكس” العالمية، احتل “غزالي المدلل” قائمة الأعلى مشاهدة حول العالم، محققا نحو 10 مليون ساعة مشاهدة، خلال الأسبوع الأول فقط من إطلاقه. كما تفاعل رواد وسائل التواصل الاجتماعي مع شخصيات العمل، معبّرين عن تعاطفهم مع حالة دوني دان (ريتشارد جاد)، وأحيانا حتى مع متعقبته المختلة، مارثا سكوت (جيسيكا جاننيغ)، وعن الغضب والاستياء من داريان (توم جودمان-هيل) الذي اعتدى على البطل، في حلقة طويلة ومفصلة، استبقها تحذير من احتمال صدمة لضحايا الاعتداءات الجنسية السابقين.
كابوس النجاح
يبدو “غزالي المدلل” أقرب الى واقعنا المعيش منه إلى شكل الأعمال الفنية المضبوطة والمعتنى بها كثيرا، وهو يثبت أكثر من أي تنظير سياسي، كم صار العالم قرية صغيرة. صحيح أن العبارة التي تسبق الحلقات: “هذه قصة حقيقية”، كانت تفسّر إلى حد ما، طبيعة الكابوس المألوف لقصة ذلك الاسكتلندي المهاجر إلى لندن، الساعي إلى الشهرة والمتعطش إلى النجاح، وإذا به ينتهي نادلا في بار، في قلب العاصمة البارد واللامبالي بأحلام المهاجرين. ويتعرض إلى سلسلة من الانتهاكات، النفسية والجسدية، على يد المطارِدة المخضرمة مارثا سكوت، ابنة البلد، التي لا تعمل، وتستفيد ماديا من الغطاء الاجتماعي الإنكليزي، كي تتفرغ لمتابعة طرائدها. ومن قبل مارثا، للانتهاك الجنسي والفكري والروحي إن جاز التعبير، على يد ذلك السيناريست السادي الغريب الأطوار داريان، الذي سيصيد دوني دان، مستفيدا من حاجته إلى التحقق، في إحدى جولاته الكوميدية العديمة الروح، والتي تحمل مع ذلك الروح الوحيدة في حياته البائسة كمهاجر.
لكن ما يُكسب “غزالي المدلل” قرابته المباشرة بالواقع، وخصامه الحميد مع الأشكال الفنية المعتادة، هو هذا الإخلاص إلى “اللامنطق الفني”، إن جاز التعبير، واحتواؤه على ثغر سردية، لا تفسير لها ربما، إلا المسافة التي كان على ريتشارد جاد، أن يجتازها، وهو يكتب عرضه، محوِّلا جلّاديه من أشخاص حقيقيين، يمكن التعرف اليهم وبالتالي التشهير بهم، إلى شخصيات فنية. على أي حال، استغرق بعض المشاهدين في محاولة تخمين من هم الأشخاص الحقيقيون، لا سيما داريان، الذي يقول دوني دان، إنه لا بد قد انتهك مئات الضحايا قبله، وسيواصل فعل ذلك، وكأن لا شيء تغيّر.
مسافة منهِكة بالطبع، وبالأخص حين نضيف إليها، معاناة ريتشارد الطويلة وتخبطه في فهم ما حدث له، بلا أي دعم. ينتهك الرجالُ النساء عادة، جنسيا ونفسيا واجتماعيا. يستغلون سلطاتهم العملية، ونجاحاتهم المهنية. لكنهم قد ينتهكون رجالا مثلهم كذلك، أضعف منهم اجتماعيا، ولعلّ التصريحات الأخيرة لبعض المشتغلين من الرجال في السينما الفرنسية، بأنهم قد تعرضوا لانتهاكات جنسية على أيدي صُناع مشاهير واضطروا بدورهم إلى الصمت، تقول بأن حركة التعبير النسوية العالمية ME TOO، في وسعها أن تستوعب الرجال أيضا كضحايا.
انحياز
في نصفه الثاني، ينحاز “غزالي المدلل” أكثر فأكثر إلى الواقع، متخذا خطوات أوسع من الفن، وكأنه يخالف الانطباع العام بالإضحاك والخفة الذي قدّمه لنا في النصف الأول. هذا التحوّل يشبه حقا ما فعله ريتشارد جاد الحقيقي، الذي تحوّل من فنان كوميدي، يقدم نكاته للمتفرجين، إلى مقدم لعرض تراجيدي مخيف، حين قدَّم قبل خمس سنوات عرضه المسرحي Monkey see, Monkey do، ومنه اقتبس “غزالي المدلل”، فيه إلى جانب الكوميديا، كان يروي ما حصل له وهو يجري على آلة الركض، خلفه دمية مخيفة لغوريلا. أي أن تمرير المأساة الشخصية، في الكوميديا، قد يكون سمة أسلوبية عند ريتشارد جاد، بطريقة تتناقض إلى حد ما مع التصنيفات المعتادة.
علاوة على ذلك، فإن “غزالي المدلل”، الذي تولت إخراجه مخرجتان هما: ڨيرونيكا توفيلسكا وجوزفين بورنباش، أضافتا رهافة أنثوية ضرورية على الهوية البصرية للعمل، يقدم شكليا فقط قصة لها بداية ووسط ونهاية. حكاية لها مركز، قد يكون طموح دوني المحبَط، أو هوس مارثا المرضي، أو حكمة تيري (الطبيبة النفسية العابرة جنسيا التي وقع في غرامها دوني لبعض الوقت) وقد تكون نقطة الضوء الوحيدة تقريبا في الحكاية. ومع ذلك، فإن العمل يبدو من الداخل، وكأنه بلا بداية تقريبا، إنما بدأنا نحن المتابعة من نقطة معينة في حياة دوني، وهو في هذه اللحظة البائسة من حياته، فلم نر مثلا أي إشارات الى الطريقة التي نشأ بها في أسرته، ولا طفولته، وكلها عوامل كان يمكن أن تساعدنا في فهم شخصيته. والدا دوني، لا نلقاهما إلا لماما في الحلقتين الأخيرتين فقط، ويظهران بصورة شبه إيجابية.
ينطبق الأمر نفسه على مارثا، فنحن نشاهد هوسها بدوني، واستيلاءها على حياته، ونسمع عمّا فعلته مع آخرين من قبله، لكن ليس لدينا إلا القليل جدا من المعلومات حولها، كيف آلت إلى ما هي عليه الآن؟ ألم يحاول أحد علاجها؟ في “غزالي المدلل” الطفولة ليست سوى نقاط بعيدة جدا، مهملة تقريبا، مع أنها وبلا شك، جذر الألم.
من جانب آخر، لا يظهر لنا أن رحلة دوني دان، التي بدأت من استعداده للسقوط، بسبب طموحه الكبير والتراجيدي، تمرّ بنقطة التنوير، مع أن نقطة التنوير تقع فعلا. دوني ليس مغفلا، لقد تمكن من أن يشهد على معاناته، كما ينصحنا كبار المعلمين الروحيين كي ننجو، ومع ذلك لم ينج. لا يقدم “غزالي المدلل” عِبرة، مع أن سلسلة من الجرائم المعتبرة قد وقعت. وهذه خطورته، إنه يشبه بالضبط حياتنا، حيث لا يمكننا الزعم أننا قد تعلمنا أو نجونا من التجربة، قد ننتكس في الغد، مع كل ما اكتسبناه من خبرة وعلم، وقد لا ننجو مطلقا.
أرض النرجسية الخصبة
ليس ثمة اضطراب نفسي تعاني منه مجتمعاتنا الحديثة، أكثر من النرجسية. يضم “يوتيوب” وحده محتوى غزيرا عن الاضطراب الشهير، وفي اللغات كافة. هناك آلاف المقاطع التي تساعد النساء على التعامل مع أزواجهم النرجسيين (على المستوى العربي هذه هي الصيغة الأشهر)، وكذلك كيفية مواجهة آثار ما بعد الصدمة التي تمتد تقريبا مدى الحياة، في حال كان أحد الأبوين نرجسيا (قناة الطبيبة النفسية الأميركية دكتور راماني، مثل جيد هنا). عصرنا الذي يعزز الاهتمام بالصورة الشخصية، ويجعل من الأشخاص العاديين مشاريع مشاهير، على منصات التواصل الاجتماعي مثل “تيك توك”، بات يغذي بشدة هذا الاستعداد الفطري للتمركز حول الذات، لكنه للمفارقة، يغذي أيضا مشاعر الوحدة، والانكشاف، والانفصال، والحاجة الهوسية إلى الآخر، والحالتان المتضادتان تشكلان معادلة النرجسية.
في كتابه “التفرد والنرجسية”، الصادر عن “دار العين” في القاهرة بترجمة عبد المقصود عبد الكريم، يحاول ماريو جاكوبي، شرح الفرق بين حاجة الفرد إلى إيجاد معنى لحياته، وتحقيق شيء مختلف يتفوق به على الآخرين في ما يمكن أن ننظر إليه كنرجسية حميدة، وبين الانكفاء المرضي الذي يضخِّم صورة الأنا، ويمنعها من رؤية الآخرين إلا كانعكاس شائه لها، أي النرجسية كاضطراب.
سوى أن جاكوبي يورد في كتابه رأي عالم الاجتماع والناقد الثقافي كريستوفر لاش، صاحب كتاب “ثقافة النرجسية”، الذي يرى أن كل سعي الأفراد إلى التفوق على الآخرين، هو سعي نرجسي بالضرورة، وليس ثمة نرجسية حميدة وأخرى خبيثة: “إن منطق النزعة الفردية دفع الكفاح من أجل السعادة إلى طريق الاهتمام النرجسي بالذات، وهو طريق مسدود. تتجلى استراتيجيات البقاء النرجسي الآن في صورة تحرر من قمع شروط الماضي، وتؤدي بالتالي إلى ‘ثورة ثقافية’ تعيد إنتاج أسوأ سمات الحضارة المنهارة التي تزعم أنها تنتقدها”.
وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع رأي لاش الصادم، فإنه من الصعب ألا نُسلِّم بخطورة الدور الذي تلعبه المجتمعات في تشكيل أحلام الأفراد وأوهامهم، حول مسألة النجاح وتحقيق الذات. ولعل هذا السعي إلى التحقق، هو أكثر ما يعبِّر عنه في النهاية “غزالي المدلل”، في أشكاله الصريحة والضمنية. فدوني الذي كان يسعى إلى تحقيق ذاته كفنان كوميدي، برغم فشل عروضه وغرابة نكاته وتشككه هو نفسه في موهبته، التفت إلى مارثا سكوت، لأنها وفقا لكلماته: “كانت الوحيدة التي رأتني كما أردتُ أن يراني الناس”، لأنها شجعته، وآمنت به وغذّت مباشرة احتياجاته النرجسية، التي أذله بها مجتمعه المضيف. لقد انجذب اليها، وتمسك بحضورها حتى النهاية. وكما صار موضوعا لهوسها، كان شخصها المضطرِب موضوعا لهوسه. لقد مدحت مارثا “أناه” الجريحة، بعدما خذله مساره المهني، وحطمه الانتهاك الجنسي. وعنوان المسلسل “غزالي المدلل”، ليس سوى هذا اللقب التحببي الرقيق الذي أطلقته مارثا على دوني.
لهذا لا يمكننا أن نصدق دوني تماما حين يقول: “كل هذا لأنني قدمتُ لها الشاي مرة على حساب البار”.
التحليل النفسي
من بين الأطباء النفسيين المؤثرين الذين تفاعلوا مع “غزالي المدلل”، خصص الدكتور كيرك هوندا، صاحب قناة Psychology in Seattle ثلاثة فصول لتناول شخصيات العرض. وامتلك هوندا الشجاعة، لتشخيص مارثا، التي حصدت تعاطفا لافتا رغم انتهاكاتها العديدة، سواء من جانب المشاهدين، أو من دوني نفسه، باضطراب الشخصية النرجسية، خلافا لأطباء آخرين وصفوها باضطراب الشخصية الحدية، وحتى باكتئاب ثنائي القطب.
اعترف هوندا أن الأطباء يفضلون عدم تشخيص النساء بالاضطراب النرجسي، تماشيا مع ثقافة عالمية ترى النرجسي رجلا في العادة، لا امرأة. غير أن نصف المصابين بهذا الاضطراب في العالم، هن من النساء، حسب الإحصائيات. يرى هوندا أن سمات الاضطراب النرجسي واضحة عند مارثا، في إصرارها على امتلاك دوني، وتدمير من حوله، في اندفاعات غضبها العنيفة حين تواجه بأي شيء يخالف نسختها المشوهة من الواقع، في قدرتها على عزله، ودهائها القانوني بحيث تنزع عنه أي حماية ممكنة.
لكن هوندا يشير إلى أن مارثا ليست الوحيدة التي عزلت دوني. عزله أيضا رفاقه في العمل الذين لم يبالوا بمحنته. وعزلته الشرطة التي لم تتخذ موقفا من مطارِدته على الرغم من تاريخها الإجرامي السابق، الذي بلغ حد مطاردة ضابط شرطة. وقبل كل ذلك، بالطبع عزلته صدمة علاقته المسيئة مع داريان، الذي يراه الدكتور هوندا كسيكوباتي سادي، يفتقر إلى الحد الأدنى من التعاطف الإنساني، ويسخر دوني دان من نفسه، في الحلقة الخامسة، عبر ذلك المونولوغ المنير المصاحب للحلقات. لأنه حين ذهب إلى الشرطة كان من أجل الإبلاغ عن مارثا سكوت، التي تعاني من خلل عقلي جلي، بينما كان أولى به أن يشي بمغتصِبه داريان، الذي يعامله المجتمع باحترام، ويعيش بقناع الشخص الصالح.
كأن هذا المجتمع الكبير، الذي يشحذ أحلام الأفراد بتحقيق الذات، والتفرد، ألا يكونوا مجرد أشخاص “يجلسون في الخلفية، ويشاهدون الحشد”، هو بنفسه من يسلمهم إلى جلاديهم. إنه يحافظ على وضعية أصحاب السلطة ويضمن حصانتهم، أليس في قصة انحراف داريان، ما يذكرنا بالحصانة التي تمتع بها كلٌ من جيفري إبستين وهارفي واينستين، ضد المساءلة القانونية؟ حتى إشارة دوني لمارثا أمام الضابط، بأنها في حاجة إلى مساعدة، تبقى بلا صدى، الى النهاية. أرادت الشرطة أن تقع جريمة، حتى يمكن معاقبة مارثا سكوت عليها، لكن لا تقديم المساعدة النفسية الضرورية لها، كي لا ترتكب هذه الجرائم.
الفن والواقع
في القصة الحقيقية التي عاشها ريتشارد جاد، لم يُلق القبض على مطارِدته، بل استمرت في إيذائه هو وأفراد من عائلته وأصدقائه لفترة طويلة. ويتخذ المسلسل منحى أكثر مأسوية ربما من القصة الحقيقية، فبعد أن يحوِّل دوني دان عروضه الكوميدية إلى عرض تراجيدي، ويحصد للمرة الأولى اهتمام الناس بشهادته الشخصية، وتعرّيه النفسي على الملأ، يعود مجددا إلى نقطة الصفر وربما ما قبلها. إنه يهرب مجددا إلى عالم مارثا، ولا يكف عن محاولة الإجابة عن سؤال لا إجابة له: لماذا صارت مارثا هكذا؟ إنه يتلاشى في محاولة رسم خريطة لعواطف مارثا وتعبيراتها، التي أسرته بها لزمن طويل، وكأنه ينتقم من نفسه، ويدمرها بالنيابة عن جلّاديه.
ما كان يمكن “لغزالي المدلل”، أن يحقق كل هذا التأثير، من دون القوة التعبيرية التي اتسم بها، على مستوى الصورة، وعلى مستوى الممثلين، الذي منح أداؤهم الصادق المزيد من الحميمية لشخصيات واقعية. في مقدم هؤلاء تأتي الممثلة ناڨا مو، التي أدّت دور تيري، وتمكنت من التعبير عن محنة العابرين جنسيا، حتى في المجتمعات التي نظنها أكثر تقدما على مستوى حقوق الإنسان.
بعض ما يعزينا في “غزالي المدلل” هو نفسه ما يعزي ريتشارد جاد في مأساته، أن الفن وحده قادر على مشاركة الألم، على إسماع الصوت، على التعبير. ولو أننا سايرنا كريستوفر لاش في رأيه، بأننا نعيش عصر النرجسية، فإن النجاح العالمي لأعمال مثل “غزالي المدلل”، يقول إننا بالمثل نعيش عصر الشهادات الشخصية المؤثرة، ويبدو أن هذا هو الانتصار الوحيد على إخفاق المجتمعات الحديثة.
المجلة