هل ينفع القمع السياسي النظم السلطوية؟/ عمر كوش
17 أبريل 2024
مارست الأنظمة الاستبدادية، بمختلف أشكالها التسلطية والشمولية، القمع السياسي، بغية إسكات كافة أشكال المعارضة السياسية لتوجهات حكامها وسلطاتها، واستخدمت أجهزتها الأمنية ومؤسساتها القمعية وسائل متنوعة ومتعددة من العنف والترهيب ضد معارضيها، سواء كانوا جماعات أم أفرادًا، بهدف إسكاتهم وتحجيمهم، بل وإنهائهم في غالب الأحيان. ولم يكن القمع السياسي حكرًا على جنس أو شعب أو ثقافة أو حضارة بعينها، بل مارسته أنظمة الاستبداد في جميع الحضارات القديمة والحديثة. كما مارست الاحتلالات الاستعمارية أبشع أنواع القمع والاضطهاد ضد الشعوب المستعمرة، التي قاومتها من أجل نيل حقوقها المشروعة في التحرر والخلاص.
إذًا، القمع السياسي ليس جديدًا في المنظور التاريخي والسياسي، لكن الجديد هو تناوله ضمن سياسات الحكم السلطوي (أو التسلطي)، من أجل تفكيك مركباته، والحفر في طبقاته المتراكمة تاريخيًا، وطرح تساؤلات عن مدى استفادة النظام التسلطي الاستبدادي من القمع السياسي، حيث يقوم داغ تانبرغ في كتابه “سياسة القمع في ظل الحكم السلطوي: رسوخ العرش الحديدي” (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ترجمة عبيدة عامر، بيروت، 2024) بتقديم دراسة علمية أكاديمية حول القمع السياسي، مدعومة بالتحليل الكمي والإحصاءات والبيانات والأرقام والجداول. ويطرح أسئلة حول جدوى القمع السياسي، وحول الظروف التي يتحقق فيها ذلك، من أجل أن ينطلق منها كي يحاول تفكيك بنية الأنظمة التسلطية ومنظومات القمع السياسي فيها، والبحث في أهم مرتكزات ممارسته ضد المعارضة السياسية، مع الاستشهاد بأنظمة سياسية استبدادية سادت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعضها ما تزال تجثم على صدور شعوبها.
بداية يعرّف الكتاب النظام السلطوي بأنه “كل نظام سياسي لا ينتخب سلطاته التشريعية والتنفيذية بانتخابات حرة وتنافسية”، لكنه لا يضع للقمع السياسي سمة تعريفية له، بل يلجأ إلى تقديم بيانات عن الحكم السلطوي، والمقاومة الشعبية له، والقمع السياسي، ثم يتناول أشكالًا من القمع السياسي الموجودة فيه، وتبيان مدى تأثير تفاعل القيود والعنف على مشكلة السيطرة السلطوية، إضافة إلى تناول الفروق التي يصنعها الاستخدام المتكامل للعنف والقيود على مشكلة تشارك السلطة الاستبدادية، بمعنى أن الحكم التسلطي يواجه تحديين جوهريين في السلطة والسيطرة.
من المتعارف عليه في نظريات النظم السياسية، أن النظام السياسي يقدم أفضلية لمجموعة قوانين على مجموعة أخرى، لكن الإشكاليات تبدأ عندما تستخدم السلطات القمع لتحصين نظام سياسي قائم بوجه التنازع، فيما يعمد الحكم السلطوي إلى الضبط لتحقيق ذلك. وبالنظر إلى أن مسعى الحكام التسلطيين ينحصر في تحصين أنظمتهم، فإنهم لا يتخلون عن القمع السياسي، ويرفضون بناء النظام السياسي بما يتوافق مع إرادة الشعب صاحب السيادة، لذلك يتعمد المستبدون على التهديد غير المشروع باستخدام القهر من قبل أجهزة سلطاتهم ومؤسساتها. ولكي تضمن السلطوية البقاء في الحكم تقوم بمنع أي ثورة شعبية ضدها عبر اللجوء إلى القمع السياسي، الذي ينهض على كبح أي نقد علني لها، وتقويض النشاط الجماعي، وعلى فرض التزامات تحت ظل الحكم السلطوي، وبالتالي يشكل القمع السياسي سياسة غائية، تختارها الأنظمة السلطوية عن قصد “للتعامل مع المعارضة الفعلية والمتوقعة” لها ضمن الدولة التي تفرض سيطرتها عليها، ويغدو القمع السياسي بمثابة العمود الفقري لها.
يتساءل المؤلف عما إذا كان القمع السياسي مجديًا للحكم التسلطي، ويستشهد بالأنظمة التسلطية العربية، التي استند فيها المستبدون على تراث متراكم من الطغيان والتوحش، كي يقوموا بقمع الثورات الشعبية التي انطلقت مع نهاية العشرية الأولى للقرن الحادي والعشرين، خاصة الثورة السورية التي لم يتوان نظام الأسد عن استخدام أبشع أنواع القمع والقهر حيالها، بل ولم يتردد في زجّ الجيش وأجهزة الأمن والشبيحة في حرب مفتوحة ضد غالبية السوريين. لكن، مع ذلك تمكنت ثورات الربيع العربي من خلع المستبدين في تونس ومصر وليبيا، إلا أن الثورات أجهضت، وبدا ظاهريًا على الأقل أن القمع السياسي يجدي حينًا، وقد لا يجدي حينًا آخر.
غير أن جدوى القمع السياسي مرتبطة بالعلاقة التكاملية بين القيود والعنف، ومدى تحقيقها التوازن بين مشكلتي الحكم الاستبدادي المتوائمتين، وبما يجعل القمع مجديًا، وذلك على خلفية اعتبار أن القمع السياسي لا يتحقق إلا بالقيود التي تحدّ من حريات التعبير والتنظيم وتقييد القدرة على النشاط الجماعي ضد الحكومات السلطوية، فيما يقوم العنف على التعدي على حقوق السلامة الجسدية، ويستهدف إرادة المشاركة الجماعية ضد الحكومات. وفيما تتطلب القيود الإنفاذ، فإن العنف قد يرتد على أصحابه، ويؤدي إلى انهيار الولاء للنظام وتعبئة السكان ضده، إلى جانب الإدانة الدولية له. وهنا تنشأ العلاقة التكاملية بين القيود والعنف، لأنهما يحولان القمع السياسي إلى أداة قيمة في صندوق العدّة السلطوي، وبما يمكنه من الاستفادة من القمع السياسي بالاستخدام التكاملي للقيود والعنف معًا، لأنهما وإن مثّلا شكلين مختلفين جوهريًا من القمع، إلا أنهما يكملان بعضهما البعض، ويعتديان على أكثر حقوق الإنسان أساسية، على الرغم من اختلاف الطرق والتأثيرات، حيث تغدو النتيجة واحدة، كونها توّلد فضاءات من الخوف وكسر إرادة المشاركة الجماعية لأفراد المجتمع، إذ تقوض القيود حريات التعبير والتنظيم، فيما ينتهك العنف سلامة الأفراد جسديًا.
يقدم المؤلف محاججة حول إعادة مفهمة وتعريف القمع السياسي، وينطلق من كون القمع السياسي “مسألة اختيار تقوم به سلطات اتخاذ السياسات، وهو ليس محتمًا”، ليناقش بعدها التعريفات التي تناولت جوانب منه. فتعريفه بأنه “أي سلوك تقوم به مجموعة، ويرفع كلفة السلوك الاجتماعي على من يتنازعه عليه”، يتناول نوع الفاعل والسلوك وهدف القمع. كما أن القمع لا يتجسد فقط بمجموعة من الخيارات التي تستهدف تعزيز الكامل السياسي إلى الكبت العنيف، فتأثير القمع على المعارضة قد لا يعتمد حصرًا على درجة العنف، بل على جمع العنف مع أشكال أخرى من القمع. وعليه تختلف الآراء حول كيفية تفكيك القمع السياسي، إذ يستهدف القمع إما أفعال المعارضة أو فاعليها، فعندما يحدّ القمع السياسي الخيارات السلوكية للتعبير عن المعارضة، فإنه يستهدف الأفعال، أما عند فرض الأحكام العرفية وحالة الطوارئ التي تمنع تجمعات الأشخاص، فعندها يستهدف القمع الأشخاص، وخاصة ممثلي نخب المعارضة أو قواعدهم، أو أي شخص يشتبه بولائه للمعارضة، وحينها ينتقل القمع من مستوى الاستهداف المنتقى للمعارضة إلى مستوى إرهاب الدولة العشوائي. ويمكن التمييز ما بين القمع الخشن عند الإشارة إلى عنف الحكومة، والقمع الناعم أو القمع غير العنيف في المجتمع المدني الذي يستهدف التخويف والإسكات الجزئي. وبالمقابل يستهدف العنف كسر إرادة المعارضة وبث الخوف في المجتمع، وحينها يتكامل العنف مع القيود، بوصفهما وجهين لعملة واحدة. وهنا يحضر التفاعل بين الأشكال المختلفة للقمع السياسي التي تعيد على المدى الطويل نتاج السيطرة والسلطوية، حيث تظهر مشاكل القمع السياسي الكثيرة، عندما يطبقه المستبدون لكبح المعارضة الشعبية ويمارسونه لحماية سياساتهم ومصالحهم. فالقمع وسيلة لتحقيق غاية البقاء السياسي في جميع الأنظمة الاستبدادية.
ينظر المؤلف إلى القيود بوصفها معايير يضبط وفقها الأفراد سلوكهم كي يتجنبوا العقوبة، وعبر كبحها حريات التعبير والتنظيم، فإن القيود تحفز تكيفًا باستراتيجيات المعارضة. ومع تكيف المعارضة مع القيود، يتحايل النشاط الجماعي للمعارضة على المعايير القائمة للسلوك السياسي. ويؤدي التكيف إلى مجموعة من المظاهر البديلة للمعارضة، لتشمل ممارسات نزاع متوارية عن الأنظار، تتجسد في مظاهر عدة، مثل المظاهرات الطيارة والكتابات على الجدران وتوزيع المنشورات، وقد يصل الأمر إلى حملات عبر تنظيم اعتصامات ومقاطعات واضطرابات واحتجاجات، وحتى حروب العصابات، وبما يجعل حملات المعارضة تجسيدًا لتنازع قسري يسبب اضطراب النظام الاستبدادي، وتتضمن سلوكًا جمعيًا عنيفًا وغير عنيف. وعليه يلعب القمع السياسي دورًا متضاربًا في الحكم السلطوي، فهو يمثل من ناحية أولى أداة لإقامة السيطرة السلطوية، ومن ناحية أخرى، يشجع القمع تضارب المصالح بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين، وبما يشكل تهديدًا لبقاء الحكم السلطوي، وبالتالي فإن كلًا من القيود والعنف لهما نقاط ضعف تعرقل قمع المعارضة الناجح للحكم السلطوي، فالقيود ضعيفة أمام التكيف، حيث يستبق المعارضون العقوبات التي تحتاج إلى إسناد من تهديد معتبر للعقاب، يوفره العنيف. وعلى العكس ينقلب سحر العنف حين يتسبب بتعبئة مضادة للمجتمع، وأحيانًا ينهار الولاء للنظام الاستبدادي، وبالتالي يتطلب العنف القيود بغية منع ظهور فرص جديدة للمقاومة الجمعية للحكم المستبد، وعليه تحول التكاملية، بين العنف والقيود، القمع السياسي إلى أداة فعالة بيد المستبد، لأن القيود والعنف يعوضان ضعف بعضهما البعض.
ينشغل المؤلف كثيرًا بموضوع جدوى القمع السياسي للحكم السلطوي، بوصفه الانشغال النظري الأساسي لكتابه، وتطاول الإشكالية كيفيات قيام القيود والعنف لمنع حملات المعارضة الناجحة، حيث تقوم التكاملية بينهما على قمعها عندما يعمل كل من طرفيها بشكل متناغم فيما بينهما، ويدعم ذلك أن التحليل الإحصائي لخمسين حالة موزعة على 212 نظامًا سلطويًا خلال الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم، بيّن أن القيود والعنف يوقفان بشكل متفاعل جهود تعبئة المقاومة، وأن التكاملية مهمة ما دام القمع يستبق الحملات، لكنها ليست كذلك إذا كان القمع يتحرك كرد فعل عليها. وفي كل الحالات قد يبدو القمع مجديًا، لكن مزيد من النظر يظهر أنه عادة ما يكون أثر العنف سلبيًا، فهو يحبط المقاومة والمعارضة الناجحة، لكنه يزرع مزيدًا من بذورها غدًا.
عنوان الكتاب: سياسة القمع في ظل الحكم السلطوي: رسوخ العرش الحديدي المؤلف: داغ تانبرغ المترجم: عبيدة عامر