يوم وضعتُ حبراً على إصبعي كي لا أنتخب بشار الأسد/ ورد بيك
27.05.2024
لم تختلف سوريا قبل الانتخابات وبعدها سوى في أن صور بشار الأسد أصبحت أكثر من ذي قبل، وبقيت في الشوارع باعتبار أن التخلص منها أمر مستحيل
كنت وفدت حديثاً إلى دمشق، لم يكن لي سكن مستقر فيها، ما اضطرني الى المكوث في أحد فنادقها الرخيصة، لأبقى على مقربة من جامعتي التي كانت تبعد ما يقارب الـ 15 دقيقة سيراً على الأقدام.
أمضيت في جامعتي مدة أسبوع كامل، بالتوازي مع فترة الانتخابات الرئاسية، لم يأتِ هذا التقاطع مصادفة! إذ أصدرت الكليات الجامعية كافة في دمشق برنامجاً امتحانياً مفاجئاً، والتخلف عنه قد يؤدي إلى الرسوب في السنة الدراسية، هذه الاستراتيجية تطبّق في كل حدث أو مناسبة انتخابية تستدعي جمع أكبر عدد من الطلاب في جامعاتهم وإجبارهم على التصويت.
كواليس ما قبل الانتخاب
ثلاث سنوات مرت على انتخابات رئاسة الجمهورية العربية السورية الأخيرة، ذاك اليوم الذي جدد فيه الأسد ملكيته لحكم سوريا للمرة الرابعة على التوالي.
منذ إعلان موعد الانتخابات، بدأت برامج المرشحين الانتخابية بالانتشار في شوارع سوريا، إعلانات وشعارات عُلّقت في كل زاوية وأخفت ملامح العاصمة تماماً. وكما جرت العادة، كانت للأسد الحصة الأكبر من هذه الحملة، فعلى امتداد الطريق الواصل بين الفندق وجامعتي، كانت صوره تظهر في كل مكان حرفياً! بالوجه والابتسامة ذاتهما، مئات بل آلاف النسخ من وجه القائد المكرر وهو ينظر نحوك. المفارقة الأولى بدت من خلال تركيب هذه الإعلانات، إذ إن جميع صور الأسد لُصِقت بالصمغ والغراء طويل الأمد بينما عُلِقت صور المرشحين الآخرين بطريقة تجعلها قابلة للفك والاستبدال في أي لحظة.
صور بشار الكثيرة جاءت لتؤكد وجوده واستمراره، التصقت بالجدران والأعمدة كما لو أنها لن تتغير أو تُستبدل، منها ما كان مهولاً بحجم بناء سكني، ومنها ما كان صغيراً بحجم الكف! بين هذين الحجمين شخص احتلّ الأماكن والبيوت والأيادي، قيدها جميعاً وأرغمها على رفعه وتصديره كناجٍ وحيد.
واحدة من تلك الصور الكبيرة عُلّقت أمام الفندق، حيث كانت غرفتي تطل على لوحة إعلانية ضخمة تضاء في الليل، عُلّقت عليها صورة أحد المرشحين للرئاسة، وبسبب عدم ثباتها سقطت من زاويتها، وبقيت متدلّية في الهواء أمام الناظرين، وقد انكشف من خلفها وجه آخر، ما أن دققتُ النظر فيها حتى بان الأسد مجدداً، لقد كانت صورة بشار خلفها تماماً طوال الوقت، كلما انزلقتْ قليلاً كلما بان الأسد بشكل أوضح، هكذا حتى أصبح رأسه فوق جسد المرشح!
صورة مكبّرة عن المسيرات
حاولتُ آنذاك التعطّل عن الدوام والذهاب فقط في مواعيد الامتحانات، هرباً من المسيرات التشبيحيّة التي تجبر كل الحاضرين من طلاب ومدرسين وموظفين على الوقوف فيها لحمل أعلام النظام والهتاف له، وقد نجحتُ مع مجموعة من الأصدقاء بالهرب من هذه المسيرات مرات عدة. تلصصنا من البوابة قبل إغلاقها وقفزنا فوق السور عند الضرورة. تكرر مشهد الركض في رأسي كثيراً، منذ المرة الأولى التي هربتُ فيها من مدرستي في حصة طلائع البعث، مروراً بهربي من جامعتي وكل الأماكن التي حاصرتني في هذا البلد، وجعلت النجاة أمراً يعني الهروب وحسب، وتجاوز هذا المكان بكل ما فيه من أبواب مغلقة وأسوار عالية.
منحني المكوث في الفندق فرصة أخرى للنجاة، إذ إن جميع الطلاب القاطنين في السكن الجامعي التابع للنظام كانوا مجبرين على النزول في المسيرات لمدة ثلاثة أيام على التوالي. يوقظ مشرفو الوحدات السكنية الطلاب الساعة الخامسة فجراً ويأمرونهم بالنزول الى الساحة خلال نصف ساعة فقط. تخبرني صديقتي أنها في إحدى المرات أقفلت ومن معها باب غرفتهم امتناعاً عن النزول، لتخلع مشرفة الوحدة الباب عليهم وتجبرهم على الخروج بـ “بيجامات النوم” عقاباً لهنّ.
بعد التأكد من نزول جميع الطلاب، تُقفل أبواب هذه الوحدات السكنية لضمان عدم صعود أي أحد الى غرفته، وكانت كاميرات “درون” الطائرة تصوّر هذا المشهد من الأعلى وتبثّه على قنوات النظام لمدة ساعات تحت عنوان “طلاب سوريا معك”.
قد يبدو المشهد من الأعلى صورة تضامنية متكاملة عن الشعب الذي أحبّ قائده، لكن لو دققنا النظر في أجزائه سنجد آلاف الوجوه المهانة والمقادة، سنجد فتيات ببيجامات نومهنّ، وأفواهاً كثيرة تردد كلمات وضعها النظام في حناجرها سنوات طويلة.
حين وضعتُ حبراً على إصبعي
جاء يوم الانتخاب، اليوم النهائي لتلك المسرحية الهزلية، وضعت صناديق التصويت في جميع مفاصل البلد، لإجبار كل من يعبرها بالانتخاب قبل الدخول، وبعد إتمامك العملية يوضع حبر أزرق “فوسفوري” على إبهامك الأيسر علامةً على مساهمتك في عملية الاقتراع “الديموقراطي”، فمن دونها لا يُسمح لك بدخول مؤسسة أو جامعة أو أي مركز عام…
وكي لا أُجبر على الانتخاب ما كان مني إلا أن أضع حبراً عادياً على إصبعي باستخدام أحد أقلامي، وقد نجحتُ بالعبور من دون أن ينتبه أحد الى أن الحبر كان على إبهامي الأيمن بدلاً من الأيسر!
يُستخدم عادةً هذا الحبر لتجنب الانتخاب مرتين، لكن في سوريا يستخدم كمقياس على إخلاصك ووطنيتك، ومن دونه أنت مهدد بالاقتناص من كاتبي التقارير وعناصر أمن المعتقلات.
أجل… أمام كل ما حدث لم أصوّت للأسد، فعلى رغم إدراكي حتمية نجاحه إلا أن خضوعي لأي حدث من هذه التمثيلية كان بمثابة خسارة لقضيتي وفقدان جزء من حريتي الأخيرة في هذا البلد.
أتممتُ بقية اليوم أنظر نحو إصبعي الملطخ بالحبر، كلما نظرتُ نحوه تذكرتُ الماشية التي يضعون عليها بقعاً ملونة متماثلة ليميزوها عن باقي القطيع.
إقرأوا أيضاً:
ماذا بقي لبشار الأسد من بطاقة “القضيّة الفلسطينيّة”؟
لم أعد خائفاً من آذان الجدران أو صور بشار الأسد
احتفال قبل إعلان النتائج
لم يكن المظهر البصري وحده السائد في الشوارع، بل امتد ليشمل المظهر السمعي أيضاً، هذه الاستراتيجيات جعلت الأسد بطريقة ما يتسلل داخل أعماق كل سوري، فهربي من صوره خارجاً لم يمنع وصوله إليّ بطريقة أخرى. كانت الساحات والمراكز العامة تصدح بأغان تمجّد النظام وحزب البعث، وكان صداها يصل حتى آخر بقعة في العاصمة حرفياً! ظلت تلاحقني أينما ذهبت من قاعة الامتحان حتى غرفتي الخاصة، ما اضطرني الى وضع سدادات أُذن لإيقاف هذه الموسيقى في رأسي.
كنت قريباّ من أحد المراكز التي بثّت أغاني النظام منذ الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءً، أي نصف يوم كامل من سماع أغاني التشبيح والهتاف، أغنية وراء أُخرى: “منحبك، متل الشمس جبينك عالي، يا بشار يا حبيب الملايين” وغيرها الكثير.
في أحد المرات أثناء التبديل شُغلت أغنية “طلّقني يا عبدو” عن طريق الخطأ، تم إيقاف مكبرات الصوت فوراً وعمّ الهدوء، بينما تسمع همسات الناس وضحكاتهم في الشوارع، هذا الخطأ الذي جاء مصادفةً كان أكثر ما أراد الشعب سماعه وقوله.
لم تدم لحظات الصمت طويلاً ليعاد تشغيل الميكروفونات عالياً، تلك الموسيقى كانت خلفيّة المشهد السوري، أغانٍ مليئة بالعزة والنصر والفوز، بينما يمشي السوريون في الشوراع بكل انكساراتهم وجوعهم وفقرهم… وصور الأسد تبتسم في وجوههم وفوق منازلهم المهدمة، هكذا استطاع الأسد أن يقاسم شعبه كل تلك المآسي، إذ كان حاضراً في كل زاوية من حولهم، ينظر إليهم أثناء موتهم وقصفهم وتهجيرهم من دون أي استعطاف أو ضمير.
قبل – بعد فوز الأسد
منذ إعلان مجلس الشعب السوري فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية، أطلق الأسد -باعتباره أوّل المرشحين- برنامجه الانتخابي “الأمل بالعمل”، وقد ترافق مع حملات وقرارات عدة كان من شأنها فضح استراتيجية النظام بتبييض صفحته أمام الشعب، فازدادت ساعات تغذية الكهرباء في معظم المناطق السورية، والمياه كذلك، وتم البدء بتحسين المرافق العامة، كما أطلق مراسيم عفو عام عدة تشمل مرتكبي جرائم المخالفات والإرهاب والفرار والتعامل بغير الليرة السورية وغيرها الكثير من القرارات التي من شأنها استعطاف الرأي العام. لكن الأمر لم يدم طويلاً، وكان يكفي انقضاء يوم الانتخاب لترجع الأمور كما سابقتها من دون أي تدريج اعتباري للشعب. ففي ليلة إعلان نتائج فوز الأسد وأثناء احتفال المناطق الخاضعة لسيطرته، قُطع التيار الكهربائي عنها، ليحتفل مؤيدوه ويرقصون في العتمة تحت صوره المضاءة، أيوجد مشهد يدعو الى السخرية أكثر من ذلك؟!
المرّة الأولى التي سقط فيها بشار
لم تختلف سوريا قبل الانتخابات وبعدها سوى في أن صور بشار الأسد أصبحت أكثر من ذي قبل، وبقيت في الشوارع باعتبار أن التخلص منها أمر مستحيل، فلو أحصينا نسخ وجه الأسد اليوم، حتماً ستكون أكثر من عدد سكان سوريا “المحاصرين والمعتقلين والمهجرين” منها، وبالسيناريو نفسه يمكنك تخيّل سوريا بعد أربع سنوات من اليوم، أي حتى موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، إذ ستزداد صور النظام وعائلته، أعلامه وشعاراته، ستتكاثر أمامنا إلى أن يطوف كل منزل وشارع سوري بها.
بعد إعلان فوزه، ثُبتت صورة كبيرة للأسد على قاعدة خشبية في منتصف أحد أكثر شوارع العاصمة اكتظاظاً، وأثناء عبور الناس من جانبها، هبت الريح، ما أدى الى سقوطها على سيدة تحمل ابنتها الرضيعة، هرع كل الموجودين لمساعدتها ورفعها عن الأرض، ومن ثم أعادوا اللوحة الى مكانها.
يختصر هذا المشهد علاقتنا مع النظام، وتعاملنا مع وجوده الذي أصبح من المسلّمات، إذ لا فرق بين الكرسي والقاعدة الخشبية ما دمنا نعيد رفع صوره بعد كل سقوط يحدثه لنا.
درج