الناس

أن تمشي “عارياً” في دمشق!/ عمّار المأمون

11.07.2024

العري علامة على التجرد الكليّ من الفاعلية السياسيّة في مساحة كدمشق، إحالة على “حياة العاريّة”، أي أن تُجرد من كل حقوقك كمواطن، لتعود إلى مرحلة ما قبل الفرد، أي اللحم الذي لم يخضع، ولم يتحول موضوعاً للسيادة السياسية، وأن تمشي عارياً، أي أن تُسلم بأنك مستباح كلياً.

لم تعد صورة السوري عارياً من ثيابه شأناً مثيراً للجدل، إذ عُرّيَ السوريون في أقبية تعذيب نظام الأسد وصُوّرت أجسادهم المهانة والمنهكة إمعاناً في الإذلال. أجبر سوريون على العري بذرائع أمنية على الحدود الأوروبية وطُردوا خارج القارة العجوز،  وعُرّيَ عمال سوريون في لبنان وتركيا وتعرضوا للضرب والتهديد.

أحداث جعلت “البدنَ ” السوريّ العاري علامة على خراب العالم، وربما هنا المشكلة.

انتشرت تكراراً في السنوات الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، مقاطع مصوّرة لرجال ونساء يمشون عراة في العاصمة السوريّة دمشق، إذ تداول كثيرون تسجيلاً لامرأة تستحمّ عارية في حديقة الجاحظ، وآخر يمشي عارياً في ساحة الأمويين، وثالث في حي الميدان.

هؤلاء العراة بلا أوجه أو أسماء، لا نعرفهم، قد تصلنا تفاصيل اعتقال أحدهم، أو أسباباً متضاربة لسبب العري الذي يمكن نسبه الى الفقر أو المخدرات وفق ما تداولت المواقع الإخبارية، لكنّها كلها تأويلات لا  نعرف الحقيقة وراءها.

كل ما يصلنا هو عبارة مختصرة: “مواطنـ/ـة عاريـ/ـة في دمشق”، تختزل وضع العاصمة الأسوأ للمعيشة حسب تصنيف الإيكونوميست، أو على النقيض، “الآمنة” التي ترحب بالسياح حسب فيديوهات “الرحالة البيض” الذين يزورون دمشق.

هؤلاء العراة هم “الآخرون”، بعكسنا نحن المعلّقين على وسائل التواصل الاجتماعي، أو المارّة مُرتدي الثياب، المنصاعين للوضع القائم، تحيط بهم أعلام سوريا وصور بشار الأسد، تكسوهم الطاعة والخوف والجوع.

العري علامة على التجرد الكليّ من الفاعلية السياسيّة في مساحة كدمشق، إحالة على “حياة العاريّة”، أي أن تُجرد من كل حقوقك كمواطن، لتعود إلى مرحلة ما قبل الفرد، أي اللحم الذي لم يخضع، ولم يتحول موضوعاً للسيادة السياسية، وأن تمشي عارياً، أي أن تُسلم بأنك مستباح كلياً.

الحياة العارية ضمن التعريف السياسي، وضعية تنتج حين يتحول الجسد إلى لحم يستحق الموت، ولا جريمة في قتله، كالوحش والحيوان، ولا تنتج هذه الوضعيّة، لا بسبب قوة سياسة، وعادة ما تكون في مكان مغلق (معسكر اعتقال، قبو تعذيب..الخ) لكن في سوريا الاستثناء، “العري” علني، والأهم، صاحبه يمشي أمام الجميع: المارة والراكضون إلى العمل والمتنزهون، علامة متنقّلة على نفي الفرد، وتحولّه إلى لحم متحرك يسعى الى نجاته فقط كجسد، لا كفرد.

إخوة في السلاح… غرباء في العُري

خرج معتقلون أنصاف عراة بعد سنين من ظلام أقبية الاعتقال عام 2022، لا تبعد الباصات التي رمتهم تحت “جسر الرئيس”، إلا بضع مئات من الأمتار عن طريق الرجل العاري أخيراً.

من يخرج  من سجن سوري، “عار”، هو بلا حقوق مدنيّة، وهنا تتكشف  احتمالات العريّ السوري، الفرد إما عارياً في صورة توثيقية – إدارية كما في صور قيصر بحيث يصبح السوري جثة، وإما عارياً في الشارع يمشي هائماً بين المارّة، و”هائم” هنا غير دقيقة، فمن هام على وجهه، المفترض أنه في مدينة غريبة، لا في مدينة يألفها!

العري برهان علنيّ على التحدّي، لكنه بلا قيمة المواجهة في سوريا، فنقديّة العُري تكمن في مكان حضوره، لا بصورته المجردة، رجل أو امراة عاريان في غرفة نوم لا معنى له، العري في حديقة أوروبية ليس احتجاجاً، العري في مرسم في دمشق القديمة أمام رسام شيوعيّ قديم، ليس إلا تحركاً ضمن المسموح، يتضح ذلك في صورة الشاب الذي بتر ذكره ومشى عارياً، ليتجنب الخدمة العسكريّة منذ بضع سنوات.

 الجسد العاري المشوّه دعوة للسلطة الى إسقاط فروض الجنديّة، فالعسكري يناقض العاري، كون الأول صاحب بذلة تغطّي كل شيء، هو علامة على سطوة مؤسسة يمتلك أفراداها حق القتل، ما يتركنا أمام نقيضين إذاً، عار بلا عضو ذكري، وآخر بزيّ رسمي بعضو حديدي يقتل (بندقيّة).

إن كان ما يجمع الجنود هو أخوّة السلاح و الزي الرسمي وإطاعة الأوامر، مدنيو دمشق وسوريا بشكل عام،  غرباء في العري، مُطيعون، والأهم، على حافة بيع ثيابهم في سبيل النجاة، بمعناها الأشد فجاجاً، أي النجاة من الجوع.

هؤلاء العراة بلا أوجه أو أسماء، لا نعرفهم، قد تصلنا تفاصيل اعتقال أحدهم، أو أسباباً متضاربة لسبب العري الذي يمكن نسبه الى الفقر أو المخدرات وفق ما تداولت المواقع الإخبارية، لكنّها كلها تأويلات لا  نعرف الحقيقة وراءها.

أي “آخر” نستحمّ لأجله!

إن كان العاري “آخرَ”، بلا وجه ولا اسم في شوارع المدينة، من نحن إذاً الذين “نختلف” عنه، الذين نمشي ومشينا الطرق ذاتها، خصوصاً أن العري هنا ليس مغامرةً، بل هو براغماتي، فالمرأة كانت تستحم لا تستعرض ذاتها، فإن كان “الخاص” مساحة العريّ و”العام” مساحة الثياب، فالعري في حالة الفتاة المستحمة، يكشف ألا فرق بين من يستحم في بيته وفي حديقة.

الخصوصي والذاتي كالاستحمام، شأن ينتمي إلى شارع في ظل غياب مقومات الفضاء الخاص والانتهاك على أشدّه، فالاستحمام فعل استعداد للفضاء العام ضمن مكان مغلق عادة (الحمام)، و حين يحصل خارجاً، تنتفي عنه وظيفة الاستعداد لملاقاة الآخرين، ويتحول إلى علامة على الضرورة القصوى، والانهماك بالجسد نفسه، لا بوصفه جسراً نحو الآخر، بل انهماك ذاتي بوصف اللحم متاعاً ومحطّ ألم ومعاناة تفرضها السلطة، ولا بد من تنظيفه بسبب ما تعرّض له، وللتخفيف من احتمالات الألم، لا استعداداً لـ”الخارج”.

اللافت، أن العراة المتكررين في شوارع دمشق، يمشون، ليسوا ثابتين أو مختبئين، ينتقلون ضمن المساحة العامة، ضمن تفاصيل الحياة اليوميّة للشارع، تلتقطهم أعين الفضوليين والخائفين من العار.

الحركة هنا دليل فاعلية، فالانتقال ليس مجانياً، من يمشي عارياً يتجه إلى مكان ما، هو في مدينته، يتجه ربما لإطعام أطفال، أو بانتظار أن يصادر كلياً ويختفي في مدينة عراتها عادةً مختفون تحت الأرض، خصوصاً في حالة من يمشي في ساحة الأمويين، المحاطة بأفرع أمنية، من يمشي عارياً قرين أولئك العراة المكدسين تحت الأرض.

عادة ما يكون العري فعلاً احتجاجياً ضد النظام القائم في مكان العري نفسه، لكن في الحالة السورية علامة على مصادرة الجسد نفسه، فالعري هنا مزدوج، عري من يمشي قهراً ، وعري من يشاهد، كون احتمالات العري قد تصيب “الجميع” في إحالة على العبارة الشهيرة “وجدوه جثة عارية”.

 في حالة دمشق، “وجدوه عارياً يمشي”،  وهنا المفارقة، الجسد العاري مقيّد في حالة دمشق، لا مساحة “آمنة” كي يُحدّق به، حتى في استديوهات كليات الفنون (منع الموديل العاري في سوريا منذ سنوات).

في الفيديوهات المنتشرة للرجل العاري في ساحة الأمويين، نكتشف أنه يقوم بالفعل الأشد احتجاجاً من كشف اللحم، ألا وهو المشي مخالفاً للشكل السائد، أي الاكتساء بالثياب، فهو يمشي يجر خطاه في ساحة عامة مراقبة بشدة، الحركة فيها مدروسة، والتجمهر فيها فقط للهتاف بروح بشار الأسد واسمه، لكنه يمشي من دون أي كلمة، نحن أمام  “رجل عار يمشي في دمشق”، الجملة وحدها تكفي، التي عنون فيها وليد بركسية مقاله، وكتب: “المشي عارياً في ساحة الأمويين (احتجاج) على انعدام مقومات الحياة الكريمة والطبيعية كافة، في دولة تدعي أنها تعافت من “الأزمة” وانتصرت على “الحرب الكونية”.

طبقيّة العري

أن تمشي أو تستحم عارياً في دمشق، يتركنا أمام الحقيقة العارية، ضمن مفهوم الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديجك، حيث الدال والمدلول متطابقان، فالعري علامة على “عالم فقد الأمل في التغيير”.

تكشف الحقيقة العارية التناقضات، بين الأجساد شبه العارية التي تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي والتحديات على حواف العري، أو تلك الصور التي تلتقط في الحفلات الليلية والرايفز، وبين أجساد نحيلة جائعة في الحياة اليوميّة، كلها درجات من العري تحركها الحاجة الى المال.

هناك طبقية في العريّ إذاً، تتحرك حول شرط المعيشة، بين “أبو باسم” الذي يرمي بنفسه بين الثياب محطماً الأسعار، وبين من يبيع ثيابه ثمناً للطعام، وكأننا أمام مدينة،لا عمل فيها ليستر جياعها، ولا منزل ليستحموا فيه، الجسد مباح ومحط استثمار، ليكشف الجسد العاري عن شرط العيش إذاً،  ذاك الذي يلخص بعبارة في درجة الصفر : “أن تمشي عارياً في دمشق”.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى