تركيا والنظام العالمي الجديد” في كتاب ترجم للعربية: هل يلبي الأسد أهداف تركيا إذا انسحبت من سوريا؟/ يحيى الحاج نعسان
7 يوليو، 2024
بمناسبة عودة الحديث عن التقارب بين تركيا ونظام الأسد على خلفية تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن إمكانية عودة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل الثورة، وكذلك تصريح وزير خارجيته حول أن بلاده ترى في اندماج المعارضة السورية، مع حكومة نظام الأسد دورا مهما في الحرب ضد حزب العمال الكردستاني الإرهابي، وما تلا ذلك من أحداث “مؤسفة” من عنصريين أتراك استغلوا تلك التصريحات والأجواء السياسية المشحونة للتحريض على اللاجئين السوريين.
هل حقا ستنسحب تركيا من سوريا؟
تلك التصريحات التي خلفت موجة غضب واستياء في الشارع السوري الثوري والمعارض، وخاصة داخل سوريا حيث يعيش حوالي 5 مليون سوري يخشون من انسحاب القوات التركية في حال التقارب مع الأٍسد وتركهم فريسة لقوات الأسد ولميليشيات إيران الطائفية، وكذلك القوات الروسية.
ومن كل ما تقدم يمكن استخلاص السؤال الأهم، هل حقا ستنسحب تركيا من سوريا، وهل وجود تركيا في سوريا من أجل حماية السوريين فقط أم أنه لحماية تركيا وأمنها القومي قبل كل شيء، وهل يستطيع نظام الأسد تلبية أهداف تركيا من وراء الانسحاب لتحقيق المصالحة التي عادت وحمي وطيس بازارها في الأيام الأخيرة؟
ربما لا تستطيع وسائل الإعلام ومن تستعين بهم من محللين سياسيين الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها دون العودة إلى الاستراتيجية التي تبني عليها تركيا أو لنقل حزب العدالة والتنمية الحاكم سياسته الخارجية في هذا الملف وغيره من الملفات.
هذه الاستراتيجية، التي اعتقد أنه من المفيد للسوريين خاصة والعرب عامة لفهمها، لأنه من خلال ذلك يعرفون نقاط قوتهم وضعفهم وتحديد شكل العلاقة مع الأتراك من باب المصالح أولا، وليس من باب العواطف وحدها رغم أهميتها.
وللوصول إلى فهم هذه الاستراتيجية فلعله من المفيد الاطلاع على كتاب “الأمن الدولي والنظام العالمي الجديد وتركيا” الذي يتحدث عن سياسة تركيا الخارجية في الاستراتيجيا وليس التكتيك ليس تجاه سوريا فقط وإنما كل الملفات والدول من أمريكا إلى روسيا مرورا بالصين وأذربيجان والدول العربية وأوروبا…الخ
وتنبع أهمية هذا الكتاب من أنه أحدث كتاب يتحدث عن سياسة تركيا الخارجية واستراتيجيتها الجديدة، عقب الانتهاء من وباء كورونا والموقف من جميع الملفات المذكورة ومن كون مؤلفه برفيسورا تركيا هو حسام الدين إنانتش ويشغل منصبا رسميا كرئيس قسم للعلاقات الدولية في جامعة كوتاهيا الحكومية، وقد ترجم كتابه للغة العربية. وكان لي مساهمة في ربط البروفيسور مع إحدى دور النشر العربية في إسطنبول لتسهيل وصوله إلى القارئ العربي عموما والسوري خصوصا، انطلاقا من إدراكي لحاجتنا إلى المعرفة العميقة لحقيقة السياسة التركية بعيدا عن العواطف والإيديولوجيا، حيث لم يترك الكتاب ملفا يتعلق بسياسة تركيا الخارجية إلا وعالجه مقدما سيلا من الحقائق والمعلومات لإثباتها.
ورغم أن الكتاب قد خصص بحثا كاملا بعنوان “التحول في الهوية العربية بعد عملية الربيع العربي”، للحديث عن ثورات الربيع العربي، لكن هناك أبحاث أخرى قد تهم السوريين والعرب أكثر من هذا البحث المهم، تتعلق بملفات حسّاسة كاللجوء والهجرة والانسحاب من سوريا ومستقبل العلاقة بين تركيا والناتو وروسيا والصين، التي لا شكك تنعكس كلها على العرب سواء الذين يعيشون في تركيا، (قرابة 5 مليون) أو في بلدانهم.
العروبة والإسلام السياسي والنظام العالمي الجديد
يستعرض الكتاب لمفاهيم مثل الإسلام السياسي والعروبة ومعاداة الصهيونية. ويقول قبل البدء بتحليل تلك المفاهيم:” يتألف مزاج الشارع العربي من أفراد يتمتعون بفهم ما بعد العروبة وما بعد الصهيونية وما بعد الإسلام”.
ويسمّي الكتاب 4 دول بعينها حالت دون تحقيق الانتفاضات العربية لأهدافها حتى الآن، في مقدمتها روسيا كدولة نووية وعضوة في مجلس الأمن، وإيران كقوة إقليمية، ويستشرف المخاض العسير الذي ينتظر تلك الانتفاضات، وخاصة الحالة السورية، ويضع عدة نصائح للعرب لتحقيق أهداف حراكهم “الاجتماعي” والوصول إلى الخلاص والتغيير المنشود من وجهة نظر بلاده.
الانسحاب من سوريا
ويوضح أن تركيا ليس لها مطامع في الأراضي السورية، ومع ذلك فإن الوجود التركي في سوريا حاليا، مبني على أسباب استراتيجية وليس تكتيكية، بمعنى أن عملية الانسحاب من سوريا غير مرفوضة ولكنها مبنية على شروط معقدة، أبرزها هي القضاء على خطر تنظمي (ب ك ك وب ي د)، في سوريا المحميان أمريكيا، وملف اللجوء والحل السياسي وأليات تنفيذ القرار 2254.
ولا يبدو أن النظام قادر على تنفيذ أيا من الشروط التركية وخاصة تلك المتعلقة بملف الـ ب ك ك، إلا إذا كان هناك تغييرا جوهريا في سلوكه، أو أن تركيا انسحبت وصالحت دون مقابل وتركت حدودها الجنوبية لعبة بيد الـ ب ك ك والنظام!
الناتو واتفاقية الهجرة
يُجيب الكتاب المكون من من327 صفحة، على كثير من الأسئلة التي تهم العرب، أبرزها، لماذا لا تستطيع تركيا التخلي عن الناتو التي أصبحت عضوة كاملة العضوية منذ عام 1952، شارحا ذلك في إطار الاستناد إلى مقولة وزير الدفاع التركي ” تركيا ليس عضوا في الناتو بل في مركزه“. ويخلص مؤلف الكتاب إلى القول: ” على الرغم من أن الناتو لا يفهم أولوياتنا الأمنية ولا يدعم دفاعنا، فإن عضوية الناتو تمثل حجر الزاوية بالنسبة لنا في تشكيل سياستنا الخارجية وكرادع للأطراف الأخرى. وعلى سبيل المثال إذا لم نكن عضواً في الناتو، لما تمكنا من إبرام اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة وترسيم الحدود مع ليبيا مما سيغير التوازن لصالح تكريا في شرق البحر المتوسط”. وفي الجهة المقابلة يسير بنا د. إناتش إلى الأسباب التي تجعل تركيا لا تستطيع التخلي عن طريق الحرير، أي العلاقة مع روسيا والصين.
كما يوضح الكتاب الدوافع التي تجعل تركيا تتمسك باتفاقية الهجرة مع أوروبا الموقعة 2016، ويكشف عن بنودها الخمسة، التي ربما لا يعرف الكثير من السوريين والمهتمين العرب، منها سوى بند أو بندين؟ بينما هناك بنود مالية وتجارية وكذلك دبلوماسية من المفترض أن يقدمها الأوروبيون لتركيا في المقابل. مشيرا في هذا السياق إلى أن هناك “فجوة كبيرة بين تعريف الاتحاد الأوروبي للإرهاب وتصور تركيا للإرهاب”. ويذهب المؤلف إلى القول أخيراً أن “أكبر عقبة أمام جدول الأعمال الإيجابي بين تركيا والاتحاد الأوروبي هي الاتحاد نفسه، والطبيعة المنقسمة داخله”.
ويتطرق الكتاب إلى وجهة نظر تركيا مما يجري في مصر وليبيا والصراع من أجل الهيمنة على شرق البحر الأبيض المتوسط، وتأثير كل ذلك على إعادة تشكيل وتموضع الدول في النظام العالمي الجديد.
“عقيدة هارمل والإرهاب الإسلامي”
يتحدث الكتاب عن الصراعات التي تدور داخل “حلف الناتو”، كاشفا سرا خطيرا عن عقيدة هارمل (وزير الخارجية البلجيكي خلال الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا)، وعلاقتها بما يطلق عليه” الإرهاب الإسلامي”، إضافة إلى العدو الجديد للناتو بعد “الإرهاب الإسلامي”، ويكشف الكتاب عن المخاطر الاستراتيجية الـ12 التي حددها” الناتو” وجعل الأولوية لمواجهتها بعد اجتماع 2010 في لشبونة البرتغالية.
ويتبنى البرفيسور إنانتش فكرة انتهاء هيمنة القطب الواحد، خلال المستقبل المنظور ولكن ليس لمصلحة قطبين، كما كان الأمر في قبل انهيار الاتحاد السوفياتي 1991، وإنما لمصلحة العديد من الأقطاب، وفق مفهوم، القطبية الإقليمية دون إلغاء دور القطب الأكبر وهو أمريكا.
الهوية التركية والإسلام
يشرح الكتاب الأسباب والعوامل التي ستجعل من تركيا القطب الأهم والأقوى في الشرق الأوسط، بعد كورونا، كما يعتبر الكاتب أن الهوية التركية وضرورة تحديدها إلى جانب الاعتماد على الخارج في قضية الطاقة، من أهم الاستحقاقات التي ستواجه تركيا وهي في طريقها لتصبح دولة قطبية مهيمنة على منطقتها.
ويفرد البروفيسور إناتش بحثا خاصا لمسألة الهوية التركية، متحدثا عن أهمية وضرورة إعادة تعريف “الإسلام” في بناء هوية تركيا الجديدة، من خلال وضع البلاد في سياقها التاريخي الواقعي والابتعاد عن ضغوط التغريب والشعور بأهمية الذات التركية بمختلف أشكالها، مع التركيز على المواءمة بين الإسلام وقيم الأصالة ومفاهيم الحداثة والديمقراطية.
الربيع القوقازي
ويسلط الكتاب الضوء على عودة النزاع بين أذربيجان وأرمينيا والأسباب التي أعادت إقليم كارباخ والحرب فيه إلى الواجهة، ليصل بنا من خلال التحليل الاجتماعي والسياسي إلى أن ما يحصل في جنوب القوقاز يمكن أن يطلق عليه “ربيع قوقازي” لأنه حراك اجتماعي وثقافي، وأن ما يظهر من صراع عسكري وسياسي ليس إلا جبل الجليد الظاهر على السطح. معتبرا وفق ما يسوقه من أدلة إلى أن ما يحدث هناك من أبرز معالم النظام العالمي الجديد.
وخلال سير الكتاب بمباحثه الرئيسة المذكورة، يستعرض لأدوار وأهمية المنظمات الدولية في السياسة العالمية، وعلى رأسها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والصحة العالمية، قبل أن يختم بالحديث عن منظمة “غولن الإرهابية”، التي يصفها الكاتب بأنها منظمة ذات طابع دولي وأنها لاعب مهم في هدف القوى المهيمنة المتمثل في خلق نظام عالمي جديد، مستعرضا دورها في انقلاب تموز الفاشل 2016 ومخططاتها وأماكن انتشارها والأهداف التي قد تحاول أن تعمل عليها مستقبلا.
وقد يلاحظ من يقرأ الكتاب أن البروفيسور إناتش يتبنى أو حتى يروج بشكل شبه مطلق لسياسة بلاده وحكومته في جميع الملفات التي يعالجها، وهذه الناحية التي قد تبدو سلبية، ربما لمنتقدي سياسة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، إلا أنها تمثل عاملا إيجابيا آخر يضيف أهمية للكتاب بالنسبة للقارئ العربي، حيث يعزز أن الكتاب وكاتبه أكثر من يعبر بوضوح وبلا مداورة، عن حقيقة تلك السياسة التي يتبناها… سواء أعجبتنا هذه السياسة أم لا.
العربي القديم