الناس

تنويعات ناسوتيّة على مقام الحفرة/ منذر مصري

12 يوليه 2024

وأنا أيضًا أحفر:

وكأنه أيضًا لا يكفي ما لا أدري عدده، ربما مقالاتي جميعها على نحو أو آخر، التي نشرتها على مدى ما بات يقارب السنة: “يا له من زخم” قالت صديقة، و”يا له من إسهاب” قال صديق، في موقع ضفة ثالثة. أخص منها بالذكر: (تعال إلى سورية… تعال وزر قبر أمّك)، إلى (أن تكون شجاعًا في الحفرة)، و(ماذا يفعل أهل الحفرة؟)، و(مفكّرة الحفرة السعيدة. آذار/ مارس 2024)، و(حيث لا ندم ولا مأثرة، بقيت كبقية الأشياء الباقية)، وأخيرًا وليس آخرًا (بعض شجون العيش في الحفرة). والحبل، كما يبدو، على الجرار، لأنه، إذا كان جوابي على السؤال: “ماذا يفعل أهل الحفرة؟” هو: “يحفرون”. فأنا بدوري أحفر مثلهم، أحفر في فكرة الحفرة. هم يحفرون بفؤوسهم ومعاولهم وربما بأظافرهم ومخالبهم، وأنا أحفر بقلمي، بجهازي الكومبيوتر، بالأحرف والكلمات! ويا إلهي كم يبدو هذا عديم النفع بالمقارنة.

يحيا الناس بغض النظر عمّن يحكمهم:

سألت الروائي منذر حلوم: “كيف تحيا في بلد كروسيا؟”

أجابني: “أحيا مثلك مع الناس، لا مع السلطات”

*

لطالما خالجني هذا الشعور، وأنا أحيا بين الناس، أتأملهم، أحاول فهمهم، أفعل هذا وكأنني غريب يحاول أن يكون منهم، قبل 2011، وبعدها، ولليوم، عندما ألتقي بأصدقاء في مقهى، أو مطعم، ونتبادل الأحاديث حول كل شيء “ما عدا الثقافة والسياسة”. يقول (ع. ف) متوعدًا. أو عندما أشارك أصدقاء بتمضية يوم على شاطئ البحر، فأشاهد الناس يسبحون ويتشمسون ويلعقون بألسنتهم المثلجات، والشباب والفتيات يستعرضون، “هذه أيامهم” أقول في نفسي! ولكن مشكلتي، في هذا المكان، شاليهات الدراسات، أني سبحت فيه أكثر من مرّة مع خالد خليفة الذي كان يمتلك شاليه هناك! في إحداها احتاج مساعدتي ليخرج من البحر ثم ليجلس ويلتقط أنفاسه على صخرة قريبة ناتئة! هؤلاء الذين ذكرت هم الذين لديهم القدرة أن يجدوا طريقة للاستمتاع بالحياة ضمن الظروف المحيطة. ولا أظن أحدًا من حقه أن ينكر عليهم هذا. وممن يجدون في هروبهم من التفكير في السياسة والأوضاع العامة الضاغطة شرطًا لازمًا للقدرة على مواصلة الحياة داخل البلد والاستمتاع بها ولو بالحد الأدنى. وهم، إذا ما جاء أحدهم على ذكرها، يأخذونها بالسخرية والتهكم! ولكن ماذا عن 80% من الناس الذين يشغلهم، لا عدم توفر البنزين حتى في السوق السوداء، ولا تركيب ألواح الطاقة الشمسية مع 6 بطاريات أنبوبية، أو من الأفضل بطارية ليثيوم بكفالة 10 سنوات، ثمنها عشرات ملايين الليرات السورية! ولا أسعار الأحذية والملابس، حيث سعر الحذاء الوطني الصنع قد يعادل ضعفي راتب موظف متقاعد من الدرجة الأولى، من أمثالي! بل لقمة العيش، لقمة العيش المغمسة بعرقهم، وربما بدمائهم، وماذا أكثر من الانتظار لساعات طويلة في طوابير مكتظة لأجل ربطة الخبز، السوريون شعب، مهما فرقته انتماءات ومصالح، تجمعه ربطة الخبز. السوريون، بامتياز، شعب ربطة الخبز. وجرة الغاز، هناك قوائم خاصة لجرة الغاز، تقول لي زوجتي: “بات دورنا 350”! ولا أدري إن كنتم تذكرون ذلك الكاريكاتير لرجل يقود دراجته النارية عاريًا، بعد أن وصلته رسالة جرة الغاز وهو في الحمام! نعم، شر البلية ما يضحك! وكذلك الحصول على حصة المعونات من عبوات زيت الصويا، أو المعكرونة! وتأمين الخفافات للأولاد بمناسبة بدء السنة الدراسية، سببًا موجبًا لأن يضع هؤلاء الناس التفكير في مشكلة من يحكمهم جانبًا، إن لم أقل، خلف ظهورهم. وهل هناك من لم يسمع بالمقولة الميكيافلية الأشهر، ولا أظنه من المطلوب الآن أن أدقق في ما إذا قالها ميكيافيلي حرفيًّا أم لا: “ألهيهم بدل أن يلهونك”. أقولها من دون مراعاة القواعد النحوية! ولكني أذكر أنها كانت النصيحة الوحيدة التي قالها لي قائد كتيبتي العسكرية وهو يسلمني لأول مرّة قيادة فصيلة إشارة المرصد على الحدود! إلّا أني بعدها سمعت من يقولها أمامي، وكأنه يقر حقيقة مطلقة: “عمل الحكام افتعال الأزمات وخلق المشاكل بغاية إشغال شعوبهم عنهم!”. وقد يصل بهم الأمر إلى أن يشنوا حروبًا.

والشعب خير الماكرين

أعود إلى الياس مرقص: “من حق الناس أن يفعلوا كل ما يجدونه مناسبًا لتأمين معاشهم، واستمرار حياتهم”. ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أنه من حق الناس، حين يضطرون أن يتلونوا ويتقنعوا، ويزحفوا على بطونهم عندما تقتضي الحاجة! ومن حقهم أن يمكروا: “من تزوج أمي أناديه عمي”. لماذا لا؟ و”اليد التي لا تستطيع ردّها، بوسها وادعي عليها بالكسر”. الكل يعرف ويعترف بمكر الناس، الذي يذكرني بذلك النوع من المكر الذي تشير إليه للآية الكريمة [والله خير الماكرين]. الذي يقابله، أو ربما هو نفسه ما يدعوه هيغل: “مكر التاريخ”! لاحظوا كيف في المثل الثاني تظهر لنا الحقيقة الكامنة خلف ما يفسره بعضهم على أنه تذلل وضعة. وبحفر أعمق، يمكننا أن نفهم أنهم، عند تغير الأحوال، لا يكتفون بالدعاء! الأمر الذي، أول من يدركه ويعيه هي الأنظمة الأمنية نفسها. وما يثبت مقولتي هذه، الأعداد هائلة من العاملين الذين تجندهم هذه الأنظمة في مؤسساتها الأمنية، وما يتبع لهذه المؤسسات من أجهزة وفروع، مهمة موظفيها مراقبة الناس، معرفة أي كلمة مريبة يقولونها، وأي حركة مشبوهة يقومون بها! زارني مرّة، بعد صدور بيان الـ99 مثقفًا سوريًّا، في أيلول/ سبتمبر 2000، الذي كنت أحد موقعيه، برفقة قريب لي، ضابط أمن سياسي من دمشق! وذلك، حسب قوله حبًّا بالتعرف بي، بعد أن اطلع على إضبارتي! في الحقيقة كانت جلسة غنية جدًّا، ما يهمني أن أذكره من محادثتنا وقتها، أمرين: الأول، نصيحته أن أخفف كثيرًا من حماستي، ذلك لأنهم، حسب قوله، يغضون الطرف عما يكتبه ويقوم به أمثالي من المثقفين، ولكن إلى حين! فكل شيء محفوظ ومخبأ إلى أن يحلّ الوقت المناسب.

والأمر الثاني، أنهم كجهات أمنية لا يستطيعون أن يأمنوا للناس ويدعوهم يتصرفون على حلة شعرهم، مهما أبدو من استكانة وخضوع. “لا أحد يستطيع أن يتوقع ما يمكن أن يقوموا به”، قال بحكم العارف!

نحن هنا!

أليس أحد التفاسير العامة في حياتنا، عند استفسارات إحدى الجهات الأمنية عن أحدهم، وسؤالهم عنه زملاءه في عمله، أو صاحب محل السمانة تحت بيته، وكذلك أيضًا عند الاستدعاءات والتحقيقات، التي تنتهي من دون تبعات، بأنها مجرد تذكير للناس بأنهم هنا! أو عندما يتجاوز الأمر حدود التذكير، ويزيد التوقيف عن ساعات وأيام، فيكون التفسير بأنها شدّة أذن! وما أدراك ما يحصل له ولعائلته، هذا الذي رحموه واكتفوا بشدّ أذنه! بالنسبة لي، سمعتها مرّات! آخرها عندما كنت مخيرًا بين النجاة بجلدي والهروب من البلد، أو مواجهة مصير لا يعلم غير الذباب والفئران والصراصير نهايته. فكان أن بقيت، وبأعجوبة، كما في كل مرّة، نجوت! إلّا أني لم أعدم من يقول لي: “لو كانوا يستهدفونك فعلًا، لما وضعوا اسمك في تلك القائمة، ولما حولوك للمحكمة، مهما كانت صفتها، بل لأرسلوا دورية إلى بيتك وشحطوك من رقبتك!

حيث يصحّ الشيء وعكسه

وكأن خاتمتي كلتا الفقرتين السابقتين تذهبان إلى تأكيد خلاف، بل نقيض، معنى عنوانيهما! الفقرة الأولى: يحيا السوريون بغض النظر عن حكامهم، لكن حكامهم لا يغضون النظر عنهم. والفقرة الثانية: الشعب ماكر، لكن هنالك من هو أمكر منه! نعم، إنني واع ومنتبه للرد الذي سيرد به علي قارئي! وذلك ليس لفطنة مني أو لخبرة، بل لأنني سمعته مرارًا في رأسي وأنا أفكر فيه، ثم وأنا أكتبه. نعم يطيب، بل يعمل النظام الشمولي، أن ينصرف الناس إلى أعمالهم وحيواتهم من دون أن يفكروا به، أو يتدخلوا في شؤونه. إلّا أن ذلك في الحقيقة شيء يقارب المستحيل! وإلّا لماذا أسموه نظامًا شموليًّا؟ عمله، غايته، السيطرة على كل شيء، والتحكم بكل شيء. وقد يأتي أحدهم ويقول، إن كانت هذه السيطرة وهذا التحكم تقوم به الأنظمة الشمولية جهرًا وعلنًا، باعتباره في عرفها الأسلوب الأمثل للحكم! فإن الأنظمة الأخرى، الليبرالية، الديموقراطية، العلمانية، تقوم بها، وربما على نحو أعمق، وأشمل، مستخدمًا الصفة عينها قصدًا، خفية وسرًّا! وذلك بتطبيق نظريات علم النفس الفردي والجماعي، واستخدام وسائط الإعلام المتطورة، ومنصات التواصل الاجتماعي، للتأثير في أفكار الناس والتحكم بهم! لا يستطيع أي مدافع عن هذا النوع من الأنظمة إنكار حقيقة ذلك. الأمر الذي يقر به وينتقده مفكرون ومثقفون كبار من أهل تلك البلاد.

التصعيد الأول والثاني للفكرة:

بولس: مهلًا مهلًا. ماذا تهدف بكلامك هذا؟

منذريوس: أدافع عن الناس.

بولس: ومن قال لك إن الناس يحتاجون الدفاع عنهم؟

*

ما يقودنا إلى أن الناس في الأنظمة الشمولية بأنواعها يحيون على الرغم عن حكامهم! على الرغم من الأوضاع الصعبة التي يسوقونهم إليها، ويحصرونهم بها! من هنا يأتي، ما يعدّه بعضهم، وأنا منهم، نضالًا وكفاحًا.. صبر الناس على الأذى، تحملهم ما يطاق وما لا يطاق، قدرتهم على مواجهة تحدّيات المكان والزمان، صراعهم لأجل البقاء، عنادهم المستميت لأجل الاستمرار في العيش. نعم هذا، بعرفي، نضال وكفاح. وما أؤمن أنه بالنسبة للشعب السوري اليوم، رجاء انتبهوا إلى هذه النقطة، أهم وأوجب للتقدير والإجلال مما كان عليه سنة 2011 وما قبلها وبعدها. وها أنذا بعد التصعيد الأول لفكرة أن الناس يحيون بغضّ النظر عن حكامهم، إلى فكرة أنهم يحيون على الرغم من حكامهم! أقوم بالتصعيد الثاني، وهو أن السوريين يحتاجون اليوم، أكثر من أي يوم مضى، إلى من يشدّ بأزرهم، إلى من يعاضدهم، ومن يقوي من عزيمتهم، وإلى من يساعدهم على البقاء والاستمرار، لا إلى من يشكّك بهم، ويتّهمهم! ولا إلى من يسخر منهم، عن قصد أو غير قصد! ومن يقول لهم اهربوا بجلدكم، اتركوا بيوتكم وأراضيكم، وانجوا بأرواحكم!

وأخيرًا، لا أدري ما يغيظ البعض تكراري لهذا الكلام. أقصد ذلك التثمين العالي الذي أحمله وأدعو أن يشاركني به الآخرون، للشعب السوري، داخل البلد وخارجها على السواء. مع أني، لا في علني ولا في سري، أريد إثارة حفيظة أحد، أو النيل من سمعة أحد، أو تصفية حساب مع أحد! كما من نافل القول، إني لم أكن شعبويًّا قط، لا في شعري، ولا في رسمي، ولا في حياتي العملية، وإنه لا غاية لي من التزلف للناس، وكسب مرضاتهم طمعًا في أي نوع من المنفعة. فأنا أعرفهم وأعرف عيوبهم، وأقاسي ما أقاسي منها، بالقدر الذي أعرف مزاياهم، وأكاد أنصبهم آلهة لأجلها. نقطة آخر السطر.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى