زراعة القوقعة وتعويض الأطراف.. حينما يتحول العمل الإنساني إلى بطل مطلق/ عبد القادر المنلا
2024.07.13
لا إنجازات للثورة السورية وثوارها منذ سنوات، علينا أن نقرّ بذلك ونقرّ أيضاً بحالة العجز التي وصل إليها الثوار، فلا انتصارات عسكرية ولا بطولات على الأرض في كل الميادين، بل ثمة حالة من الهزيمة التي لا يمكن نكرانها، ولكن مع كل هذا الواقع السوداوي، ثمة انتصارات وبطولات على المستوى الإنساني تعيد الثقة بنقاء وأصالة السوريين، وتلك الأصالة هي بوابة الأمل المتبقية أمامنا بعد أن تخلى العالم عن القضية السورية وباعها في مزاد المصالح السياسية الدولية.
أحد أبرز وجوه تلك الانتصارات الإنسانية يتجلى في الحدث الضخم الذي تم تحت عنوان حملة زراعة الحلزون، والذي جاء بمبادرة من منظمة الأمين، حيث بدأ العمل فعلياً على إجراء عمليات زراعة القوقعة لمئات من الأطفال السوريين من فاقدي السمع بدعم مالي وميداني من جهات سعودية وفريق سعودي متطوع من أطباء وممرضين وفنيين ممن لا يزالون يؤمنون بالأخوة بين الشعوب ولديهم مشروع إنساني متقدم.
لم يتوقف المشروع عند فاقدي السمع، فثمة مركز في غاية الأهمية قامت المنظمة بإنشائه أيضاً وهو مركز إعادة التأهيل حيث تتم فيه زراعة أطراف لمن تعرضوا لإصابات أدت إلى فقدانهم بعض أطرافهم كاليدين والرجلين من الأطفال ضحايا الحرب أو الزلزال، فضلاً عن إعادة تأهيل المكفوفين من خلال توفير برامج تعليمية تؤهل المكفوفين لتعلم القراءة والكتابة والرياضيات وترعى مواهبهم لتعيد دمجهم في الحياة وفي المجتمع بصورة فاعلة ومتميزة.
في هذا السياق، وتزامناً مع إطلاق المبادرة، قامت منظمة الأمين بدعوة مجموعة كبيرة من الفنانين والإعلاميين ليكونوا شهوداً على فرحة الأطفال المعنيين بعودة الحياة لأحد أعضائهم الحيوية الميتة، وفرحة أهاليهم بذلك التحول الهام الذي يحدث أمام أعينهم بعد سنوات من المعاناة واليأس.
إنه حدث لا يتكرر كثيراً، بل هو حدث يعيد الحياة لكثير من مشاعر السوريين التي تيبست من جراء الأخبار اليومية التي اعتادوا على سماعها منذ سنوات طويلة عن سوريين يفقدون أعضاءهم نتيجة القصف والإصابات التي باتت حدثاً يومياً اعتيادياً منذ أن أعمل النظام آلته العسكرية ليحصد أرواح السوريين أو يسبب لهم الإعاقات المختلفة.
ورغم مأساتهم ومعاناتهم، لم يسلم السوريون الناجون من جحيم نظام الأسد من غدر الطبيعة حيث جاء زلزال العام الماضي ليضيف إلى المأساة السورية نوعاً جديداً من القسوة، ويحيل الكثير ممن لم يقضوا تحت الركام إلى معاقين نتيجة فقدانهم لعضو أو أكثر من جسدهم.
ما حدث خلال كل السنوات الماضية لم يترك أمام السوريين متسعاً للفرح وهم يواجهون التهجير والشتات والملاحقة والطرد ومختلف أنواع التضييق والتمييز والظلم بعد أن واجهوا مختلف صنوف الموت والإبادة، ولكن نقطة بيضاء في الثوب الأسود تستطيع أن تحيي بعض الآمال الميتة وأن تكون فواصل مبهجة في الملحمة المأساوية الطويلة التي عاشها السوريون ولا يزالون.
في هذا الإطار جاءت حملة زراعة الحلزون وما رافقها من عمليات زراعة الأطراف وتأهيل المكفوفين لتكون حدثاً استثنائياً هارباً من التراجيديا الدامية، صانعة بقعة نور جديدة في كتاب التغريبة السورية المظلم، في عمل لا يمكن وصفه بوصف آخر غير البطولة نظراً للجهود الكبيرة والجبارة التي بذلها أولئك السوريون المهمومون ببلدهم والمسكونون بهواجسه للوصول إلى تحويل ذلك الحلم إلى حقيقة.
وفي الطريق من مدينة غازي عنتاب التركية إلى مركز إعادة التأهيل في مدينة الريحانية، كان ضيوف الفعالية من فنانين وإعلاميين مشغولين بأحاديثهم اليومية ولم يحتل الحدث الذي تمت دعوتهم للمشاركة فيه جانباً كبيراً من نقاشاتهم رغم أهميته، حيث لا تزال تفاصيل ذلك البرنامج مجرد تصورات حيادية لا تعبر عن قسوة الواقع الذي سيواجهه الضيوف عما قليل ولا عن ضخامة الإنجاز.
كان من بين الضيوف مجموعة من نجوم الصف الأول الذين غالباً ما يصطحبون نجوميتهم معهم أينما حلوا، ولكن وفي أول مواجهة مع الأطفال فاقدي السمع تراجع الإحساس بالنجومية لدى الفنانين وتوارى بعيداً وتحول الفنانون إلى جمهور لأولئك الأطفال الذين خضعوا لعمليات زراعة الحلزون أو أولئك الأطفال الذين زرعت لهم أطراف صناعية وهم يحاولون التعامل معها والتعود عليها، وبات الأطفال هم النجوم الفعليين، الأبطال الحقيقيين لرواية مختلطة بمشاعر التراجيديا العميقة ذات النهايات السعيدة. فليس هذا المكان عبارة عن لوكيشن تصوير لمسلسل درامي، وليس استوديو لتسجيل فيديو أو أغنية، ولا قاعة محاضرات يعيش فيها البعض إحساس الأستذة، وإنما هو جزء حقيقي من واقع السوريين، أما قاطنو المكان فليسوا بالتأكيد جمهوراً لأولئك المشاهير الذين تحولوا إلى جمهور متنازلين عن بريق الشهرة الذي أطفأه الواقع الذي واجهوه، فنجومية الحدث طغت على كل شيء، ذلك الحدث المليء بمشاعر الدهشة والسعادة والحزن العميق، الحدث الذي جمع متناقضات المشاعر كلها في جعبة واحدة ودفع ردود الأفعال للاحتيال على الصمت واقتناص تعليق أو ابتسامة أو كلمة تشجيع أو عبارة تعاطف، وفي أحيان كثيرة كان الأطفال المصابون مصدر طاقة إيجابية للضيوف من خلال تفاؤلهم وطموحاتهم وإصرارهم على الحياة والتحقق رغم أوضاعهم الصحية الصعبة.
كان النجوم الحقيقيون في ذلك الحدث هم صناعه، وهم كل من شارك في جزء من المشروع الطموح ذي الطابع الإنساني البحت، سواء أعضاء المنظمة أو الإعلاميون القادمون من الداخل والذين كانوا همزة وصل أساسية بين أصحاب الاحتياج وأصحاب القرار، وأيضاً المنفذون الفعليون للمشروع من أطباء وممرضين وتقنيين متطوعين ومندفعين لرؤية ناتج سعيهم الإنساني والذي تفوق على أي إحساس آخر.
في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى نقطة جوهرية تتعلق بالمنظمات الإنسانية كمؤسسات وكيانات، وأساليب عملها، فقد باتت كلمة المنظمات الإنسانية تثير الحساسية وربما التشكيك لدى أكثر السوريين نتيجة المتاجرة من قبل الكثير من تلك المنظمات بالمحتاجين والتكسب على حساب أزماتهم، وقد شهدت سنوات الثورة الكثير من الجهات التي توارت خلف تسمية العمل الإنساني فسرقت أكثر مما أنجزت، وبعضها كان لا يترك من الدعم المخصص للاحتياجات الإنسانية سوى الفتات وبعضها كان يسرق التمويل كاملاً، ولهذا فإن الثقة في تلك المنظمات باتت معدومة سلفاً من قبل السوريين بعد تراكم التجارب الفاشلة والتي انتهت في بعضها إلى فضائح مالية.
غير أن ما فعلته منظمة “الأمين” يعيد الثقة والأمل بوجود سوريين يعملون للصالح العام ويقتحمون ميادين كانت بالأمس مجرد حلم بعيد المنال كما يعيد الأمل بفكرة العمل الإنساني، ويعيد الثقة بعمل المنظمات وذلك بالنظر إلى حجم الإنجازات من ناحية، وحالة الشغف واللهفة التي كانت واضحة على القائمين على هذا الحدث الاستثنائي والذي أجمع كل من حضره على مدى أهميته وضخامته ونبالته.
تلفزيون سوريا