الحرب الباردة الجديدة: تحليل جلبير الأشقر لصراع القوى العظمى/ مفيد تجم
2 – يوليو – 2024
أهمية كتاب الباحث والأكاديمي جلبير الأشقر «الحرب الباردة الجديدة: الولايات المتحدة وروسيا والصين»- دار الساقي 2024 تنبع من محاولة الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الراهنة تتعلق بأسباب تجدد ظهور هذه الحرب بعد أن كان سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومته الشيوعية كفيلا بإنهاء حقبة الحرب الباردة السابقة والانتقال إلى مرحلة جديدة من التعاون والتنسيق لتحقيق السلم والأمن الدوليين. لكن قبل الخوض في تاريخ ظهور هذا المصطلح القديم – الجديد يكشف أنه كان أول من تحدث عن هذه الحرب قبل أن تبدأ دراسات بعض الباحثين الأمريكيين في الحديث عنها، إلى أن تطور هذا الحديث وأخذ يتردد في دراسات منظري السياسة الأمريكيين. يختلف المؤرخون على تاريخ ظهور مصطلح الحرب الباردة، إذ يعيده البعض منهم إلى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 واستمر حتى سقوط جدار برلين، وتوحيد ألمانيا وتفكك الاتحاد السوفييتي، بينما يذهب مؤرخون آخرون إلى أن تاريخ ظهوره يعود إلى عام 1981 الذي شهد وصول رونالد ريغان إلى رئاسة الولايات المتحدة.
لقد كان للتحولات السياسية التي شهدتها الساحة الدولية بعد عام 1990 أثرها الواضح في إعادة التوتر إلى العلاقات الدولية وبالتالي اعتراف مراكز الأبحاث وصانعو السياسة الأمريكية بحقيقة هذا الوضع الدولي الجديد، خاصة بعد ظهور التحالف غير الرسمي بين الصين وروسيا. وقبل أن يتناول الباحث المتغيرات التي طرأت على الساحة الدولية واستدعت عودة هذه الحرب، يعمد الباحث إلى تصحيح بعض المفاهيم القديمة التي كانت تقف وراء ظهور هذه الحرب سابقا، نافيا أن يكون الجانب الأيديولوجي هو محورها، لأن ظهور هذا المصطلح بمعناه المعاصر يعود إلى الزعيم الاشتراكي الألماني والماركسي التصحيحي، كما يصفه إدوارد برنشتاين في القرن التاسع عشر، وقد مرّ هذا المصطلح بمراحل تاريخية ترافقت مع سباق التسلح بين الاتحاد السوفييتي والغرب، بهدف الإبقاء على حالة الجاهزية لشن الحرب على الطرف الآخر، حيث ترتب على هذا الواقع نشوء ما يسمى باقتصاد الحرب والمجتمع العسكري – الصناعي.
مبررات الحرب الباردة الجديدة من وجهة نظر أمريكية
يعرض الباحث الأشقر للأعداء المفترضين للاستراتيجية الأمريكية الهادفة للسيطرة على العالم بعد تربعها كقطب وحيد على عرش النظام العالمي، وهما الصين وروسيا. أما الأسباب الكامنة وراء هذا الموقف بالنسبة لصانعي السياسة الأمريكية فتتمثل في سلوك هاتين الدولتين غير القابل للتوقع على المدى المتوسط والبعيد، مع الأخذ بعين الاعتبار الحجم المادي لهاتين الدولتين، الذي يجعلهما في موضع المقارنة مع أمريكا، ما يستدعي من الأخيرة رفع مستوى الجاهزية العسكرية. ولأجل تأكيد هذه الحقيقة يلجأ إلى البحث في التفكير الاستراتيجي الأمريكي، كما تكشف عنه الوثائق الموازية شبه الرسمية، لاسيما ما يخص التقييم الاستراتيجي الصادر عن معهد الدراسات القومية لعام 1997، الذي يشير بوضوح إلى انعدام الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين.
في المقابل فإن خيبة روسيا من تدفق الدعم المالي الغربي، وإجبارها على التسليم بتحييد دول البلطيق على أمل الانظمام إلى حلف الناتو والمنظمات الغربية جعل العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة تراوح في المنطقة الرمادية. أما بالنسبة للصين الوجه الجديد الصاعد على الساحة الدولية فقد خضعت العلاقات معها لتأثير التحالفات القائمة في منطقة المحيط الهادي وموازين القوى بين البلدين. في ضوء هذا الواقع فإن المعضلة التي واجهتها الولايات المتحدة فتتمثل كما يراها الباحث في كيفية إدارتها للنظام الجديد للعالم. لقد تجلت هذه المعضلة في الانقسام الذي حدث بين المنظرين وراسمي السياسة الأمريكية من الحمائم والصقور. ففيما رأى تيار الحمائم أن سلوك روسيا يمكن تحسينه أبدى التيار المتشدد تشاؤمه من هذه الرؤية، وقد ساهم تطور الوضع في روسيا وحرب كوسوفو في تبني زيادة التوتر في العلاقات بين روسيا وأمريكا، وفي تبني الأخيرة لسياسة توسيع حلف الناتو باعتباره خطوة استباقية لمواجهة احتمال ظهور قوة مهيمنة يمكن أن تواجه أوروبا.
مواجهات على رقعة الشطرنج الدولية
اعتبر حلف الناتو أن التوغلات العسكرية الروسية في القرم ودعم الروس الانفصاليين في شرق أوكرانيا وتدخلها في جورجيا، بمثابة تغيير في البيئة الأمنية التي اشترطت ما دفع به إلى تعزيز وجوده العسكري في الجزء الشرقي من الحلف. ويرى الباحث أن مجيء أكثر الإدارات الأمريكية هوسا بالحرب مع جورج بوش الابن عام 2000 ساهم في توسع دور الولايات المتحدة شرقا، بينما وجدت روسيا في انضمام دول البلطيق للناتو تحديا كبيرا لها. وفي قراءة لخلفيات الهاجس الأمني الروسي في هذا السياق يستعيد الباحث دور روسيا الاستعماري والهزائم التي واجهتها من قبل الأعداء، ما دفعها في الحرب العالمية الثانية إلى توسيع سيطرتها المباشرة والوسطى على دول أوروبا الشرقية. وهنا يعود مرة أخرى لتأكيد غياب البعد الأيديولوجي عن أهداف هذا التوسع، الذي كان بمثابة محاولة لتوسيع المنطقة العازلة التي تحمي قلب روسيا من أي عدوان مجددا. لكن تمدد حلف الناتو إلى دول البلطيق التي تعد مجالا حيويا بالنسبة لها ساهم في تأزم العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة، خاصة بعد رفض حلف الناتو التفاوض حول المطالب الروسية، وعدم الرغبة في دمج روسيا في المجتمع الدولي، إضافة إلى عدم المبالاة إزاء الاستعدادات العسكرية الروسية لغزو أوكرانيا.
صعود فلاديمير بوتين
تجاهلت الولايات المتحدة أطروحات وليم بيري في تقديم مساعدات اقتصادية سخية لروسيا، والعمل على دمج روسيا في المجتمع الدولي، وما يمكن أن ينجم عنها من انهيار للاقتصاد الروسي وانتشار للفقر سيؤدي إلى جعل المجتمع الروسي أكثر استقطابا. وكان طبيعيا أن يرث بوتين الواقع الذي خلفه بوريس يلتسين، سواء على مستوى الفشل الاقتصادي المريع لسياسية العلاج بالصدمة التي انتهجها أو مستوى السلطة التي جمعها في يده. ويرى الباحث أن بوتين جاء نتاجا مباشرا لتلك السياسات، إذ عمل على بناء نظام سياسي شبه سلطوي أو نيو فاشيا كما يصفه. لكن بوتين على الرغم من محاولاته الدؤوبة للاندماج في المجتمع الغربي وحلف الناتو كشريك في تقاسم النفوذ والمصالح، سيتخلى في ما بعد عن هذه السياسة. وهنا كان يمكن للباحث التوسع في الكشف عن الدوافع الخفية لسياسة بوتين الهادفة إلى لعب دور مركزي بالاستناد إلى قوة روسيا العسكرية وثرواتها الطبيعية، أو على الأقل تجنب التهديد الذي يمكن أن يشكله توسع حلف الناتو إضافة إلى المصالح المالية والاقتصادية التي يمكن أن تحققها أوروبيا، على الأقل من خلال الدخول في تحالف مع الغرب.
ومن أجل فهم موسع للعلاقات الروسية الأمريكية وللأساليب التي اتبعها بوتين في مركزة السلطة في يده وتعيين المقربين منه في مراكز الدولة الحساسة، وزيادة سيطرة الدولة على قطاع النفط والغاز وتعزيز أجهزة أمن الدولة وتحديث الصناعة العسكرية الروسية، يقسم الباحث مراحل حكم بوتين حتى الآن كان الحدثان الأكبر فيهما غزو سوريا في محاولة لامتلاك مجموعة من الأوراق الرابحة، التي يمكن أن تساعده في علاقاته مع الولايات المتحدة والغرب ودول الخليج وإسرائيل وتسهم في تحويله إلى شريك اقتصادي رئيس، لاسيما مع بدء إعمار سوريا. ويؤكد الباحث في هذا الصدد أن ما شجع روسيا على هذه المغامرة هو غياب الاستعداد الأمريكي لتصعيد تدخلها هناك ومنعها حلفاءها من تقديم أسلحة الصواريخ المحمولة على الكتف للمعارضة السورية. لكن فشل روسيا في إخراج إيران حرمها من جني هذه الثمار ويعيد الباحث سببا آخر لسياسة القوة التي اتبعها بوتين، تجلت في احتلال شبه جزيرة القرم ودونباس. لكن هذه السياسة سوف تنتهي إلى عواقب وخيمة تجلت في الغزو الروسي الفاشل لأوكرانيا.
الصين ونهاية الصعود السلمي
ساهم سقوط الاتحاد السوفييتي في تغير الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصين في عهد الحكومات الأمريكية المتعاقبة، فبعد أن كانت تقوم على منع التعاون الصيني مع روسيا أخذت تعمل على دعم النزعة الاستقلالية في تايوان. لذلك يعتبر الباحث أن أزمة تايوان في عام 1996شكلت اللحظة المناسبة لدخول الصين الحرب الباردة الجديدة إلى جانب روسيا. في هذا السياق يرصد انعكاسات هذا التحول على السياسة الداخلية الصينية، كما ظهر في زيادة مستويات الإنفاق العسكري الصيني وفي الجهود الكبيرة التي بذلتها في تطوير قدراتها العسكرية، في حين لجأت الصين خارجيا إلى القيام بمشاريع اقتصادية إقليمية ودولية تتمحور حول الصين إضافة إلى إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في أعمال البنية التحتية، بينما لم تتوقف السياسة الأمريكية عن استفزازها من خلال الأحلاف العسكرية التي عملت على إنشائها في المنطقة. لقد أدى هذا السلوك الأمريكي إلى تعزيز العلاقات الصينية – الروسية في أواخر تسعينيات القرن الماضي، عندما اتفقا على دعم التعددية القطبية في العالم ومعارضة توسع حلف الناتو. وعلى الرغم من محاولات الصين إبداء الحياد تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا إلا أنها امتنعت عن إدانته كذلك لم تشارك في فرض العقوبات على روسيا وفي الوقت نفسه خافت من العمل على مواجهته هذه العقوبات، خوفا من انعكاسات العقوبات التي يمكن أن تتعرض لها على التنمية السلمية لديها. وعلى عكس ما هو شائع يذهب الباحث إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا لن يشجع الصين على غزو تايوان، إلا كملاذ أخير لأن الاضطراب الكبير الذي أصاب الاقتصاد الروسي سوف يعرض الاقتصاد الصيني للخطر.
وماذا بعد
يحاول البحث في استعراضه للأحداث الدولية التي رافقت دعوة حلف الناتو في الذكرى الخمسين لإنشائه، ثلاثا من دول أوروبا الشرقية الانضمام إليه. وقد ترافق هذا الحدث مع انخراط الحلف في حرب كوسوفو لكن لن يمر عام 2022 إلا وقد تضاعف عدد الدول الأعضاء فيه. وبينما كان الحلف يعاني من صدمة الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليعيد الحيوية إليه بعد الاستفزازات التي قام بها بوتين خلال غزو جورجيا، واحتلال شبه جزيرة القرم. ويرى الباحث أن حالة الخمول التي كان يعاني منها الحلف هي التي شجعت بوتين على مغامرة غزو أوكرانيا، التي جاءت بنتائج عكسية عندما ساهمت في انضمام دولتين قويتين عسكريا واقتصاديا (فنلندا والسويد) إلى الحلف. إن روسيا التي كانت تنفق نسبة أعلى من ناتجها المحلي مقارنة مع أي دولة من دول حلف الناتو، بينما سارعت الولايات المتحدة في زيادة إنفاقها العسكري، حيث استغلت أمريكا الغزو الروسي لحث دول الحلف على زيادة الإنفاق العسكري بشكل كبير، في الوقت التي عملت سياسة الرئيس بايدن تجاه الصين على مزيد من الاستفزاز لها. ويخلص الأشقر إلى سياسة الولايات المتحدة الأمريكية التي تدفع العلاقات الدولية نحو الهاوية، تتجاهل القضايا العالمية الكبرى التي تحتاج إلى حلول جدية مثل أزمة المناخ والأوبئة وانعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية على دول العالم، حيث يرى أن البديل لهذه السياسات الأمريكية هو العودة إلى ما أنجزته البشرية للحفاظ على السلم وتنظيم الجهود العالمية لمعالجة المشاكل التي تواجهها البشرية.
كاتب سوري
القدس العربي