باحثة برازيلية ترصد عودة الفاشية: فوضى المعنى
تحت قناع التسييس المفرط والمعلومات الفائضة
عماد الأحمد
13 يوليو 2024
يقول أمبرتو إيكو في مقاله “الفاشية الدائمة”: “يمكن للفاشية الدائمة أن تعود مقنّعة بمظهر بريء، ومن واجبنا أن نكشفها ونشير بأصابعنا إلى أي شكل من أشكالها الحديثة كل يوم في كل جزء من العالم”.
هيمنت الفاشية منذ العشرينات حتى الأربعينات من القرن الماضي على أجزاء كبيرة من أوروبا الوسطى والجنوبية والشرقية، وانتشرت تأثيراتها في جنوب أفريقيا واليابان وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. ورغم اختلاف الحركات الفاشية بعضها عن بعض، فإن مشتركاتها كثيرة أيضا، وأهمها النزعة القومية العسكرية المتطرفة، يُضاف إليها الازدراء الواضح للديمقراطية والليبيرالية السياسية والثقافية، وإخضاع المصالح الفردية لمصلحة الأمة وروح الشعب. وتفككت الأحزاب الفاشية الأوروبية الكبرى، لكن تيارات وجماعات فاشية أوروبية جديدة في إيطاليا وفرنسا اكتسبت الكثير من الأتباع، ولم تصل هذه التيارات الفاشية الجديدة بالطبع إلى زخم وتنظيم الفاشيات الكبرى في فترة ما بين الحربين العالميتين.
تدرس الظاهراتية ببساطة عملية فهمنا للعالم ولا تركز على تفسيره. فموضوع الدراسة في الظاهراتية هو تفسير العالم بوصفه شكلا من أشكال الفكر. إذ أن دراسة ظاهرة مثل الفاشية لا بد أن تقوم على دراسة وعينا وإحساسنا بها، وأنواع الخبرة الإنسانية التي تشمل كلا من التصورات والفكر والرغبة والاختيار والفعل الرمزي والتمثيلي والنشاط اللغوي والنشاط الاجتماعي، لدراستها كظاهرة ومعنى موجود في خبرتنا الواعية.
صدر عن “منشورات بلومزبيري” نهاية شهر مارس/آذار الماضي بالإنكليزية كتاب “فاشية الغموض: دراسة مفاهيمية” (2024) للبروفسورة البرازيلية مارسيا كافالكانتي شوباك، الذي نشر للمرة الأولى بالبرتغالية عام 2022، تدرس فيه فكرة الغموض وانعدام المعنى الذي تحول إلى فاشية تحركنا اليوم وتهدّد مستقبلنا، تحت قناع التسييس المفرط والمعلومات الفائضة.
يشار إلى أن كافالكانتي أستاذة الفلسفة في جامعة “سودرتورن”في السويد، ومتخصصة في المثالية الألمانية والهرمينوطيقا، والفلسفة المعاصرة، وصاحبة ترجمة كتاب هايدغر “الوجود والزمن” إلى البرتغالية.
جان لوك نانسي: إدمان الغموض
كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل في أغسطس/آب من عام 2021 في مقدمته لهذا الكتاب: “لقد تعامل اليسار الفرنسي مع ديغول بوصفه فاشيا بسبب المسألة الجزائرية عام 1958”.
هكذا كانت الفاشية في تلك الأثناء توصيفا لاجتماع جميع أنواع الاستبداد والشمولية والتضييق القومي والتمييز العنصري منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحملت جميع هذه المفاهيم مجتمعة ذلك الشر السياسي الأكبر الذي يطلق عليه “الفاشية”.
تحول هذا المصطلح اليوم ليحمل دلالات مختلفة تتضمن “السيطرة” و”التعبئة التكنولوجية” ودمج المجتمع المدني بالدولة، وتغوّل الكيانات الاقتصادية التقنية.
تتدخل الفاشية كما يرى جان لوك نانسي في تغيير العادات والأساطير التي تمثل بعداً مهماً في الثقافة العميقة للمجتمع، وذلك من خلال التلاعب بالدلالات والقيم. وهذا ما يشكل برأي نانسي المنطلق الأساسي لكتاب كافالكانتي. إذ لم تعد الفاشية، كما كانت من قبل، بحاجة إلى ترسانة دلالات ومعان أسطورية مستقاة من ماض عريق مفترض، بل تكتفي اليوم باللعب بالغموض الناتج من الهيمنة على الآراء والاتجاهات العامة وتعقد العلاقات بين الدول والأطراف ذوي المصالح الخاصة، والشهية العامة للابتكار في التقنية و”التحديث” اللذين أصبحا اليوم القاعدة الثقافية.
الفاشية اليوم أيديولوجيا أسطورية للرضا الفردي المتعدد الأشكال الذي يكرر نفسه إلى ما لا نهاية، ويغرق الأغنياء في التجارة والأعمال والاستهلاك، ويبتلي الفقراء بالفقر والكراهية. يشكل كل من الكوكايين-أو الهواتف الذكية- مثلين جيدين على هذا الفاشية الجديدة التي لا يمكن توصيف الواقع الذي تنتجه سوى بالإدمان المزمن. فما هو الإدمان سوى الهروب من الواقعي والرمزي، أي الوجود الذي يكتنفه الغموض وتتأصّل فيه حالة انعدام اليقين.
دينامو العولمة
تلخص كالفاكانتي في مقدمتها هدف الكتاب في تقديم بحث مفاهيمي أكثر من سعيها إلى تحليل السياسات الفاشية المنتشرة في جميع أنحاء العالم. لذلك اتبعت أسلوب التفكير الديناميكي الإبداعي الفعال المستمر الذي يولد المفاهيم، وذلك لفهم الاتجاه المحافظ الذي يتعلق لدى غالبية الباحثين السياسيين بحالة شعبوية يمينية أكثر من تعلقه بالفاشية.
تعتمد كالفاكانتي على رؤية بازوليني السينمائية الشعرية كنقطة انطلاق لبحثها لتحديد العناصر الجديدة في الفاشية الجديدة، والإشكالات التي يثيرها الشكل الجديد للرأسمالية، الذي يمكن تسميته بالنزعة الكوكبية التكنولوجية والسياسات النيوليبرالية، التي تمثل الدينامو الأساسي للعولمة، وها هو الشكل الجديد للفاشية.
وجدت كالفاكانتي في هذه المفاهيم الطرق الجديدة لفرض المعنى القاطع للفاشية عبر آلية إسباغ الغموض على أي معنى كان، من خلال الإفراط فيه وتفاقمه إلى درجة إفراغه من المعنى. وتسمي الكاتبة هذه الفاشية بوضوح “فاشية الغموض”.
تقترح الباحثة سياسة المعنى التي يمكن ممارستها كتمارين على الدقة، لمناهضة سياسة عدم التسييس الفاشية القائمة على غموض الحواس والمعاني. لا تشكل الدقة المقصودة هنا الأشكال القديمة من الأيديولوجيا الشمولية التي تفرض المعاني الأحادية، بل الدقة الفنية والشعرية والموسيقية.
موسوليني: أيقونة الفاشية
تدرس الباحثة في الجزء الأول من الكتاب الذي عنونته “دروس من التاريخ: فاشية موسوليني” آراء موسوليني نفسه، من خلال تحليل ما كتبه مع الفيلسوف الإيطالي جيوفاني جينتيلي حول الفاشية في طبعة عام 1932من “الموسوعة الإيطالية”، حيث أكدا فيه العقيدة الجديدة التي تستند إلى الحكمة، والتفكير التنبوئي والطموح واللاعقيدة، أي أسلوب جديد للغة الأيديولوجية وليس أيديولوجيا جديدة.
كما أكد موسوليني العقيدة النظرية وعقيدة الفعل والنزعة العاطفية التي تكتنف التعبئة المطلوبة لهذه العقيدة، أي أن الفاشية تدّعي أنها لا تريد المزيد من النظريات، ولا المزيد من الكلمات. فالفاشية مشوّهة لأنها لا تدعو للتحول، بل لتشويه العالم وإفنائه، أي استبدال معاني التحول والتطور بالمعاني الصارخة للتخريب. يقول موسوليني: “الحرب وحدها هي التي تدفع كل الطاقات البشرية إلى أقصى درجات التوتر وتسم بالنبل تلك الشعوب التي تتمتع بالشجاعة لمواجهتها”.
وتستعين كالفاكانتي بعد الاستفاضة في تحليل الخطاب الفاشي في تلك المقالة بفيلم جان لوك غودار الوثائقي “كتاب الصورة” (2018) الذي يعرض قطوفا من كتابات جوزيف مايستر (توفي في 1821) المفكر المضاد للثورة الذي تستند على أفكاره حركة اليمين الفرنسي الجديدة اليوم، وتلخص هذه القطوف منطلقات هذا التيار في عبارات مثل “الحرب الإلهية” و”الأرض الغارقة بالدماء” و”المذبح الذي ينبغي أن يموت عليه الجميع” وكيف ينبغي لـ”كل شخص منا التضحية للقضاء المبرم على الشر”.
تدفع التعبئة الشاملة والتسارع الأقصى لكل الطاقة البشرية إلى نقطة توترها الأعلى الفاشية لتغدو سياسة الموت، سياسة الموت التي تجعل النهاية الشاملة هدفها الرئيس.
نقد الفاشية التاريخية
في الجزء الثاني من الكتاب بعنوان “دروس من النقد: بعض عناصر نقد الفاشية التاريخية”، تتعمّق الكاتبة في النقود التي كتبت ضد الفاشية التاريخية، حيث تؤكد كالفاكانتي محدودية جميع التحليلات الخاصة بالفاشية التي لا تلقي بالا لتسارع التقدم التكنولوجي وحشد وتسريع تعبئة الطاقة البشرية إلى أعلى مستوياتها.
لقد درس غرامشي ممارسات الهيمنة الثقافية التي تؤمن سلطة وسيطرة النخب البورجوازية، وتحدث عن قدرة الرأسمالية والليبيرالية على استيعاب جميع الأفكار الاشتراكية والماركسية، بل والاستحواذ عليها وملئها بالغموض لتفريغها من معانيها.
تستحوذ الفاشية الجديدة اليوم على مفهوم الهيمنة الثقافية الغرامشي أيضا وتبطل مفعوله لينحل في معنى الثقافة نفسه في الرأسمالية الكوكبية التكنولوجية. ولكن الفاشية الكلاسيكية تنقصها لتتقاطع مع الفاشية الجديدة تلك الطفرة الأنطولوجية المتمثلة في العولمة.
كتب الشاعر الفرنسي بول فاليري في 1897عن التعبئة العسكرية في ألمانيا التي تحولت إلى تعبئة اقتصادية، أصبحت أسلوب تجربة متواصلة يعمل على التخلص من المصادفة والقضاء على الإبداع، ومن يومها التبس معنى مفهوم الإبداع بمفاهيم الابتكار والتصميم.
يفتح ظهور التقنيات الحديثة الباب على مصراعيه للرغبة في تحقيق الحرية الجامحة الهائلة التي تتمثل في الرغبة في كل شيء، ليتحدّد وفق هذه المعايير المعنى التقني للسعادة نفسها.
وتلخص عبارة من مسرحية “كاليغولا” لألبير كامو عندما يتحدث إلى زوجته سيزونيا، الروح الحقيقية للفاشية: “أنا أعيش، إذن أنا أقتل، إذن أنا أمتلك عظمة مدمر، التي أمامها تصبح عظمة المبدع لا شيء يذكر. هذا ما تعنيه السعادة-الحرية المطلقة”.
يتنبأ فاليري مبكرا بألمانيا النازية التي تنتج فردا عبارة عن كتلة طيّعة مطيعة يسهل تعبئتها لتوصيل كل طاقته إلى أعلى درجات التوتر. مما يفتح أمامنا الآفاق لفهم أطروحة غرامشي التي تقول إن الليبيرالية والفاشية وجهان لعملة واحدة، وكيف يختار البشر بأنفسهم نظاما قمعيا في جوهره. فالإنتاج القائم على التكنولوجيا يؤدي إلى طفرة في العلاقات الاجتماعية أيضا. تعترف كالفاكانتي في نهاية بحثها بعد تقديمها مثلين عن تمارين على الدقة، الأول شعري والآخر موسيقي، بأن البحث المفاهيمي غير قادر على الإتيان بنتيجة، ولم يكن هذا غرضه أساسا، بل يشكل خطوة في طريق الانفتاح على المزيد من الأفكار والحوارات والنقاشات، والإضاءة على المسكوت عنه. وترى الباحثة أن الشكل الجديد للفاشية يقوم على طريقة عمل الرأسمالية التكنولوجية التي تفرغ الحواس والقيم والمعاني.
تقوم الفاشية على إحلال سياسة الموت محل الرغبة في التطور والتحول، وتحويل كل معنى إلى قيمة مادية، وكل شيء إلى أي شيء، والقضاء على الاختلافات الفردية الخلاقة والتطبيع مع كراهية الآخر واستعمالها كقوة للتغيير والتحول.
المجلة