صفحات الثقافة

العبودية الحديثة، الرأسمالية أيضا فكرة: ماذا حلّ بإله والد حازم صاغية؟ / أحمد مولود الطيّار

ينتصر حازم صاغيّة في نصه الطويل جداً، والممتع جداً، للندن على حساب موسكو. لندن، وفقاً لصاغيّة أو هكذا نستنتج، تمثل الواقع السيّال الذي تنطلق منه الفكرة وتعجن لصالح الواقع، على العكس منها موسكو السوفييتية التي تريد خياطة الواقع وفقاً لفكرة مصممة سلفاً، مما أسفر في النهاية عن تصدع موسكو وانهيارها.

في بعض أصول الفكرة السيدة، في بعض أصول الواقع العبد، (نص مقال حازم صاغية موضوع هذه الدراسة القيمة في نهاية هذا المقال) هكذا عنون الكاتب والباحث اللبناني حازم صاغيّة نصه الطويل، مع عنوان فرعي “سيرة إمبراطورية الفكرة مع أفلاطون، أوغسطين، وتوماس مور”. قد يكون العنوان الفرعي مخادعاً نوعًا ما، فصاغية، وإن كان يستعرض طوال النص سيرة تلك الإمبراطورية من خلال أفكار أفلاطون عن المدينة الفاضلة، وتأثير الفكر المسيحي من خلال أوغسطين، والرؤية اليوتوبية لتوماس مور، إلا أن هدفه كان تسليط الضوء على الفجوة بين هذه الأفكار المثالية والواقع الفعلي للمجتمعات. أوضح كيف أن تلك الأفكار بقيت نظريات صعبة التطبيق وقادت إلى الفشل في ظل تعقيدات الحياة الواقعية التي لم تعرها تلك الأفكار والإيديولوجيات الاهتمام الكافي. كانت تلك الأفكار المثالية أشبه تماماً بسرير بروكست؛ حيث يتم لي الواقع ليتناسب مع النظرية.

رغم ذلك، افتتح صاغيّة نصه بالقول: “عندما كنتُ ماركسيّاً، كان أبي «اليمينيّ» يسألني: «إذا خُيّرتَ بين العيش في لندن والعيش في موسكو، فأيهما تختار؟”. وفي نهاية النص، يقدم صاغيّة اعتذاره المتأخر لوالده لأن إله والده كان أبسط من إلهه، حيث “أقام في زاوية ضيّقة من زوايا الحياة مردوعاً عن التدخل فيها، بينما كان إلهي أكثر ادّعاءً وأشدَّ تدخلاً وأوفرَ ضيقاً بالتجريب وبالتعايش مع سواه، وفي عداد هذا السِّوى البشر بآرائهم وأهوائهم ورغباتهم التي قد لا تعجبنا.”

استعارة صاغيّة الإلهية دفعت هذا النص للبحث عن إله الليبرالية والرأسمالية، إله والد صاغية، وماذا حل به! هل لا يزال يقبع متواضعاً في زاوية ضيقة من زوايا الحياة مردوعاً عن التدخل فيها أم بات متغطرساً جباراً عنيداً يتدخل في كل شؤون حياتنا، يعدّ علينا أنفاسنا، يقولبنا، يهندس ميولنا وأذواقنا، ويصنع قيمنا؟ والجواب الذي نتحصّل عليه بعد فحص “الواقع” ومن مراجعة ما آلت إليه الليبرالية في بعض معاقلها مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا؛ هناك مؤشرات تبرهن على أن ذلك الإله بات طاغية ويتوجب تحطيمه؛ لا لشيء سوى لتخليص الإنسان من براثنه، الإنسان الذي أنبت الليبرالية كلّها من أجل سعادته.

بداية، لا بد من التنويه أن هذا النص لا يهدف إلى الدفاع عن موسكو السوڤييتية أو الأيديولوجيا الشيوعية، أو أي فكرة مثالية أخرى، ولا يختلف مع كل التأصيل الذي قدمه صاغيّة لأصول تلك “الفكرة السيدة”؛ فما أثاره هو أن صاغيّة في نقده المحقّ لتلك الأفكار يستثني – عبر انتصاره للندن على موسكو – الرأسمالية كفكرة، ويوهم قارئه من خلال ذلك الانتصار و”الاعتذار المتأخر” الذي قدمه لوالده “اليمينيّ” بأن الرأسمالية هي النموذج الأمثل، من خلال تنميطات وثنائيات ينتقدها النص ثم يقع فيها؛ وحقيقة أن “الأعمار الأطول والتعليم الأفضل والحريات الأفضل” في لندن أو نيويورك أو ڤانكوڤر هي فعلاً أفضل مما في موسكو أو وارسو أو بودابست، ولا ينكرها عاقل، إنما هي ثنائية ومقارنة بين نموذجين رأسمالي واشتراكي. وإذا كان الثاني قد انهار وتحطم؛ فهذا لا يعني أن الأول بصحة وعافية، والواقع والأرقام التي يمجدها صاغيّة في نصه المشار إليه، تؤكد أن الرأسمالية تدخل في منعطف خطير سيودي بكل منجزات الغرب والإنسانية وسوف نأتي على ذلك. لذلك، كل ما يبتغيه هذا النص هو استئناف ومتابعة، والبحث عن مصير إله والد صاغيّة، وما هي التحولات التي مرّ بها؟ وماذا حل به؟ وإلى أين يقود البشرية؟

الرأسمالية فكرة

عندما يتحدث المرء عن الرأسمالية، يأتي التعريف المبسّط والمدرسي بأنها نظام اقتصادي حيث تكون وسائل الإنتاج مملوكة للأفراد أو الشركات الخاصة، ويكون النشاط الاقتصادي مدفوعاً بالربح والمنافسة الحرة. وتعتمد الرأسمالية على آليات السوق الحرة لتحديد الأسعار وتوزيع الموارد. إذا تابعنا تلك التعريفات والشروحات المدرسية، فإن الرأسمالية كفكرة تركّز على حرية السوق، والملكية الخاصة، والفردية، والابتكار، وتدّعي بأن الأفراد لديهم الحق في امتلاك وإدارة الأعمال بحرية ودون تدخل كبير من الحكومة. وهذه، كما أسلفت، تعريفات وشروحات يعثر عليها المرء في كثير من الكتب التي تحاول تعليم الطلبة في المراحل الدراسية الأولى ماهية الرأسمالية كنظام اقتصادي. كذلك تأتي في سبيل المقارنة أولاً والتمييز ثانياً بينها وبين الاشتراكية كنظام اقتصادي أيضاً.

لكن، لو حاولنا إجراء بعض التأصيل النظري على طريقة حازم صاغيّة، سنصل إلى أن الرأسمالية أيضاً إيديولوجية وفكرة تحاول حشر الواقع في النظرية لتهندسه وفقاً لرؤاها وتصوراتها، أين منه سرير بروكست الدامي! فالرأسمالية لها مخطط شامل وجاهز، قد تعدّل وتضيف عليه وفقاً لواقع سيّال، لكن هذا لا ينفي أنها إيديولوجيا تحمل تصوّرات مسبقة تريد فرضها على الواقع عبر مجموعة من القيم والمعتقدات التي تدعم النظام الاقتصادي. تشمل هذه القيم؛ الإيمان بأهمية الحرية الاقتصادية، دور السوق في تحقيق الرفاهية الاجتماعية، وفكرة أن النجاح يعتمد على الجهود الفردية والقدرة على الابتكار والتكيف. وهنا قد يجادل البعض، وخاصة مؤيدو الرأسمالية، متسلحين بمقارنات وأرقام بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي لتأكيد صوابية الرأسمالية، مدللين على ذلك من خلال المآلات التي انتهى إليها المعسكر الاشتراكي.

هذا نقاش خارج الموضوع، وإن يقحمه البعض – كما في اعتذار صاغيّة المبطن لأبيه – فهو حق يراد به باطل. تحطُّم وانهيار المعسكر الاشتراكي – غير المأسوف عليه – لا يعني بأي حال من الأحوال أن النظام الرأسمالي بصحة جيدة. كذلك؛ لا ينفي أن الرأسمالية في المآل الأخير إنما هي فكرة تحاول عجن الواقع كما تشتهي وتريد، والنتائج الحالية تقول إنها وصلت إلى مبتغاها، حيث سلّعت كل شيء فيه وفقاً لمخطط إيديولوجي يمتلك إمكانات جبارة وهائلة.

وفي كاريكاتور شهير نشر في إحدى الصحف الأمريكية؛ يلخّص ما وصلت إليه تلك النظرية من توحش وانعدام للقيم، حيث يقول أحد أساطين المال موجهاً كلامه للعمال في الكرة الأرضية: “هناك خبر جيد: لقد اكتشفنا أن هناك حياة في المريخ، أما الخبر السيئ فهو أن عمال ذلك الكوكب على استعداد للعمل بـ 30٪ من رواتبكم!”

ومع ذلك، هذه ليست نكتة. لقد استطاعت الرأسمالية، عبر امتلاكها لجيش من المفكرين والصحافيين ومراكز أبحاث ووسائل إعلام مؤثرة، أن تصنع الكثير من الأساطير حولها. هي في الواقع أكاذيب انطلت على الكثير من الناس وكرست مقولات معلّبة وجاهزة، وأين منها بروباغاندا المعسكر السوفياتي سابقاً! لقد تحولت الرأسمالية من منهج اقتصادي بركائز وأسس ثابتة إلى منهج شامل يطبّع معظم جوانب الحياة. لم تعد مقولة الفكر أم الواقع وأيهما أولاًِ ذات معنى، فقد تخطت الرأسمالية، وتحديداً في مرحلتها النيوليبرالية، تلك المقولة الكلاسيكية. وهي تسعى حالياً ليس لرسم الواقع كما تريد، بل لتعديل سلوك الإنسان وتحويله إلى مجرد روبوت يسعى جاهداً كي يعيش، واختزلت كل المعايير والقيم بمعيار ومقياس وحيد هو المال.

الليبرالية: التطور والتحولات

قد يجادل البعض بأن سياقات الرأسمالية مختلفة عن الليبرالية. هذا تمييز مهم، لكن لا يمكن لأحد أن ينفي أن التداخل بين الاثنين كبير جداً. فالليبرالية، وتحديدًا الكلاسيكية منها، تدعم النظام الرأسمالي باعتباره وسيلة لتعزيز الحرية الفردية والابتكار الاقتصادي، وتهتم بالحريات الفردية وتعارض تدخل الدولة إلا بحدود معروفة. ما يهمنا هنا هو التساؤل: ماذا بقي من تلك الليبرالية التي نهضت بأوروبا والغرب عموماً؟ ماذا بقي من “دولة الرفاه”؟ ماذا بقي من الديموقراطية؟ وأسئلة كثيرة أخرى ربما أهمها: ماذا حل بإنسان العصر الحديث في ظل آخر نُسخ تلك الليبرالية، ونعني النيوليبرالية؟

تاريخياً، مرّت الليبرالية بثلاث مراحل:

  1. المرحلة الأولى: الليبرالية الكلاسيكية – يعتبر آدم سميث أحد أبرز مؤسسيها، ودعا إلى “المجتمع العظيم” حيث قضايا العدل والإنصاف ومستوى العيش الكريم كانت أبرز القضايا التي انطوت عليها تلك المرحلة.
  2. المرحلة الثانية: الليبرالية الاجتماعية – تلاقت النظريات المختلفة من الأربعينيات إلى السبعينيات في نموذج صِيْغ على أساس ما يُعرف باسم الإجماع الكينزيّ، والذي يُفهم على أنه اعتقاد مشترك بضرورة تنظيم الدولة لتعزيز التنمية الوطنية.
  3. المرحلة الثالثة: النيوليبرالية – أبرز منظريها ميلتون فريدمان وفريدريك فون هايك، تمحورت رؤيتهما حول تقليص دور الدولة في الاقتصاد إلى الحد الأدنى وانسحابها من كثير من مسؤولياتها الاجتماعية من ناحية، وتفعيل حرية السوق بشكل كامل من ناحية أخرى. في هذه الرؤية، يتم إهمال مفهوم العدالة الاجتماعية الذي وصفه هايك بالوهم. (Klein 2007)

بإهمال العدالة الاجتماعية؛ فإن الرؤية النيوليبرالية لا تتوقف عند الجانب الاقتصادي فقط باعتباره مجالاً للسلع المادية، بل تتعداه إلى أبعاد ثقافية عميقة في التكوين النفسي والقيمي للإنسان والمجتمع المعاصر. وبناء على ذلك؛ فإن الثقافة لا تنفصل عن الاقتصاد لأنها تكتسح الحدود الأخلاقية والمعتقدية للإنسانية. ومن هنا، فإن النيوليبرالية لا تهدف إلى الهيمنة على القدرات المادية للعالم فحسب، بل على الأنظمة الثقافية المختلفة وصبغها بلون نيوليبرالى موحد، حتى تصل إلى ما يمكن أن نسميه “مجتمع السوق”. هذا يؤدي إلى إذابة التضامن الاجتماعي وتعزيز التفتيت، من حيث أن “النظام” يُزيح، بل ويقضي على التضامن بين العمال ونقاباتهم، وعلى النضال السياسي لهم، وتحل بدلاً عن ذلك مفاهيم ومصطلحات مظللة كالقدرة الفردية والاعتماد على الذات (Brown 2016, 6) وقصص النجاح التي تمتلئ بها أفلام هوليوود، تلك التي تفسر الفقر والحرمان على أنهما نتيجة الكسل أو انعدام المؤهلات والقدرات الفردية.

بالطبع، حصلت المرحلة الثالثة على زخم قوي، حيث برزت تلك النظرة “الانتصارية” بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وقد عبر عنها فرانسيس فوكوياما – أحد أهم المفكرين المحافظين في أمريكا – صراحة في مقالته “نهاية التاريخ، 1989″، والتي قصد بها أن الديموقراطية الليبرالية ومبادئ الديموقراطية وتشكّل الليبرالية الاقتصادية معاً يشكّلان قمة التطور الإيديولوجي. يقول: “إن انتصار الغرب، الفكرة الغربية، يتجلّى أولاً وقبل كل شيء في الاستنفاد الكامل للبدائل المنهجية القابلة للتطبيق لليبرالية الغربية” (Fukuyama 1989, 1). ومن المهم هنا الإشارة إلى أن فكرة “نهاية التاريخ” التي يبشّر بها فوكوياما وكل عتاة النيوليبرالية ليست سوى فكرة قديمة ارتبطت بكل الإيديولوجيات والعقائد الدينية، حيث تقدم الإجابات النهائية على الأسئلة الكبرى. المعتقد الديني هو الوسيلة التي كانت تستخدم لإضفاء الشرعية على فكرة نهاية التاريخ في الماضي. لكن اليوم، في عالم النيوليبرالية، يلجأ الخطاب السائد إلى إسناد الأبدية لقوانين السوق من أجل إدامة فكرة نهاية التاريخ. لذلك، فإنها تحتل مكانة اقتصادية في مجال العقيدة الدينية.

ومن أجل تكريس هيمنتها الثقافية في الوعي الجمعي للشعوب؛ تعمل النظرية النيوليبرالية على عدة محاور، منها: عالم ماكدونالد بأنماطه الاستهلاكية المختلفة، حيث يلعب الطعام هنا دور التعبير الرمزي، بما يترتب عنه من أساليب استهلاكية جديدة تختلف كلياً عما هو سائد في الثقافات التقليدية المختلفة (Little 2013, 344) حتى بات “ماكدونالد” [1]“McDonaldization” مفهوماً واسعاً أكثر منه اسم لسلسلة المطاعم الشهيرة. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الشبكات والمؤسسات الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية إلى تعزيز الأفكار والسلوكيات التي تروج لها النظرية الليبرالية. وكل ذلك يترافق مع بروباغاندا إعلامية جبارة تروّج لفكرة أن الفقر والتخلف سببهما الثقافات والكسل وقلة النشاط وغياب المبادرة. والهدف من هذا السعي المحموم؛ ليس فقط لطمس أسباب غياب العدالة وتكافؤ الفرص، إنما أيضاً من أجل القضاء على “دولة الرفاه”، حيث تزعم النيوليبرالية أن دولة الرفاه هي العدو الأول للحرية، مطالبةً بمنع أي دور للدولة في حكم المجتمع والإملاء على الأفراد الأحرار كيفية التصرف بممتلكاتهم الخاصة، متعللةّ بأن هذا التدخّل هو تدخّل في الحق الذي وهبه الله لتحقيق الأرباح وجمع الثروة الشخصية (Singh & Cowden 2015, 378)، وتريد من الدولة فقط تأمين الأمن وتشييد بعض البنى التحتية التي يهرب منها القطاع الخاص، تاركةً للسوق حريته في تأمين التوازن في المجتمع. ولقد استطاعت النيوليبرالية فرض فلسفتها على الدولة والمجتمع. بمعنى ما، لم تعد الفلسفة النيوليبرالية مجرد نظرية اقتصادية، بل تعدت ذلك لتصبح إيديولوجية كاملة تهدف إلى تكوين ثقافة كاملة على جميع المستويات الاجتماعية والسياسية والنفسية.

إله يتدخّل خارج حدوده

لم تكتفِ النيوليبرالية بفرض رؤيتها الأيديولوجية على المجتمعات الغربية فقط، بل قامت بفرض “وصفاتها” في كيفية إدارة الاقتصاد وإحداث التنمية بوسائل مختلفة على معظم دول العالم، وتراوحت تلك الأساليب بين القوة الخشنة كما حدث في العراق، أو بالوسائل الناعمة كما جرى في دول المعسكر الشيوعي سابقاً، بعد انهيارها، وكذلك في بعض دول أمريكا الجنوبية وأفريقيا، مختزلةً تاريخ العالم وشعوبه المتباينة إلى تاريخ واحد، هو تاريخ المركزية الغربية التي يُقاس من خلالها صعود الشعوب الأخرى. لقد أرادت تنميةً وفقاً لمقاييسها ومعاييرها، متمثلةً بهدف رئيسي هو البحث عن أسواق جديدة، عمالة رخيصة، ومواد أولية بأسعار منخفضة، من دون النظر إلى ظروف تلك البلدان. وهذا هو بالتحديد ما تدعو إليه نظرية روستو[2] والليبرالية الجديدة، حيث تركّز على “المراحل الخطية من التنمية” والمؤشرات التقليدية لقياس التنمية البشرية.

لكن هذه المؤشرات والمعدلات الكمية تهتم بأرقام لا تعكس حقيقة تلك المجتمعات. فالتنمية البشرية ليست مجرد زيادة في الدخل المالي أو القومي أو مؤشرات رقمية فقط، ولا تعكس هذه المؤشرات بالضرورة نوعية الحياة التي يعيشها الأفراد في الدولة أو المجتمع. يجادل أمارتيا سين في مقالته “عقد من التنمية البشرية”[3] ضد الادعاء بأن معدلات النمو المرتفعة تعني ضمناً التنمية، لأن العلاقة بين الفقر والدخل وعدم المساواة والبطالة والوفيات ونوعية الحياة يجب أن يُنظر إليها من خلال تعريف واسع للتنمية، وليس التدبير الانفرادي والتقليدي.

إن إلقاء نظرة موسعة على ما آلت إليه “برامج التعديل الهيكلي” (1960-1980)[4] والتي تم تطبيقها من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على معظم الدول الإفريقية بعد خروجها من عباءة الاستعمار إلى ما يسمى الاستقلال؛ يعطينا فكرةً واضحةً لا لبس فيها حول كيف ازداد الفقر في تلك الدول وتمت التضحية بالعدالة والمساواة لصالح نخب كمبرادورية مرتبطة بالغرب. والمفارقة أن الدول التي لم تخضع لوصفات صندوق النقد الدولي شهدت معدلات نمو أعلى من تلك التي خضعت لها. وتم التحذير مراراً والتنبيه إلى أن الشروط الصارمة التي يفرضها صندوق النقد الدولي يمكن أن تقوض التنمية على المدى الطويل.

ما يهمنا هنا من هذا المثال الإفريقي؛ هو أن الرأسمالية كفكرة أرادت وضعنا كعالم ثالث على سريرها، وحشرنا في نظرية معدّة مسبقاً دون الاعتراف بأن هناك سياقات مختلفة لا تتشابه، ولا يمكن اتباع نمط خطي واحد في إحداث التنمية والتطور، حيث للتنمية سياقات تاريخية واقتصادية وسياسية واجتماعية مختلفة، وهي ليست مجرد مؤشرات اقتصادية، كما تصرّ النيوليبرالية، إنما تتعلق بحرية الإنسان وكرامته.

أرقام ووقائع

المادة 24 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنصّ على أن “لكل شخص حق في الراحة وأوقات الفراغ، وخصوصاً في تحديد معقول لساعات العمل وفي إجازات دورية مأجورة.” ويتساءل فاروق مردم بك في واحدة من المقابلات الصحافية معه مستنكراً: “ما الفائدة من كل هذا التطوّر العلمي، وكلّ هذا التطوّر التقني، وهذه الثورة المعلوماتيّة، إلخ، إذا كان عليّ أن أعمل اليوم أكثر مما كنت أعمل قبل عشرين عاماً؟ ما الفائدة من المدنيّة الحديثة كلّها إذا لم تفسح للإنسان وقتاً أطول لسماع الموسيقى وقراءة الشعر والحب؟”.  من المؤسف أن أمنيات مردم بك عفا عليها زمن رأسمالي متوحش. والأرقام الرسمية وفقاً لبيانات مكاتب الإحصاءات في دول كأمريكا وبريطانيا وكندا – على سبيل المثال وليس الحصر – تؤكد تحديات كبيرة تواجه العمال في الدول الرأسمالية. على سبيل المثال ووفق بيانات رسمية في الولايات المتحدة؛ هناك أكثر من 8.4 مليون أمريكي في عام 2024 يعملون في أكثر من وظيفة واحدة. وهذه الأعداد تتوزع بين الجنسين، حيث كانت النسبة بين النساء أعلى قليلاً من الرجال. في مايو 2024، كان هناك 4.2 مليون امرأة و4.1 مليون رجل يعملون في أكثر من وظيفة واحدة.

في كندا، وهي بلد غني جداً لا يتجاوز عدد سكانه الأربعين مليون نسمة، تكاد تكون الأرقام نفسها. من خلال تجربتي الشخصية كوني أعيش في كندا منذ حوالي أربعة عشرة عاماً؛ التقيت بالكثير من الكنديين الذين يعملون ستة عشر ساعة في اليوم. أيضاً، أستطيع التأكيد أن تلك الأرقام الرسمية تغفل من يعمل “كاش” أو ما يطلق عليه”under the table”، وهذا ما لا تلتقطه الأرقام والإحصاءات الرسمية، مما يعني أن الأرقام أكبر من ذلك بكثير، وفي ازدياد واضح سنة بعد أخرى. هذه الأرقام تعكس التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجه مواطني تلك الدول نظراً لتكاليف الحياة الصعبة، حتى بات ذلك المواطن لا يجد الوقت الكافي للاهتمام بأطفاله.

حق التملك: خرافة رأسمالية

المادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تقول: “لكل فرد حق في التملّك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره.” لو ناقشنا حق التملّك عبر أرقام ومعطيات الواقع لأدركنا أن هذا الركن الأساسي الذي قامت عليه الرأسمالية والليبرالية بات من الخرافات والأساطير. سبق لماركس وأنجلز في البيان الشيوعي أن فنّدا تلك الخرافة بالقول: “لقد ألغت الرأسمالية أي ملكية خاصة مكتسبة بحد فردي، فلاحة صغيرة برجوازية صغيرة. التطور الصناعي الهائل قضى عليها تماماً. هل يخلق العمل المأجور ملكية؟ قطعاً لا.”

في الولايات المتحدة ووفق بيانات مصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك؛ بلغ عدد القروض العقارية حوالي 84 مليون في الربع الثالث من عام 2023، بقيمة إجمالية تصل إلى 12.14 تريليون دولار. هذا يمثل زيادة مقارنة بالسنوات السابقة. أما في كندا، فوفقاً لتقرير وكالة الرهن العقاري والإسكان الكندية  (CMHC)كان هناك حوالي 35.5% من الأسر الكندية تمتلك قروضاً عقارية في عام 2023. هذا يعادل حوالي 6.2 مليون أسرة من أصل 17.4 مليون أسرة في كندا. يواجه العديد من هؤلاء المقترضين تحديات مالية، خصوصاً مع ارتفاع أسعار الفائدة وتجديد القروض بمعدلات أعلى. في المملكة المتحدة ووفق مكتب الإحصاءات الوطني (ONS)؛ كان هناك حوالي 9.1 مليون أسرة بريطانية تمتلك قروضاً عقارية في عام 2023. هذا يعادل حوالي 29% من إجمالي الأسر في المملكة المتحدة.

تحديات الإيجارات والملكية

في كندا، استمر عدد المستأجرين في الزيادة بشكل ملحوظ. ففي عام 2021، كان هناك حوالي 5 ملايين أسرة مستأجرة، مما يمثل حوالي 33.1% من جميع الأسر الكندية، وهو ما يعكس زيادة بنسبة 21.5% منذ عام 2011. هذا النمو في الإيجارات يُعزى إلى عدة عوامل منها: ارتفاع أسعار المنازل، وصعوبة الحصول على ملكية المنازل، بالإضافة إلى زيادة في بناء المباني متعددة الوحدات التي تُستخدم في الغالب للإيجار ولأغراض المضاربات التجارية.

أما في الولايات المتحدة، فتُظهر البيانات من عام 2020 أن نسبة الأسر المستأجرة كانت حوالي 36% من جميع الأسر، حيث بلغ عدد الأسر المستأجرة حوالي 43 مليون أسرة. هذا يعكس اتجاهاً مشابهاً لما هو موجود في كندا، حيث أن الزيادات في كلفة الإسكان وعدم القدرة على شراء المنازل عاملان يزيدان من عدد المستأجرين.

الاستنتاج

من خلال هذه الأرقام والوقائع يمكننا الاستنتاج بأن فكرة المصلحة العامة المشتركة – واحدة من بروباغاندا النيوليبرالية – تصبح إشكاليّة، حيث الفرز الطبقي لا يتوقف، والدولة التي يناضل الليبراليون بمعظم أنواعهم لتهميشها تصبح مجرد هيئة تدير مصالح تلك النخب. وهي نتيجة توصّل إليها ماركس قبل قرون ثلاثة من الآن. الملكية الخاصة؛ سواء امتلاك أربعة جدران وسقف أو “بيزنس صغير” مُلغاة للغالبية العظمى من السكان، وهي حكر على النخبة التي تمارس تضليلاً كبيراً في ذلك عندما تقول إن إلغاء الملكية الخاصة سيقود إلى الكسل والخمول. إنها كذبة كبيرة “فالذين يعملون هم الذين لا يملكون، ومن يملك هو الذي لا يعمل.”

عواصم الهوملس … عاصمة العزلة!

رطانة “الخمول والكسل” الليبرالية التي تستهوي كثيرين، سواء من البسطاء الذين لا ينفذون إلى آليات اشتغال النظام الرأسمالي أو من الإيديولوجيين أنصار تأليه السوق؛ باتوا يتجنبون النظر إلى الوقائع التي كانوا يتغنون بها لأنها قد تعميهم، والعمى هنا مرادف للبصيرة. لقد استغنوا عن تلك الفضيلة من خلال تحصّنهم في سياراتهم الفارهة وناطحات السحاب لأنها تقيهم من النظر إلى مدن تنكٍ باتت تتشكّل على حواف المدن العملاقة، مثل لندن ونيويورك وباريس وڤانكوڤر، ويطلق عليها “عواصم الهوملس”.

ظاهرة الهوملس نتجت عن التحديات المالية الصعبة مثل البطالة وعدم تحمّل تكاليف السكن، وما ينتج عنها من قضايا مثل الإدمان والعنف المنزلي؛ باتت تشكّل تحديات هائلة. كاتب هذه السطور راقب تلك الظاهرة بعد مجيئه إلى كندا عام 2010، كانت أعداد المشردين الذين يفترشون أرصفة وسط مدينة ڤانكوڤر بعد الساعة العاشرة مساءً قليلة، بحكم عمله الليلي هناك؛ الأرقام تضاعفت كثيراً حالياً، وباتت المناظر مؤذية لمدينة تصنّف من أجمل المدن في العالم.

في عام 2023؛ تُقدِّر الأرقام الرسمية أن عدد الأشخاص الذين يعانون من التشرد في كندا يتراوح بين 150,000 و300,000 سنوياً. في أي ليلة؛ هناك ما يقرب من 25,000 إلى 35,000 فرد بدون سكن مستقر، ولا يتضمن ذلك عدداً كبيراً من “المشردين المختبئين” الذين يقيمون مؤقتاً مع الأصدقاء أو العائلة. تورنتو، ولكونها أكبر مدينة كندية فيها أكبر عدد من الأفراد المشردين، حيث يعاني حوالي 10,000 شخص من التشرد في كل ليلة. بالإضافة إلى ذلك، تتأثر “الشعوب الأصلية” بشكل غير متناسب، فيمثلون حوالي 30٪ من السكان المشردين، بينما يشكلون 4.3٪ فقط من السكان الكنديين.

ولا شك أن الحكومة الكندية تبذل جهوداً كثيرة لمعالجة هذه المشكلة، إلا أن إجراءاتها تقتصر على حلول ترقيعيه ترهق دافع الضرائب الكندي من دون النفاذ إلى جوهر المشكلة وإيجاد الحلول المناسبة. ففي السنوات العشر الماضية؛ تم إنفاق 2.2 مليار دولار بهدف توسيع الدعم للأفراد المشردين ومبادرات مجتمعية مختلفة. رغم ذلك، تظل الظاهرة في ازدياد، ولا حلول حقيقية في الأفق.

هذه الظاهرة تشكّل إشكاليّة أكبر في الولايات المتحدة عنها في كندا، حيث تتفاقم خطورتها مع ظاهرة وجود السلاح وشرعية امتلاكه بحكم القانون. كثيراً ما ألتقي بأمريكيين وكنديين، وهم يقولون: في حال ارتياد مركز مدينة مثل لوس أنجلس، على سبيل المثال، عاصمة هوليوود والسينما، بعد الساعة العاشرة ليلاً، هناك خطر محتمل يتهدد السلامة الشخصية.

أما لندن التي بات يطلق عليها وصف “عاصمة العزلة في أوروبا“؛ يرى باول فيرهاجه في كتابه “ماذا عني؟” أن الآثار النفسية الجسيمة باتت تنتشر فيها بكثافة، مثل الرغبة في إيذاء النفس، واضطرابات الأكل، والاكتئاب، والعزلة، والخوف من الفشل، والرهاب الاجتماعي، كما تحولت مؤسسات مثل المدارس والجامعات والمستشفيات إلى شركات تجارية ـ حتى أن الأفراد يضطرون إلى التفكير بأنفسهم باعتبارهم مؤسسات ذات شخص واحد. لقد أصبح من الصعب العثور على الحب بشكل متزايد، ونحن نكافح من أجل أن نعيش حياة ذات معنى. وفق فيرهاجه عالم النفس الإكلينيكي ورئيس قسم التحليل النفسي في جامعة غنت في بلجيكا.

 1984 ، أم عالم شجاع جديد؟ لندن أم موسكو: المجتمع الممسوك

إله والد حازم صاغيّة لم يكتفِ بإرسال “رعاياه” إلى الشوارع ليفترشوا أرصفتها ويناموا فيها، ولم يكتفِ بجعلهم يعملون ساعات طوال في اليوم وإبعادهم عن أطفالهم. لم يكتفِ ذلك الإله المتوحش بإفراغ كل شيء من معانيه، وأهم تلك المعاني الحب، بل إنه يريد الآن عدّ أنفاسهم، تخديرهم، وتعديل سلوكهم ليتناسب مع حاجات السوق. إلهٌ كهذا يجب الكفر به.

بين لندن وموسكو، وعلى خلاف حازم صاغية، يكتشف الدوكس هيكسلي في رسالة إلى تلميذه إريك بلير الذي كان “للتو فقط” قد نشر روايته الشهيرة “1984” ووقعها باسم “جورج أورويل”. يقول هيكسلي في رسالته إلى أورويل: “في الجيل القادم، أعتقد أن حكام العالم سيكتشفون أن تكييف الأطفال والنوم المغناطيسي هما أكثر فاعلية، كأدوات لذلك، من التعذيب والسجون. وأن الشهوة للسلطة يمكن إشباعها تمامًا بإقناع الناس في المجتمعات الرأسمالية بحب عبوديتهم كما يتم بإجبارهم على الطاعة بالضرب. بينما يقول ستيفن ماو: “في عصر السوسيوميتريكس، المدينة الفاضلة للشفافية الكاملة والمدينة الديستوبية قادرة على الرؤية بشكل كامل في اتجاه مماثل!” (p.141)

ستيفن ماو مؤلف كتاب “The Metric Society: On the Quantification of the Social” يقدّم تحليلاً مهماً لعالم النيوليبرالية؛ ذلك العالم الذي بات مولعاً بالتصنيف والأرقام والقياس الكمي، وكيف أصبحت تلك المقاييس في الواقع شكلاً من أشكال التكيف الاجتماعي. لقد غيّر ذلك التكيف إدراكنا للقيمة والمكانة بشكل عميق، وبتنا نقيس أنفسنا ضمن هذا العالم بشكل تنافسي، مما أدى إلى إنشاء تسلسلات هرمية اجتماعية باتت تؤثر في تشكيلنا على كل الصعد والمستويات.

التحكم الاجتماعي، المراقبة، وتحويل جميع العلاقات الاجتماعية إلى مجرد بيانات وأرقام هي التحولات التي تحدث في عالمنا الحالي. بالفعل، نعيش “في عالم البيانات الجديد الشجاع” (p.24). يسري ذلك على الجامعات، التقييمات الائتمانية، عمليات الشراء والبيع، كل حركة نتخّذها وكل نفس نتنفسّه، لتسجيل ورقمنة هذه البيانات التي تُستخدم في مراقبتنا، وأيضاً لتكييف سلوكياتنا الثقافية وفقاً لمتطلبات الحكومات والسوق النيوليبرالية. يكمل ماو ما تنبأ به الدوس هيكسلي عام 1932 في روايته “عالم جديد شجاع” عن دور التكنولوجيا كوسيلة مرعبة للتحكم في المجتمعات الغربية والسيطرة على كل ما يأتي ويذهب فيه. في الدولة العالمية لهكسلي؛ تبدأ المراقبة من لحظة الاختبار في أنبوب فقس الأجنة حتى الموت من خلال دورة كاملة لحياة هذا المخلوق الذي وُلد من خلال التكنولوجيا والهندسة الوراثية. يتم الاستغناء عن وظيفة الأب والأم، لتتولى هذه التكنولوجيا “صناعة” البشر الذين لا يستطيعون التمرد لأنهم لا يريدون ذلك.

علاوة على ذلك، وفي “عصر رأسمالية المراقبة”، حسب شوشانا زوبوف – الأستاذة في جامعة هارفارد – هناك حضور طاغٍ لـ“الأخ الأكبر”، فأنت مراقب في كل تفاصيل حياتك، وليس لديك أي خصوصية على الإطلاق؛ معاملاتك الحكومية، رسائل البريد الإلكتروني، حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، بطاقة الفيزا، والهاتف الذكي، كل ما تحب وتكره. كل شيء مكشوف ومعروف. وفقاً لزوبوف؛ فإن الخطر لا يتوقف عند عد أنفاسك من خلال البيانات الهائلة التي تمتلكها جوجل والشركات العملاقة الأخرى بل يمتد إلى استخدام تلك البيانات لـ “تعديل سلوكك”. نحن إذن هنا إزاء “مجتمع ممسوك”، لو أسقطنا تعبيراً لياسين الحاج صالح – ولكن بالطبع ليس على طريقة ما هو مألوف في مجتمعاتنا المشرقية استناداً إلى عصبية دينية أو مذهبية أو قوة مخابراتية خشنة، أو كما كان يحدث للمجتمعات التي كانت واقعة تحت حكم المعسكر الشيوعي – بل بشكل أذكى وأخطر عبر قوى ناعمة، كما يُمارس حالياً على معظم المجتمعات الغربية.

في النهاية، كل ما يريده ويطلبه إله الليبرالية في تحولاته تلك التي استعرضناها بكثافة، هو “إيمان ديني بعصمة السوق” دون الاكتراث بالنتائج الكارثية لذلك الإيمان. والنتائج لم تعد خافية على أحد: بؤس شديد لأمم وشعوب العالم الأكثر فقراً، بيئة عالمية مهددة بفعل استنزاف الطبيعة، اقتصاد عالمي متوحش وغير مستقر، ثراء فاحش وغير مسبوق لحفنة قليلة من البشر، حروب لا تتوقف من أجل أن تظل عجلة مصانع السلاح دائرة.

إزاء كل تلك الحقائق، يدّعي المدافعون عن النيوليبرالية أن غنائم الحياة الجيدة ستنتشر بالتدريج وتصل إلى الكتلة الأوسع من السكان طالما أن السياسات التي تفاقم هذه المشكلات لا يتم التدخل بها! إلا أن أخطر ما تواجهه البشرية عموماً والمجتمعات الغربية خصوصاً هو ما حذر منه نقاد كثر أثناء صعود الفاشية في أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية عندما وصفوا تلك الفاشية بأنها “الرأسمالية وقد نزعت قفازيها”.

الواقع الآن فيه الكثير من المؤشرات والمعطيات التي تؤكد أن النيوليبرالية هي بالفعل “رأسمالية نزعت قفازيها”، حيث نحن في عصر قوى التجارة فيه أكثر قوة وعدوانية في مواجهة معارضة ضعيفة. وربما أبرز تلك المؤشرات هذا الصعود المخيف لليمين المتطرف في معظم الدول الليبرالية يؤكد أن المستقبل قاتم.  وكل الأماني ألا يقودنا ذلك الإله المتوحش إلى حرب عالمية ثالثة، إلا أن الأماني وحدها لا تفعل شيئاً!

مراجع الكتب

Brown, W. (2016). Sacrificial citizenship: Neoliberalism, human capital, and austerity politics. Constellations, 23(1), 3-14.

Fukuyama, F. (1989). Retrieved from https://www.embl.de/aboutus/science_society/discussion/discussion_2006/ref1-22june06.pdf

Klein, N. (2007). The shock doctrine: The rise of disaster capitalism. New York: Metropolitan Books.

Little, W. (Ed.). (2013). Introduction to sociology. eBooks.

Mau, S. (2019). The metric society: On the quantification of the social. Polity Press. ISBN: 978-1-509-53040-3.

Singh, G., & Cowden, S. (2015). The intensification of neoliberalism and the commodification of human need – A social work perspective. Critical and Radical Social Work, 3(3), 375-387. http://dx.doi.org.proxy.lib.sfu.ca/10.1332/204986015X14417170590709

————————————

نص مقال حازم صاغية

——————————–

في بعض أصول الفكرة السيّدة، في بعض أصول الواقع العبد/ حازم صاغية

سيرة إمبراطورية الفكرة مع أفلاطون وأوغسطين وتوماس مور

30-05-2024

        عندما كنتُ ماركسيّاً، كان أبي «اليمينيّ» يسألني: «إذا خُيّرتَ بين العيش في لندن والعيش في موسكو، فأيّهما تختار؟». وأبي كان يحبّ لندن ويُحدِّثنا عن «الحرّية والشعور بالمسؤوليّة» عند الإنكليز. أمّا موسكو السوفياتيّة فكان كلّ ما يعرفه عنها غير مُشجِّع: الحرّيات معدومة، والناس متشابهون مَلبساً ومَأكلاً، ومُضطرّون إلى إرضاء الحزب الحاكم في ما يقولون ويفعلون. وهو لم يحمل على محمل الجدّ الشيوعيّين المحلّيّين القليلين الذين عرفهم، وذلك لأسباب بعضها يتّصل بهم وبعضها به.

        وما لا شكَّ فيه أنّ الكثير ممّا كان يقوله عن الحياة القليلة في البلدان الشيوعيّة انطوى على مبالغات. وأغلب الظنّ أنّ الدعايات الغربيّة في زمن الحرب الباردة ساهمت، مباشرةً أو مُداورةً، في تضخيمه هذا. لكنّ ما لا شكَّ فيه كذلك أنّ الكثير ممّا كان يقوله كان صحيحاً، وهو ما جاءت الأحداث اللاحقة والانهيارات التي أودت بالأنظمة الشيوعيّة لتشهدَ له.

        أمّا أنا فكانت تمنعني مَكانتُه الأبويّة واللطف الذي يصيغ به سؤاله من اتّهامه واتّهام آرائه بالسخافة، فضلاً عن الرجعيّة، إذ ما العلاقة بين مكان العيش وصحّة المعتقد؟ فأنا أيضاً، أُفضّل الإقامة في لندن على الإقامة في موسكو، لكنّ تفضيلي هذا لا يُلغي تفضيلاً آخر أراه أهمّ وأعمق، هو إيثار الاشتراكيّة على الرأسماليّة، وهو ما بدا لأبي مُناقِضاً للتفضيل الأول. فهو كان يرى أنّ اختيارنا مكانَ العيش يشهد لصحّة الأفكار، أو لدرجة بعيدة منها، بينما اعتقدتُ أنا أنّ ذاك الاختيار يندرج في العاديّ، قياساً بالمقارنة الإيديولوجيّة التي تقبع في سويّةٍ أرفعَ كمِثلِ سويّة الغيم. 

        واليوم إذ أستعيدُ إحساسي بما ظننتُه سُخفاً في سؤاله، أتساءل: من أين كانت تأتيني قوّة ذاك اليقين، علماً بأنّ المعطيات الملموسة كانت كلّها لصالح أبي ولصالح حجّته؟ فالحرّيات في لندن أكثر وأكبر، وبلا قياس، ممّا في موسكو، وكذلك الحقوق والتعليم والصحّة وسوى ذلك من أساسيّات الحياة. ثمّ هل يصحّ فعلاً ذاك الفصل بين مكان الإقامة، بوصفه مسألة وضيعة، واختيار الأفكار بوصفه مسألة رفيعة؟

        فالمُشبَع بالفكرة يميلُ، على نحو صارم ومتأصّل، إلى الاستخفاف بمَن تَصدرُ أفكاره عن وقائع ومعطيات ملموسة. ذاك أنّ الأخير، بمعنى ما، ظاهراتيّ، ولأنّه كذلك فهو سطحيّ، وفي أحسن أحواله هو صاحب «رأي» بالمعنى الأفلاطونيّ الذي يُبوِّبُ الرأي في سويّة تدنو عن سويّة «المعرفة». أمّا الأوّل فينفذ إلى ما وراء الظاهرات، ويغطس إلى ما تحتها، قبل أن يعود إلينا «عارفاً» بـ«الشيء في ذاته». ولأنّه كذلك، فهو يظنّ نفسه مالكاً لطرق في الكشف والتبيُّن لا تملكها إلاّ قلّةٌ من الضالعين فيهما، أو مَن يقال لهم بالإنكليزيّة esoteric.

        وبدورها لم تستند قوّة اليقين التي استبدّت بي، في مواجهة أبي، إلى شيء صلب – لا إلى وقائع ولا إلى أرقام. لقد استندت فحسب إلى فكرة مَفادها أنّ الاشتراكيّة متفوّقة على الرأسماليّة، وأنّ الرأسماليّة، حتّى لو كانت من طراز سويديّ، سوف تنهزم ذات يوم وتَرمي سلاحها أمام الاشتراكيّة، حتّى لو كانت الأخيرة من الطراز الذي ابتُليَ به جنوب اليمن أو شمال كوريا. وفي آخر المطاف، فإنّ ألمانيا الشرقيّة التي رشَّحناها كي تكون حصاننا في السباق، وضَمِنَّا أن الفوز سوف يكون، ولو بعد زمن، من نصيبها، كانت فكرةً إلى حدّ بعيد، فكرةً أُريدَ إسقاطُها على الواقع للبرهنة على تفوّق النموذج الاشتراكيّ. وهذا علماً بأنّ مُواطني ألمانيا الشرقيّة الذين كان يَسعُهُم الفرار منها كانوا لا يتردّدون في الإقدام عليه، حتّى لو كان الموت كلفة الفشل.

        وقوّة الفكرة هذه لم تستولِ عليَّ وحدي، أنا الفرد الضعيف وصغير السنّ يومذاك. فهي لطالما تمكّنت، ولا زالت تتمكّن، من قوى وشعوب. وهي لطالما سادت وتسود بلداناً وتحكّمت بعقول تُعَدّ بالملايين، في عِدادها بعض أفضل العقول وأذكاها وأشدّها رهافة وقدرة على الإبداع.

        فالفكرة ذات سطوة إمبراطوريّة إذاً. ذاك أنّ الظلم مثلاً حين يكون سببه اقتصاديّاً ينبثق من الملكيّة الخاصّة وعلاقات العمل، أو سياسيّاً مَردُّه إلى مَنازع التوسّع والجبروت، فإنّه يبقى مَهيض الجناح ما لم ترافقه فكرة يُقرَأ الظلم بأبجديّتها. وهي فكرة يُصَار إلى تَصوُّرِها بوصفها مُنزَّهةً عن الواقع، كلِّ واقع، جليلةً بذاتها، ومن ذاتها تستمدُّ حياتها ومبرراتها. ودائماً ما واجهت الشعوب ظلم حاكمٍ أو بؤس حياةٍ بفكرةٍ ظُنَّ أنّها البطن الخصب الذي تنضج فيه ثمار البديل. بل ربما كان الدينُ نفسه أهمّ تلك الأفكار، وكان وَعدُه بآخرة من جحيم ونعيم أشبهَ بمحكمة مؤجّلة تحاكم ظالمين نجوا من الحساب في الحياة الأولى. أمّا في الزمن الحديث فلا تُعَدّ «المناهج» التي تلاحقت وهي تحمل لنا فكرة تسدّ علينا الأفق، فنُدفَعُ إلى التفكير على نحو متماثل، ونندفع إلى الاعتقاد بعدم وجود واقع ننطلق منه جميعاً ثمّ يذهب كلٌّ منّا في طريقه.

        والتعويل هذا على الفكرة لا صلة له بالثنائيّات المألوفة في الصراعات السياسيّة والإيديولوجيّة، كاليسار واليمين والثوريّة والمُحافَظة، إذ الثنائيّات تلك قد تكون أيضاً تعبيرات عن سيادة الفكرة. وربّما جاز القول إنّ المسألة التي تطرحها علينا السيادة هذه، وهي قد تكون مؤمنة أو ملحدة، كما قد تكون رجعيّة أو تقدّميّة أو بين بين، قابلة لإيجاز مُكثَّف: هل هناك عالم، هو غير هذا العالم، يؤتى منه بفكرة يتوجّبُ علينا أن نتكيّفَ معها، وأن نفهم، تبعاً لها، نواقصَ عالمنا وتشوّهاته، أم أنّ عالمنا هو الوحيد القائم موضوعيّاً، والذي يمكننا بالتجريب امتلاكُ قدر كبير من المعرفة به، ومن ثمّ التفكير بتطويره أو بتحسينه انطلاقاً ممّا ينطوي عليه؟

        وربّما قُصِدَ بإسباغ وصف «العلميّة» على الاشتراكيّة الماركسيّة تمييزُها عمّا سمَّتُهُ هي نفسها «اشتراكيّة طوباويّة»، لكنّ الواقع لم يُدلِ ببراهينَ تعزّز الأولى أكثر من البراهين التي قدّمها في تعزيز الثانية التي تشاركها إطلاقيّتها. 

        والفكرة، بالمعنى الإطلاقيّ هذا، ليست عديمة القَرابة مع الصنف البدائيّ من الميتافيزيقيّات غير القابلة للحلّ، والذي دعانا إيمانويل كانط قبل نيّف وقرنين إلى تجاوزه، إذ العقل الإنسانيّ محدودٌ بظواهر ومُحدِّدات لا يتجاوزها ولا يمدّ شبكة تحليله إلى ما وراءها.

        والحقّ أنّ واقعاً مُشتهىً ما يقيم في كلّ فكرةِ حدٍّ أقصى، كما أنّ في كلِّ واقعٍ فكرةَ حدٍّ أدنى ضامرة. لكنْ في الحالة الأولى، تَسحق الفكرةُ واقعَها حين يظهر التعارُض بينهما، وهو لا بدّ أن يظهر، بينما في الحالة الثانية يُطوِّرُ الواقع مناعات ودفاعات تحميه من تَضخُّم الفكرة إذا أُريدَ لها أن تتضخّم. فالواقعُ لا يملك هجوميّة الفكرة واقتحاميّتها وثِقتها بنفسها، إذ هي لا تُقاس على شيء سوى على ذاتها، كما أنّها تبقى صائبة في نظر أتباعها، على رغم طوفان البراهين التي قد تشي بعكس ذلك.

        والفارق الآخر أنّ الفكرة ذاتُ جاذبيّة لا يملكها الواقع: فهي الوعد وربّما الأفيون، فيما هو المُعطَى الذي قد يبدو لمُتلقِّيه أشبه بحُكم صارم يُعرِّفهم بحدودهم ويأمرهم أن يَلزموها. والحكم هذا ربّما كان ظالماً أو مُضجِراً، وهو ربّما تراءى مغلقاً على نفسه وعليهم. ثمّ إنّ الفكرة لا تُعرَف لأنّ ترجمتها إلى صورةٍ مهمّةٌ صعبة، وربّما مستحيلة، وما قد يُعرف منها على نحو أو آخر يترافق التعرّف إليه مع جدل، وربّما مع شجار، لا يتوقّف بين مُريديها المتنازعين على تأويلها. ولا بدّ في عمليّة كهذه من استخدام مُوسَّع لمفاتيح تفتح أبوابها الموصدة، وهذا ما يمنح عارفها المزعوم رتبة المعلّم التي ترفعه عن السِّوى. أمّا الواقع فهو أيضاً قد لا تكون معرفته سهلة لأنّه يلبس أقنعة ملوّنة أو داكنة، إلاّ أنّ الكثير منه يبقى قابلاً لأن يُعرَف بفضل معطيات ووقائع وأرقام لا تَحوجنا إلى مُعلِّم أو صاحب طريقة أو ساحر مُلمّ بفكّ الألغاز.

        والفكرة شبابيّة جيليّاً، تُعبِّر عن بَرَمٍ بنواقص العالم وعن شعور بالقوّة يوحي لأصحابه الشبّان أنّ في وسعهم تغييره دفعة واحدة والصعود إلى معانقة الفكرة. فهي قد تستلهم بروميثيوس الذي سرق النار من الأولمب، وتتّهم دُعاة الواقع بأنّهم يستلهمون أيّوب، ذاك الشيخ المُذعن الذي لا يتعب من صبره. 

        والفكرة، أخيراً، صلبة بطبيعتها، تحضر واحدةً متكاملة تحتلّ الفضاء وتطرد الناشز والشاذّ، وهنا يكمن جذر التماسك الذي يصف به العقائديّون «الوعي النظريّ»، قياساً بالوعي التجريبيّ الذي يتعامل مع الواقع. فالأخير مُلتوٍ ومبعثَر، متفاوت ومتناقض، وهو من ثمّ انتقائيّ لا يُؤخَذ إلاّ بانتقائيّة تشبهه، انتقائيةٍ يكرهها الفكرانيّون ويعتبرونها شتيمة، هم الذين يَأنفون مزجَ فكرتهم بواحدة أخرى تلوّث نقاءَها.

        فليس بلا دلالة بالتالي أن يكون الإسراف التنظيريّ من شِيم مدرستهم، والإسرافُ هذا هو عينه ما يُتيح لأصحابه رمي المعتصمين بالواقع والوقائع بالسُخف والتبسيط. فمدرسة الفكرة تتطلّبُ التحايُل على المُعطى الملموس، خصوصاً حين يستدعي الاستغراقُ فيها إعدامَ رأي الناس ممّن يَصِمُهم الفكرانيّون، نسجاً على منوالٍ هايدغريّ، بالاستغراق في الصغائر، أي في أحوالهم «العاديّة» وأحوال ناسهم وعالمهم المحيط.

        وفي الحياة السياسيّة النبيلة ثمّة ما لا يحتاج إلى جهود نظريّة جبّارة أو مُبالَغ فيها: فالحرّيّات الأوفر والتعليم الأفضل والأعمار الأطول والفوارق الاجتماعيّة الأضيق هي بداهةً ما ينبغي السعيُ إليه بديلاً من الحرّيّات الأقلّ والتعليم الأسوأ والأعمار الأقصر والفوارق الاجتماعيّة الأوسع. ولا يصعب التكهّن بالخيارات التي ستنحازُ إليها أكثريّات السكّان، ما لم تكن مُصابة برضّة جماعيّة وتأزّم عميق، حينما تُطرح عليها الخيارات تلك بوصفها هذا، وحينما يُستَدلّ على صحّتها في شروط حياة السكّان المباشرة، ولكنْ أيضاً في عدد لا يُدحض من الأرقام والإحصائيّات.

        ولا يعني ذلك، بطبيعة الحال، نفياً لدور الأفكار أو دور التنظير ممّا نحتاجه دائماً وكثيراً، ضدّاً على هجائه الشعبويّ المعهود. لكنّ ما يعنيه، في المقابل، ربط الأفكار، في الشقّ السياسيّ والاجتماعيّ منها، بالواقع وبأسئلته الحارقة ومُمكناته المُتاحة. فدائماً كان الطرف الذي يواجِهُ أفكاراً أُريدَ إملاؤها على الواقع إنّما يواجهها بأفكار أخرى، لكنّها تكون منبثقة من هذا الواقع وممّا ينطوي عليه، فتُعرِّفُ به وتُضيئه أكثر ممّا هو مُضاء، وتكون في الوقت عينه قابلةً للبرهنة وللملموسيّة. ومن زاوية كهذه، أعرضَ من الصومعة والخلوة والخليّة، يمكن النظر إلى موقع صراع الأفكار الذي لازمَ معظم تاريخ البشر ونمَّ عن حيويّتهم، كما كان باعثاً على تطوير رؤى أو تصوّرات.

        وبالمعنى ذاته، لا تكون الدعوة إلى التفكير الموضوعيّ، وإلى الإقرار باستقلاليّة السياسة، محاولة للحطّ من قيمة المُخيّلة ومن أهميّة الإبداع، إذ هُما، كما نعلم جميعاً، ما يُغني حياتنا وشخصيّاتنا ويكثّر أبعادها. بيدَ أنّ انقلاب هذا التوازي الذي يفرضه الإبداع حيال الواقع إلى تَطابُق أو تَداخُل يسيء إلى الطرفين معاً. فليس هناك ما ينافس رداءة اشتقاق السياسة وعلاقات الاجتماع من الفنّ والأدب سوى الرداءة المتأتّية عن «التزام» الفنّ والأدب وتسييسهما على هذا النحو أو ذاك. ففي المرّة الأولى، ينتهك الإبداعُ السياسةَ فيُبسِّطها ويجعلها أقرب إلى شعار، وفي المرّة الثانية تتولّى السياسة انتهاكه بحيث تحرّره، بين أمور كثيرة أخرى، ممّا هو إبداعيّ فيه. وإذا كان من حقّنا جميعاً أن نحلم، وأن نجد في الآداب والفنون تصريفاً لأحلامنا، فليس من حقّ الحالِم أن يفرض على سواه وقائع سياسيّة مُكلِفة وبرامج للتنفيذ مصدرُها الحصريُّ أحلامُه.

        وإذ تحتفل «كلّ السلطة للمخيّلة» بالمخيّلة، يبقى أنّ تَدبُّرَ الناس شؤونها، عبر السلطة والسياسة، هو ممّا ينبغي حمايته من جموح المخيّلات البديع.

        *****

        ليس افتئاتاً على الأديان ولا على الأفكار المطلقة، بالعلمانيّ منها والإلحاديّ، ربطُ واحدتهما بالأخرى. ذاك أنّ الطرفين يَنشَدَّان إلى ما يوجد وراء الواقع، أو يُزعَم أنّه موجود هناك. والله طبعاً أكبر المقيمين في هذا الما وراء الذي تُستمدّ منه اقتراحات خلاصيّة مُلزِمة لها.

        فتعيينُ الأولويّة الفكرانيّة على هذا النحو الذي يخفضُ العالمَ والواقع، أو يُنكرهما، إنّما ينهض على تاريخ دينيّ مديد وعريق سابق على الدين التوحيديّ. وثمّة اتّفاق، وإن لم يرقَ إلى إجماع، على تسمية أفلاطون المهندس الأوّل للأولويّة تلك، وعلى اعتباره دينيَّ ما قبل الدين. وكان فريدريك نيتشه مثلاً قد ذهب إلى أنّ صاحب الجمهوريّة سبقَ أن مهّدَ لتلك الكارثة التي كانتْها، في نظره، المسيحيّة.

        فالواقع المحكومُ بالزمان والمكان، والذي يُعرَف عبر الحواسّ، أدنى مرتبة من عالم رفيع لا يُدركه العاديّون ممّن يعيشون في «الكهف»، بحسب استعارته الشهيرة. ذاك أنّ الأخيرين مُحاطون بما يشبه العتم، ومقيّدون بالسلاسل، لا يعرفون ما الذي يرونه على حائط الكهف، إذ تلوح لهم ظلال الأشياء وحدها. فهم بالتالي خاضعون لعبوديّة لا يَعُونها، جاهلين بأنفسهم وبالواقع الأعمق ولا يعيشون إلّا في السطحيّ والظاهر.                                   

        وهكذا يفيدنا أفلاطون بأنّنا إن لم ننظر في مصدر الضوء، ونظرنا إلى ظلالنا داخل الكهف، رأينا غبَش الواقع ممّا توفّره الحواسّ، لكنّنا لم نرَ الواقع. فالتجارب والحواسّ، عنده، لا تُعلِّم ولا تُضيفُ شيئاً مُعْتَبَراً إلى الناس المُحمَّلين سلفاً بالمعرفة، بل قد يتأدّى عن التجارب والحواسّ تلك تشويهٌ لمعرفتنا الأصليّة ولما هو كامنٌ فينا ممّا لا تعوزه وتعوزنا إلاّ إعادة تَذكُّره. وربّما كانت تلك الاستعارة أكثر الاستعارات استشهاداً وتأويلاً في تاريخ الفلسفة، بحيث رأى البعض أنّنا يمكن أن نقرأها، في زمننا المعاصر، احتجاجاً على الزيف الذي يصنعه الإعلام أو المصالح الطبقيّة أو العلم أو سوى ذلك، كما أُوِّلَت بوصفها نقداً للسياسات غير النبيلة التي تجثم على الناس، والمصحوبة بإيديولوجيّات زائفة مُعدّة لاستخدام نفعيّ وعابر. بيد أنّ النظرة الأشمل والأشدّ ديمومة للأفلاطونيّة رَبطتْها بتصوّرِ مفهومٍ مطلق وأبديّ عن العدالة والفضيلة والمجتمع الأمثل والكائن الأكمل. فنحن إنّما حُكمنا بالإقامة في عالم يسوده المظهر والرأي الشائع (دوكسا)، بينما هدف الفلسفة الارتقاء بالرأي إلى معرفة. والحال أنّ الأوّل يرتكز إلى الـ«ما يبدو»، بينما ترتكز الثانية إلى الـ«ما يكون»، وما الهدف المُرتجى سوى تجاوز الـ«ما يبدو» للإقامة في الـ«ما يكون».

        ولئن لم يعامل أفلاطون تعاليمه بوصفها برنامجاً للتنفيذ الفوريّ، فهو رسمها معياراً تُقاس عليه الأشياء التي نعرف ونعيش، أي أنّه أخضع لها، هي الناصعة والمثلى، الواقعَ الناقصَ والمُشوَّه.

        وكانت مقارنة الخالد الجوهريّ بالمتحوِّل المتغيِّر من موضوعات الفلسفة الإغريقيّة السابقة على سقراط. هكذا دافع هيراقليطس عن «التدفّق» في كلّ شيء، وعن مياه النهر التي لا تتكرّر، ودافع بارمِنيدِس عن ماهيّة خالدة في الأشياء والعالم. أمّا أفلاطون فأعطى للانقسام هذا شكلاً تراتُبيّاً، إذ أقرّ بالتغيّر الهيراقليطسيّ لكنّه نسبه إلى عالم الحواسّ الأدنى، وأقرّ بالثبات البارمنيدِسيّ ونَصَّبه في عالم الأفكار، أو «الأشكال»، ذات الموضوعات الكونيّة والمجرّدة وراسخة الحضور. فمفاهيمُ كالدائرة والمثلّث، أو كالجمال والعدل، أو كالبيت واللون، أو كالكرسيّ والحصان، تقتصر وظيفتاها على تسهيل تَعرُّفنا إلى أشياء عالمنا المباشر وعلومه، وتالياً على تمكيننا من تقييمها ونقدها. إلاّ أنّ لكلّ من هذه المواضيع مُقابِلاً أبديّاً هو فكرة أو شكل يكون مجموعَ الصفات الموضوعيّة والكونيّة وغير القابلة للتغيُّر التي تُعرِّف المفاهيم. فالشكلُ إذاً هو الموديل الأمثل لما يمثّله ذاك الشكل، وهو سبب الأشياء وعلّتها الفاضلة. فالكراسي مثلاً نماذج مشوّهة عن كراسٍ مُثلى لا توجد إلاّ في عقولنا، وما يصنعه البشر منها لا يعدو كونه مُحاكاة وظلّاً لما هو واقعها العميق المقيم خارجنا. وهكذا فالفكرة ليست شديدة الواقعيّة فحسب، بل هي جوهر كلّ واقعيّة محترمة، وهي سيّدة كلّ واقع مكتمل. إلاّ أنّ أشكال أفلاطون، أو أفكاره، بعدما بدت اختصاراً لواقع أغنى وأكثر، تعرّضت هي نفسها لاختزال آخر إذ جُعِلَت تنضوي في شكل أكبر وأعلى هو الصلاح.

        ورغم الأدوات التي وَفَّرتها النظريّة الأفلاطونيّة، لا سيّما كونيّة الفكرة، في مكافحة النسبيّات الثقافيّة منذ السفسطائيّين حتّى الأفكار الرائجة راهناً، فإنّها أَسَّست للون من الهندسات الاجتماعيّة، متعدّد الأبعاد والصِيَغ، لا يمكن فصله عن المعرفة وعن التراتُب في شروط العارف.

        فإذ طوّرَ أفلاطون نظريّة سقراط من أنّ «الفضيلة معرفة»، فإنّه حصرَ معرفة عالم المعرفة وأشكالها بالنخبة، ما جعل إنتاج النخبة وتدريبها مهمّةً حاسمة في «الجمهوريّة». فالعارفون، أو لنقُل بلغة زمننا: الكوادر أو الطلائع، قلّةٌ تجد ما يُمتعها في التفكير والفهم. فهم لا يتلهّفون، كالمُنتجين، إلى امتلاك البضائع، ولا كالمحاربين للانتصارات، وهي كلّها وظائف مطلوبة لكنّها تابعة يُسيِّرها العارفون ويتحكّمون بها. فهم مأخوذون بمعرفة الحقيقة فحسب، ينأون بأنفسهم عن السوق كما عن ساحة المعركة من أجل أن ينعزلوا ويفكّروا. وهم، في تَطهُّرهم هذا، رجال الحكمة الذين ينبغي أن يحكموا سواهم من الكثرة غير العارفة. فسماؤهم ليست السلطة بل الحقيقة، ورغباتهم تشبه الضوء ولا تشبه النار، ومن دونهم، ومن دون إرشادهم الشعبَ بالمعرفة التي يحتكرونها، يغدو الشعب عدداً بلا نظام، وجموحاً تُحرِّكه الفوضى ويهجره تنوير الفلاسفة. وكما أنّ النفس مثلثّة المستويات عقلاً، وروحاً، وغرائز وشهوات، كذلك الدولة بمستوياتها أو طبقاتها الاجتماعيّة الثلاث، «الملوك الفلاسفة» والمحاربين والمُنتجين.

        وأمّا الجمهوريّة، في المدينة المثلى، فحيث تمارس كلّ من هذه الطبقات دورها الحيويّ بالنيابة عن كلٍّ عضويّ هو المجتمع. وفي حواره الشهير «بروتاغوراس»، يذهبُ أفلاطون بعيداً في ولائه لتقسيم عمل ثبوتيّ وجامد يُناهض الديمقراطيّة والسياسة. فنحن مثلما نقصد الطبيب، ولا نقصد أيّاً كان، لمعالجة أمراضنا الصحّيّة، فإنّ علينا أن نقصدَ الشخص العارف والمُدرِّب لمعالجة أمراضنا السياسيّة. ذاك أنّ الدولة هي ما هي لأنّ المواطنين هم مَن هم، ولهذا ينبغي ألاّ نتوقع دولاً أفضل قبل أن نحصل على بشر أفضل، وحتّى ذلك الحين لن يسعَ التغييرات كلّها تغييرُ شيءٍ في الأساسيّات.

        ويضمن تدريبُ النخبة وتأهيلها اختيارَ الطبقة الحاكمة بموجب ذكاء الأفراد ومؤهّلاتهم الذهنيّة. ومن دون صدّ الأذكياء من أبناء الطبقات الأخرى عن عمليّة الاصطفاء، إذ ما من أحد يعرف بالتمام أين تكمن المواهب والعبقريّات ممّا ينبغي البحث عنه في كلّ مكان ومرتبة وعرق، يبقى أنّ خليطاً من المواهب والتعليم والوراثة تتحكّم باختيار النخبة. وتأسيساً للمذهب الذي اعتنقه في زمننا الحديث رجالات كَـ جوهانّ فيخته والمربّي جوهانّ بيستالوزّي (وساطع الحصري)، رسمَ أفلاطون التعليم الشامل بوصفه أوّل الإنقاذ الكبير للجمهوريّة، كما أنشأ «الأكاديميّة» لاستنساخ سقراطات كثيرين كان أحدهم أرسطو، حيث دأبت خليّة التفكير تلك على المُجادلة في الأفكار والعالم.

        وفي المنهج المُعَدّ لتدريب النخبة يكون التعليم، للسنوات العشر الأولى، فيزيائيّاً أساساً، كما يُفترَض بالمدرسة أن تضمَّ صالة ألعاب رياضيّة (جِمنازيوم) وملعباً، ويصار إلى تعريف الأطفال المرشّحين لأن يغدوا ملوكاً فلاسفة بموسيقى وأدب يُختاران بقدرٍ من الضبط والرقابة. وفي خطوة لاحقة يُلقَّنون الرياضيّات وعلم الفلك، حتّى إذا بلغوا الثلاثين أُخضِعوا إلى امتحان تنافسيّ صارم، ينتقل بعده الناجحون إلى دراسة الديالكتيك الذي ينتمي إلى سويّة المعرفة العليا. هكذا يمسي الطالب على بيّنة من الحقائق الخالدة التي هي الأفكار – الأشكال التي يستغرق استيعابُها خمس سنوات.

        لكنّ المهمّة لا تتوقّف هنا، إذ بعد السنوات الخمس يُرسَل «الكادر» الجمهوريّ، الآتي من «الشمس»، إلى «الكهف»، كي يتعامل مع إغراءات العالم الحسّيّ وصغائره. وفي المحطّة العمليّة والأخيرة هذه يقضي خمس عشرة سنة يُقبَل بعدها عضواً في «كاست» الطبقة الحاكمة.

        إلاّ أنّ المُختارين هؤلاء سوف يعيشون هم أيضاً حياة محكومة بالنظام وإنكار الذات وتكريسها للهدف النبيل. فهم، ومثلهم أعضاء طبقة المحاربين، ممنوعون من كلّ تَملُّكٍ خاصّ، وعليهم أن يعيشوا كالجنود في الثكنات، ينامون في أمكنة مشتركة ويأكلون معاً ولا يتناولون من الطعام إلاّ كمّيّات معتدلة. وهم يُحرَمون كلَّ حياة عائليّة تَجنُّباً للتنافر بين الولاء للعائلة والولاء للدولة. أمّا إشباعهم الجنسيّ فمُقيَّد بالإنجاب، وذلك للحفاظ على استمراريّة طبقة الحكّام، فيما العلاقات الجنسيّة هذه، بسيولتها ووظيفيّتها، «زيجاتٌ مقدّسة»، يُناط بـ«العلم» اختيارُ الشركاء فيها بما يضمن التفوّق العقليّ والبدنيّ للمواليد الجدد. وأمّا الذين يقرّرون مَن ينام مع مَن فهُم الحكّام الأكبر سنّاً، الذين يختارون الإناث الأفضل للأفضل بين الذكور. وبدورهم فالأولاد الذين يُنجَبون يُرَبّون بعناية فائقة في حضانة عامّة، إذ عبر تَملُّكِ الأبناء يُصار إلى حمايتهم من عادات أهلهم، وإلاّ أُفسدت الشبيبة بتأثير المَثَلِ الرديء الذي يعطيه الأهل لها.

        ولا يقف هنا البدء من صفر كما عرفناه في تجارب توتاليتاريّة حديثة. ذاك أنّ الذين يولدون على شيء من المرض أو التخلّف يُفرَزون عن الآخرين ويُتركون للموت في مكان مجهول. والقسوة المبكرة هذه في الحيّز الذي بات يُعرف بـ«تحسين النسل»، وقد قيل أنّ أفلاطون أوّل من سكّ مفردة eugenics، إنّما كانت جزءاً من القسوة الأعمّ مُمثَّلةً في إخضاع الفرد للدولة وإعطاء النخبة الحاكمة سلطة لا رقابة عليها تتناسب مع موقف أفلاطون من الديمقراطيّة. ومعروفٌ أنّ الأخير كان في الثامنة والعشرين حين دُفِعَ أستاذه سقراط إلى تجرّع السمّ نزولاً عند تحريض العامّة، وكان ذلك في ظلّ الديمقراطيّة الأثينيّة، ما عزّز كرهه واحتقاره للاثنتين.

        وهنا يُطالِعنا البُعد المُحبَط والنكوصيّ الذي يقيم في الأفكار الخلاصيّة المنسجمة. فصاحب «الجمهوريّة» أطلَّ على الحياة في زمن كئيب ظهر مَن يُشبِّهُ أوجهاً منه بأوجهٍ من عهد جمهوريّة فايمار الألمانيّة التي سبقت النازيّة. ذاك أنّ الحرب البيلوبونيسيّة بين أثينا وإسبارطة إنّما استمرّت سبعة وعشرين عاماً، وما إن تحقّق الفوز الفعليّ لإسبارطة حتّى أَلغى المنتصرون الديمقراطيّة الأثينيّة وفرضوا ما عُرِفَ بنظام «الطغاة الثلاثين» الأوليغارشيّين. وبدورها كانت بيئة السقراطيّين، تبعاً لنخبويّتها وتحفّظها على الديمقراطيّة، متعاطفة مع الأوليغارشيّين وميّالة إليهم. أمّا أفلاطون نفسه فجذبه برنامجهم لـ«إعادة تسليح أثينا أخلاقيّاً» بوصفه رجوعاً إلى القيم القديمة، وبديلاً من الخفّة الديمقراطيّة ومن تفريط الديمقراطيّين بالمسؤوليّة. لكنّه، مع هذا، لم يحتمل التعايش طويلاً مع طغمة الثلاثين الذين، على أيّ حال، لم يُعمِّر نظامهم.

        إلاّ أنّ الديمقراطيّة، وقد عادت، ارتكبت آنذاك قتل أستاذه ومحبوبه سقراط. وبسبب شكوك قادة الحزب الديمقراطيّ به، غادر أفلاطون أثينا هائجاً وساخطاً وحزيناً، فهاجر إلى مصر بعد مدائح سمعها لطبقة الكهّان التي تحكمها. ومن مصر الراسخة والصارمة في مراتبيّتها قياساً بسيولة أثينا وتجريبيّتها، تَوجَّه إلى صقليّة، ثمّ إلى شمال إيطاليا، وانضمَّ إلى المدرسة الفيثاغوريّة، نسبةً إلى الفيلسوف الذي ارتبط اسمه بـ«التناسق» في الموسيقى والرياضيّات، لا سيّما المثلّثات. وقد مضى أفلاطون لاثنتي عشرة سنة يتنقّل ويكتشف، وقيلَ، وإن لم تحظَ تلك الرواية بالإجماع، أنّه توجّه إلى يهودا، حيث تأثّر بتقليد الأنبياء الاشتراكيّين، كما ذُكِرَ أنّه قصد الهند واطّلع على التأمّلات الصوفيّة للهندوس.

        وعلى العموم، احتكّ كبير فلاسفة الإغريق بتجارب وثقافات موسومة بدرجة أرفع كثيراً من المراتبيّة والتقليد والعيش على هَدي أفكار يُستدرَج الاجتماع إلى الإذعان لها.

        ومن ناحيتها لم تُفلح محاولاته اللاحقة للعب دور سياسيّ مؤثّر. فهو راهنَ على تحويل ديونيسيوس، ملك سيراكيوز، من أعمال صقليّة، ملكاً فيلسوفاً، لكنّ الأخير، وفق إحدى الروايات، باعه عبداً، فلم يُحرَّر إلاّ بعد تَعرَّفَ أحد عارفيه الأغنياء عليه.

        لقد انكفأ أفلاطون على مشروعه الفكريّ، مُراكِماً إحباطات كبرى على النطاقين الخاصّ والعامّ. هكذا بُرِّرَ إغلاق التاريخ وإسكات التناقض علاجاً للفوضى والهزيمة، ونقضاً للعامّة وللديمقراطيّة. وهي في أيّ حال كانت ديمقراطيّة مباشرة واستبعاديّة بالقياس إلى الديمقراطيّة التمثيليّة والشاملة لزمننا. فالمعرفة التي تحملها القلّة، وهي دائماً معرفة بفكرة، تُخرِجُ من البعثرة والتيه وتُوصِلُ إلى وضوحٍ ليس من بَعدٍ بعدَه. ذاك أنّه ما إن يحلّ الصلاح العميق في المواطنين ويُحدِّدَ الملكُ الفيلسوف ما الذي ينبغي على كلّ فرد فعله، حتّى ينتظم عمل المجتمع انتظام دقّات الساعة. فالملك الفيلسوف هو وحده المُؤهَّل، ولن تُشفى المدن ولن يُشفى الجنس البشريّ قبل تَحوُّل الفلاسفة إلى ملوك أو رسوّ الملوك والأمراء على روحيّة الفلسفة، بحيث تجتمع الحكمة والقيادة في شخص واحد.

        واستبدَّ بنظام أفلاطون الاقتصادي أيضاً قلق الفوضى الذي يعبّر عنه أيّ حَراك اقتصاديّ أو سياسيّ ملحوظ. فالخوف من أن يُثري المنتجون الأغنى دون سواهم يقود إلى صراع اجتماعيّ بغيض، وهذا علماً بأنّ طبقة المنتجين تبقى الأكثر حظوة في سائر المجالات التي تقع في مرتبة تقلُّ عن مرتبة المعرفة، فهي بالتالي أكثر حرّيّة في اقتصادها وحياتها الشخصيّة والعائليّة والجنسيّة من الطبقتين الأخريين.

        ولأنّ الفكرة تستأصل سيولة الواقع وحركيّة الحياة، بدت الكماليّات شرّاً يدفع الناس إلى عدم الاكتفاء بالحياة البسيطة. فالناس تَملُّكيون وطموحون وحُسَّاد، وهذا ما يؤدّي إلى عدوان جماعة على أخرى وإلى تنافس على موارد الأرض تنشب الحروب بسببه. وإذ تتطوّر التجارة والمال تتطوّر معهما انقسامات طبقيّة جديدة. فكلّ مدينة مدينتان، كما سيقول فريدريك إنغلز عن لندن بعد قرون، واحدةٌ للفقراء وأخرى للأغنياء، فيما لا تنشغلُ إحداهما بغير محاربة الأخرى والكيد لها.

        ويُنتج التغيير في توزيع الثروة تغييراً سياسيّاً تتجاوز معه ثروةُ التجّار ثروةَ مَلاّكي الأرض، وتحلّ أوليغارشيا بلوتوقراطيّة محلَّ أرستقراطيّة أولئك المَلاّكين، كما يحكم الدولةَ التجّارُ والمتموّلون والأغنياء. وهكذا تتراجع مهمّة تسيير الدولة (statesmanship) بوصفها تنسيقاً للقوى الاجتماعيّة ومُواءمةً للسياسة مع النموّ، والتنسيقُ والمواءمةُ هذان يهبطان من أعلى، لتحلّ محلّها السياسة (politics) بما هي استراتيجيّة حزبيّة وشهوة إلى مغانم الحكم الصغرى.

        وبعضُ أسوأ الأسوأ أن يُدمَج تسيير الدولة في السياسة المرذولة. ذاك أن الأوّل علمٌ وفنّ ينبغي أن يكون صاحبهما، الملكُ الفيلسوف، مُدرَّباً عليهما وأن يعيش لهما.

        وبدورها فإن الأرستوقراطيّة تُدمّر نفسها حين تبالغ في تضييق دائرة الحكم، كما تدمّر الأوليغارشيا نفسها في سعيها الملهوف إلى الثراء، وفي الحالتين تكون الثورة نهاية المطاف. لكنْ إذا أتت الديمقراطيّة، ومعها تَغلُّبُ الفقراء على خصومهم، فإنّهم سوف يذبحون البعض ويُخفون الآخرين ويعطون الشعب حصصاً متساوية من الحرّيّة والسلطة. وهكذا لن تلبث تلك الديمقراطيّة أن تُدمِّرَ نفسها بفعل المبالغة في الديمقراطيّة. وأمّا مصدر المبالغة هذه فليس سوى المبدأ الديمقراطيّ نفسه، القاضي بتساوي الجميع في تَسلُّم المناصب وتقرير السياسات العامّة. فلئن بدا هذا لوهلة ترتيباً باعثاً على الارتياح، فإنّه يغدو كارثيّاً في ظلّ افتقار الشعب إلى التعليم الذي يTتيح اختيار الحكّام الأفضل والمناهج الأكثر حكمة. فالشعب، وهو لا يفهم، يُكرّر ما يقوله له الساسة ممّا يُبهجه، ومع كلّ هبّة ريح تُحدِثها في الرعاع الخطابةُ المحرّضة تضطربُ مياه الاجتماع وتضيع الوجهة.

        وفي هذه الغضون لا يَنتجُ عن ديمقراطيّة كهذه إلاّ الطغيان أو الأوتوقراطيّة. فالحشود تحبّ المديح، والمدّاحُ الأكثر جعجعة والأقلّ مبدئيّة، والذي يسمّي نفسه حامي الشعب، هو من يصعد إلى ذروة السلطة. وعن هذا التصوّر تنجرُّ نتائج تربويّة وتنظيميّة في آن. فالمُنتِجون مثلاً، ورغم الامتيازات المتاحة لهم، سيكون تعليمهم الأشكالَ والأفكارَ مضيعةً للوقت وللجهد، تبعاً لمحدوديّة ذكائهم، بينما الأجدى تعليمهم المهن وفق استعداداتهم. وهنا أيضاً سيكون الحُكَّام مَن يختار لهم مِهنهم، كما يُصار إلى إخضاعهم لصناعة ذهنيّة تُلقّنهم طاعةَ أولئك الحكّام فضلاً عن أخلاقيّات العمل. وهذا في عمومه يفترض رقابة حكوميّة صارمة تشرف على ما ينبغي إطلاعهم عليه وما لا ينبغي.

        والحال أنّ الفجوة الأفلاطونيّة شديدةُ الضخامة بين الحكّام العارفين والمحكومين غير العارفين، ما يجعل التواصل صعباً، كما يُجيز للحكّام اعتماد «الكذب النبيل» على محكوميهم لدفعهم إلى القيام بما ينبغي عليهم القيام به. فالحُكّام إنّما تقع عليهم مسؤوليّة حماية المجتمع من الغوى والتخريب اللذين يتأتّيان عن الفنّانين والشعراء والموسيقيّين والمسرحيّين ممّن كرههم أفلاطون، وهذا رغم تكوينه الأدبيّ والفنّيّ الرفيع، ورغم أنّه بدأ حياته الثقافيّة كاتباً مسرحيّاً، قبل أن يكتب حواراته بلغة تجمع الفلسفة إلى الشعر، والعلم إلى الفنّ، والجَدّ إلى التهكُّم. فهو مثلاً لم يَرُقْه ما سبق أن كتبه هوميروس في تصويره تنازُع الآلهة وكذبها وسعيها وراء الانتقام. ومثلما طردَ الشعراء من جمهوريّته، فرض رقابة على الموسيقى بطيئة الحركة والإيقاع وعلى الموسيقى «غير الرجوليّة»، وكان معروفاً رأيُه بالمسرح حيث أفتى بمنع الشبيبة من مشاهدته بسبب ما فيه من عنف، وهو الرأي الذي ردَّ عليه أرسطو في شِعريّاته. وهذا مُجتمِعاً إنّما رأينا عنه صوراً كثيرة في أنظمة التوتاليتاريّات والديكتاتوريّات التي عاناها تاريخنا الحديث، ولا زال يعانيها.

        وكان أرسطو ممّن ساءلوا نظريّة أفلاطون في الأشكال، فرأى أنّه إذا كان الإنسان موديلاً عن شكل أمثل فما هو موديل الشكل الأمثل؟ لكنّ آخرين فعلوا أيضاً، في عدادهم أنتيستِنِس السفسطائيّ الذي تتلمذ هو الآخر على سقراط، وقال بقدر من السخرية إنّه رأى أحصنة ولم ير الحصانيّة، كما رأى الكرسيّ ولم ير الكُرسيّة، طارحاً علينا لوناً من التجريبيّة في التفكير وساعياً وراء براهين حسّيّة تسند المزاعم الكبرى.

        أمّا في زمننا الذي تركَ أفلاطون تأثيراً هائلاً على أفكاره، فإنّه لم ينجُ من نقد بعض كبار فلاسفته ومفكّريه. فبطريقته ولُغته رأى فيه نيتشه صاحب خديعة خطرة، خطرُها أنّها تخفض قيمة الواقع، الهُنا والآن، وتحقن الأخلاقيّات في نسيجه. وهو صنّفَ فلسفته بأنّها «ضدّ طبيعيّة»، بمعنى أنّها مضادّة لـ«غرائز الحياة»، فضلاً عن كونها، كما سبقت الإشارة، تمهيداً للمسيحيّة. وكان لـ حنه آرنت تَحفُّظان كبيران على فيلسوف الإغريق. فالأفلاطونيّة، وكذلك الرواقيّة والمسيحيّة، غَلَّبت حيّزَ التأمُّل على حيّز العمل، لأنّ تغليباً كهذا ينجّي المُغلِّبين من صعوبات الواقع ومن إحباطات العمل. فأفلاطون عندها، وكذلك توماس هوبز، حطّا من قدر الرأي في الشؤون السياسيّة. وآرنت، كما نعلم، لم تتعب من التأكيد على قيمة الخطاب السياسيّ وأهميّة المداولات وعمليّة الإقناع، والتنويه تالياً بالسياسة بوصفها إقراراً بالاختلاف والتعدُّد. لكنْ ربّما كان كارل بوبر أكثر من أحكمَ نقده لأفلاطون، راسماً إيّاه جدّاً أعلى للتوتاليتاريّة الحديثة. ففي كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه، رصدَ فيلسوف العلوم النمساويّ البريطانيّ الجذورَ الفلسفيّة لذاك الميل التوتاليتاريّ، فصَحِبَنا عبر رحلة في الزمن إلى ما يراه أوّل مجتمع مفتوح عرفه التاريخ، أي أثينا الإغريقيّة. ذاك أنّ ثقافة تلك المدينة كانت فريدة في كونها صناعة أشخاص هم فعلاً «أفراد» مُندرجون في نظام للديمقراطيّة يتولّى حلّ مشاكلهم. وهو أيضاً نظامٌ فريد من زاوية أنّ مؤسّساته وقيمه وثقافته كانت موضوعاً للتقصّي والاختبار بحثاً عن الطرق الأفضل في الحاكميّة والمجتمع الأحسن. لكنّ بوبر رأى أنّ خصوصيّة أثينا، أي كونها مجتمعاً مفتوحاً، تُرتِّبُ ثمناً ينبغي أن يدفعه المرء كي يسلك طريقه. فالحياة في مجتمع كهذا أشدّ تعقيداً بلا قياس من العيش في مجتمع مغلق. ذاك أنّها غير محكومة بولاء مُحدَّد مُلزِم ومُجيب عن الأسئلة كافّة، ولا تُصَاغ بموجب معيار نهائيّ يرسمُ للكائن، منذ ولادته، موقعه ودوره. ففي المجتمع المفتوح ليس هناك من يقول للمواطن ما الذي عليه أن يفعله لخدمة الكلّ الاجتماعيّ، إذ تُقيم المعرفة تلك في مسؤوليّته كفرد. ولأنّه لا توجد فكرة تهيمن على الواقع وتقوده، بات على ذاك الفرد أن يسعى إلى ما يجعله مواطناً مُطَّلعاً. فهو من يتّخذ القرار في ما خصّ تكييف أموره وتكييف الحياة بما يفضي إلى وضع أفضل، وهذا بدوره يستدرجه إلى التفكير الصعب ويحضّه على بذل الجهود طلباً للإجابات.

        وبدورها فإنّ عمليّة كهذه تأتي مصحوبة بالشكّ والتردّد حول المواقف التي تُتَّخذ. هكذا يلازم المجتمعَ المفتوحَ عدمُ استقرار ناجم عن إعادات النظر في الأشياء الطارئة والمتغيّرة، ممّا لا يعرفه سليل العالَم الجماعيّ، القَبليّ أو الدينيّ، الفاشيّ أو الشيوعيّ، المحكوم بفكرة منزّهة وقائدة. لهذا ظهر في أثينا أشخاص كسقراط يُسائلون القيم والمؤسّسات ويطالبون بتعريف المفاهيم، كما ساد نوع من القلق واللايقين بحيث اتُّهم سقراط بتخريب الشبيبة والإساءة إلى الآلهة، وهذا بينما تمكّنت إسبارطة، التي لا تساورها الشكوك، من احتلال أثينا بعد إلحاق الهزيمة بها في الحروب البيلوبونيسيّة. وإذ شاهدَ أفلاطون الشابّ الهزيمة والاحتلال وموت سقراط واضطراب الحياة العامّة وما يرتّبه تجريب الجديد من فوضى تهزّ الحياة القديمة وقيمها، بات يبحث عن الفكرة التي تقطع كلّ شكّ باليقين. فالإسبارطيّون المنتصرون صدّوا تناقضات الواقع عن واقعهم، إذ هم مثلاً لم يسمحوا بالمتاجرة لأنّ التجّار يأتون بحراً إلى مرفأ المدينة، وغالباً ما يتحدّثون لغة أو لهجة مختلفة، ما يجعلهم برابرة مُعوجّي اللسان، كما أنّهم يحملون معهم موادّ غريبة ليست مألوفة. وإذا صحَّ أنّ الناس تستثيرهم الموادّ الغريبة، صحَّ أنّ هذا يُحدِثُ ارتباكاً في الاجتماع السائد وفي تناسقه ومألوفه. وهذا فضلاً عن أنّ التجّار ينقلون إلى حيث يحلّون أخباراً عن عبادات وعادات وقيم مختلفة صدروا عنها. ولم يكن عديمَ الدلالة أنّ افلاطون أبدى بدوره شديد العداء للمال والتجارة والتجّار.

        ولأنّ الكامل المُستغني عن الإضافة هو وحده النقيّ، فإنّ النُسَخ الزائفة عن «الأشكال» خاضعة دائماً للتفسّخ والانفساد، وهو ما نراه واضحاً في أجسادنا التي تهرم وتشيخ، كما في الأنظمة والاقتصادات والأحوال النفسيّة، وتالياً في الواقع. أمّا ما فعله أفلاطون، بحسب بوبر، فأنّه رفع هذا التفسُّخ الحتميّ إلى مصافِّ المشكلة التي كلّف الفلسفة أمرَ حلّها. فهو حين يسأل عمّن ينبغي أن يحكم الدولة وكيف ينبغي أن يحكمها، يرتكب الخطأ الأكبر المؤسِّس للتوتاليتاريّة، إذ يقارب حلّ مشكلات زمنه السياسيّة من زاوية ما يسمّيه بوبر الكلّيّة (holism)، أو تداخل الأجزاء وانضواءها في كلٍّ واحد. فنحن لكي نفهم شيئاً على نحو صائبٍ وكافٍ لا يكفينا أن نفهم الأشياء المكوِّنة التي يُصنع الشيء من اجتماعها، بل علينا أن نفهم الشيء ككلّ وكواحد وكأصل. وهذا تقدير قد يصحّ في بعض المسائل والحقول، إذ لاستيعاب النظام البيئويّ مثلاً لا بدّ من إدراك شامل لكيفيّة اشتغال العناصر المُشكِّلة له، وهو ذاته ما يصحّ في فهم العضويّات متعدّدة الخلايا. أمّا النظر، من هذه العين الكُلّيّة، إلى مسائل يؤثّر فيها البشر بقراراتهم وإراداتهم وأهوائهم ومصالحهم، وفي عدادها الدولة وتَصوّر حكومة تمنع عمليّة التفسّخ الحتميّة، فلا تتأدّى عنه سوى حصيلة توتاليتاريّة.

        وكانت من مشاكل أفلاطون الكبرى، وفق بوبر، أنّه جعل استقرار الدولة يتقدّمُ على أيّ اعتبار يتعلّق بالفرد ويتعالى عليه. فالماكرو أهمّ دائماً من الميكرو، والكلّ الجمعيّ أهمّ من أفراده أيّاً كانوا. ومن التفكير هذا ينبثق الرأي الذي يُخفّف من أهوال المصائب التي تصيب البشر أو يُدرجها في المُتوقَّع: فهم مثلاً قد يعانون وقد يُحرَمون كلّ تمثيل سياسيّ، بل قد يُقتَلون، إلاّ أنّ تضحياتهم قد تكون مطلوبة وفي محلّها لأنّ الكلّ الاجتماعيّ يمضي وينمو على نحو مستقرّ ومُخطَّط سلفاً. وهكذا فالنهايات، التي هي الاستقرار طويل الأمد، أو نهائيُّ الأمد، تُبرِّرُ الوسائلَ التي هي ألم إنسانيّ عارض ومؤقّت.

        لقد اعتبر بوبر أنّ أفلاطون صَمَّمَ نظامه مدفوعاً بنوايا طيّبة، إذ أراد أن يضع حدّاً لما اعتبره أعقد المشاكل التي تعانيها الفلسفة السياسيّة لزمنه، أي حتميّة التفسّخ والتهرّوء الأرضيّيَن. لكنّ هدف النظريّة السياسيّة ليس الإتيان بصورة مجتمع طوباويّ أو دولة مثالٍ يقاومان الشيخوخة. ذاك أن اليوم الذي ستُحَلّ فيه النزاعات السياسيّة لن يأتي، ولسوف يتعايش ملايين الناس على هذا الكوكب فيما تكبر المشكلات وتُبقينا بحاجة إلى حلولٍ يتعاقب القادة أمامها على الفشل. وهكذا فالسؤال الذي طرحه أفلاطون، أي مَن الذي يحكم وكيف يحكم بما يضمن استقرار الدولة؟ إنّما هو السؤال الخطأ، إذ السؤال الواقعيّ هو: كيف ينبغي تأسيسُ الدول وتشكيلها بما يُتيح التخلّص من الحاكم السيّء دون عنف ودم؟ وهو ما يتيحه المجتمع الديمقراطيّ المفتوح في رأي بوبر.

        *****

        في التقليد الغربيّ، ربّما جاء الانتصار الكبير الثاني الذي أحرزته الفكرة الساحقة مع القدّيس أوغسطين. فالتترُّس بالدين يصلنا هنا صافياً وأُحاديّاً بلا شريك. وأوغسطين، من ناحيته، لم يرسم مدينة ولا حدّدَ لها ولسكّانها ما فعله أفلاطون بجمهوريّته وناسها. ذاك أنّ «مدينة الله» الأوغسطينيّة أقرب إلى الكنيسة التي أقامها الربّ، حيث يجتمع مُحبّوه والساعون إليه. وكان القدّيس الكبير قد تحدّثَ في مرّات عدّة عن الكنيسة التي أقامها الله بوصفها المُعادِل لمدينته المثال. ذاك أنّ البشر لا يستطيعون أصلاً بناء مدينة كهذه، وعليهم ألاّ يتوهّموا القدرة على ذلك.

        فأوغسطين لم يُلغِ الواقع فحسب، بل حرمه كلّ احتمال، وبحرمانه هذا حرمَ الذات الإنسانيّة، التي ألحق الشلل بقدراتها، من أن تكون ذاتاً فاعلة.

        لكنْ إذا صحّ أنّ أفلاطون مهّدَ للمسيحيّة، صحَّ أنّ أوغسطين، الذي شكّلت الأفلاطونيّة الجديدة مصدراً من مصادره، يجلو هذا التمهيد ويُشخِّصه.

        فبعد رحيل صاحب «الجمهوريّة»، غدا ما عُرِفَ بالأفلاطونية الجديدة أشبه بمذهب يعتنقه أتباعٌ له فكّروا بتطوير مفاهيمه. وقد درجَ ردُّ العقيدة هذه إلى الفيلسوف الأغريقيّ والأفلاطونيّ بلوتينوس، أو أفلوطين، الذي عاش في القرن الثالث والتفَّ حوله تلامذة وورثة كبورفيري وبروكلوس وسواهما.

        وفي ما يعنينا هنا، نظرت الأفلاطونيّة الجديدة إلى الإنسان بوصفه يتألّفُ من مستويات عدّة كلٌّ منها واقعٌ بذاته. أمّا أعلى تلك المستويات فهو «تو هِن» (To Hen) أو «الواحد»، وهو ما لا يمكن وصفه كونه مخبّأً في عتم كثيف. لكنْ عن هذا المستوى يتولّدُ مستوىً آخر اسمه «نوس» (Nous) الذي يعني العقل أو الذكاء، وهو النمط البدئيّ الأصليّ لكلّ ما في الكون، أي هو عالم الأشكال الأفلاطونيّة، وعنه يتولّد المستوى الثالث أو النفس الذي يُعَدّ أساس العالم الماديّ. وهي مستويات محكومة بمسار يصعد بها من النفْس إلى العقل ثمّ إلى الواحد. فالأخير، هو في آن معاً، منبع المستويين الآخرين ومَصبُّهما، إذ منه ينطلق كلّ شيء وإليه يعود. وما الخطّ الصاعد هذا إلاّ هدف الإنسان، إذ هو ينتهي إلى اختبار وحدة صوفيّة تجمعه بالعقل قبل أن تجمعه بالواحد.

        وكما هو معروف قالت الأسطر الأولى من إنجيل يوحنّا: «في البدء كانت الكلمة، والكلمة كانت مع الله، والكلمة كانت الله». وتصديرٌ كهذا للكلمة، أو اللوغوس، يقطع بأن المسيحيّة دخلت مبكراً في محاورة الفكر الإغريقيّ. فمع أن الديانة تلك انبثقت من اليهوديّة إلا أنّها تداخلت في أصولها مع سائر التيّارات الفكريّة والدينيّة التي عرفها المتوسّط آنذاك، وكان أهمّها ما أنتجه الإغريق.

        أمّا الذين رأوا في أوغسطين تركيباً بين تقليد أثينا العقلانيّ وتقليد أورشليم الدينيّ، وفق ثنائيّة ليو شتراوس الشهيرة، فاستوقفهم تأثّره بالأفلاطونيّة الجديدة من ضمن ذاك التفاعل. فالتفكير المسيحيّ في القرون الوسطى كان، إلى حدّ بعيد، أفلاطونيّاً جديداً، حتّى أنّ بعض دارسيه رأوا أنّ أوغسطين كان مسيحيّاً وأفلاطونيّاً جديداً في وقت واحد، وهذا علماً بأنّ أفلاطونيّته، كما استدركوا، كانت واحدة من أدوات فهمه مسيحيّتَه التي ظلّت هي الغاية.

        وقد شاعت عبارة تقول إنّ أوغسطين «عَمَّدَ أفلاطون» فجعله مسيحيّاً. فلئن نبعت الأشكال كلّها، عند فيلسوف الإغريق، من شكل للصلاح أعلى وأرفع، ففي المسيحيّة ينبع كلّ جوهر نجده في العالم من الله، من عقله أو كلمته أو إرادته. وفي توحيده المَرجعين استطاع أوغسطين أن يجيب عن سؤال لم يستطع أن يجيب عنه أفلاطون حين طرحه أرسطو: أين يكمن الشكل الأعلى، أين تكمن الحصانيّة والكرسيّة وسواهما ممّا ينتشر في المكان والزمان ونتعقَّله بالحواسّ؟ أمّا أوغسطين، القدّيس، فكان يسعه ردّ ذلك إلى عقل الله كما بشّر به «سفر التكوين».

        وكان الوسيط المباشر بين أوغسطين والأفلاطونيّة الجديدة أمبروس، أو أمبرواز، الذي، بتعريفه إليها، ساعده في الانفكاك عن المانويّة التي كان قد تَأثَّر بها طويلاً من قبل. فأمبروس علّمه القراءة المَجازيّة للكتاب المقدّس، بحيث عرفَ أنّ الله ليس كائناً مادّيّاً كما كانت تقول الفِرق الرائجة يومذاك، بل هو روحٌ ومعنى، وأنّه مصدر كلّ الكينونة، لا مصدر نصفها كما زعم المانويّون. فالشرّ بالتالي لا يملك وجوداً مستقلاًّ بذاته إذ هو لا أكثر من تخريب للصلاح، أو أنّه طفيليُّ الصلاح المقيم على هوامشه.

        كذلك كان من نتائج التأثُّر بأفلاطون إقرار أوغسطين بوجود حُبَّين: حبّ للأشياء الأدنى وحبّ للأشياء الأعلى. وفي الأفلاطونيّة الجديدة يرتبط الحبّ للأدنى بالرغبة، ما يتسبّب باستعباد النفس وتَسيُّد الجسد. إلاّ أنّ في وسع التفكير والذكاء طرد تلك العبوديّة برفعهما المُحبَّ إلى سويّة الحبّ للأشياء الأعلى. غير أنّ أوغسطين، وإن استهوته نظريّة الحُبَّين، تحفّظَ على ردِّ الخلاص إلى العقل والذكاء.

        لقد عاشَ القدّيس الأمازيغيّ في القرنين الرابع والخامس، في الجزائر الحاليّة، إبّان تداعي الإمبراطوريّة الرومانيّة. أمّا كتابه كثيرُ الأجزاء عن مدينة الله ضدّ الوثنيين، أو بحسب ما عُرف به «مدينة الله»، والذي صدر بعد سنوات على غزو روما ونهبها في 410، فكُتِبَ ردّاً على مزاعم تفيد بأنّ اعتناقها المسيحيّة هو المسؤول عمّا حلَّ بتلك المدينة العظيمة.

        ويوضح أوغسطين، وهذه موضوعة الكتاب الأهمّ، أنّ هناك مدينتين، مدينة الله ومدينة الإنسان: فالأولى مملكة أبديّة وتجسيد لمبادىء مقدّسة حيث الأرواح والنفوس تُحرّكها محبّةٌ لله لا تتزحزح، وهي من ثمّ نقيضُ الطبيعة العارضة والعابرة التي تَسِمُ مدينة الإنسان. فالأخيرة مُنزرعة في العالم الزمنيّ، تتميّز بانشغال سكّانها بمادّية حبّ الذات والملذّات الأرضيّة. ومن خلال هذا التمييز بين المدينتين تُفهَم موضوعات أعرض تتّصل بتناقض السعي المقدّس والسعي الأرضيّ، وكيف يتعارض السعيان ويؤثران على التاريخ الإنساني ومصائر البشر.

        فمدينة الإنسان الزمنيّة محكومة بالزوال والتفسّخ، تبعاً لطبيعتها العابرة، وهكذا حال الممالك الأرضيّة كائنة ما كانت قوّتها. وهذا فيما لمدينة الله أو مملكته التي «ليست من هذه الأرض» بحسب مسيح يوحنّا، أصلٌ ضارب في الحبّ الإلهيّ والحقائق الأبديّة، وطريق صلب يُفضي إلى سعادة وبركة أبديّتين. وهكذا لا بدّ من التمييز بين العابر والأبديّ، ومن التمسّك تالياً بالهدف المقدّس والأبعد الذي يحرّك دفّة التاريخ الإنسانيّ.

        وهذا ما يُوجب على البشر أنّ يتّجه تركيزهم، لا إلى اللحظات العارضة للحاضر، بل إلى المملكة اللّازمنيّة للمقدّس. فالسلام والسعادة والإنجاز لا تكمن في الملذّات والأعطيات التي توفّرها مدينة الإنسان بل في المعانقة الأبديّة لمملكة الله. 

        أمّا المسيحية فبراء ممّا حلّ بروما، لأن مدَّ الإمبراطوريّات وجَزرها جزء لا يتجزّأ من الطبيعة العابرة لتاريخ البشر. فالإمبراطوريّة، بغضّ النظر عن قوّتها وديانتها، زمنيّة بذاتها ومدفوعة دفعاً إلى الانحدار. وإذا كان ردُّ ذلك إلى المسيحيّة تبسيطاً للعلاقات المعقّدة، التاريخيّ منها والاجتماعيّ والسياسيّ، فإنّ الآلهة الوثنيّة التي خالَ البعضُ أنّها تحمي روما لا تستطيع شيئاً حيال تلك السيرورة المحتّمة، وهذا فضلاً عن أنّ الفضائل التي تُنسَب إلى تلك الآلهة تفتقر إلى كلّ أساس أخلاقيّ صلب. 

        ولا ينبغي، كذلك، النظر إلى تلك الأنماط الدوريّة من صعود وهبوط في شكل معزول يقتصر على ذاته، بل ضمن السياق الأعرض للقرار والعناية الإلهيّين. فكلّ حدث، كائناً ما كان، تصنعه العناية الدقيقة التي تتّجه بنا نحو صلاح أخير ونهائيّ. ذاك أنّ الخطط الإلهيّة المقدسة، وهي غالباً غامضة على الوعي الإنسانيّ، تخدم غرضاً أبديّاً أعلى: فإذ تبدو بعض الأحداث التاريخيّة فوضويّة أو اعتباطيّة أو غير عادلة من وجهة نظر البشر، فإنّها كلّها جزء من نسيجٍ خاطتْه اليدُ الربّانيّة. وهكذا ننظر إلى الألم والظلم والفوضى وسواها كمكوّنات أو كأجزاء من سرديّة مقدسة أكبر. فالتاريخ ليس تَعاقُباً كرونولوجيّاً للأحداث، بل قصّة تروي التفاعل بين المدينتين المتمايزتين ومساريهما ومصائرهما.

        وأمّا الخطيئة فليست مجرّد فعل انتهاكٍ وتَعدٍّ، بل هي تعبيرٌ عن مرض روحيّ أعمق غوراً. ومركزّيٌّ في هذا مفهوم الإرادة الحرّة: فالبشر الذين أُعطوا قوّة الخيار يستطيعون أن يختاروا سبيل التحالف مع القوّة الإلهيّة، كما قد يختارون الابتعاد عنها. لكنْ حينما تُمارَس هذه الإرادة الحرّة بطرق تُبعِدُ الروح عن الله، وهو غالباً ما يحصل، تكون الخطيئة المصحوبة بتفسُّخ روحي وأخلاقي. غير أنّه برغم هذا، وبرغم أنّ قصورنا كامنٌ في طبيعتنا الانسانيّة التي ترسمها الخطيئة الأصليّة، ففي وسعنا البحث عن البركة والعثور عليها عبر التوبة الأصيلة ومعاودة الانضواء في حضن الله.

        وقيامة الموتى ويوم القيامة من مرتكزات الدين، لا كمبدأ لاهوتيّ فحسب، بل كتوكيد لوعد الله بالحياة الأبديّة وبالعدالة. فالقيامة تتويجٌ للتاريخ الإنسانيّ حيث تُعطى الأرواح أجساماً لا تَفنى بل تتجاوز الوجودَ الأرضيّ وتتعدّاه. ومع الحدث التحويليّ هذا واتّصاله بيوم القيامة، يُحكَم على الأرواح بناءً على أفعالها وإيمانها، وهو ما يجدر بأن يُثير أملاً لدى المؤمنين مفاده أنّ آلامهم على هذا الكوكب عارضة قياساً بالمجد الأبديّ الذي ينتظر المؤمن.

        ويناقش أوغسطين أهمّ الاستعصاءات اللاهوتيّة، أي الصلة المعقّدة بين الإرادة الإنسانيّة الحرّة والأقدار المقرّرة سلفاً. فالمسيحيّة تؤكّد على حرمة الإرادة تلك، وعلى أنّ الأفراد يختارون خياراتهم بالاستقلال عن كلّ قوة مُقرّرة، لكنّها تبشّر، من جهة أخرى، بعِلم الله بكلّ شيء، إذ هو يعرف مسبقاً كلّ حدثٍ حدثَ في العالم أو سيحدث، بما في ذلك القرارات الإنسانيّة. ويتقصّى أوغسطين عميقاً المفارقة هذه فيُجادل بأنّ المعرفة المسبقة التي يمتلكها الله ليست عاملاً مُسبِّباً، بمعنى أن إدراكه للحدث لا يعني أنّه المتسبّب بحدوثه. وهكذا فالأمران اللذان يبدوان متناقضين قابلان لتعايش لا يلغي فيه أيٌّ منهما الآخر.

        وبإنشائه التيّار العريضَ للّاهوت، رسم أوغسطين حدود الذات والضمير المسيحيّين إذ حدّد دائرة المسؤوليّة التي تشمل السلوك والأفكار وصدَّ الإغراءات، وطبعاً الحياة الداخليّة للمؤمن ذي النوايا الخالصة. لكنّه في رسمه حدود الضمير والذات الإنسانيّة، كان بالغ التقريريّة في حكمه على التاريخ. فالعناية الإلهيّة هي دائماً الفاعل، والله، المقيم منذ خلْق العالم خارج الزمان والمكان، هو العارفُ المطلق. بيدَ أنّ هذا لا يعفينا من أن نبرهن، من غير توقّف أو كلل، أنّنا مسؤولون وأحرار من ضمن قرار الله ونعمته ومن داخل تحريكه التاريخَ الإنسانيّ. فلئن عُدَّ أوغسطين في تاريخ الفلسفة، كما في تاريخ اللاهوت، ممّن انكبّوا على مصالحة الإثنين في حدود الممكن، بقي رأيه أنّ الممكن لا يستطيع جعل اللاهوت كاملَ التوافق مع الفلسفة.

        وربّما كان إسهام أوغسطين الأهمّ أنّه أحلّ في الصدارة فكرة «الخطيئة الأصليّة» التي أتى بها بولس. والحال أنّ «سفر التكوين» لا يُلزم المؤمنين بتأويل يفرض عليهم الخطيئة الأصليّة، إذ لا تنطوي السرديّة اليهوديّة على ذاك المبدأ. غير أنّ ما يتحكّم بالموقف من المبدأ المذكور إنّما هو الموقف من الذات الإنسانيّة. فآدمُ حين أغوته الأفعى بالتفاحة كانت تغويه بالمعرفة وبشجرة الحياة الخالدة على نحو يرسمه عارفاً وخالداً، وبالتالي إلهاً. فهو إذاً عندما استجاب للغواية كان يتصرّف كبروميثيوس متجرّىء على الله، أو بالأحرى كشيطان آخر. والشيطان، في آخر الحساب، كان أمير الملائكة وأكثرهم شبهاً بربّه وقُرباً منه قبل أن يعصاه ويتمرّد عليه، وهذا بالضبط ما تراءى لأوغسطين أنّ آدم ارتكبَه. وبهذا كان أوغسطين كمن ينظّر لإطاحة النزعة الإنسانويّة في سعيها وإرادتها، وفي زعمها صُنعَ حياتها وصُنعَ العالم ممّا لا يعدو كونه تباهياً وعنجهيّةً وكُفراً. فلأنَّ آدم قرَّرَ بإرادته الكاملة أن يرتكب الخطيئة، كان الإنسان، من خلاله، يختار الأنانيّة والأبّهة، وتنصيب نفسه في مركز كلّ شيء، ومن ثمّ اغتصاب مقام الله. فهو إذاً لم يسقط من الجنّة بسبب خديعة الأفعى، بل لأنه شاء أن يرتكب الخطيئة، فاتحاً بفعله هذا فجوة ميتافيزيقيّة كبرى بين الله والإنسان. فذات مرّة كنّا معاً منسجمين في عدن، ومُذّاك انحطّت طبيعتنا وبِتنا مضطرّين، كي نَبلُغَ خلاصاً لا نستطيع، نحن الخُطاة، إتيانه بأنفسنا، إلى شكل أو جوهر يتوسّط العلاقة بين الجوهر المقدّس والجوهر الإنسانيّ. ومن هنا تحديداً كان احتياجنا إلى الإنسان الإله أو الإله الإنسان الذي كانه مسيحٌ سدَّ الفجوة التي أحدثها آدم.

        وقد اقترح أوغسطين أنّ البشر جميعهم يرثون، مختارين أو مجبرين، خطايا آدم، فتتحكّم بهم «شهوة السيطرة» (Libido Dominadi) في ليلهم ونهارهم، ويروح واحدهم يعامل الآخر بطريقة متوحّشة، عديمة الأُخوّة والفهم وعاجزة عن الحُبّ. واستيلاء الخطيئة الأصليّة علينا على هذا النحو قد يكون باعثاً على اليأس، إذ ما من شيء بشريّ يُعوَّل عليه في مُنعطَف كهذا. لكنْ إذا كان لتَصوّر من هذا الصنف أن يوفّر عزاء تخفيفيّاً بإعفائه أصحاب الأفعال من المسؤوليّة عنها، فهو يُؤسِّس نوعاً من الإذعان حيال ما هو حتميّ ومُقدَّر سلفاً،  إذ ينبغي مثلاً ألّا نغضب حين نُعاقَب أو نُضطهَد، لأنّ هذا شرطٌ إنسانيّ مصدره مُقيم في الخطيئة الأصليّة.

        وكما تستحيل العدالة على هذه الأرض، في روما كما في سواها، لا يُمكِّنُ المالُ صاحبه ولا يسلك به طريق الفضيلة بل هو، وبوصفه من أهمّ المتع الفانية، يصرفه عن التفكير بالله.

        لقد عاش أوغسطين وكتب مع انهيار الامبراطوريّة الرومانيّة، وبالتوازي كان يغيّر التصوّر الكلاسيكيّ عن الذات أكانت صورة للفضيلة، كما عند أفلاطون، أم كائناً رفيع الذهنيّة، كما عند أرسطو. وكان لتَحوُّلٍ كهذا أن لبّى انحسار العصر الكلاسيكيّ وناسبَه، وهيّأ لاستقبال العناصر الأُخرويّة في المسيحيّة، حيث ينصرم العالم الشرّير القديم، فيما تبدأ المسيرة نحو عالم الخير.

        فالزمن إذاً كان انتقاليّاً، وفضلاً عن انهيار روما، بعد فتك الأوبئة بها وتراجع عدد سكّانها، واضطرارها من ثمّ لأن تحمي نفسها بأعداد أكبر من الجنود الأجلاف الآتين من الأطراف والضواحي، انتشرت فيها المذاهب والطرق الكثيرة التي تُفتي بالمسيحيّة شتّى الفتاوى أو تنقلب عليها مُسلَّحةً بزعم الانتماء إليها. وغموضٌ واضطراب كهذين يحضّان مؤمناً كأوغسطين على البحث عن فكرة نقيّة مُترَعة بيقين حاسم.

        ففضلاً عن الأفلاطونيّة الجديدة التي استأنفت نموّها الأسبق عهداً، كانت الأريوسيّة، التي كافحها أستاذه أمبروس، واحداً من المذاهب الشائعة العديدة. ويقضي المذهب الأخير، نسبةً إلى الكاهن والصوفيّ أريوس، بتوسيع المسافة بين الله والمسيح لصالح تنزيه الأوّل وخفض رتبة الثاني. أمّا «المسيحية الحقة» التي أسّسها أوغسطين فرآها بعض دارسيه نتاج معركتين كُبريين خاضهما ضدّ نزعتين دارجتين في زمنه: المانويّة (Manichaenism) نسبة إلى النبيّ الفارسيّ ماني، والتي اعتبرها البعض شكلاً من اللاأدريّة ذا جذور في الزرادشتيّة الفارسيّة، والبيلاجيّة (Pelagianism) نسبةً إلى راهبٍ عَاصَرَ أوغسطين اسمه بيلاجيوس.

        فالمانويّة، التي أثارت اهتمامه فانضوى طويلاً فيها قبل أن ينفضّ عنها، تصدّت لمشكلة الشرّ وكيف يتسبّب الله، وهو كليّ القدرة، بوجوده. هكذا تراءى لها أنّ حلّ المشكلة يتمّ عبر الإقرار بوجود إلهين متحاربين يقتسمان العالم، واحد للخير وآخر الشرّ، يسيطر كلّ منهما على نصفه ونصف تاريخه. فحين يُصاب، مثلاً، شخص صالح بسوء، يكون إله الشرّ قد أنزل هزيمة بإله الخير، والعكس بالعكس.

        فالخير والشرّ، في المانويّة، أصلان أزليّان للوجود، متعادلان فيه، ما يَتهدَّدُ فكرة كمال الله ومُطلقيّة قوّته. وهذا، في نظر المسيحيّة المستقيمة، مذهب ليس واحديّاً، بل تعدّديّ الآلهة. وكان من حجج أوغسطين ضدّ المانويّة أنّها ترفع المسؤوليّة الأخلاقيّة عن البشر إذ تعتبرهم، حين يرتكبون الشرّ، مجرّد أداة للإله الشرّير، وهذا ما يقود إلى قدريّة أخلاقيّة هي بالضرورة عكس الموقف المسيحيّ من الكينونة كما رآه. كذلك انطوت المانويّة على إيمان بالتنجيم الذي كان يومذاك واحدة من الأفكار المقبولة ثقافيّاً، فتولّت حُججه دقَّ آخر المسامير في نعشها ونعش تنجيمها.

        أمّا البيلاجيّة فهرطقةٌ من نوع معاكس ومتفائل. فهي رأت أنَّ في وسع الناس، إذا مارسوا الزُهد وكرّسوا أنفسهم للعبادة والصلاح، أن يحرزوا بأيديهم خلاصهم، لا بل أن ينالوا القداسة. لكنّ معنى ذلك أنّ ثمّة شريكاً لموقف الله ولنعمته هو التدخّل الذي يمارسه البشر، وهو مذهبٌ ينطوي على فائض ذاتيّ ذي مصدر إغريقيّ. فوق هذا، فالخطيئة الأصليّة تُوجِبُ استبعاد هذا التفاؤل وذاك التعويل على إنسان هو تعريفاً مجبول بالخطيئة، فلا يكون زَعمُنا أنّنا نستطيع إنقاذ أنفسنا بأنفسنا الخطّاءة غير نوع من الادّعاء والعجرفة الفارغيَن.

        وكان لا بدّ، إلى ذلك، من نقد روما وقيمها ونظرة سكّانها إلى الذات والعالم. فالأخيرون كانوا مؤمنين بالسعادة الأرضيّة متفائلين بها، وواثقين بالتقنيّة التي ميّزت حضارتهم ببنائها الجسور والقنوات والمُدرَّجات، كما كانوا من دُعاة قدرة البشر على سيادة أنفسهم والتحكّم بالطبيعة، الواثقين بأنّ الطريق إلى الكمال غير مغلق في وجوههم، وما عليهم سوى أن يسيروا. كذلك حلّت فيهم، هم السعداء المحتفلون بأنفسهم، قناعةٌ تقول إنّ مجتمعهم وجيشهم مُؤسَّسان على الجدارة، وبالتالي فهما عادلان يُمكّنان أصحاب الطموح والذكاء من بلوغ القمّة. هكذا اعتُبر استعراض المرء ثروتَه وتباهيه بها عملاً مُشرّفاً وسبباً للافتخار، كما اعتُبرت الشهرة موضع طاووسيّةٍ شرعيّة ومشروعة. وأوغسطين كرهَ نظام القيم هذا، مُحاوِلاً تقليص الإنسان الديك إلى إنسان نملة. فنحن مُطالَبون بأن نتعلّم فضيلة كبرى في الحياة هي التعقّل (prudence)، فنرفض، تيمّناً بأيّوب، مُساءلة قرارات الله ونُمسك عن إصدار الأحكام لأنّنا لسنا في موقعه كي نسائله في أسبابه لخلق الشرّ والأشرار. فما الحكمة في آخر المطاف إلاّ معرفة أنّنا لا نعرف، وما القوّة إلّا إدراك ما لا نستطيع. وأمّا تعقّلٌ كهذا فهو هو الفضيلة، بحيث نمتنع عن محاكمة أفعال الله لأنّ الله مَن يحاكم أفعالنا، كما نمتنع عن مطالبته بالكثير: فما دام أنّنا كلّنا خُطاة، نستحقّ الإحالة إلى الجحيم، فإنّ وجود شخص واحد في الجنّة برهان كافٍ للتأكّد من رحمته.

        وكباقي الأخلاقيّين العُتاة احتلَّ الجنس، في نظام أوغسطين، موقعاً مُداناً. فالعلاقة عنده لا يبرّرها إلاّ الإنجاب، وهذا بدوره ليس عديم الصلة بالخطيئة الأصليّة. ذاك أنّ شهوة الجسد، التي تتسبّب بالعلاقة، تجعل كلّ مولود متفرّع عن آدم وحواء حاملاً لتلك الخطيئة.  

        إلاّ أن خطيئة الجنس دون إنجاب تبقى، مع هذا، خطيئة صغرى يمكن أن يُسامَح صاحبها عليها بالصلاة وأعمال البِرّ. أمّا في حال معرفة الرجل والمرأة بأنّ علاقتهما لن تقود إلى إنجاب فإنّ مَن يطلب العلاقة هو من يُدان بالخطيئة الصغرى تلك. وأوغسطين إذ وصفَ نفسه بأنّه، قبل مسيحيّته، كان عبداً لنزواته الجنسيّة إذ تَساكنَ مع امرأة من دون زواج، تلازمَ ذكرُه للجنس مع ذكر الأمراض والاضطراب وانفساد النفوس، كما تلازمت الرغبة، في قاموسه، مع كلمات الوحل والدوّامة والقيود والأشواك والمِرجَل، فيما وُصفت النساء بالمِتاع. وفي مدينة الله كتبَ عن «الإحساس بالعار» جرّاء العلاقة الجنسيّة، وجزئيّاً كان هذا الموقف صدى للأفلاطونيّة في تحذيرها من تركيز الانتباه على هذا العالم الذي هو «تحت».

        لكنّ ثمّة وجهاً آخر لأوغسطين استرعى، بين من استرعاهم، الأدباءَ ومؤرّخي الأدب ونقّاده. فكونُه أهمَّ لاهوتيّي التقليد المسيحيّ لا يُلغي كونه مُؤسّس أدب السيرة الذاتيّة أيضاً. ووفق دارسي كتابه المهمّ الآخر الاعترافات (13 جزءاً)، الذي وضعه على مدى أربع سنوات بين 397 و401، فإنّ الكتاب يبتدىء التقليدَ الغربيَّ في السيرة ويؤسّسه، إذ الأدب والشعر قبله لم يعرفا هذا. فبلوتارك مثلاً، مؤرّخ اليونان إبّان البواكير المسيحيّة، تناولَ حياة الإغريق والرومان القدامى، لكنّ النصّ لم يكتبه الأفراد المعنيّون بالأمر أنفسهم.

        لقد اخترعَ أوغسطين، بكتابته قصّتَه، جنس السيرة إلاّ أنّه دمّره بيده الأخرى. فلئن استقرَّتْ آراء النقّاد اللاحقين على أنّ ذاك الأدب شخصيٌّ وذاتيٌّ جدّاً، فقد جعله أوغسطين غير شخصيّ، كما لو أنّه كتابةٌ للسيرة المسيحيّة التي يتساوى أمامها الأفراد وتذوب فرديّاتهم. فهي رحلة التحوّل نحو الله، حيث تتراجع التفاصيل المتعلّقة بالخطايا التي ارتكبها المتحوّل، أو بالظروف التي رافقت تحوّله، لصالح تِبيان الطريق التي على المؤمن، أو الحاجّ، أن يسلكها متى شاء الارتقاء إلى عالم الروح الصافي. وأوغسطين نفسه كان، كما يُعلِّمنا، شريكاً في دَنَسِ العالم بسبب سرقات صغرى أقدم عليها، وعلاقات جنسيّة أقامها، ما يدلُّ على انفسادنا وعلى إقامة الشرّ فينا تبعاً للخطيئة الأصليّة. لكنْ حتّى هنا، لا يكون الحاسم في هذا التحوّل أفعال المتحوّل نفسه، أو تحوّلات أفكاره، بل قرار الله في تحويله.

        ففيما كان أوغسطين يعمل مع أمبروس، مُستكشِفاً طريقه من المانويّة إلى المسيحيّة، نضج استعداده للتحوّل الفكريّ. بيد أنّ هذا لم يكن كافياً إذ الدينُ فكرةٌ وثيقةُ الصلة بالقلب والروح. هكذا، وبعد معاناته مرحلةً تميّزت بتمزّقٍ وضياعٍ كادا يوديان به إلى الجنون، وجدَ التحوّلُ ما يتوّجُه ويحسم أمره في ظهور طفل، قال أوغسطين لاحقاً إنّه مَلاك، أمرَه بأن يبدأ القراءة. فحين فتح الكتاب المقدّس وقعَ على صفحة تتحدّث عن معجزة إلهيّة هي التي انتشلته من أفخاخ الواقع. وأمّا المعجزة المقصودة فرسالة بولس إلى أهل رومية حيث يدعوهم الى الترفّع عن الجسد والحياة والطبيعة. هكذا شكّلت تلك الرسالة، في سيرة أوغسطين، ما يُعادل تحوّل بولس نفسه إلى المسيحيّة في طريقه إلى دمشق.

        فالفكرة، والحال هذه، لا تكتمل بدون المعجزة التي تُكرِّسُ القطيعة مع الواقع والتجريب وتسمو فوقهما، بحيث ينبلج إيمانٌ لا يحدّه حدّ ولا يشوبه تَحفُّظ كما لا يُسأل عن برهان. والإيمان، منذ المسيح نفسه، معجزة، فيما الأخيرة صناعة محض إلهيّة يقف حيالها المؤمن خائفاً ومدهوشاً قبل أن يقف مُسلِّماً مذعناً. 

        ولأنّ المعجزات مرشّحة لأن تتناسل في حواشٍ عاطفيّة وصوفيّة، تحضر في السيرة والدةُ أوغسطين، مونيكا: فهي المؤمنة المسيحيّة والمتعبّدة التي عانت العذاب على يد زوج وثنيّ، وطُوِّبَت لاحقاً قدّيسةً للمسيحيّين. وبسبب دموعها وتَضرُّعها كي يهتدي ابنها ويعتنق ديانتها، بات «ابنُ الدموع» أحد ألقاب أوغسطين. غير أنّ النهاية جاءت سعيدة، إذ علمت بأن أمبروس عَمَّدَ نجلها الذي أكمل تحوّله وأنّ صلواتها استُجيبت، فماتت بعد ذاك راضية مرضيّة. وعن التجربة هذه سُكَّ تعبير «الكنيسة الأمّ» دلالةً على تَماثُل الأُمّين الاثنتين في المحطّة الأخيرة من الرحلة الإلهيّة.

        فقصّة أوغسطين غائيّة جدّاً، تستخدم الحياة «الصغرى» لخدمة الغرض «الكبير»، أو المحطّة الأخيرة في مسيرة الانطلاق من الحالة الأولى، وهي الخطيئة الأصليّة، عبوراً إلى ملاقاة وجه الله، حيث ينعدم الزمان والمكان وتنتشر الروح وحدها وتتمدّد.

        والراهن أنّ سطوة الفكرة عبر أوغسطين كانت جبّارة في مداها وفي عمقها. فهو أوّل من أعطى تعبيراً لاهوتيّاً مجرّداً للمسيحيّة. وهو لئن غدا أوسعَ المفكّرين المسيحيّين تأثيراً في العالم الكاثوليكيّ، فإنّ الإصلاح البروتستانتيّ، من خلال مارتن لوثر الذي بدأ حياته راهباً أوغسطينيّاً، تأثّرَ أيضاً ببعض تعاليمه، لا سيّما القَدَر المسبق (predestination). وكان جون كالفن، المُتأثِّر أيضاً بأوغسطين، قد ضاعف القدَرَ المُسبَق باختراعه القدر المسبق المزدوج (double predestination). فإذا صحَّ أنّ الله اختار سلفاً تلك القلّة القليلة التي تذهب إلى الجنّة، فإنّه اختار أيضاً تلك الكثرة الكاثرة التي ستنتهي في الجحيم، وكلّ شيء، في آخر المطاف، في يد الله.

        *****

        في تاريخ الفكر الغربيّ، كان الانتصار الكبير الآخر الذي حظي به استتباع الواقع للفكرة كتاب توماس مور الطوبى، الصادر في 1516.

        ومور كان أحد الكثيرين الذين وجدوا في أوغسطين مثالاً مرجعيّاً. فهو، في شبابه، ألقى محاضرات عامّة عنه، واعتبره سلطة أخلاقيّة عليه إلى جانب الكتاب المقدّس، كما رأى أنّ كتابه مدينة الله غيّرَ على نحو جذريّ تأويل الكلاسيكيّين لطرق الحياة الإنسانيّة الفضلى.

        بيد أنّ مسيحيّة مور تلقّت مسيحيّة أوغسطين بعدما لطّفتها سكولائيّة توما الأكوينيّ الذي عاش في القرن الثالث عشر. فالأكوينيّ أنشأَ جسوراً أمتنَ بين المسيحيّة والعقلانيّة والتراث الكلاسيكيّ، وثمّنَ السعادة الإنسانيّة وحضَّ عليها، والأهمُّ ربّما أنّه أقرَّ للمبادرة الإنسانيّة بما أنكره عليها أوغسطين. وهذا ما يفسّر، بين أمور أخرى، أنّ الطوبى صناعة إنسانيّة مفترضة بالمعنى الذي كانته الجمهوريّة، وليس صناعة إلهيّة بالمعنى الذي كانته مدينة الله. فالأكوينيّ في فكرانيّته كان أقلّ تجريداً من أوغسطين، وأكثر براغماتيّة، وهذا، على عمومه، وكما سوف نرى، إنّما ساهمَ في جعل توماس مور أقلّ إعتاماً من قدّيسه الأكبر، دون أن يُخرِجَه، بطبيعة الحال، من خانة النظر إلى الواقع بمنظار الفكرة المُلزِمة.

        وكتابُ الطوبى، وهو دعوة مساواتيّة في اعتراضها على الظلم والتفاوت، يأخذ شكل حوار فيما يتفرّع إلى كتابين: في أوّلهما يُرسَم مسرح الحدث وبداياته ممّا يُبنى على لقاء مور بالبرتغاليّ رافاييل، بطلِه الذي كان حكيماً سقراطيّاً ونهضويّاً يُجيد مهارات كثيرة في العمل كما في التفكير. وأمّا ما سيحصل، في الكتاب الثاني، فعرضٌ للترتيبات السياسيّة والاجتماعيّة في حياة سكّان «الطوبى»، أو الطوباويّين، وذلك تبعاً لما يزعم رافاييل أنّه شاهده خلال رحلاته في العالم الجديد. فالأخير، وفق «تأريخ» مور، سافر بصحبة أميريغو فِسبوتشي، المكتشف والملاّح الفلورنسيّ الذي اشتُقّ من اسمه اسم أميركا. وفي مكان ما يُرجَّح أنّه قريبٌ من ساحل فلوريدا الحاليّة يُعثَر على تلك الجزيرة الرائعة المسمّاة «الطوبى».

        ولا يُخفي مور أحد أبرز أهدافه وهو الاحتجاج على الواقع السياسيّ القائم: فهو إذ يقترح على رافاييل العمل في قصر ملكيّ، يردّ الأخير بتبيان استحالة التوفيق بين أفكاره والسياسات العليا، سيّما وأنّ البَلاط لا يتيح من الكلام إلاّ المدائح والسخافات. وعلى لسان رافاييل يُدين مور بشدّة ممارسة العقاب بالقتل وبالإعدام حفاظاً على الأمن، خصوصاً وأنّ المُدانين لم يرتكبوا سوى سرقات صغرى لسدِّ جوعهم وإطعام أبنائهم. ويتركّزُ الكلام تالياً على حركة تسوير الأراضي التي تحتلُّ موقعاً بالغ الأهميّة في تاريخ إنكلترا الاقتصاديّ. ذاك أنّ الأراضي العامّة حيث كان الفلاّحون يزرعون ويربّون ماشيتهم، «سُوِّرت» وغدت ملكيّات خاصّة، محاطة بجدران، كيما تُوَجَّه محاصيلُها الزراعيّة إلى التجارة الخارجيّة. وكان لتلك العمليّة أن دمّرت طائفة فلاحيّة ورمتها خارج الأرض، مُحوِّلةً أفرادها إلى مشرّدين ومتسوّلين أو لصوص يتجمّعون في هوامش المدن التي اكتظّت بالناس اكتظاظها بالجرائم والعمل المأجور. هكذا ينتقد مور بداية الرأسماليّة ويقول إنّ من كانوا بشراً مُفيدين لأنفسهم وللمجتمع، كالفلاّحين وصغار التجّار، حرمهم فصلهم عن أرضهم كلَّ فائدة. ويستنتج رافاييل وجود فجوة بين ما يُسمّى قيماً مسيحيّة والسلوك المسيحيّ، لكنّه يستنتج أيضاً وجود عائق مُستحيلِ التجاوز: فطالما أنّنا لا نستطيع جعل السلوك يتبع الأخلاق، غدا علينا أن نُعيد كتابة الأخلاق كي تلائم السلوك، وهذا تدنيسٌ للمقدّس، وبالتالي تجديف. لذا لا بدّ أن يأتي الحلّ من الشيوعيّة، إذ يستحيل بلوغ أيّة عدالة أو ازدهار ما دامت هناك ملكيّة خاصّة، وما دام كلّ شيء يُقاس على المال.

        والحال أنّ ما قاله رافاييل هو مُلهم مور ومُحرِّك نقده. فهو إذ يُبدي بعض التحفّظات، يجيبه رافاييل بأنّ تحفّظاته ناجمة من عدم معرفته بالمجتمع الشيوعيّ، أمّا هو فرأى هذا المجتمع المعروف بـ«الطوبى».

        وفي الكتاب الثاني، وباستعراضه تفاصيلَ «الطوبى»، يغذّي مور نقده مُجتمعَه، بما في ذلك المَلَكيّة المطلقة التي كان هو نفسه كبيرَ موظّفيها قبل أن يقضي بشفرة مقصلتها. فالشَبَه الطوبوغرافيّ بين «الطوبى» وإنكلترا، مسرحِ ما ينتقده، شَبَهٌ كبير: فالأولى هي أيضاً جزيرة مفصولة عن البرّ بقناة صغرى، وهي تضمّ 54 مدينة هي عدد المقاطعات (shires) الإنكليزيّة حينذاك. ولـ«الطوبى» عاصمة مركزيّة اسمها أمَاوروت Amaurot التي تُرجمت إلى الإنكليزيّة بـ Aircastle أو Castle in the Clouds، أي قلعة الفضاء أو قلعة في الغيوم، وموقعها من «الطوبى» يشبه موقع لندن من إنكلترا، فيما يخترقها نهر اسمه اللّانهر Noriver يُعادل التايمز.

        والتسميات هذه التي تفتعل نفي الواقعيّة عن المُسمَّى لا تقتصر على «قلعة في الغيوم» أو «اللّانهر». فالكتاب المكتوب باللاتينيّة، وكانت اللغةَ الكونيّةَ لعصر النهضة، عجَّ بالأسماء التي يمكن أن تُؤوَّلَ أسماءً عبثيّة. فـ«الطوبى» نفسها تعني «اللّامكان»، فيما هيثلوداي (Hythloday) هي اسمُ عائلة رافاييل، ومعناها مُوزِّع السخافة، أمّا الوحدة الأساسيّة للتنظيم السياسيّ والاجتماعيّ التي تضمّ ثلاثين بيتاً، فيشار إليها بوصفها زريبة خنازير (stye).

        والجانب هذا، في تدليله على السخرية عند مور، يشير أيضاً إلى تقليد موارب في المعارضة والتحايُل على المنع والرقابة، سبقَ أن شاع منذ القرون الوسطى وعُرِفَ بـ «أحمق البَلاط» (court foul) أو «مهرّج البَلاط» (court jester)، مُحيلاً إلى أحد أفراد الحاشية الذي يُسلّي ضيوفَ الملك أو الأمير. ولاعتبار المهرّج شخصاً ساذجاً أوغبيّاً، سُمِحَ له وحده أن يقول الحقائق الممنوعة على الآخرين.

        فكأنَّ مور أراد أن يقول، حمايةً لنفسه، إنّ هذا العمل الذي يُخرّب الواقع القائم مزاحٌ وسخرية وتنفيس غرضها الترفيه عن النخبة القارئة.

        فكتاب الطوبى واقعيّ جدّاً من زاوية اندراجه في نقد مجتمع بعينه وسلطة بعينها، وهو معارض ونضاليّ في معارضته، يستخدم أسلوباً معروفاً في تقاليد الانشقاق. مع هذا فإنّه يَحلّ مشاكلَ الواقع بإحالتها إلى فكرة مُترامية الأطراف كاملة الأوصاف.

        فالكتاب باتَ يُعتبر واحداً من الأجداد المبكرين للشيوعيّة في توقها إلى العالم المنسجم. ذاك أنّ توماس مور أصابه بالرعب صعودُ الرأسماليّة التجاريّة بعد ثورة زراعيّة عبّرَ عنها «تسوير» الأراضي، فتحدّثَ في بداية الطوبى عن غنمٍ يأكل البشر قاصداً التسوير الذي تأدّى عنه طردُ السكّان من الأرض وفتحُ الباب للتجارة والتبادل العالميّيَن. فهكذا انطلقت هجرة البائسين المُفقَرين إلى المدن حيث كانوا يجوعون ويتعرّضون للموت فيما لا تسمن إلاّ الأغنام. ولأنّ أسباب الجريمة كامنة في المجتمع فيما السلوك الجرميّ للفرد مجرّد نتيجة، عبّرت الطوبى عن نظام في العقاب متقدّم وإنسانيّ يستهدف النظام في المحلّ الأوّل.

        صحيحٌ أنّ الذين يسرقون يُستعبَدون، مثلهم مثل أسرى الحروب والمتطوّعين الأجانب في القتال. لكنّ العبوديّة كعقاب لا تُحيل إلى العبوديّة في معناها السائد والمعروف. فالعبيد، في «الطوبى»، لا يعملون إلاّ أكثر قليلاً من سكّان «الطوبى»، إذ يقتصر عملهم على ما يتراوح بين ثماني وعشر ساعات يوميّاً قياساً بالساعات الستّ من عمل سكّان «الطوبى»، وهذا فيما كانت ساعات العمل اليوميّ لا تقلّ عن أربعة عشر. وبينما كان العبد في مجتمعات أخرى يُعاقَب بالموت، فهو في «الطوبى» لا يُجلَد أو يُضرَب، بل يُقيَّد بسلاسل مصنوعة من ذهب، وهو أحد الاستخدامات القليلة للذهب. فإذا تبيّنَ أنّه سجينٌ صالحٌ أُطلِقَ سراحه وأُتيحَ له ثانيةً أن يعود عضواً فاعلاً ونافعاً في المجتمع، وهذا علماً بأنّ المجرم العنيف، وهذا من الاستثناءات القليلة، قد يُعدَم.

        و«الطوبى» متقشّفة، أهلها لا يريدون من العالم الخارجيّ إلاّ الحديد الذي لا يملكونه ويظنّون أنّه المعدن الوحيد المفيد. أمّا الذهب والفضّة فلا حاجة لهم بهما إلّا لأغراض قليلة جدّاً، وهذا على الضدّ من الشعوب البدائيّة حولهم التي بهرتها الأشياء المعدنيّة اللامعة بغضّ النظر عن قيمتها الاستعماليّة. وهم يكرهون الحروب ولا يخوضونها إلاّ لأسباب ثلاثة: الدفاع عن أرضهم، والدفاع عن أرضِ حليف لهم يتعرّض للعدوان، وتحرير شعوب مُضطهَدَة.

        فمور كان مع إنهاء الرأسماليّة وإلغاء التجارة حفاظاً على الأخلاق وعلى طرق الحياة السائدة. ففي المجتمع الطوباويّ لا ذهب ولا فضّة ولا تجارة وتجّار ولا تبادل يحكمه جني الربح. وكلّ شيء في «الطوبى» مملوكٌ جماعيّاً إذ لا توجد مُلكيّة خاصّة، فيما العائلات وبيوتها هي وحدات الإنتاج، مع استثناء واحد هو الزراعة. وبما أنّ جميع سكّان «الطوبى» يعملون، ومن لا يعمل لا يأكل، يُقصَّر وقت العمل إلى ستّ ساعات يوميّاً، وأحياناً أقلّ، وهذا فضلاً عن سخاء استثنائيّ في الإجازات الممنوحة. ومن يشاء أن يعمل ساعات أكثر وأن ينتج أكثر أمكنه ذلك، إلاّ أنّ هذا لا ينعكس تَملُّكاً. فالهدف من العمل إنتاجُ ما يكفي لتوفير الضروريّات الأساسيّة وانتزاع  أكثر ما يمكن من ساعات الفراغ الممكنة. وهنا يطلُّ بأحد رؤوسه الكثيرة تقديسُ المعرفة الذي رأيناه في الجمهوريّة. فأوقات الفراغ وظيفتُها إحداثُ أقصى الثراء الثقافيّ الممكن للمواطن، إذ تُصرَف الأوقات تلك في الدراسة وتعلّم الفلسفة والعلوم والموسيقى والاهتمام بالحدائق. هكذا، وبعد يوم العمل، يؤوب الناس إلى أَسرَّتهم في الثامنة مساء ليناموا ثماني ساعات، ثمّ يكرّرون الشيء نفسه في اليوم التالي فيستيقظون فجراً وتُتلى عليهم محاضرات يتلهّفون لسماعها قبل مباشرتهم أعمالهم.

        وهناك يُتناوَل الطعام في قاعات عامّة، ولئن كان مسموحاً تناوله في البيت فإنّ أحداً لن يفعل ذلك ما دامت وجبات القاعات العامّة أجودَ وأفضلَ مذاقاً، تصحبها نقاشات فكريّة وفلسفية وتلاوات شعريّة. هكذا تُجمَع ثلاثون عائلة كبرى على المائدة، فيجلس صغير السنّ لصق آخر كبير السنّ، لا يشذّ أحد عن تلك الرقابة الجيليّة.

        وبدوره فإنّ نظام البيت أبويٌّ جدّاً: ففي نهاية كلّ شهر قمريّ يحلّ طقس اعترافيّ يعترف الأطفال بموجبه لآبائهم، وتعترف النساء لرجالهنّ، والأصغر سنّاً للأكبر سنّاً، فيكون تَطهّرٌ من الأحقاد والحزازات التي قد تنشأ بينهم. ومع أنّ الطوبى، كـ الجمهوريّة، اعترفَ للنساء بحقوق جدّيّة قياساً بزمنه، يبقى أنّ الذكرَ الأكبرَ سنّاً هو مَن يرأسُ البيت. وهناك، كذلك، عمليّات تفتيش صحّيّة تطال الزواج. فالعروس تتعرّض للكشف وهي عارية، ثمّ يتعرّضُ العريس للكشف نفسه أمام رقيب فاحص. ويقول رافاييل إنّه حين كان في «الطوبى» ظنّ أنّ ذاك الطقس مضحك ومُسلٍّ، لكنّ أهل «الطوبى» استغربوا قوله وقالوا له: حين تشتري فرساً فأنت تدقّق في فمها، والفرسُ عارية في الأحوال كافّة، لكنْ مع هذا قد نزيح السرج قليلاً وننظر في ما إذا كان يُخفي تَقرُّحات تحته.

        فالطوباويّون يعيشون لا بموجب اتّفاقات اجتماعيّة، بل بموجب الطبيعة، إلاّ أنّ هذا لا يعني إعفاءَهم من الحدود الجنسيّة المُلزِمة: فالزنا عقابه فرض العبوديّة على الزاني، وإذا تكرّرَ ففرضُ الموت.

        وأشكال الهندسة التي رأينا مثلها في القرن العشرين، في الصين الماويّة وكمبوديا بول بوت وسواهما، كثيرة هناك. فالخوف ماثلٌ دوماً من حقيقة أنّ العالم والواقع لا يتحرّكان بموجب قانون ناظم، وأنّ الحرّيّة قد توفّر طرقاً في الهروب من قانون كهذا.

        فالبيت، في «الطوبى»، له بابانِ بلا مفاتيح بحيث يستحيل على ساكنه أن يُخفي أيّة مُلكيّة في داخله. وعلى الناس تغيير بيوتهم كلّ عشر سنوات منعاً لأي تَعلُّقٍ بأشياء العالم التي قد تُغري بالتملُّك. ذاك أنّه فضلاً عن التعلُّق بالعالم الآخر، فإنّ التعلُّقَ الوحيد الجائز هو بالجماعة وتماسكها.

        أمّا بيوت المدن الأربعة والخمسين فكلّها متماثلة. ولئن كانت الملابس تُنتَج في تلك البيوت، فهناك زيّ واحد في الملبس تُمنع عنه الأصباغ والألوان. وبدوره فإنّ مَن ينوي السفر عليه أن يحصل على رخصة، وإذا زاد الغياب عن أربع وعشرين ساعة، كان على المسافر أن يعمل حيث يكون. والسكّان متى كانوا يقيمون في المدن وجبَ إرسالهم إلى الأرياف حيث يقضون عامين، أي أنّهم بدل تطويعهم في الجيش يُطوَّعون في الزراعة، وهم يُبدَّلون على نحو متواصل بحيث يخضع الجميع للدورة هذه.

        وتُشكّل كلّ ثلاثين عائلة زريبة وتَنتخب راعياً يبقى سنة واحدة في منصبه، كما تختار كلُّ عشرة زرائب وحدةً، ثمّ تنتخب الوحدات كلّها مسؤولاً أو محافظاً يتولّى منصبه مدى الحياة، اللهمّ إلّا إذا حُكِمَ عليه بجريمة أو بفرض الاستبداد، فيُعزَل عند ذاك. إلاّ أنّ مؤسّسات الحكم في «الطوبى»، وإن كانت تُوزِّع المهن على السكّان تبعاً لمواهبهم وخياراتهم معاً، فإنّها لا تصنع القوانين ولا تمرّرها. فكمثل أفلاطون في الجمهوريّة، رأى مور أنّ وجود القوانين يعني أنّ ثمّة خللاً في اشتغال المجتمع. ذاك أنّ الرجل العاقل والعادل، الذي يحكم بالعدل، يكفيه أن يستمع إلى الدعوى المُقامَة وأن يستخدم العقل والحسّ السليم وحسَّ التعاطف كي يُصدِرَ حكمه. أمّا القوانين التي نصنعها فكلّ زيادة فيها زيادةٌ في الثغرات والشوائب القانونيّة.

        و«الطوبى» شبيهة بـ«الجمهورية» في ما خصَّ الحكّام. فهنا أيضاً يؤتى بهم من المتعلّمين ومن البيئة المثقّفة التي تقود الموهبةُ والكفاءةُ إلى الانتساب إليها، وهو ما يتمّ عبر امتحان. وهذا علماً بأنّ «الطوبى» تُتيح مجالاً عريضاً للحَراك الاجتماعيّ وتجديد النُخَب: فالحِرَفيّ الذي هو في الثلاثين ويبدي ميلاً ورغبة في الفلسفة يمكنه الانضمام إلى «الطبقة المفكّرة» التي تشمل أساتذة وحُكَّاماً وبعض الكهنة.

        لقد كان توماس مور مهتمّاً بتصوّر عالم منيع حيال التاريخ. والحال أنّ دَين أفلاطون عليه كبير، لأنّ الكثير من الطوبى مستمَدّ من الجمهوريّة، خصوصاً فكرة العالم الأكمل والمجتمع الأمثل والميل إلى نقد الواقع انطلاقاً من فكرة وتصوّر ذهنيّين خياليّين. ومثل الجمهوريّة، ألغى مور، في طوباه، المُلكيّة الخاصّة والمال والتجارة لأنّها تترك، في رأيه، آثاراً سيّئة على المجتمع. وكـ الجمهوريّة، ليست الطوبى برنامجاً للتطبيق، بل معايير تُعرِّفُ بما يُعتبَر إصلاحاً، وبكيفيّة محاكمة الواقع القائم على ضوء تلك المعايير، على أن تتحوّل تلك المحاكمة ومعاييرها دليلاً نظريّاً في متناول المسيحيّ الإنسانويّ.

        لكنّ مور لم يكتفِ بأفلاطون، فهو أخذَ أيضاً عن أرسطو الذي كان يستحيل التغافُلُ عن تأثيره على الفكر المسيحيّ (والمسلم واليهوديّ)، والذي بات منذ القرون الوسطى أحد أبرز المعطيات الفكريّة المطروحة في التداول. فمن «المُعلِّم» استقى فكرة أنّ «الفضيلة حدّ وسط بين رذيلتين»، ما يؤولُ إلى رفض التطرّف. ولئن حالت مسيحيّته دون التأثّر بأفلاطون في إلغاء العائلة، فإنّه تأثّر بأرسطو الذي عارض، في «السياسة»، رأي أستاذه وأكّدَ على العائلة بوصفها وحدة المجتمع الأصغر.

        واستعار مور من الرواقيّة الرومانيّة بُعداً كوزموبوليتيّاً، مَصدره أنّ الكون، في نظر الفيلسوف الرواقيّ، هو مدينتُه، وأنّ العالم مدينة، فيما مُواطِنُ المدينة مُواطِنٌ عالميّ.

        وهناك لدى مور قدرٌ من الأبيقوريّة لجهة إدراجها المتعة في الصلاح. ولئن بدا هذا غريباً في مسيحيّ متشدّد، دفع حياته تمسّكاً بإيمانه، فإنّ تبنّيه المتعةَ اتّسمَ باعتدال وانضباط شديدين، أي أنّه تبنّاها في حدود تَوافُقها مع العقل الطبيعيّ وإملاءات الدين. فأهلُ «الطوبى» ينبغي أن يحبّوا الملذّات البسيطة التي لا تشوبها الخطيئة، كالتمتّع بالموسيقى وبجماليّات الطبيعة، شريطة عدم المبالغة والتباهي. وهو بهذا انعطفَ عن التقليد المسيحيّ النُسكيّ  للأديرة والحركات الزهديّة التي تمارس التعذيب الذاتيّ كما تنكر المتع والملذّات، وهذا علماً بأنّه هو نفسه عاش عيشة زُهّاد متعبّدين.

        والمبدأ الدينيّ الذي يُستعان به هنا أنّنا جميعاً نملك روحاً خالدة صنعها الله، ولم يصنعها إلاّ بهدف واحد هو جعلنا سعداء. لكنّ المتعة لا تكون ذاتيّة حصراً، كما أنّها لا تقوم على حساب آخرين، بل ينبغي بذل الجهد لجعل الآخرين يتمتّعون بها. وهذا إنّما هو من أعلى أشكال المُتَع كونه يُرضي الله ويُرضي أخلاقيّاً ضمير صاحبه ويشعره بالإنجاز. وأخيراً فإنّ المتعة والسعادة طبيعيّتان وليستا نتاجاً اجتماعيّاً. فالقمار مثلاً لا يجلب السعادة لأنه نتاج اجتماعيّ، وكذلك ارتداء ملابس باذخة، أو تناول الكحول ممّا يتسبّب بآلام لاحقة. ومن هذا القبيل يسمّي مور الصَيد، في سياق نقده المجتمع الانكليزيّ الذي رأت أريستوقراطيّته في الصيد أهمّ المتع.

        ففلسفته الأخلاقيّة نهضت على اجتماع السعادة والصحة والخير العام، وهو اجتماع يتحكّم العقلُ في توازنه، أو مذهب يودايمونيا (Eudaimonia)، التي تُرجمت عن الإغريقيّة بـ«الروح الطيّبة» التي تميل إلى مُتعويّةٍ ما (hedonism) تقترنُ فيها السعادة الكامنة في المتعة بالفضيلة، ويتدخّلُ الدين في حدود كونه أنسنةً لفعل العقل، إذ الأخيرُ لا يكفي ركيزةً للحقّ، أو بديلاً عن الإلهام الإلهيّ.

        وذهب مور أبعد. فهو مثلاً، في مناخ عصر النهضة الموصوف بالإنسانويّة، ومع التحوّلات على طرأت على اللاهوت وفهمه، أيّدَ مبدأ القتل الرحيم وحضَّ عليه المعذّبين بأمراضهم ممّن تثبت استحالة شفائهم. فالممارسة تلك، التي تبقى موضع استغراب كبير في رجل دين، تُوقِفُ الألم الذي لا ينبغي تعريضُ النفس البشريّة له وتُعجِّلُ انتقالَ تلك النفس إلى حياة الآخرة بما فيها من سعادة وبَهجة خالدتين.

        لكنْ لا يلبث أن يظهر، هنا أيضاً، نظام مور التراتبيّ والفكرانيّ. فلئن أقرّ الطوباويّون بمتعتين، ذهنيّة وجسديّة، بقي أنّ الأولى هي الأساس كونها تصدر عن التأمّل في الحقيقة وعن قراءة الفلسفة والتفكير في الحياة الجيدة، وعن هَمِّ إحراز الثواب في الآخرة. أما المتع الجسمانيّة فثانويّة قياساً بها، وهي نوعان: التفريغ العضويّ الذي يؤدّي وظائف جسديّة ضروريّة كالطعام والإفرازات، ومور لا يتردّد في اعتبار المتعة الجنسيّة شيئاً مماثلاً للإفرازات، إذ هي كلّها أمورٌ لا بدّ منها وظيفيّاً ولا بأس بها بين وقت وآخر. أما النوع الثاني، وهو أهمّ، فكون الصحّة نفسها معافاة ومستقرّة وموضع حرصِ صاحبها عليها.

        وشبيهاً بما فعله أبو نصر الفارابيّ، قَبل مور بستمائة سنة، حين دمج، في مدينته الفاضلة، تأثّره بـ«الجمهوريّة» بتأثّره بتعاليم الإسلام، دمجَ مور في مسيحيّته إعجابه بأفلاطون وبكلاسيكيّي الإغريق والرومان. وجاء أكثر ما استقاه من المسيحيّة من «إنجيل الحُبّ» أو إنجيل يوحنّا الذي لا يؤكّد فقط على حُبّ الله للعالم، بل أيضاً على حُبّ المسيح لتلامذته، وخصوصاً على حُبّه عموم البشر وفقراءَهم ومضطهَديهم، وكذلك التطويبات (Beatitudes) في إنجيل متّى حيث تُمنَح الطوبى للودعاء الذين «يرثون الأرض». وما قد يبدو لوهلة مُفارِقاً، أنّ المسيحيّة قلّلت طوباويّةَ مور مقارنة بطوباويّة أفلاطون. ذاك أنّ فكرة الخطيئة لم يتحدّث عنها الإغريقُ كثيراً، فيما رهنَ الجمهوريّة مصيرَ الشرّ بانتظام عمل المجتمع وحكمه الذي ينهي كلّ شرّ. أمّا مور فقادته مقدّمته التي هي «الخطيئة الأصليّة»، ولو في صيغة مُخفَّفة قياساً بأوغسطين، إلى واقعيّة أكبر، إذ جعلته يستبعد حلول الكمال في البشر على نحو يزيل كلّ تناقض. لهذا بدا حريصاً على أن يكون في مجتمع «الطوبى» محاكم وقضاة (لكنْ ليس محامون وقوانين)، مما لم يتناوله أفلاطون.

        إلاّ أنّ مسيحيّة مور ذات سِمات متفاوتة يصعبُ ضبطها في قالب ضاغط. فَدِينُ الطوباويّين وقداديسهم مسكونيّة تشمل الجميع وتمثّل صلواتهم على اختلافها. وكنائسهم وكاتدرائيّاتهم مُعتِمة لا تتّسع لأي تمثيل (representation) أو تمثال أو صورة أو زجاج ملوّن. ذاك أنّ العتم يحول دون تشتيت الانتباه ويجعل المُصلّين أشدَّ انكباباً على التأمّل والتعبّد.

        ولئن كان التسامح الدينيّ سياسة رسميّة في الطوبى، بحيث يشمل حتّى الملاحدة، أو «الماديّين» كما يسمّيهم مور، فإنّ الأخيرين يُمنَعون من الدفاع عن مواقفهم المختلفة علناً، ومن تَسلُّمِ مناصب رسميّة. لكنّ أهل «الطوبى» يُشجَّعون على مخالفة رجل الدين إذ لا يُنظَر إلى الإلحاد والماديّة كقصور أخلاقيّ بل كجهل، وبالتالي فالحقيقة محكومة بالانتصار مع توافر التبادل الحرّ للآراء. 

        ومور كان، بمعنى ما، ابن عصره، عصر النهضة، لكنّه كان بكلّ المعاني تقريباً رجل دين مسيحيّاً مُكرَّساً، وإن احتفظت مسيحيّته بعناصر غريبة عنها. وهو كان، إلى هذا، عضواً في البرلمان وديبلوماسيّاً وسفيراً وسياسيّاً تولّى ذات مرّة أرفع المناصب في عهد هنري الثامن، ملك إنكلترا الذي قضى، في آخر المطاف، على مقصلته. وهو، بالطبع كان ذا ثقافة واسعة، فوُصِفَت كتابته باللاتينيّة بالأناقة، وهذا فضلاً عن دراسته الإغريقيّة.

        ومثل صديقه الحميم إيراسموس، كان توماس مور متسامحاً إنّما في حدود المُحافَظة والحذر من التغيير في أمور الدين والدنيا. فهو كتب ضدّ مارتن لوثر وإصلاحه البروتسانتيّ، وكان بعض ما كتبه يحمل اسم ملكه وقاتله هنري الثامن. لكنْ مع أنّه رمى ذاك الإصلاح بالهرطقة، وظلَّ وفيّاً لوحدة الكنيسة الكاثوليكيّة وعلى رأسها بابا روما فإنّه، وأيضاً مثل إيراسموس، ظلّ يبحث عن أرض مشتركة تتغيّر معها الكنيسة المذكورة من داخلها دون انشقاق وحروب.

        لكنّ المُحافَظة التي صاغها في نظام فكريّ وتصوّريّ يَدين بالكثير للقيم الجديدة، لم تُخفِ نوستالجيّتها إلى زمن أقدم من عصر النهضة، حين لم يكن هناك ما يهدّد موقع كنيسته المنيع.

        والحقُّ أنّ الزمن الذي أراد مور تعطيل مفاعيله كان زمن تَغيُّرات كبرى. فكما سبقت الإشارة، شهدت إنكلترا حركة تسوير الأراضي مدفوعةً بحقيقة أنّ صناعة النسيج من الصوف، التي تطوّرت في هولندا وإنكلترا، باتت الصناعة الرأسماليّة الأولى. وكان من نتائج هذا التحوّل الذي أطلق الثورة الزراعيّة أنّ بلده غدا مهد الثورة الصناعيّة، ما عاد عليه بأعلى مستويات المعيشة مقابل ثمن إنسانيّ باهظ. وكان ذاك العصرُ عصرَ الاكتشافات والتعرُّف إلى جغرافيّة العالم، وعصر الإصلاح الدينيّ كذلك. وضمناً وعلناً تعامل مور مع تلك التغيّرات بوصفها سبباً لإبعاد السكّان عن الحالة الأخلاقيّة والعداليّة المثلى، فعبّرَ عن حنين إلى زمن يُراد للمستقبل أن يُشتَقّ منه وأن يستوحيه.

        وهو ظنَّ أنّه عبر إلغاء المال والتملُّك يُلغى الدافعُ الأهمّ للشرّ، وعبر القول بـ«نظريّة قيمة العمل»، يُعاد الاعتبار إلى أصولها المسيحيّة والبدائيّة حيث تُختصر القيمة كلّها في العمل الذي تحتويه السلعة. وهكذا لا يتبقّى من الشرّ إلاّ ما نجم عن «الخطيئة الأصليّة» التي لا يد لنا نحن البشر في أمرها. أمّا الفعل الإنسانيّ فيكفُّ عن الأذى بنتيجة إلغاء المُلكيّة، لأنّ الإنسان نفسه يكفُّ عن الفعل. فلا حاجة إلى الطمع ما دام الناس، في «الطوبى»، يحصلون على كلّ ما يحتاجونه.

        لقد سبقت الإشارات الكثيرة إلى أنّ الفكرة عند مور أقلّ فكرانيّة وأشدّ إنسانيّة وبراغماتيّة، وإن كانت أكثر تناقضاً ذاتيّاً، ممّا عند أفلاطون وأوغسطين.

        لكنّ مور لا يشذُّ عن سابقَيْه الكبيرَين في استخلاص نظام مَراتبيّ صارم يُرسَم بحبره سلوكُ البشر، ومعه يُصار إلى إقفال التاريخ. فالارتباك أمام تعقيد الحياة يُرَدُّ عليه بتبسيطها، والارتباك أمام الجديد والمتحوّل يُرَدُّ عليه بالقديم والراسخ، والجُنوح إلى العدل والمساواة يَؤول إلى امتصاص سيولة العالم واستئصال تقسيم العمل وكلّ ما يشي بالحضارة، فيما القيّمون على «المعرفة» هم الديكتاتور الذي يضبط الحرّيّة ويراقب الأحرار. فالكون بالتالي مُعطىً جماعيّ ومبرمج، يحفل بظاهرات الطليعيّة والعلمويّة وتوجيه التعليم وإحكام السيطرة على الثقافة وصناعة عقل الأطفال والغلوّ في المحافظة الجنسيّة والأبويّة العائليّة والحذر من الغريب والارتياب بالسفر والعداء للخصم الهيّن الذي هو الرأسماليّة والتجارة. ويبقى الوجه الآخر لتعويلٍ كهذا على فكرة سيّدة بعينها، فكرةٍ تهندس الحقّ والخير والجمال، اعتبارُ الواقعِ لزومَ ما لا يلزم، أو عبداً ذليلاً وظيفته ممارسة الطاعة لتلك الفكرة الأخطبوطيّة.

        *****

        وهذا ما يدفعني إلى التقدّم باعتذار متأخّر إلى أبي. فقد أدركتُ دائماً أنّه أكثر إيماناً منّي، أنا الملحد، لكنّ ما لم أدركه هو أنّني أنا المؤمن الفعليّ. فإلهه أبسطُ من إلهي، إذ أقام في زاوية ضيّقة من زوايا الحياة مردوعاً عن التدخّل فيها، بينما كان إلهيّ أكثر ادّعاءً وأشدَّ تدخُّلاً وأوفرَ ضيقاً بالتجريب وبالتعايش مع سواه، وفي عداد هذا السِّوى البشرُ بآرائهم وأهوائهم ورغباتهم التي قد لا تعجبنا.

موقع الجمهورية


 [1] “ماكدونالدية” (McDonaldization) هو مفهوم قدمه عالم الاجتماع جورج ريتزر في كتابه “The McDonaldization of Society” عام 1993. يعبر هذا المصطلح عن العملية التي تنتشر فيها مبادئ سلسلة مطاعم الوجبات السريعة ماكدونالدز لتشمل قطاعات أخرى من المجتمع والثقافة العالمية. (ويكيبيديا)

[2] النُّمو الاقتصادي يتكون من مراحل معينة ذات تتابع زمني، بحيث إن كل مرحلة تمهد الطريق أوتوماتيكيّاً للمرحلة التي تليها، وهذا يعني أن على البلدان المتخلفة أن تعيش نفس الطريق الذي مشته الدول المتقدمة في الفترة ما بين 1850 – 1950، حتى تقطع هذه المراحل وتصل إلى المجتمع الصناعي. (مراجع متعددة)

[3] Sen, Amartya. “A Decade of Human Development.” Journal of Human Development (Basingstoke, England), vol. 1, no. 1, 2000, pp. 17–23.

[4] انظر:

Przeworski, Adam, and James Vreeland (2000). “The Effect of IMF Programs on Economic Growth.

-United Nations Economic Commission for Africa (UNECA) (2001). 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى