برهان غليون: الحل بتنازل الأسد أو الانقلاب عليه
منير الربيع
6 كانون الأول 2024
على وقع التطورات المتسارعة للأحداث في سوريا، والتي تشير إلى تدهور سريع في البنية العسكرية للنظام السوري، ومع التقدم الذي تحرزه المعارضة المسلّحة، يطرح سؤال البحث عن المعارضة السياسية السورية نفسه، سعياً وراء رموز ومفكري هذه المعارضة. كان لا بد من حمل الكثير من الأسئلة إلى عالم الاجتماع والمفكر السياسي برهان غليون، فهو الرئيس الأول للمجلس الوطني السوري المعارض، وكان الرمز السياسي الأول للثورة السورية، فالتظاهرات المدنية في أسابيعها الأولى ناجته هاتفة باسمه للمطالبة بتدخل دولي لتوفير الحماية الجوية للمتظاهرين من الغارات التي كان ينفذها النظام ضدهم. برهان غليون هو أحد أبرز المفكرين السوريين الذين ساهموا في إنتاج الفكر السياسي العربي ونقده. أستاذ العلوم السياسية في جامعة السوربون، ومن جيل المعارضين الأوائل للنظام السوري وأكثرهم استقلالية، فكان شخصية مقبولة من كل أطياف المجتمع السوري وتنوعاته، يمثل وجهاً تقدمياً عروبياً علمانياً، ومن أبرز رموز ربيع دمشق، ورجل الحوار مع كل الفئات السورية المتنوعة على اختلاف سياساتها وتوجهاتها، وكان أول من نبّه لتبعية الثورة إلى أي دولة.
ويرى غليون أنه “لا مجال للتهدئة والاستقرار النسبي في سوريا اليوم، إلا بتنازل بشار الأسد، أو بانقلاب داخل النظام، أو باستمرار الحرب حتى إسقاطه. ليس هناك سوى هذه الخيارات الثلاث”. ويقول إن إيران ستحاول التمسك بالحكم الراهن وتعطيل التسوية، لكنها ستفشل لأن البلاد لم تعد تتحمل المزيد من الانهيار والتدهور في شروط الحياة”.
ويؤكد أن “ليس هناك أي مجال لتطبيق الحل اللبناني على المجتمع السوري”، مشيراً إلى أن الصراع السوري ليس صراعاً طائفياً، و”جميع الطوائف مجمعة اليوم على تغيير النظام الفاسد والقاتل”.
ويشدد على أنه “ليس هناك سيناريو تقسيم في سوريا حتى الآن”، مضيفاً أن “روسيا كانت تتهم واشنطن بأنها تريد تقسيم سورية بخلق دولة كردية”. ويلفت إلى أن “تركيا تعتبر أن مثل هذا التقسيم يهدد الدولة التركية. فهي ترفض التقسيم، وهذا هو موقف الأمم المتحدة وروسيا والعديد من الدول الأخرى”.
أسئلة كثيرة حملناها إلى غليون في محاولة لتقديم إجابات كثيرة يمكن البناء عليها للمرحلة المقبلة:
بداية ما هي قراءة الدكتور برهان غليون لتوقيت المعركة التي فتحتها فصائل المعارضة في حلب وما بعدها، وما هي أهداف هذه المعركة وما هو المتوقع منها سياسياً؟
ما من شك أن ما شجع على إطلاق المعركة في هذا التوقيت هو حال الضعف العسكري الواضح التي أصبحت عليه طهران وميليشياتها بعد حرب غزة وجنوب لبنان. وكان لاستثمارها من قبل خصومها النتائج السريعة التي حققها المقاتلون من المعارضة السورية لكن لا يقدم التوقيت الزمني رغم أهميته أي تفسير لما يجري وما جرى حتى الآن. فمن الطبيعي أن من يقرر القتال ضد طرف عدوّ أن يختار اللحظة التي يشعر فيها أنه الأقوى وأن الطرف الآخر في حالة ضعف. التوقيت الزمني مسألة عسكرية محض أما التوقيت السياسي فهو الأهم، وهو الذي سمح لهذا الهجوم الكاسح أن يقوم، وأعني به حصول التفاهم بين عديد القوى المشاركة في الصراع الدائر في سوريا منذ عام 2011 والذي سمح للمعارضة أن تحظى بتغطية سياسية وعسكرية معاً مكنتها من تحقيق المكاسب التي نشهدها الآن.
ولم ينجم هذا التفاهم الدولي عن عبث، وإنما بعد تجربة طويلة مع النظام ومع حاميته الرئيسة طهران، فشلت فيها الأطراف الدولية المعنية في دفع النظام إلى التعاون على إنهاء المحنة السورية التي أصبح لها نتائج وخيمة إقليمية ودولية، بالرغم من ما وعد به من دعم وتطمينات على بقائه. وانتهى الأمر بإدراك الجميع أنه لا يوجد حل مع النظام ولا بد من تغييره. مما يعني أيضا تغيير العلاقة مع طهران التي امتلكته وأصبحت تستخدمه ورقة رئيسة في صراعها ضد جميع الأطراف الأخرى بمن في ذلك الحليف الروسي. وهذا التفاهم الدولي الذي أصبح واضحاً اليوم، الأميركي الروسي التركي وربما العربي من الخلف هو الذي أنتج المبادرة العسكرية الجديدة والذي أعطى للمعارضة الدور الحاسم والكبير الذي تقوم به اليوم. وهكذا أصبحت بعد تهميش مديد شريكاً في تكنيس حكم الأسد الذي لا يمكن تحقيقه من دون مشاركتها الحيوية. والحقيقة أننا عندما نقول فشل هذه الأطراف الدولية في إقناع الاسد بتعديل سياساته لاستيعاب نتائج الكارثة التي تسببت بها حربه على الشعب وتشبثه بالسلطة بدل تحميلها للآخرين فنحن نقصد أساس فشلها في إقناع طهران بالحد من طموحاتها المتورمة التي جعلته رهينة لها وتريد استخدامه كورقة “جوكر” لتعظيم منافعها ضد الجميع.
أما هدف المعارضة في هذه الحرب فهو واضح، إجبار النظام على تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 الداعي لتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات تعمل على تحضير البلاد لإنتاج حكومة تمثيلية من خلال انتخابات حرة تحت إشراف دولي وإخراج الشعب من المحنة الطويلة وسوريا من الخراب المستدام. ويلتقي هذا الهدف جزئياً أو كلياً مع الأطراف الدولية والاقليمية الأخرى التي تسعى من خلال تحقيقه الى انتزاع ورقة احتكار مصير النظام من قبل وإلغاء الحظر الذي تفرضه على أي تعديل في الوضع السوري الراهن، حتى تملك كل الوقت اللازم لتفكيك سوريا وابتلاعها على حساب الجميع وأولهم الشعب السوري الذبيح بمعنى الكلمة.
تأتي هذه المعركة مع بروز عنوان مستجد في المنطقة وهو “تقويض النفوذ الإيراني” وهناك وجهات نظر تعتبر أن ما يجري هو محاولة لإخراج إيران من سوريا فهل ذلك ممكن؟ وماذا عن الأدوار والمواقف الأميركية، الروسية والتركية؟
لا أعتقد أن الهدف هو إخراج طهران من سوريا وإنما تغيير خياراتها الاستراتيجية في ما يتعلق باستخدام سوريا وغيرها من بلدان المشرق كساحات لحرب وكالة للدفاع عن مصالح قومية أنانية. وكذلك رفض هذه الدول التي تعتقد أن لها مصالح أيضاً في سوريا والمشرق العربي أن تعمل حسب أجندة وأولويات السياسة الإيرانية الإمبريالية وأن تغطي على سياسة التوسع والتمدد الإستراتيجي والعسكري والأمني الإيراني وتخضع لمتطلباته. وهذا ما جعل إيران تتحدث عن سوريا بعد لبنان وفلسطين وكأنها أملاكاً صافية لها واحتكاراً لا يحق لأحد أن ينازعها فيه حتى شعوبها، وهي صاحبة الحق في أن تولي عليها من يحكمها ويتحكم في وجودها، وليس للسوريين واللبنانيين والعراقيين سوى أن يذعنوا لقرارها، ولا خيار للدول الأخرى التي تريد الحفاظ على مصالحها سوى أن تمر عبر طهران وتدفع الجزية عن مرورها.
هذا هو جوهر ما يحصل اليوم في سوريا. وما كان له أن يحصل لولا هذا التوافق الدولي الإقليمي أيضاً. والذي لا ندري بعد أيضاً ما هي حدوده وما هي المخططات الخاصة بكل طرف للاستفادة منه. ما يهم السورييين هو أن يدافعوا عن مصالحهم فيه، وفي صلبها التحرر من كابوس نظام الانقلاب الدائم والعنف والاستئثار والظلم والتهميش والاعتقال إن لم يكن القتل على الهوية.
أي دور للمعارضة المدنية والمعتدلة في مواكبة هذه التطورات والتحولات السورية ذات الإيقاع الإقليمي والدولي؟
ليس من الخافي أن المعارضة السياسية السورية، وهي أطياف متعددة قصم ظهرها التدخل العسكري الإيراني ثم الروسي ومزق صفوفها لم تكن تملك القدرة على مواجهة النظام وايران وميليشياتها. وما كانت تستطيع أن تعمل بمعزل عن الدول التي تتقاسم اليوم النفوذ في سورية. وهذا هو وضع النظام نفسه الذي تحول إلى لاعب ثانوي او بالوكالة في يد طهران بالدرجة الأولى. فالحرب في سورية اليوم حرب مركبة تتداخل فيها القوى الدولية والإقليمية والداخلية السورية وليس لطرف سوري أن يوجد وأن يشارك في الصراع من خارج هذا التداخل.
وكما ذكرت تلتقي المعارضة مع الفصائل والدول الحليفة على أولوية كسر الحظر الذي تفرضه طهران على أي تعديل في بنية النظام السوري الراهن وتخليد حكم الأسد. ودور المعارضة السورية، المدنية والعسكرية، في هذه العملية العسكرية التي هي القوة الأبرز فيها والتي من دونها لايوجد أي حل لتحقيق مصالح الأطراف الدولية هو أن تضمن للسوريين تحقيق الهدف الأسمى وهو وضع حد للأزمة الطاحنة التي تعيشها البلاد منذ عقود والعمل مع الأطراف الأخرى من أجل تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 للتوصل الى تسوية نهائية ووضع أسس نظام سياسي جديد يضمن حقوق جميع الأفراد في السلام والأمن والعدالة والحرية والمساواة.
هناك مخاوف كبيرة من تجزئة سوريا إلى 3 أقاليم أو أكثر، وهناك حديث عن فرض فيدرالية الأمر الواقع والتخوف من عمليات تهجير طائفي أو عرقي فما هي مخاطر مثل هذا المشروع؟ وهل يمكن أن يتكرس؟
ليس هناك سيناريو تقسيم حتى الآن. روسيا كانت تتهم واشنطن بأنها تريد تقسيم سوريا بخلق دولة كردية. لكن تركيا تعتبر أن مثل هذا التقسيم يهدد الدولة التركية. فهي ترفض التقسيم. وهذا هو موقف الأمم المتحدة وروسيا والعديد من الدول الأخرى. أما طبيعة النظام القادم: هل سيأخذ بنموذج الدولة المركزية أم الدولة الاتحادية فهو موضوع نقاش لم يتحدد مصيره بعد بين قوى دولية بعضها لا تخفي تمسكها بالتقسيم الطائفي والإثني، وقوى أخرى تحرص على الحفاظ على الوحدة السورية ومنها الدول العربية وروسيا والعديد من الدول الأوروبية التي تتطلع اليوم إلى دولة مستقرة في سوريا تخفف من موجات الهجرة وتستوعب اللاجئين السوريين التي تريد أن تعيدهم إلى بلادهم.
كيف يرى الدكتور برهان غليون كل هذا الصراع الذي قد يأخذ أشكالاً إثنية وطائفية على مستقبل سوريا والمنطقة؟
الصراع على سوريا وفي سوريا صراع سياسي واستراتيجي أي يتعلق بخيارات سياسية (شكل الحكم والإدارة وتداول السلطة وتمثيل الشعب وقضايا العدالة القانونية والاجتماعية)، وبخيارات استراتيجية تتعلق بالصراعات الإقليمية والدولية في المنطقة وجر سوريا إلى هذا الخيار أو ذاك. ولا يمكن حسم هذا الصراع والتوصل إلى أي استقرار من دون مواجهة هذين التحديين الكبيرين: تغيير النظام السياسي من نظام احتكاري، طائفياً كان أو سياسياً أو قبلياً أو مناطقياً أو إسلامياً أو أقوامياً لافرق، إلى نظام ينبثق من الشعب ويعبر عن إرادته ومصالحه. هذه قضية لا يمكن تجاوزها اليوم ولا المرور عليها مرور الكرام ولا إخفائها تحت دعوة الصراع الطائفي أو وجود أكثرية وأقليات. هذا ما يسعى إليه النظام وما تحاول استراتيجية إيران على تعميمه بالمراهنة على تهييج المشاعر الطائفية، لتغطي على أساس المشكلة وحقيقتها الاجتماعية العميقة، لكسب الوقت وتسهيل تفكيك المجتمع وتفتيت البلاد واستخدامها أداة في صراعاتها على الهيمنة الاقليمية. ومن دون تغيير النظام ليكون معبراً عن إرادة الشعب ومصالحه، وإزالة الطابع الملكي عن الحكم الذي أصبح يعتبر سوريا مزرعة إقطاعية تنتقل ملكيتها من الأب إلى الإبن والحفيد، لن يكون هناك أي حل لأي مشكلة أو تحقيق أي تطلعات لأي أقلية أو أكثرية أو طائفة أو قومية.
في المقابل لا يمكن التوصل إلى حل ديمقراطي للقضية السورية كما يريده غالبية السوريين ويقاتلون من أجله من دون انتزاع سوريا من فك النزاعات الاقليمية والدولية واستعادتها سيادتها وهامشاً كبيراً من حرية تقرير المصير وتخلي الدول المتنازعة عن استخدامها مسرحاً لحروبها أو أداة من أدواتها وإلحاقها باستراتيجيتها القومية. ولا يمكن لهذا أن يتحقق إلا بإعادة اعتراف هذه الدول وتسليمها بسيادة سوريا واستقلالها وحق شعبها في الحياة في سلام وأمان. وأعتقد أن حصول سوريا على هذا الحق في الاستقلال والسيادة والحرية لا يمكن أن ينفصل عن حصول بقية دول المشرق الصغيرة والضعيفة على حقها في مثل هذا الاعتراف من قبل الدول الأقوى والكبرى، وتكريس ذلك ضمن معاهدات إقليمية ودولية مثبتة في وثائق الأمم المتحدة. وهذه هي الطريقة الوحيدة لوضع حد للحروب الدموية المستمرة منذ عقود في المشرق بأكمله. ولا أمل في التوصل إلى مثل هذا الدعم الدولي للمعاهدات الإقليمية المعززة للسلام في المنطقة ما لم تحل مسألة إسرائيل وفلسطين، بما يسمح بتعميم القاعدة على الجميع. وهذه مسؤولية تقع أولا على القوى الإقليمية القادرة على حمل المسؤولية والطامحة إلى تعميم السلام والرهان على التقدم الاجتماعي والاقتصادي والحضاري لا على التوسع الترابي أو الهيمنة الاستراتيجية، وثانياً وعلى الدول الكبرى العالمية والغربية منها بشكل خاص. ينبغي التوصل إلى تفاهم حول تجنيب المشرق الحروب الدائمة ووضع حد لها. والعقبة الأولى التي ينبغي التغلب عليها في هذا السبيل هي طموح الغرب إلى الاحتفاظ بهيمنة شديدة القسوة والقبضة معا على هذه المنطقة الحيوية. وعلينا أن نعمل جميعاً مثقفين وسياسيين واقتصاديين من أبناء هذه المنطقة على تحقيق هذا الهدف الذي هو مفتاح السلام والتقدم الوحيد للمنطقة ولكل شعب من شعوبها.
في انتظار ذلك لا مجال للتهدئة والاستقرار النسبي في سوريا اليوم إلا بتنازل الأسد أو بانقلاب داخل النظام أو باستمرار الحرب حتى إسقاط الأسد. ليس هناك سوى هذه الخيارات الثلاث. وما منع من القضاء على الأسد وفتح مائدة الحوار بين السوريين لإخراج البلاد من الانهيار هو عدم توافق مصالح الأطراف الدولية على ما بعد بشار أو على النظام الجديد بالرغم من موافقتهم المبدئية على القرار 2254. والمفتاح يظل في يد التفاهم الروسي الأميركي حول سوريا. إذا أرادت واشنطن إغراق روسيا في مستنقع سوري متفاقم ليس هناك حل، وسوف تتفاقم مأساة السوريين. وإذا قررت روسيا العمل ضد أميركا في سوريا سوف نواجه أيضاً تمديداً للأزمة إلى أجل غير مسمى. لكن أعتقد أن البلاد لم تعد تحتمل المزيد من التأجيل والهرب من المسؤولية فالثمن سيكون عالياً جداً بالنسبة لجميع الاطراف. وكما أن تركيا لا تستطيع الانتظار فإن طهران التي ترفض الاستسلام ربما ستلجأ إلى حشد المزيد من الميليشيات لتمديد أمد الحرب وإبراز قدرتها على مقاومة من يريد إضعاف نفوذها في سوريا.
وإذا طبق هذا القرار تكون هناك فائدة للشعب السوري وإلا فإن الأمر يقتصر على تحقيق مصالح الدول الاخرى على حسابه كما حصل حتى الآن. نأمل أن يدفع الصراع الراهن والضغط على النظام للوصول إلى تسوية سياسية سورية تفتح الطريق أمام السلام والحياة السياسية الطبيعية للشعب السوري. وإلا فإن الحرب ستظل مستمرة بين الأطراف.
هل ستقبل إيران بالنزول عند إرادة الدول الأخرى أم تصر على التمسك بالحكم الراهن وتعطيل أي خطة لتحقيق التسوية والخروج من الحرب الدائمة؟
أعتقد أن طهران ستحاول لكنها ستفشل لأن البلاد لم تعد تتحمل المزيد من الانهيار والتدهور في شروط الحياة. حتى الخبز في سوريا الراهنة يباع بالبطاقة الذكية أي أنه مقنن، لكل فرد رغيفين أو ثلاثة فقط في اليوم والكهرباء تأتي ساعتين في اليوم، ولا يزيد متوسط راتب السوري العامل عن 15 دولار والأسعار تكاد تكون دولية. سوريا برميل بارود. هذه آخر محاولة للتوصل إلى حل سياسي قبل انفجار شامل.
القوى الديمقراطية موجودة لكن لا تملك أي قوة سورية هامش مبادرة اليوم. المفروض ان تسمح إعادة الحياة السياسية الطبيعية للبلاد بتكوين هذه القوة الديمقراطية التي ما كان يمكن أن تنمو وتوجد في نظام لا تزال الصحيفة الوحيدة فيه هي الناطقة باسم الحزب والسجون مليئة بآلاف المعتقلين الذين لا يعرف أهلهم عنهم شيئا تماما كما كان الحال في سجون النازية. لكن هنا موزعة بالتساوي على جميع المدن والأحياء.
هل من إمكانية لحوار جدي وفعلي مع النظام ينتهي إلى ما يشبه الطائف السوري على الطريقة اللبنانية أي بقاء النظام برأسه مقابل تعزيز صلاحيات الحكومة؟ وذلك استفادة من التطبيع العربي مع دمشق وتوفر أجواء دولية تشير إلى إمكانية التعاطي مع النظام بحكم الأمر الواقع وافتقاد البديل؟
ليس هناك أي مجال لتطبيق الحل اللبناني على المجتمع السوري. الصراع السوري ليس في الجوهر والأساس صراعاً بين طوائف ولو كان كذلك لحسم خلال أيام. جوهر الصراع في سوريا ليس طائفياً وجميع الطوائف مجمعة اليوم على تغيير النظام الفاسد والقاتل. والحل في بناء دولة وطنية مدنية تساوي بين جميع مواطنيها من دون تمييز وهذا طلب السوريين جميعاً ومن كل الطوائف والمذاهب والقوميات.
هل من إمكانية للنجاح في طرح مشروع سياسي جديد يوائم ما بين قوى النظام وقوى المعارضة المعتدلة والمعارضة المسلحة؟
لم يعد هناك نظام ولا معارضة في حقيقة الأمر. هناك نظام إنقلابي متمرد على إرادة الشعب بما في ذلك القاعدة الاجتماعية التي كانت تقف وراءه في فترة سابقة، لا يعيش ويستمر إلا بدعم الدول الاجنبية التي يتخادم معها وتجارة المخدرات والأعضاء البشرية والعمالة للدول الإقليمية التي تبحث عن إمّعات يغطون على أطماعها التوسعية وشعب موحد من وراء الانتماءات جميعاً ضد نظام أصبح لا يعني بالنسبة إليه، بصرف النظر عن مشاربه الدينية والطائفية والقومية والقبلية والاجتماعية سوى الإدانة بالحرب الدائمة والموت والخراب والدمار.
ماذا تقول في ما أعلنه زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني عن التفكير بحل هيئة تحرير الشام. كيف ترى هذه الخطوة وأبعادها؟
من الملفت أنه في موازاة تقدم مسيرة “فجر الحرية” و”ردع العدوان” يجنح الخطاب السياسي عند السوريين جميعاً من الأفراد، والتشكيلات السياسية وحتى الدينية، إلى تبني قيم إنسانية كونية والتأكيد على المبادىء الوطنية الجامعة والارتفاع فوق ما ساد في السنوات الماضية من نزوع إلى ابراز الاختلاف الايديولوجي والتباين الطائفي والديني. وهذا ما عبر عنه بيان مفتي الجمهورية وكذلك ما صرح به الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام من احتمال حلّ هذه الهيئة ذاتها. والسبب في نظري أن الاقتراب من السلطة، وأعني سلطة الدولة لا الزعامة، يفرض على المرشحين لها إبراز الدليل على قدرتهم على الارتفاع إلى مستوى المسؤولية العمومية ويحثهم على الارتقاء بأفكارهم ومشاعرهم الإنسانية وتجاوز انغلاقهم على عصبياتهم العضوية. وفي المقابل يزداد تقوقع المهددين بالخروج من السلطة وانغلاقهم.
وعلينا بالطبع أن نشجع هذا التوجه بالعمل ضد سياسة الحظر والإقصاء وتهميش الآخرين والتمييز ضدهم، في أي شكل جاء هذا التمييز، ما يدفع بهم إلى تبني مواقف وأفكار سلبية وإلى التمحور حول الذات وتطوير نزعات رفضوية او رافضية إقصائية وتمييزية معادية للاخر، هدفها الأساسي حماية الذات من التشكك والانحلال ومن التسليم بالدونية والإستقالة الاخلاقية.
فلا يوجد حل لمشكلة التطرف والانغلاق على الذات والكفر بالمبادىء الجامعة، دينية كانت أو سياسية، إلا في الاعتراف بالحقوق الواحدة والاحترام المتبادل والمتساوي، وهذا مصدر الاندماج والشعور بالانتماء للجماعة السياسية او الثقافية والمعيار الرئيس للعدالة.
العنف ينتج العنف المضاد والكراهية الكراهية المضادة تماماٍ كما تنتج المودة المودة والإخاء الإخاء.
المدن