بعد الكارثة: هل ستعتذر النخب الثقافية العربية؟/ محمد سامي الكيال
6 كانون الأول 2024
تزداد الأمور سوءاً في كل بقاع المشرق، لتنتقل من كارثة إلى أخرى، إذ لم تكد الحرب تهداً قليلاً في لبنان، حتى اندلعت في سوريا، ليبدأ تدفّق المقاتلين والقوى العسكرية من كل أنحاء الإقليم، وربما العالم، فيما ما تزال غزة تحت حرب الإبادة الإسرائيلية. قد يرى كثيرون أن لا شيء ثقافيا يمكن أن يقال عن كل هذا، إلا أن هذا الرأي قد لا يكون دقيقاً، فالبشر في الحروب لا يتبادلون إطلاق النار فقط، وإنما يتكلمون ويصوغون الخطابات، حتى من قلب الجبهات، ولتلك الخطابات مستقبلوها ومتلقوها، وتنبني على ترميزات ومفاهيم ومفردات، لها عمقها ودلالتها الاجتماعية والتاريخية والأيديولوجية. كل هذا «ثقافة» أيضاً.
وبالتالي، فإن لمجموعة منتجي الثقافة والخطاب، الذين يمكن تسميتهم وظيفياً بـ»النخب»، نظراً لموقعهم في مؤسسات وشبكات إنتاج الثقافة الجماهيرية والتخصصية، دورا في الحروب، إذ إنهم قد ينشرون، أو يبررون، أو يدافعون، أو ينتقدون، خطاباً من خطابات الحرب، ويسعون لإنتاج مواد ثقافية رديفة له، موجّهة للجمهور العمومي، بهدف تهيئة الرأي العام للتعاطي مع الوقائع المؤلمة، التي ترافق الحروب، بالتركيز على أحكام القيمة، والتحليلات الاستراتيجية، والروايات التاريخية، وإسباغ المعنى والدلالة على حوادث مثل القتل والتهجير. وبما أن الشرعية في لغتنا السياسية المعاصرة، الأقرب للعلمنة، رغم كل ترميزاتها الدينية، تأتي من الشعب، أو الأمة، فإن العمل الذي تقوم به النخب، لصياغة الرأي العام، قد يمنح غطاءً من الشرعية المجتمعية لخيارات سياسية وعسكرية، مؤثّرة بشكل حاسم على حياة البشر. وكلّما ازدادت قوة المؤسسة، التي يُنتج من خلالها صانع الثقافة مواده، وقدرتها على الانتشار، فإن مسؤوليته السياسية والاجتماعية تصبح أكبر. بعبارة أخرى، يصبح طرفاً أكثر تأثيراً في الحرب.
بالتأكيد، لن تتوقف الحروب، إن رفضتها النخب؛ أو تتغيّر مجريات المعارك على الأرض، لكن الدور الذي يلعبه صانعو الثقافة قد يساهم، على المدى المتوسط والطويل، في دعم كيانات سياسية وعسكرية، أو إضعافها جماهيرياً؛ وفي تأمين القبول أو الرفض لممارسات معيّنة. والأهم أنه يكرّس منظورات أيديولوجية ما، أو يقصيها؛ وكذلك بنيةً ونموذجاً متكاملاً في التفكير، تؤثّر بالتأكيد في كيفية تعاطي البشر مع ظروفهم، وفهمهم لها. لا توجد ردود فعل طبيعة أو حتمية، لا احتمالات غيرها، على وضع معيّن، وإلا فلماذا تصارع البشر طويلاً في تاريخهم، حول الخطاب والفعل، وخياراته؟ بل لماذا وجد العمل السياسي والثقافي أصلاً؟
إذ كان بعض نخب المنطقة ما يزال يرى في ما يحدث في المشرق أمراً إيجابياً، أو مبشّراً على المستوى «التاريخي»، فهذا شأنه، وربما الأفضل تركه في منظوره العقائدي، وفلسفته الخاصة عن التاريخ. ولكن السؤال الأساسي يجب أن يوجّه للأقل انغلاقاً على عقائدهم: بعد أن توضّحت أبعاد الكارثة التي نعيشها، من فلسطين إلى العراق، ألم يكن تكريس قيم أيديولوجية معينة، وتلفيق التحليلات الاستراتيجية والتاريخية، ونشر الصيغ اللغوية الإنشائية، ذات الطابع العاطفي، أو الحماسي، خطأً يستوجب المراجعة والنقد، وربما الاعتذار، على الأقل لذوي ضحايا الحروب، السابقين والمقبلين؟ وهل يمكن لتلك النخب أن تعي قسطها من المسؤولية عمّا حدث ويحدث؟ إذا كان الجواب «لا»، فربما من حقنا أن نقترح في ما يلي بعض أوجه المسؤولية، دون الخروج من مستوى الثقافة طبعاً.
تبسيط المجازر
ليست منطقتنا حديثة العهد بالمجازر الجماعية، وعمليات التطهير العرقي والطائفي، فهي لم تنقطع، في المشرق على وجه الخصوص، طيلة القرنين الماضيين. ولذلك فمن المُستغرب أن لا تطوّر نخب المنطقة، خاصةً من تعرّف نفسها نخباً ديمقراطية، أو حقوقية، أو تحررية، أو حتى وطنية، حساسية خاصة تجاه كل أشكال وبوادر الإبادة، منذ ظهورها على مستوى الخطاب والأيديولوجيا، وحتى تحققها ميدانياً وعملياً.
نزع ثقافة الإبادة، إن صح التعبير، عملية شاقة وطويلة الأمد، على المستوى الثقافي والتربوي والإعلامي، خاصة في الدول التي عانت طويلاً من أنماط من التشكّل القومي العدواني، ولديها ذاكرة مؤلمة مع الإلغاء والإقصاء وفرض الأحادية، بل ربما تكون عملية دائمة، لا تنقطع ضرورتها وأولويتها في الشرط الحديث، الذي وفّر ماكينات حرب، أحد تروسها الإعلام الجماهيري، أشد كفاءة في الإبادة من أي عصر آخر. نرى حتى اليوم في الدول الاستعمارية السابقة، وذات الماضي النازي والفاشي، صراعات مستمرة ضد النزعات العنصرية والقومية الشوفينية، لا تحقق النجاح دوماً، فما تزال فرص العنصريين والقوميين كبيرة؛ فيما قد يرفض مسؤولو تلك الدول الإبادة في مكان، ويمارسونها أو يغضّون النظر عنها في أمكنة أخرى. وبالتالي فإن «نزع الإبادة» تبقى على رأس مهام أي قوة سياسية، يمكن أن تصف نفسها بالتحررية.
في منطقتنا هناك انطباع عام على ما يبدو، يدعمه جانب أساسي من النخب، بأننا لسنا معنيين بكل هذا، ليس لأن دولنا وقومياتنا وطوائفنا لم تمارس الإبادة، بل بناءً على مفهومين أساسيين، قائمين على التبسيط الأيديولوجي المفرط، أحدهما عن التاريخ، والآخر عن العدالة.
يقوم المفهوم الأول غالباً على رواية للماضي، وتصوّر ما عن المستقبل، يسردان ما جرى وسيجري بثقة كبيرة، وبمعانٍ شديدة الوضوح، وخالية من التركيب. هناك في التاريخ ظالم تام، وضحية تامة. طرف معتدٍ، لا ينقطع عن الاعتداء، وآخر معتدى عليه، لا يكفّ عن المقاومة. أما ما يحدث الآن فهو نتيجة حتمية لذلك الماضي، ورد فعل عليه؛ وهو يمضي في مخطط تاريخي، نحو نزع الاستعمار، أو الاستبداد، أو كل ما هو مصطنع في جسد المنطقة (أو الأمة، الأرض، الوطن، إلخ) الطبيعي أو الأصلي. وضمن هذا المخطط، الذي يمكن أن يُرسم ببساطة، حسب أيديولوجيا المتكلّم، فإن كل ما يجري، مهما كان كارثياً، هو ثمن، أو عارض جانبي، أو تناقض ثانوي.
الحتمية والتجهيل
أما المفهوم عن «العدالة» فيبدو ثأريّاً إلى حد كبير: لقد ظُلمت مجموعة هوية، أو شعب، أو طائفة، بشدة، وبالتالي فإن ما قد تفعله، في ردة فعلها على الظلم، مفهوم ومبرر، بل عادل. كما أن عدالته مطلقة وغير قابلة للنقاش. غريبٌ فعلاً ذلك التاريخ، الذي من المفترض أنه دنيوي، ويتجسّد فيه المطلق بكل هذا الوضوح. مع اندلاع المعارك في سوريا مثلاً، ظهرت لا مبالاة «نخبوية» غريبة تجاه الاحتمالات الجديّة للتطهير الطائفي والإثني في مناطق الصراع، والتي تَحقّق بعضٌ منها بالفعل، وكأن الفاعلين الثقافيين والسياسيين في ذلك البلد لم يتعلّموا شيئاً من اثنتي عشرة سنة من الحرب الأهلية. لا يهتم تبسيط المجازر هذا فقط بتبرير نوايا إلغاء الأعداء، بل يقدّم أيضاً المعنى والعزاء، بخصوص الإبادة التي قد يتعرّض لها البشر في «معسكرنا» الخاص. هؤلاء شهداء، أبطال، شعوب تسطّر الملاحم، «أولاد بلد» طيبون، ومجدداً: «ثمن».
الأمور لا يمكن أن تتم بطريقة أخرى، لا توجد خيارات إلا ما حدث، ولا أفق إلا الاستمرار بالمنهج والتفكير نفسه. هذا ما يقترحه كثير من النخب، عندما يتعلق الموضوع بقضيتهم، أو قوتهم السياسية المفضّلة. يمكن اعتبار هذا عملية احتيال أيديولوجي واضحة، فحتى لو كنّا مقتنعين بفلسفة تاريخ ما، أو منظور بنيوي معيّن عن الصراعات، فلا يوجد تناقض تاريخي، مهما كان متأزّماً؛ أو بنية، مهما كانت مغلقة، لا يتركان إلا احتمالاً واحداً للفعل والحدث. أما الوظيفة السياسية لذلك الاحتيال، فغالباً منع محاسبة طرف معين، وتبرير النتائج الكارثية لتصرفاته. يُذكّر كل هذا بمذهب «الجبرية» في العصر الأموي، الذي استخدمه الحكّام آنذاك لشرعنة أفعالهم دينياً، ولا علاقة له بفلسفات معاصرة، مثل المادية التاريخية أو البنيوية.
تؤدي عمليات الاحتيال تلك إلى تجهيل معمّم للجمهور، عبر منحه أدوات تفكير شديدة الرداءة، وشبكة مفاهيمية ضعيفة للغاية، لا تستوعب كثيراً من التفاصيل والوقائع والاحتمالات، وتُبقي الأفق الفكري للناس محدوداً بعدد قليل من المقولات، والتي يبدو أن تكرارها بات مُلزماً، تحت طائلة الإلغاء الثقافي والتشهير والاغتيال المعنوي، بل حتى التحريض والاعتداء الجسدي في بعض الأحيان. ربما يستحق الجمهور الناطق بالعربية، خاصة من الأجيال الأصغر والناجين من الحرب، أن يسمع ويقرأ شيئاً مختلفاً، سواء كان صحيحاً أو خاطئاً من منظور مؤيدي الحروب الحالية، ولتُترك الأمور لتقدير المتلقين، وجدلهم. بالتأكيد ليس كل من تعبوا من الحروب، وينشدون السلام، مجرّد عملاء للاستبداد أو الاستعمار، ومحاولة إرهابهم أو قمع أصواتهم خطأ آخر، يضاف إلى قائمة الأخطاء، أو الخطايا، التي يساهم بها جانب مهم من النخب.
هل ستعتذر تلك النخب يوماً، عن حقبة مليئة بالدماء والخيارات الخاطئة، ساهمت فيها من مواقعها؟ أم ستستمر بإلقاء المسؤولية الكاملة على الظروف والأعداء والتاريخ، وتبشّر بالتغيير الذي سنشهده بعد أن صرنا «ثمناً»؟ الاحتمال الثاني هو المرجّح على الأغلب، وذلك بناءً على الآليات التي تحكم تفكير تلك النخب وممارساتها. بكل الأحوال، لا يمكن إجبار أحد على النقد والمراجعة، المطلوب فقط تخفيف الحماسة وتخفيض الصوت، إن لم يكن احتراماً لحق المختلفين في التعبير، فعلى الأقل تواضعاً أمام الكارثة.
كاتب سوري القدس العربي