مقالات سينمائية

بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا/ زياد عبدالله

جماليات بصرية مستقاة من عوالم النص تفضي إلى بنية مرئية شديد الخصوصية

السبت 16 نوفمبر 2024

ملخص

تتطلب مشاهدة فيلم “بيدرو بارامو” المعروض حالياً على منصة “نتفليكس”، وضع الرواية المأخوذ عنها جانباً، والمضي مع الفيلم وعوالمه، كما لأي مشاهد حصيف أن يفعل ما دامت الرواية أصبحت في عهدة وسيط فني آخر، ألا وهو الفيلم، وقد تحولت إلى سيناريو يكتب ليصور لا ليقرأ، وتركيزه الأساس على البصري والمرئي.

بينما تتحرك حكاية رواية بدرو بارامو” التي تعد رائدة أدب الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، في نطاق فكري، للقارئ أن يتخيل ما يشاء أثناء القراءة، فالرواية لا تعرف أية حدود، فكيف إن كانت هذه الرواية هي “بيدرو بارامو” المتعددة الأصوات والشخصيات والأزمنة، الأموات أحياء، والأحياء أموات فيها، وقدرتها المدهشة على أن تقدم صوراً وعوالم متخيلة بلا حدود، صور قد تكون مختلفة تماماً عن الصور المتحركة على الشاشة.

هذا المطلب سرعان ما يتخلى عنه المشاهد إن كان قارئاً لرواية المكسيكي خوان رولفو (1917 – 1986) المفصلية في تاريخ أدب أميركا اللاتينية، المأخوذ عنها الفيلم، لا بل سيدعوه الفيلم إلى إعادة قراءتها، بما يدفع للقول إن مشاهدة الفيلم مرتبطة بضرورة قراءة الرواية، فنحن حيال فيلم لجنسه أو نوعه ألا يتعدى كونه “فيلماً مقتبساً عن رواية”، لا هو “رعب” ولا “تشويق” ولا “خيال علمي”، ولعل إحالة الفيلم إلى تلك الأنواع كانت من المخاوف التي راودتني حين الإعلان عن الفيلم، وبخاصة أنه من إنتاج “نتفليكس” التي تركز في إنتاجاتها على تلك الأنواع، ورواية رولفو تحتكم على هذه الإمكانية إن تمت معالجتها في هذا السياق، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فالفيلم هو مقترح بصري تجسيدي لدراما وعوالم الرواية، التي لم يؤلف رولفو سواها، إلى جانب مجموعة قصصية بعنوان “السهل المحترق”.

للرواية سحرها ووقعها العظيم والمترامي، واقتباسها كفيلم بحد ذاته تحد كبير، خاضه رودريغو بريتو في أولى تجاربه الإخراجية، هو الذي عرف مدير تصوير لأفلام كثيرة مهمة، منها أفلام أليخاندرو غونزاليز أناريتو “كلاب الحب” (2000)، و”21 غراماً” (2003)، و”بابل” (2006)، وصولاً إلى فيلمي مارتن سكورسيزي الأخيرين، “الإيرلندي” (2019)، و”قتلة زهرة القمر” (2023)، كما أن كاتب السيناريو ماتيو غيل هو صاحب نصي فيلمين مميزين للمخرج أليخاندرو أمينابار هما “البحر بداخله” (204) و”أغورا” (2009)، وليجتمعا على رواية “بيدرو بارامو” التي نشرت في المكسيك عام 1955، ولاقت احتفاءً منقطع النظير، ما زال قائماً حتى أيامنا هذه، إذ اعتبرها خورخي لويس بورخيس “واحدة من أعظم الأعمال الأدبية التي كتبت على الإطلاق”، ووصفتها سوزان سونتاغ بأنها “من روائع القرن الـ20″، بينما رأى غابرييل غارسيا ماركيز أن “بيدرو بارامو” أجلست مؤلفها خوان رولفو على قمة الأدب إلى جانب سوفوكليس، وماثل أثرها عليه ما فعلته به رواية كافكا “التحول”.

أصوات الموتى

يبدو يقيناً ومع اللقطات الافتتاحية من الفيلم أن مخرجه، في صدد تقديم جماليات بصرية مستقاة من عوالم الرواية، تفضي إلى بنية مرئية شديد الخصوصية، تجسد عوالم رولفو “الواقعية السحرية” بوصفه الأب المؤسس لهذا التيار، والبداية تأتي كما في الرواية “جئت إلى (كومالا) لأنهم قالوا لي إن والدي يعيش هنا، إنه شخص يدعى بيدرو بارامو (…) إنها قرية تقبع فوق جمار الأرض، في فم الجحيم وإن كثيرين ممن يموتون هناك يعودون بمجرد وصولهم إلى جهنم بحثاً عن بطانية”. تتراءى “كومالا” لخوان بريثادو (تينوش هويرتا) من بعيد وهو برفقة البغال أبونديو الذي يصادفه في طريقه، وحين يصل “كومالا” يتحقق ما قالته له أمه: “هناك ستجد صوت ذكرياتي أقرب إليك من صوت موتي، هذا إن كان للموت صوت”. القرية مهجورة، إنها مدينة أموات وأشباح، لكن للموت صوت وللأموات حياة أخرى فيها، إنها حياة المخيلة في الرواية والفيلم، وبريثادو في البداية بالكاد يعثر على أدوفيخيس ديادا (دولوريس هيريديا) التي تقول له “أخبرتني أمك بأنك ستأتي”، فيقول لها “أمي ماتت”، فتقول “لذلك كان صوتها ضعيفاً حين أخبرتني”.

سيتوالى ظهور الشخصيات ثم اختفاؤها لأنهم أموات، وستحضر شذرات من أحداث غير مكتملة في ثنايا الفيلم، وهو يتناوب بين مشاهد معتمة شحيحة الإضاءة وأخرى مضاءة تأتي مما يمكن تسميته “تكامل الأحداث”، الأول يكون مع بريثادو في “كومالا” وكل من يقابلهم أو يقابلهن سيكتشف ونكتشف معه أنهم أموات، إذ يتم استدعاء كل الشخصيات والمصائر بداية إلى بيت ديادا،، ومن ثم تأتي داميانا (مايرا باتالا) بعد اختفاء الأخيرة، لتأخذه خارج البيت بينما المشاهد المضاءة تأتي بمثابة تمهيد لما سيستعاد كاملاً حين يموت الراوي أو بريثادو، وليتولى السرد، وإن من القبر، إذ أصبح لديه متسع من الوقت ليفكر ويدرك كل شيء، ذلك أنه أصبح ميتاً حاله حال أمه، بالتالي تتكامل كل القصص، ذلك أن كل الأحداث حدثت في الماضي، وجميع الشخصيات أموات، بالتالي فإن الراوي أصبح واحداً منهم وبمقدوره أن يعايش ما عاشوه بصورة كاملة، وليس من خلال “صوت الأموات” كما هو الحال مع ديادا وداميانا.

يحدث هذا بعد أن يلتقي بريثادو “المرأة التي تتحلل في ماء عرقها”، على شيء مما يرد في الرواية “أيقظني الحر والعرق عند منتصف الليل. كان جسد المرأة تلك مصاغاً من تراب، وتحيطه قشور من تراب، يتحلل وكأنه يذوب في بركة وحل. وأحسست أنني أسبح في العرق الذي يقطر من جسدها، وافتقدت ما يكفي من هواء لأتنفس، حينها نهضت، والمرأة نائمة، ومن فمها تتلفظ بدوي فقاعات أشبه بالحشرجة”.

افتقاد الهواء الكافي للتنفس سيميت خوان بريثادو، وسنكون في الفيلم شهوداً على برك الوحل التي تتحول إليها تلك المرأة وآخرين، وسنرى قبراً ونسمع صوتاً خفيضاً آتٍ منه، ومن دفنوه يقولون له “لو لم يكن ثمة هواء لنتنفسه في تلك الليلة، لما أسعفتنا قوانا على حملك ودفنك، وها أنت ترى أننا ندفنك”. هذا الاقتباس لن يرد في الفيلم، ولن نشاهد فيه عملية الدفن! لكن إيراده سيكون على شيء من إيضاح تلك الانتقالة المفصلية في الفيلم، وتسيد حكاية بيدرو بارامو السرد، وتوالي الأحداث في نسق أفقي.

أجمل امرأة على وجه الأرض

سنبدأ بمعرفة كل شيء عن بيدرو بارامو أفقياً وتتابعياً، وسيتحول الفيلم إلى فيلم آخر مهد له في ما سبق بشذرات هنا وهناك. سيتضح لماذا تزوج بيدرو بارامو أم خوان بريثادو ولماذا هجرها! حكاية ابنه ميغيل بارامو، الذي يعده بيدرو ابنه الوحيد، وكيف مات! ستظهر شرور بيدرو بارامو، وحيله وتلاعبه ومظالمه، بوصفه سيداً إقطاعياً يملك البشر والحجر، وإقدامه على قتل كل من حضر حفل الزفاف الذي قتل فيه والده، وغير ذلك كثير من تسلطه، ومن ثم ستحضر قصة حب بيدرو لسوزانا (إلسي سالاس)، “أجمل امرأة على وجه الأرض”، تلك التي تجمعه معها ذكريات الطفولة، وانتظرها 30 سنة، وظل يلاحق والدها يابارتولومي سان خوان الذي ينتقل في العمل من منجم إلى آخر ليعثر عليها في النهاية.

ستكون سوزانا تلك “المرأة التي ليست من هذا العالم”، لا تدع لبيدرو أن يقربها، مبقية ضوء غرفتها مضاء لثلاث سنوات، هي التي تخشى العتمة وتدور في فلك الرؤى والهواجس والذكريات، وحين تموت تبقى أجراس الكنائس تقرع وتقرع طويلاً، “استمر قرع النواقيس طوال الليل والنهار، وبات أقوى فأقوى إلى أن تحول إلى نواح (…) وبعد ثلاثة أيام أصيب الجميع بالصمم”، وبدأ الناس يتوافدون من كل مكان وقد تحول موت سوزانا إلى كرنفال، وليلازم بيدرو بارامو كرسيه بعد وفاتها، هاجراً كل شيء بانتظار قاتله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى