نقد ومقالات

مسلسل «البطريق»… جماليات متطرفة/ رامي أبو شهاب

من أهم المسلسلات التي تُعرض حالياً مسلسل The Penguin «البطريق» الذي يمثل إحدى صيغ الامتداد لحكاية مركزية ما زالت تُستثمر من قبل هوليوود، أو صناع السينما والدراما. هذه الحكاية باتت كينونة رمزية قادرة على حمل الكثير من الدلالات والكثير من الإثارة، بيد أن الأهم هو، القدرة على استغلال هذه الحبكة بصيغ متعددة تتخذ من تكوين زمني لقصص مُتشعبة مع ما تنطوي عليه من شخصيات تحتاج إلى تخليق تاريخ لها، عبر تفريعات درامية؛ مركزها الثابت مدينة «غوثام» بدلالتها الرمزية التي تحيل إلى المدينة الغربية، وبين ثنايا هذه المدينة تولد الشخصيات التي تتوزع بين الخير والشر، غير أنّ مقولتي الشر والخير ليستا مطلقتين، إنما هما عرضة للتاريخ، والتأويل، كما مرجعيات الشيء وتداعياته.

مدينة وشخصيات

ينهض المسلسل على مزيج متعدد، وثري الدلالات يرتبط بوضوح في تكريس مركزية المدينة، التي تمثل نموذجاً استعارياً للحضارة الغربية، وأمريكا بشكل خاص، كما تعكس في رمزية واضحة أي مدينة تنهض على تمايز طبقي، واجتماعي، وفساد السلطة السياسية، هي حكاية المكان أينما كان، أو أينما يكمن الفساد. تبرز المدينة ضمن نموذج استعادي مستمر، أو دائم الظهور في سلاسل أفلام الرجل الوطواط، أو في فيلم «الجوكر»، ومؤخراً في مسلسل «البطريق» الذي يؤطر المدينة ضمن صورة بصرية تعتمد مستويين، الجانب الشرقي الأدنى، الذي تعرض لتفجيرات وفيضانات، كما يعاني من انقطاع الكهرباء والفقر والبطالة والجريمة، والجانب الغربي الأعلى، الذي يشغله الأغنياء، وطبقة السياسيين الفاسدين، ولعلها صورة نراها تقريباً في كل مدينة في العالم، ونتيجة لذلك تتولد شخصيات سيكوباثية نتجت بفعل هذه السياقات، فتظهر شخصيات مأزومة مسكونها بماضيها، كما أسئلتها الأخلاقية تجاه العالم، ولكن الأهم تفسير سلوكها عبر مبادئ مشوهة. في انشغالنا التحليلي لمستويات الدلالات الثقافية للمسلسل، نقف بداية عند بعض الجوانب الفنية، التي تتصل بعمق الحبكة، والقدرة على تكريس نص محكم، وحوارات بين شخصيات تنوء بحمل الكثير من الأسئلة، ونقد العالم، والتشكيك بالقيم، والأهم تقويض ما يكمن في داخلنا من قناعات. كما يمكن أن يُضاف إلى ما سبق استثمار البعد البصري المشهدي، الذي يفيد من إنشاء سينوغرافيا تستلهم شيئاً من أجواء سلاسل أفلام «الرجل الوطواط» أو «الجوكر»، غير أنها في المسلسل بدت أقرب إلى الواقعية، بالتوازي مع نبذ المبالغة القائمة على تكريس الإثارة والتشويق البصري أو الحركي، التي اعتدنا عليها في أفلام «الرجل الوطواط»، أو المبالغات النفسية في فيلم «الجوكر»، وهنا نرى أن هذا الجانب كان من عوامل تقديم مسلسل مختلف اشتغل على تقديم خطابه بقدر كبير من العناية، والتوازن والوعي على حد سواء.

لا يمكن أن نتجاهل أو نغفل أثر طاقم العمل من ممثلين، ولاسيما شخصية «البطريق» أو «أوز» الذي يؤدي دوره النجم كولين فاريل، الذي ظهر بصورة مغايرة عما كمن في ذاكرتنا من جاذبية ووسامة، وأدوار الخير، حيث بدا سميناً بعض الشيء، مشوه الوجه، وبملامح قاسية، مع مشية تشبه مشية البطريق – نتيجة تشوه في الساق – وهنا لا بد من أن نشير إلى أن صناع المسلسل أحدثوا صدمة لدى المشاهدين في تكوين هذه الشخصية من ناحية الشكل بفعل المكياج المتقن، إذ لم يتمكن المشاهدون من الربط بين شخصية البطريق، والممثل نتيجة التغير في الملامح، غير أن القيمة الحقيقية تتصل بأداء الممثل الذي ربما قدم أجمل أدواره، بل إن هذا المسلسل، بدا إضافة كبيرة لنجم لا تنقصه الإنجازات. في حين تتحدد الشخصية الثانية بصوفيا ابنة رئيس إحدى العائلات الإجرامية التي تسيطر على تجارة المخدرات. تخوض «صوفيا» صراعاً مع عائلات أخرى، بيد أن هذه الشخصية (المضافة) تكاد تزاحم شخصية البطريق في توجيه طاقة التلقي نحوها، نتيجة عوامل عدة: أهمها العناية برسم الشخصية، عبر تكوين أعماق نفسية متعددة لها، تتصل بخلق نقاط تحول، وصدمات أدت إلى ابتكار وحش مختل قد ينال شيئاً من التعاطف نتيجة مظلومية ماضيها، بالتوازي مع الملامح الهادئة والجميلة التي سرعان ما تتغير، فتمسي شخصية يمكن أن نقرأ في داخلها كل التناقضات، فتثير القلق والتعاطف والخوف في آن. لقد أضافت هذه الشخصية قيمة دلالية وفنية، فمعاناة صوفيا جاءت نتيجة سياق بطريركي ذكوري، ولاسيما ما فعله والدها، وما أحدثه من جنايات وجرائم بحق نساء أخريات، والأهم بحق ابنته، لقد أدركت صوفيا معضلتها في مجتمع ما زال ينظر إلى المرأة بصورة دونية، حيث يستبيح وجودها، ويراه أقرب لشيء، أو وجود، أو ملكية ما، وهي تؤدي دوراً وظيفياً بوصفها المنافس لشخصية البطريق أو أوز.

القمة والقاع

إذا كان المسلسل – عبر خطابه- قد عُني بالمعضلات الاجتماعية والقيمية والطبقية والأخلاقية، والرغبة في الانتقام، ونقد الفساد فإن ذلك لم يتحقق إلا عبر مركزية (الشخصيات)، ومنها البطريق كما صوفيا، ولكن هذا جاء بالتجاور مع بنيته السردية التي اعتمدت تقنيتي التقديم، والتأخير من أجل بناء مرجعية الشخصيات، ولاسيما البطريق وصوفيا، فيستدعي البعد النفسي في طفولة كل منهما، بالتوازي مع اكتناه العوامل، التي أدت إلى خلق هذا التكوين، وهنا لا بد أن نتوقف عند شخصية الرجل البطريق في تكوينه الجسدي المخيف، فضلاً عن تكوينه النفسي، وذكائه، بالتوازي مع الإعجاب به، بل إن صانعي المسلسل تمكنوا من توليد قيم متناقضة تجاه هذه الشخصية الشريرة – التي قد يتعاطف معها المشاهد – ولكن في الوقت عينه قد يتراجع هذا التعاطف، كلما أقنعنا أنفسنا أن ثمة بصيصاً من نور، أو قيمة إنسانية ما زالت كامنة في هذه الشخصية، بما في ذلك علاقته مع والدته، فهي علاقة تنهض على الرغبة في الاستحواذ والتملك؛ ولهذا يقتل شقيقيه عندما كان طفلاً، ولكن هذا لا يقارن عندما نرى المشهد الأكثر تأثيراً، حيث يقتل «البطريق» صديقة الشاب أو المراهق «فيكتور» الذي أنقد حياة البطريق، وكان أقرب إلى تلميذ، بل كان عوناً لأستاذه في كثير من المواقف.

ينتمي الشاب «فيكتور» إلى النموذج المهمش، أو بوصفه من أبناء المنطقة الفقيرة المهملة من الحكومة، لقد قُتلت عائلته في التفجيرات والطوفان، ومع أنه يظهر تكويناً خاماً، وقابلاً لعكس شيء من الخير، بيد أن العالم والبطريق يبددان هذا، فيتحول الشاب إلى جلاد وضحية، وبينهما يبدو توتره الأخلاقي رسالة متقدمة في المسلسل.

في نهاية المسلسل، وبعد أن يتمكن البطريق بمساعدة الشاب فيكتور من التخلص من صوفيا، يرتكب «فيكتور» خطأ قاتلاً، أو هو الخطأ الإنساني عندما يقول للبطريق إنه أصبح أشبه بوالد له، أو قد أصبح بمثابة عائلة له، وهنا يسارع البطريق إلى خنق «فيكتور» في مشهد مؤثر تتركز فيه الكاميرا على عيون البطريق، وهي حائرة بين شيء من إنسانية، وكثير من وحشية قائلاً: «العائلة تعني الضعف»، وبهذا المشهد يمكن أن نلمح التجريد الكامل لبناء هذه الشخصية التي ترغب في التملك والسيطرة على المدينة مدفوعاً بعاهته الناتجة عن ساقه، وغيرها من تراكمات الإقصاء الطبقي، والاجتماعي، والسياسي.

من الملحوظة الأخيرة نستنتج أن القيمة الحقيقية للمسلسل لا تكمن في عمقه النفسي المباشر فحسب، إنما تتجاوز ذلك عبر تشريح الطبيعة البشرية، وتناقضاتها، وما يجسده البطريق من رسائل عكسها حواره من الشاب «فيكتور» عبر خلاصة مفادها أن العالم الذي نعيشه عالم قاس، وعليك أن تفرض وجودك عليه بالقوة، فلا أحد سوف يحترمك إذا كنت ضعيفاً. لا شك أن شخصية البطريق تتناسب مع رمزية مدينة غوثام، في سياق قراءة معضلة قد تحيل بشكل أو بآخر لأمريكا، التي تنتج إفلاساً قيمياً، فهي تتيح لذوات من القاع المأزوم إلى تملك القمة، فلا جرم أن يقيم البطريق إمبراطوريته في مجارير الصرف الصحي، وبهذا يؤطر العالم ضمن تكوينين، النخب (القمة) والمهمشين (القاع)، وبينهما الضحية. إن تحليل الشخصيات التي تشكل العصابات الإجرامية يحيلها إلى مرجعيات عرقية متعددة، بما في ذلك الشخصيات الملونة مثل الشاب «فيكتور»، بيد أن الأهم تصوير فساد النخب السياسية القادرة على إنتاج شخصيات مريضة، يمكن أن تتقدم في هذا المجتمع لتصبح في مركز السيطرة والنفوذ، ولكن عبر علاقات مبطنة بين المجرمين، ونخب السياسيين، أو فعل ينهض على تواطؤ تبادل المصالح، كما عبر إطلاق الصفقات التي تعكس فكر أمريكا الجديد، بوجهها البراغماتي شديد السطوع، والأكثر شراسة في التاريخ الأمريكي الحديث. ولعل هذه العلاقة للتلازم بين الجريمة والسياسة، وبينهما يكمن الفساد، الذي تتضح معالمه في الحلقة الأخيرة من المسلسل، ولاسيما حين يعقد البطريق صفقة مع أحد أعضاء مجلس البلدية، كي يصبح الأول متحكماً في شؤون المدينة في الباطن، وهكذا تتغير هيئة البطريق، فنراه قد أمسى سيد مدينة «غوثام»، خاصة في حلته الجديدة، كما هيئته التي تعكس سطوته المطلقة على المدينة، وعوالمها بعد أن تخلص من جميع خصومه في إشارة قد تؤدي إلى الجزء الثاني من المسلسل.

جمالية متطرفة

يمكن تفسير نجاح هذا المسلسل، وحصوله على تقييمات عالية بطبيعة النموذج السردي، كما القدرة على خلق قصة مثيرة، وعميقة، بالتضافر مع فعل إخراجي تمكن من الخروج من عباء إرث فيلم «الوطواط» من خلال خلق صيغة متقدمة من الموضوعات، والإفادة من إمكانية شكل المسلسل في توليد العمق الدلالي للشخصيات بفعل المساحة الزمنية، التي تتيحها المسلسلات بصورة عامة، كما يمكن أن نضيف القيمة الفنية المتقنة لتوظيف الموسيقي التصويرية، ومنها أغاني الجاز التي صنعت أجواء لطيفة للفيلم، بيد أن الأهم وجود طاقم من الممثلين الذين اقتربوا من العبقرية، خاصة أداء الممثل كولين فاريل بدور البطريق، والممثلة كريستين ميلوتي، في دور صوفيا، مع وجود المخرج مات ريفز، وهذا ما تؤكده مراجعات المسلسل في كبريات الصحف مثل «الغارديان» و»نيويورك تايمز»، وكثير من النقاد، فضلاً عن المشاهدين.

لا شك أن المسلسل يحتمل إضافة حقيقية على المستويين: الفكري والفني، كما يشكل إضافة مختلفة لقراءة تكوين شخصية البطريق، وصعودها نحو القمة عبر توفير العناصر اللازمة، ولا يمكن إلا أن نرى فيه عملاً يعيد فهمنا للعالم بصورة، أو بأخرى، فكل من يتقاطع مع المسلسل سوف يستشعر أن هذا العالم عبارة عن معضلة أخلاقية، وأن منطق القوة والفساد، والكذب، كما الإجرام هي السُبل الوحيدة للحياة أو النجاة في عالم منحط، فعلى الرغم من جمالية المسلسل وعمقه، غير أنه نجح في خلق تأثير مشوه، ورسالة سوداوية تجاه العالم، إذ لم يترك لنا شيئاً من الأمل تجاه وجود النقيض، بمعنى عالم قيمي آخر ينحاز للخير والجمال والأخلاق… ربما أراد المخرج هجاء العالم من خلال هذه التحفة الدرامية الجديدة.

 كاتب أردني فلسطيني

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى