برازق وكرواسون: الطعام وقاموس الحياة اليومية في بيروت وما حولها/ محمد تركي الربيعو
يروي لنا أمين معلوف في كتابه «بدايات»، قصة طريفة، تتعلق بموضوعنا. ففي بداياته، قام على تفكيك رسائل عائلته، وإعادة قراءتها بجرأة، لاحظ معلوف أن رسائل جده الأكبر (طنوس/ منتصف القرن التاسع عشر)، الفلاح العثماني، قد كتبت بلغة أقرب ما تكون للعامية منها للفصحى. فقد كان جده، كما يذكر، هو القوال في الجبل (الشاعر باللغة العامية)، ولذلك لم يجد حرجا في ذكر كلمات عامية كثيرة في رسائله التي كتبها. إلا أن هذا البعد سيختفي، كما سيلاحظ حفيدهم، إذ سنرى مع جده الأصغر (بطرس/ بدايات القرن العشرين)، أن لغة الرسائل أصبحت تعتمد أكثر على لغة تراثية متينة، وهو ما يعكس موقفا ومزاجا عاما آخر أخذت تعيشه المنطقة (بالأخص بعد العشرينيات). ففي ظل وجود الاستعمار، اندفعت النخب المثقفة إلى القول بضرورة الاعتماد على الفصحى/ التقليد لمواجهة هذا التغول الأوروبي، وهو موقف سيعبر عن نفسه بشكل أكثر وضوحا في ظل دولة ما بعد الاستعمار العربية، التي أخذ مثقفوها يدعون إلى توحيد الأمة اعتمادا على اللغة الفصحى، وتهميش اللهجات المحلية/ العامية، وهو موقف لا نراه فقط في شعارات الأحزاب ومطالبها، بل انعكس حتى على واقع الغناء العربي.
إذ لاحظت السوسيولوجية الأمريكية فيرجينا دانيلسون، كاتبة سيرة أم كلثوم، أن تعاون رياض السنباطي وأم كلثوم في الستينيات في تلحين وغناء القصيدة القديمة، جاء في سياق مزاج جماهيري يسلم بفشل الغرب في تقديم نماذج سياسية اجتماعية لمصر، ويرى في التراث مدخلا بديلاً. وقد أدت هذه التطورات إلى تراجع العامي من النصوص والنقاش بين المثقفين. وسننتظر حتى العقد الأول من القرن العشرين، ليتاح للعامية الظهور مرة أخرى، وهو ظهور عبّر عن نفسه من خلال بروز أجيال ما بعد حصرية (نسبة لساطع الحصري)، وظهور ظروف سياسية واقتصادية وعولمية، دفعتهم ليعبروا عن همومهم من خلال عبارات تجمع بين العامية والفصحى، وأحيانا تتخاطب في ما بينها بعامية عربية، مكتوبة بأحرف إنكليزية، شبيهة بـ«الخربشات».
واللافت هنا أن هذا التحول لم ترصده بسرعة الأكاديمية العربية، التي بقيت منحازة للغة العربية الفصحى، أو للدرس اللساني التقليدي، وهو الدرس الذي ظل مهموما بالنظريات دون أن يحاول اقتحام الميدان، وفهم اللسان اليومي. ولعل هذه الملاحظة الأخيرة، هي التي بقيت تشغل بال اللساني والأنثروبولوجي اللبناني نادر سراج، فبعد سنوات قضاها في دراسة العامية اللبنانية في إحدى الجامعات الفرنسية، عاد خلال الحرب الأهلية اللبنانية في الثمانينيات، ليلاحظ أن معظم الحديث بين النخب عن اللغة العربية ما يزال متمركزا في الفصيح، أو في محاولات تجديد بعض القواميس العربية، وجعلها أكثر ملائمة للعصر. لكن على الصعيد اليومي بدا له أن اللغة العامية باتت مع اشتداد المعارك في شوارع بيروت أكثر أهمية وتعبيرا عن الحياة اليومية، وهو واقع سيبدو أكثر حضوراً بعد اتفاق الطائف، والفساد التي ترافق معه، إذ بدا البلد بأكمله يعيش مرحلة جديدة على صعيد الرشوة والإفساد والمحسوبيات، وهنا لا بد للعامية من أن تعبر عن هذا الواقع بألفاظ عديدة مثل القول، «إن البلد فلتانة، وبات يحكمها الزعران/ البلطجية، وأن لا شي يمر في مؤسساتها دون إكرامية/ رشوة». وقد دفع هذا الاهتمام بالكلام اليومي نادر سراج إلى إصدار عدد من الكتب المهمة، ومن بينها آخرها كتاب مهم ربما لم يحظ بالاهتمام الكافي، وهو بعنوان (العربية المحكية في لبنان: ألفاظ وعبارات من حياة الناس)، إذ سعى من خلاله إلى تتبع ما يدور على ألسنة الناشئة، ويصاغ بأقلام المدونين والصحافيين، ويجري في سواقي كلام الجمهور. وقد حرص المؤلف على أن يصدر الكتاب على صيغة قاموس، بحيث جمع كل باب حرف، أهم الكلمات العامية في لبنان ومدلالوتها اليومية المتعددة والغنية. ولأن هذه الكلمات أو المفردات شملت مناحي حياتية من السياسة إلى الرياضة والطعام والجنس والنساء، فإننا ربما سنركز في قراءة هذا القاموس على بعض المفردات العامية التي ربطت الطعام بالحياة العامة في بيروت وتحولاتها. ففي هذه الكلمات، نرى الطعام ليس مجرد مادة للأكل، بل هو عالم رمزي غني بالدلالات والتوظيفات عند دخوله للكلام العامي، إذ يتحول إلى لاعب أساسي في حقل الترميز الاجتماعي، ويدخل في كل شيء تقريبا، ويعاد من خلاله التعبير عن مشاكل وهموم اللبنانيين، ونكاتهم، وأحيانا صراعاتهم السياسية.
برازق وسياسة:
من بين الكلمات التي يقف عندها سراج في باب الحرف (باء) كلمة (برازق)، وهي كلمة تشير إلى حلوى عربية تتكون من الطحين والفانيلا والسمن والماء والسمسم والسكر والفستق الحلبي، وهي حلوى سورية في الأساس، وكان اللبنانيون يحملونها معهم» هدايا» بعد زيارتهم لدمشق. لكن هذه البرازق أصبح لها في ظل التطورات السياسية اللبنانية معان أخرى، فبعد تظاهرات 14 آذار/مارس 2005 حملت بعض اللافتات شعار «لا برازق بعد اليوم» للإشارة الى أنها من الرموز العلاماتية للوجود السوري في لبنان. كما نعثر على شعار طريق آخر بعنوان «برازق أو كرواسون» للدلالة على نمطي حياة وثقافتين غذائيتين وتوجهين سياسيين متبايين: النمط السوري، برازق. والنمط الغربي، كرواسون.
وعلى سيرة الكرواسون أيضا، نعثر على تاريخ ظريف لهذه المعجنات في القاموس. اذ يذكر نادر سراج أنه عبارة عن فطيرة هلالية الشكل. والكلمة في الأساس مفردة فرنسية، تدل على نوع من المعجنات التي بدأت صناعتها في عام 732 في بولندا ابتهاجا بانتصار جيوش الفرنجة على جيوش المسلمين، وبعد أن حسمت المعركة لمصلحة جيوش الفرنج، صنع أحد الخبازين نوعا من الخبز يمثل رمز الهلال الذي كان على أعلام الجيش المهزوم علامة على انتصارهم عليه. وثمة في حياة بيروت اليوم، صنف مبتكر «كرواسون بزعتر» اعتبره شباب لبنانيون خير رمز يجسد مفهوم «حوار الحضارات»، كما قام آخرون بتوظيفه خلال أزمة كورونا وعدم توفر الخبز بالقول « إذا ما في خبز بناكل كرواسون» في إشارة تهكمية لما آلت إليه أوضاع المؤسسات اللبنانية من تردٍ.
في باب (ق) نعثر على كلمة (قشطة)كتعبير كنائي يستعيده الشباب للمعاكسة، كما ورد على لسان أحد شباب الشياح وهو يغازل فتاة من منطقة عين الرمانة «شو يا قشطة»، وأحيانا ترد بصيغة تحرشية«يا حلو يا قشطة يا كوكتيل شقف». والجديد في استعمالات القشطة جاء من البوابة السياسية، اذ يذكر النائب وليد جنبلاط في أحد تغريداته معلقا على جلسة بعض السياسيين، في أحد المطاعم المرموقة، فيذكر عبارة «مطعم صفوة القوم، القشطة السياسية والمجتمعية».
قشطة وسفن آب
وعلى المستوى نفسه، نرى في باب الكاف من القاموس كلمة (كافيتيرولوجي) نسبة إلى الكافتيريا، وهي كلمة عامية باتت تشير إلى واقع البيئة الجامعية في بيروت ولبنان عموما، إذ بات طلاب الجامعات عموما يقضون جل أوقاتهم في الكافيتريا، هربا من متابعة الحصص الدراسية، وبات أشبه ما يكون بمادة مقررة مشتركة يدرسها الطلاب اللبنانيون، وكأنهم حصلوا على بطاقتهم الجامعية في فرع الكافيتريا، وتلقوا محاضراتهم في موارد الأركيلة والتنباك والفحم.
وعلى سيرة الشراب والصداقات، نعثر على كلمة عامية منتشرة بكثرة بين الشباب البيروتي (سفن آب)، وهي بالأساس اسم تجاري لمشروب غازي معروف. ويستخدمها الشباب لتوصيف الشخص «المهضوم» أو «القريب من القلب» مقارنة ببعض الأشخاص ثقيلي الدم. وفي القاموس مئات الكلمات الأخرى في العامية اللبنانية، والتي تمكن نادر سراج من جمعها والتقاط مدلولاتها الغنية، ومن تحويل الهامش (العامي) إلى متن في حقل الدراسات العربية.
٭ كاتب سوري
القدس العربي