سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
تحديث 11 كانون الأول 2024
—————————-
سوريا… محاولة في إعادة ترتيب الآمال والمخاوف/ حازم صاغية
11 كانون الأول 2024
قد يكون مفيداً أن يُعاد ترتيب إنجازات الزلزال السوريّ ومخاوفه.
1- ليس هناك «أبد» بعد الآن. هناك حرّيّة البشر الأحرار وخيارهم وسعيهم. الكابوس عاش 54 عاماً من أصل 78 هي عمر سوريّا المستقلّة.
2- يعود مئات آلاف السوريّين، وربّما ملايينهم، بعدما شكّلوا إحدى أوسع موجات التهجير القسريّ في العالم، ويخرج عدد يصعب تقديره من أحد أكثر سجون الكون وحشيّة وإظلاماً.
قصص مقترحة
بشار الأسدتقارير: الأسد أمر بحل الجيش ورفض خطاب التنحي ساعات قبل مغادرته
عناصر من الجيش الإسرائيلي في المنطقة العازلة بسورياالجيش الإسرائيلي يكشف حقيقة اقترابه من دمشق
نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوفموسكو رسمياً ولأول مرة: بشّار عندنا!
3- تتوافر مبدئيّاً فرصة لبناء تجربة تقطع مع الانقلاب العسكريّ والحزب الواحد والجيش العقائديّ والميليشيات والمجتمع الحربيّ واللغة القوميّة، أي ما قامت عليه سوريّا قبل حافظ الأسد وتفاقم معه وبعده.
4- إذا نجحت التجربة وأقلعت كان لها أثر على محيطها يشبه أثر انهيار الاتّحاد السوفياتيّ على محيطه. أيُّ وصف قد لا يفي هذا التحوّل المحتمل حقّه.
5- سوريّا، في حدثها الزلزاليّ، استعادت الضوء الذي أريدَ لـ7 أكتوبر أن يسرقه منها. بهذا، عادت أجندة الحرّيّة إلى موقع الصدارة في المشرق.
6- إيران ونفوذها أُخرجا، وفي أغلب الظنّ نهائيّاً.
7- – إحدى مهامّ المرحلة الجديدة ستكون التعامل مع رواسب الماضي التي ينبغي تنظيف الحاضر منها، من السلاح الكيماويّ إلى «داعش». يحدث هذا في ظلّ التقاطع مع أجواء حربيّة لا تزال قائمة في غزّة، وجزئيّاً في لبنان. لكنّ النجاح في إحلال الاستقرار ونزع العسكرة عن المجتمع يبقى الأجدى في مكافحة تلك الرواسب. أمّا الضربات الإسرائيليّة لسوريّا، وتوسيع نطاق الاحتلال، ولو بذرائع التحوّط من مفاجآت وضع غامض جديد، فلن يكون لها إلاّ تأثير عكسيّ يعقّد نجاح التجربة الجديدة ويُهينها ويقوّي حجج خصومها والراغبين في إفشالها. هكذا تتحوّل نظريّة الأمن المطلق الإسرائيليّة، بما تنطوي عليه من أنانيّة مريضة عزّزتها 7 أكتوبر، إلى سبب آخر للقلق.
8- على المدى الأبعد، المتاجرة بفلسطين خسرت أكبر تجّارها. فلسطين قضيّة للحلّ، لا قضيّة للتقديس. في حال نجاح التجربة، سيكون في وسع سوريّا، ذات الدولة المحترمة وغير الحربيّة، أن تساعد الشعب الفلسطينيّ أكثر. ومن خلال السياسة، وفي ما بعد نتانياهو، ترتفع حظوظ استعادتها أرضها المحتلّة التي تستحيل استعادتها بالعنف.
9- لبنان يطمئنّ أكثر. السلاح والتحريض انقطع دابرهما. إيران لن تصل إليه بعد اليوم.
10- العراق يمكن أن يتدبّر مسألته الوطنيّة حيال إيران بشروط أفضل ركيزتُها الاطمئنان إلى غربه.
11- سورّيا قد لا تبقى بلد الاستثناء. قد تربطها علاقات طبيعيّة بمحيطها العربيّ وبالعالم، ما يسهّل السعي إلى قيام منطقة مستقرّة ومزدهرة. أن يحضنها اليوم هذان المحيط والعالم، سياسيّاً واقتصاديّاً، يقوّي فرص النجاح ويُضعف فرص الإخفاق.
12- إعادة تكوين سوريّا، بعد تاريخ مديد من التدمير، ستكون مهمّة صعبة جدّاً. الإنكار لن يكون مفيداً.
13- «تحوّلات» أحمد الشرع (الجولاني) ليست أمراً يُركن إليه بذاته، وتنظيمه موضع شكّ وقلق عميقين. لكنْ هل الشرع مجرّد وظيفة انتهت بعد تأديتها وبات استمرارها منوطاً بمدى انسجامها مع سوريّا جديدة مستقرّة وتعدّديّة، ومع اضطرارها للاستجابة إلى محيط وعالم تحتاجهما بإلحاح؟
في حال الأسوأ، أي وجود مشروع استبداد دينيّ، ألن تبادر القوى الخارجيّة المؤثّرة ومعها قوى الداخل الحيّة إلى إحباط مشروع كهذا لا يحتمله تكوين البلد واستقراره وحرّيّات أبنائه ومصالح جيرانه؟ ضعف الداخل، للأسباب المعروفة، يجعل كلّ حساسيّة فائضة حيال أدوار الخارج مسألة مؤذية تفيد نوايا التطرّف الدينيّ.
بين هذين الحدّين، اختيار رئيس الحكومة الجديدة غير الموفّق مُقلق، وما حدث ويحدث في منبج مؤلم جدّاً. ويبقى مُلحّاً وعاجلاً إنشاء جهاز حكم انتقاليّ بإشراف الأمم المتّحدة يحلّ محلّ السلطة الحاليّة.
14- في سوريّا انقسامات من كلّ نوع، لكنّ المسارعة إلى صياغتها في أحزاب سياسيّة، ثمّ في انتخابات نيابيّة تنافسيّة يشارك فيها الإسلاميّون كسواهم، هي أكثر ما يقطع الطريق على العنف، خصوصاً متى ترافق ذلك مع تطوير صيغ نظريّة ومؤسّسيّة للعدالة تؤمّن إحقاق حقّ الضحايا وتحول دون انفلات الانتقام.
15- من دون أيّ تقليل من أهميّة المسائل الطائفيّة، فالمسألة الأشدّ إلحاحاً وخطراً اليوم هي الإثنيّة، أي العربيّة – الكرديّة. المفارقة هنا أنّ الدور التركيّ المؤثّر والمفيد على جبهات كثيرة أخرى قد يكون سلبيّاً على هذه الجبهة حصراً. السوريّون قد يجدون أنفسهم، صوناً لتجربتهم الجديدة، مدعوون إلى تسوية جديدة: الجمهوريّة «سوريّة» فحسب، تعتمد نظاماً فيدراليّاً لا تشعر فيه جماعة أو منطقة بالغبن والخوف والقسر، فيما تقطع الجماعات والمناطق علاقاتها السياسيّة والحزبيّة بالأطراف العابرة لحدودها الوطنيّة.
كائناً ما كان الحال، فالطبيعيّ جدّاً أن تعاني سوريّا، بعد عقود مديدة من محاولات قتلها، مشكلات كالموصوفة أعلاه. والمنطقيّ أن يقترن الأمل الكبير بالمخاوف الكبرى حيال مستقبل السوريّين. لكنْ يبقى أنّ الاعتراف بالمشكلات، كائنة ما كانت، ومحاولة تذليلها، بدآ يحلاّن محلّ نفيها أو تأجيلها باسم التفرّغ الكاذب لقضايا كبرى.
الشرق الأوسط
———————–
جبهة النصرة من الجهادية العالمية إلى الأمركة/ غسان المفلح
منذ تلك اللحظة شهد هذا التنظيم تحولات كثيرة
6 ديسمبر، 2024
في مقال لي نشر بتاريخ 11 أبريل 2013 بعنوان ” جبهة النصرة الكلمة الفصل ليست سورية”* كتبت أقول:
” – جبهة النصرة ترفع الراية السوداء لتنظيم القاعدة، وكنا حذرنا من هذا الموضوع منذ البداية…لا يوجد في خطابها أي رمز يشير للثورة السورية.
– تضع نفسها تحت قيادة الشيخ ايمن الظواهري في افغانستان، وتكشف بشكل مباشر على انها ليست تنظيما سوريا.
– شقت الحراك العسكري وتمثيله الثوري، منذ لحظة انبثاقها على حاجز باب الهوى مع تركيا بعد تحريره بسنة تقريبا من انطلاق الثورة. كانت تحت مسمى دولة العراق الإسلامية.
– قيادتها السياسية في الخارج الافغاني وما يعنيه الخارج الافغاني، والخارج الافغاني هذا كان ولايزال بعض قادته على علاقة طيبة وقوية مع النظام الايراني والعصابة الاسدية.. وفرع القاعدة في العراق متورطا أكثر في هذه العلاقة.
– أمريكا رعت من بعيد أومن قريب احيانا نشوء جبهة النصرة، لتحقيق هدفين:
الأول: إبعادهم عن العراق.
والثاني: شق التمثيل السيادي للثورة، وإيجاد ذريعة واضحة لوصم الثورة بالإرهاب، لكي يتسنى لها أخذ الوقت الذي يحتاجونه خلال تغطيتهم على جرائم العصابة الاسدية، ويعطونها الوقت تلو الوقت عسى ولعل تأد الثورة هذا من جهة، ومن جهة أخرى يساعدها هذا الامر في التملص من التدخل لحماية المدنيين، ومن التملص من رفع الغطاء الدولي قانونيا عن العصابة الحاكمة”.
زعيم التنظيم أبو محمد الجولاني في لقاء مع سي إن إن الأمريكية، بث اليوم الجمعة (العربي القديم)
تحولات التنظيم
منذ تلك اللحظة شهد هذا التنظيم تحولات كثيرة. بعد 11 عاما هل يمكننا أن نثق بهذا التنظيم؟ سؤال من حق جميع السوريين طرحه. من حق جميع السوريين عدم الثقة. من حقهم أيضا مهاجمتها وانتقاد مسماها الجديد “هيئة تحرير الشام”. ما لفت نظري قبل هذا التاريخ أن هذا التنظيم القاعدي لم يكن له فروعا في الخارج، كحال تنظيم داعش. وما لفت نظري أيضا طريقة تعامل الغرب مع هذا التنظيم. رغم أن أمريكا صنفته كتنظيم إرهابي. ووضعت جائزة على رأس الجولاني. رغم كل ذلك لم يراودني الشك بحماية أمريكا لهذا التنظيم!
منذ ذلك التاريخ وأنا أحاور المعارضين أن جبهة النصرة محمية أمريكيا. لكن لا أحد يريد أن يصدق. كثيرة هي المؤشرات على ذلك، لست بوارد تعدادها هنا، لكن أهم مؤشر قبل معركة ردع العدوان هو قصف القوات الأمريكية لتنظيم حراس الدين الذي انشق عن الجولاني. هذا التنظيم الذي يجمع فرع القاعدة داخل النصرة.
بدأت النصرة تنحو نحو السورية رويدا رويدا. من خلال تغيير اسمها كخطوة أولى. تبعتها طبعا خطوات كثيرة. مع ذلك لا يزال أمامها الكثير الكثير لفعله كي يثق الناس. هل تستطيع ذلك؟ الآن تتعرض لأكبر اختبار في سيطرتها على حلب وإدلب والآن تستعد لدخول حمص، بخلاف ما توقعته، أن المعركة ستتوقف عند مدينة حماه.
إشكالية اليوم التالي
حتى اللحظة لم تطرح غرفة ردع العدوان أي تصور برنامجي لليوم التالي الذي يعقب توقف المعارك. الذي من شأنه أيضا أن يهدأ الناس في حال كانت النوايا صادقة من أجل حرية سورية وكرامتها وديمقراطيتها وعلمانيتها، ولو أن هذه الأخيرة تحتاج امتحان أكبر بالنسبة للهيئة والفصائل المتحالفة معها. التطمينات التي تقوم بها لجنتها السياسية للمكونات السورية، تشير الى تغير نوعي في خطابها. لكن هذا مرهون بالسلوك على الأرض أيضا. رغم أنها في حلب أبدت سلوكا منضبطا إلى حد كبير. كما أن هنالك طاقماً سياساً ذو خبرة ودراية نسبية بوضعية المجتمع السوري من جهة، وفي طبيعة المعركة التي تخوضها هيئة تحرير الشام.
النموذج الذي تم تأسيسه على أن هذا التنظيم جهاديا عالميا إرهابيا قد تم نسفه في هذه المعركة. هل يمكن الحديث عن باطنية أو تقية أو ما شابه؟ مقاتلو الهيئة ربما يحتاجون لوقت ليتعودوا على حضورهم الجديد في هذا العالم. هو حضور أمريكي واضح. ببساطة هنالك نقلة نوعية على كافة الصعد للهيئة -النصرة سابقا- الملفت هو أن لديها حلفاء من الفصائل كالجبهة الشامية، غير مصنفة كتنظيم إرهابي. أيضا هنالك حديث نسب للجولاني بصدد حل هذه الهيئة نحو تنظيم جديد. ثمة أمرا لا يمكننا إغفاله هو تعيين رجل دين مسيحي محافظا لحلب المحررة. هذه النقطة كانت من النقاط المستحيل حتى التفكير بها لدى الجهادية العالمية.
النقطة الأخرى الإصرار على تطمين أهل حلب خاصة المسيحيين منهم. كي لا نطيل الآن، لأن هذا الموضوع يحتاج لأكثر من بحث ومقالة ومتابعة موضوعية حقيقية. الجولاني يتعامل بوصفه رجل سياسة. ينجح او يفشل هذا أمر آخر.
استيعاب العلمانيين واليساريين
هذا النموذج هو الذي لا يريد أن يستوعبه أو يصدقه نخب سورية المسماة “علمانية ويسارية وليبرالية”. لا تريد أن تصدق أن أمريكا تقف بقوة خلف هذا الجديد. علما يمكن لأمريكا أن تقلب الطاولة في أي لحظة قادمة. لكن حتى الآن هذه النخب ومعها قسد وتنظيم بي كي كي خلفه تعتبر أن أمريكا حمامة سلام ديمقراطية وهي مقتصرة عليهم. مقتصر دعمها عليهم!! هذا الأمر كان يحتاج من هذه النخب قراءة تفاصيل ما حدث ومتابعة هذه التفاصيل، كي يروا هذا المتغير النوعي. لدرجة أن بعضهم مصر على التصوّر البائس الذي بناه سابقا عن هذا التنظيم. كيف لأمريكا ان تدعم تنظيما إرهابيا؟ أمريكا لها تجارب سابقة لا تحصى وربما آخرها تنظيم حزب العمال الكردستاني التركي. ألا تصنفه أمريكا حتى اللحظة بأنه حزب إرهابي!
لهذا تغير موقفي بمتابعة هذا الحدث. هذا الموضوع أيضا يحتاج لأن نفرد له مادة خاصة. مع ذلك هذه بعض الملاحظات السريعة:
– بيصير الله أكبر والحرية لسورية… الله أكبر لحالها ما فيها نكهة سورية.. كأنك بأي بلد اسلامي. الهتاف مهم ويشد الازر لكن الأهم أن يحمل هدفا سياسيا واضحا وهو حرية سورية وسلامة أهلها.
– كل راية أو علم خارج علم الثورة مرفوضة بيضاء او حمراء سوداء اي لون كانت واي كتابة عليها لا يغير شيئا.. علم الثورة فقط وفقط…
– من حق الناس تخاف، من حقها تعبر عن خوفها، من حق الناس تصدق أو ما تصدق، من حق الناس تنتقد وتهاجم أيضا هذا الجديد! ليس قليلا ما مر به السوريون.. اكيد هنالك تغير نوعي في التعاطي، لكنه غير كاف يحتاج الناس للمزيد من الثقة.
– اليوم التالي يجب أن تظهر ملامحه الأولية على الأقل.
بقي ملاحظة أخيرة هيئة تحرير الشام استقلاليتها باتت واضحة عن توجهات الحكومة التركية سأعود إلى هذا الموضوع وغيره من القضايا في مواد لاحقة.
هامش
* رابط المقال: https://elaph.com/Web/opinion/2013/4/804957.html
العربي القديم
جبهة النصرة الكلمة الفصل غير سورية/ غسان المفلح
الخميس 11 أبريل 2013
كتب المخرج السوري الكبير هيثم حقي يقول(الآلية التي تعمل بها المافيا (وبعض الدول حتى الكبرى منها) ترتكز على فكرة خلق تهديد لتقديم الحماية. وإذا لم يكن هنالك تهديد تقوم المافيا نفسها بخلق هذا التهديد لكي يفهم المهدَد بأن عليه دفع ثمن الحماية للمهدِد. وكلما عظُم التهديد كلما رضخ المستهدَف لشروط المافيا… فإذا طلبت الحرية أتوك بالقاعدة وخلافة وإمارة إسلامية وغيره… فتقول : احموني بطلت حرية…) فشة الخلق هذه للصديق هيثم كرد على ماجاء من تصريحات وبيانات ومقابلات صوتية خلال الايام الماضية، مع قادة جبهة النصرة كأبو محمد الجولاني، وتنظيم القاعدة بالعراق برئاسة الشيخ ابو البكر البغدادي، حول ما يسمى إقامة دولة العراق والشام الاسلامية، صحيح ان الجولاني انكر علمه بالتصريح البغدادي!! لكنه اكد أنه والبغدادي تحت قيادة أيمن الظواهري.
كنا نتوقع أن تكون هذه معركتنا اللاحقة على طريق الحرية بعد اسقاط العصابة الاسدية، لكن الشباب في النصرة ارادوا ادخالنا فيها باكرا، وقبل نهاية الطغمة الاسدية. لهذا اعتبر بعضنا في المعارضة السورية هذه التصريحات نصر تكتيكي للعصابة الاسدية.
– جبهة النصرة ترفع الراية السوداء لتنظيم القاعدة، وكنا حذرنا من هذا الموضوع منذ البداية…لا يوجد في خطابها أي رمز يشير للثورة السورية.
– تضع نفسها تحت قيادة الشيخ ايمن الظواهري في افغانستان، وتكشف بشكل مباشر على انها ليست تنظيما سوريا.
– شقت الحراك العسكري وتمثيله الثوري، منذ لحظة انبثاقها على حاجز باب الهوى مع تركيا بعد تحريره بعد سنة تقريبا من انطلاق الثورة.
– قيادتها السياسية في الخارج الافغاني وما يعنيه الخارج الافغاني، والخارج الافغاني هذا كان ولايزال بعض قادته على علاقة طيبة وقوية مع النظام الايراني والعصابة الاسدية..وفرع القاعدة في العراق متورطا اكثر في هذه العلاقة.
– امريكا رعت من بعيد أومن قريب احيانا نشوء جبهة النصرة، لتحقيق هدفين:
الأول: ابعادهم عن العراق…والثاني شق التمثيل السيادي للثورة، وايجاد ذريعة واضحة لوصم الثورة بالارهاب، لكي يتسنى لهم أخذ الوقت الذي يحتاجونه خلال تغطيتهم على جرائم العصابة الاسدية، ويعطونها الوقت تلو الوقت عسى ولعل تأد الثورة هذا من جهة، ومن جهة اخرى يساعدها هذا الامر في التملص من التدخل لحماية المدنيين، ومن التملص من رفع الغطاء الدولي قانونيا عن العصابة الحاكمة.
– بعد نشوء النصرة انتشرت على الارض خطابات تتحدث عنquot; ثورة اسلاميةquot; وquot;دولة اسلاميةquot; كنوع من التنافس مع النصرة من قبل بعض الكتائب في الجيش الحر المشكلة حديثا. علما ان الثورة في سورية هي ثورة حرية. كنت كتبت لبعض قادة جبهة النصرة رسالة اقتطع جزء منها الآنquot; خرج اهل حوران للثورة وبعدها حمص ودوما وبانياس..كانت شعاراتهم الحرية الموت ولا المذلة واسقاط النظام، والشعب السوري واحد، ورفع علم الاستقلال، ولم ترفع الراية السوداء في أية تظاهرة من تظاهرات الشعب السوري.. كيف اصبحت الثورة الان والتضحيات كلها من أجل اعلاء كلمة الله؟ لا اعرف؟ وهل كانت المافيا الاسدية قد منعت عنكم الله… التظاهرات خرجت من أجل الحرية فأين كنتم كجبهة نصرة؟quot;.
– هنالك فارق كبير بين بعض العناوين، وجود جماعة الاخوان المسلمين السوريين في المعارضة، وجود وطني وبرموز سورية، ولا رابط بين وجود الجماعة وبين وجود جبهة النصرة.. ثقافة الشارع كاسلام تقليدي معتدل ومنفتح على بقية الاديان والطوائف في سورية، لاعلاقة له بنشوء جبهة النصرة، جبهة النصرة تشكلت بفعل عوامل خارجية ثقافيا وسياسيا وماليا ورمزيا ايضا. والعوامل الداخلية التي ساهمت بذلك وعلى ضعفها سببها الموقف اللاأخلاقي للمجتمع الدولي.
– وجود جبهة النصرة يجب ألا يكون ذريعة لاحد لتدعيم ما يطرح من حل سياسي تكون العصابة الاسدية جزء منه..
– على المعارضة السورية القيام باوسع حملة اعلامية وتنويرية من اجل الرد على اعلام جبهة النصرة..
– على الجيش الحر ألا يدخل معهم بأية معركة جانبية.
– النصرة كانت نتيجة لتواطئ دولي على الثورة السورية فليتحمل الغرب مسؤوليته تجاه ذلك، من غير تحميل ثورة شعبنا المسؤولية وعلى المعارضة السورية توضيح هذه القضية دون كلل او ملل.. النصرة تنظيم ارهابي كما تقول امريكا حسنا هي كذلك، ولكن ليدعموا المعارضة السورية وقوى الجيش الحر إذا ارادوا سحب البساط من تحت جبهة النصرة، وبامكانهم تجفيف الموارد عنها لو ارادوا ذلك..
– ليست مجبرة قوى الثورة العسكرية الدخول بأي معركة مع جبهة النصرة، قبل سقوط العصابة الاسدية.
الثورة السورية قامت من أجل الحرية والكرامةquot; الآن وفي المستقبل كبر كما تشاء لكن لا تطالب بحريتك، لاتطالب بتغير النظام الاسدي واسقاطه لن يقترب منك ابدا…واذهب للجامع قدر ما تشاء ايضا، واقرأ كتبا دينية قدر ما تشاء ومارس كل الطقوس… لن يقترب منك أحد… لكن عندما ناديت بالحرية واسقاط العصابة من اجل الحرية يصبح بعد ذلك كل ما تقوله يواجهه بالرصاص سواء كنت تكبر.. او تصلب..سواء كنت مؤمنا ام ملحدا الامر سيان عندهquot;. هذه ثورتنا وهذا منطلقها…من أتتها صفة الاسلامية هذه؟
جبهة النصرة ارهابية.. حتى لو اسقطت لوحدها العصابة الاسدية.
ايلاف
———————————-
ملاحظات سريعة عن سورية بعد الأسدية وبيان مشايخ الطائفة العلوية/ غسان المفلح
بيان الطائفة العلوية يحمل في طياته أن من كتبوه هم رب الوطنية السورية
10 ديسمبر، 2024
سنبدأ منذ لحظة إعلان تعيين فرغة العمليات العسكرية التي حررت سورية عن تشكيل حكومة انتقالية برئاسة المهندس محمد البشر رئيس حكومة الإنقاذ بإدلب سابقا. هذا الإعلان كان بمثابة فتح نقاش سوري هو مفتوح أصلا. أن الجولاني لن يغير جلده وإنه قاعدة وما شابه من تعليقات.
كانت ردة فعلي الأولية على هذا القرار أن كتبت التالي” رمي القرار ٢٢٥٤ إلى سلة المهملات وإقالة بيدرسون، وليشكل القائد العسكري أحمد الشرع حكومة انتقالية على مسؤوليته. وعدم إشراك أي شخصية من الائتلاف أو حتى المعارضة المعروفة. يجب تشكيل حكومة لضبط الوضع من جهة ولديها تكنوقراط في إدارة المرحلة الانتقالية وتهيئة البلد للانتخابات عبر دستور مؤقت مكن جهة أخرى، لكي يتسنى كتابة دستور جديد للبلاد”.
لفت نظري أن تركيا غير راضية عن هذا الأمر من خلال تصريحات وزير الخارجية التركي وغيره. أيضا أن جماعة الإخوان المسلمين غير راضين ومعهم جماعة الائتلاف. إضافة إلى الى تيارات المعارضة اليسارية والليبرالية.
الملاحظة الأولى: يجب أن يكون القرار الآن يخص السوريين ولا يخص بيدرسون وما أداراك ما بيدرسون. هذه فترة تجربة لقيادة العمليات التي حررت أغلب سورية. كيف ستتعامل مع إدارة الدولة خلال المرحلة الانتقالية. وهذا بالنسبة لي مطلوب في السياق الانتقالي السوري تحديدا.
الملاحظة الثانية: لا يوجد في هذه المعارضة من يستحق أن يكون في حكومة انتقالية في ظل تركة الأسد الثقيلة هذه. يحق لهم التواجد في حكومة نتيجة انتخابات برلمانية لاحقا بعد ترسيخ دستور جديد للبلاد وديمقراطي، لكن ليس خلال الفترة الانتقالية. يمكن الاستعانة بخبرات اشخاص كتكنوقراط ليس لأنهم ائتلاف او اخوان او معارضة يسارية او ليبرالية.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بأن السوريين أو بعضهم يحبون العبودية ويقومون بالتصفيق للجولاني كي يصير ديكتاتورا. بالنسبة لي أولا ليته يصير ديكتاتورا كي يحرق ورقته نهائيا، من أسقط الأسدية يسقط من هو أضعف منها. حتى تنتهي سورية من أي نظام استبدادي سواء كان على الشكل الاسدي أو على الشكل الإسلاموي. لا ديكتاتورية بعد اليوم والشعب السوري تعلم جيدا، وهو موقع رهاني.
الدول لن تسمح بقيام نظام ديكتاتوري في سورية. حتى لو أقامت نظام محاصصة طائفي على الطريقة العراقية! وهو متوقع من أمريكا. لذلك بعض الأصوات التي تحاول الآن وخاصة اليسارية والليبرالية التصيد بالماء العكر، حيث انهم كانوا عبارة عن ثلة لم تستطع رغم ما كان يتوفر لها من إقامة علاقة ما مع مجتمعهم، وسحب البساط من تحت أرجل الإسلام السياسي، بل بالعكس كانوا يستعدون المجتمع ويتهمونه بالتخلف والذكورية وكثير من التهم. يا رفاق المرحلة تحتاج لفهم مختلف تماما عما تحمونه في رؤوسكم. حلنا نتعلم من هذه التجربة المريرة.
الملاحظة الرابعة: على هيئة تحرير الشام أن تعتذر من أهل المدنيين الذين اعتدت عليهم في السابق ومحاكمة من قام بهذه الاعتداءات.
الملاحظة الخامسة: حول بيانات مشايخ الطائفة العلوية، بيانات وخطاب أقل ما يقال عنه أنه بيان تهديد وليس بيان مصالحة. عندما يطالب بإجراء عفو عام عن القتلة من جهة، وعندما لا نلمس أي تعاطف مع ضحايا الأسدية، أو اعتراف بجرائم النظام الأسدي بأية طريقة من الطرق من جهة أخرى. البيان يحمل في طياته أن من كتبوه هم رب الوطنية السورية! للأسف ما كان أملنا هكذا.
البيانات كتبت واذيعت في الوقت الذي لا يعرف الناس أين المعتقلات السرية التي بناها الأسد وضباطه. أين هؤلاء الضباط ليخرج واحد منهم ويدل على هذه السجون السرية. والجميع الآن منشغلون في البحث عن هذه السجون السرية. حقبة سوداء يجب ان يتحمل أحدا ما مسؤوليتها. علما كما يمزح الشباب أحيانا أن أكثرية مشايخ العلوية هم إما ضباط سابقين أو صف ضباط سابقين. هذا الامر يجب أن يكون واضحا. لا مجال بدون عدالة انتقالية أولا وأسال كاتبي البيان من الذي تهجر في سورية ودمرت قراهم ومدنهم وارزاقهم ونهبت؟ مع ذلك كل مدني علوي هو سوري ولا يجب أن يتم الاعتداء عليه بأي حال. المجرمون داخل الطائفة معروفين تماما ويجب أن يحاكموا امام القانون كأي مجرم آخر من أي مكون اثني أو ديني او طائفي سوري.
كما أؤكد على عدم التعرض لأي أملاك عامة أو خاصة في كل سورية بما فيها مناطق العلويين.
الملاحظة الأخيرة: الان على الأقل تتعلق بقصة السجون لا احد ممن ذكرتهم يهتم بهذا العار الأسود من هؤلاء الذين يتشدقون بالعلمانية وغيرها. الاهتمام ليس بمتابعة ما يجري بل بالكتابة عنه ومحاولة إيجاد صيغة من التفكير الجماعي من أجل معالجة هذا الملف الأسود. جل اهتمامهم منصب على رفع الشرعية عن أي مجهود قاموا به أبناء البلد في تحريرهم من هذا العار الذي يجللنا جميعا. للحديث بقية مجرد ملاحظات لإثارة النقاش العام.
العربي القديم.
——————–
تحديات العهد السوري الجديد!/ فايز سارة
11 كانون الأول 2024
لا يختلف معظم متابعي الملف السوري حول التغييرات الجوهرية التي حدثت فيه وحوله في الأسبوعين الأخيرين، حيث حدث تغيير جوهري في شكل النظام وطبيعته، والأشخاص الفاعلين فيه، كما اختلفت بيئة علاقاته الخارجية في بُعديها الإقليمي والدولي.
وترسم هذه الخلاصة ملامح التحديات والأعباء، التي تواجه سوريا اليوم، والتي تتجاوز ما كانت تواجهه في السابق، وكان جوهره الأساسي الحفاظ على النظام وبطانته ومصالحهم، ولا سيما رأس النظام بغض النظر عن أي موضوعات وتفاصيل لا تتعلق بالنظام وبطانته مباشرة.
وسط انقلاب الأولويات، يجد العهد السوري الجديد نفسه أمام عبئين متلازمين، العبء الأول مواجهة التركة الثقيلة التي تركها النظام السابق ليس نتيجة وجوده الطويل في السلطة لمدة فاقت الـ55 عاماً، تقاسم السلطة فيها الأب ووريثه الابن، إنما أيضاً نتيجة سياسة القتل والتدمير والتهجير، التي تابعها النظام ضد السوريين في نحو 15 عاماً مضت، دمرت فيها البلاد وتم تحطيم أهلها وإدارة الدولة السورية، كما يواجه العهد الجديد عبء تلبية الاحتياجات الراهنة والمستقبلية للسوريين وبلادهم في ضوء الأوضاع الصعبة التي صاروا إليها، وسط بيئة إقليمية ودولية فيها ارتباكات سياسية واقتصادية وأمنية كثيرة ومتزايدة.
ولأن الأعباء في الاتساع والتنوع المشار إليه، فإن من الطبيعي، أن يركز العهد الجديد على أولويات ذات مكانة خاصة بعدّها تحديات عاجلة، لا يمكن تأخير التعامل معها والتساهل في مقاربتها، ويقع الأمن في أول القائمة، شاملاً الحفاظ على أمن البلد ووحدته، وأمن مواطنيه وحياتهم، وهذا أمر لا يحتاج إلى شروحات في أهميته وضرورته، إنما يكفي قول إنه ومن دون الأمن لا يمكن توفير حتى الاحتياجات الأساسية من ماء وغذاء ودواء، التي هي في جملة تحديات ضرورات الحياة، التي تشمل خدمات الصحة والقضاء والتعليم والمواصلات، والتي ستدفع السوريين للانخراط في الأنشطة الإنتاجية والخدمية في سياق إعادة تطبيع الحياة السورية، وتجاوز ما خلفه العهد البائد من آثار كارثية في جوانبها ومفاصلها المختلفة.
وبالتأكيد فإن في سلم التحديات العاجلة بسوريا، إعادة بناء الدولة السورية وهياكلها الإدارية والتنفيذية، التي تم تحطيمها وتشويهها في الـ15 عاماً الماضية بشكل خاص، نتيجة عوامل متعددة؛ منها سياسات القتل والتهجير للكوادر والخبرات، وتردي مستويات الحياة ونوعيتها، وتوقف وتباطؤ عمل وإنتاج القطاعات الإنتاجية والخدمية، وحالة العسكرة التي جرى تعميمها من جانب النظام والأطراف الأخرى.
لقد باتت على إدارة العهد الجديد مهمة صعبة تحتاج إلى سنوات وسنوات من تعليم وإعداد وتدريب، من أجل تعويض ما خسرته سوريا في هذا الجانب، وتوفير ما سوف تحتاج إليه في المرحلة المقبلة.
ما تمت الإشارة إليه من تحديات عاجلة ليس إلا أمثلة، بعضها مكشوف وآخر سوف يظهر وسط مسيرة العهد الجديد، ومثل ذلك وضع التحديات التي سيكون علاجها طويل الأمد، وتحتاج إلى مزيد من الاهتمام والتدقيق والجهد والوقت والإمكانات. غير كل التحديات، سوف تحتاج إلى توفير بيئة مساعدة في المستويين الداخلي والخارجي، خلاصتها توفير دعم ومساندة سياسية ومادية وتقنية أيضاً، وما لم تتوفر البيئة الداعمة في عالم لا يمكن لأحد أن يكون خارجه، فإنه لا يمكن تحقيق أي تقدم.
سيكون على العهد السوري الجديد، أن يقيم علاقات حيوية وتفاعلية في داخله ومع مواطنيه أولاً، ثم مع الإطار العربي الحاضن والداعم الذي لابد منه، ومع المحيط الدولي، الذين لولاهم ما استطاع العهد الجديد، أن يولد بهذا اليسر وتلك السهولة، رغم أهمية روح التغيير السورية واستعداد السوريين الكبير للتضحية من أجل الخروج من قبضة نظام القتل والتدمير والتهجير الذي كانوا تحت سيطرته لوقت طويل.
—————————–
بيان مخجل لمشايخ الطائفة العلوية مع الأسف/ فواز خيو
أولا ليس فيه كلمة ادانة للنظام المجرم أو تبرؤ من أفعاله .
ثانيا : إذا بعض الأخوة العلويين هجروا قراهم منذ أيام فقط من باب الخوف ، فأكثر من نصف الشعب تهجّر وهدمت بيوته وسُحل أبناؤه وحرقوا في فرّامات النظام وإيران .
ثالثا : لا أحد يزايد في قضية المرحوم صالح العلي ، فقد جاعت أسرته في عهدكم وبكت ابنته على الشاشة حين قالت : لقد جار الزمن علينا كثيرا ، في نفس الوقت يرفل لصوص الساحل بمليارات الدولارات وابنة صالح العلي تجوع .
ولا نريد أن نذكرهم بالبيان الذي يطالب فرنسا بعدم الخروج من سوريا وإذا كان لا بد فلتكن دولة علوية ، ومن الموقعين عليه والد المقبور حاقد الأسد .
رابعا : يطالبون بعفو عام ؟
عن أجرم وأحط منظومة في تاريخ العالم ؟ بدل أن يتبرأوا منها مع أنها مارست التشبيح والظلم على فقرائهم .
محزن ومؤسف هذا البيان ، تشعر أن من صاغه ضابط أمن وليس وجهاء وشيوخ .
فقط كان ينقص البيان في خاتمته عبارة / أسلم تسلم / .
مضى وإلى الأبد زمن ال ..
عاشت سوريا ..
—————————————–
إليكم ما سيحدث في الايام القادمة والمستقبل القريب/ محمد نظير الأتاسي
١- سيظهر الجولاني بمظهر المحرر الذي امضى ايامه ولياليه في الخندق يذود عن حمى الوطن والطائفة والمستضعفين.
٢- سيدعي شرعية السلطة بعملية نقل للصلاحيات من رئيس الوزراء القديم (حصل).
٣- سيقوم بتعيين ما يسميه حكومة انتقالية لا نعرف من اين جاء بها.
٤- ستبدأ من حيث لا تدرون عملية اعلامية واسعة لتبييض صفحته السوداء من منطلق العداء بين العلمانية والثقافة الاسلامية السائدة والمتجذرة. سيقولون اعطوه فرصة. سيقولون اين كنتم عندما كان يقاتل. سيقولون ان الاسلامويين هم الذين حرروا البلد بدمائهم. سيقولون ان الاسد حارب اهل السنة وان الجولاني هو عنوان عودة السنة الى السلطة التي يستحقونها. سيقولون انه لولاه لكنا لا نزال تحت سيطرة الاسد وان الجولاني هو كان صاحب فكرة التحرير. وسيقولون ان العلمانية لم تعد علينا الا بالسجون المبنية تحت الارض.
٥- سيحاولون تجييش اكبر عدد من الناس العاديين ليقوموا بقمع الاصوات المعارضة والمنتقدة لحكم الجولاني. سيتهمون كل من يتكلم باذكاء الفتنة وبالعلمانية العمياء وكره الدين. سترى الاصدقاء يخسرون اصدقاءهم مرة اخرى. سيتحول الناس الى غاضبين اعماهم الغضب، والى متطرفين اعماهم التطرف. سيطالبون الجولاني في النهاية باصدار قانون لحماية الثورة مما سيعطيه صلاحيات واسعة لفرض اجراءات تشبه حالة الطوارئ.
٦- ستدعوا اطراف لا تعرفونها او هي اسلامية الى التظاهر ضد الضربات الاسرائيلية الاخيرة ونصرة القضية الفلسطينية الى درجة انكم ستنسون التعديلات الحكومية والقانونية التي سيجريها الجولاني.
٧- سيضعون موعدا للانتخابات النيابية في مدى ثلاثة او ستة اشهر. ونعرف تماما من سيكون الرابح في هذه الانتخابات في مثل هكذا اجواء.
٨- سيبدأ مجلس الشعب الجديد الذي يسيطر عليه جماعة الجولاني وشبيحتهم الجدد بوضع دستور جديد ومن ثم التصويت عليه. تعرفون تماما ما هي المادة التي سيدور الصراع حولها (الاسلام دين الدولة ومصدر التشريع).
٩- سيضعون موعدا للانتخابات الرئاسية بعد ١٨ شهرا. وفي الاثناء سيقوم مجلس الشعب بتغييرات قانونية واسعة النطاق.
١٠- في الانتخابات الرئاسية بالطبع سيربح اما الجولاني او احد ازلامه. وستكون البلاد جاهزة لحملة تطهير واسعة وسيكون سجن صيدنايا جاهزا لاستقبال نزلائه الجدد لتبدأ الجمهورية العربية السورية الاسلامية مسيرتها المجيدة دفاعا عن مبادل ثورتها الخالدة.
هناك بقية للقصة لن اقولها لكم. احتفظ بها لمتعتي الشخصية.
—————————
نحو حكومة تكنوقراط، ومؤتمر وطني جامع../ مازن أكثم سليمان
…
يبدو أنه لا وقت لدينا للاسترخاء والفرح بإسقاط العصابة المجرمة أكثر من هذا، ذلك أن معركتنا الوطنية من أجل بناء دولة المؤسسات والقانون والديمقراطية لم تنته، بقدر ما بدأت فعلياً..
… وبمعنىً ثانٍ أدق: الآن بدأت هذه المعركة بعد طي صفحة الاستعصاء التاريخي لأحد أسوأ نظم القمع التي عرفها العالم..
… وهكذا، وبعد فرحة انتصار إرادة الثورة، نعيش الآن بين مطرقة مأساة المعتقلين وصدمتها، وسندان القصف الإسرائيلي الذي يريد تنظيف سورية مما تبقى فيها من أسلحة، فقد ذهب حارسهم الأمين، وأنهى خدماته لهم وهو على رأس عمله بتسليم داتا الاستخبارات والجيش والأسلحة الصاروخية والكيميائية..
… وفي خضم هاتين القضيتين اللتين أورثتنا إياهما العصابة البائدة، يأتي اليوم أيضاً استحقاق مواجهة المرحلة الانتقالية، ومسألة حكومة السيد أحمد الشرع..
… لا جماعة التطبيل له على عماها يخدمون سورية المستقبل، ولا جماعة الردح والبكائيات يقدمون شيئاً فعلياً..
… الأفق السياسي انفتح بالتأكيد، وما من أحد يستطيع إرجاع الشعب السوري إلى الصندوق، أو منع حركة التغيير الحقيقي، وأية محاولة لإعاقتها ستواجه من قبل السوريين بشدة، ولا يظننَّ أحد بعد اليوم أنه يستطيع فرض سياسات الأمر الواقع بفعل تركز القوة بيده، وأنه يمكن أن يكبح أو يوقف قطار التحول الوطني الحقيقي الذي دفع السوريون من أجله أغلى الأثمان، وهذا ليس كلاماً رومنسياً على الإطلاق..
… على أي حال، علينا أن نعي أن هذه المرحلة بالغة الهشاشة والصعوبة، وألا نتسرع لا في الأحكام السلبية أو الإيجابية، ولا في رفع سقف التوقعات سريعاً، لكن ما أنجزه السوريون كبير جداً بتحطيم العائق الأكبر، غير أن الركون الساذج إلى الاعتقاد أن المهمة قد أنجزت هو وهم خطير، فالثورة كانت عبر التاريخ فعل هدم وتحطيم للقيود والأسوار على أنواعها، أما مرحلة البناء والتشييد هي مرحلة ما بعد الثورة..
… لن أدخل في هذا المنشور على الأقل في تفاصيل مسألة الحكومة الانتقالية غير واضحة المعالم حتى الآن لا شكلاً ولا مضموناً ولا برنامجاً نظرياً أو عملياً ولا خطوات زمنية، وهذا ما ينبغي رصده بدقة متناهية، وعدم التهاون به أو التغافل عنه..
…لكن، ومن حيث المبدأ، أدعو السوريين في هذا الوقت الحساس جداً إلى تبني الدعوة على أوسع نطاق إلى حكومة تكنوقراط تدير الأمور مرحلياً، بموازاة الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني تأسيسي جامع تنبثق عنه هيئات وطنية لرسم المعالم الدستورية والقانونية والسياسية لشكل سورية القادم..
—————————–
تحدّيات سورية ما بعد الأسد/ مروان قبلان
11 ديسمبر 2024
بعد تضحيات استمرّت 14 عاماً، وكلفت مئات آلاف الشهداء وملايين النازحين والمهجرين، طوى السوريون، من دون تدخل أجنبي، صفحة مظلمة في تاريخهم، وأظهروا، فوق ذلك، الوجه الحضاري المتسامح لبلادهم من خلال ابتعادهم عن عقلية الثأر والانتقام، التي ظلّ بعضهم يخوّف منها، وأسهمت في تأخير سقوط النظام.
بعد أن يأخذ السوريون وقتهم في التعبير عن فرحتهم واستيعاب حقيقة أن الأسد ونظامه خرجا من حياتهم مرّة واحدة وإلى الأبد، وهي مرحلةٌ يجب ألّا تطول، عليهم أن يتفرّغوا لترتيب المرحلة الانتقالية، الأكثر خطورة، التي تنتظرهم. وانطلاقاً من ضخامة التحدّيات التي تواجه سورية في المرحلة المقبلة، ووجود كثيرين يتربّصون بها ويعملون على إفشالها، بل إنهاكها وصولاً إلى تفكيكها، وهو هدف الاعتداءات الإسرائيلية المستمرّة منذ لحظة سقوط الأسد، ينبغي لجميع السوريين المبادرة والإسهام بكل ما يساعد في تحقيق الانتقال السلمي السلس نحو الأمان والازدهار والسيادة والاستقرار، وهذا لا يتم إلا من خلال تحديد الأولويات واستباق التحدّيات التي يتوقع ظهورها سريعاً خلال الفترة المقبلة.
هناك حاجة أولاً إلى فرض الأمن وضبط الفوضى، ووقف التعدّيات على الممتلكات العامة والخاصة، ووقف نهب ثكنات الجيش ومستودعات سلاحه، ووضع خطة واضحة لسحب السلاح من أيدي الأفراد والجماعات المسلحة، وحصره في يد أجهزة الدولة الرسمية، لأن هذا يقطع الطريق على أي محاولاتٍ لتعكير السلم الأهلي، أو توجّه قوى خارجية لدعم فصائل معيّنة (النموذج الليبي). وهذا يتطلب الإسراع في إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الشرطية التابعة لوزارة الداخلية وتفعيل عملها. كما يجب ضبط القيادات الأمنية والعسكرية العليا في النظام السابق، منعاً لتنظيمها ثورة مضادّة. ويمكن لاحقاً وضع أسس لنظام عدالة انتقالية، تتم فيه محاسبة هؤلاء عن الجرائم التي ارتكبوها.
ثانياً، المسارعة إلى إعادة تفعيل عمل مؤسّسات الدولة وأجهزتها المختلفة، من وزارت ودوائر خدمات، وتشجيع الناس على العودة إلى حياتهم الطبيعية في أسرع وقت ممكن، واستعادة النشاط الاقتصادي العام والخاص في أنحاء البلاد.
ثالثاً، ضرورة أن تتفق القوى السياسية السورية سريعاً على إدارة المرحلة الانتقالية وشكلها، منعاً لأي فراغ في السلطة. وإذ تحاول إدارة الشؤون السياسية التابعة لفصائل المعارضة حالياً تشكيل حكومة انتقالية، عليها أن تتوخّى الحذر في عدم الظهور بمظهر من يحاول الاستئثار بالسلطة. إن أخطر من يمكن أن تواجهه الدول في الفترات الانتقالية هو الانقسام والصراع بين القوى التي أطاحت النظام القديم. وبحسب علمي ومعرفتي، لم تسلم ثورة في العالم من هذه الصراعات، وبعضها سبّب عودة النظام القديم. من هنا تأتي أهمية إشراك الجميع في مشاورات تشكيل الحكومة وإشعارهم بأنهم جزء من المستقبل. ولأن سورية دولة متعدّدة ومتنوّعة لجهة التوجّهات السياسية والمكونات الاجتماعية يجب أن تكون الحكومة الانتقالية تمثيليةً لأوسع طيف ممكن من الفضاء السياسي السوري، وأن تشمل كل الجغرافيا السورية إذا أمكن. ويجب التعامل مع الحكومة في هذه المرحلة باعتبارها واجهة مدنية للسلطة السياسة في سورية، مع الحرص على أن تضم وجوهاً مقبولة لدى المجتمع الدولي، والابتعاد ما أمكن عن الشخصيات التي قد تكون إشكالية. وينبغي لهذه الحكومة بعد تشكيلها أن تضع برنامجاً متكاملاً للمرحلة الانتقالية يتضمّن تشكيل جمعية تأسيسية، مهمّتها وضع دستور للبلاد خلال فترة محدّدة، تجري على أساسه انتخابات بحسب نوع النظام السياسي الذي يتم الاتفاق عليه.
تبيّن من تجارب إخوتنا في دول الربيع العربي، أن الثورات ترفع بانتصارها التوقعات، ولأن كسب ثقة الناس يعدّ أساسياً لنجاح المراحل الانتقالية، لا بد أن يلمس الناس تغييراً سريعاً في حياتهم، وهذا لا يتم إلا من خلال حلحلة الأزمات المعيشية المرتبطة بحياتهم اليومية، بما يشمل توفير المواد الغذائية والسلع الأساسية، والوقود، والمواصلات، والاتصالات، والكهرباء، والماء. وينبغي التنويه أيضاً إلى ضرورة عدم التدخّل في حياة الناس الشخصية وسلوكاتهم الفردية، ما لم تتعارض مع الذوق العام، وكذلك عدم فرض توجّه سياسي وثقافي معين عليهم، فالمجتمع السوري منفتح، متعدّد الأديان والثقافات، ولا يمكن أن يتحوّل تحت أي ظرف إلى أفغانستان. محاولة القيام بذلك سوف تدفع الناس إلى الانفضاض عن الحكم الجديد، وهذا يعني المخاطرة بتكرار تجربة مصر 2013.
العربي الجدبد
——————————
سورية… القادم الأصعب/ عثمان لحياني
11 ديسمبر 2024
الأصعب هو ما ينتظر سورية، ذلك أن إسقاط الأنظمة الغاشمة، على صعوبته بمكان، هو أقل تعقيداً من صعوبات إعادة بناء الدولة والمؤسسات، وضمان انتقال السلطة وإقامة المؤسسات الديمقراطية، وإعادة بناء المؤسسة الأمنية والعسكرية، وتركيز العدالة الانتقالية ومحاسبة رموز النظام الفاشي السابق. والحقيقة أن سورية لا تواجه صعوبات تقليدية في هذا السياق فحسب، ولكنها في الأساس، ذات وضع معقد على أكثر من صعيد، بتركيبة إثنية وعرقية ودينية، مثلما هي ثراء للنسيج المجتمعي، قد تتحول إلى عامل تفكيك واحتكاك وقلاقل معرقلة، إذا برزت الطموحات الإثنية والمناطقية بشكل أو بآخر، وبانتشار السلاح وتركيبة من الفصائل المسلحة التي لا تعد ولا تحصى، وبوضع اقتصادي واجتماعي صعب فضلاً عن ملف إعادة الإعمار، والمهجرين والنازحين وتسيير عودتهم، وسط تركة ثقيلة من الخراب السياسي والمؤسساتي، وجبال من الآلام والمآسي خلّفها النظام السابق والتي تستدعي المعالجة.
تلك مشكلات الداخل التي يمكن العمل على تفكيكها وتجاوزها بكثير من الحكمة وكثير من التنازلات المجتمعية والسياسية للصالح العام، وهذه المسائل وغيرها كثير، تضع السلطة الانتقالية في سورية أمام خيارات وحسابات داخلية وخارجية بالغة الصعوبة، خصوصاً أن المرحلة الانتقالية سيبرز فيها الدسم الأيديولوجي للمكونات السياسية في وقت لاحق من تشكلات المشهد السوري، ذلك أن سقوط نظام الأسد لا يمحو الفواصل بين المرجعيات المختلفة، تحت عناوين الانتقال الديمقراطي والحريات، بقدر ما يجعلها أكثر اتساعا.
الخطوات والتدابير الميدانية التي اتخذتها السلطة السياسية الجديدة في دمشق مطمئنة، وفيها حرص كبير على استمرارية الدولة والمؤسسات واحترام الحريات العامة، لكن لا أحد يدرك حدود المشروع السياسي الذي تحمله المعارضة التي تحكم الوضع الانتقالي في دمشق، وهي لم تعلن حتى الآن عن أي عناوين أو محتوى سياسي، مع أنه ضرورة. ويمكن فهم ذلك على أساس إيجابي، بأن السلطة السياسية الجديدة ليست لديها نية لفرض مشروع سياسي منفرد قبل فتح حوار لا يقصي أي طرف سوري، أو أنها لدواع تكتيكية لا تريد وضع نفسها في امتحان المواقف إزاء الأطراف الإقليمية المتدخلة في الشأن السوري.
يقود إلى ذلك الحديث عن المأزق كلّه في سورية، والمأزق كلّه هنا يحضر في الفاعل الدولي، وفي الجغرافيا المعقدة والمتداخلة لهذا البلد، بحيث إن لكل طرف إقليمي، تركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة وإسرائيل، حسابات ومصالح تفرض التدخل في الحالة السورية، وهي مصالح متوافقة أحياناً بين نفس الأطراف ومتصادمة أحياناً أخرى. تركيا تطمح في حزام أمني وفي نصيب مهم من إعادة الإعمار، ولموسكو مصلحة في الموانئ والممرات البحرية، ولواشنطن مصالحها نحو محاصرة إيران وقطع خط الإمدادات إلى حزب الله في لبنان. وبقدر ما تتصادم المصالح، سينعكس ذلك على الوضع السوري، ثم يأتي الطاعون المتمدد في المنطقة، إسرائيل، التي تعيش حالة “خلا لك الجو فبيضي وافرخي”، والتي لن تهدأ حتى خلو أي تهديد لها مستقبلاً انطلاقاً من سورية.
صحيح أن سورية لا تبدأ من نقطة الصفر، ولكنها تبدأ من حيث انتهت تجارب عربية حديثة فاشلة في الانتقال الديمقراطي، في مصر وتونس واليمن وليبيا والعراق، وهذا أكثر ما يشغل بال الشارع العربي الذي لا يبدو مطمئناً في جزء منه، وإلى أن يحدث ما يثبت خلاف ذلك، إلى الحالة السورية بوضعها الجديد، لكنه وضع لن يكون حتى في ذروة تعقيداته، أسوأ من وضع سورية تحت نظام المسالخ البشرية.
العربي الجديد
——————
الطريق إلى سوريا الجديدة.. تحديات الماضي بانقلاباته والمستقبل بهواجسه/ منير الربيع
الأربعاء 2024/12/11
لم يعد الداخل إلى دمشق يحتاج إلى كتابة وصيته الأخيرة. أفكار كثيرة تواكب لحظة الوصول.على الطرقات، في الساحات، أياد تلوّح، فتبرز الشام كبرّ ترسيه سواعد أبنائها. تلفها أمواج من الناس، تغور في بحر من فرح بسقوط النظام، ومن أسئلة حول الآتي من الأيام. هو غموض يتقمصه الأبد، تبحر إليه شام ما بعد الأسد. هنا يستعيد السوريون صوتهم، يخترعون اللحن، ويغنون دوماً.. جنة جنة جنة.. جنة يا وطنا… وهنا بكاء كثير من الثكالى وعليهن، وهنّ يعانقن وحدات الأرواح الأخيرة، أرواح فلذاتهن التي زُهقت على طريق “الشام حرّة”. ذاك الفرح الذي يعوّض الكثير من الوجع والألم والهجرة والفقد. داخل الفرح بعض من خوف مكتوم على المستقبل، سؤال “ماذا بعد” هو الذي يتبدّى على الوجوه وفي عقول الكثيرين، فما يريدونه هو سقوط النظام، ولكن استمرار سوريا بوحدتها وتعدديتها، وانتقالها إلى الجمهورية الديمقراطية بكل ما تحمله من مزايا اجتماعية تحتوي الكثير من التعقيدات والتشابكات الاجتماعية، السياسية، القومية، العرقية، الطائفية، والمذهبية. في هذه المرحلة يبحث السوريون عن سياسيين، يعملون بميزان الذهب لإعادة انتاج اللحمة الوطنية ضمن رؤية سياسية جامعة، تحفظ وحدة البلاد، وتبقي الجيش حاضراً وقوياً بإعادة تشكيله، على أن يبقى بعيداً عن السياسة، لتجنّب العودة إلى زمن الانقلابات.
سوريا ما بعد الأسد
في الطريق إلى دمشق، يمرّ شريط زمني على محطات لعقود من السنين. وسط تداخل عميق ما قبل المؤتمر السوري العام سنة 1920، وما بعده. عندما كانت سوريا جزءاً من السلطنة العثمانية، ووحدة كبرى تشمل “لبنان، الأردن، وفلسطين” وفق بعض السرديات أو المعتقدات. أما بعد المؤتمر وإنشاء الدولة السورية، تحضر محطات كثيرة منذ الثورة السورية الكبرى، إلى الاستقلال والانقلابات التي حصلت بعده، وما بينهم من إشكالات “مُدنية” حول المدينة الأكبر أو الأكثر حضوراً في المشهد. كل هذا التراكم التاريخي يستحضره المرء لحظة السؤال عن سوريا الجديدة ومقارنتها مع “سوريات قديمة”. تماماً كما هو المشهد الحالي ينقسم بين سوريا “الأسد”، وسوريا ما بعده. بعض الصور والرموز ممزقة. بعضها الآخر لا يزال على حاله. العلم السوري الأحمر قائم على مراكز عديدة لكنه جامد لا يتحرك، فيما الأعلام الجديدة بالأخضر هي التي ترفرف وترفعها الأيدي. تنقسم سوريا بين مشهدين أيضاً، مشهد الأهالي الذين يتحلقون أمام السجون ولا سيما سجن صيدنايا بحثاً عن مستقبل لأبنائهم المفقودين، ومشهد آخر لأهال أمام المستشفيات والمشارح بحثاً عن جثث أبنائهم لاستعادتها وما يرافقها من ذكريات تبقيهم في الماضي.
تخرج من نقطة المصنع باتجاه أول نقطة حدودية سورية. حاجز الأمن العسكري خالياً، تدخل بأريحية، لكأن جوازات السفر كلها تسقط عن المارّين من هناك، إنه شعور في حرية مفرطة، يدعو إلى الفرح لكنه أيضاً يدعو إلى بعض القلق. حاجز التعقيم هو النقطة الأمنية الثانية والتي كانت خالية أيضاً، هو في الأساس حاجز مخصص لتعقيم السيارات في زمن الأوبئة مثل “انفلونزا” وتعزز عمله في فترة كورونا، بعده يحلّ حاجز الجوازات بجوار السوق الحرة التي بدت في حالة يُرثى لها، وهناك أيضاً حاجز الجمارك حيث يقف بضعة شبان من هيئة تحرير الشام، يلوحون بأيديهم ايذاناً بالدخول. كل المباني المجاورة يلفّها الصمت، ويسكنها الهدوء. في الجوانب تجد بعض السيارات المحترقة، وأخرى اخترقها الرصاص، كلها لا تزال بأماكنها.
حاجز الفرقة الرابعة خالياً
يستقبلك شبان بضحكات، وبعبارة “أهلاً وسهلا عمي، الحمد لله على سلامتكم”. تشق الطريق باتجاه حاجز الفرقة الرابعة، تجده خالياً أيضاً، يقول السائق هنا كانوا يعملون على تشليح الناس. على يمين الحاجز رقم هاتف للشكاوى، تسأل السائق عن سبب عدم تقديم الشكاوى بحق من كان يعمل على التشليح، فيجيب: “سترتد علينا بمذلة، وكان الأفضل لنا أن ندفع ونمشي”. من هناك تصل إلى مفترق طرق، باتجاه “المتحلق الجنوبي”، أو يميناً، بعد حاجز الزبداني يصادفك حاجز ثان للفرقة الرابعة، خال تماماً إلا من بقايا مخلفات عسكرية محترقة، دبابة منقلبة على جانب الطريق، وغرف حرس محترقة.
في مساكن الديماس لا تزال الأعلام السورية بالأحمر مرتفعة، تجاورها أعلام روسية. مساكن الفرقة الرابعة خالية تماماً، على طول الطريق لا تصادف أحدا. بعدها يسلك الطريق باتجاه منطقة المزّة واوتوسترادها، في تلك المنطقة نفذت إسرائيل عمليات اغتيال بحق شخصيات في حزب الله ومسؤولين إيرانيين، وفيها يقع مبنى السفارة الإيرانية الذي بدا بلا حركة. يؤدي الطريق إلى ساحة الأمويين. جموع من الناس تتحلق حول الدوار، وحول “السيف الأموي الدمشقي الشهير”. أناس تهتف احتفالاً، ومجموعات من الشبان والفتيات تعمل على تنظيف الطرقات، على أنغام أغنية عبد الباسط الساروت “جنة جنة جنة.. جنة يا وطنّا”.
تساؤلات حول اليوم التالي
في موازاة الاحتفالات بدت المدينة تستعيد حياتها رويداً رويداً، وسط تساؤلات كثيرة من الناس حول اليوم التالي. تلّح مطالبهم برؤية سياسية جديدة، عناصر هيئة تحرير الشام والفصائل الأخرى تنتشر في الشوارع لتنظيم السير وحفظ الأمن، بينما يتابع الناس الأخبار السياسية لمعرفة مصير المرحلة الانتقالية، ومآلات تشكيل الحكومة. اختار قائد هيئة تحرير الشام أحمد الجولاني محمد البشير رئيساً لحكومة تصريف الأعمال حتى الأول من شهر آذار المقبل. اختيار طرح الكثير من التساؤلات في صفوف السوريين لا سيما المعارضين السياسيين، الذين اعتبروا أنه يجب اختيار شخصية أخرى انسجاماً مع الوضع الجديد الذي تعيشه سوريا وفي سياق إعطاء نموذج يشكل دفعاً سياسياً إيجابياً للداخل والخارج. في المقابل، هناك من يجيب بأن هذا الاختيار مرحلي ومؤقت وله حسابات كثيرة أولها أن لا يبدو وكأنه تخلى عن أهل الشمال ومناطقه، وطالما أن المعركة الأساسية انطلقت من إدلب، فأراد الاحتفاظ بحق إدلب وأهلها، علماً أن هذه الحكومة ستكون لتصريف الأعمال ووضع برنامج واضح للمرحلة الانتقالية وهو سيكون التحدّي الأبرز الذي ستواجهه سوريا، وسط انطلاق مشاورات سياسية فعلية مع جهات حكومية وإدارية وتنفيذية، ومع قوى المعارضة السياسية على طريق إعادة إحياء الدولة ومؤسساتها، وبناء مشروع سياسي جديد قائم على الديمقراطية ويحفظ التعددية السورية، وكيانية الدولة في مواجهة أي محاولات للهدم أو للتخريب أو لزرع الشقاق وبذور التقسيم وفق المسار المفضوح الذي يعمل عليه الإسرائيليون.
المدن
——————–
الشارع السوري يواكب الحدث/ بشير البكر
11 ديسمبر 2024
عاش السوريون في الداخل والخارج خلال الأيام الأخيرة مشاعر ومواقف لا مثيل لها، غير تلك الحالة التي أعقبت كسر جدار الخوف مع بداية الثورة على النظام في مارس/ آذار 2011. ومن المؤكد أن الغالبية العظمى من الشارع السوري أمضت قدراً من الوقت في المتابعة على شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يسبق لها أن كرسته لقضية أخرى منذ أكثر من عشرة أعوام. ولعل ليلة السابع من الشهر الحالي كانت الأطول في حياة السوريين منذ ما يزيد عن نصف قرن، لأن العديد من المؤشرات كانت توحي بأنها ستكون حاسمة لجهة تقرير مصير النظام، بعدما بدأت عملية تطويق العاصمة، وتسربت أنباء عن هروب رئيس النظام بشار الأسد.
وعكست الساحات العامة ومواقع التواصل الاجتماعي، ونقلت بعض وسائل الإعلام، مظاهر الفرح السوري في المحافظات التي تحررت من النظام. وكانت البداية من حلب التي تعد مركز التوازن الثاني بعد دمشق في بناء الكيان السوري منذ الاستقلال. لكن هروب الأسد أعطى لدمشق الصدارة، ولم يمنع الناس أنفسهم من النزول للساحات للتعبير عن شوقهم الطويل للحرية، رغم الأخبار السيئة عن قصف إسرائيلي داخل العاصمة، وحصول بعض أعمال التخريب والنهب من قبل شبيحة النظام السابق، الذين حاولوا تعكير الجو الاحتفالي وخلق حالة من الاضطرابات.
مشهد الشارع السوري هو الذي سيبقى في الأذهان باعتباره تعبيراً عن الاحتفال العفوي باللحظة التي كان ينتظرها طويلاً كل من لا يقف في صف النظام السوري. وقد واكبت تلك الحالة سلسلة من التظاهرات داخل سورية وخارجها، بالإضافة إلى ما حفلت به صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. ما وجّه ردود الفعل وطغى عليها هو التأييد غير المشروط، وحالة الفرح التي قفزت منذ اليوم الأول للعملية إلى حدها الأقصى في أوساط الشارع السوري، بينما عاشت فئات أخرى مشاعر مختلطة من الحذر، بعضها قائم على حسابات ومخاوف من حصول انتكاسة تنتج عن لجوء النظام إلى استخدام الأسلحة الفتاكة، التي سبق له أن جربها خلال أعوام الثورة، بما فيها السلاح الكيميائي، والبعض الآخر ناجم عن مخاوف من الفصائل التي دخلت المدن الكبرى، خصوصاً دمشق وحلب.
الفرح يكبح مخاوف الشارع السوري
لعبت حالة الفرح في الشارع السوري دوراً مهماً في كبح المخاوف التي عبّرت عنها بعض الفئات للأطراف التي شاركت في العملية، سواء هيئة تحرير الشام التي لم تكن تجربتها في إدلب مثالية، أو “الجيش الوطني”، الذي ينتشر في مناطق ريف حلب وتل أبيض ورأس العين، وهو صاحب تجربة حافلة بالتجاوزات والمعارك الجانبية من أجل النفوذ والمكاسب والتطاول على المدنيين. وقد خفف حدة المخاوف في الشارع السوري أن الغالبية العظمى من المقاتلين الذين شاركوا في العمليات هم من أبناء المناطق التي استعادوها من تحت سيطرة النظام.
ونقلت بعض وسائل الإعلام مشاهد معبّرة من الشارع السوري عن اللقاء بين العديد من المقاتلين وأهلهم، الذين ظلوا في حلب بعد عملية التهجير القسري الكبيرة منها عام 2016، التي نفذتها روسيا وإيران. وتبيّن أن بعض المقاتلين لم يكن يتجاوز 16 عاماً في حينه، كما أن بعض البيوت كانت محتلة من قبل أنصار النظام، الذين فروا لدى دخول المقاتلين إلى المدينة. وقد ساعد على تعميم هذا التوجه والروحية الانضباط الذي تحلى به المقاتلون عند دخول المدن، بالإضافة إلى حالة الاستقرار التي عرفتها حلب سريعاً، وبذل قيادة “العمليات العسكرية” جهداً واضحاً في ضبط الوضع فيها، وفي الوقت ذاته ساعدت فرق الدفاع المدني في تخفيف وطأة المشاكل التي تعاني منها حلب بسبب الإهمال على مستوى الخدمات، وخصوصاً الكهرباء، التي تمكنت الإدارة الجديدة للمدينة من إصلاح بعض أعطالها، وباتت متوافرة في أغلب الأحياء، وعلى نحو تدريجي.
هناك عدة قواسم مشتركة بين آراء ومواقف السوريين تجاه العمليات، وبقدر أقل تباينات وتعارضات حادة. لكنها في كافة الأحوال عبارة عن تلاقٍ وتباعد حول مسألة رحيل نظام الأسد، وهو في المجمل عبارة عن تصورات وحسابات ومخاوف تتمحور حول اليوم التالي، الذي لا يزال يحمل صفة المجهول، وسط تداول سيناريوهات مختلفة، يعد أسوأها مشاركة النظام القديم في قيادة المرحلة الانتقالية، وهو ما يروج له مندوب الأمم المتحدة إلى سورية غير بيدرسون، من خلال إصراره على إحياء القرار 2254، رغم أن الأحداث تجاوزته. وما ينتظره الشارع السوري هو إسقاط النظام بكافة أركانه ورموزه مع الإبقاء على مؤسسات الدولة، بما في ذلك ضباط الجيش الذين لم تتلون أيديهم بالدماء. أهم ما ميز ردود الفعل هو انتقالها من الصدمة الإيجابية أو السلبية إلى الاستيعاب التدريجي، ومن النقاش الحاد العاطفي والعفوي إلى التروي والهدوء والتزام جانب العقلانية، وتقصي الوضع بدقة من أجل وضع الأمور في نصابها.
طريق طويل أمام السوريين لإزالة جرائم بشار الاقتصادية
وكما أصابت الصدمة النظام وجمهوره وحلفاءه، فإنها وقعت بالقدر ذاته على الشارع السوري الذي يناصر المعارضة، أو يدور في فلكها وحتى المعارضين لها. لم يكن أحد يصدق أن الفصائل سوف تقوم بعملية عسكرية كبيرة، تقود إلى تغيير موازين القوى. أعلى سقف التوقعات كان يرى أنه قد تحصل عملية تحريك، تمليها التحرشات العسكرية التي يقوم بها النظام، والقصف الذي يقوم به على المناطق، التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة.
مرد الصدمة في الشارع السوري على وضع الفصائل يعود إلى أنها تحوّلت في نظره إلى مليشيات أمراء الحرب، بنت وضعها وتشكّلت مصالحها على أساس ما يخدمها أولاً، والسبب هو تصرفاتها السيئة خصوصاً تلك المنضوية تحت ما يسمى “الجيش الوطني” التي تنتشر في المناطق المعروفة باسم “درع الفرات”، والدليل على ذلك الحروب والمواجهات التي عاشتها خلال العامين الأخيرين في ما بينها، والتي لم تكن توحي بأنها ذات هم سياسي أو تبشر بأنها قادرة على النهوض بعملية عسكرية واسعة تواجه النظام وحلفاءه من الروس والإيرانيين.
استيعاب دروس الماضي
القاسم المشترك الثاني هو استيعاب دروس الأعوام الماضية، سواء تلك التي قدّمتها أعوام الثورة، وما رافقها من صعود سريع وهبوط وانقسامات وحروب وتهجير وكوارث، وما تلاها من هدوء نسبي بعد توقف المعارك الكبرى في العام 2020 واستقرار الوضع على ما هو عليه حتى بدء العملية العسكرية في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، والتي قلبت الوضع السوري، وخلقت حالة سورية جديدة يتفاعل معها السوريون من مواقعهم وعلى اختلاف محافظاتهم وطبيعة علاقتهم مع التطورات السياسية.
على العموم، هناك مروحة متنوعة من المواقف، ومستويات متعددة، تجاه العمليات العسكرية. المستوى الرئيسي هو أنه لا أحد يقف مع الأسد سوى شركاؤه في قتل السوريين وتخريب ونهب سورية. هناك مواقف سورية متنوعة متحفظة ونقدية تجاه تركيبة الفصائل المسلحة، تترافق مع تخوفات مشروعة من المستقبل، كون التجارب العربية الشبيهة كلها مخيبة للآمال، مثل السودان وليبيا، لكن لا أحد من الأغلبية السورية يتمسك به أو يتأسف على رحيله، وهذا ظهر بصورة جلية من ردود فعل في مناطق الساحل، في محافظتي طرطوس واللاذقية.
ثمة مسألة أساسية يقف عندها النقاش السوري مطولاً، تتعلق بمتغيرات أساسية ساعدت على إحداث هذا التغير المفاجئ، ولكن العامل التركي هو الأساسي، ولولا وجود ضوء أخضر من أنقرة بإطلاق عملية عسكرية لما تجرأت الفصائل على ذلك، وهنا يمكن إيراد عدة أسباب. الأول، هو أن الفصائل ليست على رأي واحد، بين “الجيش الوطني” نفسه، وبينه وبين هيئة تحرير الشام. والثاني هو أن العملية تحتاج إلى متطلبات لوجستية مهمة، وهذا ما وفرته أنقرة. والثالث هو أن العملية تحتاج إلى تغطية سياسية أو طرف إقليمي قوي تستند إليه. ومن الواضح أن تركيا، التي بقيت تصريحاتها غامضة إلى حد ما على صعيد تبني العملية والدفاع عنها حتى اليوم العاشر عندما تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي أوضح صراحة أن هدف العملية هو الوصول إلى دمشق، أي إسقاط النظام السوري، وشد عزيمة الفصائل، وأعطاها دفعة قوياً بعد أن كانت قبل يوم من ذلك قد استعادت مدينة حماة، واتجهت نحو مدينة حمص لتخوض معركة حاسمة بالنظر لأهمية المدينة صاحبة أكبر مساحة (40 ألف كيلومتر مربع)، وتمتاز بأنها تقع في وسط سورية، وعلى الحدود مع كل من لبنان والعراق والأردن، وتربط دمشق بالساحل السوري، الذي يشكل منطقة على حساسية عالية تجاه ما يحصل، وكانت تضم أكبر تجمّع عسكري للنظام.
ولم يأتِ التوجه نحوها لسببين أساسيين، الأول هو تهديد إيران بأن ترسل قوات لمساندة النظام، على الرغم من صعوبة ذلك من الناحية العملية، لأن طيرانها ممنوع من الهبوط في المطارات السورية. والأمر الثاني يتعلق بمشاركة حزب الله بقوته الكبيرة الموجودة في معقله الرئيسي في مدينة القصير الواقعة على الحدود مع لبنان. وهنا جرى التوقف عند ملاحظتين، الأولى هي أن الحزب سحب عدداً كبيراً من قواته إلى لبنان خلال الأشهر الأخيرة، والثانية هي أن وقف النار في لبنان لا يزال قيد الاختبار وإسرائيل باقية في الجنوب، ما يبقي الحزب في حالة استنفار ويعطي الأولوية للدفاع عن جنوب لبنان. معركة حمص كانت نقطة انعطاف مهمة. وحين لاحت علامات حسمها أصبح الطريق سالكاً إلى جنوب دمشق، بعدما تمكنت فصائل من الجيش الحر سابقاً، وجماعات أهلية في كل من درعا والسويداء، من السيطرة على مقرات النظام والمواقع والمرافق العسكرية.
العربي الجديد
———————
كي يبقى عصفور ميشيل كيلو في الذاكرة حصراً/ أرنست خوري
11 ديسمبر 2024
كانت الأسباب الموجبة لإسقاط نظام بشار الأسد أكثر من أن تُحتسب بعدد، وأكبر من أن تُحصَر بأمثلة. زوال النظام كان من طبيعة الأشياء، وبقاؤه تنكيل بالمنطق والطبيعة والعلم والإنسانية. مع ذلك، ظلّت ثرثراتٌ تُسمع عن مبالغات في تناول إجرامه وساديّته ودمويته ونذالته، فكان لا بد لقصّة أيقونية يرويها أحدهم من الموثوق بهم تختصر كل الأسباب الموجبة تلك، كل ذلك الشرّ في حكاية قوامها كلمات قليلة وبسيطة ببساطة عناصر الطبيعة كالعصفور والشجرة والشمس. وقصص من هذا النوع يمكن التقدير أنها بالملايين، بعدد ضحايا طغيان النظام منذ نصف قرن، ضحاياه الأموات والأحياء، من سوريين وأجانب، ولكن، مثلما أنّ النشيد الوطني رمز موسيقي غنائي لكل بلد، والراية عنوانه البصري، كان لزاماً أن يكون لإجرام النظام الأسدي رمزه القصصي البسيط، الذي يُروى باقتضاب بلا مبالغة ولا حاجة إلى شرح أو تحليل ولا إلى تدوين في روايات أدب السجون ولا وثائقيات ولا أفلام سينما. الراحل ميشيل كيلو، أحد نبلاء سورية الذي غلب الموت الأسدي فخطفه فيروس كورونا عام 2021 ربما يكون صاحب القصة الأيقونية التي على كل إنسان في العالم أن يسمعها لكي يفهم المأساة السورية ولكي يكفّ عن ترداد أي ذريعة غايتها تبرير بقاء نظام الأسد يوماً واحداً. قصة ميشيل كيلو شخصية، هو مصدرها الأول: أتاه سجّانه في أحد أيام اعتقاله وطلب منه أن يزور زنزانة جارته الشابة ــ الأم البالغة 26 أو 27 عاماً وطفلها (أربع أو خمس سنوات بتقدير الراوي). الشابة مسجونة انتقاماً من والدها الفارّ والعضو في جماعة الإخوان المسلمين، وقد حملت بطفلها وأنجبته داخل السجن. طلب السجّان من ميشيل كيلو أن يروي للطفل قصة، فاجتهد الكاتب والسياسي المعارض ولم يحضره إلا أبسط ما يمكن لطفل أن يهضمه: عصفور يطير ثم يحط على شجرة… فإذا بالطفل يستوقفه عند كل محطة من السرد، سائلاً إياه ماذا يعني العصفور؟ وماذا تعني الشجرة؟ أي إنه لم يخرج من الزنزانة منذ ولادته. ومن ثم، هو لا يعرف ما هي الشمس والريح والمطر والغيم والبحر والسيارة والتلفزيون… لا يعرف شيئاً. دارت الأيام وسقط الكابوس في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 وإذا بالعشرات من أطفال كأنهم هاربون من قصة ميشيل كيلو ذكوراً وإناثاً يظهرون داخل السجون لدى خلع أبوابها وإطلاق معتقليها إلى الحرية. أشهر فيديو وثّق أطفالاً ــ سجناء وصلنا من صيدنايا وذلك الطفل الواقف جانباً غير مدرك ما الذي يحصل من حوله وصورته تشبه الوصف الأولي الذي أعطاه كيلو لبطل الحادثة المبكية التي عايشها قبل عقود.
حسناً فعل مشروع الذاكرة السورية ومؤسسته الأم “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” بتوثيق قصص بالآلاف من الجحيم الأسدي. وحسناً فعل القيّمون على هذا المشروع عندما سمّوه الذاكرة السورية، ذلك أن أرشيف الجحيم يجب أن يُحفَظ، لا لكي يتكرر عند سقوط النظام، بل لمنع تكراره ولكي تبقى المآسي في الذاكرة فحسب، في الأرشيف، فزّاعة حاضرة دوماً لكي لا ترتكب أية سلطات ستخلف حكام سورية البعثية ما يذكّر بتقاليدهم العريقة.
والحال أن البداية فيها كثير من الأمل. انتهاكات المسلحين لا تكاد تُذكر وهي بحدها الأدنى بحسب ما يصل إلينا. كل المقومات متوفرة لكي يدهشنا السوريون، لكي يُخرسوا العنصريين من جماعة أن “هناك شعوباً لا تستحق الحرية”. أما الديمقراطية فشأن آخر، لا شيء فطرياً فيها، بل تمرين وتقاليد وثقافة حُرم منها السوريون طويلاً في صحراء الطغيان التي قضت على تجربة ديمقراطية كانت واعدة قبل انقلاب 1963. الديمقراطية مساومات ومفاوضات وتنازلات متبادلة وحلول وسطية وتسامح وتحالفات، قد ينجح فيها السوريون وقد لا يفعلون. لكن مرحلةً أولى، يكفي أن يضعوا نصب أعينهم أولوية إبقاء قصة طفل ميشيل كيلو وعصفوره في الذاكرة حصراً، وألا تتكرر مثل تلك الحكاية وأخواتها في سورية ما بعد الأسد.
العربي الجديد
————————-
كي لا يصبح ردع العدوان عدواناً/ علي العبدالله
11 ديسمبر 2024
نجحت عملية “ردع العدوان” بقيادة هيئة تحرير الشام في إسقاط النظام السوري في فترة قصيرة جدا؛ ما عكس مستوى الترهّل والإنهاك الذي بلغه جيشُه وأجهزة مخابراته. وقد ترتّب على هذا النجاح التخلص من بنى سياسية واجتماعية ومذهبية قائمة. أولها نظام حكم أسري، قمعي وفاسد، لم يكتف بنهب المال العام، بل وتفنّن في أساليب استحواذٍ على ممتلكات المواطنين ومقدّراتهم ودفعهم إلى حافة الجوع في عملية إذلال وقهر ممنهجة لم تشهدها سورية التي عرفت أنظمةً قمعيةً في فترات سابقة من تاريخها. ثانيها إنهاء الوجود الإيراني الكثيف على الأرض السورية، وتخليص البلاد من مخطّط خبيث لزرع عوامل عدم استقرار وضعف دائميْن في المجتمع السوري، عبر تجنيس آلاف الأسر الشيعية، إيرانية وعراقية وباكستانية وأفغانية، ونشر المذهب الشيعي الاثني عشري فيه، لزيادة عدد حاضنة النظام الإيراني المذهبية، وتوسيع قاعدة نفوذه في سورية. ثالثها إسقاط تفاهمات مسار أستانة وسوتشي. رابعها وآخرها إسقاط مؤسّسات المعارضة، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة وهيئة التفاوض، عبر عدم إشراكها في العملية أو التشاور معها.
لم يتوقّع أحدٌ حصول الانتصار على النظام البائد بهذه الصورة الصاعقة والعاصفة، حيث دقت السيطرة السريعة على مدينة حلب جرس إنذار لآلاف المواطنين السوريين من أبناء الطائفة العلوية، في الجيش والمخابرات والوظائف الحكومية والقطاع الخاص والطلاب، ودفعتهم إلى إرسال أسرهم إلى مدن الساحل، طلبا للأمان ضمن البيئة العلوية هناك، قبل أن يحصل نزوح جماعي لدى وصول أنباء السيطرة على مدينة حمص، التي حُصّنت كي تكون خط الدفاع الرئيس عن العاصمة دمشق؛ وبدء دخول طلائع قوات المعارضة من الجنوب، درعا وريف دمشق، أطراف العاصمة، حيث تخلّى الجنود والضباط عن أسلحتهم وألبستهم العسكرية وتحرّكوا سيراً على الأقدام لمغادرة المناطق التي ترابط فيها القطعات العسكرية والمخابراتية التي ينتسبون إليها.
لا يمكن تفسير الانهيار النفسي والمعنوي لقوات النظام وأجهزة مخابراته بتهتك هذه المؤسّسات وترهلها، بسبب سياسات التمييز والفساد، على أهميتها، ما يستدعي إمعان النظر في المشهد العام، وما فيه من تباين وتعارض وتناقض بين المواطنين على خلفيات دينية ومذهبية وقومية واجتماعية، نشأت ونمت بفعل سياسات النظام البائد، وما أفرزته من ممارساتٍ قائمةٍ على التنمر والابتزاز، وما خلفته من مرارات واحتقان وبغض وغضب لدى شريحة واسعة من المواطنين من غير العلويين، جسّدتها عمليات تعفيش دوائر الدولة ومقرّات أجهزة المخابرات والمواقع العسكرية، باعتبارها جزءاً من النظام، وبيوت النازحين من أبناء الطائفة العلوية في المدن والبلدات، وحصول حوادث انتقام بالقتل كما حصل في مدينة حماة بقتل مُخبرين للنظام وفي قرية ربيعة التي هاجمها موالون للنظام، ما استدعى انتقام شباب من مدينة حماة لهم من المهاجمين.
غذّى هذا المناخ المحتقن الكراهية والأحقاد ضد العلويين لدى أبناء السنة؛ وبدرجات أقلّ لدى الدروز والإسماعيليين والمسيحيين، وبذر بذور الحذر والقلق والخوف لدى أبناء الطائفة العلوية الذين باتوا مقتنعين بحتمية انتقام الطرف الآخر منهم، عندما تأتيه الفرصة المواتية، مع أن أغلبية أبناء الطائفة قد لحق بهم أذىً شديد، وهم متضرّرون من حكم آل الآسد، وفق عدد من وجهائهم. وهذا مهّد الطريق للانهيار والهروب الكبيرين في ضوء الشائع عن “هيئة تحرير الشام” وممارساتها ضد المواطنين بشكل عام، وضد أبناء الطوائف غير السنية بشكل خاص خلال سنوات حكمها في محافظة إدلب. لقد أسّست الصورة الذهنية السلبية عنها وعن مشروعها السياسي، إقامة كيان سنّي، لدى أبناء الأديان والمذاهب الإسلامية غير السنّية بشكل عام ولدى أبناء الطائفة العلوية بشكل خاص لعملية مفاصلة نفسية وشعورية لم تُجدِ معها تحوّلات “الهيئة” السياسية والاجتماعية وتوددها للمسيحيين والدروز في محافظة إدلب وتبرؤها من التشدد بمحاربة فصائل سلفيّة متشدّدة مثل حرّاس الدين والحزب التركستاني والترويج لتبنيها قراءة معتدلة للنصّ الديني، عزّزت دعاية النظام بين أبناء الطائفة المخاوف عبر إقناعهم بأن أمنهم ومصيرهم مرتبط ببقائه وقد حركت عملية “ردع العدوان” المخاوف وبعثت، على خلفية تمدّدها وهدفها المعلن: إسقاط النظام، كوابيس التاريخ القديم وذكرياته المرعبة. لقد أسبغ مشروع “الهيئة”، إقامة كيان سنّي، ظلالاً قاتمة على المشهد السياسي القادم وشكلا محدّداً لمواقف أبناء الأديان والمذاهب الإسلامية الأخرى من “الهيئة”؛ باعتباره مصدراً للخطر، ما يستدعي مواجهته عبر تشكيلات طائفية موازية؛ ستقود، بالضرورة، إلى تكريس التفتت والتشتت الوطني.
تنطوي المرحلة الراهنة من عملية تشكيل نظام سياسي بديل على عقبات ومخاطر جمّة، تتمثل في قدرة “الهيئة” والفصائل المشاركة معها في عملية “ردع العدوان” على طمأنة أبناء الأديان والمذاهب الإسلامية غير السنية وفتح طريق للاندماج الوطني، وقدرتها والفصائل المشاركة معها على إدارة دولة وحكم شعب يقوق عددُه عشرين مليون إنسان في ظل عدم وجود موقف محدّد متفق عليه بينها، بالإضافة إلى ما تمثله القوى التي جاءت من الجنوب، درعا وريف دمشق، والتي غدت شريكاً بحكم الأمر الواقع، وما تحمله من أفكار وتصوّرات وتاريخ من الممارسات السلبية وغير المنسجمة مع روحية ثورة الحرية والكرامة، وما يشهده الوضع من تعقيدات سياسية واجتماعية واقتصادية، من التمزّق الأسري والضحايا وأصحاب العاهات البدنية والنفسية، ونقص الأيدي العاملة الماهرة، بسبب النزوح واللجوء، إلى الدمار الكبير في البنى التحتية والمدارس والمشافي والمصانع والمزارع والمدن والبلدات والقرى، ما يعقّد عملية استقبال النازحين واللاجئين الذين سيعودون إلى الوطن؛ مروراً بتراجع حجم الاحتياط من النقد الأجنبي والذهب بشكل كبير؛ بعد الهدر والنهب اللذين أقدم عليهما النظام البائد طوال العقد الماضي لتمويل حملته الوحشية ضد الشعب واسترضاء مرتزقته وحاضنته؛ والمديونية العالية، إلى توفير إمكانات لتعويض المتضرّرين، وحل مشكلة المختفين قسرياً وتعويض أهالي المقتولين تحت التعذيب، وتحقيق العدالة الانتقالية وإنجاز المصالحة الوطنية. إلى التعاطي مع الضغوط والمطالب الإقليمية والدولية، حيث للدول الإقليمية والدولية مطالب تتعلق بشكل الحكم القادم والسياسة الداخلية والخارجية التي سيعتمدها النظام الجديد.
وقد بدأ الكيان الصهيوني بالضغط لفرض مطالبه عبر احتلال مناطق شاسعة من محافظة القنيطرة (حوالى 80 كيلومترا مربعا)، وقصف مستودعات أسلحة ومراكز بحوث بذريعة عدم وقوع محتوياتها بأيد تنظيمات متشدّدة. الدول الغربية، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هي الأخرى بدأت بطرح مطالب محدّدة بشأن حقوق الإنسان والأقليات والحريات الدينية، وتشديدها على دور إيران في تدمير سورية وعرقلة تنفيذ العملية السياسية لتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 في مسعى إلى دفع النظام الجديد للتصويب على النظام الإيراني، ولمحت الإدارة الأميركية إلى احتمال رفع اسم هيئة تحرير الشام من لائحة الإرهاب. وروسيا تريد حماية القاعدتين البحرية والجوية وحماية استثماراتها ومشاريعها الاقتصادية. تركيا هي الأخرى تريد من النظام القادم أن يُنهي مشروع “الإدارة الذاتية” شمال شرق سورية. وليست الدول العربية بعيدة عن مطالب تركيا عبر الحديث عن وحدة سورية وسيادتها. إيران تطالب بحماية الشيعة السوريين والابتعاد عن الكيان الصهيوني، وتداعيات ذلك على استقلالية القرار الوطني. وهذا من دون أن ننسى المستوزرين من شخصيات المعارضة التي بدأت تتحرّك وتطرح تصورات تحجز فيها لنفسها أدوارا ومواقع رئيسة بذريعة أنها أم الولد، أصحاب الثورة وممثلوها سنوات.
لقد أدّت السياسات المتبعة من “الهيئة” وفصائل “الجيش الوطني السوري”، وخصوصا تحرّك الأخير ضد المواطنين الكرد في ريف محافظة حلب وناحية عفرين بشكل خاص، طوال العقد الماضي، إلى جمود عميق في علاقات السوريين بعضهم ببعض؛ حيث باتت النمطية مسيطرة على التقديرات، والأحكام المسبقة سيدة الموقف، ما أدّى إلى تصلّب الروابط المجتمعية وتكلّسها. ويفرض هذا وضع سلم أولويات قادر على احتواء الأخطار الظاهرة والكامنة، من أجل إيجاد أجواء إيجابية ومواتية لمجابهة الانقسامات العمودية بين أبناء الوطن الواحد.
وعليه يأتي إعلاء الوطنية والمواطنة باعتمادها قاعدة للنظام القادم، في مقدّمة العوامل اللازمة لعملية رأب الصدع الاجتماعي الديني والمذهبي والقومي. فحكومة وحدة وطنية ببرنامج وطني ضرورة قصوى لبدء عملية رأب الصدع. وهنا يجب الكفّ عن ترداد الأسطوانة المشروخة بتحميل النظام السابق المسؤولية بشأن ما آل إليه الاجتماع الوطني من انقسام وانعدام ثقة وقلق وجودي؛ لأنها لا تشكّل قيمة عملية في مواجهة المأزق الراهن. نحن بحاجة إلى عملٍ مباشرٍ على تحفيز الوطنية بالعدالة والمساواة، فتحريك العناصر الجامعة أجدى من الاكتفاء بالندب الذي يعكس حالة العجز وغياب الوعي والجدّية. يأتي تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة في المرتبة الثانية، واختيار سياسة داخلية تحقّق العدالة والمساواة بين المواطنين؛ وخارجية تحقق المصالح الوطنية العليا، مرنة ومنفتحة على الدول، من أجل التعاون وتبادل المنافع ما يسهّل رفع العقوبات التي فرضت على النظام البائد، والتي أضرّت بالمواطنين أكثر من النظام الذي كان يستحوذ على الخيرات المتوفرة والمساعدات من حلفائه، وجلب المساعدات والاستثمارات لتوفير متطلبات تحسين معيشة المواطنين وإطلاق عملية إعادة الإعمار التي تحتاج مليارات الدولارات، وللاستمرار في توفيرها طوال فترة إعادة الإعمار التي لن تكون قصيرة.
تستدعي اللحظة السياسية الدقيقة والخطيرة كثيراً من العقلانية والتفكير البارد لتقويم كل العناصر الإيجابية والسلبية في الوضع وتحديد العقبات، الكبيرة والصغيرة، ودراسة الخيارات والتبعات التي تترتّب على كل خيار، والتأثير المتبادل بين جميع العناصر ووضع سلم أولويات، وحلحلة العُقد والمشكلات في تصوّر منطقي شامل يتيح الانطلاق والاستقرار والاستمرار.
العربي الجديد
—————————-
سوريا إلى أين؟/ جلبير الأشقر
11 كانون الأول
إن أول ما خطر في بالنا إزاء الأحداث التاريخية المدهشة التي توالت منذ يوم الجمعة الماضي، هو الانفراج والفرح أمام صور تحرّر المعتقلين من جحيم مجتمع الاعتقال الذي تحوّلت سوريا إليه في ظل نظام آل الأسد. وسادت مشاعرَنا كذلك الغبطة إزاء مشهد العائلات السورية التي تمكنت من العودة من منفاها القريب، سواء أكان في منطقة أخرى داخل الحدود السورية أو في الأردن أو لبنان أو تركيا، لتزور البلدات والمنازل التي اضطرت إلى الهروب منها قبل سنوات. هذا وناهيك من أن حلم ملايين اللاجئين السوريين في البلدان المحيطة بسوريا وفي أوروبا، حلمهم بالعودة إلى وطنهم، ولو لزيارته فقط، هذا الحلم الذي بدا قبل أيام قليلة وكأنه مستحيل، إنما أخذ يبدو قابلاً للتحقيق.
أما الآن، فقد حان وقت الفكرة بعد السكرة، حسب القول المأثور. فلنتأمل فيما جرى حتى الآن لنحاول استنباط احتمالات المستقبل. بادئ ذي بدء، لا بدّ من أن نشير حيال أولئك الذين أيّدوا نظام آل الأسد البغيض وادّعوا أنه يستند إلى الشعب السوري وأن كلّ من خاصمه إنما كان مرتزقاً لدى قوة خارجية، إقليمية أو دولية، كما ادّعوا أن هذا النظام الذي لم يحرّك ساكناً منذ نصف قرن ضد الاحتلال الصهيوني لأراضيه، والذي تدخّل في لبنان في عام 1976 لقمع قوات تحالف منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وإنقاذ قوات اليمين الطائفي المسيحي اللبناني، والذي انضمّ إلى معسكر الحرب على العراق بقيادة أمريكية-سعودية في عام 1990، إنما كان قلب «محور المقاومة» النابض، حيال كل هؤلاء لا بدّ من أن نشير إلى أن الواقع أثبت بصورة حاسمة أن نظام آل الأسد البغيض لم يكن قائماً سوى بفضل احتلالين أجنبيين من بين الاحتلالات الأجنبية الخمسة التي انتشرت على الأراضي السورية.
والحقيقة أنه لولا التدخل الإيراني بدءاً من عام 2013، لا سيما بواسطة «حزب الله» اللبناني، ولولا التدخل الروسي بعده بدءاً من عام 2015، ولولا الفيتو الأمريكي الذي حال دون تسليم المعارضة السورية أي نوع من السلاح المضاد للطائرات، خشية من أن يُستخدم ضد سلاح الجو الإسرائيلي، لولا هذه العوامل الثلاثة، لسقط النظام منذ أكثر من عقد، إذ كان على شفير الهاوية في عام 2013، ومن جديد في عام 2015 بالرغم من النجدة الإيرانية. والحال أنه ما أن نضب الدعم الخارجي، حتى انهار النظام على شاكلة أي «نظام دمية» تتخلّى عنه القوة التي كانت تمسك بخيوطه، وآخر مثال ساطع على مثل هذا الانهيار ما أصاب «النظام الدمية» في كابول أمام زحف الطالبان إثر تخلّي القوات الأمريكية عن الدفاع عنه في عام 2021.
فبعد أن سحبت روسيا معظم قواتها من سوريا بسبب غرقها في أوحال غزوها لأوكرانيا (لم تبقِ موسكو سوى على 15 طائرة من سلاحها الجوّي في سوريا حسب المصادر الإسرائيلية) وبعد أن مُني «حزب الله» اللبناني بهزيمة نكراء حاول أمينه العام الجديد تصويرها يائساً وكأنها «انتصار كبير… يفوق النصر الذي تحقّق عام 2006» وقد حالت الضربة الكبرى التي تلقّاها الحزب دون أن يستطيع نجدة حليفه الأسدي هذه المرّة، بينما واصلت إيران نهجها الحذر والمذعور من تصاعد الهجوم الإسرائيلي ضدّها ومن احتمال انضمام الولايات المتحدة إليه مباشرة بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أمام هذه الوقائع مجتمعة وانتهازها من قِبَل «هيئة تحرير الشام» (هَتَش) لشنّ الهجوم على المناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة النظام وحلفائه بدءاً من مدينة حلب، انهار «النظام الدمية» السوري على غرار نظيره الأفغاني.
أما الفرق الكبير بين الحالة الأفغانية والحالة السورية، فهي أن هتش أضعف بكثير مما كان الطالبان عندما استكملوا سيطرتهم على بلادهم. فقد انهارت قوات نظام آل الأسد ليس خوفاً من عدوّ جبّار، بل لأن حافز الدفاع عن النظام لديها بات معدوماً. ذلك أن الجيش المحكوم طائفياً من خلال استغلال آل الأسد للعصبية العلوية، لم يعد لديه ما يحفزه على الحفاظ على سيطرة آل الأسد على البلاد بأسرها، لا سيما أمام انهيار الظروف المعيشية الذي أدّى إلى انهيار القوة الشرائية لمداخيل العساكر. ولم تغيّر في الأمر شيئاً محاولة النظام البائسة في اللحظة الأخيرة رفع رواتبهم بنسبة خمسين في المئة. والحصيلة أن الحالة السورية الراهنة شديدة الاختلاف عن الحالة الأفغانية إثر فوز الطالبان. فإن هتش لا تسيطر سوى على بعض الأراضي السورية، وسيطرتها هشّة في قسم من هذه الأراضي، لا سيما المنطقة المحيطة بالعاصمة دمشق التي انهار النظام فيها قبل وصول هتش إليها، بل وصلتها قوات «غرفة عمليات الجنوب» قبل هتش.
والحال أن سوريا منقسمة الآن إلى عدة مناطق تحت سيطرة قوات متنافرة، لا بل متخاصمة. هناك أولاً هضبة الجولان المحتلة إسرائيلياً، وقد انتهزت الدولة الصهيونية الفرصة كي تتمدد في المنطقة العازلة القائمة بين الأراضي المحتلة التي ضمّتها رسمياً في عام 1981 والأراضي التي كان النظام السوري مسيطراً عليها، كما أخذ طيرانها يدمّر بعض أبرز قدرات النظام البائد العسكرية للحؤول دون استيلاء من يحلّ محلّه عليها؛ وهناك المنطقة الواسعة التي باتت هتش تسيطر عليها في الشمال والوسط، بيد أن مدى صلابة هذه السيطرة بوجه عام، وعلى الأخص مدى تحكّمها بكامل المنطقة الساحلية، بما فيها الجبل العلوي، أمرٌ مشكوك فيه للغاية؛ وثمة منطقتان على الحدود الشمالية تحت الاحتلال التركي مصحوباً بانتشار «الجيش الوطني السوري» (الذي من الأحرى تسميته «الجيش التركي السوري»)؛ ومنطقة كبيرة في الشمال الشرقي شرقي نهر الفرات تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» التي تسيطر عليها الحركة الكُردية متحالفة مع بعض العشائر العربية (التي سوف تسعى هتش لكسبها إلى جانبها، بالتأكيد) تحت حماية قوات أمريكية؛ ومنطقة واسعة في الجنوب، غربي نهر الفرات، تحت سيطرة «جيش سوريا الحرّة» المرتبط هو أيضاً بالولايات المتحدة والذي يتمحور حول قاعدة التنف الأمريكية داخل الأراضي السورية، على مقربة من الحدود مع الأردن والعراق؛ وأخيراً، المنطقة الجنوبية التي اجتمعت فيها قوات في منطقة درعا من المتمرّدة على نظام آل الأسد، ومنها من كان تحت وصاية روسية، والقوات المنبثقة من الحراك الشعبي في منطقة السويداء، وقد شكّلوا سوية «غرفة عمليات الجنوب» التي هي أكثر الفصائل العربية السورية المسلّحة التصاقاً بالحراك الشعبي الديمقراطي.
أما بعد، فأين يمكن أن تسير الأمور. الملاحظة الأولى هي أن إمكانية اتفاق جميع هذه الفصائل على الخضوع لسلطة واحدة تكاد تكون معدومة، حتى لو وضعنا جانباً الحركة الكُردية واكتفينا بالفصائل العربية. فحتى تركيا التي تربطها بهتش علاقة قديمة، والتي لولاها لما استطاعت هتش الصمود في منطقة إدلب في الشمال الغربي، لن تتخلى عن احتلالها ما دامت لم تحصل على مبغاها في ضرب الحركة الكُردية. والملاحظة الثانية هي أن الذين تمنّوا أو آمنوا بتحوّل هتش وأحمد الشرع، الملقّب بالجولاني، من السلفية الجهادية إلى الديمقراطية غير الطائفية، بدأوا يدركون أنهم توهّموا. والحقيقة أن هتش ما كانت لتستطيع الانتشار محلّ قوات النظام المنهار لولا تظاهرها بتغيير جلدها والانفتاح على مستقبل ديمقراطي لا طائفي. فلولا ذلك، لقاومتها قوى محلّية بشراسة من حمص إلى دمشق، سواء أكان الأمر تحت جناح النظام البائد أو بعد التحرّر منه. أما الآن، فإن إسراع الجولاني إلى ادّعاء تحويل «حكومة الإنقاذ» التي شكّلها في منطقة إدلب إلى الحكومة السورية الجديدة، محبطاً آمال الذين انتظروا منه الدعوة إلى حكم ائتلافي، إنما يدلّ على حقيقة كان ينبغي أن تبقى ماثلة في الأذهان، وهي أن سكّان منطقة إدلب أنفسهم تظاهروا قبل ثمانية أشهر فقط ضد استبداد هتش، مطالبين بإسقاط الجولاني وحلّ أجهزته القمعية والإفراج عن المعتقلين في زنازينه.
أخيراً وليس آخراً، فإن الفرحة بسقوط الطاغية يجب ألا تجعلنا نغفل إسراع شتى الحكومات الأوروبية إلى التوقف عن النظر في طلبات لجوء السوريين، وبداية استعداد شتى الدول، لاسيما لبنان وتركيا وبعض الدول الأوروبية، لطرد اللاجئين السوريين لديها وإرجاعهم القسري إلى سوريا بحجة انتهاء نظام آل الأسد. فإن سوريا لم تخرج بعد من محنتها التاريخية الطويلة التي بدأت قبل 54 عاماً وتفاقمت بصورة مأساوية قبل 13 عاماً، ولا زال يتوجب على كافة الدول احترام حق اللجوء الممنوح للسوريين واستمرار النظر في منحه للسوريين الذين يطالبون به.
كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي
—————————
حين يسقط النظام الدكتاتوري/ يقظان التقي
11 ديسمبر 2024
انتهى الأمر. سقط نظام بيت الأسد بعد توسّع حكم استبدادي ظالم وصارخ وعنيف تجاه الشعب السوري والمدنيين وتجاه جواره من الدول العربية. أنشأ حافظ الأسد نظاماً ديكتاتورياً على مساحات واسعة من المحيط بشعارات زائفة، ٳلى أن تحوّل ٳلى عدو للشعب السوري بعد العام 2011، بعد أن بدأت حكومة بشّار الأسد الابن في قمع الاحتجاجات الشعبية، والتمرّد على القرارات الأممية، ما أدّى ٳلى خسائر بشرية كبيرة وتراجع اقتصادي وٳنساني. رحل حقاً النظام البعثي مع كل أوراق القوة التي أمنت له البقاء على رقاب السوريين. انتهت الوظيفة التي صادر فيها القضيتين، اللبنانية والفلسطينية، وعلى مستوى أيديولوجيا المقاومة والسيادة القومية على الٳقليم ككل، وهو يمارس من خلالها ضغوطاً على العالم كحديقة خلفية لديمومة حكمه الطويل.
كان الرحيل محتوماً، وقد فوّت النظام (لم يكن التنازل يوماً عنده جزءاً من سياسة السلطة البعثية التي كانت تعرف منطقاً واحداً هو القوة) فرصة غنية بالمحاولات الدولية والعربية المتكرّرة على مدى سنوات لٳعادة تأهيله سياسياً. لم يستفد من النصائح التي قدّمت له أممياً، ولم يبادرها بخطوة واحدة أو مبادرة من شأنها ٳطلاق دينامية حل سياسي ومصالحة مع المعارضة وٳعادة اللاجئين في مقابل مساعدات اقتصادية وسياسية تساعده على ٳعادة الاندماج في النظامين الدولي والعربي. كما فوّت أخيراً فرصة المصالحة مع تركيا، وجاء انتخاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ليؤشّر ٳلى متغيّرات بالغة الأهمية في السياسات الخارجية للولايات المتحدة، لا سيّما لجهة ملاقاتها روسيا في مسألة ملف الحرب الأوكرانية. وأخفق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في إقناع الأسد بالدخول في تسوية سياسية مع مساحات واسعة في البلاد، ما جعله عرضة لمواجهة تقدّمت فيها الفصائل العسكرية المعارضة في لحظة خاطفة، لم تستغرق سوى 11 يوماً، أرغمته على ترك البلاد نهائياً.
المتمرّدون الشباب من هيئة تحرير الشام، الذين قادوا التقدّم العسكري ٳلى دمشق، يخرجون من الظل من صفوف اللاجئين وسكان المخيمات، أولئك الذين فتحوا أعينهم في عمر مبكر على الثورة السلمية الأولى في 2011، وعايشوا عجز العالم والمؤسّسات السياسية الدولية عن إطاحة سلالة أوليغارشية تسيطرعلى الدولة.
تدخل سورية في مرحلة جديدة على المستوى الداخلي ودورها الٳقليمي. مستقبل البلاد مليء بالغموض، فقد بدأت الحكومات الأجنبية تدريجياً تحويل مواردها بعيداً ٳلى تحدّيات عالمية أخرى، إلى حين البدء بتلمس ترتيبات المرحلة الانتقالية، لكن أحداً لن يأسف على بيت الأسد.
أجمع السوريون، بعد ما يقرب من 50 عاماً على تجميد خطوط الحياة وأصولها، على رغبتهم بالعيش في بلد واحد يجمع توجهاتهم وطوائفهم، بفرح ولادة سورية جديدة وديمقراطية. العلامات المبكرة إيجابية نسبياً مع عدم وجود ضغط على المجتمع السوري. قد يكون أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) مجرد رجل عادي، غير أنه رجل ذكي وطموح للغاية في تمحور اللحظة المناسبة البراغماتية لانشغال حلفاء النظام من حزب الله وإيران وروسيا بصراعات أخرى. وقد تمتد هذه البراغماتية إلى أسلوب الحكم، وينظر إليه أنه من منظّمة عسكرية محافظة تفتقر إلى الديمقراطية. لكن حركته أوفت بوعودها بالتسامح الديني في المناطق التي سيطرت عليها سابقاً في محافظة ٳدلب، وهي تدير الشؤون المدنية في شراكات مع المجموعات الأخرى وبطابع تكنوقراطي من إدارات ووزارات. كما عملت مع الأمم المتحدة في تشكيل خطوط اتصال مع الحكومات الغربية.
يقال ٳن الجولاني كان يفكر في حل “هيئة تحرير الشام”، ليتمكن من الدمج الكامل للهيكلية المدنية والعسكرية في مؤسّسات جديدة تعكس اتساع الفكرة السورية. لكن هناك مخاوف من أن يواجه كادر قيادة الجولاني انشقاقاً واقتتالاً داخلياً، ولا يعرف حينها كيف ستتحرك الأمور، خاصة أن التنظيم يرتبط بشخصٍ واحد، نجح في بناء “جيش محترف” مع معدّات وأجهزة أفضل من معدّات الجيش السوري، وتعلم دروساً كثيرة من خسائره في الحرب الأهلية السورية. وهو اليوم نموذج القائد الكاريزمي. كأنه من عصر فولوديمير زيلينسكي الذي يرتدي زيأً عسكرياً بسيطاً منذ الغزو الروسي في فبراير/شباط 2022.
مرحلة ٳنتقالية في سورية تثير واقعياً تساؤلاتٍ بشأن قدرة الجولاني والدول المعنية بالملف السوري، لا سيما روسيا وتركيا (الرئيس المنتخب دونالد ترامب ليس بصدد أن تتدخل بلاده في صراع داخلي في دولة “غير صديقة لأميركا”) في وقف انتشار الفوضى ٳذا حصلت، وأن لا تكون المرحلة الجديدة أكثر تكلفة، فتصبح الانقلابات مادة ٳعلانية لا تهم الناس. أي سلطة يجب أن تكون وثيقة الصلة بعنوان الشعب، وحينما يكون هناك تفاوتٌ بين السياسات ومعتقدات الناس، سيوجد الفراغ الذي سيُحدث الاضطرابات في مناطق ذات طابع أيديولوجي وديني محلّي.
يقدّم التاريح سبباً كافياً لمثل هذه الشكوك حول اختلافات تميز بين اتجاهاتٍ لا تختزلها حركة عسكرية خاطفة في مجتمع له تاريخه السياسي الأكثر اضطراباً. لكن الفرصة قد تكون مختلفة مع تراكم الشروط الموضوعية للانصهارالوطني. حجج كثيرة تدعم الاعتقاد بأن الأولوية الرئيسية ستكون للناس وبقوة الفوائد التي يقدّمها تحقيق المتطلبات الدنيا لتحقيق تقدّم اجتماعي، تنموي، ديمقراطي. وما يمتد إلى مرحلة سياسية مستقرّة من خلال قراءة الواقع والكفاءة في تحليل ما يحدُث من صراعات في المنطقة، ومن تفكّك الدولة نتيجة المسارات العسكرية والنزاعات البينيّة، لذلك أهمية التعجيل في الحل السياسي.
يجب ألا يعطى السوريون تأثيرات مضللة. كل ما جرى من تحرير للمعتقلين والمعتقلات خطوة إيجابية جداً، وهي علامة لمرحلة سياسية لا تخطئها عين. هذا لا يعني أن سورية تسير بالطريق الصحيح في مسارٍ يبني الدولة والأمن والسلام المستدام. وهذا لا يتم عبر فصائل عسكرية وبمكونات مذهبية، إنما في إطار الدولة ومؤسّساتها في مسار سياسي/دستوري يؤسّس لسورية حديثة وبناء تشريعات داخلية واقليمية، وبالضغط للتفاوض على اتفاق سلام بشروط موضوعية للانصهار. أي تفادي نماذج التدهور الإنساني مع وجود عوامل اجتماعية واقتصادية كامنة، من شأنها أن تشكّل الأرضية المشتركة لموجة صدامية جديدة ضد الحكم المطلق في مسار عسكري غير مضمون النتائج في حالة الصراعات العسكرية والتشرذم على خلفيات قومية أو مذهبية، تضاف إلى الثورات العربية المجهضة.
فشل فلاديمير بوتين في دعم بشّار الأسد، وسيحاول التكيّف مع الوضع الحالي بدل الانسحاب المحرج لطموحات روسيا الجيوسياسية في البحر المتوسط وأفريقيا، وعبر التفاوض مع الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي سيستفيد من توسع نفوذه الإقليمي، من خلال دور وسيط القوة الرئيسي الآن في سورية.
كان سقوط الأسد نتيجة مباشرة لكل من حرب أوكرانيا وغزّة، ولتاريخ 7 أكتوبر (2023) الذي غيّر المعادلة الإقليمية والعالم، واميركا تخاطر من أجل اخراج إيران من سورية (أبرز نتائج معركة اسقاط النظام الإقليمي الذي بنته من خلال”الهلال الشيعي”، أو”محور الممانعة”)، وتسليمها للإسلام السياسي وأردوغان، أو الفوضى التي قد يرى فيها بنيامين نتنياهو فرصة لتوجيه ضربة إلى إيران، وإسرائيل أخذت كل الاحتياطات لمواجهة اي تهديد ضدها.
العربي الجديد
————————-
سورية… القادم الأصعب/ عثمان لحياني
11 ديسمبر 2024
الأصعب هو ما ينتظر سورية، ذلك أن إسقاط الأنظمة الغاشمة، على صعوبته بمكان، هو أقل تعقيداً من صعوبات إعادة بناء الدولة والمؤسسات، وضمان انتقال السلطة وإقامة المؤسسات الديمقراطية، وإعادة بناء المؤسسة الأمنية والعسكرية، وتركيز العدالة الانتقالية ومحاسبة رموز النظام الفاشي السابق. والحقيقة أن سورية لا تواجه صعوبات تقليدية في هذا السياق فحسب، ولكنها في الأساس، ذات وضع معقد على أكثر من صعيد، بتركيبة إثنية وعرقية ودينية، مثلما هي ثراء للنسيج المجتمعي، قد تتحول إلى عامل تفكيك واحتكاك وقلاقل معرقلة، إذا برزت الطموحات الإثنية والمناطقية بشكل أو بآخر، وبانتشار السلاح وتركيبة من الفصائل المسلحة التي لا تعد ولا تحصى، وبوضع اقتصادي واجتماعي صعب فضلاً عن ملف إعادة الإعمار، والمهجرين والنازحين وتسيير عودتهم، وسط تركة ثقيلة من الخراب السياسي والمؤسساتي، وجبال من الآلام والمآسي خلّفها النظام السابق والتي تستدعي المعالجة.
تلك مشكلات الداخل التي يمكن العمل على تفكيكها وتجاوزها بكثير من الحكمة وكثير من التنازلات المجتمعية والسياسية للصالح العام، وهذه المسائل وغيرها كثير، تضع السلطة الانتقالية في سورية أمام خيارات وحسابات داخلية وخارجية بالغة الصعوبة، خصوصاً أن المرحلة الانتقالية سيبرز فيها الدسم الأيديولوجي للمكونات السياسية في وقت لاحق من تشكلات المشهد السوري، ذلك أن سقوط نظام الأسد لا يمحو الفواصل بين المرجعيات المختلفة، تحت عناوين الانتقال الديمقراطي والحريات، بقدر ما يجعلها أكثر اتساعا.
الخطوات والتدابير الميدانية التي اتخذتها السلطة السياسية الجديدة في دمشق مطمئنة، وفيها حرص كبير على استمرارية الدولة والمؤسسات واحترام الحريات العامة، لكن لا أحد يدرك حدود المشروع السياسي الذي تحمله المعارضة التي تحكم الوضع الانتقالي في دمشق، وهي لم تعلن حتى الآن عن أي عناوين أو محتوى سياسي، مع أنه ضرورة. ويمكن فهم ذلك على أساس إيجابي، بأن السلطة السياسية الجديدة ليست لديها نية لفرض مشروع سياسي منفرد قبل فتح حوار لا يقصي أي طرف سوري، أو أنها لدواع تكتيكية لا تريد وضع نفسها في امتحان المواقف إزاء الأطراف الإقليمية المتدخلة في الشأن السوري.
يقود إلى ذلك الحديث عن المأزق كلّه في سورية، والمأزق كلّه هنا يحضر في الفاعل الدولي، وفي الجغرافيا المعقدة والمتداخلة لهذا البلد، بحيث إن لكل طرف إقليمي، تركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة وإسرائيل، حسابات ومصالح تفرض التدخل في الحالة السورية، وهي مصالح متوافقة أحياناً بين نفس الأطراف ومتصادمة أحياناً أخرى. تركيا تطمح في حزام أمني وفي نصيب مهم من إعادة الإعمار، ولموسكو مصلحة في الموانئ والممرات البحرية، ولواشنطن مصالحها نحو محاصرة إيران وقطع خط الإمدادات إلى حزب الله في لبنان. وبقدر ما تتصادم المصالح، سينعكس ذلك على الوضع السوري، ثم يأتي الطاعون المتمدد في المنطقة، إسرائيل، التي تعيش حالة “خلا لك الجو فبيضي وافرخي”، والتي لن تهدأ حتى خلو أي تهديد لها مستقبلاً انطلاقاً من سورية.
صحيح أن سورية لا تبدأ من نقطة الصفر، ولكنها تبدأ من حيث انتهت تجارب عربية حديثة فاشلة في الانتقال الديمقراطي، في مصر وتونس واليمن وليبيا والعراق، وهذا أكثر ما يشغل بال الشارع العربي الذي لا يبدو مطمئناً في جزء منه، وإلى أن يحدث ما يثبت خلاف ذلك، إلى الحالة السورية بوضعها الجديد، لكنه وضع لن يكون حتى في ذروة تعقيداته، أسوأ من وضع سورية تحت نظام المسالخ البشرية.
العربي الجديد
——————–
طبيعة الثورة وشروط التغيير السياسي في سوريا/ إبراهيم نوار
11 كانون الأول 2024
وسقط نظام حكم عائلة الأسد، أقدم الأنظمة الاستبدادية في العالم (54 عاما). ويخبرنا سقوطه السريع أن الأنظمة الاستبدادية تبقى هشة وضعيفة مهما استعانت بحماية قوى أجنبية، وأنها مهما طال بقاؤها فإنها تسقط مجللة بعار الخيانة. هرب الأسد من سوريا، لأنه لا مكان له فيها بين شعبها. وتخلى عنه أقرب حلفائه، لأنه أصبح عالة عليهم بلا فائدة، خصوصا أن روسيا وإيران، لديهما ما هو أهم من حمايته.
سقوط نظام الأسد يجب أن يفسح مكانا لنظام يلبي طموحات الشعب السوري، ويعوضه عن معاناة وتضحيات قدمها في كفاحه ضد الديكتاتورية، لمدة تزيد على نصف قرن من الزمان. ما بنته الديكتاتورية في 54 عاما سقط في عشرة أيام، كقشة تذروها الرياح، لكن الحساب مع بشار حافظ الأسد لم ينته بعد، بل إنه بالكاد بدأ. الأنباء التي تتردد في دمشق بشأن سرقة بشار لخزائن ذهب ودولارات من البنك المركزي السوري يجب تدقيقها، وتوثيقها، وطلب إعادتها لأنها ملك للشعب السوري. كما أن ضحايا هذا النظام يجب عليهم مطاردته بدعاوى عن طريق حكومة سوريا الجديدة لدى المحكمة الجنائية الدولية. يجب أن لا يكون للديكتاتور ملاذ آمن في أي مكان في العالم، يختبئ فيه من العدالة، لا في روسيا ولا في الإمارات، ولا في غيرها من البلدان المقهورة بحكم الطغاة المستبدين.
على مدار تاريخ الشرق الأوسط ما حدث في سوريا لم يبق في سوريا، وإنما تجاوزت أصداؤه حدودها إلى ما وراء الشام شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. وبسقوط الأسد فإن حقبة طويلة من تاريخ الشرق الأوسط سقطت أيضا، وسوف تحمل الرياح السياسية أصداء هذا السقوط إلى الدول العربية المجاورة، وقد تتمكن المنطقة من أن تتنفس ربيعا سياسيا جديدا، أكثر نضجا من الربيع السابق، وأقوى سلاحا، وأشد عزيمة، وأصْوَب اتجاها. لقد كان للربيع السابق أخطاؤه، لكن الشعوب تتعلم، وقد تكون تكلفة دروس الماضي باهظة، لكنها لا تروح هباء. وإذا كنا نؤمن بقوة الشعوب وإرادتها، فإننا يجب أن نسلم بأن شعوب المنطقة العربية التي تحلم بالديمقراطية والعدالة والتنمية لن تذهب عنها أحلامها، وأن الشعب الفلسطيني الذي يحلم بدولته المستقلة ذات السيادة الكاملة لن يتنازل عن حلمه، وأن المستقبل هو للشعوب، وليس للطغاة أو المحتلين المتوحشين.
طبيعة الثورة
الآن وقد هرب الأسد، يجد السوريون أنفسهم أمام فضاء جديد، ربما يخجل منه البعض أو يخشاه، أو يشد به البعض عزيمته لاقتحامه بجرأة، لكننا يجب أن نعلم أن الشعوب في مثل هذه اللحظات تكون هي من يصنع التاريخ. سوريا الآن في ثورة لا تتحدد طبيعتها بالشعارات التي تُطْلَق هنا أو هناك، ولا بطبيعة من قاموا بها، أو ما نعتقد إنها طبيعتهم، وإنما تتحدد طبيعة الثورة بما تحققه فعلا على الأرض من تغييرات، فهذا هو الدليل الحق على طبيعة الثورة ومآلاتها المتوقعة. وتواجه الثورة السورية مباشرة ثلاثة اختبارات أولية جوهرية:
الاختبار الأول، منع حدوث فوضى في البلاد. وتنشأ الفوضى من وجود الفراغ. وقد أحسنت قيادة الثورة السورية بوضع ترتيبات مؤقتة لإدارة مؤسسات الدولة وشؤونها، حتى لا ينشأ فراغ يقود إلى الفوضى. كما وجهت جنود الثورة بالتوقف عن بعض السلوكيات الضارة، مثل الإفراط في إطلاق النار في الهواء، تمهيدا لوضع ترتيبات عملية خلاقة لإحلال الهدوء والاستقرار، الذي يسمح بالانتقال الهادئ للإدارة والسلطة السياسية في البلاد على أساس صلب يكتسب مصداقية لدى المواطنين، ويفتح الأبواب للتفاعل معهم.
الاختبار الثاني، الذي تواجهه الثورة هو منع أي محاولة، تحت أي مبرر لتقسيم سوريا إلى دويلات طائفية أو قومية. تقسيم سوريا يمكن أن يغذيه شيوع الفوضى، وشيوع خطاب سياسي قومي أو مذهبي متطرف. هناك مشاريع يتم ترويجها عن إقامة دويلات سنية وعلوية وتركمانية وكردية ودرزية، من الضروري قطع الطريق عليها بحكمة مع تجنب حدوث اقتتال داخلي بين قوى الثورة.
أما الاختبار الثالث، فإنه منع احتلال أي أراض سورية بواسطة أية قوة. وتواجه الثورة السورية منذ يومها الأول تهديدا إسرائيليا بعد أن احتلت قواتها منطقة جبل الشيخ. لقد كانت إسرائيل تريد الإبقاء على الأسد ضعيفا أشد ما يكون الضعف، وأن تدير علاقاتها مع سوريا على هذا الأساس. لكن الانتصار السريع والساحق لقوات الثورة وهروب الأسد من جحره كان السيناريو الذي لم تتوقعه. ومن ثم فإنها بادرت بتعزيز قواتها في الجولان، وسيطرت على منطقة جبل الشيخ أو (جبل حرمون)، من أجل تأسيس حالة صراع مبكرة مع الثورة السورية. وليس من المتوقع أن تنجر الثورة إلى مواجهات عسكرية مبكرة مع إسرائيل، قبل تثبيت أقدامها، لكنها يجب أن تعلم أن دمشق ليست بعيدة عن غزة.
إن حرب الشرق الأوسط التي بدأت في أكتوبر 2023 لم تنته بعد. الحرب لم تنته بعد في غزة، ولم تنته بعد في لبنان، لكن ما يحدث في سوريا بعد سقوط الأسد سيرسم ملامح وطبيعة مسار الصراع الإقليمي لفترة طويلة مقبلة، ربما تُعَدّ بالعقود وليس بالسنين.
وبعد الاختبارات الثلاثة الرئيسية التي تحدد طبيعة الثورة السورية، فإن هناك ثلاثة أسئلة رئيسية تطرح نفسها بقوة سعيا للحصول على إجابات قاطعة. السؤال الأول يتعلق بشروط التغيير السياسي الصحي في سوريا. والثاني عن علاقة انتصار الثورة السورية بمحور المقاومة. والثالث عن تأثير انتصار الثورة السورية على التوازن السياسي في الشرق الأوسط. وسوف نحاول في هذا المقال الإجابة عن السؤال الأول.
شروط إعادة البناء
الثورة الحقيقية لا تقتصر على إسقاط رأس النظام، ولا حتى إسقاط النظام السياسي الاستبدادي، وإنما الثورة هي عملية تغيير شاملة لإقامة نظام سياسي ديمقراطي يحقق للمواطنين حرية الاختيار، والمشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويخلصهم من كل أشكال الحرمان وانعدام المساواة، أي خطأ في عملية التغيير السياسي وإعادة البناء تكون له تكلفة باهظة. وفي الحالة السورية فإن هذه التكلفة قد تعني تقسيم البلاد إلى دويلات هزيلة تعمل كل منها لمصلحة طرف خارجي، وهو ما يتناقض مع الغرض من الثورة. ويجب إقامة النظام السياسي الجديد على أساس تعاقدي متوازن يمنح المواطنين حق مساءلة الحاكم ومؤسسات الحكم، وبناء مؤسسات على أساس الكفاءة والشفافية، وإقامة مؤسسات للرقابة والمساءلة مستقلة في قراراتها. وليس هناك أبدا ما يحول دون إقامة مؤسسات عصرية على أسس إسلامية إذا كنا نؤمن بأن الإسلام هو دين التسامح والمساواة والحرية والعدل والعمل، بلا تمييز أو تحيز، وأن مبادئه الدنيوية التي نفهمها قابلة للتجديد، وفقا للقيم الإنسانية العظمى. إن غياب مثل هذا النظام يؤدي بالضرورة إلى تراكم آثار العلاقات غير الصحية بين الدولة والمجتمع المدني، وتفاعلها في إناء مغلق، تحت غطاء ثقيل ومعتم، ما يؤدي بعد فترات طالت، أو قصرت إلى حدوث انفجارات تعبر عن نفسها سياسيا واجتماعيا في أشكال مدمرة.
السيادة ووحدة الأراضي
من أهم مستلزمات تحقيق الاستقرار: إقامة سلطة انتقالية مؤقتة تكون مهمتها السيطرة الكاملة على الحدود، وإقامة نظام فعال للأمن الداخلي وتطبيق القانون، وإدارة أجهزة الدولة ومؤسسات البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية، تجسد في أدائها نوعا جديدا من الحكم غير الذي اعتاده السوريون لأجيال سبقت. هذا مهم جدا حتى تستطيع الإدارة الانتقالية كسب ثقة المواطنين، والشعور بأن اليوم التالي لسقوط نظام الأسد يحمل معاني جديدة للحياة والحكم، تبشر بمستقبل أفضل. ولا شك أن تجربة الحكم التي خاضتها (هيئة تحرير الشام) في إدلب، و(قوات سورية الديمقراطية) في دير الزور، و(الجيش الوطني السوري) في مناطق شمال سوريا، و(جيش سورية الحر) في الجنوب، وغيرها في المناطق التي بقيت فيها قوات الثورة خلال السنوات العشر الماضية، تتيح لها جميعا رصيدا ثمينا من الخبرات في الإدارة والتعامل مع المواطنين وعملية اتخاذ القرارات وأساليب إدارة العلاقات بين المراكز الإدارية المختلفة. التقارير المتداولة عن تجربة (هيئة تحرير الشام)، وهي بلا شك كبرى قوات الثورة السورية، تفيد بأن طريقة الحكم في إدلب تحتاج إلى دراسة دقيقة، حتى يتم تطويرها عند التطبيق على كل الأراضي السورية، بما في ذلك تلك التي يغلب عليها السنة، أو الأكراد، أو العلويون، أو التركمان أو الدروز. إن سوريا ليست أفغانستان، ومن ثم فإن (هيئة تحرير الشام) يجب ألا تكون نسخة من (طالبان)؛ فكل بلد له خصوصيته. إن كل ما يحدث في اليوم التالي للثورة سيترك بصمته بسرعة على لبنان وفلسطين والأردن والعراق، وما وراءها جميعا.
كاتب مصري
القدس العربي
—————————
مصير مجهول للمعتقلين السياسيين في سجون الأسد… 100 ألف مفقود/ عدنان أحمد
11 ديسمبر 2024
تشكل قضية المعتقلين في سجون النظام السوري أحد أبرز جوانب معاناة السوريين طيلة حكم عائلة الأسد منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، بعدما تحولت سجون الأسد والأجهزة الأمنية التي تقوم بعمليات الاعتقال، إلى مصدر رعب لدى عموم المواطنين، والذين شاع بينهم منذ سنوات مقولة “الداخل إلى تلك السجون مفقود، والخارج مولود”.
وتشرح المشاهد التي تُلتقط للمفرج عنهم من تلك السجون، والذين قضى بعضهم سنوات طويلة داخل أقبيتها، حجم المعاناة التي عاشوها، فيما يسود اعتقاد لدى الأهالي ممن لم يعثروا على أبنائهم بين المفرج عنهم، أن هناك سجون سرّية لم يصلوا إليها بعد. وأعلن الدفاع المدني السوري، مساء أول من أمس الاثنين، انتهاء عمليات البحث في سجن صيدنايا من دون العثور على معتقلين جدد. وتميل المنظمات الحقوقية إلى الاعتقاد بأنه جرى بالفعل إطلاق كل المعتقلين الأحياء، أما من لم يعثر عليهم في سجون الأسد بعد، فالأرجح أنه تمّت تصفيتهم داخل تلك المعتقلات. كما لم تظهر أي معلومات موثوقة بشأن مصير العديد من السجناء السياسيين المعروفين، والذين من المعتقد أن بعضهم توفي في السجن.
وكانت مجموعات محلية بمشاركة الأهالي، اقتحمت فجر الأحد الماضي، سجن صيدنايا، حيث جرى إطلاق سراح آلاف المعتقلين والأسرى من داخله، وسط أنباء تفيد بوجود عدد كبير من المعتقلين ما زالوا عالقين في الأقبية السرّية، نتيجة عدم تمكن المقتحمين من فتح الأبواب المؤدية إلى الطوابق السفلية. غير أن دياب سرّية، المسؤول في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، أكد عدم وجود أي معتقل داخل أسوار سجن صيدنايا حالياً.
وقال سرّية في حديث لـ”العربي الجديد”، إن الأقسام المخفية تحت الأرض التي يُشار إليها، هي نفسها أقسام المنفردات (السجن الانفرادي)، وهي موجودة في طابق واحد تحت الأرض، وليس ثلاثة طوابق، وقد جرى إطلاق سراح جميع المعتقلين من هذه الأقسام وعددهم نحو 250 معتقلاً.
احتفالات بسقوط بشار الأسد في دمشق، 8 ديسمبر 2024 (الأناضول)
كما نفى سرّية في تسجيل صوتي ما يجري تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول وجود أبواب سرّية مقفلة أو طوابق مخفية لم يجر الوصول إليها بعد. وأكد أنه لم يبق معتقلون داخل السجن، موضحاً أن الرابطة لا تملك حتى الآن قوائم بأسماء المعتقلين، ما يبرر عدم تلقي العديد من الأهالي الذين يتواصلون مع الرابطة أي رد حول مصير ذويهم.
من جهته، قال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، لـ”العربي الجديد”، إنه يوجد في الموقع رسم بياني لعدد المعتقلين والمختفين، وعدد المعتقلين الموثقين لدى الشبكة في عموم سورية هو حوالي 152 ألفاً، منهم 130 ألف معتقل في سجون الأسد. وأوضح أن عدد المعتقلين المفرج عنهم خلال اليومين الماضيين، بلغ 30 ألفاً، لكن المختفين وعددهم 100 ألف لم نعثر عليهم، وربما يكون معظمهم قد قُتل تحت التعذيب. ورأى المحامي فضل عبد الغني، أن أحداً لا يستطيع الجزم بمصير من لم يُحرر من سجون الأسد خلال اليومين الماضيين، وهؤلاء إما توفوا تحت التعذيب، أو جرى نقلهم إلى أماكن احتجاز أخرى غير معروفة حتى الآن.
وأضاف عبد الغني: “لقد أوصينا إدارة المعارضة بتجنب الإفراج العشوائي عن معتقلين من دون مراجعة دقيقة لملفاتهم، لأن ذلك قد ينجم عنه إطلاق سراح أفراد متورطين في ارتكاب جرائم، مما يُلحق ضرراً إضافياً بالضحايا وأسرهم. كما قد تُفسّر قرارات كهذه على أنها دليل على غياب الجدية في تحقيق العدالة، ما يؤدي إلى زعزعة ثقة المجتمع بالقضاء وتعزيز شعور عام بعدم الأمان”.
وشدّد عبد الغني على أنه من الضروري أيضاً ضمان الإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين احتجزهم النظام السوري تعسفياً وتعرضوا للتعذيب الوحشي، لكن الإفراج غير المنظم قد يُستغل من قبل بعض الأطراف لتبرير إطلاق سراح مرتكبي الجرائم، ما يضر بملف المعتقلين السياسيين ويضعف مصداقية المطالبات الحقوقية. وحثّ على اتباع آليات واضحة ومدروسة في عمليات الإفراج، تقوم على دراسة ملفات المعتقلين في سجون الأسد بدقة، لضمان التمييز بين المعتقلين السياسيين والمجرمين المتورطين في أعمال تهدد الأمن المجتمعي، وذلك تحت إشراف حقوقي مستقل، عبر تكليف منظمات حقوقية مستقلة بالإشراف على عمليات الإفراج لضمان تحقيق العدالة. كما تحدث عن ضرورة إشراك الضحايا أو ممثليهم في اتخاذ القرارات المتعلقة بالإفراج عن مرتكبي الجرائم الكبرى، لضمان احترام حقوقهم.
السجناء السياسيون.. معظمهم لا يُعرف مصيرهم
وعلى غرار عشرات آلاف السجناء الآخرين، لم يتضح مصير السجناء السياسيين المعتقلين لدى نظام الأسد، وفي مقدمتهم عبد العزيز الخير وخليل معتوق ورجاء الناصر.
ومن الشخصيات المعروفة التي أطلق سراحها من سجون الأسد بعد سقوط النظام، هي الناشطة طلّ الملوحي، وهي من مواليد 1991 بمدينة حمص، واشتهرت بتعليقاتها التي نشرتها على مدونتها، وتناولت مواضيع سياسية واجتماعية، وبسببها اعتقلها النظام السوري وهي لم تتجاوز بعد الـ18 من عمرها عام 2009، ووجهت إليها السلطات آنذاك تهم تتعلق بالتجسس والتعامل مع جهات خارجية، وهو ما نفته عائلتها بشدة. وحكم على طل في 14 فبراير/شباط 2011 بالسجن مدة خمس سنوات، بتهمة إفشاء معلومات لدولة أجنبية. وكانت الملوحي تنشر عبر مدونتها مطالبة الرئيس المخلوع بشار الأسد بالإسراع في التحول الديمقراطي في البلاد ومكافحة الفساد. وتداولت منصات التواصل خبر تحرير طل الملوحي من قسم النساء في سجن عدرا بعد دخول قوات المعارضة إلى دمشق، بعد أن أمضت نحو 14 عاماً من عمرها في المعتقل.
وإضافة إلى الملوحي، جرى أيضاً تحرير رغيد الططري، الذي يعد من أقدم السجناء السياسيين في سورية والعالم، بعد 43 عاماً من الاعتقال. اعتقل الططري عام 1981، عندما كان يبلغ من العمر 27 عاماً، حين رفض الامتثال لأوامر عسكرية بقصف مواقع في مدينة حماة خلال الاحتجاجات التي شهدتها المدينة آنذاك، ليُعتقل على إثر هذا الموقف، إذ جرى احتجازه في ظروف قاسية، وقضى سنتين في زنزانة انفرادية في سجن المزة، قبل أن يُنقل إلى سجن تدمر سيئ السمعة، حيث بقي حتى عام 2000. ثم نُقل إلى سجن صيدنايا، وفي عام 2011 إلى سجن عدرا المركزي في دمشق.
أما الشخصيات الأخرى التي لم يعرف مصيرها بعد، ربما أبرزهم عبد العزيز الخيّر، القيادي في حزب العمل الشيوعي، وعضو هيئة التنسيق الوطنية المعارضة التي كانت تعمل من داخل سورية. وبدأ عبد العزيز الخير نشاطه السياسي في حزب العمل الشيوعي وكان قيادياً بارزاً فيه، حتى انتخب عضواً في اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب في أغسطس/آب 1981. ترأس تحرير صحيفة النداء الشعبي، واعتقله النظام السوري في فبراير/شباط 1992 بسبب انتمائه لحزب العمل الشيوعي ليظل معتقلاً في سجن صيدنايا حتى عام 2005، حين أفرج النظام عنه بموجب عفو رئاسي. لكن الخيّر عاد إلى نشاطه السياسي عقب خروجه وانضم إلى تحالف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، وانتخب نائباً لرئيس الإعلان لينسحب منه لاحقاً.
وبعد انطلاق الثورة السورية، شارك الخيّر في تأسيس هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي، وتولى منصب رئيس مكتب الشؤون الخارجية فيها. في 20 سبتمبر/أيلول 2012 اعتُقل مع زميليه إياس عياش وماهر طحان من قبل النظام السوري عقب عودته من زيارة للصين كانوا يمثلون هيئة التنسيق خلالها. وقد نفى حينها النظام اعتقال أي منهم، زاعماً أن الخيّر اختُطف على أيدي “جماعة إرهابية”، ولا يزال مصيره مجهولاً حتى اليوم. وقد تداول ناشطون أن الخيّر أطلق سراحه فعلاً، بينما نفى آخرون ذلك، ولم يُؤكد الأمر حتى الآن.
ومن الشخصيات السياسية المعروفة أيضاً المحامي خليل معتوق، الذي اعتقل في أكتوبر/ تشرين الأول 2012، أثناء توجهه في سيارته إلى عمله من منزله في صحنايا، إحدى ضواحي العاصمة دمشق. واشتهر معتوق في الداخل السوري بنشاطه الكبير في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وعن العديد من السجناء السياسيين السوريين. وفي عام 2004 عمل معتوق مراقباً في منظمة العفو الدولية في إيران. وكان معتوق رئيساً للمركز السوري للدفاعِ عن سجناء الرأي، كما عمل مديراً للمركزِ السوري للدراسات والبحوث القانونية، ما سبّب له مشكلات مع سلطات النظام السوري.
ومن السياسيين المغيبين في سجون الأسد أيضاً، الكاتب والناشط الكردي حسين عيسو، الذي لم يتضح مصيره بعد إطلاق سراح المعتقلين في سجون النظام. اعتقل عيسو في سبتمبر/أيلول 2011 بعد خروجه في تظاهرة ضد النظام السوري، كان نظّمها مع عدد من أصدقائه وشارك فيها نحو ألفي شخص من مواطني الحسكة، شمال شرقي سورية.
ووفق تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، فإن عيسو نقل إلى فرع المخابرات الجوية في حي المزة بدمشق في ديسمبر/كانون الأول 2012. ونقلت المنظمة عن شخص كان برفقته في السجن، أنه حين رآه في ذلك الوقت كان نصفه السفلي مشلولاً نتيجة تلف عصبي شوكي، لم يكن مصاباً به من قبل. وعيسو من مواليد عام 1950، ويتحدر من مدينة الدرباسية في الحسكة، وكان في الـ65 من عمره عند اعتقاله، ويعاني من أمراض مزمنة وضعف في النظر.
وهناك أيضا رجاء الناصر، وهو حقوقي وسياسي قومي ناصري معارض، وأمين سر اللجنة المركزية في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وأمين سر هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي. شارك الناصر بعد اندلاع الثورة السورية، في تشكيل هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، وكان أميناً للسر. وساهم من خلال موقعه في عقد المؤتمر الوطني لإنقاذ سورية في 24 سبتمبر 2012. اعتقلته قوات النظام في مدينة دمشق في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 وما زال مصيره مجهولاً حتى الآن.
ومن الشخصيات أيضاً، سكرتير تحرير جريدة قاسيون سابقاً، جهاد محمد، وهو من مواليد عام 1968 في منطقة القلمون لعائلة يسارية. ومنذ مارس/آذار 2011، نشر جهاد عدداً من المقالات التي تناصر المطالب الإصلاحية للثورة السورية، وانتقد فيها قمع قوات الأمن السورية العنيف للمحتجين السلميين. وفي 10 أغسطس 2013 اعتقلته قوات الأمن بالقرب من شارع الثورة وسط دمشق، وتبيّن في ما بعد وجوده في الفرع 215 وشعبة المخابرات العسكرية.
سجون الأسد السرّية
وأكد العديد من الناشطين والمعتقلين السابقين وجود سجون ومعتقلات سرّية لم يتم الوصول إليها حتى الآن، فيما تعهدت إدارة العمليات العسكرية التي أدارت معركة الفصائل بتأمين وحماية كل من يبلغ عن السجون السرية، فضلا عن تقديم “مكافأة مجزية له”.
وكتب الناشط والمعتقل السابق رأفت الحلح، في منشور على “فيسبوك”، أنه يوجد سجن كبير في كفرسوسة تحت مبنى إدارة أمن الدولة، يمتد من أول مفرق البرامكة وصولاً إلى طريق المتحلق الجنوبي، وفي داخله آلاف المعتقلين، إضافة إلى سجن في باب مصلى تحت البحرة يتم الدخول إليه من مبنى الأمن الجنائي، ويمتد من أسفل مبنى الفرع وتحت ساحة باب مصلى وأسفل المسجد الذي عند الدوار، وفيه 14 معتقلاً سياسياً من أهم المعتقلين. كما يوجد سجن في مبنى الأيتام المواجه لإدارة أمن الدولة، وفيه نساء فقط، إضافة إلى سجن كبير بالقرب من كراج السومرية (دمشق) داخل مكتب أمن الفرقة الرابعة، فيه أكثر من 1700 معتقل وبينهم نساء وأطفال. وهناك سجن في الصبورة (ريف دمشق) داخل اللواء 41 من الفرقة الرابعة فيه 900 معتقل، وسجن عند دخول مطار المزة العسكري تحت المباني الإدارية وفيه ما يقارب ألفي معتقل.
وبهدف عدم الإطلاق العشوائي للمعتقلين في سجون الأسد من دون تسجيل بيانات المفرج عنهم، أو التدقيق في هوياتهم، عمل ناشطون على إنشاء منصة بوصلة لخدمة لمّ شمل الأسرى المفرج عنهم حديثاً مع عائلاتهم، تقوم على إدخال بيانات الأسرى المفرج عنهم حديثاً، لتسهيل البحث عنهم والتواصل معهم.
العربي الجديد
———————–
أصبح عندي الآن هُويَّة/ مضر رياض الدبس
11 ديسمبر 2024
منذ كنت طفلاً في المدرسة وأنا ألبس لباساً عسكريّاً بعثيّاً، وأُرددُ شعاراً يتضمَّن بيعةً إلى الأبد، وأَتعهَدُ في كلِّ يومٍ أن أتصدّى للإمبريالية والرجعية التي لم أكن أعرف معناهما، وأن أسحق أداتها المجرمة، وأؤمن بخلود رسالتنا التي لا أعرفها… منذ ولدتُ وأنا من دون هويةٍ وطنية، وهذا حال الجيل السوري الذي وُلِدَ بعد مطلع سبعينيات القرن الماضي: كنّا جيلاً عارياً (إذا استثنيتَ أرديتنا البيولوجية). جيلُ تربيةٍ عسكرية، وإعدادٍ عقائدي، وصمودٍ، وتصدٍّ، وغربةٍ في الوطن، وخارج الوطن. في 2011، ولأول مرّة بدأنا نشعر أننا متمدّنون، أو قبل المدينية. بدأنا نشعر بأننا بشرٌ من حقّهم أن يربوا الأمل، ويحموه ممّا يخذله؛ يعتقد كثيرون من غير السوريين أننا لبسنا البدلة العسكرية في 2011، ولكننا في الحقيقة لم نفعل شيئاً إلا أننا رفضنا أن نرتديها ثانيةً. نحن حاربنا النظام مدنيين، حاربناه باسم المدنيّة ضد الهمجية، وباسم الإنسانية ضد الشر وتفاهة الشر، وخلّصنَا العالمَ من واحدٍ من أقذر شروره المعاصرة.
ليعذرني نزار قباني، الشاعر الدمشقي الجميل، الذي قال “أصبح عندي الآن بندقية”، فنحن أصبح عندنا الآن هُويَّة وطنية أسمى وأقوى وأثبت من بنادق الأرض كلها، هويَّةٌ توَّاقةٌ إلى الحياة، فخورةٌ، مُحِبَّةٌ، طيِّبة، مَجبورةُ الخاطر. وفي هذه اللحظات التاريخية السعيدة المُباركة، نحن عدنا بحقٍ إلى الإنسانية، صرنا لأول مرةٍ ذواتًا حرةً مستقلة. نحن نطوي صفحة امتدت منذ 1963 مروراً بعام 1970، ومجازر ثمانينيات القرن الماضي، وسجون التسعينيات وقتامة الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، وصولاً إلى كارثة استلام الابن “الأهبل” السلطة، ثم ما تعجز اللغة عن توصيفه من حقدٍ وهمجية وتشريدٍ وقتلٍ وتعذيب بعد 2011. بعد هذا كله، وفي الثامن من ديسمبر/ كانون الأول/ 2024 أصبح لدينا هوية. ولا يميل المرء كثيراً إلى الكلام في هذه اللحظات الأولى، يقيناً منه أن لديه الكثير ليتكلم فيه لاحقاً بحريّة ومودة. ومع ذلك، قد أمنح لنفسي شعوراً رائعاً، وأكتب اليوم لأول مرة بعد سقوط الأسد في النقاط الآتية:
أولاً: في السعادة التي تغمر القلوب، وفي دموع الفرح التي غالبت السوريين، واللبنانيين، والعراقيين، والفلسطينيين، والأردنيين، والعرب الطيبين كلهم. والسعادة غاية السياسة ومنتهاها، وإن كان من غاية للسياسة في الفترة المقبلة فهي من دون شك الحفاظ على هذه السعادة. سعادة السوريين اليوم ضمان مستقبلهم، ووسيلة تضامنهم، ورأس مالهم الاجتماعي الذي لا ينضب.
ثانياً: في الحرية، وخلق ثقافة ترحب بالاختلاف (سيحصل لا محالة) وتعتز به، وتعرف بحكمةٍ كيف تدبره. وهذا بطبيعة الحال يعني خلق الثقة، وابتكارها، ومن ثم تبادلها، وصولاً إلى التعدّدية بالطيبة؛ فالطيبة اليوم صارت مفهوماً سياسيّاً مهمّاً في الحالة السورية. بدأت الثورة بأيدي الطيبين، وحققت أكثر أيامها نصراً بأيدي الطيبين. الطيبة اليوم ليست ترفاً، ولا نتيجة دروشةٍ، لكنها نتيجةٌ عقلانيةٌ، وأداةٌ سياسيةٌ ضروريةٌ لابتكار ذواتنا من جديد، والإبداع في تشكيل هويتنا الوطنية، ربما لأول مرةٍ منذ المؤتمر السوري العام في عام 1920.
ثالثاً: في العلاقة مع التاريخ: في وقت لا ينبغي أن ننسى أن الثورة السورية جزءٌ من ظاهرة عربية يشار إليها بـ “الربيع العربي”، إلا أنه قد يكون من المهم أن نتذكّر أن هذا النوع من المقاربات بحد ذاته يدخل الثورات الموصوفة في عالم مفهومي وخطابي مع ماضٍ معروف واتجاه مستقبلي مكتوب، الأمر الذي لم يحصل في الثورة السورية، فهي لا تقبل النمذجة على الغرار الليبي أو التونسي أو المصري أو أي نموذجٍ آخر، فلم تخضع الثورة السورية إلى الحتميات التاريخية، على عكس الذي كان متوقّعاً عند تحليلها، والتفكير فيها، وفي الظاهرات التي تفرعت منها. النتيجة التي بين أيدينا اليوم صادمةٌ على مستوى المنطق التاريخي، وفيها درسٌ عميقٌ لا يزال يتعلمه كاتب هذه السطور، ويمكن صياغته مبدئيّاً، وقبل التقاط أي نفسٍ بعد النصر، بالقول إن التوصيفات والتسميات التي تستند إلى نموذجٍ مثل “الربيع العربي” على غرار “ربيع أوروبا” في 1848 أو “ربيع براغ” مثلاً، قد تُحوِّلُنا إلى موضوعات واضحة لمسيرة التاريخ، بدلاً من جعل التاريخ موضوعاً لتحرّكاتنا كما حدث في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري بسقوط الأسد وهروبه من سورية وإعلان تحرير سورية من حكمه البغيض.
رابعاً: في نسبية الثقافة، بوصفها جزءاً من الحرية، وهذا يعني أن كل إنسانٍ حرٌّ بما يريد فعله، حتى وإن بدا أنه بفعله هذا ينتهك حرّيته بنفسه بتقديرات آخرين. في الحقيقة، هو حرٌ في طريقة اختياره الثقافة التي يريد أن يتمثلها. لتوضيح نفسي أكثر أستذكر بيانًا كتبه 12 كاتباً وصحافيّاً ومثقفاً من خلفيات سياسية متنوعة بعنوان “معاً في مواجهة الشمولية الجديدة”، على خلفية نشر صحيفة يولاند بوستن الدنماركية رسومات كاريكاتورية تسيء إلى النبي محمّد، وبدأ البيان كالآتي: “بعد التغلب على الفاشية والنازية والستالينية، يواجه العالم الآن تهديداً شموليّاً جديداً هو الإسلاموية”. ودعا البيان إلى “مقاومة الشمولية الدينية وتعزيز الحرية وتكافؤ الفرص والقيم العلمانية للجميع”. وأكد رفض موقّعيه النسبية الثقافية إيماناً من المؤلفين بأن هذا الرفض هو الطريقة الصحيحة للدفاع عن حقوق الرجال والنساء ذوي “الثقافة الإسلامية”. وفي الحقيقة، تجاهل هؤلاء أن الشمولية التي يمقتونها ونمقتها معهم كانت كلها مشاريع علمانية متصلّبة فاشلة، وينطبق الأمر نفسه على برامج بناء الدولة في حقبة ما بعد الاستعمار. ومن الأسماء اللافتة الموقّعة على البيان كان فيليب فال مؤسّس مجلة تشارلي إيبيدو، وسلمان رشدي المشهور بروايته “آيات شيطانية”، وكارولين فوست وهي عالمة نسويَّة صاحبة كتاب “الأخ طارق” (العالم الإسلامي السويسري طارق رمضان). وليس القصد من هذا المثال بطبيعة الحال أن نقول إن الإسلاميين في سورية أحرارٌ في فرض طريقة حياتهم، فهم بالضرورة ليسوا كذلك استناداً إلى احترام الاختلاف، ولكن في الوقت نفسه يتطلّب احترام مبدأ “نسبية الثقافة” بأن يحترمهم “العلمانيون” ولا يحكمون عليهم من مظهرهم أو طقوسهم، ومن ثم يتّخذون موضعَ الذي يريد تحريرهم من أنفسهم.
كانت هذه خربشة على السطح لمحاولة الكتابة بعد 8 ديسمبر، وسواء كانت هذه المحاولة، التي تأتي قبل التقاط الأنفاس، صائبة أم مخفقة، إلا أن لها عند كاتبها طعمها الخاص.
العربي الجديد
———————–
“العدو” الذي انتشلَ العلويين من مستنقع الأسد/ عبير نصر
11 ديسمبر 2024
خلّفَ السيناريو المفاجئ لسيطرة قوات المعارضة، بقيادة هيئة تحرير الشام، على المدن السورية، وبسرعة غير متوقعة، مشهداً ضبابياً أثار تساؤلات ملتهبة بشأن حقيقة ما يجري، اتضحت ملامحه الأولية لاحقاً، إذ تبيّن أنّ هناك إرادة دولية لخلع نظام بشّار الأسد العنجهي المتعنّت من جذوره، وسط متابعة حثيثة من القوى الفاعلة في الملف السوري لتمدّد قوات المعارضة وضبط إيقاعها. وجعلت ضخامة هذا الحدث مقاربات جموع السوريين في البداية تنطلق من مقدّمات كلاسيكية، سواء بالتأييد المنفعل أو بالرفض المنفعل، بينما دفعت محلّلين ومراقبين كثراً إلى قراءة التطورات الأخيرة بأشكال متباينة، بل متناقضة أحياناً من حيث الأهداف والنتائج المتوقّعة، مؤكّدين أنّ نيّة التغيير بدأت بعد تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أنّ بشّار الأسد يلعب بالنار إثر رفضه تخلّيه عن إيران ووصفه الإسرائيليين بقطعان من المستوطنين الهمج، في القمّة العربية الإسلامية غير العادية في الرياض أخيراً.
من ثم، السؤال الجوهري الواجب طرحه هنا: هل يدرك السوريون الموالون، العلويون خاصة، خطورة المرحلة التي يمرّون بها، أيضاً حساسية موقفهم وتعاملهم مع المستجدات الراهنة خاصة أنّ “حاميهم” تخلّى عنهم تاركاً وراءه إرثاً هائلاً من الدم والدمار والقهر يدينهم هم أولاً، بعدما تجاوزوا كلّ الخطوط الحمراء لأجل حماية عرشه، فكان أن كافأ تضحياتهم قبيل الهروب بزيادة رواتب العسكريين بنسبة 50% قبل أن يرسلهم مجدداً إلى ساحات الموت!، يراقبون غير مصدقين قائد هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، في مناطق مختلفة من البلاد محاطاً بالمؤيدين والمهلّلين، وكأنّ بساط النجومية المقدّسة سُحب “ظلماً” من تحت قدمَي بشار الأسد.
انطلاقاً من وقائع سابقة لا تحتمل التلوّن والتحولات، يتّضح أنه عندما مدّ العالم كله يده لإنقاذ بشار الأسد، لم يقم الأخير بأيّ تنازل واحد لمصلحة شعبه حقناً للدماء. كلّ خيار مطروح على طاولة الإنقاذ الوطني كان يعمل على تمييعه وتسطيحه، ليغدو إنجازه الوحيد حتى يوم هروبه المشين تحويل السوريين إلى أعداء وسط فضاء مسموم تشاركَ فيه كلّ مكوّن مظلوميات مأزومة بنت جدران فصل حول نفسها، لتخلف صدوعاً كنّا نظنها غير قابلة للرأب أبداً، حتى رأينا اليوم سوريين سنّة يظهرون في مقاطع فيديو يسامحون الآخر على فقدانهم أحبتهم، بالتوازي مع قيام قوات هيئة تحرير الشام بالمرور بالقرى والبلدات العلوية ترمي السلام وتمضي، مثيرين دهشة العلويين وتساؤلهم: (أهذا هو العدو الذي كان يخوّفنا منه؟!)، في إشارة إلى نظام الأسد.
ثم إن علينا الجزم بيقين أنّ المشكلة الطائفية في سورية لم تنشأ بسبب تنوّع التركيبة الطائفية أو بسبب تناقض مصالح هذه الطوائف، بل في استثمار نظام الأسد السياسي فيها. يضاف إليها ثوابت وحقائق لا ينبغي القفز عليها أو تجاوزها في قراءة المشهد السوري الراهن، أهمّها أنّ العلويين لم يعرفوا طعم الطمأنينة بعيداً عن ظلّ الأسد. ومهما يكن من أمر ذلك، فلا أحد يعلم إلى أين ستستقر الأمور، لكن الواضح شيء جذري في الوعي الجمعي للعلويين لم يتغيّر حتّى الأيام الأخيرة، وهو الخوف الذي لا يعيد النظر في المبادئ والمسلّمات “الأسدية” ويراجع البديهيات تحت سقف المواطنة لإنقاذ خيارات العمل السياسي، بعدما حفّظوهم بالقوة المنطلقات النظرية حول كره الآخر المختلف ونبذه. ينكفئون إلى كنتوناتهم الطائفية ما إن يشعروا بالخطر. خذ مثالاً، مشهد الحافلة التي نقلت طلاب الأكاديمية العسكرية المحاصرين في حلب، وفي طريقهم إلى حمص هتف الطلاب المذعورون: (الله.. سورية.. بشّار وبس).
في السياق، يتأكّد أنّ الفترات التي تسودها نوبات الهلع الاجتماعي تميل فيها الغريزة إلى الخضوع كلياً للسلطة، يتضح ذلك جلياً من طوابير المواطنين السوريين العلويين الهاربين من جلّ المناطق السورية التي دخلتها قوات المعارضة، وأملهم في إنقاذ نظام الأسد لهم، لتؤكّد أن “الخوف السياسي” هو العدو الأول الذي شكّل على الدوام فعل تعطيلٍ وإحجام للدولة الوطنية المشتهاة، نتج عنه دائماً ردات أفعالٍ سلبية غير محسوبة ولا متوقعة بحدوده الظرفية السورية، ولا شك أن التصريحات الطائفية من قبيل “الأسد أو نحرق البلد” لطالما عكست صورة ذلك الخائف الأبدي الغارق في العجز. فكلّ حدث مستجد يهدّد عرش الأسد كان يستدعي من مواليه استجابة انفعالية لا عقلانية، فهم، مثلاً، يرتضون العيش جياعاً وعُراة ولا يمدّون يدهم إلى الآخرين، ليتحول الخوف تدريجياً إلى قوة انضباطية تُحيل مشاعر الاحتجاج إلى حالة من التغاضي التام.
في جذر ما تقدّم ذكره، يعيش العلويون اليوم فصلاً كاملاً من هول الصدمة التي وضعتهم في مفارقة غريبة: كيف يحميهم من يُفترض أنه “العدو الإرهابي المتطرّف”، يمدّ يده ببساطة ينتشلهم من مستنقع الخوف الذي مرّغهم نظام الأسد فيه طيلة خمسة عقود؟!، بينما الكارثة الحقيقية كانت تتجلّى بسلوكهم الإنكاري اللاعقلاني الذي يسير خلف غوغائية شعور الانتقام، وأساسه التوجس من الآخر الذي سيقتلني إذا ما سارعت وقتلته، أو ربما الخوف من حقيقة اكتشاف أنّ عدوي مجرّد شريك في الوطن ذنبه الوحيد أنه رأى الأمور من زاوية مختلفة.
وعليه، كلّ حدث يُخرج الأمور عن سيطرة الأسد كان يستثير خوفهم وغضبهم في آن، كما حصل إبان انتفاضة 2011، وثورة السويداء لاحقاً، فتخوينهم لهما مبرّر (بالمعنى الميكافيللي) في سياق تحقيق الغايات الخبيثة المُضمرة التي ينشدها بشار الأسد الذي يؤمن أنه كلما مسّ حاضنته جرثوم الخوف والتعصب كان هذا كفيلاً بنقله إلى مستوى آخر من التفعيل، ليشكل في النهاية الدرع الحامي لنظامه المجرم. لذا بقيت اللغة المتداولة في أذهان الموالين تتلخص بثنائية: “نحن مقابل هم”. عبارة لئيمة تُشعر الفرد بأنه ينتمي إلى مجموعة أيديولوجية مُهدَّدة بالانقراض من مجموعة ثانية، فخّخها نظام الأسد بالمزاودات القومية والدينية ليقيم عالماً مركّباً من قوالب جاهزة يقوم على الخوف والتعصب، لا على التعايش والتسامح. والنتيجة أنّ العلويين يشهدون اليوم فصل الحصاد المرّ رغم حلاوته، كأنهم ينخرطون في مسرحية هزلية اسمها “مزرعة الأسد بلا أسد”، وهم المشاهدون والممثلون على حدّ سواء.
في كتابه “دائرة الخوف… العلويون السوريون في الحرب والسلم” استخدم ليون ت. غولدسميث مبدأ “العصبية” إطاراً عامّاً لفهم ذهنية العلويين، واعتبر إدراج الخوف في التحليل الجيوسياسي من المنظورات المثيرة التي وُظفت في حماية الأسد والتوهم بحتمية انهيار المجتمع السوري بدونه، فتمّت التضحية بالحرية والكرامة والخبز من أجل الأمان وفي النتيجة خسروها جميعاً. إذاً من رؤية قوامُها تسليم ناجز لا جدال فيه، ولا حتى تمحيص، تبدو الأحداث الراهنة غاية في الأهمية لأنها كشفت للسوريين أنّ تحرير الأرض بدون خلع عباءة الخوف لا يعني أيّ شيء.
نافل القول، ليس أمان السوري في انتمائه، إنما بالإيمان بالشريك المختلف، وبأنّ الاعتذار عند الخطأ فروسية وبطولة، فشدّة التوتر الطائفي لطالما تعلّقت بعمق الأزمة السياسية، وإنّ تراجعها، في ظل موت حكم الأبد إلى الأبد، سيعطيها بالضرورة صفة المؤقت إلى أن تنجلي آثار نظام الأسد الاستبدادي الظلامي نهائياً، حيث لا يبقى من مملكة الخوف والصمت سوى ذاك المشهد الخالد: تماثيل “الأسدين” يسحلها السوريون بفرحٍ غامر إلى قاع العدم، حيث لا عودة.
العربي الجديد
——————————–
سوريا والحاجة لنظم تشاركية/ مروان المعشر
11 كانون الأول 2024
ما هو الدرس الأكبر من انهيار النظام السوري؟ يشير البعض إلى التدخلات الخارجية، خاصة الإسرائيلية التي ما فتئت تحاول استغلال أي ظرف في المنطقة لصالحها. وبطبيعة الحال، لم تكن التدخلات الخارجية الإسرائيلية السافرة هي الوحيدة في سوريا، فالنظام السوري القديم ما كان له أن يصمد لولا التدخلات الخارجية من إيران وروسيا. ولكن في النهاية، فإن كل التدخلات الخارجية لم تنجح في انهيار النظام، حين لم يجد النظام من يدافع عنه داخليا. لقد انهار النظام في النهاية من الداخل، بعد أن حكم بالقوة والظلم، وتسبب في مقتل أو نزوح الملايين من السوريين، هذا هو الدرس الأكبر، كل من يحكم بالسيف ويتجاهل رغبات شعبه لن يجد في النهاية من يدافع عنه، لا داخليا ولا من أكبر مناصريه الخارجيين. من لا يريد الفوضى، أو أي قوى متشددة أن تأتي للحكم، عليه الانتباه للداخل، وانتهاج سياسات تؤدي لرضا الناس. في النهاية، لم تستطع لا إيران ولا روسيا، إرغام الجيش السوري على الدفاع عن نظام لا يحترم شعبه، لعل هذا هو الدرس الأكبر الذي يجب استخلاصه.
لقد استخلص البعض النتيجة الخاطئة بأن الربيع العربي انتهى، وأن الخوف من الإسلاميين المتشددين كان وحده الكفيل برجوع الناس لبيوتهم، على الرغم من أن مشاكلهم المعيشية لم تحل. وفي حالة النظام السوري، لم يكتف بذلك، بل واصل سياسة بطش داخلي ضاربا عرض الحائط بكل المحاولات التي جرت عبر أكثر من عشرة أعوام ومن جهات عدة، لإقناعه بضرورة اعتماد سياسة داخلية تؤدي لإشراك كل القوى الداخلية السلمية في الحكم.
تجاهل النظام السوري السابق كل هذه الجهود، وأعتقد أنه يستطيع الاعتماد على إيران وروسيا فقط لاستدامته، من دون الحاجة لحد أدنى من الحوار والإصلاح الداخليين. لقد أثبتت تطورات الأسبوعين الماضيين عدم نجاعة هذه السياسة، بل أنها أثبتت أكثر من ذلك، لم ينته «الربيع العربي» لأن التحديات التي أدت إليه لم تتم معالجتها قبل عشر سنوات، ولا تتم معالجتها اليوم. يكمن التحدي اليوم في كيفية التأثير على مآلات «الربيع العربي»، كي يؤدي إلى حالة أساسها التنمية الاقتصادية والحوكمة الرشيدة، وصولا للتعددية والتشاركية السياسية والازدهار الاقتصادي. في ما عدا ذلك، فسيكون للقوى المتشددة التي لا تؤمن بالتعددية الغلبة. من لا يريد الانعزالية واحتكار السلطة، عليه أن يدرك أن الطريق لذلك ليس التشبث بنظم سلطوية كالنظام السوري، لا تقيم وزنا لشعبها، بل تبطش به. يجب أن تتركز الجهود المستقبلية كافة الآن ليس على الوقوف الزائف على الأطلال من البعض، وليس على مواصلة التغني بنظام واصل الإصرار على تجاهل شعبه، بل محاربته، بل على مساندة كل الجهود السورية والإقليمية والدولية لتعظيم فرص الخروج بحكومة سورية تشترك فيها القوى السلمية السورية كافة، التي تؤمن فعلا لا قولا بالتعددية والسلمية وتعمل من أجل مستقبل أكثر إشراقا لسوريا البلد والحضارة.
إن حكومة كهذه لا بد أن تقف مع الشعب السوري الرافض للتدخلات والانتهاكات الإسرائيلية، وأن تكون منسجمة مع مواقف كل مكونات الشعب السوري العظيم الرافض للسياسات الإسرائيلية وللاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية والعربية. وفي هذا السياق، لا بد من مساعدة اللاجئين السوريين للعودة الطوعية لبلادهم والمساهمة في بناء مستقبل بلادهم.
إن الخوف من الجماعات الإسلامية المتشددة، لا يجوز أن يعني الإصرار على أنظمة تقتل شعوبها، بينما تتغنى لفظيا بالوقوف ضد إسرائيل وتفتقر للحد الأدنى من الحوكمة الرشيدة. هناك فرصة كبيرة ـ إن نجحت مكونات الشعب السوري اليوم في تطوير نظام تعددي تشاركي سلمي يركز جهوده على تلبية احتياجات الناس ـ لخلق نموذج جديد يختلف عن النماذج الإقصائية، التي رأيناها بعد المرحلة الأولى من «الربيع العربي»، نموذج يمكن أن يحتذى ويؤشر لمرحلة إيجابية جديدة في المنطقة.
لا يستطيع أحد أن يقنعنا بإيمانه بالديمقراطية وحكم السيف في الوقت نفسه. هذه دعوة لإدراك أهمية الانتقال السلمي ليس فقط لنظام جديد، ولكن أيضا لمناخ جديد في المنطقة يعتمد التشاركية والتعددية والتنمية الاقتصادية الحقة أساسا لمستقبل تستحقه شعوب المنطقة كافة. هذا أقل ما يمكن أن نفعله للاحتفاء بالشعب السوري وتقديم المباركة له.
وزير خارجيةالأردن الأسبق
القدس العربي
———————
ما بعد الحدث السوري/ علي أنوزلا
11 ديسمبر 2024
لم يحدُث في الثورات التي شهدتها المنطقة العربية منذ هبّت عليها رياح الربيع العربي قبل 13 عاماً ونيف، أن وقع مثل هذا الاصطفاف والاختلاف الكبير حد التنافر بين المبتهجين والفرحين بإطاحة واحد من أطول الأنظمة الدكتاتورية الدموية العربية وأقساها، والذين انتابهم الحزن والتأسُّف على ما آل إليه من كان يعتبرونه آخر نظام عربي ممانع رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأدى غالياً فاتورة اختياره دعم المقاومة التي ظل يمثل عمقها الاستراتيجي حتى في عزّ حرب طوفان الأقصى التي كان سقوطه من تداعياتها الكبيرة والمباشرة.
هل يجب أن نفرح مع نتنياهو الذي وصف سقوط نظام الأسد باليوم التاريخي، عازياً هذا السقوط إلى الضربات التي وجهتها إسرائيل لإيران وحزب الله في لبنان؟ أم نحزن مع أذرع إعلامية لدول الثورات المضادّة في سقوط الدكتاتور سوى الخوف من عودة “التطرّف والإرهاب” إلى سورية؟. … تحتاج أحداث سورية المفاجئة والمتسارعة إلى كثير من التريث والتأني لقراءتها بموضوعية، بعيداً عن نشوة الفرح المشروع لدى الشعب السوري الذي عانى الويلات تحت حكم دكتاتوري دموي قتل نحو نصف مليون شخص، وهجّر 12 مليون شخص نصفهم خارج البلاد، فقط ليحافظ على كرسيه. وبعيداً عن بكائيات المخذولين والمحبطين، بعد سقوط رمزهم واندحار قلعة صمودهم وممانعتهم. ما زال الوقت مبكّرا لفهم كيف نجح مقاتلو المعارضة بأسلحتهم المتواضعة إنجاز ما فشل “الربيع العربي” في تحقيقه عام 2011، وما عجز عن تحقيقه تكالب أنظمة إقليمية ودولية دعمت (وسلّحت ومولت) المعارضات المختلفة التي حملت السلاح في وجه النظام سنواتٍ بدون جدوى؟ وكيف تخلى الإيرانيون والروس عن حليفهم الذي كلفهم مليارات الدولارات ومئات (إن لم تكن آلاف) الأرواح، والجهود الدبلوماسية الكبيرة والمواقف السياسية المكلفة في مراحل صعبة لحمايته وتقوية وجوده على الساحة الدولية، وفرض بقائه واستمراره في حكمه طوال السنوات الماضية، رغم استخدامه الأسلحة الكيميائية ضد شعبه، وقصفه المدن والأرياف بالبراميل المتفجرة، وارتكابه جرائم حربٍ وجرائم ضد الإنسانية في حق شعبه؟ وأخيراً، وضع سقوط نظام آل الأسد نهاية لمرحلة مؤلمة من تاريخ سورية، دامت أكثر من نصف قرن، لكنه فتح الباب أمام مجاهيل كثيرة تنتظر هذا البلد الذي نخره فساد نظامه ومزّقته الحرب ودمّرت اقتصاده وشرّدت أهله وأفقرت سكانه، فكيف سيكون مآله في المستقبل ومآل المنطقة من حوله؟
أحد أهم تحدّيات المرحلة الجديدة في سورية الوصول إلى توافق بين قوى المعارضة التي ستطالب كل منها باستحقاقاتها المشروعة مما تحقق. ومعروف أن المعارضة في سورية معارضات مختلفة التوجهات والمشارب والطموحات والولاءات، اختلفت حتى عندما كان يوحّدها هدف واحد، إطاحة نظام الأسد، فهل ستتفق اليوم على شكل (وكيفية) بناء الدولة التي يراها كل فصيل من منظوره وحسب معتقداته، وبناء على مصالحه وولاءاته؟ هذا سؤال صعب يطرحه كثيرون، ولا يوجد جوابه في مكان واحد، وإنما عند كل فريق من فرق المعارضة التي عليها اليوم أن تتخلى عن منطق المعارضة وتتسلح بمنطق الدولة، إذا أرادت أن تتجاوز الفشل الذي آلت إليه تجارب دول عربية، سبقتها إلى إطاحة أنظمتها المستبدّة، فانتقلت من حالة الاستبداد إلى حالة الفوضى والاقتتال والفساد، وأغلبها اليوم دول فاشلة في ليبيا واليمن والسوان، أو دول تعيش أزمات حكامة بنيوية وفساداً مزمناً واستبداداً رثّاً في العراق ومصر وتونس والجزائر.
سورية بلد متنوع الثقافات ومتعدّد الطوائف والمذاهب، وهي اليوم مرتع لعدّة تدخلات أجنبية عسكرية، والتحدّي الأكبر أمام الدولة المستقبلية هو توحيد أو على الأقل إيجاد توافق بين الثقافات المتنوعة والطوائف المتعدّدة، والوصول إلى تفاهمات مع القوى الأجنبية التي تحتل أراضيها لوضع حد لوجودها أو شرعنته بواسطة اتفاقات قانونية رسمية تحفظ للبلد وحدة ترابه. ولربح رهان هذا التحدّي، على سورية تجنب الوقوع في أحد أسوأ السيناريوهين، الليبي أو العراقي، وكتابة سيناريو خاص بها يستمدّ مادته وأدواته من تجربتها الخاصة وواقعها الحالي ويراعي المعاناة القاسية والطويلة لشعبها وتضحياته الكبيرة والمؤلمة.
يفرض علينا التحليل الواقعي أن لا نتسرع في التفاؤل أو نبالغ فيه، لأن المنطقة، على مشارف البوابة السورية الكبيرة التي فتحها سقوط آخر نظام دكتاتوري دموي شرق المتوسط، تقف اليوم أمام بوابة أكبر، هي بوابة العصر الأميركي الإسرائيلي الجديد الذي يُنذر بتقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ وإثارة النعرات الإثنية وتغذية الصراعات العرقية وإشعال الحروب الطائفية. وإذا كان الشعب السوري اليوم أكبر منتصر من سقوط نظام كتم أنفاسه وجثم على صدره أكثر من نصف قرن، فإن الرابح الكبير مما حدث هما تركيا وإسرائيل، وربما إسرائيل أكثر من تركيا، ولكلّ منهما مطامح ومطامع كبيرة في سورية، بينما الخاسر الأكبر، ليس إيران التي قد تنكفئ على ذاتها وتلعق جراحها وتبحث ببراغماتية عن مصالحها في المنطقة، وليست روسيا المنشغلة أكثر بحربها الوجودية في أوكرانيا، وإنما هو النظام العربي الرسمي، الرقم الغائب في معادلة صناعة مستقبل المنطقة، والخسارة الكبرى هي التي سيتحمّل تكلفتها الشعب الفلسطيني الذي أدّى شلال الدماء وقوافل الضحايا التي قدمها منذ فجّر طوفانه في غزّة إلى تسريع الأحداث التي أدّت إلى ما جرى في سورية.
الحدث السوري كبير وعظيم وتاريخي، لكنه يجب ألّا ينسينا التضحية الكبيرة والعظيمة والتاريخية التي ما زال يقدمها الشعب الفلسطيني من أجل نيْل حريته واستقلاله، وما قدمته المقاومة الإسلامية في لبنان من تضحياتٍ جليلةٍ نصرة لأهل فلسطين وقضيتهم. عندما نفهم كيف نربط بين الحدثين نكون قد بدأنا في استيعاب ما يحدُث ليس في سورية فقط، إنما في المنطقة وما يتهدّدها من مخاطر وما ينتظرها من تحديات كبيرة وغير مسبوقة.
العربي الجديد
———————————-
لابد يوماً أن نهزم البرد/ عبد الكريم عمرين
لن أنسى ما حييت يوماً كنت أنقل فيه سكني من بيتي الذي استأجرته بالإنشاءات بحمص إلى بيتي في الغوطة وهو بيت استعارة. كنت قد نزحت من الوعر فادي وأنا، بسبب القصف الشديد والجوع وانعدام الدواء، كان فادي بالنسبة لي مُخلّصي من درن القلب وكنتُ مُخلصه أيضاً من حرب مجنونة لا ترحم، كانت نوبات الاختلاج التي تداهم فادي أثناء القصف والعتم والبرد نصال سيوف تطحنني، فقد نفد دواءه اليومي والإسعافي، ولا دواء في كل الوعر الموعور، فأنت بالكاد تجد حبة سيتامول فائضة عند أحد الأصدقاء أو الجيران فلا تسأل عن صلاحية فعاليتها، ولماذا هي متسخة سمراء بدون غلاف. لهذا نزحت من الوعر مع فادي، وتركت بقية الأولاد هناك.
حين جاء يوم انتقالنا إلى بيتنا الجديد وليس معنا فادي وأنا سوى القليل من الأكياس التي تحوي أدويتنا وبعض الملابس ومخدة صغيرة وحرامين قدمهما لنا الهلال الأحمر كمساعدة للمهجرين لنتقي بهما برد الشتاء… حين جاء ذاك اليوم الذي علينا فيه أن نغادر البيت الذي استأجرته، بسبب انتقال ملكيته لمالك جديد، كان علينا أن نمر على أربعة حواجز عسكرية، اجتزنا الحاجز الأول وهو حاجز فندق السفير دون صعوبات تذكر، عند الحاجز الثاني وهو الحاجز الذي يسمونه أهل حمص حاجز الشبيبة وهو يقع على طرف دوّار حي الحمراء، أوقف الجنود السيارة التي كنا بداخلها، كان المطر يهطل غزيراً والريح حسوماً بتارة والبرد يقص المسمار، وفادي يرتجف من البرد، طلب الجندي القريب منا هوياتنا الشخصية، فناولته هويتي وهوية فادي، ثم طلب منا النزول من السيارة، نزلت أنا وبقي فادي فيها، صرخ الجندي وهو يشعل سيجارة مالبورو وينقل سلاحه من يده اليمنى إلى كتفه الأيسر: ليش ها الحيوان ما نزل من السيارة؟، وأشار إلى فادي الذي أطرق رأسه بصمت وتوجس، اقتربت من الجندي وهمست في أذنه بلطف: إنه ابني لا يستطيع النزول فهو مريض، اقترب الجندي من فادي وقد أنزل بندقيته من كتفه ووجهها صوب فادي المطرق الرأس، شو أنت ولاك؟ مريض؟ شو أنت مكرسح يعني؟ استدار فادي إلى الجندي وقال له مصححاً: أنا معاق عمو، ضحك الجندي ملء شدقيه، كانت رأراة عيني فادي تزداد سرعة، وقد بدأ رضابه ينزل مدراراً وأطرق رأسه بغضب مكتوم، قلت للجندي: ولدي قال لك الحقيقة، وهذه هويته الشخصية مكتوب فيها مرضه وهذه بطاقة إعاقته من مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل. لم يلتف الجندي إلي، وإنما رفع بندقيته ودفع بسبطانتها إلى صدر فادي، وخاطبه بعنجهية واستهزاء: ولاك كر، شو الفرق بين المعاق والكسيح؟ ولا أنتو الإرهابية ما بتفهموا؟ انزل ولاك من السيارة بدنا نفيشكم، يلا ع الفيش، ودخل مسرعاً إلى غرفة صغيرة جداً مسبقة الصنع من البيتون وضعت على رصيف الشارع.
كان الغضب يتملكني، ساعدت فادي على النزول والمشي باتجاه الكولبة، لننتظر نتيجة ضرب الفيش، أي البحث في ملفات أمنية يظهر فيها على الشاشة، بكبسة زر من لوحة مفاتيح الكومبيوتر، ملف كل شخص في سورية وتقدم معلومات عنه منذ ولد، بل منذ كان نطفة في رحم أمه. بعد أن سلّم الجندي هوياتنا لجندي آخر يجلس خلف الكومبيوتر، انفجر بالصراخ: ليش واقفين هون؟، ابعدوا 3 أمتار عن الباب، قلت له: أخي هنا يوجد سقف صغير يحمي ولدي من المطر ومن بعض الهواء الصقيعي، لو سمحت. صار يزأر كحيوان: لك شو أنت؟ ابنك مكرسح بجسمه وأنت مكرسح بعقلك، ما عم تفهم عليي؟ شو رأيك آخدك ع الفرع لخليك تفهم وخلي ابنك يمشي ركض. وقفت واجماً لهول ما اسمع من حيوان لا يمت إلى الإنسانية بأية صلة، كان القهر والغضب المكتوم يسحقني، فأنا لا أخاف من قمع الفرع، حتى لو أخذوني وعذبوني وقتلوني، أخاف على فادي، وفادي كان مصدر ضعفي وقوتي في الحرب السورية المجنونة، مصدر قوتي لأنه أملي وقضيتي، وفادي مكرمة من ربي، وهو أمانة عندي لا يجوز لي أن أنقص من رعايتي له مقدار أنملة، فادي صليبي ودرب الجلجلة معه هين، وهو مصدر ضعفي لأنني لا أستطيع أن أجهر بمطالبتي بالحرية للسوريين، فلمن أترك فادي لو أمسكوا بي؟ ومن سيرعاه؟.
أمسكت فادي لنغادر ونقطع مسافة الأمتار الثلاثة، فجأة رن موبايل الجندي ذو الوجه الكثيف البثور، سمعته يتحدث: ألو، إي حبيبتي، إي أنا ع الحاجز، بدو يحكي معي؟ هههههه هاتيه هاتيه.. ألو حبيبي يا بابا.. مجد… مجودة، راح جبلك معي شوكليطة… بردان يا قلبي؟ تكرم جايب معي مازوط من المصادرات… ولا يهمك.. اشتقت لك أنا.
وغادرنا فادي وأنا إذ نادانا جندي الكومبيوتر وأعطانا هوياتنا الشخصية وقال: بإمكانكم تمشوا مع السلامة، حين جلسنا في السيارة مجدداً وابتعدنا قليلاً، مال فادي برأسه إلى صدري وقال: بابا ليش أبوه لمجد راح يجيب له مازوت وأنت ما عم تجيب لي؟ كانت دموعي تنهمر بصمت ضممت رأس فادي وقبلته قلت: سيكون عندنا مازوت يا فادي.. لابد يوماً أن نهزم البرد والذين يصادرون المازوت. لم يفهم فادي ما أقول تماماً أو ما أرمي إليه، لكنه صار يفرك رأسه بصدري امتناناً… وكأنه يقول لي: أصدقك.. شكراً بابا.
——————————-
أطفال سوريا يكتشفون الشمس/ سعيد خطيبي
11 كانون الأول 2024
طفل في الثالثة من عمره، أما اسمه فليس مهماً، لأن المساجين أرقام. وأمه في فزع، لا تدري أين تولي وجهها. لا تعلم من فتح باب الزنزانة، لكنها تعلم أنها صارت حرة، ومن شدة هول اللحظة نسيت ابنها، لكن التاريخ لن ينساه، لقد جابت صورته العالم بأكمله، وهو في حيرة من أمره. عيناه في شرود، يخفض بصره تارة، وتارة يرفعه إلى الموبايل، فهو لم يسبق له أن شاهد تلك الآلة. لكن الموبايل سوف يجعل من صورته مختصر سوريا في زمن البعث. أغلب الظن أن ذلك الطفل قد ولد في السجن، فما هو عدد الأطفال الذين ولدوا مثله في الظلمة؟ فمن ولد خلف قضبان من المحتمل أنه لم ير الشمس. لكن الأقدار أرادت له حياة أخرى، سوف يرى الشمس، ويرى عصفوراً، سوف يصاحب أمه إلى بيت وإلى سوق، سوف يرى بحراً وجبلاً، سوف يرى العالم بعدما كان عالمه بين أربعة حيطان، لكن ذكرى السجن لن تمحى من باله، فذاكرة الإنسان تصنعها الأعوام الأولى من حياته. ذلك الطفل وهو يقف على عتبة الزنزانة كان يبحث عن وجوه يعرفها، عن وجه أمه أو واحدة من المعتقلات اللواتي رافقنها في عزلتها. لا بد أن جميع المعتقلات اللواتي رافقنها كن أماً لها. فالنسوة يزددن قرباً من بعضهن بعضا في لحظات الألم القصوى. في السجن قد يتخلى السجين عن إنسانيته، ولكن في وجود طفل سوف يجد تشبثاً بها. فالأطفال يعيدوننا إلى أصولنا، إلى فطرتنا، إلى حقنا في العيش والحلم. ولأن هذا الطفل قد عرف الظلمة، فسوف يصير أكثر تعلقاً بنور النهار. لا شك أنه لم يعرف من الألعاب عدا أصابع أمه، ولم يسمع من الأغاني سوى بكائها أو أنينها، لا صوت اخترق أذنيه عدا صرير الأبواب وغضب السجانين وتأوهات سجينات. لغته الأولى كانت لغة الخوف، لكن صار بوسعه أن يتعلم لغات أخرى، أن يرى ألواناً جديدة، أن يوسع من دائرة أحلامه.
ذلك الطفل لم يتح له أن يذهب إلى روضة، ولا أن يلعب في أرجوحة، فلا أغراض رآه من حوله عدا العصي وقضبان الحديد. لم يلامس كرة ولم يصنع طائرة من ورق، لكنه سوف يرى الآن طائرات تحلق في الجو، وسوف يسأل أمه عنها: ما هذا الشيء؟ وما اسم ذلك الشيء؟ فهو لا يعرف أسماء الأشياء، لكن الطفل يولد كي يتعلم، ومثلما تعلم المشي سوف يتعلم الإشارة إلى الأمور بأسمائها. سوف يدرك أن الحياة في الخارج، على الرغم من مساوئها، فإنها أقل وطأة من حياة في السجن، الذي ولد فيه. في السجن الأشهر في سوريا، في صيدنايا، الذي طافت شهرته أكثر من شهرة مثقفي البلاد وعلمائها. فقد كان أرضاً للعذاب، كان قرية من قرى جهنم على الأرض. هذا الطفل لا يعلم أن الآلاف من مواطنيه، ممن كانوا في سن جده أو أبيه، قد فارقوا فيه الحياة. إن مجرد ذكر اسم صيدنايا من شأنه أن يبعث رجفة في الأطراف، لا يعلم أن ذلك المكان كان نهاية المطاف للكثير من البشر، لكنه ببراءته وفي عامه الثالث نجا منه، بينما آخرون قضوا فيه ثلاثين عاماً.
قد تبدو له الحياة في الخارج مثيرة للقلق، فمن ولد في ظلمة يصعب عليه التآلف مع حياة النور، لكن لا خوف عليه وهو يرى الابتسام على الوجوه من حوله، لأن أمه لا تزال إلى جانبه، قلبها يحرس خطواته مثلما يحرس أنفاسه، وبدل أن تحكي له حكايات، فقد صار هو نفسه حكاية، حكاية عن الجرح الأعظم، في زمن لم يرأف بالأطفال، فكيف نرجو منه أن يرأف بالبالغين! بينما أكتب هذه الأسطر، لا بد أن ذلك الطفل رأى أشجاراً وسأل أمه عنها، لا بد أن يكون قد شاهد بيوتاً مثل التي حكت له عنها، فالأمهات يعدن صغارهن بأجمل الأشياء، بزرقة السماء وسمفونية المطر، لكنها لم تكن متأكدة من قولها، لم تعلم أن الزمن سوف يرحمها مثلما رحم ابنها. مع ذلك، فالحياة لن تكون سهلة، على الأقل في الأيام الأولى، سوف يصعب عليه هذا الانتقال، بعد حرم طوال سنين من ضوء النهار، لكن في عينيه لون سوريا وشساعة الأحلام التي تملأ قلوب أطفالها، بمثل هذا الطفل يمكن أن نرجو بأن يكون المقبل أقل ضرراً، أن يعود البلد إلى أهله وإلى تاريخه، بفضل أولئك الأطفال الذين حرموا من حقهم في الضحك، ثم عاد إليهم.
أتخيل ذلك الطفل عندما يكبر، ماذا سوف يحكي لأقرانه؟ عن اليوم الذي ولد فيه؟ أم عن اليوم الذي خرج فيه إلى النهار؟ فاليوم الذي خرج فيه من الزنزانة هو يوم ميلاده كذلك. يبدأ عداد العمر من اللحظة التي خرج فيها إلى الشارع، منذ اللحظة التي رأى فيها أطفالاً في سنه، رأى فيها بشراً يسيرون من غير وجل، وهو اليوم الذي لم يسمع فيه وقع خطوات العسس في السجن. ذلك هو أطول يوم في حياته. إنه واحد من أطفال آخرين لا نعرفهم، آخرون مثله ولدوا في ضيق، ولكن في صبر، يتحملن خوف الأمهات، ذلك الخوف الذي يعلو على كل اللغات. فعندما فتح باب الزنزانة، ورأى ذلك الشاب الأم وابنها، وهو يحمل موبايل في يده، لم يقل لها: أنت حرة أو عودي إلى بيتك. بل قال لها: «لا تخافي». يعلم ألا شر أكبر من الخوف الذي يجثم على صدور الأمهات. خوفهن على أنفسهن وعلى أطفالهن. «لا تخافي»، كرر قوله لها. هل يمكن أن نقنع من عاش في خوف أن يتخلى عن خوفه؟ «لا تخافي»، هكذا يمكن أن نقول لها نحن كذلك. فهي وابنها خرجا من سواد إلى نهار رحب. «لا تخافي»، لأن طفلك في الأمان وهو الذي سوف يخلصنا من كوابيس ما سبق.
كاتب جزائري
القدس العربي
———————————–
سوريا: الشبيّحة الجدد/ محمد كريشان
11 كانون الأول 2024
«آه يا سوريا الحبيبة الطعنة غائرة في قلب العروبة لكن العروبة لن تموت».»..مكتوب على جيلنا أن يعيش كل أنواع الهزائم والانكسارات حتى آخر العمر. سقطت دمشق كما سقطت بالأمس بغداد وطرابلس».
مجرّد نموذجين لا غير مما كتب من تعاليق بعد سقوط نظام بشار الأسد، وأصحابها في الغالب من القوميين أو اليساريين سواء من السياسيين أو المعلقين، أو أناس عاديين، ممّن ربطوا بين هذا الحدث التاريخي الكبير وبين الزعم أن ما حصل لن تستفيد منه سوى إسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموما وحلفائه في المنطقة. هؤلاء أيضا لم يدّخروا جهدا في الإلحاح على أن من دخل العاصمة دمشق وأنهى حكم آل الأسد الذي امتد لأكثر من نصف قرن هم من المتطرفين دينيا الموصومين بالإرهاب مما لا يجوز معه، حسب رأيهم، الاحتفاء حقيقة بهذا الحدث التاريخي الكبير.
أغلب هؤلاء، ومن بينهم قيادات من التيار القومي في مصر وتونس، اللتين عرفتا لعقود حكما استبداديا لا يقاس بأي معيار بحكم آل الأسد، هم أنفسهم تقريبا الذين ما قام في العرب ديكتاتور حاكم، قديما أو حديثا، إلا وهلّلوا له.. وما سقط أحد منهم إلا بكوه بحرقة. إنها معضلة تحوّلت لدى هؤلاء إلى ما يشبه المرض المزمن الذي لا شفاء منه.
بكاء هؤلاء على الأسد وعهده، إن أردنا له وجاهة ما في الحد الأدنى، يفترض التسليم مسبقا بأنه كان هو وأبوه فعلا قلعة صمود ونضال ضد إسرائيل وهذا ليس صحيحا أبدا. يكفي هنا الاستشهاد بما يشهده الجولان المحتل من هدوء مثالي طوال هذه العقود مقابل تنكيل بالفلسطينيين وإشعال فتن وعمليات اغتيال في ساحات أخرى أولها لبنان.
هؤلاء الذين فضلوا اللطم في مهرجان فرح، ليسوا أصلا من أهل سوريا ولا عاشوا فيها ولا خبروا «رغد» العيش تحت حكم دموي طائفي، ومع ذلك استكثروا على أهل الشام بهجتهم وكان بودّهم، لولا بقية حياء، أن يقرّعوهم عليها، بعد أن فعلوها حقا ضد كل من أيّد الإطاحة بالطاغية من غير السوريين… هؤلاء بإمكانهم أن يتوجّهوا إلى قطاعات واسعة من الشعب السوري، المعني الأول والأخير بما جرى في بلادهم، لتقصّي الأمور فإن حصلوا على ما يرضيهم من إجابات فيمكن وقتها أن نعتذر منهم وننضم إليهم في ندب حظ السوريين والعرب بعد غياب الأسد ونظامه.
إذا ذهب هؤلاء إلى أي سيدة سورية مكلومة، قتل زوجها أو ابنها سواء في عهد الأسد الأب أو الابن في مواجهات دموية قديمة أو حديثة بعد ثورة 2011، أو تحت ركام بيتها الذي دمّر بالبراميل المتفجّرة أو برصاص ميليشيات إيران وحزب الله، أو بعد إعدامهم ميدانيا وهم معصوبو الأعين ورميهم في حفرة… إذا ذهبوا إليها وأقنعوها بأن سقوط بشار خسارة لها وللبلد والعرب فسننسج على منوالها فورا.
إذا ذهب هؤلاء وأقنعوا أهالي ضحايا من قضوا بالأسلحة الكيميائية في الغوطة الشرقية بريف دمشق عام 2013، ومنهم أطفال ونساء… وأقنعوهم بذلك فسنقتنع.
إذا ذهب هؤلاء إلى من أطلق سراحهم هذه الأيام من الفروع الأمنية المختلفة، وأشهرها فرع فلسطين، أو السجون السورية المختلفة، وأكثرها وحشية سجن صيدنايا، الذي يضم طوابق عدة تحت الأرض بها مئات الأسرى ممن أمضوا عقودا بلا محاكمة، وذاقوا كل أصناف التعذيب الوحشي الذي يفوق الخيال.. وأقنعوهم بذلك فسنقتنع.
إذا ذهب هؤلاء إلى آلاف اللاجئين السوريين المعذبين في الأرض في لبنان أو من شرّدهم القمع وأذلّهم في أصقاع مختلفة من هذا العالم، بعد أن فقدوا أهلهم وكل ما يملكون، وبعضهم فقد حياته وأهله في قوارب الموت نحو أوروبا أو ظل منفيا رغم أنفه بسبب ملاحقات أمنية ظالمة… وأقنعوهم بذلك فسنقتنع.
إذا ذهب هؤلاء إلى بعض مكوّنات الشعب السوري ممّن تاجر نظام الأسد باسمهم كمدافع عن الأقليات وسألوهم عما لحق بهم بسبب هذا الادعاء، سواء كانوا من الأكراد أو من العلويين، وقد نالهم من الأذى ما لا يقل عما لحق بالأغلبية السنية بعد أن أغرق النظام البلاد في أحقاد طائفية ما كان لها أن تكون لولا التوظيف الأمني والسياسي المقيت… وأقنعوهم بذلك فسنقتنع.
آخرون كثر من ضحايا القمع، السوريين والعرب، لو ذهبوا إليهم وأقنعوهم… فسنقتنع.
لا شك أن التحديات والمخاوف المطروحة بعد رحيل الأسد كثيرة ومشروعة وعلينا أن نتابع بحذر وحرص كيف ستبنى سوريا الجديدة بعيدا عن الإقصاء والتطرف والفوضى والتكالب على الحكم، مع عدم إغفال حسابات أطراف أجنبية عدة تتربص بهذا البلد، وكيف ستتم الاستفادة من كل نكسات الربيع العربي التي عرفتها أكثر من دولة.. لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن نبكي رحيل طاغية بدأ المزيد من فظائع حكمه البشعة يخرج إلى العالم كل يوم مع مزيد كشف مدى الفساد الذي غرقت فيه حتى الأعناق عائلة الأسد وأزلامها.
لكل ما سبق على هؤلاء الشبّيحة الجدد أن يساعدوا الشعب السوري بشيء واحد فقط: الصمت.
كاتب وإعلامي تونسي
القدس العربي
—————————
من صلاح جديد إلى مروان حديد.. هكذا تخلص حافظ الأسد من خصومه/ محمد شعبان أيوب
11/12/2024
بعد أكثر من 50 عاما أسقط الشعب السوري نظام آل الأسد الذي نشأ بانقلاب عسكري قاده حزب البعث قبل 60 عاما، وهي سنوات طويلة قاد فيها حافظ الأسد نظامه بمختلف أنواع القسوة والعنف الممنهج ليورّثها لابنه من بعده كما سنرى.
ففي 8 مارس/آذار 1963، نفذ مجموعة من الضباط البعثيين انقلابا عسكريا استحوذوا من خلاله على السلطة في سوريا بقيادة الرئيس ناظم القدسي والحكومة المنتخبة برئاسة خالد العظم. وقد ضم ذلك التنظيم أسماء بارزة مثل محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وأحمد المير، وعبد الكريم الجندي، وسرعان ما تمكنوا من فرض سيطرتهم الكاملة على الدولة.
ولم يتجاوز أعضاء حزب البعث المدني 400 عضو، وهو عدد قليل لتولي إدارة البلاد، وأمام هذا الوضع قرر المكتب التنظيمي للحزب زيادة عدد الأعضاء بشكل عاجل، وبحلول عام 1966 دخل الحزب آلاف من مداخل عائلية وطائفية.
ولهذا السبب كتب الدكتور منيف الرزاز، الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث آنذاك، محذرا من تزايد الانقسام الطائفي داخل الحزب والدولة، وأشار إلى أن التكتلات الطائفية بدأت تظهر بوضوح، إذ تحول الحديث عنها من الهمس إلى العلن.
انقلاب 1966
ورغم أن أمين الحافظ، وهو رجل سني، كان رئيس البلاد ورئيس المجلس العسكري ووزير الدفاع آنذاك، فإن الضباط العلويين البارزين، مثل صلاح جديد وحافظ الأسد، تمكنوا من حشد دعم قوي من وحدات عسكرية ذات أغلبية علوية، فقويت مراكزهم داخل الجيش والدولة.
ومع إقصائهم اللواء محمد عمران، أحد أبرز القادة العلويين من البلاد ونفيه إلى لبنان، صعد صلاح جديد إلى منصب رئيس أركان الجيش.
وفي النصف الثاني من عام 1965، وجه أمين الحافظ اتهامات علنية لصلاح جديد بأنه يعمل على تشكيل كتلة علوية داخل الجيش، مما أدى إلى انقسام الجيش إلى كتلتين متنافستين: الكتلة السنية بقيادة أمين الحافظ، والكتلة العلوية بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد.
وكانت الانقسامات الطائفية والاستقطاب العلني بين الكتل السنية والعلوية داخل الجيش السوري وحزب البعث سببًا في تسريع انقلاب 23 فبراير/شباط 1966، بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد، وبدعم بارز وقوي من الضابط الدرزي سليم حاطوم، مما أدى إلى إسقاط أمين الحافظ وإبعاده إلى لبنان بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967.
كان الانقلاب نقطة تحول هيمنت فيها القيادات العسكرية العلوية على مفاصل الدولة كلها؛ فقد تولى صلاح جديد منصب الأمين العام المساعد للقيادة القطرية لحزب البعث، بينما صعد حافظ الأسد من قائد لسلاح الطيران إلى منصب وزير الدفاع، تاركين واجهة مدنية ضعيفة على رأس السلطة يمثلها نور الدين الأتاسي، وهو رئيس رمزي سني لم يكن يملك أي نفوذ حقيقي.
إعدام سليم حاطوم
جاء وقت التخلص من سليم حاطوم الضابط الدرزي الذي لعب دورا رئيسيا في نجاح انقلاب 23 فبراير/شباط 1966؛ فقد بقي حاطوم عالقا في موقعه السابق كحارس لمبنى الإذاعة والتلفزيون السوري، وذلك في الوقت الذي ارتقى فيه العلويون إلى مواقع القوة والسيطرة في الدولة، وأثار هذا التهميش غضبه وشعر بالخيانة والإقصاء من المشهد السياسي والعسكري الذي كان شريكا أساسيا في صياغته.
ومدفوعا بالغضب والرغبة في استعادة نفوذه، بدأ حاطوم في إعادة ترتيب صفوفه، متحالفا مع ضباط دروز من طائفته وبعض قيادات السنة داخل الجيش، وأيضا مع الشخصيات التي ظلت وفية للمؤسسين الأصليين لحزب البعث، مثل ميشيل عفلق وصلاح البيطار.
وقد عرف حافظ وصلاح جديد بخطته، فقابلاها بالقوة الساحقة، وفي سبتمبر/أيلول 1966 فشلت محاولة سليم حاطوم الانقلابية، وأُجبر على الفرار إلى الأردن فأغلق بذلك فصل آخر من الصراعات الطائفية والسياسية داخل الجيش السوري.
ولكن بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، وبرومانسية حالمة عاد سليم حاطوم إلى سوريا معتقدا أن الهزيمة قد فتحت باب المصالحة مع رفاقه القدامى، لكن الواقع كان مختلفا تماما؛ فبدلا من أن يجد أيديهم ممدودة إليه، تم القبض عليه وواجه التعذيب الشديد، ثم أعدموه رميا بالرصاص في 26 يونيو/حزيران 1967.
وفي تلك الأجواء التي خيمت عليها الهزيمة والخيبة، خسرت سوريا الجولان والقنيطرة، بينما أثار وزير الدفاع حافظ الأسد الجدل بترقيته لنفسه من رتبة لواء إلى فريق، وذلك كما أشار الرئيس الأسبق أمين الحافظ في برنامج “شاهد على العصر” الذي بثته الجزيرة، ليتحول الانكسار العسكري إلى أداة لترسيخ قبضة سياسية غير مسبوقة.
التخلص من رفيق الانقلابات صلاح جديد
بعد أن أصبح العلويون القوة الرئيسية في الجيش السوري، توزعت السلطة بين جناحي صلاح جديد الذي هيمن على الحزب والشؤون المدنية، وحافظ الأسد الذي أحكم قبضته على الجيش والأجهزة العسكرية والأمنية، لكن هذه الثنائية السلطوية سرعان ما تحولت إلى صراع على النفوذ، خاصة بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، إذ تعمقت الخلافات بين الرجلين حول التوجهات الإقليمية والفكرية.
وفي عام 1968، بدأ حافظ الأسد في تعزيز سيطرته على الأجهزة العسكرية بصورة غير مسبوقة، ليجعلها في عُزلة تامة عن التأثير المباشر للقيادة المدنية لحزب البعث، إذ أصدر أوامره الصارمة بمنع أي اتصال مباشر بين مسؤولي الحزب المدنيين وضباط الجيش إلا عبر القنوات العسكرية الرسمية، فأسس لنمط جديد من إدارة السلطة، وهو ما أطلق عليه الدبلوماسي والمؤرخ الهولندي نيقولاس فان دام في كتابه “الصراع على السلطة في سوريا”: مرحلة “ازدواجية السلطة”.
وبحلول فبراير/شباط 1969، كانت القطيعة التامة بين الرجلين، فقد نفّذ حافظ الأسد خطوات تشبه الانقلاب العسكري، تضمنت السيطرة على إذاعتي دمشق وحلب، والمكاتب الرئيسية لصحيفتي “البعث” و”الثورة”، وفرض الرقابة العسكرية على جميع المنشورات السياسية والإعلامية. هذه التحركات عززت موقع الأسد في البلاد.
وغير بعيد عن ذلك، بلغت معركة النفوذ بين حافظ الأسد وصلاح جديد ذروتها حين استطاع الأسد، مستغلًا سيطرته على وزارات الدفاع والأجهزة العسكرية والاستخباراتية، القضاء على خصومه من مؤيدي صلاح جديد ونور الدين الأتاسي.
وفي 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، أطلق الأسد رصاصة الرحمة على خصومه السياسيين بانقلاب عسكري محكم، ألقى فيه القبض على صلاح جديد والأتاسي، ثم أحكم قبضته على مقاليد الحكم، ليُعيّن رئيسا جديدا ضعيفًا هو أحمد الحسن الخطيب، وقد ظل صلاح جديد في السجن 23 عاما حتى قضى فيه نحبه عام 1993.
وبعد 3 أشهر أعلن حافظ الأسد نفسه أول رئيس من الطائفة العلوية لسوريا، مدشنا مرحلة جديدة في تاريخ البلاد، لم تقتصر فيها حقبته على احتكار السلطة، بل وضعت الأسس لنظام يقوم على توريث الحكم داخل دائرته العائلية والطائفية، مما غيّر موازين القوى السياسية والاجتماعية في سوريا طوال 5 عقود تالية.
اغتيال محمد عمران
كان محمد عمران من أبرز الضباط العلويين الكبار الذين انضموا لحزب البعث مبكرًا، وكان مؤمنا بالمبادئ الاشتراكية التقدمية لهذا الحزب، كما كان من أبرز من قاموا بانقلاب البعث في مارس/آذار 1963، وعقب الانقلاب أصبح عضوًا في مجلس قيادة الثورة وعضو مجلس الرئاسة نائبا لرئيس الوزراء، إذ اتسمت مسيرته السياسية بتحولات درامية في تلك المرحلة.
فتارة كان منافسا لأمين الحافظ الذي تم تعيينه رئيسا بعد الانقلاب، وتارة أخرى حليفا له، إلا أن علاقته مع صلاح جديد وحافظ الأسد تحولت إلى صراع علني انتهى بزجّه في السجن، ولم يُطلق سراحه إلا بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 التي شهدت سقوط الجولان، ليختار بعد الإفراج عنه الانتقال إلى مدينة طرابلس اللبنانية حيث أقام في المنفى.
لم يكن يمر يوم واحد على محمد عمران في منفاه دون أن يشغله التفكير في طرق العودة إلى السلطة، وكان خصمه الأبرز حافظ الأسد، الذي سيطر على دمشق منذ عام 1970، يشكل تهديدا له.
ففي عام 1964، عارض عمران بشدة ترقية الأسد إلى رتبة لواء، ودفعه ذلك إلى الاستقالة من الجيش، وكشف عن وجود اللجنة العسكرية السرية بزعامة الأسد التي كانت تسعى للهيمنة على السلطة.
ومن منفاه اللبناني، أصبح عمران يشكل تهديدا متزايدا للأسد، خاصة مع تهديداته المتكررة بالعودة إلى دمشق، معتمدا في ذلك على دعم بعض الضباط الذين كانوا لا يزالون مخلصين له، وكان له تأثير كبير داخل طائفته، بالإضافة إلى علاقاته الجيدة مع الوسط التجاري الدمشقي وبعض القوى المحافظة، فضلا عن أنه كان يحظى بعلاقات قوية مع القيادة القومية لحزب البعث وزعماء تاريخيين للحزب حتى في خارج سوريا.
في تلك الأثناء أصدر عمران كتابه الشهير “تجربتي في الثورة” الذي حاول من خلاله الانتقال من موقع الضابط السابق إلى مكانة المنظّر في الفكر القومي اليساري، متجاوزا الأسس النظرية للحزب، واعدا بكتاب آخر يكشف عن “التاريخ السري” للتجربة البعثية، مع تفاصيل عن الأحداث والأشخاص الذين شكلوا تلك المرحلة.
وأمام هذا الإصرار من عمران على منافسة حافظ، فقد عمل حافظ على التخلص منه وهو ما وقع في مارس/آذار 1972 في مدينة طرابلس اللبنانية التي كان عمران منفيا إليها، فقد اغتيل في ظروف غامضة، وأشارت العديد من المصادر إلى تورط حافظ الأسد فيها.
***داخلية**** لمصرع اللواء محمد عمران/ حسام جزماتي الصحافة السورية
مجزرة حماة والانتقام من الإخوان المسلمين
في عام 1964، كانت مدينة حماة مسرحًا لأحداث محورية في تاريخ سوريا عُرفت باسم “أحداث جامع السلطان”، وقد اندلعت هذه الاحتجاجات كرد فعل شعبي واسع على سياسات حزب البعث التي ركزت السلطة في يد فئة محددة، وقيّدت الحريات العامة، وامتدت هذه المظاهرات من حماة إلى مناطق أخرى، تعبيرا عن رفض شعبي شامل لتوجهات النظام الجديد الحاكم.
تصاعدت الأحداث بسرعة، إذ لجأ الجيش السوري إلى التدخل العسكري لقمع الاحتجاجات، وحاصر مسجد السلطان في قلب حماة، ثم استخدمت القوة المفرطة بما في ذلك قصف المئذنة، وأسفرت الأحداث عن مقتل عشرات المدنيين، ولا شك أنها تركت أثرا عميقا في الذاكرة السورية كأحد أوائل المواجهات الدامية بين الشعب والنظام البعثي.
ومع صعود حافظ الأسد إلى السلطة بعد انقلاب عام 1970، بدأت سلسلة من الأحداث التي شكلت ملامح حكمه القمعي، إذ استهلّ عهده بحملة اعتقالات واسعة استهدفت معارضيه، ثم أتبعها بخطوة سياسية كبرى عام 1973 عبر إصدار دستور جديد منح فيه نفسه صلاحيات مطلقة، أحكم فيها قبضته على السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وقد أثارت هذه الخطوة استياء شعبيا كبيرا في جميع أنحاء سوريا، وكان الغضب أشد وضوحا في مدينة حماة معقل الإخوان المسلمين حيث خرجت احتجاجات قوية عُرفت “بأحداث الدستور”، وفي المقابل رد النظام بقوة، وأطلق حملة اعتقالات واسعة شملت أبرز المعارضين، خصوصا ممن دعا للتصدي لسياسات الأسد والبعث.
مروان حديد
وفي مواجهة سياسات القمع الوحشي الممنهج، ظهرت حركة معارضة مسلحة بقيادة مروان حديد الذي انشق عن جماعة الإخوان المسلمين وتبنّى العمل المسلح، وأطلقت هذه المجموعة على نفسها اسم “الطليعة المقاتلة”، وبدأت في تنفيذ سلسلة من الاغتيالات السياسية، مستهدفة رموز النظام والشخصيات العليا فيه، وبلغ التصعيد ذروته في 16 يونيو/حزيران 1979 عندما هاجمت مدرسة المدفعية في حلب، وقتلت عددا من الضباط العلويين.
وفي 26 يونيو/حزيران 1980، تعرض حافظ الأسد لمحاولة اغتيال فاشلة ألقى باللوم فيها على جماعة الإخوان المسلمين، ودفعته إلى الرد بعنف فقاد رفعت الأسد -أخو حافظ- حملة قمعية شملت مجزرة سجن تدمر، وفيها قُتل أكثر من ألف سجين أغلبهم من الإسلاميين.
ثم تبع ذلك إصدار المرسوم التشريعي رقم 49 في 7 يوليو/تموز 1980، الذي حظر الانتماء إلى جماعة الإخوان، وفرض عقوبة الإعدام على أعضائها، وقد استخدم الأسد هذا القانون لتبرير الحملات العسكرية والأمنية والاعتقالات والإعدامات الواسعة بذريعة القضاء على التنظيم.
كانت مدينة حماة معقلا بارزا لجماعة الإخوان المسلمين، حيث احتضنت عددا كبيرا من أعضائها وشهدت انتفاضات متكررة على حكم حزب البعث وحافظ الأسد منذ الستينيات، وأمام هذه الإجراءات التعسفية خططت “الطليعة المقاتلة” في عام 1981، بالتنسيق مع مجموعة من “الضباط الأحرار” داخل الجيش للإطاحة بالنظام، إلا أن المحاولة فشلت بعد تسرب المعلومات إلى الأسد الذي رد بقرار شن عملية عسكرية “حربية” واسعة على حماة.
ففي فبراير/شباط 1982، نفذت القوات السورية اقتحاما عنيفا للمدينة باستخدام القصف المدفعي والطائرات والدبابات والقوات البرية، تبعه حصار وقتال بري انتهى بمجزرة كبرى شملت إعدامات جماعية وعمليات قتل عشوائي واغتصاب للنساء، وبقر لبطون الحوامل، مخلفة نحو 40 ألف قتيل وآلاف الجرحى والمعتقلين، وتدمير أحياء كاملة، لتصبح مجزرة حماة جرحا عميقا في الذاكرة السورية المعاصرة.
نفي رفعت الأسد
كان رفعت الأسد ضابطا في الجيش السوري منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، وقد دعم انقلاب 1963 ثم تولى قيادة قوة أمن خاصة تابعة للجناح العسكري لحزب البعث، وسرعان ما لعب دورا محوريا في دعم انقلاب أخيه حافظ الأسد عام 1970 للإطاحة بصلاح جديد والسيطرة على الحكم.
وفي عام 1971، أُعطي الضوء الأخضر لتأسيس وحدته العسكرية الخاصة المسمّاة “سرايا الدفاع” التي سرعان ما أصبحت قوة عسكرية مستقلة وقوية بفضل التدريب والتسليح الذي وفّره الاتحاد السوفياتي، مما عزز نفوذه العسكري والسياسي في البلاد، وأصبحت هذه القوة اليد الباطشة لحافظ الأسد في البلاد.
وعقب مرور ما يقارب العامين على مجزرة حماة، شهدت سوريا تطورات خطيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 1983 عندما أصيب حافظ الأسد بأزمة قلبية وضعت نظامه على المحك، ففي غيابه عقدت القيادة القطرية لحزب البعث اجتماعا استغله شقيقه رفعت الأسد لنشر “سرايا الدفاع” حول مقر القيادة، مما أثار مخاوف من حدوث انقلاب داخلي.
وخلال الاجتماع، طالب رفعت بإقالة قادة بارزين مثل علي دوبا مدير المخابرات العسكرية، وعلي حيدر قائد القوات الخاصة، مهددا باحتلال دمشق إذا رُفضت مطالبه، ولكن استعادة حافظ الأسد صحته في فبراير/شباط 1984 كانت نقطة تحول حاسمة إذ بدأ بتفكيك نفوذ رفعت، وأمر باعتقال مساعده العقيد سليم بركات، وفي خطوة هدفت لاحتواء الأزمة قرر تعيينه نائبا له، منهيا التهديد المباشر لقوته.
وبحلول أواخر أبريل/نيسان 1984، استوعب رفعت الأسد أن موازين القوة انقلبت لمصلحة شقيقه حافظ، فقبل بالشروط المفروضة عليه، إذ تم دمج سرايا الدفاع ضمن الجيش السوري لتصبح الفرقة الرابعة بقيادة ابن حافظ باسل الأسد ابن 22 عاما وقتئذ، بينما اختار رفعت المنفى طواعية والسفر إلى موسكو.
المصدر : الجزيرة
——————————–
سورية في المرمى الإسرائيلي/ فايز أبو شمالة
11 ديسمبر 2024
يشير اتساع مدى الغارات الإسرائيلية على سورية من شرقها وحتى غربها، وتواصل العدوان المباشر على مقدرات الجيش السوري، إلى فقدان سياسة دولة الاحتلال البوصلة على الأراضي السورية، وفشلها في تحقيق ما رمت إليه من مخطّطات عدوانية ضد الشعب السوري. ففي تبريرها هذا العدوان المتمادي، تدّعي إسرائيل أنها تدمّر الأسلحة السورية غير التقليدية التي تشكل خطراً على الإسرائيليين، خشية من وقوع هذه الأسلحة النوعية في أيدٍ غير أمينة، وغير موثوقة، في رسالة ماكرة توحي بأن الجيش السوري كان موضع ثقة بالنسبة للإسرائيليين، حيث لم يجرؤ في عشرات السنين على توجيه ضربة للجيش الإسرائيلي، وهذه التبريرات الواهية تفضحها الحقائق الميدانية، التي تتمثل في اتساع الغارات الإسرائيلية لتشمل كل مقدرات الجيش السوري، ومن ثم زيادة وتيرة القصف العنيف على كل مقدّرات سورية العسكرية، في إشارة واضحة إلى تخوف إسرائيلي جدي من سورية المستقبل، وبالتالي، عدم ثقة السياسة الإسرائيلية من استمرار حياة التعايش والتفاهم التي سادت 50 سنة على الحدود السورية. وفي ذلك العدوان إشارة فاضحة إلى الفشل الاستراتيجي الذي مُنيت به المخطّطات الإسرائيلية على أرض سورية، وهي تراهن على نشوب حرب أهلية في البلاد طويلة الأمد، تعطي الأمان للمجتمع الإسرائيلي، وتعفي جيش الاحتلال من مواجهات حقيقة.
لقد خسر الإسرائيليون الرهان بإطالة أمد الحرب الأهلية داخل سورية، حيث تمكّنت الثورة من حسم المعركة في أيام معدودات، وخسروا الرهان على اتساع رقعة المعارك في سورية، لتصير حرباً طائفية، تشارك فيها إيران، ويزج فيها حزب الله قدراته في معركة طائفية داخل سورية، ولكن الوعي الإيراني، أو الحذر الإيراني، حال دون التصادم بين الطوائف على أرض سورية، لتحسم المعركة سريعاً لصالح الثوار، وهذا ما يُقلق إسرائيل، ويزعج منامها. وهذا الحسم الميداني هو الذي فرض على إسرائيل إعادة حساباتها، والعمل المباشر على اقتلاع الخطر الذي يهدّد وجودها مبكّراً، فكانت الغارات العنيفة على الأرض السورية، وكان التمدّد في العدوان بمثابة رسالة استباقية للثورة السورية، بأن الجيش الإسرائيلي يقف لكم بالمرصاد.
وبحكم التجربة، لن تكتفي إسرائيل بشنّ الغارات، ولن تكتفي بتدمير مقدّرات الجيش السوري، بل ستسعى إسرائيل من خلال حلفائها على إجهاض أحلام الثورة السورية، وستعمل جاهدة على تنشيط خلايا مسلحة للقيام بتفجيرات داخل المدن السورية، وسيقترف الموساد الإسرائيلي كل الأفعال القذرة، لتقويض مخرجات الثورة السورية، ودقّ الأسافين بين مكونات المجتمع ورجال الثورة، بتقويض الاستقرار والأمن، ونشر الفتنة والفساد، ومن ثم حرمان المجتمع السوري من لقمة العيش الهانئة، ومن مقومات الازدهار. فأين هي الثورة السورية من هذه المخطّطات الإسرائيلية؟ وأين هم حلفاء الثورة من عرب ومسلمين في مواجهة هذه المخططات التخريبية؟
رغم حداثة عهد الثورة، ورغم عدم بسط سيطرتها الأمنية على كل الأراضي السورية، ورغم الركام الاقتصادي والمجتمعي والحياتي الذي تركه نظام حافظ الأسد وابنه بشار، ورغم حالة عدم الثقة التي لم تترسخ داخل المجتمع، ورغم احتمالية وجود جهات تتعارض مصالحها مع انتصار الثورة، ورغم احتمال وجود طابور خامس داخل سورية، ووجود من له ارتباطات مع العدو الإسرائيلي، رغم كل تلك المعيقات، فأمام الثورة السورية طريقان لمواجهة المخططات الإسرائيلية.
أولاً، عدم الانجرار للاستفزازات الإسرائيلية، مع تأجيل الرد العسكري، والتراخي في ردة الفعل الميدانية، إلى حين ترتيب الوضع الداخلي، مع الأخذ بكل أسباب الحذر، وتأمين ما يمكن تأمينه من أسلحة ومعدّات تخص الجيش السوري بعيدة عن مرمى القصف الإسرائيلي، حتى يتم عبور هذه المرحلة الدقيقة والحساسة من تاريخ المنطقة ككل بسلام، ولهذه الطريق مخاطرها على الحالة النفسية للمجتمع السوري، ولها انعكاساتها على استقرار سوريا.
ثانياً، عدم التريث والانتظار، والبدء المبكر في عمليات المقاومة للاحتلال، ومواجهة العدوان من خلال تنشيط الأعمال الفدائية، والعمل على توريط الجيش الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، وامتصاص قدراته، مع التركيز على عمليات نوعية مدروسة وحساسة، أقرب إلى تلك العمليات الفدائية التي نفذها تنظيم حزب الله في لبنان، عشية الاحتلال الإسرائيلي للأرضي اللبنانية سنة 1982. وأزعم أن هذا الطريق هو الأقرب إلى أيديولوجية الثورة، والأقرب إلى مزاج الشعب السوري، الذي ملّ الوهن والخنوع، فالمواجهة مع العدو الإسرائيلي هي الضامن لالتفاف الشعب خلف قيادة الثورة، على أمل النهوض بكل مقومات الصمود، وتعزيز القدرات من خلال المواجهات.
العربي الجديد
————————–
سوريا بعد الأسد: المخاض العسير؟/ محمد حجيري
الأربعاء 2024/12/11
ما من ثورة مثالية في العالم، أو أن الثورات في جوهرها حرب أهلية، وإن كانت غالبية الثورات تتبنى أفكاراً مثالية، لكن الواقع يطيح الخيال والرومانطقية قد تنتج جحيماً لا فردوساً، التطبيق يفتك بالمبادئ غالباً…
تمثل الثورة، في كتابات المنظّرة حنة أرندت، محاولة لإعادة تشكيل المجال العام بشكل جذري. وهي تمثل الروح الحقيقية للسياسة، باعتبارها بداية جديدة، أساساً لشيء جديد. ووفقاً لأرندت، فإن الهدف الحقيقي للثورة يتلخص في ظهور مجال عام حر، حيث تكون الحرية مضمونة للجميع. أجزم بأن هذا الأمر سيتحقق في الوقت القريب في سوريا، وأجزم بأن هناك ثورة واحدة، هناك ثورات متعدّدة وطرق مختلفة، أو كل يغني على ليلاه، من السلفي إلى الديني والديموقراطي والكردي والإخواني، ومن المثقف إلى الدمشقي والحلبي والريفي… الرابط بينهم مرحلياً إسقاط الأسد.
سقط الأسد، فماذا بعده؟ الله أعلم. يحتاج الواقع السوري إلى زمن مديد للتخلّص من الأسدية التي احتلت الفضاء العام والعقول والتوجهات، دمّرت البنيان المجتمعي وحيويته واقتصاده وثقافته، عششت في كياناته وسلوكياته ولاوعيه. ليس سهلاّ التخلص من رواسب الأسدية في القريب العاجل، ولا ضرر في القول إن “العلمانية” على الطريقة الأسدية، أنتجت الكثير من اللّحى والتطرّف والعودة إلى التديّن والأسلمة. العلمانية الأسدية البربرية مسختْ العلمانية كطريقة عيش معاصرة.
“الثورات السورية” تخلّصت من كابوس عمره أكثر من نصف قرن، تخلّصت من سجن صيدنايا وأخواته، وبات بإمكان ملايين اللاجئين العودة إلى ديارهم وبيوتهم. لكن من الصعب الآن التكهن أو التخمين بما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا، وعلى أي دستور ستمشي، وأي مستقبل ينتظرها. هي الآن في مرحلة مخاض صعب ومعقّد، لكن لا استحالات في السياسة، ولا شيء يدعو إلى اليأس.
نظام الأبد السرطاني أُسقط، النضال الآن لإقامة مجتمع ديموقراطي عماده الحرية الشخصية والتعدّدية في بلد يقوم على فسيفساء من الطوائف والأعراق والعائلات الروحية. ربّما يحتاج الأمر إلى “طائف سوري” أو ورشة عمل كبرى، لا قرارات اعتباطية يقودها فرد على الطريقة السابقة… وبمنأى من التنظير، المجتمع السوري يختار طريقه ومستقبله وشكل حكمه ودستوره، والمؤكد أن الجديد مهما كان، لن يكون أسوأ من القديم. ذلك أن نظام الأسد وصل إلى ذروة الوحشية، أجساد المساجين تقول ذلك، وقد فقدوا ذاكراتهم أو نسوا أسماءهم أو تحطّمت أضلاعهم أو طُحنت عظامهم، ولم يخرج منهم إلا طويل العمر.
ثمة مشهديات سوريالية في الميدان لا بدّ من التطرق إليها. بعض جمهور الثورة ممن يحتفلون بسقوط طغيان الأسد، يرفعون صور الطاغية صدام حسين، وبعض الذين يسمعون أناشيد حزب الله في سياراتهم أو يتابعون قناة “المنار”، تغيظهم الأناشيد الجهادية في التلفزيون السوري. وبعض الأحزاب المنتصر بسقوط الأسد أيضاً، كان الوجه الآخر له في لبنان، في عمليات الاختفاء القسري أو الاغتيال التي نفذ بعضها بأوامر من الأسد أو نظامه. وبعض الممانعة يتباكى الآن على نظام الأسد، ظناً أن فلسطين كانت قاب قوسين أو أدنى من التحرير، وجاءت “تحرير الشام” لتقطع طريق إمداد المقاومة. بعض الطفيليات الفنيّة يقول إن سوريا دخلت في “نفق مظلم” بعد هروب الأسد، كأن الشمس في ظلّه كانت ساطعة.
المدن
————————–
محاسبة فنانين وإعلاميين دعوا لقتل السوريين..ضرورة مهما “كوّعوا”!/ وليد بركسية
الأربعاء 2024/12/11
في العام 2016 كانت مراسلة قناة “سما” الموالية لنظام الأسد المخلوع، كنانة علوش، ترافق “الجيش الباسل” في معركته “لتطهير” سوريا من “الجراثيم والإرهابيين”، وتلتقط الصور مع جثث القتلى من المدنيين والعسكريين أو في دبابة. واليوم باتت تطلب العفو عما مضى وترفع علم المعارضة وتتحدث عن “سوريا الحرة”، ضمن تيار واسع مشابه اتبعته شخصيات مماثلة، من فنانين وإعلاميين وناشطين، عملوا منذ العام 2011 ليس فقط على تلميع صورة النظام السابق ورموزه، بل أيضاً على التحريض ضد السوريين، بما في ذلك دعوات من قبلهم لاستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين.
هذا التغيير السريع في الموقف السياسي بدأ بعد ساعات من سقوط نظام الأسد. وتحدثت شخصيات لطالما تشدقت ببطولة الجيش السوري في “دحر الإرهابيين”، عن نعيم الحرية، وبرر بعضها موقفه السابق بـ”الخوف من النظام”، ووصل ذلك إلى حد سوريالي من ناحية مطالبة كثيرين بعفو عام يشمل الجميع، بما في ذلك من ارتكب فظائع مروعة في الجيش وقوات الأمن بحق المدنيين حتى ضمن المعتقلات، بحجة “طي الصفحة وبدء صفحة جديدة” أو “حقن الدم السوري” في إشارة إلى أن العمل على تحقيق العدالة والمساءلة بشكل قانوني ومنهجي ضمن دولة مستقبلية يعني حرباً أهلية، حسب رأيهم.
وبالطبع كان هنالك فنانون وإعلاميون وشخصيات عامة، تخاف من بطش النظام، الذي لم يتوانَ يوماً عن الإجرام والتنكيل بالسوريين، كما هو واضح في صور المعتقلات المروعة التي تكشفت أمام العالم هذا الأسبوع. لكن وجود الفنانين المعارضين الذين تحدثوا ضد النظام، من داخل وخارج سوريا، على مر السنين، يسلط الضوء على حقيقة أن أي شخص قام بالتحريض والدعوات للقتل ونشر البروباغندا الرسمية، كان يعي ما يقوم به واستمر به حتى اليوم الأخير لبقاء النظام في السلطة، السبت الماضي، رغم امتلاك عشرات الفرص لاختيار طريق آخر، بما في ذلك الصمت والبقاء على الحياد مثل أسماء كثيرة، حتى ضمن العاملين في التلفزيون السوري الرسمي نفسه، ممن لم يتجهوا يوماً نحو التشبيح.
ومن الطبيعي اليوم في ظل عدم اليقين السائد بشأن مستقبل البلاد التي لم يمض على إسقاطها للنظام الحاكم منذ العام 1970، سوى ثلاثة أيام، أن تنتشر مخاوف واسعة خصوصاً بين الفئة التي كانت توصف بالموالاة، وهي جزئية لطالما تمت الإشارة إليها (في “المدن”) وتفيد بأن الموالين أنفسهم عانوا بطش النظام ولم يعد الوصف الذي ارتبط بهم منذ العام 2011 دقيقاً ربما، بما في ذلك مناطق واسعة من قرى الساحل السوري التي تسكنها غالبية من الطائفة العلوية التي كان أفرادها من الأشد فقراً في البلاد حتى قبل الثورة، ولم يوفر لهم النظام خياراً سوى الزراعة أو الانضمام للجيش كجنود فقراء أيضاً.
والحال أن التحريض وخطاب الكراهية والدعوات للإبادة الجماعية، لا يمكن أن توصف بأنها مجرد “رأي” أو مزاج يمكن تغييره حسب الظروف، وكأن الحديث على الشاشات الرسمية مع تلك الشخصيات أو في صفحاتهم العامة كان يدور حول اختيار لون فستان لسهرة المساء، أو نوعية البسكويت المقدم مع الشاي للضيوف، وليس اختيار مكان البرميل المتفجر التالي وعدد الأطفال الذين يمكن التخلص منهم بـ”إرادة وعزيمة الجيش السوري” والزاوية المثالية لالتقاط أكبر عدد ممكن من الجثث والأشلاء في صورة سيلفي واحدة.
ويمكن الرجوع لحالات تاريخية يظهر فيها كيف تمت محاسبة من ينشر تلك النوعية من الدعاية الإجرامية، مثل الدعاية النازية. ففي محاكمات نورنبيرغ التاريخية التي عقدتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية وفقاً للقانون الدولي وقوانين الحرب، تمت محاكمة صانعي ومنفذي الدعاية النازية، بما في ذلك يوليوس شترايخر أحد مهندسي دعاية هتلر، الذي حكم عليه بالإعدام بتهمة الانخراط في جرائم ضد الإنسانية.
ويندرج ضمن ذلك أنواع كثيرة من الأفعال تبدأ بالنشر والكتابة والتعليقات التي تضمنت دعوات للإبادة والتطهير وصولاً للسخرية من الضحايا في المسلسلات التلفزيونية، مثلما قدمت الممثلة أمل عرفة سخرية من ضحايا الأسلحة الكيماوية (اعتذرت عنها لاحقاً) أو سخرية إعلاميين في إذاعة “شام إف إم” من ضحايا العاملين الإنسانيين في البلاد، إلى اعتراف الممثلة الأخرى سلاف فواخرجي، بوجود تعذيب ممنهج في البلاد من دون وجود مشكلة في ذلك طالما أنه يحمي البلاد من الإسلاميين والجهاديين، وغيرها مئات الحالات التي تم توثيقها على مر السنين، وشاركت فيها شخصيات متعددة ضمن مستويات مختلفة، حيث كانت الدعاية الرسمية وشبه الرسمية تمكن من نشر العنف ونزع الإنسانية عن الضحايا بوصفهم جراثيم وإرهابيين وأشخاصاً يمكن التخلص منهم من أجل بناء مجتمع متجانس وغيرها من العبارات المروعة.
وأشار مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” فضل عبد الغني في حديث مع “المدن” إلى أن أولئك الأفراد الذين قاموا بالتحريض ضد السوريين وتبرير جرائم النظام البائد بحقهم، يجب أن تتم محاسبتهم ولا يمكن العفو عنهم، مضيفاً أن التشبيح كان يتم على درجات، وكذلك حال الدفاع والتبرير. وتحدد ذلك، المحكمة ولجان المصالحة، لكن “أعتقد أن بعضهم كان يحرض على مزيد من القتل أو طالب باستخدام مزيد من البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية. هؤلاء يعتبرون شركاء في الجريمة وبالتالي يجب محاسبتهم”.
وإن لم يشارك أولئك الأشخاص في تنفيذ الفظائع إلا أنهم كانوا يعطون غطاء شرعياً وسياسياً من أجل الاستمرار في القيام بالانتهاكات والجرائم. وعقب عبد الغني الذي كان يعمل مع فريق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” على توثيق كافة انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد من كافة الأطراف منذ العام 2011، بأن الأفراد الآخرين الذين كانوا مثلاً يظهرون مع عائلة النظام أو يحضرون اجتماعات رسمية مع القيادة، فيمكن فهم وتبرير موقفهم اليوم ربما من ناحية خوفهم من بطش النظام وتعذيبه.
مثلاً كانت أمل عرفة دائماً أكثر أخلاقية بكثير، من ناحية عدم التشبيح للنظام السوري باستثناء مشاركتها في لوحات فنية قليلة أثارت استياء ولا تعرف أصلاً ظروف تصويرها، وكانت تحرص على الاعتذار حتى في ذلك الماضي عن تلك الأفعال والتنصل من الموقف السياسي الأكثر تشبيحاً والدعوة للسلام مع المعارضين بوصفهم سوريين أصيلين، ما عرضها لبطش النظام والمنع من العمل، كما لم تظهر حتى في صور مع عائلة الأسد ولم تنشر في مواقع التواصل دعوات للإبادة وتلميع صورة الجيش، وتحدثت عن إيمانها بسوريا تسع جميع الأفراد حتى من طرف المعارضة كما تحدثت عن اللاجئين والنازحين ولم تشجع يوماً على الإبادة.
يتعاكس ذلك كلياً مع شخصيات مثل فواخرجي التي كانت حتى اليوم في منشوراتها، بعد سقوط النظام، تصر على موقفها ولا تعتذر عنه، على غرار زميلها باسم ياخور الذي اعتبر أنه لن يعود إلى سوريا لأن سوريا بالنسبة إليه انتهت مع رحيل رئيسه المفدى. وبين الحالتين يمكن تلمس حالات كثيرة أخرى لا يمكن رؤيتها بعدسة ضيقة ومساءلتها جميعاً بالدرجة نفسها من الشدة. ويظهر ذلك الخيارات التي كانت تلك الشخصيات تمتلكها طوال السنوات الماضية. وتصبح هذه الفئة أقرب في ما قامت به، إلى مسؤولي النظام الإعلاميين، مثل بثينة شعبان ولونا الشبل ومضر إبراهيم وعشرات آخرين.
الممثلة سلاف فواخرجي، حتى اليوم، وبعد سقوط النظام، تصر على موقفها ولا تعتذر عنه
ينفي ذلك توصيف ما قامت به هذه الشخصيات بأنه مجرد “تعبير عن الرأي السياسي” ويندرج ضمن التحريض والبروباغندا الداعية للقتل الجماعي. وإن كان أولئك الأفراد مدنيين تقنياً، إلا أن بعضهم كان يرافق جيش النظام ويلتقط الصور مع الجثث كما شارك بعضهم على الهواء مباشرة في إطلاق القذائف والبراميل المتفجرة، أمام ضيوف كانوا يهللون لتلك المناظر ويدعون لتعميمها على بقية أنحاء سوريا، على غرار مراسل التلفزيون السوري في حلب أوس الحسن وهو يساعد في إلقاء برميل متفجر من طائرة حربية.
واليوم تنتشر تعليقات في مواقع التواصل، تفيد بأن من يتحدث عن ذلك الماضي ويشير إليه ويسخر من “التكويع”، وهو المصطلح السوري الذي بات يصف ظاهرة انقلاب الموالين إلى معارضين بسرعة، يقوم بـ”التحريض العكسي”، ويتم نشر سردية طائفية أو سردية انتقامية، مع التركيز على أن نظام الأسد كان الجهة التي تفرق السوريين وتضعهم ضد بعضهم البعض. ورغم أن ذلك صحيح، إلا أن السياق العام مهم ولا يجب إغفاله، لأن البحث عن العدالة والمساءلة، ضروري لبناء مجتمع جديد وصحي يواجه كوارث الماضي بدل تجنبها وإنكار حصولها بشكل كامل.
ورأى عبد الغني، أن الشخصيات الفنية والإعلامية التي كانت موالية لنظام الأسد ولم تكن تقوم بالتشبيح والتحريض العلني ضد النظام، لا يمكن مسامحتهم بمجرد نشرهم تعليقاً عابراً في “فايسبوك” أو صورة لعلم الثورة في “أنستغرام”، بل يجب عليهم الظهور العلني والاعتذار والاعتراف بالأخطاء السابقة مراراً وتكراراً، مضيفاً أن “التكويع الحالي لا يمتلك أي قيمة”، مشدداً على أن ذلك يجب أن يتم ضمن هذه اللغة الصريحة بدلاً من الأسلوب الحالي الذي تغلب عليه صفة الرومانسية الساذجة البعيدة من تقديم ما يفيد المجتمع الجديد.
وأكمل عبد الغني أن تلك الشخصيات يجب أن تعترف بما قامت به وتقدم استعدادها لبذل الجهود من أجل تعويض الناس والخدمة العامة والانخراط في الشأن العام بشكل إيجابي، فيما تحدد الممارسات والأفعال مدى جدية تلك التحولات وليس مجرد الاستعراض، مع التشديد على أن ذلك لا يشمل الشخصيات التي اتجهت نحو التحريض والتشبيح، والتي يجب محاكمتها.
والتوازن بين حقن الدماء والعدالة يكون من اختصاص المحاكم في سوريا المستقبلية، حيث تقدّم الأدلة بحق أولئك الأفراد. وأوضح عبد الغني أن من يحدد الخط الفاصل بين الرأي والتحريض هي المحاكم ولجان المصالحة، مشدداً على أنه من المبكر ربما الحديث عن هذا الموضوع، بقدر ما يجب ملاحقة الصفوف الأولى والثانية من المحرضين ضد السوريين، إلى جانب الشخصيات السياسية والأمنية التي كانت تشرف على انتهاكات حقوق الإنسان وتنفذها على حد سواء.
ورأى عبد الغني أن الشخصيات الأخرى الأقل شأناً ممن كانت تدور في فلك النظام وتروج له، ليسوا أكثر من إشكاليات بسيطة، يجب أن تصلهم رسائل أساسية بشأن الاعتذار العلني وتغيير سلوكهم والتبرؤ العلني من التصريحات التي قدموها والاعتراف العلني بتلك التصريحات، كي لا تتكرر المشكلة نفسها مع أي قوى سياسية جديدة في سوريا المستقبلية، علماً أن ذلك ليس خاصاً بسوريا فقط بل يحصل في الدول الديموقراطية التي شهدت حروباً في السابق، مثل ألمانيا التي تلاحق حتى اليوم رموز النازية ومن يروج لها.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن البحث عن العدالة والمساءلة عن مروجي الدعاية والمرتكبين لشتى أنواع الفظائع، لا يعني تحريضاً عكسياً أو دعوة إلى عقوبة خارجة عن إطار القانون بشكل فردي. بل تشكل تلك الجهود التي يقوم بها صحافيون وحقوقيون، توثيقاً وتحليلاً لسياق سياسي مهم ضمن مجتمع عانى من القمع والدكتاتورية طوال 5 عقود، لا أكثر. ويطرح ذلك كله أسئلة عن حضور القانون الدولي ومنظمات حقوقية دولية في هذه النوعية من القضايا وشكل العدالة المنتظر في سوريا المستقبلية التي لا يعرف أصلاً كيف ستتشكل، خصوصاً أن هناك مخاوف من سيطرة تنظيمات إسلامية على البلاد لصالح تحويلها إلى دولة تشبه نموذج “طالبان” في أفغانستان.
المدن
——————————–
مصر – سوريا/ شادي لويس
الأربعاء 2024/12/11
في طفولتنا- نحن مواليد النصف الثاني من السبعينيات- لعبنا لعبة شارع اسمها “مصر سوريا”، حيث يقف طفلان متواجهان تفصل بينهما مسافة أمتار قليلة، ثم يشرعان في الخطو تجاه بعضهماالبعض بالتناوب، ومع كل خطوة يقول صاحبها: “مصر”، ثم يخطو الثاني قائلاً: “سوريا”. وهكذا مراراً، حتى يقتربا من بعضهما البعض ويدوس أحدها على قدَم الآخر.
كانت هذه لعبة قائمة بذاتها، لكنها كانت أيضاً مقدمة لألعاب أخرى، إذ لطالما سبقت مباريات كرة القدم لينال الفائز الركلة الأولى في المباراة. بكل تأكيد، باتت اللعبة منسيّة الآن، وحتى حينها، لم نعرف من أين جاءت ولم ننتبه كثيراً إلى مغزاها، وإن كان الأمر لا يعوزه سوى القليل من التخمين. الخلاصة أن سوريا، ذلك البلد البعيد والذي لم نعرف عنه شيئاً في الحقيقة، كان حاضراً في طفولتنا بشكل حميم وغامض. وبالمثل، سأعرف من أصدقاء سوريين أنهم لعبوا اللعبة نفسها.
بين البلدين، “جمهورية متحدة”، كانت سوريا إقليمها الشمالي ومصر إقليمها الجنوبي، جمعتهما الوحدة القصيرة وترك الانفصال من طرف واحد أثراً من مظلومية متبادلة باتت حكاياتها لوقت ليس ببعيد جداً من باب الفولكلور السياسي. لعَقد لاحق، احتفظت مصر باسم الجمهورية المتحدة، بالرغم من الانفصال، بحيث بقت سوريا شبحاً يسكن الاسم الرسمي لبلدنا. والأقرب اليوم، أن بين البلدَين ربيع عربي جمعهما مع غيرهما من البلدان، على عروبة لم تأتِ من فوق هذه المرة، بل من أسفل، وبالتحديد ضد الأنظمة الرثة المنبثقة من أيديولوجيا القومية نفسها. ربيع يتجدد اليوم، أو يبدو وكأنه يصل متأخراً إلى سوري، بعد عقد ونيف على انطلاقته. وبفعل ذلك الفارق الزمني، أو بالأحرى بفعل تلك الهوة الهائلة من الخراب السوري وشتاته، عرف الشعبان بعضهما بعضاً للمرة الأولى، من قرب وبعمق ومودة لعلها لم تتوافر لأي شعبين عربيين من قبل. وتبدى هذا كله بالأخص بعد سقوط الأسد، بعرفان متبادل، سواء لحسن الضيافة أو لحسن الوفادة.
وبهذا الحق يدلي المصريون برأيهم في ما يحدث في سوريا، وبافتراض أن هذا الربيع المغدور ربيعنا جميعاً، وأن خريفه وثوراته المضادة طاولتنا كلنا. ثمة مخاوف مفهومة ومبررة، وثمة فوائض عجز مصرية بعد أكثر من عقد في ظل نظام الثلاثين من يونيو. والحال أن المصريين يُسقطون حدود رقعتهم السياسية على سوريا. فالمحسوبون على تيار الإسلام السياسي يتوعدون بالعودة على ظهر دبابة، أما خصومهم السياسيون فلا يرون في دخول “الملتحين” إلى دمشق سوى تذكير باكتساح الإسلاميين للانتخابات المتتالية في مصر… حتى وقوع الكارثة.
وكما يُسقط المصريون سياستهم على سوريا، يحدث العكس أيضاً. يغرد الإعلامي اللبناني، نزيه الأحدب، عبر “إكس”، بنغمة تحريضية: “الرئيس مرسي قتلته المبالغة في التسامح…ليس المطلوب إعادة صيدنايا من جديد، لكن لا توجد دولة بلا سجون”. المخزي هو التعليقات الصادرة عن بعض من أبرز وجوه التيار العلماني في القاهرة. فيغرد المرشح الرئاسي السابق، حمدين صباحي: “آه يا سوريا الحبيبة، الطعنة غائرة في قلب العروبة”. بالنسبة إليه ولكثيرين من المحسوبين على التيار القومي والمتأثرين بخطاباته، فما حدث هو سقوط لدمشق، أو سقوط ثاني عاصمة عربية بعد بغداد. تظل تلك الأصوات مع علوها في دائرة الأقلية، أما الغالبية فلا تبدي تعاطفاً مع النظام الساقط، لكنها تتوجس مما قد يأتي به المستقبل لسوريا.
أمس، أصدرت الخارجية المصرية بيانها الأول بخصوص ما حدث في سوريا، لتعلن مباركة مصر الرسمية للأمر الواقع، مع دعوة بروتوكولية “لتدشين عملية سياسية شاملة ذات ملكية وطنية سورية خالصة من دون إملاءات أو تدخلات خارجية”. بينما تستمر لعبة “مصر-سوريا” بطرق مختلفة. تظل عيون المصريين شاخصة نحو ما يحدث في دمشق، على أمل وفي خوف. فهناك يجري ما قد يكون مستقبلهم أو ما تصوروه كابوساً تم تخويفهم بهم لزمن طويل.
المدن
————————–
لكلٍّ صيدناياه/ فوزي ذبيان
الأربعاء 2024/12/11
“كان لازم يجرجروه متل القذافي وأكتر”…
لم أجد نفسي إلا وقد انسقتُ مع هذه العبارة التي توجّه بها رجل لبناني إلى صديقه على الطاولة المحاذية لطاولتي، في أحد مقاهي شارع الحمرا في بيروت. كررتُ العبارة على نفسي موافقاً، وفي البال فكرة واحدة: لا أظنّ أن ثمة لبناني واحد لا تتناهشه فكرة الثأر الشخصي من آل الأسد.
من النافل أن سجن صيدنايا هو الحقيقة الأكثر انعكاساً لتوحّش آل الأسد، بيد أن لهذا السجن تدرّجاته اللانهائية وصولاً أقله إلى الذل الذي لطالما عانى منه كل مواطن لبناني على حواجز جيش الاحتلال الأسدي للبنان. على كل حال، وفي ما يتعلّق بوحشية هذه العائلة، يخبرنا باتريك سيل في كتابه “الأسد..الصراع على الشرق الأوسط”، أن آل الأسد هم بالأصل من آل الوحش وقد يُستبدل الوحش بالأسد مع سليمان، جد حافظ، عند بدايات القرن العشرين.
يحيلنا التاريخ إلى جملة من الوحوش الديكتاتورية، إنما المستقبل لن يحيل الذين سوف يأتون بعدنا إلا إلى الدكتاتورية الأسدية المتوحشة، حيث المهانة والسجن والموت وقائع شخصية في حياة كل من عايش هذا النظام، سواء تعرّض المرء لهذه الويلات بشكل مباشر أو تعرّض لها بالسمع وشيوع الصيت. ذلك أن نظام الوحش نجح في تجذير الإهانة والخوف من السجن والموت في أذهان وأفئدة ومخيلات الناس جميعاً. ففضلاً عن تلك البديهيات ذائعة الصيت والمتمثلة بسجن المزة وسجن تدمر، فإن سجن صيدنايا هو بمثابة وجودنا المتدرّج من حتمية المعس بآلة طحن عظام البشر، وصولاً بالحد الأدنى إلى النجاة بفعل الصدفة، وهي نجاة عايشتها بالفعل لما كنتُ دركياً في مخفر البسطا في التسعينات، ولا أتحرّج من إحالة قرّاء هذه المادة في هذا السياق إلى “مذكرات شرطي لبناني”.
لكل منا في لبنان – وطبعاً في سوريا – “صيدناياه” الخاص. جلّ ما أتمنّاه هو أن يرى أبي، الذي تعرّض في ثمانينات القرن الماضي لجزء من هذه “الصيدنايية” عند مثّلث خلدة-الشويفات، جلّ ما أتمنّاه هو أن يرى مآل هؤلاء حيث هو الآن. نعم، من غير الموضوعية على الإطلاق أن يقارب الإنسجلّ ما أتمنّاه هو أن يرى أبي، الذي تعرّض في ثمانينات القرن الماضي لجزء من هذه “الصيدنايية” عند مثّلث خلدة-الشويفات، جلّ ما أتمنّاه هو أن يرى مآل هؤلاء حيث هو الآنان اللبناني علاقته بنظام الأسد موضوعياً، فهؤلاء قد رسموا ولسنوات طوال، خريطة خوفنا وقلقنا وذعرنا وتنهيدات أمهاتنا ولفتات الغضب المكبوت لآبائنا. قال مرة القديس أوغسطينوس أن الدموع تستمدّ وهجها من إمكان أن يراها الله. يبدو أن شلالات الدمع التي ساقها آل الأسد عبر العيون والقلوب، وإن كانت قد أربكتْ حتى الله، لكنها في النهاية فعلتْ فعلها.
نظرتُ إلى الستيني الذي افتتحتُ هذه المادة بعبارته، وقلت له وقد علتْ بعض ابتسامة ملامحي: “ما في داعي تحكي وشوشة، طار الأسد”. بادلني الإبتسامة بمثلها وردّ بالقول: “معششين بقلوبنا”. أيضاً وأيضاً، إنها أطياف سجن صيدنايا وتدرجاته، حيث معابر الخوف لم تُقفل بعد داخل قلوب من عايشوا نظام الأسد لعقود وعقود، وحيث حتى “السياسة هي شقّ الطريق بين الجثث” كما جاء في “حفلة التيس” لمارغو بارغاس يوسا… وهل أطول من حفلة الأسد ودُماه من تيوس السياسة اللبنانيين في حياتنا؟!
قد يكوّر الإنسان ذكرياته، وقد يطويها ويعمل على تخزينها داخل أدراج روحه، بيد أن ثمة ذكريات لا تني تحطّم الأرواح لتعود وتنفلش من جديد، تماماً كانفلاش سجن صيدنايا في متون يومياتنا العادية. فسجن صيدنايا هو تدرّج جهنمي يؤرق – وعطفاً على تجربة شخصية عند مثلث خلدة الثمانينات – يؤرق ساعاتنا ودقائقنا ولحظات أهلنا وأشقائنا، وبشكل خاص أمهاتنا. إنه نظام صيدنايا المفتوح على كل احتمالات سلخ الجلد عن العظم، وحرق الأحياء، وسحب الأظافر وقطع الألسن وبتر الأطراف وقلع العيون واغتصاب النساء. إنه النظام الذي، وعبر سفلة بعض القيادات اللبنانية، نجح في تأطير حياتنا لعقود وعقود، عبر خيالات مستمدة من هذه الفظائع وتوالي الجنازات…
ثم فجأة، ومن خارج أي إمكان للتوقّع والتصديق، نرى حزب الله “اللبناني” يقدّم آلاف شباب الشيعة قرباناً عند باب نظام صيدنايا دفاعاً عن الوحش، عن هذا “الأسد” الذي، مهما كان حجم المكابرة والكذب على الذات، لا بدّ من الإعتراف بأنه نكّل بالشيعة في لبنان، تماماً كتنكيله ببقية الطوائف والملل في هذا البلد التعيس. يا لهذا الغيب الذي يسوق ناسه للدفاع عن صيدنايا الأسد وسائر تدرجاته في حياة اللبنانيين، وذلك تحت عنوان الممانعة وحماية ظهر المقاومة والتصدّي لإسرائيل والسبع دقائق ونصف! لكن، ومع اللحظات الأولى لساعة الحقيقة، وجدنا أنفسنا إزاء أكبر خدعة وأكبر كذبة في تاريخ المقاومات والممانعات ووحدة الساحات..
لدى التطرّق إلى أولئك الذي يتنطّحون كذباً حيال خوضهم الحروب، جاء في تراثنا العربي الرائع هذا المجاز البديع: إنهم يحاربون بـ”قرْنَي حمار”. نأمل، وقد تحطمتْ كل قرون هذا المحور الخيالية والكاذبة والفاشلة، والتي يبدو أنها كانت ببعض سلوكياتها تدرّجاً مباشراً لسجن صيدنايا، نأمل أن ننعم ببقية هدوء في هذه البلاد وبعيش كريم وسلام. هو أمل يستمدّ مضامينه، أكثر ما يستمدّها، من تخلّصنا من نظام الوحوش في سوريا، والذي راكم من الخوف والرعب والظلم ما حوّلنا في بعض لحظات عيشنا إلى قدّيسين. فلنتأمل بخشوع، الدم الذي أراقه نظام الأسد لعقود وعقود، ولنرهف السمع إلى صوت دموع أمهاتنا عند مثلث خلدة وغيره من مثلثات رعب تدرّجات صيدنايا في لبنان… إن الدموع الصادقة – وبالعودة إلى القديس أوغسطينوس – لا تضل الطريق.
المدن
—————————
خيارات الأردن مع سوريا ما بعد الأسد/ رنا الصبّاغ
11.12.2024
تنتظر عمان وحلفاؤها حال المعارضة السورية العلمانية المشككة بنوايا الهيئة، أن ترى أفعالاً على الأرض تعكس أقوال الشرع، الذي يحاول تسويق نفسه كرجل دولة براغماتي، يريد بناء دولة جديدة تتسع للجميع، بعد أن تراجع عن الفكر التكفيري.
جلب رحيل الرئيس بشار الأسد راحة مرحلية لقيادات في الدولة الأردنية، ممن عاشوا الأجواء السياسية والأمنية المتقلبة مع سوريا، خلال عهدي الأسدين على مدى أكثر من خمسة عقود.
تدرك القيادات أن هذه المشاعر مرتبطة بما سيحمله القادم المجهول، من تطورات مفتوحة على كل الاحتمالات، بعدما أطاحت فصائل المعارضة المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، المصنفة كـ”تنظيم الإرهابي” نظام الأسد خلال اثني عشر يوماً، بدون حمام دم، احتمالات تمس الأمن القومي الأردني والإقليمي.
شكا الأردن دوماً من التدخل السوري السافر في شؤونه الداخلية، وحرمانه حصته المائية السنوية في نهر اليرموك، المقدرة ب 375 مليون متر مكعب، وتهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود الصحراوية، وتأرجحت علاقات النظامين بين تأزم، وبزنس عادي، أو علاقات مجمدة. اليوم تراقب المملكة المشهد المتحول بحذر وقلق بالغ.
قال أحد المسؤولين لموقع “درج” إن السلطات الرسمية تحتاج إلى “شهر او شهرين قبل أن تتضح وجهة سوريا الجديدة، وتأثير رحيل الأسد على دول الجوار”.
المكسب السريع للأردن وباقي دول محور الاعتدال العربي، جاء من إزاحة نظام الأسد حليف إيران الحميم، وبعد قيام إسرائيل بتدمير القوة العسكرية لـ”حزب الله” في لبنان، واغتيال قيادات الصف الأول والثاني، ما كسرالعمود الفقري لمحور الممانعة الإيراني ونفوده في الإقليم.
قد يخفف ذلك، الضغط الشعبي الذي شكّله محور الممانعة بقيادة إيران عبر أدواتها المحلية، لضرب مصداقية الأنظمة التي عقدت معاهدات سلام مع إسرائيل، ولا تزال ملتزمة بالحوار للتوصل إلى حلول سياسية للصراع العربي الإسرائيلي.
بعض الدول العربية تتهيأ الآن لتقديم تنازلات جديدة إشكالية لإدارة دونالد ترامب الجديدة، لتمرير صفقات إنهاء الحروب حول العالم، بأقل الأضرار الممكنة على أمنها واستقرارها.
السيناريو الأفضل للأردن أن تكون عملية انتقال السلطة سلمية، وبمشاركة جميع مكونات المجتمع السوري بمن فيهم الأكراد، وأن يبدأ اللاجئون السوريون مغادرة المملكة والعودة إلى مدنهم وقراهم.
الأهم، أن يتمخض عن المسار الانتقالي للسلطة في سوريا دولة تحترم سيادة دول الجوار وحقوقها؛ بما فيها إسرائيل، بحسب مسؤولين أردنيين تحدثوا الى موقع “درج” بشرط عدم ذكر أسمائهم لحساسية المرحلة.
ثلاث سيناريوهات سيئة
السيناريو الأول الذي يزرع القلق في قلوب من تحدثت معهم هو أن تدخل سوريا في دوامة حرب أهلية ثانية، تفضي إلى موجة تهجير جديدة نحو الأردن، التي كانت تعمل مع نظام الأسد خلال العامين الماضيين، على ترتيبات تدريجية لعودة أكثر من مليون لاجيء سوري إلى مناطق خفض التصعيد.
السيناريو الثاني هو أن يتم استغلال بقايا الجماعات المسلحة التي عادت إلى الجنوب السوري مع قوات النظام و”حزب الله” وميليشياته في العام 2018، لخلق حالة من الفوضى على الحدود تتطلب تدخلاً عسكرياً أردنياً.
أما السيناريو الثالث هو أن تستفيق عمان بين ليلة وضحاها “على جار ديكتاتوري جديد يحمل الفكر التكفيري مدعوم من تركيا، حل مكان ديكتاتور علماني مدعوم من إيران”.
صراع التمثيل الشيعي و “المارد السنّي” ؟
تسعى إيران إلى فرض نفسها كقوة إقليمية مدعومة ببرنامج نووي تحتكر تمثيل الشيعة من خلال أدواتها المحلية “حزب الله” في سوريا ولبنان وقوات “الحشد الشعبي” في العراق والحوثيين في اليمن.
مقابل ذلك، هناك خطاب يمس تركيا وحليفتها قطر، وكلاهما يحتضن “الإخوان المسلمين” وفكرهم الذي يهدد النظام السياسي في الأردن.
تركيا تسعى أن تكون قوة إقليمية، تمثّل نموذجاً علمانياً ذا جذور إسلامية يعكس فكر “الإخوان المسلمين”؛ نجحت في تطبيقه في بلادها، وترغب في نقله إلى الدول ذات الغالبية السنية التي تعاني من تحدي الإسلام الأصولي، لكن ما نجح في تركيا قد يفشل في المنطقة، بسبب اختلاف الأنظمة التعليمية والحواضن الاجتماعية.
كما يخشى المسؤولون الأمنيون في مصر والأردن، من قيام القوى التكفيرية المتنفذة في مجتمعاتهم المحافظة، بالاختباء خلف النموذج التركي واقتناص الفرصة المناسبة لقلب نظام الحكم، كما حدث مع “الإخوان المسلمين” في مصر وتونس، بعد ثورات 2011.
حينها، أي حين وصل الإسلام السياسي للسلطة، تدخلت الدولة المركزية بدعم خليجي لإنهاء حكم الإخوان في البلدين وضرب الحريات العامة، وسُجن العديد من الإخوان في حين لجأ آخرون إلى قطر وتركيا.
في الأردن يشكل التيار الإسلامي تحدياً أمنياً وسياسياً للنظام، لأنه خطابه مناوئ لإسرائيل، وله نفوذ في الشارع المحتقن اقتصادياً والمنقسم ديمغرافياً، وفي الانتخابات الأخيرة، فاز حزب “جبهة العمل الإسلامي”، الذراع السياسي لجماعة “الإخوان المسلمين”، بأكبر عدد مقاعد بعكس توقعات الأجهزة السيادية، وأصبحوا الكتلة الأكبر في البرلمان، قبل أن يقوم حزب “الميثاق الجديد” والمحافظ الذي فاز بخمسة مقاعد، بحملة لحشد نواب حزبيين ومستقلين حوّلته إلى أكبر كتلة برلمانية.
درج
—————————–
يوم أدركنا في لبنان أن السوريين ليسوا “نظام الأسد”!/ سكال صوما
11.12.2024
في الشارع الناس يتبادلون التهاني والتباريك، لبنانيين وسوريين، حتى إن سائق التاكسي الذي أوصل إليّ أمانة يوم أمس، قال لي بدل “صباح الخير”، “مبروك”. نعم ألف مبروك، لقد سقط الأسد.
كمعظم أبناء زحلة وجوارها، كبرتُ على كره نظام الأسد، ونشأت بين مراكز الجيش السوري المرعبة أيام الوصاية الأسدية على لبنان.
أعرف عيونهم، وبدلاتهم العسكرية، أعرف الخطر الذي قد يشكّله مجرّد المرور قرب البيوت التي صادروها في بلدتنا، حفظتُ ما كتبوه على الجدران وما حفروه فينا وعلى السكك الحديد التي حطّموها قرب بيتنا.
لسنوات عدة شاركت في مخيمات صيفية في مدرسة، احتل الجيش السوري بعض مبانيها واستوطنها وأنشأ فيها مركزاً للتعذيب. من حسن حظي أنني لم أكن أعلم وقتها أنني كنتُ ألعب قرب مركز للتعذيب! عرفت لاحقاً، بعدما رحلوا وتركونا بسلام.
لم يكن في تلك الأيام التمييز متاحاً بين النظام السوري والسوريين، فحتى بائع الكعك حينذاك كنا نشكّ في أنه” مُخبر” للمخابرات السورية، وكانت للحيطان عيون وآذان، ولم نكن لنتخيّل أن هناك سورياً واحداً مثلنا يكره هذا النظام ويعاني منه.
كنا نعتقد أن جميع السوريين هم جنود لدى آل الأسد، وهو اعتقاد لم ينشأ من عبث، بل هو جزء من “باكيدج” الرعب الذي فرضه علينا النظام وقتها، أن نخاف من شعب بأكمله!
حين بدأت الثورة السورية عام 2011، لم أفهم شيئاً في البداية، واحتجت بالفعل إلى وقت حتى أستوعب أن النظام السوري يمكن أن يسقط وأن السوريين ليسوا النظام، وليسوا جميعاً جنوداً لدى “حزب البعث” سيئ الذكر، الذي استفاض في القتل والتعذيب والتنكيل باللبنانيين.
بعد حين طُلب مني العمل على قضايا اللاجئين السوريين في لبنان وأحوالهم، ولم أكن أملك خياراً. كانت المؤسسة التي أعمل فيها بوقتها مهتمة بتغطية وصول المساعدات للعائلات وتوزّع السوريين في المناطق. فعلتُ ذلك بصفتي صحافية في بداية مشوارها، تستمع إلى التعليمات وتنفّذها.
لكنّ الوقت مضى بسرعة وغرقتُ هناك. غرقت في حكايات الناس، في قضايا صعقتني، من السجون إلى خطر الاعتقال في حال العودة إلى سوريا، خبايا قرارات الترحيل، اللجوء، الجوع، التنكيل بالمعارضين، الإخفاء “خلف الشمس”. لم تكن القضايا التي عملتُ عليها مألوفة بالنسبة إلى كثيرين من معارفي الذين لم يتسنَّ لهم أن يدركوا أن السوريين ليسوا النظام، وأن حكاياتهم تستحق أن تُحكى وأنهم أصحاب قضية محقّة وصادقة.
كانت ذكريات أيام الاحتلال الأسدي تراود كثيرين من أبناء بلدي كلما رأوا مواطناً سورياً أو سمعوا حكايته. أما أنا، فكنت بالفعل غارقة، غرقت هناك، واصلتُ البحث ونبش القضايا بشراسة، صار لي أصدقاء في السجون، وآخرون من أهالي المعتقلين، اتصل بي كثيرون ورووا لي أنهم خائفون من أن يجبروا على العودة إلى سوريا.
أخبرني أحد الآباء أنه أخفى ابنه في مغارة في أحد الجرود حتى لا يصل النظام إليه، ثمّ انفجر وهو يرجوني ألا أخبر أحداً. أقفلت الخط ودخلت إلى الحمام لأبكي على راحتي يومها، ولا يسألني أحد لماذا تبكين.
أتذكّر الآن هيفاء التي روت لي كل شيء، أخبرتني كيف هربت من النظام في سوريا، وكيف تعرضت للتحرش في لبنان وكيف ربّت أولادها بعد اختفاء زوجها.
أتذكّر أحد السجناء السوريين في لبنان وهو يخبرني عن التعذيب الذي تعرّض له، لم يخرج صوته من رأسي حتى الآن، وهو يؤكد مراراً بأن عليّ ألا أذكر اسمه أمام أحد لأن ذلك قد ينهي حياته.
حكايات كثيرة، أصبح أبطالها أبطالي أيضاً وأحياناً أصدقائي. الآن وقد سقط النظام السوري، جميعهم يرقصون في قلبي، وآمل أنهم تذكّروني في الأيام القليلة الماضية، لعلّهم يشعرون مثلي بأننا ناضلنا من أجل لحظة واحدة، تحققت الآن.
لقد أكد الدفاع المدني السوري انتهاء البحث عن المعتقلين في سجن صيدنايا، وقيل إن من خرج قد خرج أما الباقون فيُعتقد أن النظام قتلهم في فترة الحرب السورية. أعرف بعض حكايات المعتقلين السوريين واللبنانيين، وآمل أن يكونوا جميعاً من الناجين، لكنّ مع ضعف الاحتمال، آمل أن يكونوا قد ارتاحوا الآن حيثما كانوا. مع سقوط الأسد سقطت أيضاً الأقنعة التي لطالما توارى خلفها من مقاومة العدو إلى القضاء على الإرهاب وصون أمن الأمة، وفُتحت أبوب السجون التي تشبه جهنّم، وشاهد العالم أن من عاشوا في زمن الأسد، جميعهم ضحايا ومن بقي منهم حياً، إنما نجا بأعجوبة.
ربما سمح لي عملي بالتعرف إلى ما يعنيه أن تكون سورياً، وقد استطعت أن أفهم كمّ المعاناة والظلم الذي واجهه السوريون طيلة 50 عاماً، نظرت في عيونهم وتحدّثنا. بعضهم أخبروني أنهم لم يكونوا على علم بمظالم النظام في لبنان، وقد فوجئوا حين عرفوا.
زميل سوري قال لي يوم سقط النظام: “لقد سقط… أعتذر عن كل المعاناة التي سبّبها لكم”. رسالته كانت كبيرة، فكما لم يستطع الكثير من اللبنانيين الوصول إلى لحظة التمييز بين النظام والسوريين، ربّما لم يتسنَ لجميع السوريين قبل الآن أن يعرفوا أن في قلوب اللبنانيين جرحاً يشبه جرحهم حدّ التماهي، وأن لحظة السقوط تلك، كانت قبلة دافئة فوق الجرحين… يستطيع الدفء أحياناً أن يخفف الجراح.
في الشارع الناس يتبادلون التهاني والتباريك، لبنانيين وسوريين، حتى إن سائق التاكسي الذي أوصل إليّ أمانة يوم أمس، قال لي بدل “صباح الخير”، “مبروك”. نعم ألف مبروك، لقد سقط الأسد.
درج
————————-
وداعاً كارمن كريم… أخيراً تحررتُ من اسمي المستعار
مع كارمن، عشت تجربة حرية لم أختبرها من قبل، ظهرت داخلي امرأة جديدة لم أكن أعرفها، امرأة ذات رأي سياسي وقدرة على التحليل والعمل والنقد اللاذع. تساءلت: أين كانت هذه المرأة عن السياسة طيلة حياتي؟
أذكر جيداً شعوري عندما كتبت المادة الأولى باسمي المستعار “كارمن كريم”، وكيف كنت أرتجف خوفاً وكأن الجلاد يقف خلف الباب، متحمسة ومترددة في الوقت ذاته وفي أحيان أخرى تساءلت: “هل يستحق الأمر؟”.
اخترت اسمي المستعار بعناية، لطالما أحببت اسم كارمن، هناك شعور داخلي يصعب تفسيره يخبرك أن هذا الاسم يلائمك ويعكس تجربتك، شيء عميق داخلي قادني نحو كارمن، لكن اختيار الاسم لم يكن التحدي الأصعب. التحدي الحقيقي بدأ مع كتابة أول مادة، حيث أصبحت الأمور أكثر ثقلاً على المستوى النفسي.
في كل المواد التي كتبتها تحت اسمي المستعار، كان ظل الأسد يخيم فوق رأسي، وثقل الخوف يستقر فوق كتفي، وكأنه يعذبني بالخوف. لم تكن كتابة أي مادة سهلة، لا نفسياً ولا حتى على صعيد جمع المعلومات أو التواصل مع المصادر، فقد كان هاجس كشف هويتي يطاردني باستمرار.
لم تساعدني سرية اسمي المستعار في النجاة من تهديدات النظام، إذ يكفي أني أعمل مع موقع يُصنف “معارضاً للنظام السابق”، كافياً لجعلي هدفاً للتهديدات المباشرة وغير المباشرة. حتى بتُّ أخشى الخروج في فيديو أتحدث فيه عن موضوع عادي كالفقر في سوريا، امتدت أيدي النظام السوداء لتسبقني حتى إلى لبنان، تلاحقني حيث ظننت أنني قد أجد بعض الأمان.
في سوريا، لجأت إلى طرق بسيطة لحماية نفسي، لاحقاً اكتشفت أني لم أعرف شيئاً عن الأمن الرقمي الذي كنا محرومين منه في سوريا، ربما كانت الصدفة، أو مجرد الحظ، هو ما أنقذني من المصير الذي كنت أخشاه.
كنت أحذف مقالاتي من الحاسوب، وأحتفظ بالمواد غير الجاهزة على “فلاشة” أخبئها في مكان سري، متجنبة ترك أي أثر على جهازي الشخصي. تحسباً للأسود، وضعت خطة لوقت الطوارئ، كان لي صديق يعمل مرغماً مع النظام لكنه يعارضه سراً، وكنت أعتمد عليه لإبلاغ عائلتي أو مساعدتي إذا تم اعتقالي، أعطيت رقمه لأختي وقلت لها: “إذا اختفيت شي يوم أو أخدني الأمن دقي لهرقم”.
ثم شعرت أن البلاد بدأت تلفظني، في أحد الأيام، تعرضت لتحرش لفظي من جنود النظام، على حاجز في الطريق الذي يصل عقربا بجرمانا، طلبوا تفتيش حاجياتي، وكادوا يفتشون حاسوبي، لكنهم لسبب ما – أو ربما لجهلهم بكيفية البحث داخله – تركوني وشأني، في ذلك اليوم تحديداً لم أخبئ الفلاشة كما اعتدت وكانت موضوعة في مكان مكشوف كما أني لم أحذف كل المواد عن حاسوبي، حين وصلت إلى المنزل بسلام، بدأت أفكر بترك سوريا.
درج
—————————
ما بعد سقوط الأسد: مخاوف كردية واقعية/ براهيم اليوسف
11 كانون الأول 2024
إلى روح صديقي الشاعر محمد فتحي الحريري ابن بصرى الحرير!
ما يُعرف بإسقاط النظام السوري يحمل في طياته من التساؤلات أكثر مما يحمل من الحقائق الواضحة. لم يكن مشهد سقوط المدن السورية بشكل متتالٍ وبهذه السهولة أشبه بسقوط أحجار الدومينو حدثاً طبيعياً ناتجاً عن إرادة شعبية محضة أو ثورة خالصة. إذ إن نظاماً بُنيت أسسه على تحالفات دولية وإقليمية متينة، وحصل على دعم سياسي وعسكري واقتصادي واسع من دول كبرى كإيران وروسيا، لا يمكن أن يتهاوى بهذه الطريقة دون ترتيبات خفية قد تصل إلى حد الاتفاقيات السرية، سرعان ما باتت خيوطها تظهر تباعاً، وهذا ليس انتقاصاً لإرادة الثوار الشجعان الذين واجهوا أعتى نظام دكتاتوري في العالم، وتمكنوا من إسقاطه الذي تأجل إعلان سقوطه إلى الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 2024 بكفالة دولية للأسف، تم سحبها الأحد!
إنَّ قراءة دقيقة للمشهد تكشف أنَّ ما جرى هو أقرب إلى “عملية تسليم واستلام” منه إلى انهيار تام لنظام الأسد الذي سقط مع أول صرخة: الشعب يريد إسقاط النظام من أقصى سوريا إلى أقصاها. قوى المعارضة التي كان يُفترض أن تكون البديل، أُشبعت اختراقاً من الداخل، واحتُويت من الخارج، ما أدى إلى إخفاقها في تقديم نموذج قابل للحياة. ومن هنا، يظهر السؤال المحوري: هل ما حدث كان سقوطاً فعلياً للنظام أم أنه إعادة تموضع له تحت غطاء مختلف، يضمن استمراره في التحكم بمصير سوريا بطرق ملتوية؟
صفقة الأسد والمخرج الآمن
ثمة أنباء متواترة تؤكد أنَّ رأس النظام بشار الأسد وشقيقه ماهر قد ضَمِنا مخرجاً آمناً عبر صفقة دولية، يُرجح أنها تمت برعاية روسية وإيرانية، وبرضا دولي ضمني. إذ تشير الدلائل إلى أنَّ النظام لم يُسقط عسكرياً، بل أعيد إنتاجه في قالب جديد يضمن استمرار النفوذ ذاته بوسائل أخرى. لم يكن خضوع حلفاء الأسد، كإيران وروسيا، للواقع إلا بفعل معادلات صعبة، إذ إنهم، لطالما استوعبوا دروس جنوب لبنان، وأدركوا أنَّ أيّ محاولة لمقاومة السيناريو الدولي الجديد ستكون مكلفة للغاية، لطالما صورة حسن نصرالله وخلفائه كانت ماثلة أمام أعين هؤلاء القتلة وتؤرقهم.
لكن لماذا تقدم الدول الكبرى على هذه الترتيبات؟ يبدو أنَّ الهدف ليس فقط إزاحة الأسد كفرد، بل تفريغ سوريا من قوتها ومن مكوناتها، لتتحول إلى ساحة فارغة مهيأة لاستقبال مشاريع الشرق الأوسط الجديد.
الشرق الأوسط الجديد: سوريا كساحة لإعادة التشكيل
ما نراه اليوم في سوريا قد يكون بداية لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تتردد أصداؤه في الكواليس السياسية منذ سنوات. إذ لم يكن تدمير المدن السورية وتشريد سكانها وتفكيك نسيجها الاجتماعي محض صدفة، بل هو تنفيذ دقيق لمخطط طويل الأمد. المشروع يستهدف استبدال القوى التقليدية بمجموعات متناحرة، وضمان أن تبقى سوريا وشعوبها مجرد أدوات بيد القوى العظمى.
لطالما كان الكرد من أبرز ضحايا هذا المخطط. إذ إن العقد الأخير شهد تهجيرهم القسري، تدمير قراهم ومدنهم، وتشويه صورتهم في الإعلام المحلي والدولي. قوائم المعتقلين السوريين، التي تُكشف تدريجياً، تحمل أسماء كثيرة من الكرد الذين دفعوا ثمناً باهظاً لوقوفهم في وجه الطغيان. ومع ذلك، تُستخدم ذرائع واهية لتبرير التحريض ضدهم، من بينها الحديث عن علاقتهم بالنظام أو بقسد، متجاهلين أن الكرد وبالفطرة كانوا معارضين للقوى العنصرية التي حاربتهم منذ زمن جمال عبدالناصر ومروراً بعهد البعث ولا سيما في عهد الأسدين الابن والأب.
التحريض ضد الكرد: جذوره وأبعاده
التحريض ضد الكرد ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لسياسات نظام البعث التي رسخت العنصرية كأساس للحكم. إذ إن هذا النظام لم يكتف بحرمان الكرد من حقوقهم القومية، بل عمد إلى استغلالهم كأداة لتبرير فشله في تحقيق مشروع دولة موحدة عادلة. ما نشهده اليوم في دير الزور ومنبج والرقة هو استمرار لهذا النهج. يتم شيطنة الكرد جماعياً بسبب وجود قسد، في حين أنَّ العلاقة بين قسد والنظام ليست سوى امتداد لعلاقات معقدة تشبه تلك التي جمعت النظام بداعش أو بعض الفصائل المسلحة.
لكن، أليس من الواجب على قادة إسقاط النظام – لو كان الهدف فعلاً إسقاط النظام – أن يمنعوا انزلاق الأمور إلى هذا المستوى؟ ألم يكن الأجدى التفاوض مع قسد لضمان خروجها من المناطق غير الكردية بعد القضاء على داعش؟ إذ إن بقاء قسد في تلك المناطق لم يكن ضرورياً، بل منح الذرائع للتحريض ضد الكرد ككل، مما يهدد بخلق فتنة أكبر تضرب النسيج السوري برمته.
الكرد وسؤال المصير بعد الأسد
الشعب الكردي، الذي عانى من التهجير، والاضطهاد، والتهميش لعقود، يجد نفسه اليوم أمام مستقبل غامض. فإذا كان سقوط الأسد، أو بالأحرى إعادة تموضعه، قد أتى كجزء من ترتيبات دولية، فإنَّ حقوق الكرد تبدو مرة أخرى رهينة للمصالح الإقليمية والدولية. لطالما كانت القضية الكردية في سوريا جزءاً من معادلة أكبر تتجاوز حدود الدولة السورية لتشمل تركيا، إيران، والعراق، مما يجعل تحقيق مطالب الكرد أمراً مرتبطاً بقدرة هذه الدول على التوصل إلى تفاهمات شاملة.
لكن، ما لم يدركه الكثيرون، هو أن استمرار التحريض ضد الكرد سيؤدي إلى نتائج كارثية ليس على الكرد فقط، بل على مستقبل سوريا ككل. إذ إن الحل الوحيد الممكن يكمن في الاعتراف بحقوق الكرد كشريك أساسي في بناء الدولة السورية الجديدة، بعيداً عن سياسات الإقصاء والتمييز.
أفق جديد أم طريق مسدود؟
بعد سقوط الأسد، أو إعادة ترتيبه، تبقى المخاوف الكردية أكثر حضوراً من أي وقت مضى. فالمشهد الحالي يكشف أنَّ سوريا ليست إلا ساحة مفتوحة للصراعات الدولية، حيث تُستخدم الشعوب كبيادق في لعبة أكبر منهم. إذا لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية لإعادة بناء سوريا على أسس عادلة وشاملة، فإن المخاوف الكردية ستظل قائمة، وسيظل مستقبل البلاد بأكملها معلقاً على خيوط المصالح الدولية.
ايلاف
—————————
سلام عليك يا شام/ بكر عويضة
11كانون الول 2024
حقنُ دماء السوريين، وكف أيادي إلحاق أذى الشر بأي بشر بريء ينتمي لأي من الطوائف، هما حق لكل أبناء سوريا، التي عُرِفَ عنها تعدد أعراق أهلها، وتنوع ثقافاتهم. ذلك الحق، هو في الآن نفسه، واجبٌ معلّق في أعناق قادة مجموعات مسلحة تمكنوا، خلال زحف مفاجئ وحثيث، لم يستغرق سوى بضع ليال، وبدا كما لو أنه زلزال وقع بين طرفة عين وانتباهتها، من إطاحة نظام حزب «البعث» السوري، بعدما هَرِمَ في الحكم حتى تجاوز ستين عاماً من التشبث بالبقاء على رأس هرَم السُّلطة، بدءاً من عام 1963، فهل يثبت هؤلاء أنهم أتوا فعلاً لإقامة حكم مختلف عما أطاحوا، أم أن مقبل الأيام سوف يكشف أن الذي انقلبوا عليه بُعِث من جديد، ولو تغيّرت وجوه وأسماء؟
ثمة أكثر من مبرر لهذا التساؤل. يكفي استحضار مثال العراق، ومن بعده ليبيا، وكذلك السودان. في الحالات الثلاث، مع ملاحظة تباين أحداث البلدان الثلاثة، حصل نوع من التحسّر بين قطاع معتبر من الناس عند المقارنة بين نظام انهار فهللوا لانهياره، وأمسى جزءاً من ماضٍ تولى، وبين واقع لم يأتِ بما توقعوا، وإنما بالنقيض، خصوصاً من حيث ضياع الاستقرار، الذي هو الحجر الأساس للأمن الوطني، والعمود الفقري للسلام بين مختلف قطاعات المجتمع. ليس قصد هكذا مقارنات الاصطفاف إلى جانب طرف ضد آخر. لو سُئل الناس، في مختلف المجتمعات على وجه الأرض، أن يجيبوا عن السؤال التالي: ماذا تريد من الحياة؟ لأتى مضمون الجواب على النحو الآتي: عافية البدن، وصفاء البال، واطمئنان النفس. عندما يُقْتَلع أي من أضلاع هذا المثلث، لن يغدو ممكناً تحقيق الأمان بأي مجتمع.
الآن، وقد طوى سجل تاريخ سوريا، ومعها المنطقة ككل، زمن الحكم البعثي، بكل ما له، وما عليه، ليس واضحاً بشكل محدد، أي مستقبل ينتظر سوريا، والسوريين، وكل الإقليم. من جديد، يبرز السؤال المهم: هل يجري، على وجه التحديد، استنساخ مثال العراق، وكذلك واقع ليبيا الممزق، أم يجوز القول إن مراكز صنع القرار العالمي، ومعها القوى الأساسية في المنطقة، لن تسمح بهكذا سيناريو يفتح جبهات حروب ونزاعات جديدة داخل سوريا، الأرجح أن تمتد ألسنتها إلى دول مجاورة؟ من الطبيعي أن منطق التحليل السياسي يرجح الافتراض الثاني. لكن شبهة شك سوف تحوم حول موقف تيار اليمين المتطرف في إسرائيل بزعامة بنيامين نتنياهو. سبب ذلك أن هذا التيار قد يرى الفرصة مواتية للإجهاز على مقومات الدولة في سوريا، وإنهاء وجود جيشها تماماً على الأرض، إلا إذا كان لإدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب المقبلة، موقف مغاير يلجم متطرفي إسرائيل وفقاً لما يراه البيت الأبيض.
الشرق الأوسط
———————
التوغل الإسرائيلي وتدمير الجيش السوري… بين الأهداف العسكرية والرسائل السياسية/ سميح صعب
11 كانون الأول 2024
في اليوم الذي أعلن عن دخول الفصائل السورية المسلحة إلى دمشق ومغادرة بشار الأسد إلى موسكو الأحد الماضي، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يسارع إلى هضبة الجولان السورية المحتلة ليلتقط صورة، وليعلن أنه لولا الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة ولبنان وضرب إيران، لما أمكن إسقاط النظام في سوريا و”تغيير وجه الشرق الأوسط”، وفق ما قال عند بدء هذه الحرب في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. أرفق نتنياهو تصريحه بالإعلان عن سقوط اتفاق “فك الاشتباك” لعام 1974، ودخول القوات الإسرائيلية إلى المنطقة العازلة التي أنشئت بموجب ذاك الاتفاق، لتسيطر على قمة جبل حرمون وخمس مدن في المنطقة المحررة من الجولان السوري، ثم واصلت التوغل لتبلغ مسافة تبعد 25 كيلومتراً عن دمشق، وفق تقارير. ومنذ التاسع من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، شنّت الطائرات الإسرائيلية أوسع حملة جوية على سوريا منذ حرب 1973، مستهدفة البنى التحتية للجيش السوري، تحت شعار القلق من وقوع الأسلحة السورية “في أيدي جماعات معادية لإسرائيل”، علماً بأن أياً من الفصائل التي سيطرت على دمشق، وتتولى إدارة المرحلة الانتقالية، لم تصدر عنها أيّ مواقف يُستشف منها الاهتمام بإسرائيل. ونقلت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية عن بعض المراقبين الإسرائيليين ذهابهم إلى حدّ التكهّن بأن تكنّي زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع بـ”أبو محمد الجولاني”، نسبة إلى مسقط رأس عائلته، “قد يكون إشارة إلى أن لديه مخططات في الجولان” مستقبلاً، في وقت يعتقد آخرون بأن “الهيئة” المصنفة على لوائح الإرهاب في الغرب، تحمل إيديولوجيا شبيهة بإيديولوجية “حماس”. ولا يخفي مراقبون أن التدخل الإسرائيلي العسكري قد يكون بمثابة رسالة إلى تركيا التي تدعم الجولاني و”حماس”، بعد بروزها عقب تبدّل النظام في سوريا اللاعب الأقوى في هذا البلد. وفي معرض تبرير الإجراءات الإسرائيلية، قال نتنياهو في رسالة إلى مجلس الأمن: “إنها موقف دفاعي موقت ريثما يتم التوصل إلى ترتيب مناسب”. والجدير بالذكر في هذا السياق أن وزراء اليمين المتطرف في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي يطالبون بضم أجزاء من الجولان السوري الذي لم تكن تحتله إسرائيل حتى التاسع من كانون الأول. وطالب المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة السفير فاسيلي نيبينزيا إسرائيل، في الجلسة الطارئة لمجلس الأمن بشأن سوريا ليل الإثنين، بـ”تحديد” الأجزاء التي تعتبرها ضمن أراضيها في الجولان. على أن دخول إسرائيل على مشهد الفوضى السورية قد يحمل أبعاداً بعيدة المدى. ولا يمكن استبعاد أن إسرائيل بضربها الجيش السوري تحول بذلك دون استعادته توازنه أو ترميم قدراته على المدى المنظور. وعدم وجود جيش قوي يعني تهديداً لوحدة سوريا وإفساحاً في المجال أمام طرح صيغ أخرى لمستقبل البلاد. ويتعين التوقف ملياً عند تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس، الذي قال الإثنين إن “التفكير في قيام دولة سورية واحدة، مع سيطرة فعالة وسيادة على كل مساحتها، أمر غير واقعي”. ربما يفسر هذا الموقف الكثير من أهداف الحملة العسكرية الإسرائيلية على سوريا، ويبعث برسالة مفادها أن التغيير الاستراتيجي الذي تنشده إسرائيل في الشرق الأوسط بات يقتضي نظرة جديدة إلى خرائط الدول وإعادة رسمها من جديد، بما يتوافق مع رؤية إسرائيل لنظرية الأمن لديها. وبحسب مديرة برنامج سوريا في معهد دراسات الأمن القومي كارميت فالنسي، فإنه “مع رحيل الأسد، وبينما لم تعد إيران لاعباً قوياً في سوريا، فإن ثمة فرصة لدى إسرائيل لاستخدام الديبلوماسية مع اللاعبين الجدد هناك ومحاولة ضمان الأمن”. في المحصلة، تنطوي الحملة الإسرائيلية الواسعة على سوريا على مضامين عسكرية… وسياسية على حدّ سواء!
النهار العربي
————————–
كيف نتعامل مع سوريا الآن؟/ طارق الحميد
11 كانون الأول 2024
سقط بشار الأسد وسقط معه مشروع تخريبي كبير، وهذا ما يجب أن نتذكره دائماً وأبداً عند الحديث عن سوريا ومستقبلها، وكيف يجب أن تكون، وكيف يجب أن نتعامل معها، وعند التفكير بما ننتظره منها.
سقوط الأسد ليس كسقوط صدام حسين. في العراق سقط نظام وحزب، وهو البعث. بينما في سوريا سقط مجرم خدم مشروعاً تدميرياً طائفياً، بدأ بتدمير النسيج الاجتماعي السوري، وتحويل سوريا من دولة إلى وكر مؤامرات.
حول سوريا إلى سجن كبير، وقبل الثورة، وأجج الصراع في العراق، وحول سوريا، ومنذ سقوط نظام صدام، ممراً للإرهابيين حيث التدريب، والتزويد بالوثائق المزورة، وجعل دمشق نقطة تلاقي وتوزيع لجل إرهابيي الخليج.
ودمر بشار المؤسسات في لبنان، وهندس مع «حزب الله» معظم الاغتيالات ببيروت، وعمل على ضرب النسيج الاجتماعي اللبناني، وشل مؤسسات الحكم اللبنانية إلى لحظة سقوطه.
اليوم، وبعد سقوط الأسد ومشروع التدمير الطائفي، وهو زلزال سياسي لم تستوعبه المنطقة بعد، وقبل أن يكمل الأسد أسبوعاً من السقوط، انطلقت المطالبات والانتقادات، والتشكيك بقيادات سوريا الجديدة، وخصوصاً أحمد الشرع، ورفاقه.
وهذا شيء مفهوم، ومقبول، ومتوقع، لكن ما هكذا يجب التعامل مع سوريا، بل ومن المبكر. المطلوب اليوم للتعامل مع سوريا الجديدة هو عدم تصديق الوعود، ورفع سقف التوقعات، بل العمل على قدم وساق، سواء من السوريين أو المحيط العربي.
على السوريين الآن رفع أصواتهم ليس للنزاع، بل للنقاش وطرح التصورات والأفكار، والتذكر أن الطريق طويل، وجل التجارب بمنطقتنا بعد سقوط الأنظمة الديكتاتورية الوحشية قاسية وصعبة، وعليهم اتخاذ الحيطة والحذر، والاعتبار مما مضى.
أما عربياً، فعلى دول الاعتدال التواصل وتقديم المشورة، وحماية المشروع السوري الجديد من الاختطاف الآيديولوجي، أو التخريب، لأن المشروع التخريبي الطائفي الإرهابي الذي سقط مع سقوط الأسد لن يغفر ما حدث، بل ولم يُفِق من هول الصدمة إلى الآن.
على الدول العربية، وتحديداً الخليجية، وعلى رأسها السعودية، التواصل مع سوريا الجديدة، ورسم قواعد التعامل، والمساعدة والنصح السياسي، والمساهمة مع المجتمع الدولي لرفع العقوبات عن سوريا الجديدة وفق صيغ قانونية نظامية تضمن عدم تكرار ما حدث.
اليوم ليس يوم نقد الحكام الجدد، فالمفترض أنهم مؤقتون، ويجب أن يكون هناك إطار زمني انتقالي لتحديد مسار نظام الحكم بسوريا، من وضع الدستور، وما يتبعه من اتفاقات قانونية ونظامية، وخلافه.
وليس المقصود بعدم الانتقاد تكميم الأفواه في الإعلام، فهذا خطاء وجريمة، بل النقد المسؤول، والتنبه بألا ندعم مشروعاً آيديولوجياً جديداً بسوريا، أو خدمة أجندات بالية خسرت مع سقوط الأسد، وتقوم بدس السم في العسل.
الواجب أن ننتقد وقت كان الانتقاد مطلوباً، ونحذر، ونعلق، وننصح، لكن دون أن نقوّض مشروعاً جديداً يريد التعافي من كارثة عمرها قرابة الستين عام، وساهم فيها آل الأسد، وأعوانهم من أصحاب المشروع التخريبي.
هذا ما تحتاجه منا سوريا، وهكذا يجب أن نتعامل معها لأن الطريق طويل وصعب، ومليء بالوحوش.
الشرق الأوسط
————————
استراتيجية إسرائيل في سوريا وخطة إشعال الأزمات/ د. محمود الحنفي
11/12/2024
منذ اندلاع الثورة السوريَّة عام 2011، في إطار ما يعرف بثورات الربيع العربي، وجدت إسرائيل في حالة الفوضى الداخلية فرصة لتقليص نفوذ دمشق الإقليمي. استفادت في ذلك من ضعف الدولة السورية وانشغالها بأزماتها. ومع هذا، فإنها تظلّ قلقة من التهديدات الأمنية التي قد تنشأ على حدودها الشمالية، خاصة فيما يتعلق بالنفوذ الإيرانيّ، ونقل الأسلحة إلى حزب الله والجماعات المسلحة الأخرى التي قد تستغل الفراغ الأمني.
في ظل هذه التحديات، يبرز سؤال محوري: كيف يمكن لسوريا الخروج من دائرة الانشغال الذاتي المستمر؟ وكيف تستطيع القيادة السورية الجديدة تبني سياسات عقلانية تعزز السيادة الوطنية، وتدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتلعب دورًا محوريًا في القضايا العربية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية؟
يناقش المقال الأسئلة التالية:
كيف تتعامل إسرائيل مع سوريا لضمان استمرار ضعفها وانشغالها بنفسها؟ كيف تنظر إسرائيل إلى التهديدات الأمنية من الأراضي السورية، خاصة تلك المرتبطة بإيران وحزب الله، أو المجموعات التي قد تنشأ نتيجة للتطورات الحاصلة؟ وأخيرًا، كيف يجب على القيادة السورية الجديدة التعامل مع هذه التحديات؟ وهل يمكن بناء دولة ديمقراطية مؤسسية تنظر إلى هذه القضايا من منظور منطقي وعلمي يخدم مصلحة الشعب السوري؟
الإجابات عن هذه الأسئلة ستستعرض السياسات الإسرائيلية الحالية تجاه سوريا، مع تقديم رؤية لما ينبغي أن تكون عليه الإستراتيجية السورية المستقبلية.
أولًا: إبقاء سوريا منشغلة بنفسها
تنظر إسرائيل إلى سوريا كتهديد أمني مستمر حتى في ظل انشغالها بمشكلاتها الداخلية. هذا التصور دفعها إلى تبني إستراتيجية مدروسة تهدف إلى ضمان بقاء سوريا ضعيفة وغير قادرة على استعادة دورها الإقليمي. تعتمد هذه الإستراتيجية على استغلال الأزمات الداخلية السورية، وتعزيز حالة الانشغال، إضافة إلى التدخلات المباشرة عند الحاجة، واستخدام الضغط الدولي والعزلة الإقليمية؛ لضمان إضعاف سوريا على المدى الطويل.
بالنسبة لإسرائيل، استمرار الأزمات الداخلية في سوريا أداة فعالة لإضعاف الدولة السورية وإفقادها قدرتها على التأثير، خاصة في القضايا الكبرى. مواجهة النـظام السوري عسكريًا للثورة الشعبية، التي اندلعت عام 2011، دمرت البنية التحتية للدولة، وأضعفت مؤسساتها، وجعلتها غير قادرة على لعب أي دور محوري في القضايا الإقليمية. هذه الأوضاع جعلت سوريا أكثر انشغالًا بمشكلاتها الداخلية، وهو ما يخدم المصالح الإسرائيلية التي تستفيد من ضعف قدرة سوريا على التأثير في المشهد السياسي أو العسكري الإقليمي.
لكن إسرائيل لا تعتمد فقط على مراقبة هذا الانشغال الطبيعي، بل تتدخل بشكل مباشر لضمان استمراره. الغارات الجوية الإسرائيلية تُعد واحدة من أبرز أدواتها لتحقيق هذا الهدف، حيث تستهدف مواقع عسكرية تابعة للنظام السوري أو للقوى الإيرانية وحزب الله.
على سبيل المثال، خلال عام 2024، نفذ سلاح الجو الإسرائيلي غارات على مواقع إستراتيجية في دمشق وحلب، يُعتقد أنها مراكز لتخزين الأسلحة الإيرانية ومراكز لوجيستية. الهدف الرئيس من هذه العمليات هو منع إعادة بناء القدرات العسكرية السورية أو تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة.
تستغل إسرائيل أيضًا الوضع الداخلي المتدهور في سوريا لإبقائها في حالة من الانقسام والضعف. كما قلنا، فالمواجهة المسلحة بين الحكومة وقوات المعارضة أثرت بشكل كبير على البنية التحتية والمؤسسات الوطنية، وجعلت سوريا عاجزة على تمويل مشاريع إعادة الإعمار أو تحسين أوضاعها الداخلية.
تفكك الدولة وفقدان السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي أسهما في جعل النظام السوري أكثر هشاشة. هذا الوضع وفر لإسرائيل فرصة لتعزيز حالة الانقسام والضعف.
دعمت إسرائيل كذلك الثورات المضادة في المنطقة كجزء من إستراتيجيتها لضمان بقاء الأنظمة غير الديمقراطية منشغلة بمشكلاتها الداخلية. بالنسبة لها، وجود أنظمة ضعيفة وغير مستقرة يعزز فرصها لتقليص النفوذ السوري الإقليمي ويحول دون أي تهديد إستراتيجي مباشر.
وعلى الصعيد الإقليمي، استغلت إسرائيل حالة الفوضى لتعزيز علاقاتها مع بعض الدول العربية من خلال اتفاقيات التطبيع. هذه العلاقات ساعدت على زيادة عزلة النظام السوري سياسيًا وإقليميًا. بالإضافة إلى ذلك، دفعت إسرائيل نحو تعزيز العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري، مما زاد من صعوبة أي محاولات لإعادة الإعمار أو تحسين الوضع الاقتصادي.
الهدف الإستراتيجي لإسرائيل من كل هذه السياسات مزدوج. فمن جهة، تسعى إلى إبقاء سوريا غارقة في أزماتها الداخلية وغير قادرة على استعادة قوتها، ومن جهة أخرى، تعمل على منع تحولها إلى مصدر تهديد أمني جديد. هذه الإستراتيجية ليست عشوائية، بل تقوم على أدوات مدروسة تشمل التدخلات العسكرية، الضغط السياسي، والعزلة الدولية، بهدف ضمان تفوق إسرائيل الإستراتيجي وإضعاف أي محاولات سورية لاستعادة دورها الإقليمي.
إجمالًا، تُظهر هذه السياسات رغبة إسرائيلية واضحة في إبقاء سوريا ضعيفة وغير قادرة على التأثير في المعادلات الإقليمية. إسرائيل لا تستهدف فقط النظام السوري كخصم سياسي، بل تسعى إلى تقويض الدور الإقليمي لسوريا بشكل شامل، مما يفقدها ميزتها الإستراتيجية على المدى الطويل.
ثانيًا: القلق من التهديدات الأمنية
القلق الإسرائيلي من التهديدات الأمنية في سوريا ليس وليد اللحظة، بل يمثل امتدادًا لحقبة طويلة من التوترات الإقليمية. منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، وجدت إيران في سوريا فرصة لتعزيز نفوذها الإقليمي، مستغلة حالة الفوضى لتأسيس وجود عسكري قوي عبر مليشياتها، مثل: “فيلق القدس” و”حزب الله”. بالنسبة لإسرائيل، شكل هذا التواجد الإيراني تهديدًا مباشرًا، حيث تحولت الأراضي السورية إلى جسر لنقل الأسلحة المتطورة إلى “حزب الله”، الذي يمتلك ترسانة صاروخية قادرة على استهداف العمق الإسرائيلي.
في مواجهة هذا الخطر، اعتمدت إسرائيل إستراتيجية الضربات الوقائية المكثفة، منفذة مئات الغارات الجوية على أهداف إيرانية وأخرى تابعة لـ”حزب الله” داخل سوريا، حيث استهدفت مستودعات أسلحة ومراكز قيادة وقوافل تنقل أسلحة متطورة.
ورغم هذه الجهود، يظل القلق الإسرائيلي قائمًا، حيث ترى أن الهدف الإيراني يتجاوز مجرد تقديم الدعم التكتيكي لـ”حزب الله”، ليشمل ترسيخ وجود إستراتيجي طويل الأمد في سوريا يمكن أن يشكل جبهة تهديد جديدة على حدودها الشمالية.
ومع ذلك، فإن المخاطر التي تثير قلق إسرائيل لا تقتصر على التواجد الإيراني فقط.
فبسقوط النظام السوري وانسحاب إيران ومليشياتها، فإن الفراغ الأمني الناتج عن ذلك يفتح الباب لتهديدات جديدة، أبرزها الجماعات المسلحة. تفكك الدولة السورية وضعف سلطتها المركزية من شأنه أن يخلق بيئة خصبة لنشاط جماعات محلية وعابرة للحدود قد تستغل هذا الفراغ. وقد تُستخدم الأراضي السورية كقاعدة لشن هجمات على حدود إسرائيل، خاصة في الجولان المحتل.
علاوة على ذلك، فإن ترسانة الأسلحة المتبقية في سوريا بعد سقوط النظام تمثل تهديدًا إضافيًا بما تقدمه من فائض تسليح للجماعات المسلحة. حتى مع غياب إيران المباشر، يظل خطر تهريب الأسلحة إلى “حزب الله” أو جهات أخرى قائمًا، مما يعزز من القلق الإسرائيلي بشأن أمنها القومي.
إسرائيل تدرك أيضًا أن سقوط النظام السوري لا يعني بالضرورة نهاية النفوذ الإيراني. فقد تتبنى إيران إستراتيجيات غير مباشرة، مثل دعم وكلاء محليين أو تأمين طرق تهريب بديلة، لضمان استمرار تأثيرها في المنطقة. هذا السيناريو يجعل التحديات الأمنية لإسرائيل أكثر تعقيدًا، حيث تصبح المواجهة مع شبكة غير مركزية من التهديدات أكثر صعوبة من التعامل مع خصم مركزي واضح.
هذه السياسات تمثل جزءًا من رؤية إسرائيل للحفاظ على تفوقها الأمني في منطقة مليئة بالتغيرات والمخاطر المحتملة، مع إدراكها أن الخطر قد يتغير في طبيعته، لكنه يظل قائمًا في ظل غياب الاستقرار الإقليمي.
ثالثًا: كيف تواجه القيادة السورية الجديدة ذلك؟
تواجه القيادة السورية الجديدة مجموعة من التحديات المصيرية التي تتطلب رؤية إستراتيجية شاملة لتحقيق الاستقرار الداخلي وتعزيز الدور الإقليمي. في ظل الطموحات الإسرائيلية التي تركز على تعزيز نفوذها الإقليمي، وتكريس احتلالها للأراضي الفلسطينية والجولان السوري المحتل، يصبح التصدي لهذه التحديات أمرًا ملحًا.
لذا، يجب على القيادة السورية الجديدة تبني خطوات عملية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني من خلال تعزيز المصالحة الوطنية وتوحيد الصف العربي لمواجهة الانتهاكات الإسرائيلية. كما يتعين تفعيل الدبلوماسية السورية لتسليط الضوء على قضايا الاحتلال وبناء تحالفات دولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى تعزيز المنظومة الدفاعية لمواجهة التهديدات الإسرائيلية.
إلى جانب ذلك، فإن إعادة بناء الدولة لتحقيق الاستقرار الداخلي تتطلب تحولًا جوهريًا في هيكلية الدولة. يتمثل ذلك في تعزيز الديمقراطية واحترام التعددية السياسية من خلال بناء نظام قضائي مستقل يضمن سيادة القانون، ومكافحة الفساد عبر تحقيق الحوكمة الرشيدة وتعزيز الشفافية في إدارة الموارد الوطنية بما يحقق عدالة التوزيع. علاوة على ذلك، يجب الاستثمار في البنية التحتية وإعادة الإعمار لتوليد فرص عمل وتعزيز الإنتاج المحلي، وتطوير الموانئ السورية كمراكز تجارية إقليمية تدعم الاقتصاد الوطني.
لا يمكن تجاهل أهمية تعزيز العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، والتي تشكل جوهر أي رؤية مستقبلية. لتحقيق ذلك، يجب ضمان الحريات الأساسية من خلال تعزيز حرية التعبير والمشاركة السياسية لجميع الأطياف، وتطبيق العدالة الانتقالية لمعالجة انتهاكات الماضي بآليات قانونية تحقق المصالحة الوطنية. كما ينبغي تحسين الخدمات الأساسية، مثل التعليم والصحة لتلبية احتياجات المواطنين وتعزيز الكرامة الإنسانية.
لتنجح القيادة السورية الجديدة في مواجهة هذه التحديات، يجب أن تتبنى رؤية متكاملة توازن بين إعادة بناء الدولة والتصدي للطموحات الإسرائيلية. إن تحقيق هذه الرؤية يتطلب إرادة سياسية قوية وخططًا عملية تعيد بناء الثقة بين الشعب والقيادة، وتضع سوريا على طريق استعادة دورها كمحور إستراتيجي في المنطقة. بذلك، تكون سوريا قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الأطماع الإسرائيلية.
شبكة الجزيرة.
———————–
الرابحون والخاسرون من سقوط الأسد/ عمر كوش
10/12/2024
شكّل الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 يومًا فارقًا في تاريخ سوريا، وفي حياة السوريين أيضًا، إذ شهد سقوط نظام الأسد، ودخول فصائل المعارضة العاصمة دمشق، وأعلن بداية مرحلة جديدة، يتطلع السوريون بأن تطوي صفحة النظام السابق، وتشرق فيها شمس الحرية والكرامة، وتضع أسس دولة القانون والمؤسسات.
ومع سقوط النظام وهروب بشار الأسد إلى موسكو، يطرح السؤال عن الخاسرين والرابحين من هذا السقوط على مختلف المستويات.
بدايةً، الرابح الأكبر هو الشعب السوري الذي عانى من الممارسات الاستبدادية لنظام الأسد، بنسختيه، الأب والابن، والتي دفعتهم إلى القيام بثورتهم في منتصف مارس/ آذار 2011. وشن في إثرها نظام الأسد حربًا شاملة ضد غالبية السوريين، استمرّت 13 عامًا، واستقدم فيها مليشيات “حزب الله” اللبناني والمليشيات الإيرانية، ثم طلب تدخل روسيا عسكريًا، حيث تدخلت بشكل مباشر في نهاية سبتمبر/ أيلول 2015.
وكان لهذا التدخل الدور الرئيس في حسم المعارك مع فصائل المعارضة لصالح نظام الأسد، إلى جانب الاتفاقات التي عقدتها روسيا مع تركيا من أجل تحقيق كل ذلك. وسبق أن اعترف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في 18 يناير/ كانون الثاني 2017، بأنه لولا التدخل العسكري الروسي لكان نظام الأسد قد سقط خلال أسبوعين أو ثلاثة.
لم يستكِن السوريون بالرغم من أن النظام استخدم كافة أنواع الأسلحة ضد الحاضنة الشعبية للثورة، بما فيها الأسلحة الكيميائية المحرمة دوليًا، وقتل أكثر من نصف مليون سوري، إلى جانب تشريد أكثر من نصف الشعب السوري ما بين لاجئ ونازح، فضلًا عن الدمار الذي أصاب مدنهم وبلداتهم وقراهم.
لذا فإن إسقاط نظام الأسد يعني انتصار السوريين، لأنه أفضى إلى خلاصهم من معاناتهم الطويلة، ومن المآسي التي ألمت بهم. وقد باتوا يتطلعون بعد سقوطه إلى أن تتحقق آمال ثورتهم في تشييد دولة، تتمتع بسيادة القانون والحريات والديمقراطية، وتنهض على التعددية والمواطنة واحترام حقوق الإنسان وسواها من القيم الحديثة.
لا شك في أن تحقيق آمال وتطلعات السوريين سيعتمد على الخطوات والمسار اللذين ستتخذهما القوى الجديدة التي أزاحت النظام السابق، وأسقطت رموزه. وقد قدمت في هذا الإطار إشارات إيجابية بعد سيطرتها على مدن؛ حلب، وحماة، وحمص، ودمشق، وسواها.
وليس صحيحًا أن بعض مكونات المجتمع السوري خسرت بإسقاط النظام، وخاصة العلويين، إذ ليس هناك أي توجه للثأر من العلويين بدعوى أنهم كانوا يشكلون حاضنة النظام السابق، لأن النظام اختطف هذه الطائفة، واستخدم أبناءها وقودًا من أجل استمراره في السلطة.
ويحسب للهيئة السياسية لعملية “ردع العدوان” أنها أرسلت إشارات مطمئنة لكافة مكونات المجتمع السوري من مسيحيين وعلويين ودروز وأكراد وأرمن وسواهم. كما لم تحدث أي حادثة تعدٍ على أي فرد بسبب انتمائه الإثني أو الطائفي.
ربما سيختلف وضع المناطق التي تسيطر عليها “وحدات حماية الشعب” الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في مناطق شرقي الفرات، حيث إن نظام الأسد ساعدها في السيطرة على تلك المناطق، ولم يقم بأي عمل ضدها بالرغم من تأسيس إدارة ذاتية شبه انفصالية، وانخرطت مع التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، والذي تقوده الولايات المتحدة.
حيث إنه بعد سقوط النظام لن يتمكن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخرجاته المدنية (مجلس سوريا الديمقراطي)، والعسكرية (وحدات حماية الشعب) من التمتع بنفس الوضع، خاصة أن هناك فصائل مقربة من تركيا بدأت بقتالهم في مناطق سيطرتهم في مناطق غربي الفرات، حيث فقدت وحدات حماية الشعب سيطرتها على بعض البلدات والقرى في ريف حلب الشرقي.
والأفضل لها أن تجري تفاهمات لكي تنضوي تحت جناح السلطة الجديدة، وتسهم في بناء سوريا الجديدة. ولا يعني ذلك نسيان أن المسألة الكردية في سوريا تفرض تحديًا على السلطة الجديدة، وهي بحاجة إلى المزيد من الحوار بين السوريين من أجل التوصل إلى حلول ضمن الهوية الوطنية السورية، ووحدة التراب السوري.
قد تكون تركيا من المستفيدين، أو لنقل الرابحين، من إسقاط نظام الأسد، ويمتلك هذا الكلام وجاهة بالنظر إلى أن النظام رفض كل دعوات الحوار والتقارب مع تركيا، ولم يتجاوب مع دعوات عقد لقاء بين الرئيس رجب طيب أردوغان وبشار الأسد. وكان يتشرط على خطوات التقارب، ويضع مختلف العراقيل أمامها، على الرغم من أن روسيا، وتحديدًا الرئيس فلاديمير بوتين، كان يدفع باتجاه التقارب، لكن الأخير تمنّع كثيرًا.
وعليه، فإن وصول فصائل المعارضة، التي كانت تتواجد في مناطق إدلب وريف حلب، يريح تركيا كثيرًا، لأنها ترتبط بعلاقات معها، بل إن فصائل الجيش الوطني ترتبط بتركيا بشكل كبير.
ولعل سقوط الأسد يتيح لتركيا أن تعزز خططها الجيوسياسية، خاصة فيما يخص مناطق شرقي نهر الفرات، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل وحدات حماية الشعب المكون الأساسي فيها.
أما في الجانب الاقتصادي فإن تركيا ستكون المساهم الرئيس فيه، وبما يحقق لها عوائد كثيرة. أما إسرائيل فقد اعتبرت سيطرة المعارضة على دمشق “فرصة عظيمة”، إلا أنها “محفوفة بمخاطر كبيرة”، ولذلك قامت باحتلال المنطقة العازلة، وقصفت أكثر من مئة موقع للعتاد والأسلحة التي تركها الجيش السوري عشية سقوط النظام، ولعل ذلك يعكس تخوفها من أن تستخدم هذه الأسلحة لصد اعتداءاتها.
وإذا كان سقوط النظام يعود بفائدة كبيرة على إسرائيل، لأنه يبعد إيران عن سوريا، ويقطع شريان إمداد حزب الله اللبناني بالسلاح، الأمر الذي يسهم في إضعاف محور الممانعة والمقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة، فليس خافيًا أن أكبر الخاسرين هما إيران وروسيا.
فإيران كانت حليفًا هامًا لنظام الأسد، ووقعت معه العديد من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية، وشكل حلقة هامة في مشروعها التوسعي بالمنطقة، لذلك عملت كل ما بوسعها من أجل الدفاع عن النظام، وخاضت حربًا إلى جانبه ضد السوريين، حيث حشدت فيها مليشيات من جنسيات متعددة عراقية وأفغانية وباكستانية وسواها.
وفي إثر انهيار قوات النظام أمام زحف فصائل “ردع العدوان”، حاولت إيران أن تدفع فصائل من الحشد الشعبي في العراق كي تدخل إلى سوريا وتدافع عن النظام، لكنها فشلت.
ولم يرَ ساسة إيران في المعارضين السوريين لنظام الأسد سوى مجموعات من الإرهابيين والتكفيريين، والمرة الأولى التي تحدثت فيها عن وجود معارضة سوريّة هي بعد سقوط النظام. أما روسيا فعلاقتها مع نظام الأسد واسعة ومديدة، وتعود إلى فترة الاتحاد السوفياتي السابق. وحين اندلعت الثورة وقفت دون تردد إلى جانب الأسد، واعتبرت كل من يعارضه إرهابيًا.
تواجه روسيا مع سقوط النظام معضلة خسارة قواعدها العسكرية في حميميم وفي طرطوس، ما يعني أن المرجح هو أن تفقد إطلالتها على البحر المتوسط. ويزيد في تعقيد علاقاتها مع القوى الجديدة الحاكمة في سوريا أنها استقبلت بشار الأسد وعائلته. وليس واردًا أن تسلّمه للسلطات السورية الجديدة من أجل محاكمته؛ لذلك لن تكون علاقة موسكو مع سوريا الجديدة طبيعية.
بصرف النظر عن عدد الخاسرين والرابحين من سقوط نظام الأسد، إلا أن الرابح الأكبر هو الشعب السوري الذي تمكن من إسقاط نظام مستبد، وذلك على الرغم من الدعم والإسناد الذي كان يتلقاه من حلفائه، ولا شك في أن أكثر من عامل داخلي وخارجي وقف وراء انهياره السريع ثم سقوطه. ويقدم سقوطه درسًا للأنظمة المستبدة، لكنه يمنح أملًا كبيرًا للشعوب الطامحة للخلاص من الطغاة والمستبدّين.
شبكة الجزيرة.
—————————–
نهاية إيران الكبرى ونظام الأسد/ رفيق خوري
تأخرت طهران طويلاً قبل الاصطدام بدرس ثمين خلاصته أنه “لا أحد يربح حرباً بالوكالة”
الأربعاء 11 ديسمبر 2024 1:00
ما حدث في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 أنهى الرؤية الأميركية لما قبل هذا التاريخ وكشف خطأ واشنطن، وباتت الحاجة اليوم إلى “إستراتيجية أميركية جديدة للشرق الأوسط”.
في العام الـ 43 من عمر الثورة الخمينية، كتب المحلل كريم سادجادبور أنه لم يسبق أن بدا النظام الإيراني أكثر ضعفاً مما هو عليه اليوم، لكن المرشد الأعلى علي خامنئي كان يتحدث عن موجة الحضارة الإسلامية الجديدة العظمى، ويرى أن أميركا تذوب بالتدرج، واليد العليا هي للشرق الأوسط الإسلامي بقيادة إيران.
ولم يتأخر قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي في المفاخرة بتصدير الثورة والقول إنه مع “مرور الزمن تتسع جغرافياً الثورة وتتقلص مساحة تنفس الأعداء”، من دون أن ينسى التذكير بأن “طوفان الأقصى هو المرحلة الأولى من الزوال الباكر لإسرائيل”، ولا أحد يتصور أن يتوقف المسؤولون في الجمهورية الإسلامية عن رؤية “الغرب تغرب شمسه والشرق تشرق شمسه”، من آسيا حيث إيران في قلب العصر الآسيوي.
غير أن الصورة تبدلت في الواقع أمام موجة هجمات من فصائل المعارضة والفصائل الأصولية، سيطرت بها على حلب وحماة وحمص ثم دمشق، أمام انسحاب القوات النظامية السورية والقوات الإيرانية والرديفة.
والقوة الدافعة مباشرة هي تركيا، مع تذكير أميركي للنظام بأنه ناور كثيراً واتكل على الدعم الروسي والإيراني، وأصر على تجاهل التسوية السياسية وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم (2254) الصادر عام 2015.
والفارق في الانتقال الإيراني من قمة الشعور بالقوة إلى أكثر درجات الضعف هو للمفارقة ما حدث في الحرب التي راهنت عليها طهران، لا فقط في الفصل الجديد من حرب سوريا التي كانت نائمة، بل وأيضاً في نشوة عملية هجوم “حماس” والانتصارات في حربي غزة و”الإسناد” في لبنان، والتي تحولت حرباً مدمرة للبنية التحتية والقيادات.
وقد حدث كل ذلك قبل مسارعة طهران إلى سحب الحرس الثوري وإخلاء المواقع الإيرانية والرديفة في سوريا، وطبعاً قبل أن تدهمها الأحداث المتسارعة على أيدي فصائل معارضة وأصولية قادها أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني، على طريق مفتوح بعد انسحاب الجيش السوري إلى دمشق، وإسقاط نظام الأسد (الأب حافظ والابن بشار) في لمحة عين بعد 61 عاماً من حكم وراثي اتكل على الروس والإيرانيين لحمايته من السقوط، ورفض أية تسوية مفضلاً الخيار العسكري الذي خدمه في البداية ثم رماه على الطريق.
وما كان سؤالاً مغلقاً تحول إلى جواب مفتوح حول العد العكسي إقليمياً ودولياً ومحلياً لنهاية “إيران الكبرى”، فمن الصعب بعد التغيير الكبير في سوريا وإعادتها لموقعها الجيوسياسي السابق أن تتمتع الفصائل المسلحة التي أسستها طهران للدفاع عن مشروعها بما كان لها من حرية الحركة وسهولة التسلح في لبنان والعراق وغزة، ومن دون أذرعها المسلحة ونفوذها الإقليمي فإن الجمهورية الإسلامية مضطرة إلى مواجهة السؤال الذي رفضت مواجهته دائماً، وهو هل تريد أن تكون ثورة أم دولة؟ دولة تهتم بالتنمية والعلاقات الطبيعية مع الدول وإنتاج النفط؟ أم ثورة لإنتاج الصواريخ والمسيرات والبرنامج النووي مع الإصرار على تصدير الثورة والنفوذ العسكري والسياسي بقوه الأذرع؟
وما كان جواباً دائماً هو أن ممارسة الثورة والدولة معاً لم يعد ممكناً، ولا مجال لما سماه كريم سادجادبور في “فورن أفيرز” الاستمرار في “محاولة إقامة إمبريالية تحت عنوان إنشاء ميليشيات لمقاومة الإمبريالية”، وأين؟ على أرض 85 في المئة من شعوبها تحت خط الفقر في العراق وسوريا ولبنان بعد إيران.
الـ “بنتاغون” أعلن أنه لن يذرف دمعة على الأسد، وموسكو أوحت أن اتصالات مع المعارضين قادت إلى تخلي الأسد عن منصبه ومغادرة البلاد، والكل في انتظار دونالد ترمب الذي يبدو في انتظار الانتقال من الحلول الفانتازية إلى البحث في التعقيدات الجدية، فأميركا كلها في ورطة، وما حدث في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 “أنهى الرؤية الأميركية لما قبله وكشف خطأها”، بحسب والي نصر وماريا فانتامي، مع الحاجة اليوم إلى “إستراتيجية أميركية جديدة للشرق الأوسط”.
وليس ذلك بسيطاً كما تصور ركاب الدرجة الثالثة الذين صاروا ركاب الدرجة الأولى في إدارة الرئيس جو بايدن، وكما تصور الركاب الجدد الذين يجيء بهم ترمب بسبب الولاء الشخصي، فالحسابات الوظيفية شيء والرؤية الإستراتيجية شيء آخر، وأميركا باتت تفتقد شخصيات كبيرة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وقد لاحظ المؤرخ في “هارفرد” ستيفن غروبارد في كتاب تحت عنوان “قيادة مكتب: الرئاسة الأميركية من تيودور روزفلت إلى جورج دبليو بوش”، أنه خلال 70 عاماً “تعاظمت أهمية المنصب، لكن نوعية الذين احتلوه تناقصت بصورة دراماتيكية”.
ما بعد سوريا ليس كما قبلها بالفعل، وقد تأخر النظام كثيراً ليدرك أنه كان خارج اللعبة، وتأخرت إيران طويلاً قبل الاصطدام بدرس ثمين خلاصته أنه “لا أحد يربح حرباً بالوكالة”، كما قال البروفيسور مارك لينش في كتاب “حروب العرب الجديدة”، وقديماً قال المؤرخ الإغريقي ثوسيديديس إن “الأقوياء ليسوا دائماً قادرين على فعل ما يريدون، والضعفاء يجدون طرقاً للتمرد على التعليمات بحيث يحافظون على حق القرار لأنفسهم”.
———————————-
مرحلة ما بعد الأسد: كيف سيؤدي سقوط الديكتاتور السوري المفاجئ إلى تغيير ميزان القوى في الشرق الأوسط/ ناتاشا هول و جوست هيلترمان
الأربعاء 11 ديسمبر 2024 1:01
سقوط نظام الأسد المفاجئ يحدث تحولاً جذرياً في ميزان القوى بالشرق الأوسط، وهو متصل بالحرب التي اندلعت بين إسرائيل و”حزب الله” وأدت إلى إضعاف المحور الإيراني السوري.
لمدة أكثر من نصف قرن، بدا وكأن عائلة الأسد تتمتع بقبضة محكمة لا تتزعزع على سوريا. وبالاعتماد على جهاز أمني قوي، والاستخدام الوحشي للقوة، وحلفاء أقوياء مثل روسيا وإيران و”حزب الله”، تمكنت العائلة من الصمود في وجه انتفاضات متعددة، وحتى حرب أهلية مروعة قتل فيها مئات الآلاف، وفقد النظام خلالها سيطرته على جزء كبير من البلاد لبعض الوقت. في السنوات الأخيرة، نجح الرئيس السوري بشار الأسد، الذي فرضت على حكومته عقوبات وتعرضت للنبذ دبلوماسياً وإقليمياً ودولياً منذ عام 2011، في استعادة بعض من مكانته، مع إعادة سوريا لجامعة الدول العربية، وتداول أحاديث عن تخفيف العقوبات.
ولكن في الحقيقة، كان النظام واهناً. وبصورة مفاجئة للجميع، أطاح به الثوار التابعون لـ”هيئة تحرير الشام”، في غضون أيام قليلة، من دون أية مقاومة تذكر. الأحد الماضي، بعد أن سيطرت “هيئة تحرير الشام” بسرعة على دمشق، أعلنت روسيا أن الأسد لجأ إلى موسكو، بينما اصطحب رئيس وزرائه السابق إلى فندق “فور سيزونز” في العاصمة السورية لتسليم السلطة رسمياً. واستغرقت العملية بأكملها أقل من أسبوعين، وبالكاد شهدت إراقة للدماء، في تناقض صارخ مع الأعداد الهائلة من الضحايا الذين سقطوا خلال السنوات الأخيرة من حكم النظام.
وتعددت الأسباب وراء سلسلة الأحداث المذهلة التي مكنت “هيئة تحرير الشام” من إسقاط النظام السوري، بما في ذلك العملية الدراماتيكية التي نفذتها إسرائيل لتصفية قيادة “حزب الله”، حليف سوريا، وتدمير جزء كبير من ترسانة الصواريخ التابعة له، إضافة إلى تآكل قوة إيران ونفوذها نتيجة فقدان “حزب الله” كـ”خط دفاع أمامي”، وانهيار المحادثات بين أنقرة ودمشق في شأن إصلاحات في حكومة الأسد، وهبوط معنويات الجيش السوري الذي عانى تدني الأجور، وانشغال روسيا بالحرب المكلفة التي أشعلتها في أوكرانيا. ويبدو أن هجوم “هيئة تحرير الشام” الخاطف حصل في البداية على الضوء الأخضر من تركيا، التي كانت تحمي المتمردين منذ فترة طويلة في معقلهم في إدلب، شمال غربي سوريا، لكن الحملة كانت في الأساس مبادرة سورية محلية.
في الـ30 من نوفمبر (تشرين الثاني)، ومن دون سابق إنذار على ما يبدو، سيطر متمردو “هيئة تحرير الشام” على ثاني أكبر مدن سوريا، حلب، في يوم واحد، وتقدموا جنوباً نحو دمشق. وخلال تقدمهم، أشعلوا تمردات عفوية ضد حكم النظام في السويداء ودرعا في الجنوب ودير الزور في الشرق. وفي الخامس من ديسمبر (كانون الأول)، سيطروا على حماة، رابع أكبر مدينة في سوريا، وبعد يومين، سيطروا على حمص، ثالث أكبر مدينة، الواقعة على الطريق الذي يربط دمشق العاصمة بمعقل النظام العلوي في الجبال المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وكان الزخم الاستثنائي الذي اكتسبه المتمردون، إلى جانب التراجع الكبير في قاعدة دعم الحكومة، أقوى بكثير مما يستطيع النظام تحمله.
وفي سباقهم نحو دمشق، تمكن المتمردون من إنهاء حرب أهلية دولية الطابع، في الأقل في الوقت الحالي، بخاتمة إيجابية ومن دون تدخل أجنبي يذكر. في النهاية، تمكنت قوات المعارضة بسهولة من اجتياح المدن السورية التي لم يستعدها نظام الأسد وحلفاؤه، روسيا وإيران و”حزب الله”، إلا بعد سنوات من القصف الدموي والحصار خلال الحرب الأهلية. وفي الواقع، يمثل استيلاء المتمردين على البلاد تحولاً جذرياً في الشرق الأوسط، مما يترك القوى الإقليمية والدولية الكبرى في حال من عدم اليقين حول كيفية التصرف إزاء ما يحصل. قبل بضعة أسابيع فحسب، كانت إدارة بايدن تعمل مع الإمارات العربية المتحدة لرفع العقوبات عن سوريا في مقابل ابتعاد الأسد من إيران ومنع شحنات الأسلحة من الوصول إلى “حزب الله”، وفق مصادر متعددة تحدثت إلى “رويترز”.
لكن سقوط الأسد يظهر أيضاً كيف أن الصراعات المختلفة في المنطقة مترابطة بطرق لا يمكن توقعها، وما يمكن أن يحدث عند تجاهلها أو اعتبارها أمراً طبيعياً. وتشارك الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والحرب الأهلية السورية هذا المصير نفسه، فأدى اندلاع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي المفاجئ مجدداً بعد هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) إلى حرب إسرائيل على غزة، وحملة الحوثيين في البحر الأحمر، وحرب إسرائيل في لبنان، وهجمات متبادلة بين إيران وإسرائيل. وفي سوريا، أنهى هذا الزلزال الأخير النظام القائم. وفي كلتا الحالتين، أظهرت الاضطرابات السريعة التي لم يكن أي طرف خارجي مستعداً لها، مدى حماقة تجاهل النزاعات الطويلة الأمد في الشرق الأوسط من أجل الحفاظ على وضع راهن لا يحتمل. وعلى رغم أن أسئلة عدة لا تزال قائمة حول الطريقة التي ستدير بها “هيئة تحرير الشام” البلاد، وما إذا كانت ستتمكن من مواجهة المجموعات المختلفة المتنافسة على النفوذ، يبدو أن نهاية الأسد ستؤدي إلى تغيير جذري في ميزان القوى في المنطقة.
الحرب التي نسيها الغرب
إن الحملة التي قادتها “هيئة تحرير الشام” ضد الأسد تعود جذورها للحرب الأهلية السورية التي بدأت عام 2011 ولم تنته فعلياً، فوسط انتفاضات الربيع العربي، أطلق المواطنون السوريون احتجاجات سلمية، لكن القمع الوحشي الذي شنه النظام دفع بعض المحتجين إلى حمل السلاح وتدخل القوات المتمردة، بما في ذلك تنظيما “داعش” و”القاعدة”. وسرعان ما تحول ذلك إلى صراع دولي تدخلت فيه قوى خارجية، وخصوصاً إيران ودول الخليج وروسيا وتركيا والولايات المتحدة، فقدمت الأسلحة والأموال للمجموعات المسلحة التي تفضلها. ولكن في ذلك الوقت، أثبتت إيران وروسيا، حليفتا النظام السوري، أنهما أكثر التزاماً: فقد قدمت إيران وميليشياتها الوكيلة، خصوصاً “حزب الله”، المساعدة للأسد في حصار شعبه وقصفه، بينما دمرت روسيا مدناً كاملة باستخدام طائراتها المقاتلة من طراز “سوخوي”. وبمساعدتهما، تشير التقديرات إلى أن النظام قتل ما لا يقل عن نصف مليون من شعبه، واعتقل 130 ألف شخص آخرين وأخفى أثرهم، وترك نحو نصف السكان، أي نحو 14 مليون نسمة، مشردين. في النهاية توقفت الأمم المتحدة حتى عن إحصاء عدد القتلى.
وكان للصراع تداعيات دولية واسعة النطاق، إذ أدى وصول أكثر من مليون لاجئ سوري إلى أوروبا عام 2015 إلى تسريع صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في عدد من البلدان الأوروبية، مما دفع الحكومات هناك إلى تعزيز علاقاتها مع القادة الاستبداديين مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس التونسي قيس سعيد للحد من تدفق اللاجئين. كما سعى عدد من هذه الأحزاب إلى استرضاء دمشق والكرملين، مما شكل فائدة إضافية لكل من النظامين. وكانت الحرب أيضاً بمثابة نجاح كبير لموسكو، التي استخدمت تدخلها المثمر عام 2015 لدعم نظام الأسد وتوسيع نفوذها العسكري. وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، كانت روسيا تشارك في صراع كبير خارج “الدول المجاورة لها”. إضافة إلى ذلك أولت روسيا أهمية كبيرة لقدرتها على الوصول إلى مينائها الوحيد ذي المياه الدافئة في طرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط في سوريا، فضلاً عن سيطرتها على قاعدة حميميم الجوية بالقرب من اللاذقية، في غرب سوريا.
وعلى رغم أن الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا في 2022 يعد غالباً نقطة انطلاق التحالف المتنامي بين روسيا والصين، فإن الروابط المتينة بين البلدين بدأت فعلياً مع الحرب الأهلية السورية، عندما بدأت بكين بالتصويت بصورة متناسقة مع الكرملين في مجلس الأمن الدولي، مستخدمة حق النقض أكثر من أي وقت مضى. وعلى رغم أن دور الصين في سوريا كان محدوداً، إلا أن تصويتها وخطاباتها الداعمة للنظام السوري كانت وسيلة لردع الهيمنة الأميركية والتصدي لمحاولات محاسبة الحكومات السيادية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، مما ساعد في تعزيز التحالف بين بكين والكرملين في ما أصبح يعرف لاحقاً بالشراكة “بلا حدود”.
بحلول عام 2018، بدا للمراقبين الخارجيين أن الحرب الأهلية السورية احتويت وأصبحت تحت السيطرة إلى حد كبير. فحتى حلفاء الأسد وخصومه اعتبروه منتصراً على حد سواء، على رغم أن مصادر كثيرة أشارت إلى أن الوضع كان ينهار. فمنذ صيف 2024 أدت الهجمات الإسرائيلية في لبنان والهجمات ضد إيران إلى إضعاف إيران و”حزب الله” بصورة كبيرة، حليفي الأسد المخلصين. وفي الواقع، إضافة إلى القضاء على قيادات “حزب الله”، دمرت إسرائيل ترسانة الحزب الضخمة من الصواريخ الإيرانية، واستمرت في مهاجمة شحنات الأسلحة الإيرانية إلى “حزب الله” في سوريا حتى بعد إعلان إسرائيل ولبنان وقف إطلاق النار في الـ27 من نوفمبر. في الوقت نفسه كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي كثيراً ما كان خصماً للأسد، بدأ يفقد صبره بسبب رفض سوريا التوصل إلى تسوية مع تركيا. وحتى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الحليف المقرب من الأسد، كان محبطاً من عدم استعداد النظام لإيجاد نوع من التفاهم مع المعارضة.
في غضون ذلك تطورت “هيئة تحرير الشام” من فرع سوري لتنظيم القاعدة إلى جماعة إسلاموية تخلت عن الجهاد العابر للحدود الوطنية، مركزة صراعها بصورة كاملة على نظام الأسد. وفي انتظار الوقت المناسب، عقدت تحالفات مع مجموعات أخرى، واعتدلت في رسالتها، وحصلت على الحماية من تركيا، وأقامت حكومة مدنية في منطقة سيطرتها في إدلب، على رغم أنها كانت تحكم بقبضة من حديد. خلال تلك السنوات، لم يغفل المتمردون قط عن هدفهم الأكبر المتمثل في الإطاحة بالأسد. ثم في أوائل نوفمبر، وبسبب تعنت الأسد مرة أخرى، انهارت المفاوضات بين دمشق وأنقرة، في شأن تهيئة ظروف تسمح للاجئين السوريين في تركيا بالعودة لديارهم بأمان، وهي قضية أصبحت محورية بالنسبة إلى تركيا، وربما يكون هذا هو الأمر الذي دفع حكومة أردوغان إلى عدم اعتراض طريق “هيئة تحرير الشام” عندما قررت التمدد خارج إدلب بعد بضعة أسابيع.
في النهاية، لم يظهر أي من السوريين تقريباً استعداداً لتقديم مزيد من التضحيات من أجل هذا النظام، أو ببساطة لم يستطيعوا ذلك. وربما الأهم من ذلك هو أن “هيئة تحرير الشام” توقعت أن قوات الجيش السوري غير المدربة جيداً التي تتقاضى أجراً منخفضاً والمحبطة لن تبدي مقاومة جدية. وتبين أنها كانت على حق، إذ انسحبت القوات السورية في الغالب. وعندما شاهد سكان درعا والسويداء في الجنوب التقدم السريع الذي أحرزته “هيئة تحرير الشام”، انتفضوا بسرعة وطردوا قوات النظام من مناطقهم بمبادرة ذاتية.
ولعل الأمر الأكثر إثارة للصدمة كان انهيار الدعم الدولي للأسد، ففي السادس من ديسمبر استدعت روسيا قواتها ودبلوماسييها وبدأت في الانسحاب من قواعدها. ومع تضاؤل الخيارات سحبت إيران أيضاً ميليشياتها المتحالفة، مدركة أن القتال من أجل الأسد سيكون بلا جدوى. وفي الشرق أبرمت “قوات سوريا الديمقراطية” ذات الغالبية الكردية والمجالس العسكرية التي يقودها العرب اتفاقات مع قوات النظام للسيطرة على المناطق الخاضعة لسلطة النظام في دير الزور، والأهم من ذلك معبر البوكمال الحدودي مع العراق، مما قطع خطوط الإمدادات التي كان يتلقاها النظام من إيران والعراق. ومع اقتراب المتمردين من دمشق، انسحبت القوات الروسية والإيرانية وقوات النظام المتبقية أيضاً من مواقعها في شمال شرقي سوريا.
ابتهاج وقلق
إن مستقبل سوريا والمنطقة ككل مليء بعدم اليقين، فالاشتباكات مستمرة بالفعل بين الفصائل المسلحة التابعة للجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا في الشمال و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ذات الغالبية الكردية. وفي حين يشعر معظم السوريين بالابتهاج، بمن في ذلك ملايين المنفيين الذين بدأوا يعودون لديارهم من لبنان وتركيا وأماكن أخرى، فإن مصير عدد من الأكراد الذين طردتهم تركيا سابقاً من عفرين ومناطق أخرى في الشمال أقل يقيناً، إذ أعلن الجنرال مظلوم عبدي، القائد العام لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، أن إدارته سعيدة بسقوط نظام الأسد، وأنها تنسق مع “هيئة تحرير الشام”، لكن الأكراد وتركيا سيحتاجون إلى التوصل إلى حل وسط لا يؤدي إلى إطلاق العنان لمزيد من إراقة الدماء داخل حدود سوريا وخارجها، وهو تحد صعب حتى في أفضل الظروف.
وفي الوقت نفسه، لا يزال آلاف من مقاتلي تنظيم “داعش” محتجزين في سجون شمال شرقي البلاد تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”. وإذا هرب هؤلاء المقاتلون أو عاودت خلاياهم تنظيم صفوفها، فسيشكلون تهديداً كبيراً لأية حكومة تأتي بعد الأسد وللمنطقة بأسرها. وعلى نحو مماثل، اجتاحت إسرائيل بالفعل المنطقة المنزوعة السلاح على حدود سيطرتها مع سوريا، وهي مستمرة في ضرب مستودعات الأسلحة ومواقع يشتبه بأنها تنتج أسلحة كيماوية. وفي الوقت الحالي يبدو أن تركيا حققت مكاسب كبيرة في هذا السيناريو، في حين تكبدت روسيا خسارة فادحة نتيجة لتراجعها المتسرع. ولكن يبدو أن إيران هي الخاسر الأكبر، بعد أن انهارت استراتيجيتها “الدفاعية الأمامية”، وأصبحت طهران نفسها الآن عرضة بصورة خطرة لهجوم إسرائيلي محتمل على برنامجها النووي.
وفي خضم هذا التغير السريع في توازن القوى الخارجية، سيواجه السوريون معركة صعبة لتقاسم السلطة في الداخل. في الواقع، صنفت الولايات المتحدة “هيئة تحرير الشام” جماعة إرهابية، وهي لا تتمتع بشعبية كبيرة في معقلها إدلب. وحتى الآن، كان زعيمها أبو محمد الجولاني حريصاً على اتخاذ مواقف تصالحية معتدلة، ليس مع الأقليات السورية المتعددة فحسب، بل أيضاً مع مسؤولي النظام السابق. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما إذا كان هذا النهج سيستمر وما إذا كانت الجماعات المتمردة الأخرى والفصائل المعارضة ستتبع خطاه. ومع عودة مزيد من السوريين للبلاد، بمن في ذلك قادة المعارضة المختلفون، ستنشأ توترات حتمية. وقد يجد عدد من الناس منازلهم منهوبة أو عائلات جديدة تعيش فيها. وقد ينشب صراع على السلطة بين الجماعات المسلحة داخل سوريا والمعارضة المنفية. في الوقت الحالي يبدو أن “هيئة تحرير الشام” تتبنى نموذج حكم شامل على المستوى المحلي، يتضمن الأقليات وأولئك القادمين من مناطق لم تخضع سابقاً لسيطرة المعارضة.
في الواقع كان الهجوم الذي شنه المتمردون ممكناً جزئياً، بسبب الديناميكيات خارج حدود سوريا، بما في ذلك تفكيك “حزب الله” وتدهور العلاقات بين أنقرة ودمشق. في المقابل فإن سقوط الأسد سيحدث صدمة كبيرة تتجاوز حدود سوريا، ومن أجل ضمان دولة مستقرة وموحدة ستكون هناك حاجة إلى دعم إقليمي ودولي عاجل ومستدام لمساعدة “هيئة تحرير الشام” في استعادة النظام، وإقامة حكومة مدنية، وتشجيع المصالحة والعدالة الانتقالية، والبدء في إعادة بناء دولة مدمرة.
لقد أهملت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون سوريا لفترة طويلة، إذ اعتبروا نظام الأسد غير قابل للتغيير، إلى أن اكتشفوا أنه ليس كذلك. والآن، سوريا على وشك أن تصبح دولة فاشلة. ومع الإرث الثقيل الناجم عن سنوات من العقوبات الدولية وسوء الإدارة الاقتصادية، لا يمكن استبعاد احتمال اندلاع حرب أهلية جديدة ومزيد من عدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة. ومن أجل منع وقوع مأساة أخرى يتعين على الدول الغربية ودول الخليج العربي، على وجه الخصوص، التواصل مع القادة الجدد في دمشق، وتوجيههم نحو حكم براغماتي، إن لم يكن ديمقراطياً. وبعد أن استعاد الشعب السوري الأمل أخيراً مع سقوط بيت الأسد، فهو يتوقع من البلدان التي تركته يعاني لسنوات طويلة أن تقدم له الدعم الذي يستحقه.
ناتاشا هول زميلة بارزة في “برنامج الشرق الأوسط” في “معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية”
جوست هيلترمان هو مدير “برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” في مركز “مجموعة الأزمات الدولية” للبحوث.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 9 ديسمبر (كانون الأول) 2024
—————————————–
الاختبار الحقيقي: هل يمكن للمعارضة أن تقود سوريا خارج المعركة؟/ حايد حايد
نقطة تحول حاسمة في تاريخ سوريا
آخر تحديث 11 ديسمبر 2024
في غضون عشرة أيام لا غير، أدى الهجوم العسكري المفاجئ الذي شنته الفصائل المسلحة إلى تحطيم سنوات من الركود النسبي. واستطاع، في الوقت نفسه، أن يسدل الستار على فصل محوري من الصراع السوري بشكل دراماتيكي. وخلال هذه الفترة الوجيزة، حققت الفصائل المسلحة مكاسب غير عادية وألهمت المقاتلين والمدنيين في مناطق أخرى للانتفاض بالتزامن مع تحركات هذه الفصائل وطرد قوات النظام من مناطقهم، بما في ذلك دمشق. وهم يسيطرون الآن على معظم أنحاء البلاد، وأطاحوا بالنظام، وأجبروا الأسد على الهروب.
وتشكل هذه التطورات الدرامية نقطة تحول حاسمة في تاريخ سوريا. ولكنها تفرض في الوقت نفسه تحديات جسيمة من شأنها أن تحدد قدرة هذه الانتصارات على الصمود والاستمرار. إذ تواجه المعارضة اليوم مهمة جليلة تتمثل في توحيد الفصائل المسلحة المتفرقة للاتفاق على رؤية متماسكة من أجل المرحلة المقبلة. ومن الأمور التي تفرض قدرا مماثلا من الإلحاح والأهمية الحاجة إلى حكم فعال للأراضي المحررة حديثا خلال هذه الفترة الانتقالية. وسوف تشكل الكيفية التي تواجه بها المعارضة هذه التحديات مستقبل سوريا لسنوات عديدة قادمة.
الوحدة الهشة
في حين كان تحالف “ردع العدوان”، بقيادة “هيئة تحرير الشام”، على رأس الهجوم الذي أدى في النهاية إلى سقوط الأسد، لعبت الفصائل المسلحة الأخرى أيضا أدوارا مهمة في انهيار النظام. فقد ركزت مجموعات رئيسة مثل الجيش الوطني السوري عملياتها في المناطق الشرقية وريف حلب، بينما احتشد المقاتلون المحليون الأقل عددا وتنظيما في مناطق مثل درعا والسويداء وحتى دمشق. وبوحي من الهزائم السريعة التي تكبدها النظام في أماكن أخرى، حملت هذه الجماعات السلاح لتحرير مناطقها. وعلى الرغم من أن هذه المشاركة الواسعة عجلت بانهيار النظام وقللت من المستوى العام للعنف، فقد خلقت في الوقت نفسه مناطق نفوذ مجزأة في كافة أنحاء سوريا.
واليوم، تتجلى إحدى التحديات الأكثر إلحاحا في استيعاب المصالح المتنوعة لهذه المجموعات وتعزيز التعاون والتناغم فيما بينها. إلا أن هذه المهمة لن تكون سهلةعلى الإطلاق. فالحفاظ على تحالف من مجموعة من الفصائل المتباينة- لكل منها أولوياتها الخاصة وأساليب قيادتها وطموحاتها الإقليمية- هو مهمة هائلة. وفي حين وحدهم الهدف المشترك للإطاحة بعدو مشترك وإسقاط الأسد، فالمكاسب الإقليمية الأخيرة كشفت عن إمكانية حدوث انقسامات. وإذا تُرِكَت هذه الانقسامات دون إيجاد حلول لها، فقد تعرقل التقدم وتهدد استقرار المناطق المحررة حديثا.
تكمن نقطة الخلاف الرئيسة في توزيع “الغنائم” التي استولت عليها هذه الفصائل خلال الحملة العسكرية. فقد اكتسبت المعارضة جملة من الموارد القيمة، بما فيها الأسلحة والذخائر والقواعد العسكرية والأصول المالية الحيوية لدعم استمرار العمليات وتعزيز السيطرة. والخلافات حول كيفية تقسيم هذه الأصول تهدد بنفور الفصائل التي تشعر بالتهميش، وهو ما قد يفضي إلى إشعال فتيل الصراع الداخلي.
وما يزيد الأمور تعقيدا هو السيطرة على الأقاليم الاستراتيجية. فالكثير من المناطق التي جرى الاستيلاء عليها حديثا تضم طرقا تجارية حيوية وبنى أساسية مدرة للدخل. ويمكن للنزاعات حول الحكم وتقاسم الموارد أن تؤجج المنافسة بين الفصائل، وتزيد من حدة التوترات، وتؤدي في بعض الحالات إلى اندلاع اشتباكات.
وتمثل المساءلة تحديا معقدا بالقدر نفسه. إذ تشوه مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان والنهب وانتهاكات الممتلكات مصداقية المعارضة، على الصعيدين المحلي والدولي. والواقع أن معالجة هذه الانتهاكات أمر بالغ الأهمية للمحافظة على ثقة الشعب، إلا أنها تحمل قدرا جما من المخاطر في الوقت نفسه. ذلك أن معاقبة الأفراد أو الجماعات ذات النفوذ يمكن أن يتسبب في نفور فصائل رئيسة وتصعيد المعارضة الداخلية.
وقد بدأت علامات هذه التوترات تظهر بالفعل. فقد قامت “هيئة تحرير الشام”، القائد الفعلي لغرفة عمليات “ردع العدوان”، مؤخرا باعتقال عدد من قادة ومقاتلي “الجيش الوطني السوري”، بتهمة النهب في ريف حلب الشرقي. وأدت هذه الاعتقالات إلى تعميق الانقسامات بين المجموعتين، حيث وجهت “هيئة تحرير الشام” انتقادات لـ”الجيش الوطني السوري” لإعطائه الأولوية للاشتباكات مع “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الأكراد بدلا من التركيز على قتال نظام الأسد. وردا على ذلك، زعم قادة “الجيش الوطني” أن استمرار وجود “هيئة تحرير الشام” على قوائم الإرهاب الدولية يقوض شرعيتها وطالبوا بتسليم الحكم إلى كيانات أخرى.
إن قدرة التحالف في الحفاظ على الوحدة وبناء هيكل حكم فعال تعتمد على تطوير آليات لحل النزاعات وصياغة رؤية مشتركة تتجاوز مصالح الفصائل الضيقة. وفي غياب مثل هذه الجهود، فإن تقدمهم الذي تجشموا الصعاب في سبيله قد ينهار تحت وطأة الانقسامات الداخلية، ما يعرّض المسار الهش الذي تسلكه سوريا نحو المستقبل، للخطر.
معضلة الحكم
وبالمثل، فإن توسع المعارضة وبسط سيطرتها على عدد كبير من الأقاليم يمثل تحديا هائلا على مستوى الحكم، وخاصة في المراكز الحضرية الكبرى مثل حلب ودمشق. كما أن إدارة هذه المناطق الشاسعة والمعقدة بما في ذلك استعادة الخدمات، وإصلاح البنى التحتية، ودفع رواتب القطاع العام، تحتاج إلى موارد وخبرات إدارية تفوق بكثير ما تعاملت معه في السابق مجموعات المعارضة، ومن بينها “هيئة تحرير الشام” وذراعها المدنية “حكومة الإنقاذ” السورية. وعلى الرغم من أن حكومة الإنقاذ السورية قد بدأت للتو العمل في بعض هذه المناطق، فإن الحجم الهائل للمهمة قد يطغى على قدراتها المالية واللوجستية المثقلة أصلا بأعباء جمة، وخاصة في غياب دعم خارجي كبير.
وفي الوقت الحالي، ركزت “حكومة إنقاذ سوريا” على جهود الاستجابة للطوارئ، مع إعطاء الأولوية لتوزيع الغذاء، وإمدادات المياه، والرعاية الصحية، وإزالة الألغام. وقد بدأت الوزارات المشرفة على المياه والاتصالات والكهرباء في إجراء الإصلاحات وإعادة تشغيل الخدمات الموجودة مسبقا حيثما أمكن. كما جرى إرسال مجموعات من المنسقين المحليين لمساعدة السكان، مع نشر معلومات الاتصال عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتحسين الوصول إلى المساعدات. بيد أن إدارة المدن ذات الكثافة السكانية العالية مثل حلب ودمشق تفرض تحديات في مجال الحكم على نطاق غير مسبوق. إن تلبية الاحتياجات الفورية لملايين السكان أثناء استعادة الخدمات الأساسية يهدد باستنزاف الموارد المحدودة لحكومة الإنقاذ.
إن إحجام المجتمع الدولي عن التعامل مع “حكومة إنقاذ سوريا” يفاقم هذه الصعوبات، فارتباطها بـ”هيئة تحرير الشام”- التي صنفتها عدة بلدان كمنظمة إرهابية- يخلق عقبات كبيرة أمام الحصول على تمويل دولي يتجاوز المساعدات الإنسانية المحدودة. وهذا يترك لـ”هيئة تحرير الشام” وحكومة إنقاذ سوريا عبء توفير الخدمات بالكامل. إن إعادة بناء حلب وحدها يحتاج استثمارات ضخمة في البنى الأساسية، ناهيك عن رواتب القطاع العام، والإنعاش الاقتصادي- وهي تكاليف تتجاوز بكثير قدرتها الحالية. وفي غياب مساعدات خارجية ذات مغزى، قد تتعثر جهود الحكم، الأمر الذي قد ينتهي بتأجيج السخط العام وإضعاف سيطرة المعارضة على هذه المناطق.
ويبدو أن “هيئة تحرير الشام” تدرك بدقة مدى جدية هذه التحديات وخطورتها، وقد أبدت بعض الاستعداد للتكيف. وتشير التقارير إلى أن زعيمها أبو محمد الجولاني (الذي تبنى مؤخرا اسمه الرسمي أحمد الشرع)، أبدى انفتاحا على تفويض حكم حلب إلى سلطة انتقالية، في إشارة إلى المرونة. كما ورد أن الجولاني طرح فكرة حل “هيئة تحرير الشام” لدمج هياكلها العسكرية والمدنية، الأمر الذي قد يحسن مكانتها لدى الجهات الفاعلة الدولية. ومع ذلك، ثمة شكوك عميقة بين المانحين وأصحاب المصلحة العالميين، الذين من المرجح أن يعتمد استعدادهم لتقديم مساعدات غير إنسانية على التحولات الملموسة التي يمكن التحقق منها في نموذج الحكم الذي سوف تتبناه “هيئة تحرير الشام” وفي أهدافها.
وفي النهاية، يعتمد نجاح المعارضة في حكم هذه المناطق على تأمين الدعم الخارجي والموازنة بين الاحتياجات الملحة والاستقرار طويل الأجل. وسيكون بناء الثقة مع السكان المحليين، والحصول على موارد مستدامة، وحماية الهياكل الأساسية الحيوية أمرا حاسما في تحويل المكاسب العسكرية الأخيرة إلى إنجازات سياسية واقتصادية دائمة.
وبعيدا عن الحكم، يشكل الأمن الهاجس والتحدي الأكبر. ومن دون تحقيق الاستقرار الفعال، سوف يحجم النازحون عن العودة ويتعطل تعافي الاقتصادات المحلية بسبب الاضطراب المستمر. فالاستقرار أمر بالغ الأهمية لإعادة بناء البنية الأساسية، واستعادة الأعمال التجارية، وتهيئة الظروف اللازمة للازدهار على المدى الطويل. والفشل في تحقيق الأمان في هذه المناطق يهدد بتقويض مصداقية المعارضة وقدرتها على تقديم نفسها كبديل قابل للحياة لنظام الأسد.
وسيعتمد نجاح المعارضة في تعزيز مكاسبها على قدرتها على تلبية الاحتياجات الفورية مع إرساء قواعد متينة لاستقرار طويل الأمد. والفشل في مواجهة هذه التحديات يهدد بانزلاق سوريا إلى الفوضى من جديد. وفي غياب الحكم الفعال والوحدة، يمكن أن تنهار إنجازات المعارضة، ما يترك ملايين السوريين في مواجهة دورة أخرى من العنف والنزوح.
وفي النهاية، إن ما تشهده سوريا اليوم ليس مجرد نقطة تحول عسكرية، بل هو اختبار لقدرة المعارضة على الحكم والحماية وخلق الأمل في مستقبل أفضل. يمكن للنجاح أن يعيد تشكيل مسار سوريا لأجيال، أما الفشل فسوف يأتي بتكلفة باهظة، حيث يدفع المدنيون مرة أخرى الثمن الأغلى.
المجلة
——————-
سوريا ومستقبل إيران: طهران فقدت زمام المبادرة/ فريدريك سي هوف
آخر تحديث 11 ديسمبر 2024
يشكل رحيل بشار الأسد عن دمشق والنهاية الواضحة لنظامه انتكاسة كبرى للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك إضعاف إسرائيل للدفاعات الجوية الإيرانية، وهزيمة “حزب الله” في لبنان، والاستياء الذي يشعر به الإيرانيون منذ أمد بعيد من كفاءة من يتولون قيادتهم، والعودة الوشيكة لدونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فمن المنطقي تماما أن يخشى القادة في طهران من أن يكون مصيرهم مماثلا لمصير عميلهم السوري.
أجرى كاتب هذا المقال، قبل أكثر من 13 عاما بقليل، حوارا مع بشار الأسد تركز على ما هو مطلوب من سوريا لاستعادة الأراضي التي خسرتها أمام إسرائيل في يونيو/حزيران 1967، وخاصة مرتفعات الجولان. وفي إطار الوساطة التي اكتسبت قوة في خريف عام 2010، لعقد اتفاقية سلام بين البلدين، أبدت إسرائيل استعدادها للتخلي عن الأراضي السورية المحتلة شريطة أن تنهي سوريا علاقاتها العسكرية مع إيران و”حزب الله” و”حماس”.
لقد أخبرني الأسد حينها- في 28 فبراير/شباط 2011- أنه سيفعل ما هو متوقع منه. وأكد لي أن إيران و”حزب الله” سوف يتنازلان عن مصالحهما مقابل مصالح سوريا، فتوافقان على إنهاء العلاقات العسكرية مع سوريا إذا توصلت إلى معاهدة سلام مع إسرائيل. ولقد ساورتني بعض الشكوك، ولكن الأسد أصر على أن إيران سوف تتنازل عن علاقتها العسكرية، وأن “حزب الله” سوف يصبح حزبا سياسيا لبنانيا حالما انضم لبنان إلى سوريا في صنع السلام مع إسرائيل. والواقع أن الأسد أكد لي أيضا أن “مزارع شبعا” منطقة سورية، مقوضا بذلك الأساس المنطقي لـ”المقاومة اللبنانية”.
وعندما أبلغت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد يومين بجوهر المحادثة، أعطى الضوء الأخضر للتحرك بأقصى سرعة نحو التوصل إلى معاهدة. ولكن في منتصف مارس/آذار، ضغط الأسد على المكابح بأن سمح باستخدام القوة المميتة ضد المتظاهرين السوريين السلميين، الذين احتجوا على عنف الشرطة والاعتقالات غير القانونية. وسيؤدي عنف الأسد في النهاية إلى خلق ظروف ستدمر سوريا بالكامل، وتتركها حطاما محترقا تنهبه العائلة الحاكمة وحاشيتها. ومع اختياره العنف بدلا من الدبلوماسية المحلية والمصالحة، تنازل الأسد أيضا عن الجولان لإسرائيل وأخضع سوريا لإيران و”حزب الله”.
أدت إيران دورا فعالا في إنقاذ الأسد من ثورة بدأت سلمية، ولكنها تحولت إلى ثورة مسلحة بسبب عنف النظام وإطلاق الأسد سراح المجرمين الإسلاميين من سجونه. وفي عام 2013 أمرت إيران “حزب الله” بالتدخل الحاسم لصالح قوات النظام في القصير. وفي عام 2015 أقنعت إيران روسيا بالتدخل لصالح الأسد بقواتها الجوية. وبمرور الوقت شكلت إيران ميليشيات مقاتلة أجنبية معظمهم من الشيعة تحت قيادة “الحرس الثوري” الإيراني كرديف لجيش الأسد في سوريا.
ولكن إيران ومعها روسيا، أثبتتا عجزهما عن إنقاذ الأسد، عندما شنت “هيئة تحرير الشام” هجومها في 27 نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام. وأعتقد أن “هيئة تحرير الشام”، التي اغتنمت هزيمة “حزب الله” في لبنان وخسارة إيران لنظام دفاعها الجوي الروسي (غير الفعال) بفعل ضربات إسرائيل، قررت توسيع حكمها المحلي في شمال غربي سوريا ليمتد إلى حلب. وقد تمكنت من ذلك دون جهد تقريبا، ولاحظتْ أمرا مفاجئا في أثناء استيلائها على حلب: قوات نظام الأسد تتلاشى ببساطة، وهي ظاهرة تكررت في كل من حماة وحمص. وأصبحت بوابة دمشق مفتوحة أمامها على مصراعيها، ولا أحد يسد عليها الطريق.
بطبيعة الحال، أرادت طهران وموسكو إنقاذ عميلهما. فسوريا هي حلقة الوصل البرية الحيوية التي تربط إيران مع “حزب الله”، درة تاج طموحاتها بالهيمنة. وتعلم طهران أن لا أحد سوى الأسد يمكنه أن يخضع سوريا لها ولوكيلها اللبناني. وكانت تأمل في إعادة بناء هذا الوكيل بعد هزيمته المدمرة. أما بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فسوريا أكثر من مجرد قاعدة عسكرية على البحر الأبيض المتوسط. فهي “الدليل” الذي يقدمه للشعب الروسي على عودة روسيا المفترضة إلى مقام القوة العظمى. فقد “أنقذت” موسكو الأسد على الرغم من مكائد الرئيس باراك أوباما المزعومة في تغيير النظام في سوريا.
ولكن عندما حاولت إيران وروسيا دعم الجيش السوري، وجدتا أيديهما تمسكان ببزّات عسكرية فارغة. فسنوات من الخمول القتالي، التي تملؤها الجريمة والفساد والسرقة وإنتاج الأمفيتامينات، أدت إلى استنزاف الجيش السوري وهدر معنوياته، وجعلته غير صالح للقتال. وكانت روسيا تعرف أن القوة الجوية التكتيكية لن تكفي لوقف المتمردين. وعلاوة على ذلك، أمضى الطيارون الروس سنوات في سوريا في استهداف المدنيين العزل، وتطوير تخصص مميت في تدمير المرافق الطبية. كما تعلم إيران أن ميليشياتها المساعدة لن تكون كافية. وشوهدت قوات “حزب الله” وهي تغادر سوريا عبر القصير، هذا المكان الذي حققت فيه انتصارها على المتمردين السوريين عام 2013.
وأفضل سيناريو من الناحية النظرية هو أن يسعى من يتولون السلطة في سوريا إلى إقامة نظام حكم يعتمد على الوطنية السورية والمواطنة السورية. لا شك أن الأقليات مذعورة مما قد يأتي بعد ذلك. غير أن جعل هزيمة إيران في سوريا هزيمة دائمة، تتطلب شيئا يقترب من الوحدة الوطنية، ولن تكون الوحدة قابلة للتحقيق إذا اتُبعت أجندات طائفية ومورست انتهاكات لحقوق الإنسان. وليس سجل “هيئة تحرير الشام” في محافظة إدلب إيجابيا في هذا الصدد. وقد تمنح واشنطن وأنقرة وغيرهما من الدول “هيئة تحرير الشام” قبولا مشروطا بتعديل سلوكها في الاتجاهات الصحيحة. إلا أن طهران تأمل وتصلي أن تعاود جذور تنظيم “القاعدة” بروزها إلى واجهة “هيئة تحرير الشام”، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى عودة نظام صديق للهيمنة الإقليمية الإيرانية في سوريا.
اعتمدت طهران طيلة عقود على الخوف الأميركي من اندلاع حرب إقليمية لتحقيق أهدافها بـ”الضرب بما يفوق حجمها”، إذا استعرنا هذا التعبير من رياضة الملاكمة. ففي عام 1983، دبرت طهران هجمات على السفارة الأميركية في بيروت وعلى مقر قوات حفظ السلام الأميركية في لبنان، أسفرت عن مقتل 241 أميركيا في لبنان. وكان هذا الهجوم في لبنان يعادل الهجوم على بيرل هاربور عام 1941. وحتى يومنا هذا، لا يكاد زعماء الجمهورية الإسلامية يصدقون أنهم أفلتوا من العقاب. ومنذ ذلك الحين، باستثناءات نادرة، افترضوا في طهران أن تجنب واشنطن للحرب مع إيران، يأتي على رأس أولوياتها.
لن تسعى إدارة ترمب القادمة إلى إيجاد ذريعة كي تشن حربا على إيران. بل ستكون منفتحة على التوصل إلى اتفاق مع طهران، يرفع جميع العقوبات الاقتصادية الأميركية عن إيران في مقابل اتفاق نووي قوي طويل الأمد وقابل للتحقق، مع إجراءات إيرانية محددة تشير إلى نهاية مغامرات الهيمنة التي اتبعتها حيال العالم العربي. ولكن ينبغي على طهران أن تتخلى عن كل وهم، وإلا فسوف يعود ترمب إلى سياسته القائمة على ممارسة “الضغط الأقصى”، كما لن تتراجع إدارة ترمب عن اتخاذ تدابير عسكرية إذا استدعت طهران ذلك، بتحركها نحو التسلح النووي، أو مهاجمة حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة، أو مهاجمة القوات الأميركية في العراق أو سوريا.
إن الوحشية والفساد وانعدام الكفاءة، كلها سمات الحكم في إيران، كما كانت سمات حكم الأسد في سوريا. وهذه السمات هي التي تفسر لِمَ يشكل الشعب الإيراني أكبر نقاط الضعف في النظام الديني في إيران. وقد أثبت بشار الأسد أنه مزيج من عدم الاهتمام بالإصلاح الجاد وعدم القدرة عليه. ويشتبه المرء في أن الملالي وأعوانهم غير مهتمين وغير قادرين مثله. وربما يختبرون ما اختبره عميلهم السوري: انهيار مباغت لنظام فاسد.
بالنسبة لطهران، فإن خسارة سوريا ليست سوى آخر حلقة من سلسلة الأخبار السيئة غير المتوقعة. فقبل بضعة أشهر فقط بدا كأنما تشجيعها لـ”حماس” على “القيام بشيء كبير” في إسرائيل، هو ضرب من العبقرية الاستراتيجية، بعد أن بدا أنها دمرت احتمال تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. أما الآن فكل شيء أمسى رمادا. وكل ما يمكنها الاعتماد عليه الآن، لتعويض ثروتها وموقعها، هو أن يخطئ لاعبون متباينون مثل بنيامين نتنياهو، وأبو محمد الجولاني من “هيئة تحرير الشام”، ودونالد ترمب، في لعب الأوراق التي في أيديهم. فمصير طهران بات في أيدي هؤلاء حقا. ولا شك أن هذا شعور غير مريح لمن اعتاد على امتلاك زمام المبادرة.
* زميل أول في مركز “بارد كوليدج للمشاركة المدنية”. وهو مؤلف كتاب “الوصول إلى المرتفعات: قصة من داخل محاولة سرية للتوصل إلى سلام سوري إسرائيلي” (2022)
المجلة
———————–
سوريا… صفحة جديدة وأمل في مستقبل مختلف/ عمر اونهون
بالنسبة لإسرائيل، قد يبدو تراجع النفوذ الإيراني في سوريا بداية إيجابية
فتحت سوريا صفحة جديدة مع سقوط نظام بشار الأسد. ويشعر السوريون وكأنهم قد ولدوا من جديد، إذ يغمرهم مزيج من الحماس والسعادة رغم استمرار الشكوك والمخاوف التي تخيم على المشهد.
بينما عاش الأسد، الذي حافظ على موقعه بدعم من روسيا وإيران، حياة مترفة في قصره على جبل قاسيون، كافح الشعب السوري، بما في ذلك الكثير من مؤيديه السابقين، للبقاء على قيد الحياة بأبسط مقومات العيش. استشرى الفساد والأنشطة غير المشروعة، ما أدى إلى زيادة تفكك البلاد إلى أجزاء متعددة. وفي ظل هذه الظروف القاسية، كان من المستحيل أن يستمر نظام الأسد وكأن شيئا لم يكن.
تعلمنا الدروس المستقاة من التاريخ أن الطغاة لا يمكنهم الاستمرار في حكمهم إلى الأبد. فمهما بلغت قسوة الطاغية ودهاؤه، فإن عجلة الزمن تدور دائما. وها هو الأسد ينضم الآن إلى صفوف الطغاة الذين أطيح بهم.
القضية الأكثر إلحاحا في سوريا اليوم هي إنشاء إدارة انتقالية تحول دون وقوع فراغ في السلطة أو عودة الحرب الأهلية.
أحد الشخصيات الرئيسة في هذا الفصل الجديد هو أحمد الشرع، المعروف بأبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام”. يقدم الجولاني رسائل معتدلة تهدف إلى تعزيز الثقة بين مختلف الأطراف. وكما أشرنا سابقا في “المجلة”، أصبحت “هيئة تحرير الشام” التي تعود جذورها إلى “تنظيم القاعدة” و”جبهة النصرة”، نموذجا مشابها لطالبان، ولكن بطابع مخصص للسياق السوري.
في المقابل، اكتسبت تركيا مكانة دولية مرموقة، حيث يعزى إليها الفضل في دورها المحوري في إسقاط الأسد. وخلال مؤتمر صحافي في الدوحة، تعهد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بمساعدة السوريين في إعادة بناء بلدهم.
وفي خضم هذا التحول، كانت إيران وروسيا أكبر الخاسرين. فقد شهد النفوذ الإيراني في سوريا تراجعا كبيرا، ما أدى إلى إضعاف “محور المقاومة” الذي يربط بين إيران والعراق وسوريا ولبنان. كما تعطل الممر اللوجستي الحيوي الذي يربط إيران بالمشرق.
وعلى الرغم من احتفاظ روسيا بقاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم، إلا أنها فقدت الكثير من مكانتها الإقليمية. وظهر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، رغم ثقته الظاهرة خلال مشاركته في منتدى الدوحة، في موقف محرج نتيجة للتطورات السريعة التي تلت تصريحاته.
لقد دفعت كل من روسيا وإيران ثمنا باهظا في سوريا، وأصبحتا الآن موضع كراهية لدى شريحة كبيرة من السوريين.
يعكس الوضع الحالي شبكة معقدة من المفاوضات متعددة الأطراف، تضم الكثير من الجهات الفاعلة: تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا والدول العربية الإقليمية و”هيئة تحرير الشام” و”الجيش الوطني السوري” و”وحدات حماية الشعب” وبقايا النظام نفسه. وفي لعبة القوة المعقدة هذه، تتغير التحالفات بسرعة، حيث تتصارع الأطراف وتتعاون في الوقت ذاته.
ليس من المفاجئ أن تشهد هذه الدول صراعات مستمرة ومعارك متبادلة. ففي عالم الدبلوماسية الدولية لأزمات النزاعات، غالبا ما تعمل الديناميكيات الإقليمية والعالمية في منطقة رمادية، حيث يمكن للخصوم أن يتصافحوا بيد، بينما يحكمون قبضتهم بخناق بعضهم باليد الأخرى.
لقد أعيد تشكيل خريطة سوريا لتنتج ثلاث مناطق عمودية متمايزة: الشريط الساحلي الذي يهيمن عليه العلويون، والمناطق الوسطى التي تسيطر عليها المعارضة، والأراضي الشرقية التي تديرها “قوات سوريا الديمقراطية”. ومع ذلك، يبقى السؤال عما إذا كان هذا التقسيم دائما أم لا؟
طوال فترة النزاع الأخير، تجنبت قوات المعارضة استهداف المناطق الساحلية (طرطوس- بانياس- اللاذقية)، التي تعد معقل الطائفة العلوية. ويُعزى ضبط النفس هذا على الأرجح إلى اتفاق ضمني يعتبر هذه المنطقة ملاذا آمنا للعلويين والمؤيدين للنظام.
الآن، المسألة الأكثر أهمية هي ما سيحدث لاحقا. من الضروري تجنب انهيار الدولة، ويجب على الأمة السعي لعدم الانزلاق إلى مزيد من الانقسام. وفي هذا السياق، أعلن رئيس الوزراء محمد غازي الجلالي استعداده للتعاون مع المعارضة، مؤكدا التزامه بحماية الأمن العام ومد يده لتحقيق المصالحة. وقد لاقى هذا النهج التصالحي استجابة إيجابية من قِبل المعارضة.
تتمثل الأولوية الفورية في ملء الفراغ الإداري. وقد اقترح الجولاني تشكيل لجنة إدارة، إلا أن التفاصيل حول تكوينها لا تزال غامضة. فمن غير الواضح من سيشارك في هذه اللجنة، وما هي المجموعات التي سيتم تمثيلها، وما إذا كان سيتم إشراك عناصر من النظام السابق أو “وحدات حماية الشعب”. وقد تعمل حكومة رئيس الوزراء بشكل مؤقت تحت توجيهات هذه اللجنة.
كان أحد الأسباب الرئيسة لنجاح الأسد في المراحل الأولى من الحرب الأهلية هو تشرذم جماعات المعارضة، مما أدى إلى تحول تركيزها من محاربة الأسد إلى محاربة بعضها البعض. ومع ذلك، أظهرت المعارضة في الأسابيع الأخيرة قدرة مشجعة على العمل بشكل جماعي، مما حقق تقدما كبيرا. وسيكون الحفاظ على هذه الوحدة أمرا بالغ الأهمية بينما تنتقل سوريا إلى الحكم وإعادة الإعمار. فالفشل في ذلك قد يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية جديدة.
ومع الكشف عن جرائم نظام الأسد، من المتوقع أن تُنشأ محاكم لضمان تحقيق العدالة. ومع ذلك، يجب أن تتجنب هذه العمليات التحول إلى حملات انتقامية، حيث قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات بدلا من معالجتها. وستكون معالجة مخاوف وهواجس الطائفة العلوية/النصيرية ضرورية لتحقيق سلام دائم.
تُعد معاملة من خدموا تحت حكم الأسد، خاصة في صفوف الجيش، قضية ملحة. ينبغي الاستفادة من الدروس المؤلمة المستخلصة من العراق، حيث أدى حل الجيش إلى حالة من الفوضى. وتكرار هذا الخطأ في سوريا قد تكون له عواقب كارثية مماثلة.
تشكل خطوط الصدع المحتملة تحديا كبيرا. إذ تكمن أبرز مخاطر الصراع بين المعارضة والعلويين، وبين فصائل المعارضة نفسها، وبين المعارضة و”وحدات حماية الشعب” الكردية، وداخل المجتمع الكردي، فضلا عن التوترات بين العرب والتركمان.
وتمثل المعارضة، التي تتألف إلى حد كبير من جماعات جهادية ذات أيديولوجيات إسلامية، تحديا حاسما لمستقبل سوريا. ويبقى السؤال المحوري- عما إذا كانت هذه الجماعات ستلتزم باحترام التاريخ الغني لسوريا كمجتمع متعدد الثقافات والأديان والطوائف- إرثا يعود لقرون قبل عهد الأسد. كما أن شكل الحكم الذي تسعى إليه هذه الجماعات سيكون عاملا حاسما. فإذا ما دفعت نحو نظام إسلامي صارم، قد ينجم عن ذلك توترات كبيرة وعدم استقرار.
ولا يقل أهمية عن ذلك مسار “وحدات حماية الشعب”، التي تم تدريبها وتسليحها من قبل الولايات المتحدة. فخلال الأيام العشرة الماضية، وسّعت هذه الوحدات من نطاق سيطرتها الإقليمية، ومن الواضح أنها تسعى لتحويل هذه المكاسب إلى نفوذ سياسي دائم. وقد أشار قادتها مرارا إلى أنهم سيطالبون، على الأقل، بالحكم الذاتي.
وقد أعلنت تركيا بشكل قاطع أنها لن تسمح لـ”وحدات حماية الشعب” بإنشاء كيان شبيه بالدولة في سوريا، وهو موقف يحظى بدعم غالبية العرب السوريين الذين يعارضون أيضا هذه الطموحات. ومع ذلك، يبقى السؤال حول كيفية استجابة الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب. ففي حين أعرب ترمب عن رغبته في تجنب التدخل العسكري في سوريا، قائلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي: “هذه ليست معركتنا”، يبقى من غير الواضح ما إذا كان هذا الموقف يشمل “وحدات حماية الشعب”، خاصة مع تصاعد التوترات في المنطقة.
وبالنسبة لإسرائيل، قد يبدو تراجع النفوذ الإيراني في سوريا بداية إيجابية. ومع ذلك، فإن انهيار نظام الأسد قد يؤدي إلى هيمنة الجماعات الإسلامية على سوريا بشكل متزايد. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات تجنبت حتى الآن استهداف إسرائيل، وفي بعض الحالات استغل الطرفان بعضهما بما يخدم مصالحهما، فإن المخاوف تظل قائمة في كل من إسرائيل والولايات المتحدة من أن هذا الوضع قد يتغير. فقد تتبنى هذه الجماعات في النهاية مواقف تتماشى مع القضايا العربية والإسلامية الأوسع نطاقا، مما قد يخلق تحديات أمنية جديدة.
وعلى الرغم من أن سقوط الأسد يمثل نهاية حقبة في سوريا، فإن التحديات لم تنتهِ بعد. والطريق إلى الأمام مليء بعدم اليقين، وقد يؤدي حل بعض القضايا إلى نشوء مشكلات جديدة غير متوقعة.
المجلة
—————————–
سوريا من هشاشة الدولة إلى خطر تفككها، إياد العنبر
تحدي كبير أمام النخب الجديدة الحاكمة
لم تعد تطورات الأحداث في سوريا مفاجئة، وإنما باتت تثير الاستغراب. فروسيا قررت سحب دعمها لبقاء بشار الأسد في الحكم، وإيران تفكر بالتعامل مع سيطرة الفصائل المعارضة على الحكم باعتباره أصبح أمرا واقعا، وغيرت خطابها في وصفهم من “الإرهابيين” إلى “الجماعات المعارضة”. أما تركيا فلم تخف تدخلها عندما أعلنت أن الهدف النهائي لهذه الجماعات المسلحة هو دمشق، وأعلنها الرئيس رجب طيب أردوغان أن الأسد رفض الجلوس والحوار معه لتحديد مستقبل سوريا. والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب كتب على منصة “X”: “هذه ليست معركتنا.. دع الأمور تحدث ولا تتدخل”.
سوريا الدولة التي تآكلت شرعية طبقتها الحاكمة، والتي تصدرت تصنيف الدول الفاشلة، وأصبحت سيادتها مخترقة ومتنازعا عليها بين نفوذ إقليمي ودولي، وفق كل هذه الوقائع فإن التفكير ببقاء نظام الحكم فيها يخضع لرهان عامل الزمن ليس أكثر. فالقاعدة العامة التي تحدد بقاء أو انهيار نظام الحكم في الدول الهشة، يرتهن ببقاء الدعم الخارجي له، لأن البلاد التي تتحول إلى ساحة لصراع دول إقليمية، يكون نظام حكمها مشابها لمسرح الدمى.
ورغم أن الأحداث تدور على أرضها، فإن الموضوع أكبر من قضية سوريا ونظام حكمها والقوى المعارضة وفصائلها المسلحة. وإنما هو فشل مشروع إقليمي-دولي، وبداية مرحلة جديدة لإعادة هندسة النفوذ الإقليمي في الشرق الأوسط. المشروع الإيراني الذي بدأ قبل عشرين عاماً بفكرة “الهلال الشيعي” وتشكل بعنوان “محور المقاومة”، وتمظهر بعد الاستثمار بمنجز “حزب الله” في تحقيق انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وفرض نفوذه وأجندته على التغيير السياسي في العراق بعد 2003، وعمّق حلفه الاستراتيجي مع نظام بشار الأسد في سوريا لمواجهة الأميركيين في العراق، وتمركز في اليمن بعد سيطرة الحوثيين هناك، كل هذه المنجزات التي حققتها إيران، كان من أول تحدياتها أحداث سوريا في 2011، والتي تحولت إلى استنزاف للمشروع الإيراني. وصحيح أن إيران نجحت في الحفاظ على حكم الأسد لمدة 13 عاماً، لكن الثمن هو قبول تقاسمها النفوذ مع روسيا وتركيا والولايات المتحدة. حتى أصبحت اليوم خارج معادلة النفوذ بسقوط حكم الأسد.
بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدأ النفوذ الإيراني يدخل مرحلة المواجهة الحقيقية مع إسرائيل. ولم تقتصر هذه المواجهة على “محور المقاومة” الذي تقوده إيران. وإنما مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران، والتي كانت نتيجتها اغتيالات داخل إيران وتبادل الهجمات بالصواريخ بين طهران وتل أبيب. والأهم أن مشروع إيران في تشكيل “محور المقاومة” و”وحدة الساحة”، باعتباره الركيزة الأساسية في استراتيجية الردع والمواجهة مع إسرائيل، بات رهانا خاسرا بالنسبة لإيران وعجز عن تحقيق غايته في منع استهداف العمق الإيراني، وأصبحت إيران تتلقى الهجمات في مناطق نفوذها وعمقها الاستراتيجي!
المشكلة الحقيقية أن البلدان التي رسخت إيران نفوذها فيها، تعمقت فيها هشاشة الدولة أكثر وأكثر، وازدادت الفجوة بين النخب الحاكمة ومجتمعها. لأن إيران لم تعمل على تقوية هذه الدول، وإنما عملت على تقوية سلطة وهيمنة الكيانات الطائفية على حساب الدولة، وحتى النظام السوري، حيث عملت على بقاء سطوة حكم بشار الأسد طوال 13 عاماً، وكان دعمها من خلال السلاح ولم تفكر في حل سياسي يحتوي القوى المعارضة السياسية ويفصل بينها وبين المعارضة المسلحة. وكان يمكن لحكم حليفها بشار الأسد أن يبقى قوياً وليس متقطع الأوصال بين نفوذ روسي وتركي وإيراني.
إذن، انهيار نظام الحكم في سوريا، هو نتيجة طبيعة لرهن إرادة بقائه على الدعم الخارجي. وهو درس مهم للدول الهشة التي ترهن نخبها الحاكمة بقاءها في سدة الحكم تحت رحمة دولة أخرى، بدلاً من الركون إلى توثيق علاقتها مع شعوبها، وتقديم منجز خدمي وتنموي لها.
ولذلك، يبقى السؤال الأخطر بعد سقوط حكم الأسد، الذي فقد سطوته منذ 2011، وفقد سيادته لصالح فاعلين دوليين وإقليميين: هل هناك خطر على تفكك أو انهيار الدولة في سوريا؟ في دراسة تفكيكية مهمة تناقش “ماذا يفعل فشل الدولة؟”، قدمت الباحثة كاتي كليمنت (Caty Clément) أربعة متغيرات أساسية يمكن أن تؤدي إلى انهيار الدولة، وهي:
1. المتغير الأول، يتمثل في “تناقض البيئة الخارجية”: التحول في البيئة الدولية من التدخل للحفاظ على تماسك الدولة إلى عدم التدخل، بصرف النظر عن درجة تماسكها الداخلي.
2. المتغير الثاني، متغير اقتصادي: ويرتبط بتزايد الحرمان والفقر وانهيار الاقتصاد وتدهور مستويات المعيشة نشوء اقتصاد المافايات.
3. المتغير الثالث، تعبئة الجماعات ذات النفوذ: الهويات الموجودة على أساس الدين أو العرق أو الطبقة أو القومية، والتي لديها دافع قوي للتعبئة السياسية، إلا أنها تشعر بالحرمان أو التهميش، مما يشكل لديها حافزاً قوياً للتمرد ضد الجماعات الأخرى التي تستحوذ على السلطة وتتمتع بنفوذها. ومن هنا يحدث الصدام بين المجموعات التي تطالب بالتغيير لأنها تعتقد بالتهميش، وجماعات تحاول المحافظة على الوضع القائم. وبقاء النظام السياسي واستمراره يتطلب دعم المجموعات ذات النفوذ، والتي تمتلك الثروة والمهارة اللازمة لإدارة وإدامة بقاء الدولة.
4. المتغير الرابع، ضعف الاستيعاب المتبادل للنخب: في النظام السياسي المثالي يمكن تهدئة العنف السياسي بآليات إدارة الصراع. إذ تتم إدامة الاستقرار بآلية “الاستيعاب المتبادل” أو تدوير النخب الجديدة الصاعدة في المجتمع، ودمجها في عمل النظام السياسي القائم، وجعلها أصحاب مصالح فيه، وعلى ذلك سيزيد النظام تأثيره في المجتمع. وفي حال التحول من نظام سياسي إلى نظام آخر يكون أحد أهم أسباب عدم الاستقرار هو عجز النظام عن تدوير النخب واستيعاب النخب الجديدة، أو إقصاء النخب القديمة ومن ثم يتطور عدم الاستقرار إلى صراع حاد وقد يتخذ شكل العنف السياسي، وفي النهاية يؤدي إلى انهيار الدولة.
تفاعل هذه المتغيرات الأربعة يمكن أن يساهم في تفكك الدولة الفاشلة، إلا أن المتغير الأهم الذي يمكن أن يؤجل الانهيار هو العامل الخارجي. لذلك ما حدث في سوريا منذ 2011 وحتى يومنا هذا هو تأجيل تفكك الدولة بسبب الدعم الخارجي، وتحديدا الإيراني والروسي. ومن ثم، بعد سقوط حكم بشار الأسد، أصبحت إيران وروسيا خارج دائرة النفوذ في الأراضي السورية. وأصبحنا أمام احتمالية عالية لتفكك سوريا، إلا إذا كانت للإرادات الخارجية الأخرى مثل تركيا والولايات المتحدة الأميركية ودول خليجية ممانعة لحدوث تقسيم سوريا. وربما لن تنجح القوى السياسية والنخب الحاكمة الجديدة في المستقبل القريب من التخلص من بقايا فشل الدولة، وقد يكون الطريق طويل أمامها إذا لم يكن هناك مشروع سياسي واضح، وخارطة طريق واضحة للعدالة الانتقالية ويتوفر لها الدعم والإسناد من القوى الإقليمية والدولية.
المهم الآن، فرحة السوريين بسقوط نظام دكتاتوري كان نظاماً كاريكاتيريا أمام قوى الفاعلين الإقليميين والدوليين، ويفرض سطوته بالحديد والنار على شعبه. أما مستقبل سوريا كدولة ونظام، ربما يكون تحديا كبيرا أمام السوريين ونخبهم الحاكمة الجديدة. ولكن تبقى المشكلة الأكثر تعقيداً أن الداء هو الدواء في سوريا. إذ لطالما كانت هشاشة الدولة السورية بسبب التدخلات الخارجية، وفي الوقت نفسه فإنّ قرار بقائها دولة موحدة أو تحولها دولة مفككة هو قرار الفاعلين الدوليين والإقليميين.
المجلة
————————
رسالة إلى نخب ومثقفين عرب/ رشا عمران
2024.12.11
في البداية لا بد من أن أقول لكم إن ما يحدث في سوريا سوف يسجله التاريخ البشري بوصفه حدثا استثنائيا لا يختلف كثيرا عن سقوط جدار برلين. ليس لأن لسوريا أهمية كبرى في السياسة العالمية وما يحدث فيها سوف يغير من موازين القوى في العالم، لكن لأن بنية النظام السوري كانت مصمتة تماما كما الجدار. ولم يكن من السهل بمكان خلخلتها ولو قليلا، وهذا ما جعل من هروب بشار الأسد وتحرير المدن السورية من قبضته حدثا عالميا بامتياز. إذ لم يكن أحد يتوقع أنه بعد أن مر ما يقارب أربعة عشر عاما من الثورة السورية التي انطلقت عام 2011، وبعد أن تم التنكيل بها وهزيمتها، وبعد محاولات حديثة عربية ودولية للتطبيع مع النظام السوري السابق (يا إلهي صار لدينا نظام سابق)، وإعادة بشار الأسد إلى المجتمع الدولي، والبدء باستعادة العلاقات الدبلوماسية معه من قبل الغرب والعرب، أن يحصل ما حصل وينهار نظامه ويهرب هو مثل أي جبان خلال أيام لا تتعدى العشر.
ورغم أن صور قيصر عن شهداء سوريا تحت التعذيب في السجون والمعتقلات السورية كانت كافية لإسقاط النظام ومحاكمة رئيسه فورا في محكمة الجنايات الدولية. إلا أن شيئا لم يحدث سوى إصدار قانون عقوبات لم يكن له أي تأثير على مصير الأسد المجرم، بل على العكس كانت هناك محاولات دولية لتجنيبه العقوبات، وهذا سيبقى لطخة سوداء في تاريخ العدالة الدولية، (هو بكل حال ليس ناصعا). مثلما سيبقى لطخة سوداء في تواريخكم أنتم الذين دعمتم المجرم وخونتوا شعبه. وهنا يجب أن أذكركم بشجاعة كثير من الناشطين السوريين الشباب الذين لم يكفوا لحظة واحدة عن حضور الاجتماعات الدولية والتحدث عن إجرام الأسد، لهؤلاء فضل كبير على سوريا والسوريين، كانوا هم صوت الضحايا دائما وأبدا لدى المجتمع الدولي. ورغم فظاعة صور قيصر لكن الفيديوهات التي انتشرت عند تحرير السجناء والمعتقلين من سجون النظام كانت بمنزلة الصدمة حتى للسوريين الذين قالوا إنهم لا يعرفون شيئا عنها (مضطرون لتصديقهم). وكان يجب أن تكون كافية لكم إخوتنا العرب لكي تتمكنوا قليلا من معرفة ماذا كان يختبئ في “سورية الأسد” الذي يرى كثر منكم أن سقوطه تم لأنه كان مقاوما وممانعا لإسرائيل.
أعزائي، المثقفين العرب. أنا أبلغ الآن الستين من عمري، لم أعرف خلالها رئيسا خارج آل الأسد، كنت أشتهي أن أسمع جملة (رئيس سوري سابق)، حتى حين مات حافظ الأسد أطلقوا عليه لقب الرئيس الخالد وورثوا الحكم لابنه، هكذا أصبح رئيسا أبديا، ليس من فراغ أن أحد أهم شعارات الثورة السورية في عام 2011 كان الشعار التالي (ما في للأبد ما في للأبد عاشت سوريا ويسقط الأسد). حاول السوريون خلال أربعة عشر عاما كسر هذا الأبد، حاولوا فتح جدار به، فلم يبق أحد إلا ووقف في طريقهم، في هذه الأثناء كان الأسد يقتل ويدمر ويهجر ويشرد يدعمه في ذلك حزبكم المفضل (حزب الله) الذي دخل سوريا وقتل السوريين وهو
يردد الشعارات الطائفية التي استطاعت أن تعزز حقدا طائفيا مسموما لا يشبه المجتمع السوري، لم يكترث أحد منكم بكل تلك المجازر، لم ير أحدكم كيف كان يفتك بالسوريين تحت راية (المقاومة) التي تحبونها وتقدسونها. للأسف أن بسطاء الشعوب العربية كانت أكثر رأفة ورحمة وفهما للسوريين ومصيرهم المؤسف منكم أنتم النخب المثقفة، التي يفترض بها فهم سيكولوجية الشعوب والحكام ويفترض بها وضع قيمة الحرية والديموقراطية فوق أية قيمة، وإذ بكم تنحازون للطغيان دون تردد. لا بأس، أنتم أحرار بما تفكرون وهذا سوف تذكره تواريخكم القادمة؛ الآن سوريا تحررت من الطغيان، ومن قام بهذا هم سوريون بالكامل، ليس بينهم من هو غير سوري، هؤلاء إسلاميون نحن نعرف ذلك، لكنهم يشبهون بيئاتهم التي لم يترك آل الأسد وسيلة للفتك بها وتهميشها وتجهليها وإقصائها إلا وفعلها. كانوا يوما جهاديين أيضا نعرف ذلك، لكن هل حزب الله الذي تبجلونه لم يكن إسلاميا وجهاديا؟ لن أذكر حركة حماس ذلك أنها لم تتدخل بأي شأن خارج الشأن الفلسطيني ولم تؤجر بندقيتها لأي طاغية أو نظام كما فعل حزب الله. من حرروا سوريا هم سوريون، تسألوننا دون خجل عمن وراءهم ومن يمولهم ومن يسلحهم، دعوني أسألكم من كان وراء حزب الله ومن موله ومن سلحه؟ ودعوني أسالكم أيضا من يمول جيوشكم الوطنية وحكوماتكم الغارقة بالديون ومن يسلح جيوشها وعنصر أمنها؟ هل يمكنكم الإجابة عن ذلك؟ أعرف أنكم لن تجيبوا عن هذه الأسئلة لأن الإجابة قد تدمر قناعاتكم وبدهيات لديكم ترفضون تغييرها لا لشيء إلا لأنكم أكثر كسلا من إعادة تقييم قناعاتكم وبديهياتمكم ومناقشتها بينكم وبين أنفسكم، وهذا ينفي عنكم صفة النخبة التقدمية أو التنويرية التي تدعونها، ذلك أن التنوير يقتضي إعادة تفكيك البديهيات بناء تحديث المعطيات الزمنية. وفي الحقيقة دعوني أقول لكم إننا نحن السوريين لسنا معنيين بالإجابة عن الأسئلة التي تطرحونها إلا بقدر عنايتكم أنتم بالإجابة عن الأسئلة التي طرحتها عليكم الآن، ليس لأننا كسالى ونخاف من الإجابة بل لأننا نحتاج وقتنا لنشفى مما ألمّ بنا، لتشفى أرواحنا وضمائرنا وذاكرتنا ووجداننا من التلوث الذي لم يتوقف نظام الأسد عن تسميمنا به. بحاجة لأن تشفى قلوبنا من القهر الطويل، ولأن نتكاتف حاليا لتحمل الكوارث التي تظهر تباعا ليس فقط في المعتقلات والسجون بل أيضا في بنية المجتمع السوري الذي دمره آل الأسد وحلفاؤهم من الميليشيات الطائفية (المقاومة).
أعزائي المثقفين العرب. سوريا تمر بمرحلة تغيير عظيمة..ليست سهلة على شعبها الذي عاش طويلا في حفرة تشبه ما ترونه الآن عن سجن صيدنايا. لم يكن ما فوق الأرض أفضل كثيرا مما تحته. كل ما حدث من فوضى في الأيام القليلة والتي تنشرونها على صفحاتكم كما لو أنها دلائل على ما سيلي مرحلة الأسد (وهي بطبيعة الحال قليلة جدا بالنسبة إلى عملية تغيير كهذه وتحدث في كل العالم، ربما أذكركم هنا كيف كسر الفرنسيون المحال ونهبوها في الاحتجاجات الأخيرة قبل عامين في كل فرنسا) وكذلك الاستباحة الإسرائيلية وسرقتها للأراضي السورية يتحمل مسؤوليته النظام البائد الفاجر. لا السوريون، لا الشعب ولا القادة العسكريون الذين أسقطوا الأسد. تتكلمون عن السوريين كما لو أنهم قصّر وأغبياء ومتآمرين وعملاء وبائعين للقضية، تتهمونهم باتهامات عجيبة وغريبة وتستكرون عليهم احتفالاتهم في كل سوريا التي رأيتمونها على الشاشات كلها في كل محافظاتهم ومن
كل طوائفهم وفي كل مكان في العالم خارج سوريا، تستكرون عليهم هذا الفرح بالخلاص دون أن يخطر لكم أنهم يرضون بكل ما سيأتي مادام سينجيهم من الجحيم الذي يعيشون فيه. ودعوني أشكركم باسم السوريين، إن سمحوا لي بذلك، على حرصكم على مستقبل سوريا ومخاوفكم من القادم وأخبركم أن لدى السوريين مثلها، لكنني مثل كل السوريين لن أقبل الاتهامات التي تطلقونها علينا وسوف أحاججكم بها واحدا واحدا، وسأضحك من المطالبات التعجيزية التي تطلبونها من شعب لم يمض على تحريره من قبضة الطاغية سوى ساعات، هل تعون فعلا طلباتكم من السوريين أن يذهبوا لتحرير غزة اليوم؟ هل ذهبتم أنتم؟ هل ذهبت جيوشكم؟ هل ذهب أبناؤكم؟ لماذا تطلبون هذا من السوريين الآن؟ أليس هذا غريبا حقا؟ دعوني أطمئنكم، ولو أنكم لا تستحقون الالتفات إليكم: نحن السوريين نعمل جميعا اليوم على التكاتف وبناء الثقة بعضنا ببعض. نحن نسعى لأن ننظر الى الماضي بوصفه تجربة مريرة دفعنا ثمنها جميعا من كل فئاتنا وانتماءاتنا. نحن نريد اليوم استعادة الإيمان أن سوريا لنا جميعا. لأبنائنا ولمستقبل أبنائنا، لم تنقصنا يوما المهارات ولا الخيال ولا المبادرات ولا الكوادر. كانت تنقصنا الحرية التي تتيح لكل هذا أن يظهر. نحن، السوريين، شعب مثل كل الشعوب التي عانت طويلا من الاستبداد. تغلغل الفساد في نفوس كثير منا؛ لكننا نريد أن نتعاهد على أن يبدأ كل منا بنفسه وأن نكون جميعا مستعدين لأن نتغير من أجل سوريا. سوريا هي قضيتنا الآن، سوريا بلادنا الوحيدة والنهائية، وطننا الجميل وقضيتنا الأنبل، هذا لا يعني أننا نسينا قضايا إخوتنا العرب وأولها فلسطين، لكن من لم يكن حرا لن يتمكن من دعم أية قضية أخرى بشكل حقيقي وفعال بعيدا عن الشعارات التي أدمنتموها. كان لسوريا الثورة والانتصار دائما أصدقاء مثقفين ونخب من عالمنا العربي، هؤلاء تشاركوا معنا نحن السوريين كل شيء، هؤلاء المتسقين الواضحين لهم في هذا الانتصار مثلما لكل سوري منا، خونتموهم أيضا وشككتم بوطنيتهم كما فعلتم معنا. ذكرتهم هنا ليس فقط لأنهم يستحقون الامتنان لإيمانهم بنا بسيلة هذه السنوات الصعبة بل لأنهم النقيض الأوضح لفصامكم. عاشت سوريا حرة وعاش شعبها موحدا.
تلفزيون سوريا
—————————
“صيدنايا”.. سوريا القادمة والملفات الساخنة/ مالك داغستاني
2024.12.11
إثر المشاهد التي ظهرت إلى العالم من سجن صيدنايا، خلال وبعد تحريره، ربما يصح أن نصف الثامن من كانون أول/ديسمبر 2024، على أنه “يوم انتهاء المجزرة”، أكثر من وصفه بأنه يوم سقوط نظام الأسد، أو يوم التحرير وغيرها من التعابير. وهذا هو النصر السوري الحقيقي.
رغم أنه من أولى اهتماماتي اليوم، كما كل السوريين، معرفة ملامح النظام القادم، ومراقبة كل قرار سيُتّخذ، لإدراك إلى أين يمضي حكام سوريا الجدد بالبلاد، إلا أنني أشعر أن الأمر الأهم هو أن سوريا انتصرت وأوقفت المجزرة. مجزرة مستمرة عاشتها سوريا لخمسة عقود، على يد أبشع آلة للقتل يمكن أن يعرفها التاريخ البشري. خسر فيها كل السوريين من أعمارهم، وخسر فيها مئات آلاف السوريين أرواحهم. وجثثهم تقبع اليوم في مقابر جماعية لم نعرف بعد إحداثيّاتها.
مجزرة ابتدأت منذ بداية الثمانينيات ولم تتوقف إلا قبل أيام. وعلينا منذ اليوم التفكير الجدي ودون أي إبطاء، بفتح هذا الملف لمعرفة مصير مئات آلاف المفقودين، والوصول إلى معلومات دقيقة، تنهى معاناة السوريين وانتظارهم لأبناء على الأغلب أنهم لن يعودوا. شخصياً، أعتقد أن هذه المهمة يجب أن تناط بالشبكة السورية لحقوق الإنسان، لتكون نواة لمؤسسة سوف تحتاج إلى كثير من الكوادر المختصة وإلى الخبرات الدولية، للتقصي والكشف عن المقابر الجماعية، وتكوين قاعدة بيانات ضخمة وهائلة، بهدف الوصول إلى نتائج حاسمة.
بعد ضبط الأمن والفلتان، وإعادة تسيير مؤسسات الدولة الحيوية التي لا غنى عنها في يوميات المواطنين، ومع إعادة النازحين والمهجرين إلى بيوتهم، حتى لو لم تكن جاهزة تماماً. يجب، على غرار ما جرى في كثير من دول العالم ذات التجارب المشابهة، تشكيل هيئة حقوقية للمساءلة والمحاسبة، كي لا ينجو كبار المجرمين من العقاب، فلن يستعيد السوريون كرامتهم قبل محاسبة هؤلاء وإخضاعهم لمحاكم نزيهة لا تقوم على الثأر والانتقام. فلن يستقيم إعادة بناء سوريا كدولة قانون وليست مزرعة إلا باتباع العديد من المسارات التي تجبُر الضرر وترد المظالم لمئات الآلاف ممن أصابهم ضرر مباشر في حياتهم.
في الوضع السوري، هذا سيحيلنا مباشرة إلى نقاش سيحتدم قريباً، حول مفهوم العدالة الانتقالية الذي سوف يستفيد بصورة إيجابية من حجم التضحيات التي بذلها السوريون في ثورتهم. العدالة الانتقالية، وبحسب تجارب العديد من الدول، سوف تجنب سوريا الانغماس في حالات الانتقام الفردي، هذا الانتقام الذي يأخذه الناس المجروحين بأيديهم، والذي بدوره سوف ينطوي على كثير من الظلم، وسيظهر مستقبلاً في الوطن على شكل انتقامات مضادة.
إن حالة القطع مع الاستبداد، والطمأنينة بأنه لن يكون هناك أي نكوص أو تراجع أو إنتاج استبداد من لون آخر، لا يمكن أن يتم بصورة مطمْئِنة للسوريين إن لم يقم على مواجهة كل مشكلات الماضي، وتناولها بوضوح وشفافية، واستعادة الحقوق بمفعول رجعي، مع الأخذ بمبدأ المحاسبة للمرتكبين بعيداً عن الانتقام السياسي والإقصاء، عبر استخدام آليات مدنية مستقلة سياسياً، مع إشراك الضحايا في المحاكمات، بصورة تعيد للمواطن السوري إحساسه بالكرامة والمواطنة، ولا تسمح بالإفلات من العقاب. كل ذلك من أجل تقديم رسالة واضحة وقوية عن مستقبل سيادة القانون في سوريا القادمة.
رغم وجود تجارب عديدة في بلدان أخرى، حول فترة العدالة الانتقالية يمكن الاستفادة من معاييرها الدولية المشتركة، إلا أنه ينبغي على السوريين تقديم نموذجهم المعتمد على خصوصية الحالة السورية، وعلى الحاجة الوطنية من أجل بناء دولة القانون. طبعاً، من الصعب هنا الحديث عن التفاصيل الدقيقة لهذه الفترة، وهل يمكن الأخذ بمبدأ المسامحة مع صغار المنفذين والتركيز على محاسبة القادة والمخططين أم لا؟ من جهتي أعتقد بهذا. فعلينا تغليب المصالح الوطنية العليا على التطبيق الحرفي للعدالة، من أجل بناء دولة تسود مكوناتها روح الانخراط في الانتماء السوري، بعد أن يتوقف نزيف السوريين.
اللحمة الوطنية الحقيقية والمواطنة، وإعلاء الانتماء إلى سوريا قبل الانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية. لا تقل أهمية عن إعادة الإعمار المادي، وهو الأسهل. مشاهد سجن صيدنايا هزت وجدان كل من شاهدها. ملف المفقودين عمره في سوريا خمسة عقود، وهو يحتاج لسنوات طويلة لإظهار الحقيقة الكاملة، إضافة للعديد من الملفات الكارثية والملحّة، من بينها طلب تسليم المجرمين من الأنتربول ومن الدول المعنية، وعلى رأس هؤلاء المجرم الأول بشار الأسد وشركائه من العائلة ومعظم قيادات الصف الأول، ولا يقل أهمية عنه، العمل على ملف استرداد المال العام الذي نهبه هؤلاء وشركاؤهم، وأودعوه في بنوك العالم. وغيرها من الملفات.
ونحن ننحني اليوم لتضحيات مئات الآلاف من الشهداء الذين أوصلونا إلى هذا النصر، يجب أن نفكر بسوريا القادمة، التي هي مسؤولية جميع أبنائها من دون استثناء، وعلينا أن نقدّمها لأنفسنا أولاً وللعالم تالياً، بطريقة مشرّفة. السيطرة على الشحن الطائفي الذي اشتغل عليه الأسد لعقود، كان في الأيام الماضية واحداً من أهم إنجازات يوم النصر، وعلى السوريين جميعاً من كافة الانتماءات، متابعة العمل على إنجاز حلم “سوريا المستقبل”.
في عصر الأسد لم يكن سجن صيدنايا الوحشي يقتصر على ذاك المبنى اللئيم، بل هو اجتاح سوريا حتى غدت كلها “صيدنايا”. ببساطة وبجملة واحدة، نحن نحتاج أن نبني دولة من وسط هذا الخراب الذي أورثنا إياه النظام البائد.
تلفزيون سوريا
——————————
يا بوعزيزي: سوريا تحيا من جديد/ جمال الشوفي
2024.12.11
ها هي ساحات الحرية والكرامة على امتداد هذا الوطن، من شماله لجنوبه، تعود للحياة والنور بمشاعل الحرية من جديد، ففجر الحرية بات وشيك. ولدهشة ذات ذهول أن هذه الأيام تترافق مع اقتراب بدء الربيع العربي حين قرر طارق الطيب بوعزيزي في تونس أن يوقد النار في نفسه احتجاجاً على ظلم وقهر السنين. فقبل أربعة عشر عاما، في السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2010 بدأ ركب الربيع العربي بالزحف والتوسع، بين إزهار وتفتح في بواكيره، وموجات من الصقيع وتبدلات في مساره درجة الوصول للكوارث خاصة في سوريا. وها هي الشام تكاد تصل لبر الأمان والسلام والحرية بعد طول انتظار…
تُرى هل كان يعلم البوعزيزي أن النار التي أوقدها في نفسه ستكون منار درب شاق وطويل من الحرية والألم والعذاب؟ هل يعلم أن الملايين من طلاب الحرية والحق والعدالة قضوا بين مقتول أو معتقل أو مهجر، وسوريا شاهدة على كبرى مجازر العصر الحديث! هل يعلم أن “فينيقه” الذي أوقد النور في ظلام استبدادنا تمدد في جملكيات بني عرب (الجمهورية الملكية حسب واسيني الأعرج في رواية رمل الماية) وأن سلطاتها لليوم لم تمل من قتل أو تخوين أو تكفير لأمثاله من المظلومين المضطهدين المقهورين في هذا الشرق الكليم. وما زالنا لليوم ندفع حياتنا وعمرنا قربان حرية وجود، حرية رأي، حرية وكرامة إنسانية، حرية وطن استبيح من كل نوافذ وأبواب العهر المحلي والعالمي، من كل معابر الاستبداد المادي والسياسي والعسكري والتطرف الأيديولوجي والديني دون كلل أو ملل من شهوة قتل وسطوة جاه!
بوعزيزي مات حراً ومئات آلاف السوريين مثله، وقافلة التوق للحرية تعاود دربها تجاه الشام مرة أخرى. فرغم هول ما تعرضنا له من كوارث لعقد ونيف مضى قلما شهد لها تاريخ البشرية من أعتى سلطات القهر التاريخي وأكثرها إجراماً، ها هي حلب وحماة، درعا والسويداء توقظ أبواب الحرية من جديد. اليوم يعود الشمال السوري وصولاً لبوابة حمص للحياة من جديد، يقابلها الجنوب بسهله وجبله والأخبار تتحدث عن انهيارات في صفوف نظام دمشق، ورأس نظامه يبدو أنه فر خارجها. فمنذ أيام وسكان الشمال السوري المهجرين منذ ما يزيد عن ستة أعوام يعودون إلى ديارهم وأرضهم وتاريخهم، يكنسون طغمة أعتى وأشد سلطات التاريخ إجراماً. اليوم تعود نواعير حماة للدوران بعد سنوات من الظلم والقهر والجريمة التي كرستها سلطة دمشق في حق الشعب السوري منذ عقود. سلطة مارست أشد طغيان التاريخ جبروتاً، كان نتيجته ملايين المهجرين ومئات آلاف المعتقلين وجرائم حرب بكافة أنواع الأسلحة العادية والمحرمة دولياً كالكيماوي وغيره، لكن نهر العاصي عاصٍ يأبى الرضوخ.
ربما الحديث السياسي عن اقتراب سقوط عصبة دمشق الحاكمة ينتابه كثير من التخوف والترقب حسب المتغيرات والتحولات في المشهد السوري والإقليمي والدولي، ومؤشراته الأقوى التصريحات الروسية في التخلي عن هذا النظام بعد أن حمته منذ 2015 لليوم من سقوطه العامودي، وهذا حديث سياسي لم ولن أعفو نفسي من الخوض في تفاصيله السياسة يوماً، وسأتابعه مع كل السوريين في مواقع أخرى حين نتحدث عن الدخول في المرحلة الانتقالية والمؤتمر الوطني الذي يحقق الحل الشامل لكل السوريين ويقرر مستقبلهم ودستورهم ونظام حكمهم دون تغول سلطوي من أي نوع كان. لكن، وهذه اللاكن فرحة يخالطها الدمع، في هذه اللحظات من حقنا ترك شؤون السياسة ولو قليلاً، خاصة وأن أية سياسة تتحدث عن المستقبل ستأتي على قدميها بعد زوال الاستبداد والدخول في مرحلة انتقالية. أما الآن فالفرحة تتملكني وكأني العائد لبيتي وتاريخي، لحياتي وناسي كما سكان حلب وريفها، وكأني الخارج مع المعتقلين من سجون الظلام السورية في حلب وحماة ودرعا والسويداء، وفعلياً طوال أعوامي السابقة أعيش حياة المعتقل بلا سجن، ويا لها من فرحة…
إذا هي الحرية، وسحرها الذي يسري في النفوس بهجة، مشعل النار واتقاد الفكر، مسار الروح في القدرة على الانفتاح والإبداع، قصة الإنسان الباحث، الصانع، الجابر، المفكر، المبدع، العامل، الفلاح حين يختار وجوده الحر في حيز الجماعة البشرية وبالضرورة الإنسانية. الحرية بوصفها جوهر العقل ومناط وجوده ومصدر أخلاقه وقيمه، هي تلك القافلة التي مضت، مع بدء الربيع العربي، في صحراء الاستبداد تهدم أركانه وتضعضع بناه المستقرة لعقود طويلة لتعلي من شأن الإنسان والعقل والقانون. الحرية ليست ذلك الشعار الأجوف كما ردده إعلام السلطات، بل هي مبتغى الحياة ومصدر سعادة الإنسان، هي ذلك الفضاء الذي يتحرك به المواطن، الإنسان، الفرد وفق مشروعية وجوده الانطولوجية أولاً والثقافية ثانياً والمنضوية تحت راية القانون والمسؤولية الأخلاقية والمدنية ضمن مظلة الوطن الواحد والموحد والمتنوع والغني بكل أطيافه ثالثاً. الحرية هي قبول الآخر المختلف في إطار الوطن واللحمة الوطنية مسيراً بدفتي) الشرعية الدستورية والحق والقانون (فتنفي لغة الإقصاء واغتصاب الرؤى والأفكار.
من هنا بدأ مشوار الحرية، من عمق القهر، من قاع الاستبداد المتجذر في نفعية ضحلة “مملوكية” لا تشبه من التاريخ سوى مرحلة الشرذمة والقتل المجاني في تاريخنا القابع في العصر المملوكي، بدأت من حيث أنها محاولة لكسر هذا الجمود ومراحله المتتالية من القتل والهدر الإنساني، بدأت ولم تتوقف لليوم. فحتى وإن تأخرت أو تعثرت أو هزمت في محطات، لكنها حفرت في العمق، في جذريتها، في أسطوريتها، في قدرتها على الصمود، وعلّ الأيام القادمة خضراء على كل الأرض السورية…
قافلة الحرية تمضي رغم تعثرنا مراراً، وها هي تعود لربوع الشام بعد أن كان العالم ينعي سوريا والسوريين، ها هي الروح الوطنية تستعيد جذوتها وألقها وتجتاحها تيارات الكرامة الإنسانية وحق تقرير المصير واستعادة قرارنا الوطني والبحث الجاد عن تشكيل عَقدنا الاجتماعي تحت عنوان سوريا للسوريين. سورية دولة سلام وأمان واستقرار، سوريا التي ستعمل كفاءاتها المغيبة لدهور على صياغة دستورنا العصري وتثبيت ركائز حياتنا القادمة. فمنذ أن نالت دول المنطقة استقلالها السياسي في منتصف القرن الماضي، استولت نظم العسكر على السلطة لتجهز على طباع المرحلة المدنية وتجتث الأفق السياسي منه منكلة بالطيف المعارض ولتستحيل ((الدولة)) إلى نموذج من الاستبداد المنحل في هيئة طغمة سلطوية حاكمة مدعمة بأجهزة أمنية شديدة القبضة؛ ولليوم لم يذق هذا الشعب طعم الفرح سوى هذه الأيام، وكأن العام 2011 يولد من جديد وسوريا تولد من جديد، ولكن هذه المرة ستكمل طريقها نحو الحرية والأمان والسلام.
أنبيك بوعزيزي، أنبيك مي سكاف وفدوى سليمان، غياث مطر وحمزة الخطيب وناصر بندق والآلاف الآلاف منكم، قافلة الحرية تتابع سيرها اليوم رغم كل القحط والتعثر الذي أصابنا لأعوام، وستبصر النور عما قريب. علّ القادم جبر خاطر وفرحة تعم كل بقاع هذا الوطن الكليم.
تلفزيون سوريا
——————————
أي إسلام سوري تصدّره تركيا ؟/ ساطع نورالدين
ديسمبر 11, 2024
فَجأة سقط.. خِفية هرب..ولم يعد أي أثر. كأنه لم يكن رئيساً لدولة أو لنظام، أو قائداً لجيش ول12 جهاز إستخبارات وأمن. لم يبلغ أحداً، كما يبدو، أنه لاجئ الى موسكو، ثم الى عاصمة عربية أخرى.. لم يمنّ على مريديه من العائلة أو الطائفة أو الحزب أو البلد الذي ورثه من والده وحكمه 24 عاماً بالنار والحديد، بكلمة، يعلن فيه التنحي عن السلطة، ويطلب تسليمها الى سواه؟
لا بأس، المهم أنه رحل بعد عشرة أيام أفرحت سوريا والبلدان التي مسّها نظامه. والأهم أن حصر إرث 54 عاماً من الحكم الاسدي، بدأ على الفور، ومعه طُرحت أسئلة الغد السوري التي لن تأتي أجوبتها من الكرملين، حتى ولو كان القيصر الروسي الذي شعر بإنهياره التام، هو الذي إقترح عليه أن يترك كل شيء خلفه.
الفرحة ما زالت أقوى من أي سؤال. والاسرار أكبر من أي أجوبة. الثابت حتى الآن أن الأسد لم يكن رئيساً ولم يكن لديه نظام ولا حكومة ولا جيش ولا استخبارات. كان هناك هيكل فارغ، تهاوى بسرعة أكبر مما توقع الجميع. لكن لماذا إختار موسكو بالذات، كوجهته الأولى على الأقل؟ أو بتعبير آخر لماذا أختار الكرملين أن يستضيفه، وبالتالي أن يسلم السلطة في سوريا الى جهة إسلامية أصولية كانت روسيا تقاتلها وترفض وجودها وشراكتها، لأسباب سياسية وعسكرية جوهرية لا جدال فيها؟
الهزيمة ليست داعياً كافياً، بالنسبة الى موسكو التي تقارع العالم وتهدده لكي لا تقر بصعوبة التحدي في أوكرانيا. العودة الى القتال في سوريا ومن أجل سوريا ، لم يعد وارداً بعدما سقط نظامها الحليف بسرعة مذهلة أمام أغلبية شعبية كاسحة. الواقعية السياسية ليست من صفات الرئيس فلاديمير بوتين، لكنها يمكن ان تفسر بعض ما جرى في سوريا في الأيام العشرة المفاجئة..ومعها التواطؤ الروسي مع تركيا، التي كانت ولا تزال تقود المشهد السوري، بكامل تفاصيله، بما فيها البيانات والتصريحات الصادرة عن “هيئة تحرير الشام” التي أصبحت “هيئة حكم الشام”.
الاستنتاج بأن سوريا لم تعد مجدية لروسيا، سابقٌ للتحديات والصعوبات التي تواجهها القيادة الروسية في أوكرانيا وفي علاقاتها مع الغرب عامة. لكن هذا الاستنتاج لا ينسحب على تركيا، التي راكمت طوال السنوات ال13 الماضية من الأسباب والدوافع لمضاعفة الجدوى السورية وبالتالي، لتنفيذ أبسط خطط الإطاحة بالاسد ونظامه، من خلال إختبار قوته وقدرته على الصمود، التي ثبت أنه ليس لها أساس على أرض الواقع.
لكن التواطؤ الروسي التركي، لا يشمل التسليم بأن سوريا ستصبح دولة إسلامية، بسلطتها ودستورها ومؤسساتها. وهذا مناقض لمنطق المبادئ والأعباء التي تستطيع موسكو وأنقره تقبلها عندما تحاولان تقديم النظام الجديد في دمشق، الى العالم أجمع. وهو نظام سيكون ذو وجه إسلامي، تحتمله أميركا وأوروبا والعالم العربي، ولا يخالف التكوين الوطني السوري نفسه.
وعليه لن يكون بالإمكان الحديث عن نهضة إسلامية مستعادة في سوريا، ولا عن نهوض للاسلام السياسي يسترد أوهام الربيع العربي، أو حتى أحلامه المحبطة. ثمة إسلام مختلف، معتدل، تصدره تركيا الآن تحديداً الى سوريا ومنها الى العالم العربي، بعد طول انتظار، وبعد طول إرتياب بالإسلام التركي، المغاير، (والمتصوف)، الذي يمثله حزب العدالة والتنمية، ويحيله الى وقائع سياسية واقتصادية واجتماعية مقبولة من العالم أجمع.
المشكلة في هذا الخيار، الذي تعيد تركيا انتاجه وتصديره، هي أن الإسلام السياسي العربي لم يتقبل يوما ذلك المنتَج الديني التركي.. التجربة السورية ما زالت في بدايتها، ومن المبكر التكهن في ما اذا التديّن سيغلب التمدّن، أم العكس.
بيروت في 11/12/2024
————————————
مآلات الثورة السورية.. الدستور والدماء ومستقبل البلاد/ غطفان غنوم
11-ديسمبر-2024
منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، أصبح مصير البلاد معلقًا بين أحلام التغيير وإرث الاستبداد الطويل. إحدى أبرز القضايا التي تُبرز تعقيد المشهد السوري هي قضية العَلَم، التي تلخص جزءًا كبيرًا من التحديات الدستورية والسياسية في مسار الثورة. هذه القضية، رغم رمزيتها، تسلط الضوء على مشكلات أعمق تتعلق ببنية النظام السياسي، الهوية الوطنية، واستدامة السلام بعد أي تغيير محتمل.
فرض حافظ الأسد العَلَم السوري الحالي عام 1980، مستندًا إلى موروث الوحدة مع مصر (1958-1961)، لكن من خلال آلية تصويت صورية في مجلس شعب لم يكن يمثل إرادة السوريين الفعلية. ورغم أن العَلَم يُعتبر رمزًا للدولة، فإنه في الحالة السورية أصبح علامة على الخلاف السياسي. اليوم، ومع تطلع المعارضة السورية إلى إعادة تبني عَلَم الاستقلال أو “عَلَم الثورة”، يُثار سؤال جوهري: هل يمكن فرض رمز وطني جديد دون موافقة شعبية واسعة؟
الإجابة الأكثر عقلانية تكمن في أن وصف العَلَم وألوانه، كغيرها من الرموز السيادية، يجب أن يكون جزءًا من دستور البلاد. الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، أشار في كتابه “العقد الاجتماعي” إلى أن السيادة تنبع من الإرادة العامة للشعب، وليس من قرارات فردية أو سلطوية. بناءً على ذلك، لا يمكن لأي طرف أن يفرض رؤيته منفردًا، لأن ذلك يُكرّس منطق القوة والإقصاء الذي كان جزءًا من المأساة السورية. وبالتالي، يجب أن يُحدد العَلَم السوري القادم ضمن عملية استفتاء شاملة تُجرى بالتزامن مع التصويت على دستور جديد يعكس تطلعات جميع السوريين.
انطلق من مسألة العَلَم لكي نعمم لاحقًا على بقية الأمور الخلافية التي يمكن أن تثار خلال مسيرة إعادة بناء الدولة. إذا نظرنا إلى تجارب ثورات سابقة، نجد أن انعدام التوافق الوطني والانزلاق في صراعات على السلطة أدى إلى مآسٍ كبرى. الثورة الفرنسية، رغم أنها مهدت الطريق للديمقراطية الحديثة، شهدت “عهد الإرهاب”، حيث أُعدم عشرات الآلاف على يد الثورة نفسها. قال المفكر الألماني هيغل: “التاريخ يعلمنا أننا لا نتعلم من التاريخ”. في هذا السياق، فإن الثورات التي لا تؤسس لنظام سياسي متماسك غالبًا ما تتحول إلى دوامة من الفوضى.
في العصر الحديث، مثال ليبيا يُبرز خطر غياب مؤسسات قوية. بعد سقوط القذافي، تسببت الانقسامات الداخلية وتعدد الميليشيات في تفكك الدولة. أما اليمن، فقد تحولت انتفاضته الشعبية إلى حرب أهلية معقدة بالوكالة، بينما عانى العراق من تداعيات الاحتلال الأميركي وقرارات سياسية استبعادية خلّفت فراغًا أمنيًا ساعد على ظهور تنظيمات متطرفة.
الثورة السورية تُبرز تحديات مماثلة. بوصفها وسيلة للتغيير، لا تنتهي الثورة بإسقاط النظام، بل تبدأ بعده. إذا لم تُبنَ أسس سياسية ودستورية متينة، فإن الثورة قد تُكرّر مآسي الدول الأخرى التي لم تتمكن من تجاوز خلافاتها الداخلية.
لكي تتفادى الثورة السورية مصير الثورات الفاشلة، يجب أن تتسم بالخصائص التالية:
التوافق الوطني
يجب أن يُبنى النظام السياسي الجديد على شراكة وطنية حقيقية تشمل جميع الأطراف، بما في ذلك القوى التي دعمت النظام السابق. التغيير لا يعني الانتقام، بل يتطلب إدماج الجميع في عملية بناء الوطن. قال المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: “الأزمة تنشأ عندما يموت القديم ولم يُولد الجديد بعد”، وهو ما يتطلب خلق توافق وطني يجسر هذه الفجوة.
إعادة بناء المؤسسات
انهيار مؤسسات الدولة هو أحد أكبر الأخطار التي تواجه أي ثورة. الحفاظ على المؤسسات الأساسية للدولة وتحييدها عن الصراعات السياسية أمر ضروري. مثال العراق يوضح كيف أن تفكيك الجيش والمؤسسات بعد الغزو الأميركي أدى إلى فراغ خطير ساعد في تصاعد العنف.
الإصلاح الدستوري الشامل
يجب أن تكون صياغة الدستور عملية شفافة وديمقراطية تُشارك فيها جميع أطياف المجتمع السوري. هذا الدستور يجب أن يضمن فصل السلطات، يحمي الحريات، ويُعرّف رموز الدولة بشكل يعكس الهوية الوطنية الجامعة.
العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية تُعد من أهم ركائز المصالحة الوطنية. يجب أن تكون هناك آلية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم خلال الصراع، لكن دون السقوط في فخ الانتقام، كما حدث في رواندا، حيث نجحت محاكم غاشاشا التقليدية في تحقيق مصالحة وطنية رغم المذابح.
إبعاد التدخلات الخارجية
التدخلات الخارجية أدت إلى تعقيد الأزمة السورية بشكل كبير. الحل المستدام يجب أن يكون سوريًا خالصًا، يعتمد على حوار داخلي وإرادة وطنية بعيدة عن تأثير الأجندات الخارجية، والاستفادة من كل الخبرات المتوفرة وطنيًا، دون الالتفات نحو المحسوبيات والمحاصصات الضيقة.
ولا يعني هذا بطبيعة الحال عدم الاستفادة من الخبرات الدولية والدول الصديقة وطلب دعمها لإعادة بناء القطاعات المتضررة، والمؤسسات. الثورة السورية كانت وستظل لحظة فارقة في تاريخ البلاد. لكنها لكي تُحقق أهدافها في الحرية والكرامة والعدالة، تحتاج إلى أن تكون أعمق من مجرد إسقاط النظام. يجب أن تتجاوز الشعارات والرغبات الآنية لتُصبح مشروعًا وطنيًا شاملًا يُراعي التنوع السوري، ويُجنب البلاد بحور الدماء.
الثورة ليست فقط بداية طريق صعب، بل فرصة لإعادة التفكير في أسس الدولة السورية. النجاح يعتمد على قدرة السوريين على التعلّم من الماضي، واستخدام الثورة كمنصة لبناء دولة عادلة ومستقرة، تُكرّم تطلعات جميع أبنائها، فحقوق المواطنة مكفولة للجميع بالتساوي، ليس هناك أقلية وأكثرية حين يتم الكلام عن المواطنة.
قال الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز: “الحياة ليست ما عاشه المرء، بل ما يتذكره وكيف يتذكره ليحكيه”. لذا، يجب أن تُكتب قصة الثورة السورية كفصل جديد من الأمل، لا كاستمرار للتراجيديا.
الترا صوت
————————–
سقوط الأسد.. فلسطين الشعار وفلسطين العدالة/ عز الدين أعرج
كانت الثورة السورية عندما انطلقت في عام 2011، قبل أي شيء، صورة حضارية عن مجتمع عانى عقودًا من استبداد قد لا يكون له مثيل في القرن الحادي والعشرين، وواجه البطش بالأغاني واللافتات والورود. ومنذ لحظات الثورة الأولى، أظهرت شعاراتها ومساراتها التقاطعات والتشابكات العميقة بين الاستبداد والاستعمار، عنفهما ومقاومتهما، فأنتجت خطابًا كانت الحرية والتحرر والسيادة في قلبه. استعادت الشوارع السورية المنتفضة العروبة وفلسطين من شعارات البعث وأسماء أفرع المخابرات وفضفاضية البلاغات الاستراتيجية، ووضعتهما، كما فعلت كل شوارع الربيع العربي، في قلب التطلع إلى مستقبل جديد، ديمقراطي وحر، مهموم بالناس وقضاياهم ومعيشتهم.
وبينما كان النظام وحلفاؤه يبررون باسم فلسطين والعروبة أقبح أنواع البطش، كانت مسارات الثورة، انتصاراتها الأولى، وخيباتها اللاحقة، تجسد فلسطين مرة أخرى، حتى صارت المقتلة والتغريبة السوريتين، صورة عن المقتلة والتغريبة الفلسطينيتين، وكان ضحايا النظام الفلسطينيون السوريون، موتهم واعتقالهم وهجرتهم المزدوجة، أبلغ مثال على هذه التقاطعات.
أما في إسرائيل فكان القلق من الربيع العربي، والاطمئنان إلى الثورة المضادة، تأكيدًا على فلسطين التطلع ضد فلسطين الشعار. مع ذلك، كانت علاقة إسرائيل مع الربيع العربي أوضح في سياقات أخرى، في دول أنتجت ثوراتها المضادة أنظمة أقرب إلى إسرائيل من أي وقت مضى، وتساهم الآن في الإبادة المستمرة في غزة.
أما في سوريا، فالواقع كان مختلفًا (رغم إقرار الإسرائيليين المتكرر بارتياحهم لبقاء النظام على الحدود)، حيث انخرطت حركات مقاومة لإسرائيل في الدفاع عن نظام الأسد، وأصبحت المخاوف الإسرائيلية من “التهديد الإيراني”، سواء البلاغية أو الحقيقية، مرتبطة أكثر من أي وقت مضى بما يحدث في سوريا. تغيرت الأمور سريعًا، وأدى عنف النظام وحلفاؤه إلى اقتتالات داخلية، وساهمت طائفية النظام في خلق مشهد طائفي وأهلي لم يمثل تطلعات الثورة الأولى. وفي قلب ذلك كله، بقي الصراع بين فلسطين الشعار وفلسطين التطلع يشكل مسارات الثورة السورية ومآلاتها.
ترك هذا الوضع كثيرًا من السوريين في معادلة صعبة، إذ كان عليهم أن يروا حركات شاركت في مقتلتهم تقاوم إسرائيل وتدافع عن أرضها، كل ذلك في خضم إبادة مستمرة للفلسطينيين. وانحرف جزء من معارضي النظام، للأسف، في سجالهم ضد فلسطين الشعار عن إيمانهم بفلسطين التطلع والعدالة. كما استخفّت نخب مناصرة لفلسطين ومؤمنة بحق بالمقاومة بمآسي السوريين، واستمرت خطابات النظام ومنصاته في توظيف فلسطين لتبرير المقتلة السورية. مشهد جعل مقاربة سوريا وتطلعات السوريين أكثر تعقيدًا، لكنه مع ذلك أكد على ضرورة العودة إلى شعارات الثورة الأولى. فلا تزال العروبة، عروبة الناس والهموم والآمال، وفلسطين العدالة والتطلع، الإجابة الأوضح أمام هذه التعقيدات. لكن حتى الأهداف الاستراتيجية التي تبجح بها النظام وحلفاؤه، كما صار واضحًا الآن، كانت أقرب إلى شعارات الثورة وأحلام التغيير في سوريا مما هي إلى النظام والدفاع عنه.
لم يختلف عاقل على أهمية سوريا الاستراتيجية لحركات مقاومة إسرائيل في المنطقة. ولأنها كذلك، كان على من يقاوم إسرائيل أن يدافع عن سوريا ودورها، لا عن عائلة تحكمها منذ عقود بالبطش والدم. وكان عليهم أن يدركوا منذ عقد ونصف، كما أدركوا الآن مضطرين، أن رهن دور سوريا بتحالفات طائفية وعلاقات سلطة إقليمية هو ما يهدد هذا الدور، وليس ثورة شعبية تطالب بالعدالة والديمقراطية.
صارت الأمور أعقد بكثير الآن من مظاهرات بالورود والأغاني، ولم تعد صورة وردية عن المستقبل تتسع لتعقيدات ما يمكن أن يأتي. مع ذلك، فهذه الأحلام التي لا تزال قائمة اليوم بعد سقوط الأسد والسجون التي فُتحت أبوابها لآلاف من الأبرياء، هي صورة الثورة السورية النبيلة، أما المخاوف المحقة مما سيأتي، هي نتيجة رهانات غير أخلاقية وانحياز للبطش ضد الناس.
الآن، بعد أن تخلت الأطراف الطائفية والإقليمية التوسعية عن النظام، وبعد أن صار واضحًا أن انحيازات حزب الله غير الأخلاقية في سوريا عرضته لأكبر نكسة في تاريخه وحجمت من أي دور مقاوم له، وبعد أن بدأت إسرائيل باستغلال الاضطرابات في مصالحها التوسعية، صار حقًا أن يقلب السؤال: لماذا غامرت “أطراف المقاومة” بدور سوريا وسيادتها ومكانتها الاستراتيجية للحفاظ على أحد أسوأ الأنظمة السياسية في العصر الحديث؟
الترا صوت
————————-
عن صباحية “السقوط الكبير” في مدينة طرطوس/ غدير محمد برهوم
الأربعاء 11 ديسمبر 2024
السابع من كانون الأول من عام 2024، ليلة السقوط الأهم في التاريخ السوري الحديث، لقاء بالصدفة مع أحد أصدقاء الدراسة في إحدى كافيهات مدينة طرطوس، حينها لم تكن هيئة تحرير الشام قد دخلت حمص بعد.
-“شو الوضع؟”.
– “أنو وضع يا غالي؟ بسلامة راسك، خالصة الأمور”
– “بس خايف من يلي جاي”
– “لا لا، أنا متفائل، باين الجماعة مو مدورين على الانتقام”.
أوصلته إلى منزله ليلاً، التفت إليّ: “معقول يكون هاد آخر مشوار إلنا بطرطوس”، طمأنته: “الوضع سيتحسن، أنا متفائل، قد تحدث بعض الفوضى وهذا طبيعي”.
صباحية السلاسة غير المتوقعة
صباحية السقوط، الثامن من كانون الأول، احتفالات جوالة بالسيارات، إشارات النصر، الأفران تعمل كالمعتاد، الناس عائدون إلى منازلهم يحملون الخبز على سواعدهم.
علم الثورة للمرة الأولى مرفوعاً في طرطوس المدينة، رغم موقفي النهائي ضد النظام منذ سنوات، لكنّ منظر العلم لا يزال يخيفني، ربما هي فوبيا هذه الدرجة اللونية من الأخضر، لكنني سأتعامل مع الموضوع بطريقة ما، المهم هو البلد وسلامة الناس، والبلد أغلى من أي علم.
مرّت الأمور بسلاسة غير متوقعة، وكما قال لي أحد التجار: “ما حدا أكل كف بالمحافظة كلها”. انقلاب ناعم، وتحرير أنيق بأقل قدر ممكن من إراقة الدماء السورية. هذا كان رأي كثيرين، وقد خالفت الأحداث افتراضاتنا وأحكامنا المسبقة، حتى أشد المتفائلين لم يتوقع هذا السقوط النظيف في الساحل، ولكنّ الأسف يعتصر القلوب على شبابٍ مثل الورد سقطوا على جبهات حلب وحماة قبل أيام، ولم يشهدوا تلك اللحظات. حزنٌ عميق سيبقى في صدور الأمهات وقد أدركوا أنه كان يستعملهم ليبقى على كرسيه، لكنّ رؤيتهن لسوريا تمشي في طريق التقدم، والتحسّن الذي سيفرضه رفع العقوبات وانفتاح البلد على الخارج، ربما يخفف الحزن قليلاً.
ذهول كبير
الذهول وعدم التصديق كانا العلامة البارزة، إضافة للارتباك، فتسارع الأحداث كان أقوى من قدرة غالبية الناس على الاستيعاب. الخارجون من السجون يحملون أكياس أغراضهم وبؤسهم على وجوههم. شابٌ خمسيني يرتدي جاكيت أحمر يحاول إيقاف أي سيارة لتقل والدته أو زوجته التي كسرت ساقها، وهي ملفوفة ببطانية على قارعة الطريق. يقترب منه مراهق معه “روسية”، فيطلب منه الخمسيني أن يزيحها جانباً ويحاول ثنيه عن استخدامها بالكلام والأيدي. بتنا نكره البنادق، نحن السوريين لا نحبها.
تصرفات “الهيئة” إيجابية لحد اللحظة في محافظة لها حساسيتها العالية في الحرب السورية، والانطباعات لدى السكان تتراوح بين الإيجابية والمرتبكة، والأولى أوضح من الثانية، فالجميع تقريباً قد بدّل الصور على صفحات التواصل الاجتماعي إلى العلم الجديد، في إشارة واضحة للرغبة في الانخراط في الحياة الجديدة، وقد تفاجأنا بأنّ هيئة تحرير الشام والقوات المنضوية تحتها، كانت أكثر رحمةً بشبان الساحل، ممن ظنناه “متلنا” و”منا وفينا”. هذه صدمة آمل أن تهز العقل لتكسر تلك القوقعة المحيطة به.
وللأمانة، فقد روى لي أحد الأصدقاء أنّ أحد عناصر الهيئة قد أوقفه في الطريق، وأعطاه “كروز دخان ماستر” كهدية، وآخر ذكر أمامهم أنه يعاني من نقص توفر البنزين، لينزل له من سيارة الدفع الرباعي “بيدوناً” -حوالي عشرين لتراً- من البنزين.
صالح العلي… فرِحاً
مقر محافظة طرطوس، ومقر الحزب البائد والصور الممزّقة، عند دوار “الشيخ صالح العلي”، بضعة سيارات تجر تمثال حافظ الأسد بلون أخضر كامد، يركب عليه شخص، وأجواء الفرح واللاخوف تسيطر على المشهد. هناك من يحتفل وهناك من يراقب في ذهول.
ولم يقترب أحد من تمثال “الشيخ صالح العلي”، وقد بقي راكباً على حصانه يراقب تلك الاحتفالات. تخيلتُ الرضا في عينيه، وهو مطمئن أن سوريا قد تحرّرت من جديد، وقد كُسرت أقوى الأغلال في وجه الحل الذي يسعى لبناء الدولة التي كان يحلم ببنائها، وهي دولة “تسامى بنوها فوق دينٍ ومذهبِ”.
ثم أصطدم بصديق البارحة وأنا أقطع الطريق. يسلم عليّ وقد بان عليه ارتياح في الملامح، على نقيض قلق البارحة. نصحني بأن أذهب من الطريق الفرعيّ، بسبب فوضى رصاص الاحتفالات: “في واحد هلق كانوا عم يقنعوه ما يرمي القنبلة”، وعلى ما يبدو أنّ النظام تغيّر ولكن بعض المشاكل لم تتغير.
التعفيش من جديد
يحاذي الطريق الفرعيّ مركز خدمة المواطن، وهنا رأيتُ شاباً أسمر اللون يرتدي بلوزة سوداء وبنطالاً أسود (ألوان تتيح له ألا يترسّخ في الذاكرة)، يحمل شاشة حاسوب مكتبي مع الماوس ولوحة المفاتيح، تنتظره سيارة، وقد لحقه شاب آخر يحمل كيساً أبيض ممتلئاً، مستغلين حالة الفوضى النسبية التي كانت تسيطر على المشهد.
في شارع “المينا” العريق في طرطوس، يوجد بعض الرجال من سكان الحي يتبادلون التهاني والتبريكات، نشوة نيرفانية عميقة. “لقد سقط”: يقولها بفرحٍ عميق وكأنه لا يصدق ما يقول. فتيةٌ صغار استولوا، بطريقة ما، على “روسيات” يفرغونها بطريقة عشوائية، هنا وهناك.
ومن أمام مبنى الجمارك، تجمّعت بضع سيارات بيك آب، وشبان ورجال يحملون أرائك تبدو عليها حالة الاستعمال، وكراسي مكتبية، تعفيشٌ صريح لأثاث “الدولة السابقة”، وقد دخل آخرون إلى مبنى الجمارك نفسه، وعفشوا كل الدراجات النارية المصادرة، وقد أكد لي بعض الأصدقاء أن المرفأ تم نهبه، وقد شاهدهم يحملون الشاشات وكل ما يمكن سرقته.
تغيرت الحياة
تغيرت حياتنا على نحو دراماتيكي، الهاتف الذكي الذي اشتريته منذ ستة أشهر بمليونين وستمئة ألف ليرة سورية، ولم أقم “بجمركته” لأنها كانت تعادل أكثر من نصف ثمن الجهاز، ما كنت أعتبره سرقة مقوننة، أصبح اليوم يقبل شريحة اتصال دون دفع أتاوة.
وأصبحتُ أحمل جهازاً واحداً وليس جهازين، ولم تعد هنالك بطاقة ذكية تحصي لنا سعراتنا الحرارية، ليس من أجل تنظيم الدور وتخفيف الزحام كما يروّج، وإنما من أجل أن يتسنى لهم سرقة أكبر قدر ممكن من حقوقنا وطعامنا، ودفتر الجيش أو ورقة التأجيل التي يجب أن نحملها أينما ذهبنا وأينما سافرنا، ولو كان السفر ضمن الحي نفسه، فكثيراً ما كانت تتعطّل حياتنا بسبب نسيان البطاقة الذكية أو أحد الهاتفين أو أحد شواحنهما.
صحيح أنها تبدو أموراً صغيرة، وقد يعتبرها البعض تافهة، لكنها كانت تعطل إنتاجيتنا وتعيق أي مسيرة تطورنا كأفراد، وبالتالي كمجتمع، وسنكتشف مع الأيام أنّ النظام السابق قد حولنا لراكضين خلف لقمة الخبز ولقمة الكهرباء ولقمة الحياة، سنشعر بذلك مع انكسار رموز وقيود وتماثيل النظام البائد، وقد تظهر مشاكل جديدة بطبيعة الحال، ولكننا سنكون قادرين على مناقشتها وحلها على أرض وطننا.
وحتى لا نبتعد كثيراً عن نشوة الانتصار، كان الثامن من كانون الأول أفضل يوم في حياة السوريين، موالاة كانوا أم معارضة، ويوماً سيئاً لفئة قليلة، هو اليوم الذي تكلمت فيه الموالاة قبل المعارضة بلسان مي سكاف: “إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد”، وها هو ميشيل كيلو ينظر من السماء بسعادة غامرة، يراقب ذلك الطفل وقد خرج من المعتقل، يلعب مع العصفور، ويتعرّف على “السجرة” للمرة الأولى، وكأنّ ابن العم قد رسم مشهد الخلاص هذا ببذور الزيتون التي كان يجمعها من وجباته، خلال سجنه في المنفردة، ستة عشر عاماً قضاها رياض الترك دون أن يتكلم كلمةً واحدة، واليوم يتكلم ما يريد بلسان ملايين السوريين الأحرار.
رصيف 22
————————-
سوريا حرة بدون مازن حمادة… غصّة من بين ملايين الغصّات/ مايا حمادة
11 ديسمبر 2024
ما أجمل صباح الأحد الثاني من كانون الأول/ ديسمبر. أحد الفرح، أحد العدالة، الأحد المجيد. الأحد الذي شهد على فرار بشار الأسد إلى مزبلة التاريخ، وتغيّرت المشهدية في سوريا. وها هي اليوم تشهد الحرية الذي حرمها منها الطاغية وأبوه، وتحقق حلم ملايين السوريين المعتقلين والمهجرين والنازحين.
هي فرحة انتظرناها 13 عاماً من الظلم والاستبداد والديكتاتورية. انتظرتها شخصياً منذ العاشرة من عمري، عندما تعرفت على همجية النظام عبر مشاهدة الأخبار مع أبي يومياً. وكلما كبرت وفهمت أكثر، كان هاجس الحالة الديكتاتورية في سوريا يكبر معي، وكيف لها أن تتحرر.
شعرت كفتاة صغيرة حينها بالإحباط لأنني لا أستطيع أن أفعل أو أقدم شيئاً. وعندما كبرت، بدأت أبحث في القضية السورية وتعمقت بها أكثر، فأصبحت من اهتماماتي الأساسية. وتحديداً في قضية السجون المأسوية، وعلى رأسها سجن صيدنايا القذر.
مازن حمادة… التهمة: كاميرا
ومع جمال مشهد الحرية والتحرر، تذكرت أحد الأبطال الذي لا تُمحى قصته من بالي، وهو المناضل والمصور مازن حمادة، ابن دير الزور، وعضو في حزب الشعب الديموقراطي المستقل، الذي شارك بكل فخر مع إخوته السوريين في الثورة عام 2011. كان مازن عنصراً أساسياً في تصوير وتغطية المظاهرات وبثّها للفضائيات العربية مثل قناة الجزيرة.
كأنه يوم أمس، كنت أتصفح تطبيق “تيكتوك” وشاهدت فيديو من إحدى مقابلاته بعد التحرر. يشرح بالتفاصيل عن التحقيق الذي أجري معه في فرع المخابرات الجوية السورية في مطار المزة بعد مشاركته في مظاهرات الثورة السورية. “بكل وقاحة قلتله كاميرا توشيبا، وما بشيل سلاح”، قالها وهو في وضعية السجود ورأسه في الأرض، للسجّان الذي سأله عن نوع سلاحه في المظاهرات.
يستذكر مازن، والغصة في قلبه، كيف قفز عليه السجان دون رحمة حتى تكسرت ضلوعه، وسمع صوتها وهي تتكسر، في محاولة لجعله يعترف بجرمٍ لم يرتكبه. وبالرغم من التهديد بقتله، لم يخَف، ورَفض الخضوع لبلطجية السجّان والنظام التابع له. واستمر إذلال مازن بالضرب والشتائم والتجويع سنة وسبعة أشهر -هو الاعتقال الثالث له- مرت عليه وكأنها دهر.
وعلى الرغم من هدوئه، اغرورقت عينا مازن بالدموع بعدما سُئل عن مشاعره للبلطجيين الذين قاموا بتعذيبه. سكت لعدة ثوانٍ، وذرف دموعه المحبوسة وهو يسترجع الذكريات المرة التي عاشها بسبب النظام المجرم. “في الله بحاسبهم، في قانون بحاسبهم، رح جيبهم عالمحكمة وآخد حقي بالقانون”.
وأنهى مازن المقابلة بالبكاء، وقال: “حقي وحق رفقاتي اللي انقتلوا. لو بتكلفني حياتي، بدي لاحقهم”.
“كأنني أقف أمام ميتٍ يتحدث”
استوقفتني قصته، وأبكتني، وضجّت في رأسي لأسابيع. أستذكر وجهه كل ما استخدم تطبيق التيكتوك، وأتذكر المقابلة وبكاءه على تجربته الموجعة التي غيّرت مصيره. عاودت البحث عن اسمه مجدداً، ووجدت بدل القصة الواحدة عشرات القصص. ففي مقابلة مطوّلة أخرى، يروي مازن عن الحالة الوحشية في السجون. جثث متكدسة، تعذيب نفسي وجسدي لا متناهٍ، وحبس العشرات في زنزانة لا تتعدى مساحتها المترين.
“كأنني أقف أمام ميتٍ يتحدث”، هكذا وصفه الإعلامي موسى العُمر بعد المقابلة. وعلى الرغم من أن هذه الجملة وطريقة قوله لها استفزتني، فقد كان محقاً. ففي كل المقابلات، نرى وجه مازن الشاحب، يحمل العديد من مشاهد القسوة والإجرام، وسيطرته على مشاعره التي تخونه في بعض الأحيان وتبكيه على حياته وعلى سوريا التي يعشقها.
علمني مازن الكثير، علمني أن للحرية ثمناً باهظاً، وكلما كان الوصول إليها أصعب، كان الاستمتاع بها أكبر وأغنى. علمني أن المواقف والمبادئ أهم من كل شيء، وهي جزء لا يتجزأ من كرامة الإنسان. وعلمني أنه يجب أن لا نسكت عن الظلم والطغيان مهما كلفنا الثمن.
بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة
مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.
ولكن، بعد المقابلات العديدة التي فضح مازن خلالها إجرام الأسد ضد مواطنيه وبشاعة سجونه، حاول العودة إلى سوريا لإيجاد أي طريقة يمكنه من خلالها وضع حد لجرائم النظام. كان محبطاً من استمرار الوضع في بلده كما هو عليه، دون أي محاولة أو دعم من المجتمع الدولي، رغم تهديده بسلامة عائلته.
وعند عودته إلى سوريا، أعيد اعتقال مازن حمادة في 22 شباط/ فبراير 2020 في مطار دمشق الدولي، وأصبح مفقودًا منذ ذلك الحين.
هذا مازن حمادة، المناضل الشجاع الذي عاد بكامل إرادته إلى دمشق لإنهاء المأساة وطغيان الإجرام. وها المأساة انتهت اليوم، ورحل من ظلَمَك وجوعَك وأتعبك يا مازن.
أين أنت لرؤية كل ذلك؟ أين أنت يا مازن؟
عندما شاهدت فيديوهات تحرير السجون، فرحت للمعتقلين والنساء والأطفال المظلومين والمقموعين. كنت أصلي لرؤية مازن أو معرفة شيء عنه. تمنيت أن أرى وجهه الأسمر المتعب، أو أعرف كيف يكون شكله مبتسماً وفرحاً بالنصر العظيم. وحتى الآن، جزء مني لا يزال يبحث عنه في كل مشهد لتحرير السجون.
وصلني اليوم خبر وفاتك يا مازن، وكأن سكيناً دخل في قلبي. كم كنت أصلي أن تعيش ولو يوماً في سوريا ما بعد الأحد المجيد. كنت أتمنى يا مازن أن تخرج إلى ضوء الشمس الذي تحبه. كنت أتمنى أن ترى الحلم يتحقق أمامك، وتعرف أن مشقّاتك تكللت بالنجاح. كنت أتمنى أن تحتفل مع إخوتك وأخواتك في سوريا المتحررة من الديكتاتورية، وأن تعود وتصوّر الاحتفالات وتبثها كما كنت تفعل في الـ2011. لقد تحققت أمنيتك يا مازن، التي ضحيت بحياتك لها.
إلى المرحوم الشهيد مازن حمادة، البطل في سبيل الحرية، أتمنى لروحك الهدوء والسلام الذي تستحقه، وأعدك أنني سأظل أستذكر قصتك وأحكي للناس عن بطولتك وشجاعتك إلى الأبد.
رصيف 22
——————————-
ثمن السلام في سوريا ومع سوريا/ عامر بدران
وصل بشار الأسد إلى العاصمة الروسية موسكو، ووصل أبو محمد الجولاني إلى العاصمة السورية دمشق. الأول لم يتحدث للإعلام ولم يظهر أمام الكاميرات ولا حتى أمام الناس، وترك لرئيس وزرائه، محمد غازي الجلالي، ليصرّح لوسائل الإعلام بما معناه، أن الرئيس فضّل ترك البلاد للفوضى، كما ترك لسفير النظام في موسكو بشار الجعفري، أن يتجاوزه تماماً، وأن يصرّح بلغة لافتة، بأن “فرار رأس هذه المنظومة بهذا الشكل البائس والمهين تحت جنح الظلام وبعيداً عن الإحساس بالمسؤولية الوطنية، يؤكد صوابية التغيير والأمل بفجر جديد”.
الثاني، أي الجولاني، وبعد تصريحات عديدة لوسائل الإعلام قبل وصوله إلى دمشق، تصريحات مضمونها ولغتها مبشرين تجاه كافة مكونات الشعب السوري، الدينية والإثنية، وتجاه فكرة الدولة المدنية الحديثة، بعد كل هذه التصريحات، قرّر الوقوف أمام الناس في دمشق وتوجيه حديثه إليهم وجهاً لوجه.
لم يقف الجولاني في ساحة الأمويين، أو ساحة السبع بحرات أو المرجة أو باب توما، بل ذهب إلى المسجد الأموي وألقى “خطبته” الأولى، أو الافتتاحية إن صحّ التعبير، وبهذا فقد قرّر اختيار مستمعيه سلفاً. هؤلاء المستمعون هم من المسلمين السنّة تحديداً، ومن المصلّين بتحديد أكثر، وربما يمكننا القول بشيء من المجاز الساخر: اختارهم من الأمويين في مقابل العلويين والشيعة.
بالإضافة إلى الملاحظة المتعلقة بالمكان، يمكننا الانتباه إلى ملاحظتين تم التطرّق إليهما وتحليلهما جيداً خلال اليومين السابقين من قبل وسائل الإعلام، وهما: اللغة المستندة إلى فكرة الجهاد، أي وصف هذا الانتصار بلغة ومفاهيم جهادية، وليس بلغة سياسية. أما الثانية فهي اعتبار هذا الانتصار كمنجز للأمة الإسلامية وليس للشعب السوري. نضيف إلى هذا، اختيار الجولاني للسيد محمد بشير، وهو مدير سابق للتعليم الشرعي في الأوقاف السورية، رئيساً للحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا، حيث إن هذا الاختيار لم يخرج من إطار الفكر الإخواني الذي ينتمي إليه، أو تخرّج من تحت عباءته الجولاني وحركته.
ولا يجب أن يغيب عنا هنا، وذلك من أجل بناء وجهة نظر متكاملة، البيان الذي أصدرته حماس بشكل يتناقض مع كل منطق التحالفات السابقة لها مع نظام الأسد والإيرانيين، حيث أكّدت فيه على “احترام الشعب السوري واستقلاله وخياراته السياسية”، متجاهلة بذلك موقعها ضمن محور للمقاومة مُشكل ومُدار ومدعوم أساساً من أولئك الذين انتفض الشعب السوري على وجودهم على أراضيه.
ما سبق هو زاوية من زوايا الصورة المتشكّلة أو التي في طور التشكّل، وللإنصاف ليس هو الزاوية الوحيدة، فالجولاني وعَد، مع بداية الأحداث، أنه سيحلّ هيئة تحرير الشام وسينقل السلطة إلى جهة مدنية، وهو أرسل رسائل تطمين لكل الأقليات السورية، ورسائل مشابهة إلى دول الجوار، ماداً يده للتعاون. من جانب آخر، فإن دولاً عديدة، على رأسها إنجلترا والولايات المتحدة، وعدت بالنظر الجدي في إمكانية إزالة هيئة تحرير الشام من قائمة الحركات الإرهابية، وأخيراً لا يمكن عدم تثمين النيّة المُصرّح عنها بالذهاب إلى عفو عام ومصالحة وطنية.
ليس من باب الحكمة التسرّع والبناء على هذه الزاوية أو تلك، لاستنتاج ما قد تكون عليه سوريا الجديدة، خاصة وأن أربعة أيام ليست وقتاً كافياً لتشكيل أرضية صالحة للتحليل. لذلك لا بد من الخروج من سوريا والابتعاد قليلاً لرؤية المشهد من كافة زواياه، أو معظمها المؤثر على الأقل، خاصة وأنه في عالم اليوم لا يُعتبر العامل الذاتي حاسماً لتوجيه دفة الأمور نحو هذا الاتجاه أو نقيضه. أعني أن رغبة هيئة تحرير الشام أو نواياها، أو حتى إرادة الشعب السوري وتصميمه، لا تستطيع لوحدها أن توجه الدفة السياسية حسب الآمال المرجوة، إن لم تتضافر وتتوافق جهود اللاعبين الإقليميين والعالميين، أو على الأقل الحصول على دعمهم وموافقتهم.
لنبدأ باللاعبين الإقليميين حسب الأهمية تصاعدياً، وهذه وجهة نظر شخصية صرفة؛ فتركيا هي الداعم الأساس، أو الظاهر لنا على الأقل، لهيئة تحرير الشام، وكان أحد تصريحاتها متطابقاً مع التصريح الأول لقادة الهيئة، وهو العمل على إعادة اللاجئين السوريين في تركيا والنازحين في المنطقة العازلة إلى بيوتهم. لا شك أن هذا الهدف يستحق الجهد والدعم، لكن ألهذا تقوم تركيا بالدعم والمساندة بالمال والسلاح؟ وما هو الثمن الذي ستقبضه فيما يخصّ قوات سوريا الديمقراطية، والحلم الأزلي بقيام دولة أو كيان مستقل للأكراد، وما هو الثمن المتوخّى كلاعب إقليمي وحليف أول للسعودية بما تمثله من ثقل عربي؟ وما هو الثمن عند الأمريكان كقوة عظمى؟
اللاعب الروسي يبيع ويشتري، فقد يبيع في سوريا إن أصبحت قضية خاسرة، ولا أقصد أن النظام السوري نفسه أصبح قضية خاسرة بالنسبة للروس، بل سوريا “قلم قايم” كموقع استراتيجي في الخط الذي ذكرناه في المقال السابق. أقصد بهذا أنه إن شعرت روسيا أن اللاعب الثالث، وهو إيران، يخسر وقد يذهب للتحجيم أو للتطبيع، فما قيمة سوريا على خط تجاري ليس له أهمية في تجارة المستقبل بين أوروبا وآسيا؟ لذلك فهي ستشتري في أوكرانيا مقابل سلعة خاسرة في الشرق الأوسط.
إيران، ومنذ “اغتيال” رئيسها السابق إبراهيم رئيسي، وهندسة وصول رئيس إصلاحي إلى سدة الحكم، لا تفعل إلا محاولة الانخراط في العالم الغربي بمقايضات عبر أوراق قوية في غزة ولبنان وسوريا، لكن غزة تم مسحها، ولبنان خرج من يدها تماماً، وسوريا كطريق نحو حزب الله أغلقت، ولم يبق لها إلا محاولات بائسة للوزير عراقجي من خلال جولات مكوكية لا تنتهي، وهي تعلم أنها خسرت تماماً. الفرق بينها وبين روسيا هو أن الثانية لديها ما تشتريه كبضاعة بديلة، أما إيران فليس أمامها إلا محاولات تقليل الخسارة قدر الإمكان.
منبر الشجعان والشجاعات
تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.
إسرائيل لاعب لا يتورّع عن استخدام كل ما لديه من أوراق، بما فيها الدم والنار. ففي حين ترحّب بزوال عدو تقليدي لها في سوريا وتمد يدها للسلام مع القادم الجديد، فإنها تعلن الحرب على هذا القادم الجديد قبل أن يعلن عن نواياه تجاهها، وهذا ليس صدفة أو ارتجالاً على كل حال. لقد بدأ الطيران والمدفعية الإسرائيليين بتجريد سوريا المستقبلية من كافة مخزونها التسليحي، فخلال يومين تم تدمير 250 هدفاً على كامل أراضي سوريا، وقامت آليات الجيش الإسرائيلي باحتلال قمة حرمون في جبل الشيخ وكافة أراضي المنطقة العازلة، بل وزيادة عليها، وهو ما يشكل 5% من مجمل أراضي سوريا.
ترافق ذلك مع تصريحات لنتنياهو ليست بريئة ولا من باب صدفة هي الأخرى، حيث قال “إن (كامل) هضبة الجولان ستبقى إسرائيلية إلى الأبد”، ثم توجه بالشكر إلى “صديقه” ترامب الذي وافق على الاعتراف بالجولان كجزء من السيادة الإسرائيلية. فقط أريد التأكيد أن كلمة “كامل” يتم استخدامها لأول مرة من قبل مسؤول إسرائيلي في معرض الحديث عن الجولان المحتل وغير المحتل.
هل هذا هو ثمن السلام في سوريا قبل أن يكون مع سوريا؟ أرجح ذلك. وهذا ما سيقودنا إلى اللاعب الأساس وهو الولايات المتحدة، وما الذي يريده. نستكمل في المقال القادم.
رصيف 22
—————————
سقوط نظام الأسد في سوريا مقدمة لسقوط المشروع الإيراني في المركز؟/ عمار جلّو
الأربعاء 11 ديسمبر 2024
سيُسال الكثير من الحبر في الكتابة عن سقوط نظام الإجرام السوري، إجرام بدأه بسوريا والسوريين وتوسع لاحقاً ليغطي فضاء المنطقة، من خلال تصديره أدوات الأزمة وعدم الاستقرار إلى دول الجوار قاطبةً، بدلاً من التعاون الإقليمي القائم على تفعيل مسارات الدبلوماسية والتجارة، مع تصدير التكنولوجيا والخدمات أسوة بالدول الطموحة.
قبل أسبوعين من سقوطه، كان نظام الأسد مستمراً بالتلاعب على مؤرقات الدول الإقليمية والدولية، لحصد مكاسب سياسية واقتصادية تعزز بقاءه في السلطة، وفك قيود العزلة الإقليمية والدولية المفروضة على نظامه، نتيجة ممارساته الإجرامية بحق الشعب السوري، مع الإصرار على رفض أي مبادرات أو حلول سياسية تخرج سوريا من عنق الزجاجة الخانق.
وفي تطور دراماتيكي ومفاجئ، ولعلّه غير متوقع لفاعليه، وصلت فصائل المعارضة المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام” إلى قلب العاصمة السورية دمشق، بعد شنّها بدايةً هجوماً عسكرياً بهدف دفع العدوان عن مناطق إدلب وغرب حلب، وهو ما يمكن قراءته من تسمية العملية بـ”ردع العدوان”. لكن ظهور مؤشرات انهيار خطوط دفاع نظام الأسد، وغياب ملحوظ للمساعدة الجوية الروسية لهذا النظام، شجّع الفصائل على متابعة مسيرتها ودخول حلب.
ما بعد حلب، ولا سيما بعد معارك عنيفة نوعياً في محيط حماة، تعزّز اقتناع فصائل المعارضة المسلحة بانهيار قوات النظام. فتابعت مسيرتها تجاه حمص، وفيها ظهرت مؤشرات زوال نظام الأسد نهائياً، بعد انتفاضة محافظات الجنوب السوري وفرض سيطرتها على مدنها وبلداتها، وتمددها تجاه العاصمة دمشق. وأهم من ذلك، تقديم قوى المعارضة لخطاب وسلوك طمأنا السوريين، وطمأنت معهم الدول الفاعلة بالشأن السوري. إلى جانب مؤشرات توافق الدول الفاعلة، والداعمة لنظام الأسد تحديداً، على تركه يلقى مصيره المحتوم، نتيجة وضوح عدم إمكانية هذا النظام عن الدفاع عن نفسه بدون دعم خارجي وازن، ونتيجة إزعاجه المتكرر لروسيا بعرقلة وساطتها لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، مع تعطيل أي مسار سياسي، ولو ضمن المنطق الروسي لحل الحالة السورية.
وإلى جانب انزعاج موسكو، لم يخف أيضاً انزعاج طهران مؤخراً من تجنّب الأسد مشاركة ما يسمى “محور المقاومة”، في معركته المصيرية المفتوحة مع إسرائيل، وهو الذي يحتل مكانة مرموقة في هذا “المحور”. على العكس، نظرت حكومة دمشق إلى الحريق الإقليمي كبوابة لبازار سياسي يمنحها مكاسب سياسية واقتصادية، وإقليمية ودولية.
وفي تحول لافت، غيّرت إيران من خطابها ووصفها للمعارضة وفصائلها، بعد اتهام مزمن للأخيرة بالإرهاب والارتباط بالمشروع “الصهيو-أمريكي”، وسواهما من الأوصاف. ومع هذا التحول، تسعى طهران، بعد أن أيقنت من سقوط حليفها في دمشق، إذ حاول على مدار العام الماضي عقد تفاهمات أو صفقات على حساب نفوذ طهران في سوريا، إلى شق طريق وتعبيده مع النظام السوري القادم.
لكن فعلياً، هل يتم تعبيد هذا الطريق مع الحكم السوري الجديد؟ لا مؤشرات تدل على ذلك حالياً، لا سيما مع قناعة قد تكون طالت المقربين لإيران قبل معاديها ومقاومي مشروعها الإقليمي التوسعي، عبر نشر الفكرين الطائفي والميليشياوي، مع التدخل الدائم بصلب القضايا الداخلية لدول الإقليم، من خلال تصّدرها لـ”نصرة المظلومين”، مع تصدير مبدأي “تصدير الثورة” و”ولاية الفقيه”. وقد يكون الأهم من ذلك، تخليها عن حلفائها وشركائها على مذابح الصفقات ومتارس حماية النظام الإيراني فقط.
بجانب ذلك، ما بدا سابقاً، وسيتعزز لاحقاً بالأغلب، هو تلاقي أغلب الفاعلين الإقليميين والدوليين على إخراج إيران من سوريا، أو تحجيم نفوذها ضمن حدود مقبولة. فروسيا التي تلاقت مع إيران بالدفاع عن نظام الأسد، ظلت متباينة معها في عدد من القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية، وحتى الاستراتيجية. وحالياً، إن استمر النفوذ الروسي على وزنه السابق في سوريا، وهو المرجح، فستكون موسكو مرتاحة بعد تقاسم النفوذ في الجغرافية السورية مع أنقرة والعواصم الخليجية والعربية. فعلى الرغم من إبداء طهران لموثوقية الشراكة المحتملة مع موسكو، عبر دعم المجهود الحربي الروسي في الحرب الأوكرانية، تبدو نيران هذه الحرب على مشارف الإخماد، مع قدوم إدارة أمريكية جديدة راغبة في ذلك، مما يخفف من حاجة روسيا لإيران في هذه الساحة، باعتبارها المحرك الأقوى لتسريع تطور علاقة الجانبين.
علماً أن هناك تباينات روسية إيرانية في أكثر من فضاء جيوسياسي، لا سيما في جنوب القوقاز، مع تشاركهما في نقطة بيع كل منهما للآخر في مفاوضاتهما مع الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي عموماً، اللذين تحتاجهما الدولتان لمصالحهما الاستراتيجية والحيوية. وبالنظر لقدراتهما الطاقوية الوازنة عالمياً، تبقى المنافسات علامة مميزة لعلاقاتهما في هذه الساحة، كما تتناقضان في بعض المشاريع، كحال خط إمداد الطاقة الفارسي/الإسلامي عبر سوريا، الذي وقعته طهران مع حكومة دمشق في ربيع عام 2011، ضمن مساعيها للوصول إلى السوق الأوربية المتعطشة للطاقة. وهو ما يحيد سلاح الطاقة التي تستخدمه موسكو تجاه العواصم الأوروبية. وتالياً، غير مقبول لدى موسكو، التي تفضّل دعم جهود أنقرة الهادفة لتحويل تركيا إلى خزان الطاقة الإقليمي ونقطة محورية في طرق إمدادها.
والأرجح أن تعمل كل من تركيا وإسرائيل على استغلال زوايا انحسار الوجود والنفوذ الإيراني في سوريا على تمدد نفوذ الأولى، ومنع عودة هذا الوجود أو النفوذ الإيراني الوازن في سوريا بالنسبة للثانية. فيما ستعمل دول الجوار العربي على إعادة توجيه اهتمامها إلى سوريا، لمواجهة أي مخاطر محتملة تهدد سوريا أو تنطلق منها، سواء منها إعادة إيران لوجودها ونفوذها السابق، أو تضخم النفوذ التركي لدرجة مقلقة للدول العربية، أو إسهاب إسرائيل في تنفيذ مخططاتها على حساب الجغرافية السورية، أو لدفع ومواجهة انزلاق المشهد السوري إلى أتون الحرب الأهلية، أو اتخاذ سوريا مقر ومنطلق للجماعات الجهادية العابرة للحدود. وهو ما سيؤدي لزعزعة استقرار المنطقة، الهش أصلاً، في ظل استمرار حالة الحرب الإسرائيلية المفتوحة على غزة وعلى كامل الجغرافية السياسية الحاضنة لوكلاء إيران الإقليميين.
وفي ظل هذا المشهد الإقليمي، يبدو السؤال مبرراً عن مآل المشروع الإيراني وأدواته الفاعلة. فبعد سقوط نظام الأسد، خسرت طهران حليفها “الحكومي” الوحيد في المنطقة. ومع فقدان “حزب الله” اللبناني، حليف طهران غير الحكومي الأقوى ودرة تاج مشروعها الإقليمي، للكثير من قدراته القتالية والتسليحية، والقيادية أيضاً، خلال صراعه الساخن والبارد مع إسرائيل على خلفية جبهة الإسناد لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” بعد عملية “طوفان الأقصى” خريف 2023. ومع خسائر “حماس” الفادحة والمدمرة، والتي لا تزال مفتوحة، وهي شريك لطهران فيما يسمى “محور المقاومة”، تكون طهران قد خسرت خلال أربعة عشر شهراً ما عملت على بنائه منذ عقود أربعة، رغم الضبابية التي تحيط بتقييم قدرات حزب الله وحماس السياسية والعسكرية.
على ذلك، يبقى العراق واليمن الموقعان اللذان لم ينلْهما ما نال باقي حلقات المحور الإيراني. وفيما تختلف جماعة “أنصار الله” اليمينية المعروفة بالحوثيين عن باقي أذرع المشروع الإيراني بمنسوب أقل لنفوذ طهران في بنيتها التنظيمية، أو للحاجة الماسة لأموال إيرانية أو قدرات تسليحية، بجانب تباينها مع أيدولوجيا النظام الإيراني القائم على مبدأ “ولاية الفقيه”. وبالمحصلة، تلاقي “الحوثيين” مع طهران نتيجة مصالح متبادلة للطرفين، لم يجعل الجماعة اليمينة المسلحة أسيرة لسياسات إيران، إن لم نقل إنهم استخدموا/يستخدمون الأخيرة لتحقيق مصالحهم المحلية والإقليمية أكثر مما استخدمتهم/تستخدمهم طهران لصالح استراتيجيتها الأوسع. وعليه، لم يعد لدى إيران سوى بعض الفصائل العراقية التي تنهج مواقف مغايرة لمواقف حكومة بغداد، أو لمواقف فصائل الحشد الشعبي الأخرى، والتي باتت تدعم بعض مواقف رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بالانفتاح على المحيط العربي وتجنيب العراق أي استقطاب أو صراع إقليمي لحساب إيران. وقد يكون حسم انفلات هذه الفصائل خارج الشرعية العراقية آخر حلقات تحطيم المشروع الإيراني الإقليمي التوسعي. ولعل سرعة انهيار نظام الأسد، ستغري الفاعلين المحليين أو الإقليميين أو الدوليين للمضي قدما بهذا الاتجاه.
حينذاك يمكن التساؤل عن مستقبل النظام الإيراني ذاته بعد الانكسارات والهزائم التي تعرض لها وكلاؤها الإقليميون، الذين تم إعدادهم وتقويتهم كحصون متقدمة للدفاع عن النظام الإيراني، ضمن عقيدة “الدفاع الأمامي”. وبعد تحطم جدار الخوف والسرية لدى كل من إيران وإسرائيل لتنفيذ ضربات متبادلة من أراضيهما، مع التهديدات الإسرائيلية الجدية لتوجيه ضربة قاسمة تطال البرنامج النووي الإيراني وتوابعه، وعدم تفويت هذه الفرصة ثانيةً في ظل اللهيب الإقليمي وانكسارات شملت وكلاء إيران الإقليميين. بالإضافة لقدوم إدارة أمريكية عنوانها “الكره لإيران والدعم المطلق لإسرائيل”.
رصيف 22
————————
=====================
تحديث 10 كانون الأول 2024
————————–
رسالة في روح الأخلاق والمواطنة لابد منها، وأتمنى من الجميع إيصالها../ مازن أكثم سليمان
هذه الرسالة ليست موجهة إلى البسطاء والمغلوب على أمرهم، أو لمن خضعوا لسلطة العصابة المتوحشة مرغمين من شعبنا العظيم، فأنا وغيري نعرف ما تعرض له هذا الشعب الكريم من تسلط وتنكيل وظلم وتخويف، ولذلك فهذا الكلام في عمقه هو دفاع عن جميع أطياف الشعب السوري، وهو دفاع أيضاً عن الحرية والعدالة الانتقالية ومحاولة البعض خلط الأوراق واللعب بعدَّاد الزمن وميزان الأخلاق والعدالة والوطنية تحت شعار التسامح والتعددية وحرية الرأي..
… رسالتي هذه موجهة لمن تصدروا المشهد التشبيحي طوال ١٣ سنة ونيف من فنانين وإعلاميين وأكاديميين ومثقفين وتجار ووو…… إلخ، وغطوا (وهذا أقل وصف كي لا أقول شاركوا) القتل والمجازر والتهجير والتعذيب في المعتقلات وجرائم الكيماوي وقصف المدنيين والبراميل المتفجرة ومحاصرة المعارضين وملاحقتهم في كل حدب وصوب، ولم يكن ذلك لأنهم مجبرون أو مضطرون كما يحاولونَ الادعاء؛ بل دفاعاً عن مصالحهم ومكتسباتهم الرخيصة والقذرة وغير الوطنية ولا الأخلاقية أو الإنسانية..
… في الوقت الذي كنتم تنافقون وتلاحقون مكتسباتكم راقصين مع القاتل والمجرم، كانت خيرة من شباب وشابات ورجالات ونساء سورية (وحتى من الأطفال وكبار السن) تموت تحت التعذيب في المعتقلات، وكثير من أهل سورية كانوا يموتون جوعاً ويأكلون أوراق الشجر تحت الحصار في مناطق ومدن وأحياء كثيرة، وكان آلاف السوريين يغرقون في البحار، وملايين السوريين يموتون برداً أو من نقص الغذاء والدواء في المخيمات، وكان التمزق والأسى والقهر والانهيار يفتت قلوب الأهالي والأمهات على فلذات أكبادها..
… في ذلك الوقت، ويا له من وقت طويل جداً، كنتم تشربون نخب الدم و(الانتصار) كما تتوهمون مع السفاح المنحط، وتسخرون من أبناء شعبكم، ومن آلامهم، وتسخفون أحلام الحرية وتطلعات الناس بالعدالة والقانون والخلاص..
… نعرف أنكم انتهازيون ورخيصون.. لكن اصمتوا على الأقل في هذه اللحظات القاسية والحساسة ونحن نترقب بأعصاب مشدودة ومكلومة إنقاذ من تبقى من المعتقلين، حيث تظهر كل هذه الصور والفيديوهات التي تفوق بمحتواها الموجع التصور والعقل والمخيلة، ولعمري قصة كل معتقل وتجربته ونحوله وفقدانه وعيه تستحق ألف ثورة وثورة، وهذا بانتظار كشف المقابر الجماعية التي تضم آلاف الشهداء من المعتقلين تباعاً للأسف..
… اصمتوا فقط كي تحتفظوا ببعض الكرامة البشرية واحترام الذات، هذا إذا كان ذلك موجوداً عندكم، وبلا قفز وتكويع وتذاكي بضرب وطنيات و(ثوريات) متأخرة جداً يا منافقين، فالأمور واضحة ومكشوفة من ١٣ سنة حتى بالنسبة للطفل الصغير، ومواقفكم كانت واضحة وصريحة، وبعضها كتبتوه قبل ساعات أو أيام من سقوط المجرم، والتغيير العظيم الآن بعد كل هذه الفاتورة الوطنية الباهظة لم يعد يقبل عقد صفقات تشبه تفكيركم المنبطح الممسوخ..
… هذا الموقف هو في اعتقادي في صميم العدالة الانتقالية كي لا تختلط الأوراق والمفاهيم، وفي عمق بناء وطن مؤسساتي ديمقراطي وعادل للجميع، وهو يتمم تشييد مشهد التسامح وحرية الرأي، ولا يتناقض معه، فخلافنا مع من وقف مع الجلاد من هذه (النخبة) الانتهازية القذرة تحديداً، ليس خلافاً حزبياً أو نقابياً أو سياسياً، لنتحدث عن حرية الرأي وتعدديته؛ إنما هو خلاف يمس جوهر الحرية والعدالة والمواطنة والأخلاق، بعد ثورة شعب هجر منه أكثر من عشرة ملايين، واستشهد واعتقل منه ما لا يقل عن مليونين..
… فقط.. اصمتوا واصمتوا واصمتوا، وأكملوا حياتكم الشخصية والاعتيادية، ولا نطلب منكم شيئاً آخر..
تحيا سورية وشعبها الحر الأبي.
—————————-
رسالة الى زعيم جبهة النصرة/ ذ وليد البني
أبو محمد الجولاني، لست أمير المؤمنين، ولست فاتحا لدمشق.
انهيار النظام كان نتيجة نضال طويل لسوريين كثيرين، الشعب السوري خرج وقدم التضحيات كي يعيش في وطن حر ، يختار هو حكوماته ويسقطها.
لم ينتخبك أحد كي تكلف أحد أزلامك بتشكيل حكومة انتقالية، القرارات الدولية تنص على سلطة انتقالية كاملة الصلاحيات(اي لاسلطة لك علبها) غالبا يجب ان تكون من تكنوقراط وخبراء اداريين تعد دستورا جديدا وقانون انتخابات يمكن السوريين من انتخاب حكوماتهم، عندها لو انتخبوك سيصبح من حقك تكليف من تشاء بتشكيل حكومة تحكم البلاد ، ارجوا ان تراجع نفسك وتتوقف عن اكمال هذه الخطوة كي لا تتحول الى طاغية جديد سنضطر للقيام بثورة جديدة لاسقاطك.تكليف احد اعضاء هيئة تحرير الشام بتشكيل حكومة للمرحلة الانتقالية.
هناك عدة اسئلة لابد من الاجابة عليها اولا:
١- ما هي مدة هذه المرحلة الانتقالية
٢-ما هي القوانين الناظمة(الدستور الانتقالي) التي ستحكم من خلالها هذه المرحلة الانتقالية.
٣-هل ستكون هذه المرحلة الانتقالية مطابقة لدرجات القرارات الدولية؟؟
الم يكن من الافضل تكليف الحكومة الحالية بتسيير الامور في هذه المرحلة او تكليف حكومة تكنوقراط من الخبراء، والتفرغ للاعداد لدستور وقانون انتخاب يتم على اساسه انتخابات رئاسية وتشريعية تنتج حكومة منتخبة تقود البلاد، كون الجهاز البيروقراطي والفني الحالي هو الاقدر على التعامل مع المؤسسات الخدمية بوضعها الراهن؟؟
ماحصل هو ثورة شعب الهدف منها نقل سورية من الاستبداد الى حكم ديمقراطي ودستور عصري، وليس انقلابا قاده الجولاني ضد بشار الاسد، والطريقة التي تتم بها معالجة الامور فيما لو صح ان الجولاني كلف رئيس حكممة الانقاذ بتشكيل حكومة انتقالية لا تبشر بخير.اعتقد ان امثالي سيبقون في المعارضة، فأنا لا اعتقد ان من حق الجولاني تكليف اي احد بتشكيل حكومة ، الذي حصل في سوريا ثورة شعب وليس انقلابا من النصرة على البعث.
المطلوب هو هيئة حكم انتقالية تعد لدستور وقانون انتخاب ينفل سوريا من الاستبداد الى الديمقراطية.
سنستمر بالنضال للوصول الى حلمنا بدولة ديمقراطية ودستور عصري يجعل سورية قابلة للاستقرار والازدهار .
————————–
كيف نقتل الأسد وندفنه…ثم نكرر ذلك!/ عمر قدور
الثلاثاء 2024/12/10
رغم بعض الكتابات التي تشكّك في أحقية السوريين جميعاً بالفرح، نجزم بأن معظم الذين كانوا خائفين من التغيير “قبل أسبوعين لا أكثر” فرحوا بحدوثه؛ فرحوا بسقوط الأسد. لا نستبعد أن يكونوا هم أنفسهم قد فوجئوا بفرحتهم، واكتشفوا أنهم صادقون جداً بها، بخلاف أي مشكك فيهم يحيل انقلابهم إلى محض انتهازية رخيصة. التغيير السريع المفاجئ ساعد بالتأكيد أولئك الخائفين، وحتى الموالين منهم، على الانقلاب بسلاسة تُجاري الواقع، فالسقوط السريع السلس للأسد منع حتى الآن تحقق أسوأ المخاوف.
هنا سبب آخر وجيه للفرحة المشتركة العابرة لعداوات السوريين؛ لقد نجونا معاً من سيناريو دموي جداً لسقوط من لا يستحق هذا الثمن، ولا يستحق بالطبع الأثمان الباهظة جداً التي دفعناها من قبل. ومهما قيل عن تفاهمات دولية ساهمت في تفادي السيناريو الأسوأ فهي وحدها غير كافية، وليست معبِّرة عن توق السوريين للخلاص على النحو الذي عبّر عنه وزير خارجية إيران قبل يومين؛ من التلفزيون الرسمي الإيراني قال عباس عراقجي إن “الجيش السوري لم يكن لديه الدافع للمواجهة”.
كانت كلمة محمد الجلالي، آخر رئيس وزراء في عهد الأسد، والتي أعلن فيها استعداده لتسليم السلطة، بمثابة التأكيد الأخير الحاسم على سقوط الأسد، لتشتعل الفرحة الكبرى. ومن المرجّح أن الفرحة منعت معظمنا من الانتباه إلى الرجل الذي ألقى الكلمة، الرجل الذي لا يعرفه كُثر، ومن المرجّح أن الباقين كانوا ينظرون إليه كأي إمّعة من أتباع الأسد. بفعل الحرية، ظهر الجلالي “الذي لا نعرفه” شخصاً مناسباً للّحظة، قال ما يصلح أن يُقال بلا فذلكات تفصح عن عته لغوي على شاكلة خطابات بشار الأسد. وكأنّ الجلالي، بفعل لحظة الحرية ذاتها، تحلّى بمواصفات المسؤول كما يجب أن يكون.
ولحظة الفرح المشتركة، المستحقة للمشتركين فيها، لا تنسينا الاختلافات بينهم، وبعضها قديم وبعضها سينكشف في وقت قد لا يطول. ما يجدر الاحتفاظ به من هذا اللحظة هي القلوب الحارة. يعرف الذين كتبوا ويكتبون في السياسة بإحساس بالمسؤولية أن القاعدة الذهبية هي: الحفاظ على قلب حار ورأس بارد. سنحتاج، نحن السوريين، إلى تذكُّرَ هذا للإبقاء على الجذوة التي في القلب، كي تكون دافعاً لمواصلة العمل في ظرف استثنائي لن يكون على الإطلاق سهلاً. وأصعب ما قد يواجهنا جميعاً هو العكس تماماً، أي أصحاب الرؤوس الحامية الذين بقلوب باردة أو ميتة.
بسبب ما هو معروف جيداً عن فظائع الماضي القريب ومرتكبيها، ستكون حرارة القلوب ضرورية للحفاظ على السعي إلى العدالة، وستكون معها الرؤوس الباردة ضمانة لعدم الانزلاق إلى عمليات انتقام وثأر، فرغم التلهّف للعدالة يجب التفكير والاقتناع بأن طريقها يمرّ حتماً عبر سلطة تحظى باعتراف سوري، وعبر محاكم خاصة تناسب الحالة السورية. ونعلم أنه سيكون من الصعب جداً الاقتناع بشرطين، شرط القوانين التي بطبيعتها نسبية وأدنى من حلم العدالة، وشرط الرحمة التي هي أعلى وأولى من العدل.
في انتظار السلطة “غير الاستثنائية”، المناط بها النظر في التركة الثقيلة للماضي، السوريون مطالبون اليوم بمهمة عسيرة حقاً، وهي الخروج من عقلية الحكم المركزي التي كان تفرض عليهم عدم المبادرة في الشأن العام، و”تعفيهم” تالياً من التفكير فيه. الإحساس بالمسؤولية العامة يجب أن نتدرب عليه للتو، بدءاً من الانتباه إلى أثر الكلمة. اليوم، بسبب الظروف الاستثنائية، تمسّ الحاجة إلى تنظيمات مدنية تطوعية، تعتمد على القادرين الذين يحظون بثقة ومقبولية اجتماعية، من أجل بناء شبكات أمان محلية تساعد السلطة الجديدة مؤقتاً.
ثم، أبعد مما سبق، ستكون التجربة تمريناً عاماً على الإمساك بالشأن العام، وعدم تركه مستباحاً كي تحتكره أي سلطة مقبلة. من الضروري أن تؤخذ المبادرة سريعاً كي لا يُعاد تكريس حكم شديد المركزية، لأن أي حكم من هذا القبيل سيؤدي إلى الديكتاتورية، حتى إذا أتى عبر صناديق الاقتراع وعبر شعارات الديموقراطية. ومن الضروري أن يخرج سوريون، كانوا في الأمس منقسمين بين موالاة ومعارضة، من هواجسهم المشتركة التي تخيفهم من أن تكون اللامركزية توطئة للتقسيم، فتقسيم سوريا لن يكون إلا بموجب إعادة رسم خريطة المنطقة كلها، وهو ما لا يحدث حالياً.
الإمساك بالشأن العام من قاعدة الهرم هو مدخل للديموقراطية بمعناها الأوسع، وأيضاً المدخل للممارسة الديموقراطية بوصفها تداولاً بين سلطة ومعارضة. وهذا تعويض ملحّ عن عقود من منع السياسة في سوريا، ومن التضييق على النشاط السياسي ليبقى في إطار الرأي من دون أي ممارسة مجتمعية. المتخوّفون من السلطة الجديدة هم أولى من غيرهم بالمبادرة إلى تشكيل تنظيمات تمنع استفرادها بالساحة، وهي مسؤولية جماعية لأن الجميع سيكونون ضحايا السلطة المطلقة، وكي لا يُستغفل السوريون مرة أخرى من قبل استبداد جديد.
لم يمت بشار الأسد، بالأحرى لم يُقتل على النحو الذي لاقاه القذافي في بدايات الربيع العربي. وبخلاف من تمنّوا له مصيراً مشابهاً، فما حدث ربما هو أفضل السيناريوهات، إذ كان لتحصُّنِه وأخيه في دمشق أن يتسبب بدمارها وبحمامات من الدم. قهر السوريين يجعلهم أشبه بالحكاية المتداولة عن رجل ذهب طالباً مقابلة الحجاج يوم وفاته، فقال له الحارس: الحجاج مات. فذهب الرجل مراراً وعاد ليسأل الحارس في كل مرة، ليقول له الحارس أخيراً: ألا تفهم! قلت لك: الحجاج مات. فيجيب الرجل: أعلم، لكني أستمتع بسماع الخبر.
اليوم ثمة سوريون يصدّقون خبر سقوط الأسد، ثم يعودون إلى عدم تصديقه ليستمتعوا بإعادة تصديقهم له كل مرة. ولنكون صريحين، هناك مَن كانوا، بسبب القهر الشديد والمديد، يتوقون إلى قتله مراراً وتكراراً كحال ذلك الرجل الذي راح يستمتع بخبر موت الحجاج. ومن المؤكد أن هذا، على قسوته، يستمد تبريره من المجازر التي ارتكبها بشار الأسد، ومن تلك التي ارتكبها أبوه وعمه من قبل.
لدى السوريين مخزون ضخم جداً من القهر والغضب، ما يجعلهم محقّين في أقسى رغباتهم تجاه مَن تسبب في ما وصلوا إليه. ولن يكون على سبيل تزيين الواقع القولُ أن تصريف الغضب في اتجاه إيجابي هو الأفضل، والمسار الأفضل لهم هو الشروع في امتلاك سوريا التي سُرقت منهم، امتلاكها عبر السياسة، وما يوصل إليها أو يتفرع منها في الفضاء العام. واقعياً، هذا هو السبيل الواقعي رغم وعورته، وبهذه الطريقة يستطيعون قتل الأسد مرة تلو الأخرى، حتى يصبح منسياً تماماً.
المدن
——————————-
لاستعادة “الثورة السورية الكبرى”: سوريا الموحدة مع العلويين والأكراد/ منير الربيع
الثلاثاء 2024/12/10
مفارقات كثيرة يمكن تسجيلها على هامش سقوط النظام السوري، والتحرك الإسرائيلي السريع في إسقاط اتفاق فض الاشتباك عام 1974. تقول التحركات الإسرائيلية بما لا يبقي أي مجال للشك، الكثير من المعلوم المجهول حول “حبل سرّة سري” ما بينها وبين الأسد. على الأقل بما يتعلق بمسارات استراتيجية تخص توفير الأمن والإستقرار لتل أبيب من الجبهة السورية في مقابل ما راكم النظام تكراره على مدى سنوات وهو “الاحتفاظ بحق الردّ في الزمان والمكان المناسبين”. مما لا شك فيه أن تطورات الوضع في المنطقة، وعنوان تقويض نفوذ إيران هو أحد العناصر التي أسهمت في سقوط الأسد، علماً أن إسرائيل كانت تتمتع بحرية الحركة العسكرية في سوريا طوال السنوات الماضية. وربما يمتلك النظام السوري أرشيفاً كاملاً للكثير من الخطط الإسرائيلية و”الإخباريات” أو “الإحداثيات”، التي سارع الإسرائيليون إلى استهدافها بعمليات قصف مركز للكثير من مراكز الاستخبارات والمباحث بالإضافة إلى مواقع عسكرية أخرى.
ضرب “عصب المحور”
لم تتأخر إسرائيل في الإعلان عن توجيه هذه الضربات وتنفيذ الكم الكبير من الغارات خشية وقوعها بأيدي قوى المعارضة، طبعاً فهي لا تخبرها كما خبرت النظام من قبل، والتي كانت مطمئنة إليه. ولم تتأخر إسرائيل في التعبير عن أن ما تريده لسوريا هو مدخل لتشكيل “الشرق الأوسط الجديد” بمعنى إعادة إنتاج نظام إقليمي يرتبط بها، وهو المسار الذي أطلقته بشراسة منذ حربها على غزة والتي استكملتها بلبنان، فتوجت مسارها باغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، والذي وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه محور المحور. كان نصرالله هو صاحب “نظرية” وحدة الساحات بعد اغتيال قاسم سليماني. ومعلوم أنه اضطلع بدور أبعد بكثير من الساحة اللبنانية في غرفة عمليات المحور، فهو صاحب الرأي والتوجيه وصاحب القرار في الكثير من الأحيان. باغتياله، أرادت إسرائيل الانتقال إلى مرحلة جديدة، يتم فيها ضرب “عصب المحور” وعموده الفقري. ولذلك بالتزامن مع إعلان نتنياهو لاتفاق وقف النار في لبنان، وجه رسالة تحذيرية للأسد بأنه يلعب بالنار. كشف الموقف المضاف إلى سلسلة مواقف إسرائيلية حول قطع أوكسيجين حزب الله من سوريا، حقيقة الهدف الإسرائيلي وهو تجفيف منابع السلاح للحزب بعد الفشل في إنهاء قدراته التسلحية من خلال الحرب.
بالتزامن، كانت جهات عديدة دولية وإقليمية، تجري مفاوضات مع بشار الأسد، حول الدور الذي يفترض به أن يلعبه لمنع إدخال الأسلحة إلى حزب الله، ولأجل مطالبة الإيرانيين بالانسحاب بشكل كامل من سوريا. وجد الأسد نفسه في مأزق، لن يتمكن فيه من اتخاذ قرار، وقد أصبحت أمامه ثلاثة نماذج، إما أن يكون مصيره مشابهاً لمصير علي عبد الله صالح بفعل تضارب المصالح. وإما أن يكون مصيره مشابهاً لمصير صدام حسين، أو أن يلاقي مصير معمر القذافي. فضل الخيار الرابع، وهو الخروج على وقع تقدّم قوات المعارضة بسرعة فائقة من إدلب إلى حلب، فحماه وحمص وبعدها إلى دمشق.
تكريس واقع جديد
أرادت اسرائيل انتهاز اللحظة، لاستكمال ضرباتها لسوريا، ومواصلة تقدمها العسكري في الجنوب السوري والذي كانت قد بدأته قبل أشهر وعلى مرأى الأسد ومسامعه. عمليات التوغل، والغارات الكثيفة، تريد إسرائيل من خلالها إضعاف أي قدرات لسوريا التي أصبحت تحت سلطة المعارضة. في محاولة إسرائيلية لتكريس أمر واقع جديد بالمعنى السياسي والأمني، وبمعنى فرض وقائع عسكرية وجغرافية جديدة في جنوب سوريا. هو الأسلوب نفسه الذي اعتمده الإسرائيليون في حربهم على لبنان من خلال التوغل والتمركز في قرى الشريط الحدودي وإعدام مقومات الحياة فيها. ما تريده إسرائيل هو الاحتفاظ بحرية التحرك لبنانياً وسورياً، من خلال استمرار خروقاتها لأي اتفاقات، مع الإشارة إلى أن مصلحتها المركزية والإستراتيجية في بقاء سوريا ولبنان بحالة ضعف وتشتت وانقسام على الذات.
وبالعودة إلى المشروع الإسرائيلي الأساسي والاستراتيجي، فهو ينطلق من خلفية السعي إلى “تصغير الكيانات” المجاورة، لتتجاوز هي مسألة العدد والمدد والمساحة الجغرافية، ومن هذا المنطلق لطالما لعبت على أوتار الجهات الطامحة في التقسيم أو في إقامة “إدارات ذاتية”. وهنا يكمن التحدي الأساسي لبنانياً وسورياً في مواجهته، خصوصاً أن أكبر إفشال لمشروع إسرائيل في هذه المرحلة، هو الوحدة الداخلية في كلا البلدين، على قاعدة حرية سوريا واستقلال لبنان، مع وضع برنامج سياسي واضح في كليهما للوصول إلى إعادة إنتاج سلطة تقوم على “التوحيد” وليس على الفرز أو التقسيم على أسس طائفية أو عرقية أو مذهبية. التحدي الأساسي أمام السوريين هو في استعادة “الثورة السورية الكبرى” والتي حرصت على سوريا الموحدة، والتقاط رسالة مشايخ العلويين من أمام ضريح الشيخ صالح العلي، واستعادة الأكراد لمزايا ابراهيم هنانو مع إيجاد صيغة تحفظ وجودهم وحريتهم داخل سوريا الموحدة في مقابل كل الإشارات الإيجابية التي ترسيها الإدارة السياسية الجديدة في الحرص على الحرية الفردية وحرية ممارسة الشعائر الدينية. ذلك أيضاً ينطبق على لبنان في الجلوس على طاولة لإعادة انتاج السلطة القائمة على التوازن والوحدة الوطنية، ليس فيها أي من حسابات الانتقام أو التشفي.
المدن
————————
بشار الأسد الذي كان يلهو بدماء مريديه/ حازم الأمين
10.12.2024
ليست مصادفة أن مقرباً واحداً منه لم يتردد بإطلاق الشتائم منذ اليوم الأول لفعلة الرئيس السابق. كأنهم كانوا بانتظار خطوته حتى يباشروا في شتمه. ليس الفنانون فحسب، فهذا رئيس حكومته ووزير خارجيته ورئيس برلمانه، هؤلاء كلهم وبعد لحظات من وصول خبر فراره إليهم باشروا بلعنه.
يشعر كثيرون من بطانة بشار الأسد ومن عائلته بخيبة، ليس بسبب سقوط النظام، إنما قبل ذلك بسبب فراره على هذا النحو المهين والمذلّ لهم جميعاً. حمل الرجل حقائبه وغادر، من دون أن يبلغهم. أي وضاعة هذه؟ إنها نفسها الوضاعة التي كان يمارسها عندما كان يقتل السوريين بينما هو جالس في قصر المهاجرين. ونفسها الوضاعة التي كانت تتخلّل خطبه المملّة في “مجلس الشعب”.
الوضاعة جزء من ملامح هذا الرجل غير المكتمل. الرجل الذي نشأ على يد ضباط مخابرات أبيه، فخلفوا فيه نقصاً في الملامح وتعثراً في اللغة، ولكنهم أسسوا لعطب شعوري لطالما رصده المرء في خطبه.
غادر بشار الأسد سوريا على حين غرة. منال الأسد، زوجة شقيقه المجرم ماهر، وصفته بتغريدة بأنه “بائع العائلة والوطن”. بشار فعلاً باع حاشيته على نحو مخزٍ. أصاب بصغارته دائرة واسعة من مريديه السوريين وغير السوريين. اضطرهم لإجراء انعطافة تراجيدية بين ليلة وضحاها. دول وأنظمة وأحزاب وزعماء تولى هذا الرجل المدلّل شطب وجوههم بسقطته. بدءاً من قيس سعيد ومروراً بمحمد بن زايد ووصولاً إلى جبران باسيل وسليمان فرنجية. غدرهم بشار وغادرهم فجراً قبل أن يستيقظوا.
الإهانة ممتدة من المحيط إلى الخليج. لكن الأمر لا يقتصر على ما لحق بهؤلاء من مذلة، ذاك أن ثمة دماءً بُذلت لحماية بشار الأسد ونظامه. حزب الله أزهق أرواح مقاتليه في سوريا صوناً لنظام البعث! ماذا عن مئاتٍ، وربما آلاف، من عناصر الحزب ممن قُتلوا في سوريا؟ هذا السؤال، وبعيداً من جوهره الأخلاقي، يحضر أيضاً في لحظة هرب بشار مخلفاً دماء السوريين، ولكن أيضاً دماء حلفاء هبوا لحماية نظامه على مدى أكثر من عشر سنوات. بماذا شعر الشيخ نعيم قاسم عندما وصله الخبر؟ بماذا شعرت أم لبنانية قضى ابنها أثناء قتاله في سوريا؟ مأساة موازية من دون شك. أكثر من عشر سنوات من القتال ومن “المساندة” غادر بعدها بشار وعائلته دمشق إلى روسيا.
ما كان بشار الأسد ليفعل غير ما فعله. إنه الديكتاتور غير الصلب. المسافة بينه وبين صدام حسين مثلاً، هائلة. فهو يبلغ من الوضاعة مبلغاً يؤهله لمغافلة أولاده ربما. يتركهم وينجو بنفسه. ربيب ضباط المخابرات غير المكتمل عاطفياً وذهنياً، وصاحب القابلية الهائلة للقتل واللهو والفرار. هذا بعض من بشار الأسد، الذي ورث من والده آلة قتل، وبطانة من القتلة، وأضاف إليهم أقارب وأصدقاء السوء، فحكم سوريا بقبضة أبيه وبشراهة ابن خاله رامي وصفاقة شقيقه ماهر. ورث عن أبيه “المسلخ البشري”، أي سجن صيدنايا، وأضاف إليه “المكبس البشري” تلك الآلة الجهنمية التي ظهرت في صيدنايا، والتي كان النظام يكبس فيها جثث من يعدمهم لكي تترقق ويسهل رصفها في المقابر الجماعية. هذا الإجرام ليس وليد الساعة، فقد أنتجته مخيلة تراكمية أضاف إليها ضباط البعث خبرات الخبراء النازيين الذين استضافوهم منذ ستينات العقد المنصرم.
ليست مصادفة أن مقرباً واحداً منه لم يتردد بإطلاق الشتائم منذ اليوم الأول لفعلة الرئيس السابق. كأنهم كانوا بانتظار خطوته حتى يباشروا في شتمه. ليس الفنانون فحسب، فهذا رئيس حكومته ووزير خارجيته ورئيس برلمانه، هؤلاء كلهم وبعد لحظات من وصول خبر فراره إليهم باشروا بلعنه.
حركة حماس التي كانت بصدد استئناف علاقاتها مع نظام الممانعة في دمشق، سارعت الى الترحيب بسقوط النظام. طهران وموسكو لم تبديا أسفاً واضحاً عليه.
ثم إن بشار لم يغادر فحسب، إنما خلف وراءه مشهداً مذهلاً تكثفت فيه ممارسات النظام منذ استيلاء والده على السلطة في سوريا. وبهذا المعنى طعن بشار “الرئيس الوالد” في ظهره أيضاً. ما نشهده اليوم في سوريا من صور للسجون وللأفرع الأمنية، ومن صور الفقر والانتهاكات، تكشف مزيداً عما كنا نعرفه عن حافظ الأسد. بشار غادر مخلفاً جرائم والده أيضاً. والسوريون إذ راحوا يسخرون من إقامته في موسكو عاطلاً من العمل، لا يدركون أن هذا الرجل لا تصيبه سهام سخريتهم، ذاك أنه مُصَمّمٌ من مواد أخرى غير تلك التي نعهدها حتى في أسوأ ديكتاتوريي العالم. فهو كان يلهو بدماء ضحاياه، لكن الجديد الذي اكتشفناه أنه كان يلهو بدماء حاميته وأهله وحلفائه.
درج
———————–
أما وقد وصلنا إلى سوريا ما بعد الأسد/ ياسين السويحة
أولويات عاجلة برسم الشأن العام السوري
09-12-2024
كان من حقنا أن نحظى بوقتٍ أطول لنفرغ للاحتفال بالخلاص من جزّار حياتنا. كنا نستحق أن نُمنَح الدهر كله للفرح فحسب. ليس هذا ممكناً، ولا بأس بذلك طالما لا بشار الأسد حول رقاب بلدنا وأهله بعد اليوم. نصل إلى اليوم ما-بعد التالي وأمامنا استحقاقات عاجلة تقتضي الانهماك فوراً. السوريون والسوريات، أفراداً ومجموعات ومؤسسات ومنظمات، المؤمنون بالديمقراطية والمساواة والسيادة الوطنية، مدعوون فوراً لبناء أكبر ثقل شعبي-وطني ممكن حول قضايا لا يمكن أن تنتظرنا حتى ننتهي من الاحتفال المُستحَق. أدناه إشارة لبعض هذه القضايا الطارئة.
يُشكّل التوغل الإسرائيلي داخل الأراضي السورية أمس عُدواناً سافراً، يستغل بشكلٍ خسيس اللحظة الأكثر رَهبةً في تاريخ بلدنا المعاصر، بهدف فرض واقع عسكري وأمني داخل التراب الوطني قُبيل أسابيع من عودة ترمب إلى البيت الأبيض، وهو الرئيس الأميركي الذي خالف التشريعات الدولية واعترفَ لإسرائيل بسيادتها على الجولان السوري المُحتَلّ. ليس مُستغرباً من دولة الاحتلال الإبادية أن تقوم بذلك؛ ونجد أنفسنا في هذه اللحظة مفتقرين للأدوات الناجعة، السياسية منها والعسكرية، لمواجهة هذا الاعتداء كما ينبغي للأمر أن يكون لو أننا في بلدٍ طبيعي بالحد الأدنى. لا تكفي الإدانة والشجب، ولا مجال للنظر باتجاهٍ آخر. وقفُ الاعتداء الإسرائيلي المُستجِدّ على التراب السوري قضيةُ سيادة وأمن وطنييَن، تحتاج نقاشاً وطنياً عاجلاً لإيجاد حلول من ضمن المُمكن والمُتاح.
ومع بسط تشكيلات «ردع العدوان» وفصائل الجنوب سيطرتها على كامل مناطق سيطرة النظام سابقاً، نَدخلُ في مرحلة خطرٍ مزدوج منبثق من فوّهة بندقية العسكر المنتصرين: خطر استخدامها لفرض أمرٍ واقع متمدد، يمسّ حريات وحقوق وكرامات الناس؛ أو خطرُ اقتتالٍ فصائلي على مناطق أو غنائم. ورغم التحوّل الكبير في السلوك العسكري والسياسي خلال المعركة الأخيرة، إلا أنَّ في سيرة هذه الفصائل ما يدعو إلى ما هو أكثر من القلق. هذا عدا عن تَمدُّد قسد ودخولها في حالة تأهبٍ جديدة بانتظار التطورات المقبلة، وعدا معارك «الجيش الوطني» التي تأتمرُ بتوجيهات الأمن القومي التركي. نحتاج لتشكيل أكبر قطبٍ سياسي ومدني ممكن، بأوسع ما يمكن من أدوات ومُقدَّرات، يضغط على مختلف القوى العسكرية السورية لتجميد الوضع الميداني، وإخراج السلاح من أي معادلة مرتبطة بإدارة شؤون الدولة والمجتمع. البلد مُنهار وأهله تَعِبوا من تَعَبِهم. لا يمكن التفكير بأي مستقبل لسوريا دون أن يكون رفضُ الحرب، أيّ حرب، لأيّ سبب، قلبَ هذا التفكير وعَقلَه.
والآن، أما وقد بكينا، مُحقّين، مع كل مَشاهد عودة مُهجَّرين ومُهجَّرات إلى بيوتهم-نّ في المناطق التي خسرها النظام، ينبغي أن ننظر بعينين اثنتين ونتذكر أن هناك -على الأقل- عشرات آلاف النازحين خلال الأيام العشرة الأخيرة. ثمة من نزحوا خوفاً من انتقام النظام على خسارة مناطقهم، أو خوفاً من الفصائل، أو خشية على أنفسهم نتيجة منابتهم القومية والدينية أو مواقفهم السياسية السابقة… أياً يَكُن. الضغط لضمان عودة آمنة وكريمة وسريعة لكل نازح ونازحة أولوية وطنية.
وإذ سنتحدث لأسابيع وأشهر، وسنوات حتى، عن المرحلة الانتقالية وصعوباتها الكبرى، فإنَّ ما لا يمكن أن ينتظر، كخطوة أولى نحو عدالةٍ انتقاليةٍ ما، هو دخول أكبر قدر ممكن من الفاعلين الحقوقيين السوريين، وبأوسع دعم ممكن من المؤسسات الدولية والأممية، إلى سوريا للقيام بمهامهم. تكسيرُ أقفال السجون وإطلاق سراح المعتقلين كان ذروةً أخلاقية ووطنية قلَّ مثيلها، في بلدٍ جُعِلت سجونه معاملَ تغييبٍ وموتٍ تَركَتْ في مجتمعنا جرحاً غائراً سيدوم لعقود. لكن عمليات فتح السجون هذه كانت اعتباطية، ولا يكفي الاستعجال واللهفة، ولا تَفهُّمُ ظرف المعركة الطارئ، لتفادي قول إنها كان يجب أن تجري بشكل أفضل. عدا ذلك، دخل مدنيون وعسكريون مراكز أمنية متنوعة للتنزّه وإشباع الفضول، دون أي إجراءات لصون وثائقها والأدلة الجنائية الموجودة فيها. ورأينا في مقاطع الفيديو كيف عُبِث بمحتويات أفرع أمنية بشكلٍ غير مسؤول. في سوريا ما يفوق مئة وخمسين ألف مُغيَّبٍ ومُغيَّبة. أي أن ملايين السوريين والسوريات، وذويهم وأحبابهم، يعيشون محكومين بشرطٍ رهيب خالطٍ للحياة بالموت. من الكارثي أن تُستخدَم أدلة مُحتمَلة تُساهم في كشف مصيرهم-نّ ديكوراً لتصوير الريلز والسيلفي.
وأخيراً: سوريا تحتاج العالم. لا أوهام حول هذا العالم. نعرفُ عَطالته. لقد خَبِرناها بلحمنا ودمنا، ونرى كل يوم أثرَ هذه العطالة على الفلسطينيين. مع ذلك، لا نمتلك ترف ازدراء العالم، ولا وقت لدينا لتضييعه على التعبير عن مظلوميتنا المُحقة تجاه المجتمع الدولي. سوريا بحاجة لعون أممي ودولي لتحقيق الاستقرار، وللدخول في عملية انتقالية طويلة الأمد، بأكبر إشرافٍ ودعم دوليين مُمكنَين. ومثلما نحتاجُ تشكيلَ قطبٍ سياسي ومدني ضاغط على الجهات المُسلَّحة في بلدنا، يجب تنسيق العمل للضغط على الصعيد الدولي من أجل فرض سوريا على أجندات الدول والوكالات. نحتاج مساعدات إنسانية، ولكننا نحتاج أكثر لاستقرارٍ يجعلنا مع الوقت أقلَّ اضطراراً لها. هذا حديث سيطول. سيشغلُنا لسنوات. لكن بناء استراتيجية للضغط على المجتمع الدولي يجب أن يبدأ حالاً.
أمامنا اليوم مهام عاجلة ضخمة، ليست إلّا قليلاً جداً من بين كثيرٍ جداً ينتظرنا في السنوات المقبلة. لا بأس بذلك، أمامنا صعوبات ومخاطر جمّة لكن المستحيل تَحقَّق: بات لدينا بلدٌ دون أسد.
موقع الجمهورية
————————–
حول التطورات الأخيرة في سوريا/ أحمد نظير الأتاسي
09 كانون الأول 2024
أستاذ مساعد، تاريخ الشرق الأوسط في جامعة لويزيانا التقنية. حاصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا. متخصص في التاريخ الإسلامي الوسيط. مراقب ومحلل للوضع في سوريا منذ عام 2011 وله عدة مقالات في هذا الشأن. يعتمد في عمله أدوات التحليل المنظوماتي التي تراقب الأنساق الإقليمية والنظام العالمي
أفرزت التدخلات الخارجية في الحرب السورية (2012-2018) توازناً قلقاً تمثّل في مناطق النفوذ: منظقة نفوذ تركية في الشمال الغربي تحت سيطرة فصائل معارضة وهيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً)؛ منطقة نفوذ أمريكية في الشمال الشرقي (الجزيرة الفراتية) تحت سيطرة تحالف قسد ذي الأغلبية الكردية، بالإضافة إلى فصائل سورية ذات تمويل أمريكي في منطقة التنف الصحراوية؛ منطقة نفوذ أردنية-إسرائيلية في الجنوب الغربي تحت سيطرة قوات نظامية، بالإضافة إلى فصائل محلية مصالِحة لكن منزوعة السلاح؛ ومنطقة نفوذ روسية-إيرانية في بقية سوريا. كان هذا التوازن قائماً على العناصر التالية: السيطرة على أراض قادرة على إعالة نفسها (خاصة عبر حدود مع دول الجوار)؛ حجم القوات والأسلحة الموجودة في كلّ منطقة؛ وجود إدارة مدنية محلية أو تحالف عشائري؛ الحجم الإقليمي للداعم الخارجي؛ ورغبة أمريكية في تجميد الصراع في سوريا حتى لا يتم استخدامه من قبل الداعمين في ملفات ساخنة أخرى إقليمية أو عالمية.
هذا التوازان/ التجميد كان يعني أنّه لا يمكن تخطّي الحدود المرسومة بجبهاتٍ قتاليةٍ سابقة وشبه باردة، لا يمكن إشعال القتال مرّة أخرى، لا يمكن تفكيك أدوات الحرب، لا يمكن فتح الملف السوري، ولا يمكن البدء بإعادة الإعمار أو حتى ما سمّي بالتعافي المبكر (من خلال مجموعة من العقوبات الأوروبية والأمريكية).
كان يبدو أنّ المستفيد الأكبر من هذه الحالة العقيمة هو النظام السوري، الذي أعلن انتصاره وتبنى موقفًا رافضًا لأيّة تسويات أو مفاوضات مع الفصائل ومع داعميها. لكن توضّح لاحقاً أنّ النظام كان من أكبر الخاسرين فقد ساهمت حلوله الأمنية الشرسة في تدمير البنية التحتية السورية، هرب رؤوس الأموال وتوقف الإقتصاد المحلي، هجرة وتهجير الكفاءات، فقدان مركزية وهرمية القرار، لامركزية أمنية تمثلت بسيطرة المليشيات المحلية والمدعومة إيرانيًا.
العقوبات الأقتصادية الغربية زادت من عزلة النظام ومنعت أي تدفق لرؤوس الأموال التي قد تساهم في إعادة تدوير الإقتصاد. وباعتبار أنّ النظام السوري هو بنية طفيليّة شبكيّة تتغذّى على الدولة السورية، فقد بدأ بالإنكماش على نفسه من خلال: ترشيق صفوفه والهوس بولائهم، الإعتماد الكامل على الوجود الإيراني لحمايته وتعويمه مالياً، رفض أيّة عروض عربية وغربية للتخلّي عن الدعم الإيراني. وتحوّل بسرعة إلى آلةٍ ضخمةٍ لإنتاج وتصدير الكبتاغون إلى دور الجوار والعالم كمصدر للدخل له ولعناصره المكوّنة له. التهديد الأكبر كان الإنخفاس الذاتي نتيجة الوهن في البنية والموارد. النظام سيبقى كاملاً أو سيسقط كاملاً. الضامن الوحيد لبقاء النظام كان هو حالو التوازن-التجميد، بالإضافة إلى الوجود الإيراني بمختلف أشكاله، ولا سيما قوات حزب الله اللبناني.
الرابح الوحيد في الحرب السورية كان إيران. إنّ أدوات إيران التوسّعية المعتادة (الجنود المؤدلجون والعابرون للحدود، شبكة الدعم العالمية التي يوفرها الحرس الثوري الإيراني، توطين الجنود وخلق مجتمعات محلية تحمي المصالح الإيرانية، الإنتاج الذاتي للتمويل من خلال الجريمة المنظمة) أثبتت أنّها الأقدر على العيش في شروط الفوضى. لا بل إنها تتقوّى وتتوسّع كلما زادت الفوضى وكأنها تعتاش عليها. حتى روسيا لم تستطع نشر قوات كبيرة في سوريا (فقط الطيران)، كما ولم تستطع تحويل سوريا إلى مكاسب اقتصادية. هذا النجاح الإيراني هو الذي كان مقلقاً للجميع، لكن حالة التوازن-التجميد كانت تمنع الجميع من الفعل. استمر هذا الوضع لعدّة سنوات إلى أن بدأت أحداث غزة في أكتوبر من عام 2023.
بغضّ النظر عن تفاصيل البداية، فإنّ الدعم الإيراني لحماس في غزّة كان واضحًا جدًا. والرد الأمني الشرس الذي اختارته إسرائيل كان سيؤدي عاجلًا أن آجلًا إلى توجيه ضربة تأديبية موجعة لإيران. السؤال الأهم كان: هل ستكون الضربة الإسرائيلية لإيران واسعة النطاق إلى حدّ كسر التوازن-التجميد في سوريا أم لا؟ لم يكن القصف الإٍسرائيلي في إيران نفسها مؤشّرًا على إمكانية كسر هذا الجمود السوري.
لكن الضربة التي وجهتها إسرائيل إلى حزب الله في لبنان أكّدت أن إسرائيل لا يمكن أن تتوقف إلا وإيران مهزومة نهائياً في المنطقة. التكتيك “الذكي” في “غزوة البيجر” قضت خلال أيام معدودات على قيادات حزب الله من الصفوف الثلاثة الأولى. ثم جاء القصف المُمنهج على جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت معقل حزب الله ليكيل الضربة القاضية للحزب في المنطقة كلّها. هذا أكد تمامًا بأنّ الملف السوري سيُعاد فتحه لا محالة. ثم جاء القصف الإسرائيلي الممنهج لحزب الله وأعوانه السوريين ومقرّاته ومخازن أسلحته في سوريا ليجعل أيّ مقاومة غير ممكنة. الشيء الوحيد الذي قد يجعل حزب الله يقاوم في سوريا هو تعنّت إيراني وإصرار على الصمود في سوريا، آخر معاقلها في شرق المتوسط.
لكن كيف ستتم إعادة تفعيل الملف السوري مع مخاطرة إشعال المعارك التي لا تحمد عقباها؟ أدوات الحرب موجودة، ومناطق النفوذ موجودة، الجبهات موجودة، والتوازن موجود، إذن كان لابدّ لأحد اللاعبين أن يحتل الفراغ الذي شكّله سحب مقاتلين من حزب الله من الشمال السوري وضعف النفوذ الإيراني إقليميًا وسوريًا. كان الطرف التركي هو الأقدر على كسر التوازن-التجميد من أجل ملء الفراغ الذي سبّبته هزيمة حزب الله في لبنان وسوريا.
بالصور: حلب من دون الأسد.. فرح وقلق وترقّب
وإن الأنباء التي تتداولها الصحف اليوم عن وجود مخطّط عمره ستة أشهر لتفعيل الجبهة الشمالية يؤكد أنّ تركيا كانت واعية تماماً لحالة الفراغ الذي يجب ملؤه. إنّ خيار الجولاني وجنوده من هيئة تحرير الشام هو الذي يحتاج هنا إلى بعض التفسير. لو كان ملء الفراغ يقتصر على إعادة رسم الحدود في ريف حلب الشمالي، لكان الجولاني أنسب خيار. هو وتنظيمه مصنّفان دوليًا على أنهما عناصر إرهابية ذات علاقة بالقاعدة، لكن جنوده مدربون ومنضبطون وقادرون على تنفيذ عملية محلية قد تكوت شرسة ضدّ بقايا حزب الله في حلب. فهل كان الجولاني وقواته وحيدين في المعركة؟ الجميع يركز على الجولاني اليوم كمحرّر لسوريا، لكن نوعية عملية ردع العدوان التي استعادت حلب ومن ثم حماة لا يمكن أن تكون إلا من تخطيط ودعم قوات نظامية.
إنّ اختيار بنك الأهداف، استخدام المُسيّرات في عمليات قصف جراحية، تحديد أولوية كلّ هدف، التنسيق بين القوات المهاجمة، كلها عناصر لا تقوى عليها إلا دول. لكن، إذا كان تحرير حلب وحماة مخطّطاً لهما، فهل كان الإستمرار حتى دمشق نتيجة تخطيط مسبق أم نتائج غير متوقّع لعملية محدودة وجريئة؟ لن نعرف هذا إلّا بعد مرور زمن. إنّ ما حدث بعد حماة مهم إلى درجة تجعل من قرار اختيار الجولاني غير مهم. نعرف الآن أنه موجود، وأنّه وجه تحرير سوريا وسقوط نظام الأسد. إنه اليوم معطى من معطيات الواقع.
عملية تحرير حمص بدت مرتجلة، واستعجال الجولاني التوجّه نحو دمشق يدلان على أنّ سرعة سقوط النظام كانت غير متوقّعة. لكن سقوط النظام كان أكيدًا. روسيا لم توفر أيّة حماية جوية لقوات النظام، لم تحرّك إيران ساكنًا لا في حلب ولا في دمشق، لم تحصل مواجهات عنيفة مع قوات حزب الله، بدت قوات النظام في حالة تراجع وانسحاب دائمة، التخلّي عن دمشق حتى قبل أن تصل قوات الجولاني، كلّ هذه الأحداث تدل على أنّ الأسد كان يعرف نهايته. ولزيادة الوضع تعقيدًا، فإنّ قوات الجولاني لم تكن أول من دخل دمشق ولا هي سدّدت أيّة ضربة قاضية لنظام الأسد.
لقد دخلتها قبله قوات المعارضة الموجودة في التنف شرق سوريا، بالإضافة إلى قوات جاءت من الجنوب منسوبة إلى غرفة عمليات جنوبية مزعومة. لم تحصل حالات فوضى أو قتل أو ثارات، دوائر الدولة في دمشق كانت فارغة، إسرائيل أمضت يوم أمس تقصف عشرات المواقع في محيط دمشق وجنوب سوريا، كلّها مؤشّرات على انتقال سلمي للسلطة. ولذلك فإنّ التركيز على الجولاني اليوم يبدو واجهة إعلامية. لكنه من سيتعامل معه الجميع كقوّة الأمر الواقع. وهكذا تبدأ مرحلة الإنتقال في سوريا.
——————————-
سوريا: عن الفرح وعن صيدنايا وطائرات الخردة/ حازم الأمين
10 كانون الأول 2024
المشاهد خلال أسبوع السقوط تؤشر إلى حقيقة كيف حوّل آل الأسد سوريا إلى خردة، والى أن قصورهم وسياراتهم الفارهة تم شراؤها في ظل الجوع والقمع اللذين عمّموهما في كل البلد. وهذا كله مترافق مع شرائح واسعة، من غير السوريين، أسفت على سقوط النظام، من ضمنهم نخب وأحزاب وأنظمة.
في اللحظة التي سقط فيها نظام الأسد، استيقظ خوف “حريصين” على مستقبل سوريا من حقيقة أن متشددين إسلاميين هم من أسقطوه! انهالت على السوريين نصائح بضرورة الحذر من الغبطة والفرح. المشاهد المرعبة التي رافقت السقوط، لم تُثر في المحذّرين شيئاً. حقيقة أن شيئاً لن يفوق سجن صيدنايا فظاعة ليست في حسابات المحذرين، فهؤلاء ضبطوا انحيازهم إلى نظام الجريمة في منظومة شعورية أسموها الخوف من التكفيريين.
أشاحوا بوجوههم عن مشاهد سجناء صيدنايا، عن ذلك الطفل الذي ولد في السجن، وعن السجين اللبناني الذي فقد ذاكرته، وعن آلاف المفرج عنهم وقد أطلقوا لأرجلهم العنان. تنطوي النصيحة على خيبة من سقوط بشار الأسد. نعم خلف التحذيرات شيء من الأسف على النظام. ليس هذا اتهاماً، لكنه التفسير الوحيد لهذا الكم الهائل من الخوف، لا سيما وأن أصحابه يعرفون أن الفرح بسقوط النظام مترافق مع قلق على المستقبل، وأن السوريين يعرفون أن الجنة ليست بانتظارهم، وأن أبو محمد الجولاني ليس خيارهم، لكنهم استعادوا بلدهم بعد أكثر من خمسة عقود اختطفه خلالها آل الأسد منهم.
استعاد السوريون بلدهم ممزقاً ومدمراً ومتنازعاً، لكنهم هم من فعلها. هم من أسقط التمثال، وليس جيشاً غازياً، وهم من فتح السجون وليس ضابطاً أميركياً أو تركياً، وهم من راحوا يبكون ويبحثون عن أحبتهم بين وجوه المفرج عنهم من السجون.
الخوف كبير والمستقبل غامض، والنظام أورثهم المتشددين، لكن بمستطاعهم الآن البدء بمسار استعادة سوريا. ثمة أفق اليوم لمواجهة الجولاني وجماعته، ولاختبار التجربة.
المشاهد خلال أسبوع السقوط تؤشر إلى حقيقة كيف حوّل آل الأسد سوريا إلى خردة، والى أن قصورهم وسياراتهم الفارهة تم شراؤها في ظل الجوع والقمع اللذين عمّموهما في كل البلد. وهذا كله مترافق مع شرائح واسعة، من غير السوريين، أسفت على سقوط النظام، من ضمنهم نخب وأحزاب وأنظمة. في تونس مثلاً، حفلت صحافة النظام وصحافة “اليسار”، بعناوين “الخيبة”، وفي لبنان اسودت وجوه، وفي مصر أشاح عبد الفتاح السيسي بوجهه عن الحدث. أما ما نقلته الكاميرات من مشاهد لفظائع النظام، فهذا ليس محل ابتلاء الخائبين.
آخر مشهد بقي في ذهني لـ”سوريا الأسد”، قبل أن يغادرها ذاك الرجل ذو الوجه المسطح، هو مشهد الطائرات العسكرية الراسية في المطارات التي أخلاها النظام البائد.
بشار الأسد كان يقتل السوريين بطائرات الخردة هذه. هذه الخردة السوفياتية هي تماماً حزب البعث، فهي غير قابلة لغير قتل السوريين. هذه المقاتلات لم تفارق ذهني طوال الليل. هي النموذج الفعلي للنظام البائد. لا شيء في “سوريا الأسد” سوى هذه الطائرات الرثة. النسخة التكنولوجية لنظام الجريمة. السجون، وتماثيل “الأب القائد”، والابن الذي لم يَظِل وجه أبيه، والضباط الذين سبق أن احتلوا لبنان، ومخيمات النازحين، والطائرات السوفياتية التي سبق أن قصفتنا في سراقب، هذا هو النظام، أيها الخائفون من سقوطه.
وفي الصباح، استيقظنا على خبر مغادرة بشار الأسد دمشق إلى جهة مجهولة. وما أن وصلنا الخبر متأخراً ساعات قليلة، حتى راحت صور طائرات الخردة بالتحليق في مخيلتي. أي إهانة للعالم هذه. العالم الذي كان باشر بإعادة الاعتبار الى هذه الطائرات. لسفارة دولة الإمارات العربية التي أعيد افتتاحها في دمشق. لتلفزيون العربية الذي أجرى تحولاً في قاموس تناوله النظام، وعاد بشار الأسد رئيساً للجمهورية العربية السورية في اللغة التحريرية للمحطة التلفزيونية. العالم كان بصدد إعادة الاعتبار الى هذه الخردة التي لا تشكل خطراً إلا على السوريين.
حتى الأمس، كان وزراء خارجية دول عدة يجتمعون في العاصمة القطرية ويصدرون بياناً يجددون فيه لبشار الأسد لمدة تسعة أشهر يُعدّ خلالها لانتخابات كان سيشرف عليها هو بنفسه.
لعله فاجأهم بمغادرته دمشق بعد ساعات قليلة من اجتماعهم. أو ربما غادر قبل الاجتماع، من يدري؟! غافلهم وغادر، بعدما سربوا لقناة “الجزيرة” مقررات اجتماعهم. فضيحة التمديد له لا تقل عن فضيحة مغافلته لهم.
الصور القادمة من دمشق لا تُصدق. أقوى من أي شيء يمكن أن يقال عن تجربة البعث. الطفل على باب الزنزانة في سجن صيدنايا يفطر القلب. السوريون المندفعون إلى الساحات لتحطيم الأصنام، منزل الرئيس المخلوع، وأسطول سياراته الحديثة، والنفق في أسفل قصر المهاجرين. كل هذه المشاهد تعود لتردنا إلى طائرات الخردة المعدة لحماية العائلة، ولقتل السوريين.
نعم علينا أن نخاف من الجولاني، وأن ننتظر أياماً صعبة، لكن الرحلة بدأت والأبد انطوى إلى غير عودة، وأهل صيدنايا استعادوا قريتهم من السجن. وفي سوريا اليوم رحلة بدأت، ومرحلة صعبة، لكن أيضاً سوريا الآن خرجت من سجن البعث، ويحق لها أن تحتفل.
درج
———————–
سقوط نظام الأسد الأبدي والإبادي إلى الأبد/ ماجد كيالي
10.12.2024
اليوم، انتهت مملكة الصمت والخوف والرعب الأبدي إلى الأبد، ونالت سوريا حريتها، فلنأمل، ونعمل، كي يتعافى السوريون، بغض النظر عن أهوائهم السياسية ومناطقهم وهوياتهم الواقعية والمتخيلة، من أدران الأسد ومن القيح، الذي زرعه النظام، والذي سيبقى ينزّ من مساماتهم لزمن.
بات الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 علامة فارقة، أو صفحة جديدة، في تاريخ سوريا والسوريين. ففي هذا اليوم المجيد سقط النظام الأبدي ـ الأسدي، والإبادي، إلى الأبد، وهو الذي ظل أميناً على شعاره: “سوريا الأسد إلى الأبد أو نحرق البلد”، الذي أشهره في مواجهة إرادة التغيير التي أشعل شرارتها شباب وشابات سوريا في تظاهراتهم السلمية، التي اندلعت من درعا إلى دمشق ثم عمّت مدن سوريا وأريافها في آذار/ مارس 2011، للتخلص من نظام الاستبداد والفساد والتفاهة، والتي رد عليها بإقحام الجيش في معركته.
هو الذي لم يخض معركة واحدة ضد إسرائيل منذ نصف قرن، وظل طوال عقد كامل لا يرد على ضرباتها المتوالية، بل إنه لم يكتف بذلك بل أدخل معه شريكيه الإيراني والروسي لقتل شعبه وتشريده وترهيبه، أو ما يفترض إنهم شعبه، إلى درجة قتل مئات عدة من الألوف، وتشريد أكثر من عشرة ملايين منهم، داخل سوريا وخارجها، في حرب إبادة وحشية شنّها ضدهم.
معلوم أن هذا النظام حكم سوريا بأجهزة المخابرات والجيش، طوال 55 عاماً (1970 ـ 2025)، انتقلت فيها السلطة بطريقة شاذة وتافهة ومهينة من الأسد الأب، بعدما حكم لـ 30 عاماً، إلى الأسد الابن، الذي حكم 25 عاماً، هيمن خلالها هذا النظام على الحياة العامة والخاصة، وبث الرعب في قلوب السوريين، وبدد مواردهم، وسدّ كل ممكنات التطور السياسي والثقافي والاقتصادي عندهم، بحيث بات كل السوريين، بكل انتماءاتهم وأهوائهم السياسية، بمن فيهم الموالون، بمثابة أسرى لهذا النظام وادعاءاته الكاذبة، أو المخادعة.
وللتوضيح، أكثر شيء فعلته السلطة الأسدية في سوريا أنها قوضت الدولة، أو تغولت على الدولة، التي باتت على شكل حكومة صورية، تتلقى كل وزارة فيها أوامرها عبر المخابرات أو مندوبين من القصر، بحيث أن أكثر شيء افتقده السوريون طوال العقود الماضية هو الدولة بما هي دولة مؤسسات وقانون ومواطنين؛ هذا أولاً.
ثانياً، الشيء الثاني المؤسس لأي دولة، أو كيان دولتي، الذي افتقده السوريون هو نقص المواطنة، أي افتقاد المكانة الحقوقية والقانونية للمواطن، الفرد، الحر، المتساوي مع غيره. فثمة أشخاص أو أفراد هم ملك السلطة، في الخدمة العسكرية أو المدنية، من دون أية حقوق، أشخاص يخضعون لمزاج الحاكم، في السياسة والاقتصاد والثقافة، وفي كل منتجاته في التلفزيون والصحف والجامعات، إذ حتى صور الرئيس كانت تحتل الفضاء السوري العام من المطار إلى أصغر ساحة أو في المدن والقرى في سوريا.
ثالثاً، نجم عن نقص الدولة ونقص المواطنة، تشوه المجتمع، وبالتالي غياب المجتمع المدني، مع اختراع هياكل فارغة، ذات طابع سلطوي، ونفعي، مثل اتحادات الشبيبة والطلاب والمرأة والعمال والفلاحين والكتاب والصحافيين والفنانين والمندسين والأطباء والفلاحين، وكلها في الحقيقة أجهزة سلطة، أو طوع السلطة، بل وبات المجتمع يشتغل على أساس طوائف، وفقاً لسياسة “فرق تسد”، بحيث تبدو كل طائفة مقابل الأخرى، مع اعتبار نفسه حامياً للأقليات، وهي مقولة مخادعة قوامها تقويض فكرة المواطنة والمجتمع.
رابعاً، ثمة مقولة السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وهذا أكثر شيء ينطبق على سوريا، إذ عمم النظام خاصيته على الناس، فباتت علاقات الفساد والإفساد والواسطة والمحسوبية تتغلغل في كل مسامات مجتمع السوريين، كأداة سيطرة، وكأداة لتوسيع قاعدة السلطة الاجتماعية.
تذكروا تظاهرات الموالين واحتفالاتهم للتأكد من ذلك، أيضاً قارنوا بين أقوال كبار الموالين وأتباع السلطة ومواقفهم، من سياسيين ومثقفين وإعلاميين وفنانين، وأقوالهم ومواقفهم بعد سقوط النظام؛ وهذا الانقلاب لا يمكن تفسيره بالخوف، إذ ثمة تفشّي روح الانتهازية والنفعية والتقية.
خامساً، لم يترك هذا النظام شيئاً إلا وابتذله، هذا ينطبق على شعارات كبيرة، ومشروعة، كالوحدة والحرية والاشتراكية، وقصة المقاومة والممانعة، والقضية المركزية والصراع ضد إسرائيل، وكلها استُخدمت لإفراغها من مضمونها وتشويهها، وتبرير مصادرة النظام حقوق شعبه، في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة، وأيضاً لتبرير تبديد ثروات سوريا، ووأد أي إمكانية للتطور لدى شعبها.
الفكرة باختصار، أننا كنا إزاء نظام اختصر أو اختزل سوريا، الدولة والشعب والموارد والتاريخ والمستقبل بذاته، والنظام هنا هو الرئيس، أو الرئيس وأولاده، لا طبقة ولا طائفة ولا حزب، هذا هو النظام السوري الفريد من استثنائيته، وفي تفاهته، ما يذكر بمقولة حنة أرندت عن “تفاهة الشر وعاديته”، هذا أكثر شيء ينطبق على النظام السوري ورئيسه المخلوع. أنظروا كيف أتى بطريقة شاذة وتافهة، بتغيير الدستور “الشكلي” على مقاسه خلال دقائق، وها هو رحل أيضاً بطريقة شاذة وتافهة، من دون أن يلقي كلمة، أو من دون مبالاة، حتى بمؤيديه أو محابيه، أو المخدوعين به.
المشكلة أن هذا النظام سقط بعدما صادر واستنزف مستقبل سوريا وليس ماضيها فحسب، إذ أخذ 55 سنة من أعمار السوريين، وربما مثل أو نصف ذلك من الزمن من مستقبلهم، بمعنى أن السوريين سيحتاجون ربما إلى عقد أو اثنين لتقيؤ كل ما بلّعهم إياه هذا النظام، وللتخلص من كل القيح الذي زرعه في مساماتهم، مع كل الآلام التي قد تنجم عن ذلك، كي تتعافى سوريا، وتصبح بلداً لكل السوريين، كمواطنين أحرار ومتساوين.
إذاً، هذا يوم مجيد، يوم المنى، وفرحة العمر، يوم يستحق فيه العرفان والتمجيد كل المناضلات والمناضلين الذين عانوا الأمرّين في سجون الجحيم الأسدي، وشابات وشباب الثورة السورية الأوائل الشجعان، الذين تحدّوا في التظاهرات السلمية بقلوبهم وقيضاتهم البنادق والدبابات والبراميل المتفجرة، في ساحات النواعير (في حماة)، والساعة (في حمص)، وسعد الله الجابري وبستان القصر (في حلب) والمسجد العمري والبانوراما (في درعا البلد)، والأمويين والعباسيين وباب توما والميدان (في دمشق)، وفي كل المدن السورية في اللاذقية وطرطوس ودير الزور والرقة وبانياس والرستن وتلبيسة، في آذار/ مارس 2011، وطوال سنة كاملة.
سلام لأرواح من ذهبوا: رياض الترك، ورزان زيتونة وميشيل كيلو والياس مرقص، وحسين العودات وأنطون مقدسي وسلامة كيلة ومنصور الأتاسي وسميرة الخليل ويوسف سلامة وعمر قشاش، وطيب تيزيني، وجورج طرابيشي، وياسين الحافظ، وسعدالله ونوس وممدوح عدوان ونصري حجاج وأيمن أبو جبل وعبد العزيز الخير وناجي الجرف وعقاب يحيى وعماد رشدان، ولكل الذين عاشوا وقضوا على حلم بالحرية.
سلام لأرواح شهداء مخيم اليرموك أحمد كوسا ومهند عمر وجعفر محمد وخالد بكراوي وغسان الشهابي وأنس العمارة ونيراز سعيد وحسان حسان ويزن عريشة ومحمد طيروية وكل الشهداء. والحرية للأعزاء علي الشهابي وخليل معتوق وفائق المير وفياض الشهابي، وصالح كيالي (أخي) ولكل المعتقلين والمخفيين والمختطفين المظلومين…
اليوم، انتهت مملكة الصمت والخوف والرعب الأبدي إلى الأبد، ونالت سوريا حريتها، فلنأمل، ونعمل، كي يتعافى السوريون، بغض النظر عن أهوائهم السياسية ومناطقهم وهوياتهم الواقعية والمتخيلة، من أدران الأسد ومن القيح، الذي زرعه النظام، والذي سيبقى ينزّ من مساماتهم لزمن، بالخروج من أسر الكراهية والعنف والرعب والخوف من الآخر، بأجسادهم وعقولهم ومشاعرهم. هذه قيامة السوريين كل السوريين، ولنأمل ذلك في سوريا كدولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة مؤسسات وقانون في نظام ديمقراطي.
درج
—————————–
سوريا من هشاشة الدولة إلى خطر تفككها/ إياد العنبر
تحدي كبير أمام النخب الجديدة الحاكمة
آخر تحديث 09 ديسمبر 2024
لم تعد تطورات الأحداث في سوريا مفاجئة، وإنما باتت تثير الاستغراب. فروسيا قررت سحب دعمها لبقاء بشار الأسد في الحكم، وإيران تفكر بالتعامل مع سيطرة الفصائل المعارضة على الحكم باعتباره أصبح أمرا واقعا، وغيرت خطابها في وصفهم من “الإرهابيين” إلى “الجماعات المعارضة”. أما تركيا فلم تخف تدخلها عندما أعلنت أن الهدف النهائي لهذه الجماعات المسلحة هو دمشق، وأعلنها الرئيس رجب طيب أردوغان أن الأسد رفض الجلوس والحوار معه لتحديد مستقبل سوريا. والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب كتب على منصة “X”: “هذه ليست معركتنا.. دع الأمور تحدث ولا تتدخل”.
سوريا الدولة التي تآكلت شرعية طبقتها الحاكمة، والتي تصدرت تصنيف الدول الفاشلة، وأصبحت سيادتها مخترقة ومتنازعا عليها بين نفوذ إقليمي ودولي، وفق كل هذه الوقائع فإن التفكير ببقاء نظام الحكم فيها يخضع لرهان عامل الزمن ليس أكثر. فالقاعدة العامة التي تحدد بقاء أو انهيار نظام الحكم في الدول الهشة، يرتهن ببقاء الدعم الخارجي له، لأن البلاد التي تتحول إلى ساحة لصراع دول إقليمية، يكون نظام حكمها مشابها لمسرح الدمى.
ورغم أن الأحداث تدور على أرضها، فإن الموضوع أكبر من قضية سوريا ونظام حكمها والقوى المعارضة وفصائلها المسلحة. وإنما هو فشل مشروع إقليمي-دولي، وبداية مرحلة جديدة لإعادة هندسة النفوذ الإقليمي في الشرق الأوسط. المشروع الإيراني الذي بدأ قبل عشرين عاماً بفكرة “الهلال الشيعي” وتشكل بعنوان “محور المقاومة”، وتمظهر بعد الاستثمار بمنجز “حزب الله” في تحقيق انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وفرض نفوذه وأجندته على التغيير السياسي في العراق بعد 2003، وعمّق حلفه الاستراتيجي مع نظام بشار الأسد في سوريا لمواجهة الأميركيين في العراق، وتمركز في اليمن بعد سيطرة الحوثيين هناك، كل هذه المنجزات التي حققتها إيران، كان من أول تحدياتها أحداث سوريا في 2011، والتي تحولت إلى استنزاف للمشروع الإيراني. وصحيح أن إيران نجحت في الحفاظ على حكم الأسد لمدة 13 عاماً، لكن الثمن هو قبول تقاسمها النفوذ مع روسيا وتركيا والولايات المتحدة. حتى أصبحت اليوم خارج معادلة النفوذ بسقوط حكم الأسد.
بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدأ النفوذ الإيراني يدخل مرحلة المواجهة الحقيقية مع إسرائيل. ولم تقتصر هذه المواجهة على “محور المقاومة” الذي تقوده إيران. وإنما مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران، والتي كانت نتيجتها اغتيالات داخل إيران وتبادل الهجمات بالصواريخ بين طهران وتل أبيب. والأهم أن مشروع إيران في تشكيل “محور المقاومة” و”وحدة الساحة”، باعتباره الركيزة الأساسية في استراتيجية الردع والمواجهة مع إسرائيل، بات رهانا خاسرا بالنسبة لإيران وعجز عن تحقيق غايته في منع استهداف العمق الإيراني، وأصبحت إيران تتلقى الهجمات في مناطق نفوذها وعمقها الاستراتيجي!
المشكلة الحقيقية أن البلدان التي رسخت إيران نفوذها فيها، تعمقت فيها هشاشة الدولة أكثر وأكثر، وازدادت الفجوة بين النخب الحاكمة ومجتمعها. لأن إيران لم تعمل على تقوية هذه الدول، وإنما عملت على تقوية سلطة وهيمنة الكيانات الطائفية على حساب الدولة، وحتى النظام السوري، حيث عملت على بقاء سطوة حكم بشار الأسد طوال 13 عاماً، وكان دعمها من خلال السلاح ولم تفكر في حل سياسي يحتوي القوى المعارضة السياسية ويفصل بينها وبين المعارضة المسلحة. وكان يمكن لحكم حليفها بشار الأسد أن يبقى قوياً وليس متقطع الأوصال بين نفوذ روسي وتركي وإيراني.
إذن، انهيار نظام الحكم في سوريا، هو نتيجة طبيعة لرهن إرادة بقائه على الدعم الخارجي. وهو درس مهم للدول الهشة التي ترهن نخبها الحاكمة بقاءها في سدة الحكم تحت رحمة دولة أخرى، بدلاً من الركون إلى توثيق علاقتها مع شعوبها، وتقديم منجز خدمي وتنموي لها.
ولذلك، يبقى السؤال الأخطر بعد سقوط حكم الأسد، الذي فقد سطوته منذ 2011، وفقد سيادته لصالح فاعلين دوليين وإقليميين: هل هناك خطر على تفكك أو انهيار الدولة في سوريا؟ في دراسة تفكيكية مهمة تناقش “ماذا يفعل فشل الدولة؟”، قدمت الباحثة كاتي كليمنت (Caty Clément) أربعة متغيرات أساسية يمكن أن تؤدي إلى انهيار الدولة، وهي:
1. المتغير الأول، يتمثل في “تناقض البيئة الخارجية”: التحول في البيئة الدولية من التدخل للحفاظ على تماسك الدولة إلى عدم التدخل، بصرف النظر عن درجة تماسكها الداخلي.
2. المتغير الثاني، متغير اقتصادي: ويرتبط بتزايد الحرمان والفقر وانهيار الاقتصاد وتدهور مستويات المعيشة نشوء اقتصاد المافايات.
3. المتغير الثالث، تعبئة الجماعات ذات النفوذ: الهويات الموجودة على أساس الدين أو العرق أو الطبقة أو القومية، والتي لديها دافع قوي للتعبئة السياسية، إلا أنها تشعر بالحرمان أو التهميش، مما يشكل لديها حافزاً قوياً للتمرد ضد الجماعات الأخرى التي تستحوذ على السلطة وتتمتع بنفوذها. ومن هنا يحدث الصدام بين المجموعات التي تطالب بالتغيير لأنها تعتقد بالتهميش، وجماعات تحاول المحافظة على الوضع القائم. وبقاء النظام السياسي واستمراره يتطلب دعم المجموعات ذات النفوذ، والتي تمتلك الثروة والمهارة اللازمة لإدارة وإدامة بقاء الدولة.
4. المتغير الرابع، ضعف الاستيعاب المتبادل للنخب: في النظام السياسي المثالي يمكن تهدئة العنف السياسي بآليات إدارة الصراع. إذ تتم إدامة الاستقرار بآلية “الاستيعاب المتبادل” أو تدوير النخب الجديدة الصاعدة في المجتمع، ودمجها في عمل النظام السياسي القائم، وجعلها أصحاب مصالح فيه، وعلى ذلك سيزيد النظام تأثيره في المجتمع. وفي حال التحول من نظام سياسي إلى نظام آخر يكون أحد أهم أسباب عدم الاستقرار هو عجز النظام عن تدوير النخب واستيعاب النخب الجديدة، أو إقصاء النخب القديمة ومن ثم يتطور عدم الاستقرار إلى صراع حاد وقد يتخذ شكل العنف السياسي، وفي النهاية يؤدي إلى انهيار الدولة.
تفاعل هذه المتغيرات الأربعة يمكن أن يساهم في تفكك الدولة الفاشلة، إلا أن المتغير الأهم الذي يمكن أن يؤجل الانهيار هو العامل الخارجي. لذلك ما حدث في سوريا منذ 2011 وحتى يومنا هذا هو تأجيل تفكك الدولة بسبب الدعم الخارجي، وتحديدا الإيراني والروسي. ومن ثم، بعد سقوط حكم بشار الأسد، أصبحت إيران وروسيا خارج دائرة النفوذ في الأراضي السورية. وأصبحنا أمام احتمالية عالية لتفكك سوريا، إلا إذا كانت للإرادات الخارجية الأخرى مثل تركيا والولايات المتحدة الأميركية ودول خليجية ممانعة لحدوث تقسيم سوريا. وربما لن تنجح القوى السياسية والنخب الحاكمة الجديدة في المستقبل القريب من التخلص من بقايا فشل الدولة، وقد يكون الطريق طويل أمامها إذا لم يكن هناك مشروع سياسي واضح، وخارطة طريق واضحة للعدالة الانتقالية ويتوفر لها الدعم والإسناد من القوى الإقليمية والدولية.
المهم الآن، فرحة السوريين بسقوط نظام دكتاتوري كان نظاماً كاريكاتيريا أمام قوى الفاعلين الإقليميين والدوليين، ويفرض سطوته بالحديد والنار على شعبه. أما مستقبل سوريا كدولة ونظام، ربما يكون تحديا كبيرا أمام السوريين ونخبهم الحاكمة الجديدة. ولكن تبقى المشكلة الأكثر تعقيداً أن الداء هو الدواء في سوريا. إذ لطالما كانت هشاشة الدولة السورية بسبب التدخلات الخارجية، وفي الوقت نفسه فإنّ قرار بقائها دولة موحدة أو تحولها دولة مفككة هو قرار الفاعلين الدوليين والإقليميين.
المجلة
——————————-
“كنّا نمشي فوق معتقلات”: عن سجن صيدنايا ومسالخ الأسد/ مناهل السهوي
10 كانون الأول 2024
تخرج من سجن صيدنايا قصص مرعبة، عن أناس لم يروا وجوههم منذ سنوات. أحد السجناء نظر إلى نفسه في كاميرا الهاتف بعد إطلاق سراحه، متفاجئاً بالشعر الأبيض الذي غزا ذقنه، وقال بدهشة: “شايب !”.
من داخل زنزانتها في سجن صيدنايا، تقول معتقلة برعب إنها خائفة، فيجيبها الرجل: “ليش خايفة؟… سقط بشار”. تردد امرأة خلفه: “سقط، سقط، سقط”، ثلاث كلمات فقط، لكنها كانت كافية لطمأنة أي خائف في تلك اللحظة في سوريا.
الأعين كلها على “سجن صيدنايا”
سقط بشار الأسد وحكم الديكتاتور وتحرّر آلاف المعتقلين. القصص القادمة تثير مشاعر مختلطة، طفل لم يتجاوز الثالثة من العمر، ولد في سجن صيدنايا، لا يعرف شيئاً عن الخارج، لا عن الهواء ولا الشجر ولا الألعاب، لا يعرف سوى سجون الأسد، وربما لم يكن يمتلك الأمل بالخروج منها أبداً.
حين وصلت العائلات والمعارضة المسلّحة إلى السجن القائم على تلة مرتفعة، أظهرت الفيديوهات أبواباً خلف أبواب تفتح تباعاً، وكأن هذا السجن لن ينتهي، كشعور السوريين تماماً، إذ حتى البارحة كانت فكرة سقوط الأسد قريبة جداً وبعيدة جداً في آن، كأنك تفتح باباً خلف باب من دون أن تنتهي، وسؤال العائلات المكلومة الوحيد: متى سنفتح باب زنزانة أحبائنا؟
ظهرت الفيديوهات واحداً تلو الآخر وتلقّفها السوريون بلهفة، كأنّ كلّ شاب هو ابنهم وكل امرأة هي ابنتهم.
لحظة تحرير النساء والأطفال كانت واحدة من أكثر اللحظات تأثيراً، فالنساء المذعورات وقفن مذهولات عند فتح الزنازين، والخوف يعتلي وجوههن عند رؤية رجال يقتحمون المكان فجأة، ليطمئنوهنّ بكلمة واحدة: “ثوار نحنا”.
إحدى النساء لم تتوقف عن السؤال مراراً وتكراراً عن هويتها الشخصية، وأخرى كانت قلقة على أغراضها في الأمانات. فيما تكررت عبارة “ما عم تفتح معنا البواب” وسط صرخات مختلطة بالدموع، وكأن السوريين كانوا بحاجة الى هذه اللحظة للتنفيس عن كل المشاعر المكبوتة. وكانت دموعهم تتسابق في لحظة تاريخية، اعتقدوا يوماً أنها لن تأتي أبداً.
امرأة أخرى تسأل بلهفة: “أنا من حمص، فيني روح؟” فيأتيها الرد: “نعم، الجميع يمكنهم العودة إلى منازلهم وعائلاتهم”… نعم، لقد انتهى عهد الأسد.
أسرار سجن صيدنايا الدمويّة
تخرج من هذا السجن قصص مرعبة، عن أناس لم يروا وجوههم منذ سنوات. أحد السجناء نظر إلى نفسه في كاميرا الهاتف بعد إطلاق سراحه، متفاجئاً بالشعر الأبيض الذي غزا ذقنه، وقال بدهشة: “مشيب”.
نظامٌ يحرم الناس حتى من رؤية انعكاسهم في المرآة، نظام كهذا يحق لنا أن نسقطه، ليس مرة واحدة، بل عشرات المرات.
ما زال هناك الكثير لمعرفته، وما زالت قصص آلاف المعتقلين تنتظر أن نسمعها. المقاتلون الذين دخلوا سجن صيدنايا قالوا إن هناك طوابق تحت الأرض لم يعرفوا أبوابها أو مداخلها بسهولة، أقوال لم تتأكد صحتها للآن. لم يغيّب النظام معتقليه فقط بل حتى وضعهم خلف أبواب عدة وطوابق لا يسهل الوصول إليها.
لسجن صيدنايا الرمزية الأكبر لدى السوريين، إذ إنه أكبر المعتقلات وأشدها دموية، ويلقّب بـ “الثقب الأسود والمسلخ البشري” وغيرهما من الألقاب المرعبة.
اختفى داخله آلاف السوريين، انتظرت الأمهات والعائلات ولو خبراً يخرج من جدرانه السميكة، التي كان السوريون يشاهدون أسوارها خلال عبورهم على الطريق القريب منها، ويستشعرون الموت والتعذيب في الأجواء.
حجم المعتقلات في دمشق مرعب، الى حد بات السوريون يرددون: “كنا نمشي فوق معتقلات”، كان الناس تحت شوارع دمشق مسجونين، يختنقون ويصرخون، لقد غيبهم النظام تحت منازلنا وأقدامنا.
الإعدام هوية الأسد
تحدث المعتقلون المحررون عن تفاصيل التعذيب الممنهج الذي مارسه نظام الأسد، حتى في الطعام، فقد كان يطعم المعتقلين زيتونة واحدة فقط أو كمية ضئيلة من البرغل، بقصد إذلالهم وتجويعهم أكثر من إطعامهم.
أحد أشكال التعذيب كان الأصوات التي يُفرض على المعتقلين سماعها، ليست فقط صرخات المعذبين تحت وطأة الألم، بل أيضاً أصوات المشانق أثناء تنفيذ الإعدامات اليومية.
روى أحد المعتقلين أنهم كانوا يسمعون بوضوح صوت منصات الإعدام لحظة سقوطها، المشانق ما زالت هناك، مرمية على الأرض، حبالها التي التفّت حول أعناق آلاف السوريين، مرة بعد مرة، شاهدة على موتٍ لا ينتهي.
الرعب الذي كان يعيشه المعتقلون يومياً لا يوصف، مثلاً كان معظم السجناء لا يعلمون شيئاً عن موعد إعدامهم، إذ يتم ذلك في اليوم نفسه أو يعلمون قبل يوم واحد فقط، كما كانت تتم الإعدامات المدنية بعد نقل السجين من السجن المدني إلى صيدنايا.
مكبس الإعدام الذي عُثر عليه في إحدى الغرف، هو فصل مخفي ومريع من إجرام الأسد. وبحسب المعلومات المتداولة، كان يوضع السجين بعد إعدامه في مكبس الإعدام لسحق جسده. تحت المكبس هناك مجارٍ للدماء وما تبقى من الجسد يوضع في الأكياس وينقل إلى جهة غير معلومة.
تخيل بعد هذا كله، أن يصادف موعد تنفيذ قرار إعدامك اليوم وفجأة تُفتح الأبواب ويقال لك: “أخرج أنت حرّ”. تخيل أن يوم موتك هو يوم حريتك وحرية سوريا، الكلام يبقى قليلاً أمام هول القصص والأمل والحزن في سجن صيدنايا.
يذكر أن عمليات الإعدام كانت تحدث دورياً (يومين في الأسبوع)، على سبيل المثال، في نهاية عام 2012 أُعدم 104 أشخاص دفعة واحدة، ولشدة همجية عمليات الإعدام وعنفها أغمي على ضابط برتبة عقيد، اسمه سامر جودت إسماعيل!، وذلك بحسب تقرير سابق لـ “رابطة معتقلي ومختفي سجن صيدنايا”.
بحسب السجلات التي وجدها الناس بعد فرار الأسد، هناك 25 ألف معتقل، لكن عدد المحررين لم يبلغ هذا العدد، وهو الأمر الذي زاد الشكوك في وجود المزيد من الطوابق، أو أن ذلك إثبات لحجم الإعدامات التي نفذها نظام الأسد. كما أن عناصر النظام قبل خروجهم كسروا الكاميرات ودمروا الهارد ديسك كما فجروا المولد الكهربائي الأساسي، ما يزيد الشكوك في وجود معتقلين تحت الأرض.
هذا كله يبقى قليلاً أمام الأجساد المنهكة التي شاهدناها تخرج من السجن لتوضع في المستشفيات، كارثة كانت تحدث على مدار أكثر من خمسين عاماً من حكم واحدٍ من أكثر الأنظمة الدموية في العالم.
معلومات أخرى عن سجن صيدنايا
يقع السجن على تلّة صغيرة عند بداية سهل صيدنايا، وهي بلدة جبلية تقع على بعد 30 كم شمال العاصمة دمشق، يتكون من بناءين، البناء الرئيسي القديم (البناء الأحمر) والبناء الثاني الجديد (البناء الأبيض)، وتشرف عليه شعبة المخابرات العسكرية.
بني سجن صيدنايا مع صعود ديكتاتورية الأسد وأولى مجازره في حماة، إذ بدأت أعمال البناء عام 1981 ودخل أول معتقل إليه في عام 1987، وتقدر مساحته بنحو 1.4 كم، أي ما يعادل ثمانية أضعاف مساحة ملاعب كرة القدم الدولية مجتمعة في سوريا.
المعلومات التي نعرفها عن السجن مرعبة في حد ذاتها، فمثلاً تحوي الغرفة المنفردة قياس 2*3 متر حتى 30 معتقلاً. كما قضى فيه ما بين 30 -35 ألف معتقل خلال عشر سنوات بسبب عمليات الإعدام المباشر، أو بسبب سوء الرعاية الصحية أو عمليات التجويع الممنهج.
لسجن صيدنايا سوران، داخلي وخارجي، وتنتشر على كامل محيطه بين السورين عناصر الفرقة 21 التابعة للجيش. وحرص النظام على وضع حقلي ألغام خارج أسواره، واحد داخلي مضاد للأفراد والثاني خارجي مضاد للدروع.
قبل الثورة، كان السجناء يُفرزون حسب التهم، لكن بعد الثورة وحدوث مشاكل بين سجناء من الطائفة العلوية والسنية، بات التقسيم على أساس الطائفة، وهو أمر غير مسبوق، أن يتبع النظام التقسيم الطائفي للسوريين، حتى في السجن.
منذ سنتين، كشفت “رابطة معتقلي ومختفي سجن صيدنايا” عمّا يعرف بغرف الملح، وهي أشبه بمستودعات بدائية، استخدمها نظام الأسد لحفظ الجثث من التحلل بعد اندلاع النزاع في عام 2011، وبخاصة مع ارتفاع عدد الموتى داخل السجون وغياب المشارح المبردة.
باتت أبواب سجن صيدنايا مشرعة، ليس فيها سوى هواء نظيف يدخله للمرة الأولى وصرخات ألم ما زالت صداها يتردد بين الجدران القاسية، ووجوه المعتقلين المذهولة، والذين نسي البعض منهم أسماءهم أو كان البعض على موعد مع إعدامهم في يوم تحريرهم. ربما يتحول في يوم إلى متحف يزوره السوريون ليستذكروا حقبة من الظلم الذي عاشوه، والتي انتهت بحريتهم، وربما يستذكرون أحباءهم الذين قتلوا ولم يعرف عنهم شيء.
درج
———————————
دولة الاحتلال وسوريا الجديدة: أطماع قديمة وأخرى تتجدد
رأي القدس
10 كانون الأول 2024
ردود الأفعال العملية الأبكر، التي صدرت عن دولة الاحتلال الإسرائيلي حيال سقوط نظام بشار الأسد، اتخذت وجهة أولى هي كسر اتفاقية فصل القوات لسنة 1974، والتوغل مسافات مختلفة داخل المنطقة العازلة المحاذية لسفوح جبل الشيخ، بذريعة معلنة هي التخوّف من تقدم فصائل المعارضة السورية لملء الفراغ الذي خلّفه الانسحاب العشوائي لجنود الجيش النظامي السوري من مواقعه داخل تلك المنطقة.
وصحيح بالطبع أن العديد من نقاط انتشار هذا الجيش شهدت مظاهر الانهيار وفقدان الصلة مع حلقة القيادة والأوامر، على غرار ما وقع لغالبية القطعات العسكرية النظامية التي كانت تحت إمرة نظام الأسد في ريف إدلب وحلب وحماة وحمص والعاصمة دمشق ذاتها. غير أن جيش الاحتلال ظلّ على الدوام يتحين الفرصة لقضم مساحات جديدة ذات أهمية استراتيجية وطبوغرافية واقتصادية وسياحية ومائية في هضاب الجولان عموماً، وفي محيط جبل الشيخ خصوصاً.
ومنذ الأسابيع الأولى التي أعقبت اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية، ربيع 2011، لم يتردد النظام السوري في سحب قطعات عسكرية أساسية من مناطق فصل القوات على جبهات الجولان المحتل، ونقلها إلى الداخل السوري للمشاركة في قمع الاحتجاجات الشعبية، وخاصة في محافظة درعا المحاذية لريف دمشق ومحافظة القنيطرة. وإذا كان خيار الاحتلال خلال تلك الفترة قد اقتصر على قصف أي انتشار عسكري أو لوجستي لمفارز «حزب الله» و«الحرس الثوري» الإيراني على الجانب السوري من هضبة الجولان، فإن عمليات التوغل الإسرائيلية داخل المنطقة العازلة لم تتوقف، إذ لم يكن أمامها من رادع أصلاً.
الوجهة الثانية من الردود الأبكر لدولة الاحتلال، بعد ساعات قليلة على انهيار نظام الأسد وتحرير العاصمة السورية، تمثلت في مسارعة القاذفات الإسرائيلية إلى قصف أهداف متفرقة جنوب دمشق، تضم منشآت تصنيع الذخائر ومخازن أسلحة كيميائية وأنظمة صواريخ أرض ــ أرض متقدمة، وذلك بذريعة تفادي وقوعها في أيدي المعارضة المسلحة. وكان لافتاً أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أعلن أن اتفاقية الفصل قد انهارت و«لن نسمح لأي قوة معادية أن تتمركز على حدودنا» وكأنه افترض أن جيش النظام السوري الذي كان يشغل تلك المواقع لم يكن معادياً في الجوهر، أو أنه لم يكن على درجة تماثل ما تكنه المعارضة السورية المسلحة من عداء لدولة الاحتلال.
ومنذ اتفاقية سعسع في أيار/ مايو 1974 بين الاحتلال والنظام السوري في عهد حافظ الأسد، لم تخف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حرصها على بقاء السلالة الأسدية في حكم سوريا، بالنظر إلى سيادة الهدوء في بطاح الجولان والتزام النظام التام ببنود فصل القوات. وبعد الانتفاضة السورية والانكسارات السياسية والعسكرية التي مُني بها النظام السوري، صرّح نتنياهو مراراً بأنه لا مشكلة إسرائيلية مع بشار الأسد، شريطة استمرار الاحتلال في ردع النفوذ الإيراني في سوريا واستهدافه أينما كان.
ولعل الأسابيع والأشهر المقبلة سوف تتكشف عن ردود أفعال إسرائيلية إضافية ومختلفة إزاء متغيرات سوريا الداخلية، لن تشذ في كل حال عن سياق المطامع القديمة، وتلك التي تتجدد.
———————–
بشار ونهاية “محور المقاومة”/ مصطفى النعمان
“الدرس الذي يقدمه تقويض نظام عائلة الأسد هو أن الرضا الشعبي هو الضامن الوحيد لاستقرار البلدان”
الثلاثاء 10 ديسمبر 2024
بشار الأسد درس يجب أن يستوعبه كل حاكم جمهوري في المنطقة العربية، وهو أن الحاكم الذي ينشغل بتثبيت حكمه خارج الأطر الدستورية لا يمكن أن ينتهي إلا في المنفى إذا حالفه الحظ في الفرار قبل أن يقتله خصومه.
في الـ24 من يونيو (حزيران) 2000 أجرى مجلس الشعب في سوريا تغييراً عاجلاً على النص الدستوري الذي يشترط بأن تكون السن القانونية للرئيس 40 سنة. كان مشهداً تهكمياً ومؤشراً إلى المرحلة التالية، إذ جرى تحديد 34 سنة ليوائم عمر المرشح الوحيد “بشار”، بديلاً من والده الرئيس السابق حافظ الأسد، ثم جرى “انتخابه” في عملية لم تستغرق أكثر من ساعة.
كان صعود بشار مفاجئاً بعد مقتل شقيقه باسل الذي كان مرشحاً متوقعاً لخلافة والده المريض، وصار أول رئيس جمهورية عربية يقفز إلى الموقع الأول في بلاده بالوراثة، وهي التي كان البيان الأول لانقلاباتها العسكرية يتحدث عن الديمقراطية وتأمين الحريات العامة والخاصة، إضافة إلى العبارة الأثيرة لدى الانقلابيين العرب، ألا وهي “تحرير الأراضي المغتصبة”. بطبيعة الحال حصل على إجماع الأعضاء. ذلك المشهد كان جديراً بأن يعطي المؤشر إلى المنهج الذي ستُدار به الأمور وأن شيئاً لن يتغير عما كان في عهد والده حافظ الأسد الذي حكم سوريا منذ انقلابه على رفاقه جميعاً في الـ12 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1970.
لم يكتسب بشار أياً من مهارات والده في أسلوب الحكم الفردي المستبد والذكي في آن، وفي قدرته على قراءة نقاط الارتكاز ومناطق الجاذبية في العالم والتلاعب بها. مع مرور الوقت أخفقت كل التوقعات التي وضعتها بعض العواصم الغربية، على وجه الخصوص، وتكهنت بتغير في السياسات الداخلية التي كانت في الواقع الأجهزة الأمنية تقررها وتديرها. بمرور الوقت تضخمت ثروات الأسرة وحماتها وصارت تتحكم في كل مقدرات البلاد بعيداً من القنوات الشرعية، وانتشرت روايات عن إشرافها على تصنيع وتجارة المخدرات وتوزيعها.
كان الجميع يرصد كيف سيتعامل طبيب العيون بشار مع قضايا مركبة خلَّفها والده. كان لبنان على رأس هذه الملفات، وكذلك العلاقات مع إيران، لكنه استسلم إلى هوس وشهية الأجهزة الأمنية في القمع والترهيب، فهي التي ضمنت له الوصول إلى الموقع الأول وهي التي تؤمن بقاءه فيه. لم يستغرق الوقت طويلاً حتى دب اليأس في نفوس المتفائلين فتوالت الأخطاء والخطايا. أدى الغرور وانعدام التجربة السياسية في حكم بلد شديد التعقيد والحساسية، إلى ارتكاب حماقات هي في الواقع جرائم في حق الشعب السوري.
ظن بشار أن العون الخارجي الإيراني والروسي كافٍ لحماية نظامه واستمرار حكم أسرته، وضمان تحويله إلى نظام وراثي لا يتسق مع شعارات “حكم الشعب بنفسه” كما تردد أدبيات الثوار في الجمهوريات العربية التي يحكمها ويتحكم بها العسكر وأجهزة الأمن لتلهي الشعوب بكلمات لا ترتبط بالواقع.
الدرس الذي يقدمه تقويض نظام عائلة الأسد هو أن الرضا الشعبي هو الضامن الوحيد لاستقرار البلدان، وأن الإفراط في التعويل على الدعم الخارجي عسكرياً ومالياً وسياسياً لا يستطيع أن يكون بديلاً من قبول المواطنين وقناعاتهم بحكامهم. وهناك درس مهم آخر يقول بأن القوى الخارجية لا ترعى التماسك الداخلي ولا تستطيع أن تشرعن وجودها الذي وصل في دمشق إلـى حد مكنها من تجاوز سلطات الحكومات الوطنية في اتخاذ قرارات وتدابير لا تصب في مصلحة المواطن.
ليس من العسير إطلاق الأحكام سريعاً على حكم بشار الأسد، إذ كان كل مراقب يعرف كيف أن ذلك البلد العربي كان يدار بعيداً من مراعاة مصالح الناس وحقوقهم. كانت إيران هي المهيمن على سياسات سوريا الخارجية تحت رمز “محور المقاومة” الذي كان “حزب الله” أهم أعضائه. ضمرت قوة النظام السوري على وقع الفساد والاحتقان الشعبي، ولم ينتبه إلى أن “الحزب” الذي أنقذه في الماضي قد انتهى دوره العسكري تحت وقع الضربات الإسرائيلية ولن يهب لنصرته مرة أخرى. إيران هي الأخرى لم تعد قادرة على مواصلة تمويل أذرعها في المنطقة، كذلك فإن روسيا منشغلة بحربها الممتدة في أوكرانيا.
أما الوافد الجديد إلى قائمة “محور المقاومة”، أقصد الحوثيين في اليمن، فهو أضعف من أن يكون عوناً جاداً ولا يستطيع أن يقدم أكثر من الخطابات البائسة، وهو نفسه يواجه مجتمعاً ساخطاً من الجبايات وقمع الحريات وشح العيش، والأسوأ تصرفاتهم المذهبية الضيقة إلى حد مقيت، وإيران لن تتمكن من مساعدتهم كما كانت الحال في الماضي القريب وستتركهم يجابهون مصيرهم أمام غضب الناس وكراهيتهم.
لقد باتت الجمهوريات العربية موبوءة بالفوضى والفساد، وليس العيب في الأنظمة بأية حال، ولكن النكسة هي في أن القائمين على أغلبها باتوا مسكونين بكيفية الاستمرار في الحكم، متغافلين عن أن صلب النظام الجمهوري هو في التداول السلمي للسلطة ولا يجوز أن يكون سبيلاً للتوريث والإثراء ورضا أسرهم وعشيرتهم وإشباع رغباتهم.
بشار الأسد درس يجب أن يستوعبه كل حاكم جمهوري في المنطقة العربية، وهو أن الحاكم الذي ينشغل بتثبيت حكمه خارج الأطر الدستورية لا يمكن أن ينتهي إلا في المنفى إذا حالفه الحظ في الفرار قبل أن يقتله خصومه.
هرب بشار ذليلاً مع أسرته الصغيرة تاركاً إرثاً شقياً من القمع والإرهاب والفساد، وخلّف بلداً منهكاً سقيماً سيحتاج إلى عقود من المجهود الجماعي لرأب الأضرار التي صنعها حاكم كانت مصالح شعبه في أدنى سلم اهتماماته.
أما مستقبل سوريا فلا يمكن الحكم عليه من خلال كلمات السلطة الجديدة فقط لأن تاريخها لا يبعث على الطمأنينة، ويجب الانتظار للتيقن منها ولمعرفة موقفها من قضايا وطنية كثيرة على رأسها أراضيها المحتلة، وهي تحت أنظار الجميع للتحقق من حقيقة ألفاظ الحكم الرشيد وحماية الحريات وسيادة القانون والتعامل مع خصوم الأمس.
————————–
سوريا زهرة الربيع العربي ودروس المرحلة/ د. منصف المرزوقي
10/12/2024
لم يكلفني سوري واحد بتوجيه أي رسالة باسمه، ولست الناطق الرسمي باسم الأمة. كل ما في الأمر أننا أمام أحداث هائلة حبلى بالدروس المبطنة والواضحة، أردت أن أضعها في هذا القالب الصحفي الأدبي، وكل أملي أن يجد فيها الكثير من العرب والسوريين بعضًا من هواجسهم وأفكارهم وأحلامهم.
أولًا: رسائل السوريين للشعوب العربية
لم يتعرض شعب عربي وغير عربي ابتلي بالاستبداد لما تعرضنا له نحن. رمينا بالقنابل والبراميل المتفجرة، قتلنا بمئات الآلاف، هجرنا بالملايين في كل أصقاع الأرض، ولدت لنا أجيال من الأطفال في السجون.
ذروة معاناتنا وأبلغ مثال لها مأساة القديسة الطاهرة العفيفة الشريفة التي دخلت السجن عذراء في التاسعة عشرة من عمرها وخرجت في الثانية والثلاثين بعدد من الأطفال لا تعرف آباءهم.. ومع ذلك لم نرضخ، لم نستسلم، لم نيأس.
ها نحن نستأنف ثورتنا المجيدة أجمل زهرات الربيع العربي التي تصوَّر الهمج القدرة على إجهاضها إلى الأبد. لسنا أوصياء عليكم، وليست مهمتنا إعطاء الدروس، لكن ثوراتنا واحدة وغرفة العمليات التي أجهضتها في الماضي واحدة، ومستقبلنا واحد. ماذا تنتظرون لإتمام ما لم يكتمل، لتحقيق ما يجب تحقيقه، حتى يكون للأجيال العربية المقبلة مستقبل؟
لكل الطغاة
ثلاثية حكم: (عنف الأجهزة، فساد الأقارب والمقربين، والتضليل الإعلامي) هي الوصفة التي ذهب سفاح دمشق إلى أبعد شوط فيها، في مستوى العنف والهمجية والوحشية والسادية؛ لإرهاب المجتمع.
ومع ذلك هشمنا تماثيله، وتجولنا في قصره، وأجبرناه على الفرار مستجيرًا بسادته.
أقصى العنف لا يفعل سوى تأخير النهاية البائسة للاستبداد، وأنه عليكم عوض ممارسة الإنكار وسياسة الهروب إلى الإمام قبل فوات الأوان، لجمَ شراسة الأجهزة القمعية، وإطلاق سراح المساجين السياسيين، والسعي لمصالحة حقيقية مع الشعوب، والقبول بالإصلاحات الموجعة، والاستعداد لرحيل منظم وسلمي يقي المجتمعات من كوارث لا سبب لها.
لأنصار المقاومة والممانعة
رفضتم لنا الحق في الحرية وفي الكرامة؛ بحجة أن الدكتاتورية السورية حالة خاصة. قلتم إن ثورتنا المجيدة في 2011 مؤامرة كونية هدفها ضرب محور المقاومة والممانعة والنضال ضد الإمبريالية والصهيونية.
الآن وبغض النظر عن الثمن الرهيب لحكم الأسد الذي لا تولونه أدنى قيمة. الآن وقد اتضح للجميع أن بطل الممانعة قتل الآلاف من الفلسطينيين، ومئات الآلاف من السوريين، ولم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل. والآن وقد رأيتم أنه لم يحرك إصبعًا لنصرة غزة وهي تباد.
والآن وقد رأيتم أنه غدر حتى بحليفه حزب الله، حيث لم يطلق ولو تصريحًا ناريًا للدفاع عنه. والآن وقد فرّ كالجبان من ساحة المعركة تاركًا وراءه شبيحته للمحاسبة. والآن وقد تجندت إسرائيل لاحتلال كل المناطق التي كان حارسها الوفي المكلف بأمنها. ماذا تقولون؟ أننا لا نفهم شيئًا في السياسة، وأن كل هذه التحركات مؤامرة تركية صهيونية أميركية مريخية عطاردية للتخلص من المقاوم الأكبر الذي كان يحتفظ بحق الرد، وتحرير فلسطين في الوقت المناسب، بل وأننا شعب ناكر للجميل خائن وعميل لا نستأهل أن يحكمنا حافظ الثاني.
للقوى الإقليمية
تعودتم الجلوس حول الطاولة وسوريا هي التي دومًا على قائمة الطعام. إلى عشية رحيل الطاغية وأنتم تقررون مصيرنا في غياب أي سوري. لكن يبدو أننا فاجأناكم جميعًا بسرعة تحركنا وانتفاضة شعبنا.
ما زلتم في بداية المفاجآت. غرّكم منا ومن أمتنا لحظات الضعف التي نمرّ بها ونسيتم من نحن عبر التاريخ وأي مكانة سنحتل عندما ننتهي من ثوراتنا الداخلية، وإعادة ترتيب أوضاعنا، والخاصية الكبرى الأولى للقوة التي لا تؤمنون إلا بها أن ميزانها لا يثبت أبدًا على حال.
ثانيًا: رسائل العرب إلى السوريين
كم نتألم ونحزن ونتأسف لكل ما عانيتم من تقتيل وتهجير وتعذيب. كم نشعر بالعار، نحن الرجال كل الرجال، لما لحق حرائركم اللواتي تعرضن لصنوف التنكيل والتعذيب بالآلاف في سجون الطاغية. نقبل أرجلهن ونعتذر لهن ونطلب منهن العفو والمعذرة..
كم نخجل من حكوماتنا التي أغلقت أبواب بلداننا في وجوهكم أنتم أكثر شعوبنا حفاوة وكرمًا مع الغرباء. كم نفخر بكم، كم نعتزّ بانتصاركم، كم نحبكم. وأيضًا كم نخشى عليكم من تجدد الكابوس في شكل آخر.
خشيتنا هذه، وكل القوى الإقليمية، تحضر السكاكين لكم، هي التي تدفع بنا لتقديم هذه النصائح تفاديًا لأخطاء ارتكبناها عن حسن نية بعد انطلاق ثورات الربيع ودفعنا ثمنها باهظًا ولا نريدكم أن تدفعوه مرة أخرى.
للانتصار على كل المتربصين بثورتكم العظيمة، استثمروا الغلطات التي وقعنا فيها لتتعلموا منها حتى تسرعوا بالنصر وتكونوا الشرارة التي سيتجدد منها اللهب الذي سيحرق أنظمة الفساد والقمع والتضليل في وطننا العربي المنكوب.
غلطة ثورتي تونس والسودان
إنها قاعدة في السياسة تكاد تكون بمثابة القانون الذي يتحكم في حركة الشمس والقمر، ويمكن سنها كالتالي: كلما طالت المرحلة الانتقالية، من انتصار الثورة إلى تثبيت النظام السياسي الجديد – أيًا كانت الحجج والمعاذير-، أُعطي الوقت لقوى الثورة المضادة لتنظيم صفوفها.
كلما زاد تدهور الاقتصاد، تفاقمت معاناة الناس وتزايد إحباطهم وفقدهم الآمال في الثورة، وضعفت حظوظ الثورة في التمكن والاستقرار. معنى هذا أن الخيار بين مصلحة السياسيين في أخذ كل وقت العراك والصفقات، ومصلحة الوطن في تثبيت الاستقرار بمنتهى السرعة.
اعترف بأنني أُصبت بالفزع عندما سمعت من الإخوة السوريين من يتحدث عن فترة انتقالية بثمانية عشر شهرًا. وكنت قد نبهت الإخوة السودانيين بعد نهاية حكم البشير إلى خطورة المرحلة الانتقالية الطويلة وتمّ ما كنت أخشاه. رجاءً، إخوتنا، دستور توافقي وانتخابات رئاسية وتشريعية وإقليمية وحكومة كفاءات سياسية تقنية لاستقرار كفيل بعودة العجلة الاقتصادية بأسرع ما يمكن، وإلا فستقدمون بإطالة فترة النقاشات البيزنطية سوريا مجددًا على قائمة طعام القوى الإقليميّة.
غلطة الثورة التونسية
نعم وألف نعم لكل مبادرات التهدئة والطمأنة لكل مكونات الشعب السوري وخاصة إخوتنا العلويين، وتهانينا الحارة لما أبدت قوات الثورة من حرص على ألا يحدث أي انتقام. كل هذا مشرف ونبيل ومطمئن، لكن إياكم من متلازمة ” بوس خوك ” التي انتهجناها في تونس؛ أي طيّ صفحة الإجرام في حق شعبنا، وخاصة التعذيب بحجة المحافظة على الوحدة الوطنية.
هذا خطأ كبير أدى تحت اسم العدالة الانتقالية (التي اعترف بأنني كنت أول مسؤول عن انتصابها وعملها) إلى إفلات المجرمين من كل عقاب وانخراطهم في تدمير الثورة، وإلى عدم تعويض الضحايا، وأخيرًا إلى انتهاء رئيسة مؤسسة العدالة الانتقالية في السجن بعد انتصار الثورة المضادة والانقلاب على الدستور والشرعيّة.
ليكن شعاركم ” لا عدالة انتقامية ولا عدالة انتقالية.. العدالة وبس”؛ أي عدالة تشمل رؤوس النظام وكبار المسؤولين عن القمع والسجن واغتصاب الحرائر، وألا تكون كمحاكم المهداوي في العراق والعشماوي في مصر؛ أي تمثيليات سخيفة وحبل الجلاد جاهز قبل الحكم. يجب أن تكون محاكمات عادلة شفافة بحضور مراقبين دوليين موثقة بالحجج والبراهين، وتأخذ كل الوقت الضروري. هكذا لن يتم فقط توثيق التاريخ وإنصاف الضحايا وإنما بناء أولى أسس دولة القانون.
غلطة الثورة الليبية
تركت الثورة نفسها تحت رحمة قوى عسكرية متصارعة وحد بينها هدف الإطاحة بالدكتاتور، وفرق بينها تباين المطامح السياسية والشخصية، فانتهى الأمر بتقسيم فعلي للبلاد حسب مناطق نفوذ هذه القوة أو تلك. وها هي ليبيا الحبيبة مقسمة فعليًا إلى دولتين على الأقلّ.
إن ذلك ما يجب تفاديه بكل وسائل الدبلوماسية والتفاوض والتنازل، لكن يجب عدم رفض استعمال القوة لفرض سلطة عسكرية واحدة، لأن كل تساهل في مبدأ وحدة القيادة العسكرية يعني تعبيد الطريق للحرب الأهلية والفوضى المدمرة، وعودة التدخل الخارجي بكل وقاحة.
أخيرًا وليس آخرًا ليسمح لي برسالة خاصة إلى الجيل الجديد من القادة العرب عمومًا والسوريين خصوصًا:
حتى لا تتواصل ولا تتكرر المآسي التي عرفتها شعوبنا، ثمة ثورة ذهنية يجب أن تحصل داخل العقل السياسي العربي مستقبلًا. يكفي ما أضعنا من زمن التاريخ، ويكفي ما دفعت شعوبنا من دماء ودموع ثمنًا لخيارات سياسية خاطئة، وأيدولوجيات غبية وشخصيات مريضة.
تجاوزت الأحداث والتجارب التقسيمات والثنائيات التي عشنا عليها عقودًا: رجعي/ تقدمي، قومي/ انفصالي، إسلامي/ علماني، الخطّ الفاصل اليوم هو بين الاستبداد والديمقراطية ولا شيء آخر. أي بين الاستبداديين أكانوا علمانيين أو إسلاميين، وبين الديمقراطيين لا يهم أن يكونوا علمانيين أو إسلاميين.
الديمقراطية التي يجب أن تحكم الوطن العربي ليست نسخة طبق الأصل من الديمقراطية الغربية. هي ديمقراطية سيادية – غير تابعة للغرب – اجتماعية – الحرية والعدالة الاجتماعية بالنسبة لها وجها نفس قطعة النقد، مواطنية أي مبنية على الحريات الفردية والجماعية والمساواة بين كل مكونات المجتمع، وهو ما يعطي للمواطنة فحواها الحقيقي وليس التضليلي.
أخيرًا لا آخرًا هي ديمقراطية اتحادية، هدفها الأخير بناء اتحاد بين الشعوب العربية الحرة ودولها المستقلة، كما نجحت في ذلك أوروبا بعد القضاء على النازية والفاشية والشيوعية.
البعد الأعمق تخلص العقل السياسي العربي من السم الزعاف الذي يمثله البحث عن الرجل القوي؛ أي الرجل العنيف، والحزب القوي والأيديولوجيا التي لا يأتيها الباطل من خلفها وأمامها. كل هذه الأوهام هي سبب خراب دولنا وشعوبنا.
لن نتحرر ولن نحقق شيئًا ولن نستعيد مكانتنا بين الأمم إلا عندما يصبح بديهيًا لكل عربي، أن قوة الشعوب في قوة المبادئ والقوانين والمؤسسات الديمقراطية التي تستخدم الأشخاص الأكفاء، لا التي يستولي عليها ويستخدمها الأشخاص الخبثاء.
يوم تصبح هذه البديهيات التي علمتنا إياها التجربة، الزاد الفكري المشترك لكل التيارات السياسية، أيًا كانت خياراتها التكتيكية، فإن الحلقة المفرغة البائسة التي ندور فيها منذ قرن ستكسر، وسنكون فعلًا قد أصبحنا نمشي على طريق مستقيم سيؤدي بنا إلى حيث نحلم بالوصول.
ولا بد لليل أن ينجلي
الجزيرة.
—————————-
السياسة التركية في الشرق الأوسط: العثمانية المتأرجحة/ عمرو حمزاوي
10 كانون الأول 2024
جمع بين اللاعبين الإقليميين الكبار من غير العرب في الشرق الأوسط، وهم تركيا وإيران وإسرائيل، جمع بينهم بين 2011 و2023، وعلى الرغم من تفاوت أهدافهم وسياساتهم، التوظيف الممنهج للأداة العسكرية بصور مباشرة وغير مباشرة والسعي المستمر إلى توسيع ساحات الفعل والتأثير.
فتركيا، كانت حكومتها قبل 2011، وتحت تأثير رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية ذي التوجه السياسي الإسلامي المنتمي إليه، تحتفظ بعلاقات جيدة مع جوارها الإقليمي المباشر، بدرجة عالية مع سوريا (التي ربطت الصداقة ومقولات «الممانعة» الخطابية تجاه إسرائيل بين رئيسها السابق بشار الأسد وبين أردوغان) وبدرجات أقل مع العراق وإيران. كانت تركيا أيضا تطور علاقاتها التجارية والاقتصادية والسياسية مع حكومات الخليج ومع مصر ومع البلدان العربية في شمال إفريقيا. وتفعل ذلك وهي تبتعد عن تحالفها الأسبق مع إسرائيل الذي كان قد تبلور برعاية أمريكية في خمسينيات القرن العشرين لمنع الاتحاد السوفييتي السابق من النفاذ إلى الشرق الأوسط بموارده البترولية ولمواجهة المد القومي العربي، علما بكون ذلك التحالف الثنائي بين تركيا عضو حلف الناتو وإسرائيل القريبة للغاية من الولايات المتحدة استمر إلى أن صعد أردوغان والإسلاميون الأتراك عبر سلسلة نجاحات انتخابية محلية وبرلمانية إلى سدة الحكم مع بدايات الألفية الجديدة وإلى أن عارضت أنقرة غزو واشنطن لبغداد في 2003 بينما ساندته تل أبيب.
غير أن حكومة أردوغان وإسلاميي العدالة والتنمية، وبعد سنوات الاقتراب من الحكومات في بلاد العرب، وجدت في انتفاضات 2011 وفي الأدوار التي لعبتها في سياقاتها حركات الإسلام السياسي فرصة استراتيجية كبرى لكي تصبح تركيا الراعي الإقليمي للإسلاميين وداعمهم للوصول إلى مواقع الحكم وقبلة الوساطة بينهم وبين الغرب الأمريكي والأوروبي المتوجس خيفة من نواياهم.
هكذا اندفعت أنقرة إلى دعم أحادي لجماعات الإخوان في تونس ومصر بعد سقوط رئيسي البلدين وعلى الرغم من غياب التوافق الشعبي وخوف قطاعات واسعة بين التونسيين والمصريين من الإسلاميين، وذهبت بعيدا في دعمهم في ليبيا وسوريا واليمن على الرغم من كون الانتفاضات الشعبية هناك استحالت حروبا أهلية. ونتيجة لذلك تبدلت العلاقات الدبلوماسية والسياسية الجيدة وروابط التجارة والاستثمار التي كانت تجمع تركيا مع جل بلدان الخليج ومع دولتي العراق وإيران المتخوفتين من صعود الإسلام السياسي السني، وتبدل أيضا إلى توترات ومواجهات وصراعات القبول العام لتركيا كنموذج شرق أوسطي للتقدم الديمقراطي والدولة المدنية بين عموم القوى العلمانية العربية وبين مؤسسات الدول الوطنية في بلدان الانتفاضات التي كانت تفضل دورا تركيا يغيب عنه الاندفاع الإيديولوجي والإسلاموية.
هكذا راحت تركيا بين 2011 و2020 تسلح المعارضة الإسلامية لنظام بشار الأسد في سوريا وتسلح الإسلاميين في ليبيا وتتدخل عسكريا في البلدين بصور مختلفة، وتتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتعادي الإطاحة بهم في 2013 وتتحول إلى موطن للمعارضة الإخوانية وتهدد المصالح المصرية الحيوية والأمنية في ليبيا، وتصادق وتدعم جماعات الإسلاميين في عموم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بما فيها الجماعات المسلحة والعنيفة والإرهابية ضاربة عرض الحائط بتحفظات عديد حكومات المنطقة والقوى الدولية.
بين 2011 و2020، تورطت أنقرة بقوة في الحرب الأهلية السورية وفي الحرب الأهلية الليبية، وصار الصراع هو جوهر علاقتها مع القاهرة، وابتعدت عنها الرياض وأبو ظبي والكويت والمنامة رفضا لسياساتها العدائية وتدخلاتها في الشؤون العربية، وتوترت علاقاتها مع طهران مع تهديداتها المستمرة لنظام بشار الأسد المدعوم إيرانيا وساءت علاقاتها مع بغداد خاصة مع تواصل العمليات العسكرية التركية في شمال العراق، ورتب دعمها لجماعات الإسلام السياسي ما يشبه الحرب البادرة بينها وبين كافة القوى الإقليمية الأخرى.
وفي المجمل، كانت أنقرة بين 2011 و2020 طرفا في العدد الأكبر من الصراعات الدائرة رحاها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومتورطة فيها بأشكال عسكرية مباشرة وغير مباشرة عديدة.
غير أن هذه السياسة التوسعية ذات الجذور التاريخية العثمانية وذات الخلفية الإيديولوجية الإسلاموية التي مارستها الحكومات المتعاقبة لأردوغان وحزب العدالة والتنمية بين 2011 و2020 استنزفت الكثير من موارد تركيا العسكرية والمالية والسياسية والدبلوماسية، وفرضت عليها توترات ومواجهات وصراعات مع الجوار الإقليمي ورفضا عاما لها عوضا عما كان قبل 2011 علاقات جيدة وتبادلات تجارية واستثمارية متنامية كان الاقتصاد التركي في أمس الحاجة إليها. وضعت هذه السياسة التوسعية والعنيفة تركيا على طرف النقيض مع اللاعبين العرب الكبار مصر والسعودية والإمارات، وأسفرت عن توترات إقليمية ودولية عديدة أحاطت بها.
ودفعت فداحة الثمن الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي فضلا عن الفشل الاستراتيجي العام الذي ارتبط بإخفاقات الإسلاميين المتتالية إن في الوصول إلى مواقع الحكم أو البقاء فيها على وقع خليط القلق والرفض الشعبي لهم، دفعت نخبة الحكم التركية إلى إعادة النظر في سياساتها تجاه الشرق الأوسط وأدواتها وإعادة ترتيب أوراقها بهدف خفض مناسيب التورط في الحروب الأهلية ومناسيب التوتر والصراع مع دول الجوار، وبهدف إحياء روابط التجارة والاستثمار والسياسة والدبلوماسية مع الحكومات العربية ومع إيران.
بين 2020 و2023، إذا، تراجعت تركيا نسبيا عن الدعم الأحادي للجماعات الإسلامية المسلحة في سوريا وإن لم تتخل بالكامل عنها، وتحولت إلى طرف فعال في عملية «الأستانة» التفاوضية مع روسيا وإيران التي هدفت إلى اعتماد تسويات سياسية تعيد استقرار دمشق. بل أن تركيا رغبت في الانفتاح الدبلوماسي على نظام بشار الأسد بعد أن أعادته البلدان العربية إلى جامعتهم، وقدم أردوغان عرضا للحوار بين الرجلين رفضه الأسد بسبب استمرار التسليح التركي للإسلاميين ووجود القوات التركية في شمال سوريا. تراجعت تركيا عن العداء المفتوح للحكومة المصرية وانفتحت على ترتيبات أمنية مشتركة في ليبيا نتج عنها شيء من الهدوء النسبي وبدأت حوارا أمنيا ودبلوماسيا معها أسفر عن تقييد دعاية المعارضة الإخوانية الموجهة ضد مصر. خفت وتيرة العمليات العسكرية التركية في العراق وتراجع دعمها العسكري والمالي لجماعات الإسلاميين المنتشرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومن ثم تحسنت علاقاتها مع بلدان الخليج وهدأت علاقاتها مع العراق وإيران. بدت التبادلات التجارية والاستثمارية مع عموم الجوار الإقليمي عائدة لمنحنى صاعد. بل أن أردوغان، وهو كان قد صار رئيسا بعد سلسلة من التعديلات الدستورية التي جعلت النظام السياسي التركي نظاما رئاسيا، انفتح قبل 7 أكتوبر 2023 جزئيا على حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو ونادى «بطبعنة» العلاقات بين البلدين.
بين 2020 و2023، كانت تركيا تغادر مواقع التوتر والصراع بالانسحاب من السياسة التوسعية ذات الخلفيات العثمانية والإسلاموية وتسعى إلى إعادة التأسيس لعلاقات طبيعية وبناءة مع جوارها الشرق أوسطي.
وبعيدا عن الحروب الكلامية بين أردوغان وحكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، تماسكت المغادرة التركية لمواقع التوتر والصراع في أعقاب حدوث «طوفان الأقصى» ونشوب حرب إسرائيل الوحشية على غزة ثم على لبنان. فقط في الجوار المباشر وفي السياق السوري، وبه لم تتضح بعد حدود الدور التركي في إسقاط الجماعات الإسلامية المسلحة لنظام بشار الأسد وتفاصيل صفقات الأيام الأخيرة بشأن سوريا بين عديد الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، عادت أنقرة إلى سابق سياساتها التوسعية وإلى توظيف الأدوات العسكرية.
كاتب من مصر
القدس العربي
—————-
ما الذي يكشفه انهيار النظام السوري عن المنطقة العربية؟/ رامي خوري
في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، وبعد هجوم خاطف لم يستغرق أكثر من أسبوعين، دخلت قوات المعارضة السورية إلى دمشق، وأعلنت نهاية نظام بشار الأسد. فرّ الرئيس وأسرته إلى جهة غير معروفة قبيل دخول المقاتلين إلى العاصمة.
يُعدُّ إسقاط نظام عائلة الأسد، الذي حكم سوريا نصف قرن، من أهم المنعطفات السياسية في تاريخ المنطقة العربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء دولة إسرائيل عام 1948. إنه يمثل قطعًا نهائيًا مع إرث الحكام العسكريين العرب الذين سيطروا على المجتمعات العربية وأفسدوها منذ خمسينيات القرن الماضي.
يحتفي الكثيرون بسقوط الأسد، بينما يتساءل آخرون عما سيحدث لاحقًا في ظل تداخل القوى المحلية والدولية في الصراع السوري. يدرك الشعب السوري بوضوح ما يريد: حياة كريمة، واحترامًا، وفرصة لإسماع صوته.
علينا أن نراقبهم بتواضع وهم يبنون نظامًا جديدًا ومستقرًا في بلادهم، وأن نتوقف عن التفسيرات الغربية السطحية المتعلقة بالتحليلات حول طول اللحى ونظريات المؤامرة.
لكن من الضروري الآن التأمل في معنى القصة المدمرة لحكم سوريا وحربها الأهلية. لم يكن نظام الأسد فريدًا، ولم يكن من صنع مجموعة من الطغاة المحليين فحسب، بل كان نموذجًا للإرث الواسع للقوة القمعية التي مارستها الأنظمة العربية المتسلطة، والتي ألحقت الدمار بالمجتمعات العربية وأذلت شعوبها لعقود، بمساعدة قوى إقليمية ودولية وجماعات غير حكومية متنوعة.
كان نظام الأسد أطول نظام استبدادي في المنطقة العربية، يستند إلى الجيش، ويحظى بدعم خارجي، ويتمركز حول عائلة واحدة. وخلال فترة حكمه، دُمّرت سوريا، وتضرر اقتصادها، وفُككت هويتها الوطنية.
تفضح التجربة السورية السمات المشتركة للأنظمة الاستبدادية العربية، وهي سمات لا تزال سائدة ويجب اجتثاثها من مجتمعاتنا. وتشمل هذه السمات غياب التعددية الحقيقية والمساءلة من خلال مؤسسات تشاركية ذات مصداقية، إضافة إلى نظام حكم يستند إلى القمع العسكري، والوحشية الشرطية، والسجن الجماعي، والتعذيب الجسدي والنفسي، فضلًا عن القتل المنهجي.
كما تشمل هذه السمات التخطيط الاقتصادي المركزي الذي يعزز الفساد بين النخب السياسية والاقتصادية، مما يتيح لهذه الفئات الوصول إلى الثروات والموارد العامة على حساب عامة الشعب. وقد أدى ذلك إلى تفاوتات صارخة في مستويات المعيشة، وجودة الحياة بين المناطق المختلفة، مع وجود تركز مفرط للثروة في أيدي قلة من الأفراد.
أُسست هذه الأنظمة على يد قادة عسكريين مثل جمال عبدالناصر، بعد ثورة 1952 في مصر، ثم تسارعت الظاهرة عقب هزيمة العرب في 1967، وصعود الضباط العسكريين، مثل حافظ الأسد، للحكم في الدول العربية.
أثبت هؤلاء الضباط، الذين فرضوا أنفسهم حكامًا، أنهم عاجزون عن خوض الحروب بفاعلية، كما فشلوا في إدارة شؤون الحكم، بما في ذلك تقديم الخدمات الأساسية، وتحقيق الاستقرار السياسي، وضمان رفاهية المواطنين خلال عقود من حكمهم.
ونتيجة لذلك، عانى معظم العرب، باستثناء المقيمين في الدول النفطية الغنية، من تدهور مستمر منذ التسعينيات في التعليم والرعاية الصحية وفرص العمل، فضلًا عن نقص الغذاء والماء والكهرباء وغيرها من الاحتياجات الأساسية.
تشير استطلاعات الرأي في المنطقة مرارًا إلى أن نسبة صغيرة من العرب – معظمهم في دول النفط أو ضمن النخب الصغيرة في دول أخرى – يعيشون حياة مريحة، بينما لا يتمتع معظمهم لا بحقوق سياسية ولا بحياة مادية كريمة.
عبر القمع المنهجي، حولت الحكومات العربية مواطنيها إلى مستهلكين سلبيين، مجردين من أصواتهم وحقوقهم في التعبير، ومحرومين من القوة الاجتماعية والسياسية. وقد دفعت هذه الظروف العديد من المواطنين إما إلى البحث عن الهجرة أو إلى الهجرة الفعلية، بحثًا عن حياة أكثر كرامة وأمانًا.
تحت ضغط القمع، اتخذ المواطنون العرب ثلاثة مسارات رئيسية، فهناك من تحدى السلطة، سواء عبر الاحتجاج السلمي أو الانضمام إلى حركات معارضة، وهناك من اندمج في نظام الفساد الحكومي، محاولًا تحقيق مكاسب شخصية أو تأمين حياته، بينما لجأ آخرون إلى الانسحاب والانغلاق، باللجوء إلى مجموعات دينية أو قبلية أو أيديولوجية أصغر تمنحهم شعورًا بالأمان والانتماء، في مواجهة تهديدات الدولة أو الاحتلال الإسرائيلي أو القوى الأجنبية.
في مواجهة هذا الواقع، كانت الحركات الإسلامية، سواء المسلحة منها أو السلمية، هي أكبر التحديات التي واجهت النموذج العسكري القمعي.
في سوريا، عندما قوبلت الاحتجاجات السلمية باستخدام مفرط للعنف العسكري، الذي شمل إطلاق النار الحي، والقصف بالمدفعية، والاعتقالات الجماعية، تحوّلت الانتفاضة سريعًا إلى صراع مسلح داخلي. وأسفر هذا عن تفكك التماسك الوطني، وظهور جماعات مسلحة متعددة، وفتح المجال أمام التدخلات العسكرية والسياسية من قوى خارجية.
ما حدث في سوريا يجب أن يكون نذيرًا لكل الحكام المستبدين في المنطقة العربية. لا يمكن أن تستمر المنطقة على هذا النحو، دون شرعية شعبية مستمدة من دستور أو انتخابات نزيهة.
من خلال تجربتي كصحفي شاهد على أوضاع المجتمعات العربية على مدى نصف قرن، أستطيع أن أؤكد أنه لم يمر بلد عربي بالاختبارات الأربعة لبناء الدولة المستقرة: الشرعية، السيادة، المواطنة، والتنمية البشرية المستدامة.
سيكون من الحماقة تجاهل الإشارات القادمة من سوريا، والتي تُظهر بوضوح الإرادة الراسخة للمواطن العادي في العيش بحرية وكرامة، رغم كل أشكال القمع العسكري والاضطهاد السياسي. إنها إرادة صلبة لا يمكن قهرها، مهما كان حجم التحديات الداخلية والخارجية.
نحن مذنبون إذا تجاهلنا هذه الرسائل واستمررنا في دعم الأنظمة السياسية والاقتصادية الفاشلة التي خذلت شعوبها.
الجزيرة.
——————————–
اتعظوا من طاغية دمشق!/ توفيق رباحي
10 كانون الأول 2024
بلغت الثورة التونسية على نظام زين العابدين بن علي ذروتها مع حلول كانون الثاني (يناير) 2011.
في نهاية الأسبوع الأول من ذلك الشهر شاركتُ في نقاش تلفزيوني حول تونس مع السياسي التونسي المنصف المرزوقي الذي كان منفيا في أوروبا آنذاك. كان الرئيس بن علي بدأ يبدي بعض الليونة من قبيل الانفتاح على إصلاحات سياسية ودستورية والقبول بالمعارضة وغير ذلك. كنت من الذين اعتقدوا أن ذلك تنازل من بن علي يجب على التونسيين اغتنامه والبناء عليه نحو مطالب أكثر، لكن رأي المرزوقي كان مختلفا تماما. ظل صارما وحادا في كلامه معتبرا أي كلام آخر غير السقوط بمثابة شتيمة. بقي متمسكا بأن بن علي يجب أن يسقط ويكرر عبارة «سيسقط الطاغية» مرة تلو الأخرى. قلت في قرارة نفسي إن هذا الرجل حالم كبير بينما تونس اليوم في حاجة لواقعية لا إلى أحلام.
بعد أربعة أيام سقط بن علي. في تلك الليلة صاح حالم آخر صيحته الشهيرة في أحد شوارع العاصمة تونس وسط سكون ليلي مخيف: يا توانسة بن علي هرب، المجرم هرب!
لديّ أصدقاء سوريون عانوا ويلات نظام سلالة الأسد كلٌّ على طريقته. يشتركون جميعا في المعاناة وفي رغبتهم الشديدة في رؤيته يسقط. لكنني لا أعرف سوريين كثيرين آمنوا بأنهم سيرون هذا السقوط في حياتهم. ليس سرا القول إن أسبابا موضوعية جعلت اليأس يستبد بنفوس الأغلبية الساحقة من السوريين، حتى أصبح حديث بعضهم عن سقوط الأسد يثير تندر أقرانهم العرب.
ورغم ذلك سقط نظام الأسد شرَّ سقوط ضاربا بكل التوقعات والتحليلات السياسية عرض الحائط. سقط بسهولة شديدة قد تجعل المرء يتساءل لماذا لم يتجرأ السوريون على فعلها من قبل. سقط بعد 13 عاما من التاريخ المفترض لسقوطه، أي عندما اعتقد العالم، وأغلب السوريين، أنه لن يسقط لأنه تجاوز خطر السقوط؛ وعندما أحضره العرب إلى قممهم الفاشلة وأعادوه إلى جامعتهم الكسيحة وفتحوا له سفارات في دمشق واستقبلوه في قصورهم الفخمة بسجاد أحمر طوله كيلومترات؛ وعندما اقتنع العالم بأن لا مناص منه ومن إعادة تدويره عملا بمقولة مَن تعرفه أفضل لك من الذي تجهله.
من المهم هنا الإشادة بالسوريين (وغيرهم) الذين، مثل المرزوقي، تمسكوا بأمل سقوط الديكتاتور وسط الإحباط وظلام اليأس الطويل. وفي المقابل، لا لوم على مَن نالت منهم الخيبات واستبد بهم اليأس.
هناك عبرتان في كل ما سبق. واحدة للشعوب وأخرى للحكام، والعرب الطغاة منهم خاصة. أما العبرة المشتركة للحكام والشعوب معا فهي أنه لا يوجد مستحيل مع عجلة التاريخ.
على الشعوب أن تؤمن بأن التغيير حتمية إنسانية وصيرورة إنسانية لأن دوام الحال من المحال. فكل ليل ومهما طال وكان حالكا يعقبه بالضرورة ضوء النهار. أن يتأخر التغيير ليس معناه أنه لن يأتي. وألَّا يحدث تغيير في حياتك لا يعني أنك تتوقف عن المحاولة أو أنه يصبح غير مهم وألَّا حاجة للآخرين به. لقد كرّر أجدادي في الجزائر انتفاضاتهم على الاستعمار الفرنسي عشرات المرات منذ دخوله في 1830، وصمَّموا على التكرار بمعدل مرة كل عشرة أو خمسة عشر عاما، وفي كل مرة يدفعون ثمنا باهظا من أرواحهم وممتلكاتهم، إلى أن جاءت سنة 1954 فكان القول الفصل وثورة أعقبها نصر كنس فرنسا كنسا من أرضهم.
أما الطغاة فلهم في هروب الأسد درس مجاني ثمين وعبرة بليغة. عليهم أن يحوّلوا الخوف الذي ينتاب بعضهم اليوم إلى ناقوس إيجابي. سيكون من الغباء السياسي بعد الآن أن يقول أحدهم «لا، ليس أنا» أو «نحن شيء مختلف عن الآخرين» وغيره من مثل هذا الكلام. سيقت العبارات ذاتها في 2011، فقالوا في تونس إن بن علي بنى نظاما أمنيا يستحيل إسقاطه، ثم سقط. وبعد تونس قال أزلام النظام في القاهرة إن «مصر حالة خاصة مختلفة عن تونس» وبعد أسابيع سقط حسني مبارك. بعد مصر قال غلمان القذافي في ليبيا إن النظام عندهم مبني بشكل يجعله عصيًّا على الصدمات، فاتضح أنه ليس نظاما أصلا وسقط بسرعة مثل الآخرين. إلى أن وصل دور الأسد فقيلت العبارة ذاتها ولم يسقط نظامه.
تباهى حلفاء الأسد آنذاك بأن رجلهم أفلح في إثبات خطأ الاعتقاد السائد وفي أن يكون الاستثناء لقاعدة السقوط بحنكته وذكائه. فاتهم أن الأمر مجرد تأجيل لسقوط محتوم وأن السؤال هو متى وليس هل.
اليوم يجب أن تصبح عبارة «الآخرون وليس نحن» مرادفا للتضليل والغدر في قاموس الحكام العرب. عليهم التوجس منها قدر المستطاع.
العبرة أنك إذا نجوت مرة لا يعني أنك ستنجو إلى الأبد، وأن نجاتك لا تعني ضوءا أخضر للمضي في طغيانك وفسادك، بل فرصة سماوية لتراجع حساباتك وتتدارك أخطاءك.
القضية الأخرى هي خطأ التمسك بالاعتقاد أن الأسد ضحية عوامل خارجية اجتمعت ضده، وبسبب إفراطه في الاستبداد وقمع شعبه. هذه القراءة سليمة إلى حد كبير، لكن القراءة الأخرى، والتي لا تقل أهمية، أن الأسد سقط أيضا بسبب فشله الاقتصادي وعجزه عن فعل أيّ شيء يذكر لاقتصاد سوريا عدا توفير مسببات النهب والفساد وثراء العائلة والأقارب.
مشكلة الحكام العرب، باستثناء دول الخليج لظروف خاصة ببلدانهم، أنهم عدا عن القمع الذي جعلوه أسلوب حكم، قادوا بلدانهم إلى أوضاع اقتصادية لا تقل سوءا عن وضع سوريا. ومن غير المستبعد، إذا ما توفرت بعض العوامل، أن تكون الظروف الاقتصادية والمعيشية للناس هي الصاعق الذي سيشعل ثورة تفعل بهم ما فعل زحف السوريين بالأسد.
أتمنى أن تكون نهاية طاغية دمشق فرصة لأقرانه العرب ليتذكروا بأنهم يشبهونه، وبأن لا شيء يمنع من أنهم قد يلقون مصيره، وأن «إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر» ليست مجرد قصيدة أطلقها أحدهم وانصرف لشأنه. لعلهم يعتبرون فتكون العبرة في مصلحتهم ومصلحة شعوبهم.
كاتب صحافي جزائري
—————————-
كيف نقرأ موقف ترامب مما يحدث في سوريا؟/ د. جمال قاسم
تابع العالم بدهشة بالغة التقدم العسكري السريع لقوات المعارضة السورية – هيئة تحرير الشام- نحو العاصمة دمشق ليتفاجأ بتحريرها الخاطف كسرعة الضوء من نظام عائلة الأسد وتاريخه الطويل في الهيمنة والقمع لخمسة عقود خلتْ.
ما أشبه الحالة السورية بالحالة الأفغانية وتقدّم حركة طالبان المدوّي، بيد أن هيئة تحرير الشام كانت في سباق عنيف مع الزمن تحسب فيه كل ثانية حسابها الدقيق حتى لا تعطي وقتًا كافيًا لأي تدخّل إيراني أو روسي يعرقل خطتها المرسومة بدقة منقطعة النظير في إسقاط نظام لا يعرف رحمةً ولا عطفًا، أذاق فيه الشعب السوري – ذا التاريخ التليد والحضارة السامية- ويلات من صنوف العذاب لا تخطر على بال بشر.
مضى نظام بشار الأسد إلى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليه لتبقى الإرادة الشعبية السورية الحرة تحدّد مصير بلدها وتمنح أملًا للمضطهدين في الأرض بأن للظالم نهايةً متى أراد الشعب يومًا طريق الحرية والعزة والكرامة.
خسرت روسيا وإيران وربحت تركيا
لم يجد نظام عربي – من الأنظمة العربية التي واجهت عواصف التغيير الشعبي خلال ثورات الربيع العربي – دعمًا إقليميًا ودوليًا مثل سوريا لوأد الإرادة الشعبية الحرة فيها. لقد مثّل التدخل الإيراني وعناصر حزب الله المسلحة والتدخل الروسي العسكري القوي طوق نجاة لنظام الأسد الذي كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط المهين، ليطول عمر النظام القبيح بعد اندلاع ثورة الربيع السوري أكثر من عقد من الزمان.
ولكن في المقابل أيضًا أضعف الاعتماد الكلي على روسيا وإيران النظام السوري من الداخل وجعله تابعًا فاقدًا الثقة بنفسه وبقدراته على الصمود، ولذا ما إن اندلعت الحرب الروسية المصيرية في أوكرانيا، وما صاحب ذلك كذلك من ضغوط اقتصادية ضخمة على الاقتصاد الروسي – جراء الحصار الاقتصادي الأميركي المفروض عليه - حتّى ضعف الموقف الروسي في سوريا عسكريًا، ولم يهب لنجدته كما في السابق.
وكذلك ينطبق الحال على إيران، حليف نظام الأسد القوي في المنطقة، حيث تعرضت إيران لهجمات إسرائيلية مؤلمة جعلتها تعيد حساباتها في دعم حلفائها في المنطقة مخافة جرها لصراعات لا قبل لها بها.
جاء الانتصار السوري رصيدًا هائلًا للتيار الإسلامي السني العريض، وسندًا لحكومة الرئيس أردوغان التركية وتعزيزًا لنفوذها في المنطقة. ولربما حاولت حكومة أردوغان من خلال دعمها السياسي والعسكري للمعارضة السورية تأمين حدودها الطويلة مع سوريا من أي مؤامرات مستقبلية سواء من جهات سورية موالية لإسرائيل، ربما تسبق جبهة تحرير الشام في توجيه الضربة القاضية لنظام سوريا المترنح أصلًا.
وستستفيد حكومة الرئيس أردوغان – بلا شك- من انتصارات المعارضة السورية في معالجة مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا وما صاحبته من استغلال سيئ من قبل المعارضة التركية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية الأخيرة.
لا شك أن الرئيس أردوغان هو الرابح الأكبر من هذه الانتصارات، مؤكدًا مرةً أخرى حنكةً سياسية بالغة في إدارة ملفات الأزمات بالشرق الأوسط. وربما تضغط الأطراف الدولية على هيئة تحرير الشام والقيادة والحكومة السورية الجديدة بورقة الاعتراف الدولي لتقديم تنازلات وضمانات أمنية لا تهدد مصالح القوى الدولية خاصة روسيا والولايات المتحدة.
بيدَ أنه من المحتمل أن تلعب الدبلوماسية التركية دورًا فعالًا كبيرًا في طمأنة القوى الدولية ومساعدة الحكومة السورية في تقديم خطاب سياسي معتدل لا يثير المخاوف الدولية من عودة تجربة شبيهة بتجربة تنظيم الدولة السابقة.
لا ريب أن إيران وروسيا قد خسرتا حليفًا موثوقًا به في سوريا لطالما حافظ على مصالحهما في المنطقة، وإن كلّفه ذلك تنكيل وتشريد شعبه. ولربما ساعدت تركيا المعارضة السورية في كيفية التعامل مع ملف القواعد العسكرية الروسية في سوريا، حيث يعتبر إغلاق هذه القواعد إغلاقًا نهائيًا لملف التدخل الروسي في الشأن السوري، الأمر الذي يتطلب الكثير من الحيطة والحذر السياسي في الوقت الراهن.
وبسقوط نظام الأسد فقدت إيران أحد أقوى حلفائها في المنطقة العربية، ولعلّ سقوط نظام الأسد أشدّ خسارة وأكثر إيلامًا لإيران من الخسائر العسكرية لحزب الله بسبب العدوان الإسرائيلي عليه.
وكما يعني سقوط نظام الأسد انقطاع حلقة الوصل بين حزب الله ودولة إيران الممتدة لأكثر من أربعة عقود، مما يضعف من قدرات حزب الله العسكرية، كما لم ينسَ الثوار السوريون الجرائم التي ارتكبها حزب الله في سوريا أثناء الحرب الأهلية ومساندته القوية لنظام الأسد.
وستدرك إيران كذلك أن حلفاءها في المنطقة لم يعودوا صمام أمان لأمنها القومي مما سيعجّل بخططها لإنتاج السلاح النووي في أقرب وقت ممكن مما يعني عودة الملف النووي الإيراني بقوة خلال الأشهر القادمة.
هل يسدل ترامب الستار؟
جاء هجوم المعارضة كاسحًا لإدراكها بمتغيرات الواقع الإقليمي والدولي ووجوب استغلالها سريعًا في فترة لا تتجاوز الشهرين هي كل الفترة المتبقية من دخول الرئيس الأميركي البيت الأبيض وما يترتب عليه من وقف نزيف الحرب الأوكرانية- غالبًا لصالح روسيا – مما يجعل بوتين قادرًا على مد العون العسكري لحليفه العربي الوحيد في منطقة الشرق الأوسط.
أدلى الرئيس المنتخب ترامب بتصريح في الوسائط الاجتماعية، موضحًا فيه ملامح سياسته القادمة نحو الصراع في سوريا بأن هذا النزاع لا يخصّ الولايات المتحدة، وبالتالي على أميركا أن تنأى بنفسها عنه.
والجدير بالذكر أن الرئيس المنتخب ترامب يواصل الإدلاء بتصريحات خطيرة تخص التجارة الدولية أو يهدد برفع الضرائب الجمركية ضد المكسيك وكندا والصين وغيرها، أو فيما يخص الحرب في غزة أو سوريا، وكأنه الرئيس الفعلي للولايات المتحدة متجاهلًا كليةً وجود الرئيس بايدن على سدة الحكم، ومخالفًا تقاليد أميركية عريقة تتمثل بألا يتدخل الرئيس المنتخب في الشؤون السياسية والعملية السياسية حتى اعتلائه سدة الحكم في البيت الأبيض في العشرين من يناير/ كانون الثاني القادم.
لم تنجح محاولة ترامب إبان فترة رئاسته الأولى في سحب القوات الأميركية – رغم عدم تجاوزها الألف جندي أميركي- من سوريا منتقدًا تدخل سلفه أوباما في الشأن السوري. ولربما وجدت إدارة ترامب القادمة نفسها تواجه معضلة حقيقية في سوريا التي بلا شك سيؤثر انتصار هيئة تحرير الشام فيها على معادلة توازن القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا.
ولكن هل يسدل ترامب الستار الأميركي في منطقة الشرق الأوسط؟ لا شك أن النفوذ الأميركي في العالم عامة وفي منطقة الشرق الأوسط وسوريا خاصة قد تضاءل كثيرًا. وربما لا يمتلك ترامب رؤية واضحة حول مستقبل النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وغيرها من مناطق الصراع في العالم بما فيها سوريا حاليًا.
وعلى الرغم من اهتمام ترامب البالغ بتقليل نفقات التدخلات الخارجية الأميركية بما فيها أوكرانيا، فسيجد أن سياسته – حال تنفيذها حرفيًا- ستكون أشبه بعملية إسدال الستار على عصر الهيمنة الأميركية.
ولكن سيحاول ترامب استخدام تصريحات أقرب للهيمنة السياسية منها للدبلوماسية، مثل إعلانه أن إعاقة إطلاق الأسرى الإسرائيليين سيواجه بجحيم رد أميركي، دون توضيح من يقصد تحديدًا بذلك، وماذا يعني بالجحيم مثلًا- هل هي حرب أميركية قادمة أم ضربات جوية قاصمة؟
ولقد سبق أن أدلى ترامب بتصريحات شبيهة بهذه – أثناء فترة رئاسته الأولى نحو كوريا الشمالية- لينتهي به المطاف مصافحًا زعيمها ومتبادلًا معه رسائل غزل سياسي لم يُكْشف عن مضمونها بعد.
يبدو أن موقف ترامب حيال سوريا سيكون شبيهًا بموقف إدارة بايدن الحالية التي يبدو عليها الارتياح الكبير لسقوط نظام الأسد حليف روسيا وإيران القوي. إلا أنّها في الوقت نفسه ستظل متوجّسة من الخلفية الجهادية لهيئة تحرير الشام، وستحاول بقدر المستطاع التواصل معها لتطويع إرادتها السياسية.
ولكن يبدو أن هيئة تحرير الشام أكثر نضجًا سياسيًا من أن تقع في براثن الأطماع الغربية. وعليه سيكون الملف الأمني وإدارة مؤسسات الدولة ودولاب العمل الحكومي لتوفير السلع والخدمات الضرورية للمواطنين السوريين، أهم أولويات الهيئة حاليًا.
كما ستحاول جاهدة تأمين حياة قيادتها السياسية والعسكرية من محاولات اغتيال تحاول المساس بروح التغيير السياسي في سوريا لمصلحة جهات أجنبية لا ترغب في عودة بلاد الشام سالمة معافاة لأمتها الإسلامية.
سيكون انتصار المعارضة السورية فألًا حسنًا للفلسطينيين ونذير شؤم لإسرائيل- حليفة أميركا القوية- باعتباره سيمهّد الطريق لقيام أول نظام إسلامي على حدود إسرائيل قوامه جيش أدهش العالم بسرعته الضوئية في التحرك والحسم العسكري، مما يفسّر ضرب إسرائيل مخازن أسلحة سورية كانت تحت إدارة جيش بشار الأسد خشية وقوعها في يد هيئة تحرير الشام.
ولطالما شعرت إسرائيل بالأمن حينما كان نظام عائلة الأسد في الحكم، ولذلك لم تكن تخشى حينئذ من أسلحته الكيماوية التي لم يستخدمها نظام الأسد إلا لإبادة شعبه الأبي.
ستحاول إسرائيل جاهدة استفزاز جبهة تحرير الشام بغية تطويعها مبكرًا أو مواجهتها باصطناع العديد من المشاكل الأمنية والدولية لها حتى لا تقوم لها قائمة.
لقد حكمت عائلة الأسد سوريا طوال خمسين عامًا، بقبضة حديدية لا تعرف الرحمة والشفقة، بيد أنه لم يستغرق الأمر أكثر من اثني عشر يومًا لينزع الله ملكهم نزع عزيز مقتدر، فهل يتعظ الطغاة وطواغيت الأرض.
————————-
سوريا: سقوط الأسد وارتدادات الربيع العربي؟/ حسين مجدوبي
10 كانون الأول 2024
مثلما يحدث مع الزلازل، الجميع يعرف بأن منطقة معينة يضرب فيها الزلزال يوما، ولكن لا أحد يعرف بالتأكيد التاريخ المحدد لوقوعه، هو ما يحدث في العالم العربي من تطورات وهزات جيوسياسية عميقة، أبرزها ما يجري في سوريا بانهيار النظام الجمهوري – الملكي لعائلة الأسد وزبانيته يومي 7 و8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 وقد تكون أنظمة أخرى مرشحة. ولعل التساؤل الذي يتردد الآن هو هل ما يجري حلقة من حلقات الربيع العربي؟
وهكذا، يعتبر العالم العربي منطقة زلازل حقيقية، تسجل زلزالا تلو الآخر بشكل مفاجئ، يعلم الجميع بوقوعها، لكن لا يتم اتخاذ البناء المناسب للتخفيف من تأثيراتها، التي قد تكون خطيرة عندما تضرب. وإذا كانت الزلازل الطبيعية تقع بسبب تحرك الصفائح التكتونية، واهتزاز سريع ومفاجئ للأرض ناتج عن تعاظم الضغط الناشئ عن إزاحة في الطبقات الصخرية تحت سطح الأرض، فهذا تعادله في العالم العربي سياسيا، صفائح تكتونية من نوع آخر. نتحدث عن وجود عناصر تفجر الوضع مثل الفقر وخروقات حقوق الإنسان وسرقة ونهب أموال الشعب وتهريبها إلى الخارج وجعل أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والقضائية والعسكرية والاستخباراتية في خدمة الفرد ومجموعة الفاسدين، التي تدور في فلكه وتحتكر شعارات الوطنية وتتفنن في الحديث عن العدو الخارجي والداخلي، بينما هي تشكل أكبر عدو للوطن والشعب. وقد أظهرت تجارب إسقاط طغاة من نوع المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي نموذجا حيا في هذا الشأن، وها هو بشار الأسد ينضاف إلى اللائحة، وهي اللائحة التي ما زالت مفتوحة.
كثيرة هي التساؤلات المطروحة حاليا ومنها، نوعية التكتيك العسكري العالي للمعارضة، أو الجماعات المسلحة وهو نسخة من التكتيك التركي، الأمر الذي يؤكد كيف تدرب هؤلاء في الكليات العسكرية التركية، ثم مناورات روسيا للحفاظ على قواعدها العسكرية طرطوس البحرية وحميميم الجوية، ثم مآل التعاون العسكري مع إيران، على الرغم من الاختلافات المذهبية الدينية، وكيف سيكون موقف المسلحين الجدد من حرب قطاع غزة. غير أن التساؤل المركزي الآن هو هل يمكن اعتبار ما يجري في سوريا هو حلقة من حلقات الربيع العربي في صيغة جديدة ومغايرة. حتى الآن يتم التعامل مع هذا التساؤل بنوع من الريبة والشك والتوجس، تتساءل الأنظمة العربية هل هي موجة من التغيير مقبلة، وبدورها تنتظر الشعوب بدهشة لما يقع في سوريا وهل سينتقل إلى دول أخرى.
في البدء ورغم شتى التأويلات، تعتبر الجماعات المسلحة بقيادة الجولاني بشكل أو آخر امتدادا للانتفاضات التي شهدتها سوريا في إطار الربيع العربي، الذي انفجر نهاية 2010 وبداية 2011، ولا تعتبر امتدادا لانتفاضة أخرى، أو عامل آخر مثل حرب العراق، على الرغم من العوامل الجديدة التي طرأت ومنها الخارجية، حيث تبقى النواة هي نتاج الربيع العربي، هي نتاج سنوات طويلة جدا من القتل والاغتيال والقهر.. هذا يبرز بعض الأطروحات وكنت من المدافعين عنها في هذا الركن منذ سنوات وفي كتابي «انتفاضة الكرامة في العالم العربي» الصادر باللغة الإسبانية عام 2012، بالتأكيد أنه يجب رؤية الربيع العربي مثل مسلسل ممتد في التاريخ على شاكلة النهضة الأوروبية، أو إقامة الدول الأوروبية للديمقراطية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إذ أن تاريخ الأحداث لشعب ووطن، أو أمة بمفهومها الواسع مثل العربية – الإسلامية لا يعد مباراة في كرة القدم، أو رياضات أخرى مرتبطة بالزمن القصير جدا، بل هي منعطفات تاريخية تخضع لما يلي:
أولا، فترة زمنية تشمل جيلين أو ثلاثة أجيال لترسيخ فكرة التغيير لتحقيق تغيير جذري حقيقي للانتقال إلى مرحلة مختلفة، خاصة في حالة العالم العربي والإسلامي، الذي خضع لقرون من هيمنة الفكر الظلامي، ثم الاستعمار، وأخيرا أنظمة ديكتاتورية وسلطوية بعضها من أسوأ الأنظمة خلال الخمسين سنة الأخيرة في العالم مثل حالة النظام السوري. وبالفعل، فقد ترسخت فكرة وحلم التغيير لدى الشعوب العربية حاليا، فرغم عودة الديكتاتورية في دول مثل مصر وتونس والفوضى في أخرى مثل ليبيا واليمن، أصبحت الشعوب العربية تتوق للتغيير لأنها لا تريد أن تكون حالة شاذة بين شعوب العالم وفي التاريخ، أي قدرها هو أنظمة ديكتاتورية. ويمكن الاستشهاد في هذا الصدد بدول أمريكا اللاتينية، فقد شهدت بداية الديمقراطية في العقود الأولى من القرن العشرين، لكنها سقطت لاحقا في يد أبشع الديكتاتوريات العسكرية مثل حالتي تشيلي والأرجنتين والآن تعيش في ديمقراطيات تحاكم رؤساءها.
ثانيا، هذا المسلسل يواجه تحديات كبرى يمكن تصنيفها في حالة الربيع العربي بـ»الثورة المضادة» كما وقع في أوروبا في القرن التاسع عشر ومثال أمريكا اللاتينية السابق، وهي إصرار شريحة من المسؤولين والمواطنين على رفض التغيير والإبقاء على الوضع السائد بالعنف المفرط. وهذا يترتب عنه نكسات في بعض الأحيان، توحي بأن التغيير مستحيل. وبالفعل رأينا بعد الربيع العربي كيف تحركت دول عربية وأجنبية، لتشكل الثورة المضادة لوقف مسلسل التغيير، وروجت لسردية سعت للتحذير من الربيع العربي، وكأنه كفر وزندقة وفوضى. وأحيانا، قد يحمل التغيير جماعات تحركت باسم الحرية وتصبح ضد الحرية، وقد يحدث هذا في سوريا بسبب طبيعة المقاتلين المنحدرين سياسيا من الفكر الإسلامي السياسي المتشدد، ويقدمون أنفسهم حاليا بأنهم براغماتيين سيحترمون على الأقل الحد الأدنى من الديمقراطية، التي ستضمن التعايش بين مختلف الإثنيات والمذاهب في هذا البلد.
ثالثا، تلعب وستلعب قوى أجنبية دورا يختلف بين الثانوي والرئيسي في توجيه دفة تطورات الأحداث، وسيعتقد المواطن أن كل شيء مخطط له في مكاتب الدراسات الاستراتيجية في الغرب، وما الشعوب سوى دمية تتقاذفها مصالح الدول الكبرى. والواقع أن الدول الإقليمية والقوى الكبرى تتأقلم مع التغييرات وتبادر بإجراءات توحي بأن كل شي مخطط له سلفا.
ختاما، وعليه، طالما يستمر القمع وخروقات حقوق الإنسان ونهب الثروات وغياب الديمقراطية في العالم العربي، سيستمر حلم الربيع العربي في صيغ مختلفة لأن الشعوب العربية لا تريد أن تكون حالة شاذة بين شعوب العالم، أي قدرها أنظمة سلطوية، وأن مفهوم الربيع العربي هو أوسع وأشمل وأصبح يعني «العيش في ظل الكرامة والحرية» وأن على الحكام التعلم من التجارب السياسية حتى لا يكون مصيرهم مثل بشار الأسد وحسني مبارك والقذافي و..
كاتب مغربي
القدس العربي
—————————
انتصار الثورة السورية: انعكاسات وتحديات/ محمد عايش
10 كانون الثاني 2024
انتصار الثورة السورية بعد 13 عاماً من اندلاعها وتحرر الشعب السوري من الظلم والاستبداد والقهر، يُشكلُ تحولا استراتيجياً وجذرياً هائلاً في المنطقة العربية برمتها، فضلاً عن أن سوريا بدأت فصلاً جديداً في تاريخها، بعد أن نجحت في الإطاحة بالعائلة التي أذاقت البلاد والعباد سوء العذاب لعقود طويلة.
لا شك في أن الإطاحة بنظام بشار الأسد وانتصار الثورة ضد النظام، بعد كل هذه السنوات، يؤكد أن ثورات الربيع العربي لم تكن قد انتهت كما ظن البعضُ سابقاً، ولا شك في أن الثورات هي عبارة عن موجات متباينة، وثمة الكثير من الأمثلة في التاريخ البشري على الثورات التي استمرت لسنوات قبل أن تنتصر، وثمة أمثلة على شعوبٍ دفعت أثماناً باهظة، كما دفع السوريون من أجل أن تحصل على حريتها وتستعيد كرامتها وتتخلص من القهر والقمع والطغيان.
من المعروف أن الثورة الفرنسية استمرت 10 سنوات عندما بدأت في عام 1789 وانتهت الى الانتصار في عام 1799، أما الثورة الأمريكية فاستمرت 18 عاماً حتى انتهت الى الانتصار في عام 1783، كما أن الثورة الجزائرية استمرت ثماني سنوات وانتهت بإعلان الاستقلال في الخامس من تموز/ يوليو 1962 وخلالها دفع الجزائريون أكثر من مليون ونصف مليون شهيد من خيرة أبناء البلاد حتى يصلوا إلى لحظة التحرر والخلاص. ثمة أمثلة كثيرة في التاريخ البشري على ثورات التغيير التي استغرقت مدداً طويلة، وها هي الثورة السورية تُضاف إلى هذا السجل المشرف والمشرق. ما حدث في سوريا يحمل الكثير من الدلالات وفيه الكثيرُ من الدروس والعبر التي ينبغي التوقف عندها:
أولاً: هذا الانتصار الكبير للشعب السوري، يؤكد أن موجة التغيير التي بدأت بثورات الربيع العربي في عام 2011 لم تنتهِ بعد، وأنَّ المنطقة العربية ما زالت تشهد الكثير من التحولات، بل ربما تكون المنطقة على موعد مع موجة ثانية من التغيير.
ثانياً: القمع والقهر والقوة والحصول على الدعم العسكري الأجنبي، لا يُمكن أن يكون ضمانة للبقاء في السلطة ولا الاستقرار، وهذا ما عبرت عنه كل من روسيا وإيران في تصريحات متباينة ومتفاوتة قالت فيها، إن الجيش السوري الموالي لنظام الأسد لم يقاوم المقاتلين المسلحين وفر أمام تقدمهم، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى فرار بشار الأسد ذاته من البلاد، أي أنهم قالوا بكل صراحة إنهم لا يستطيعون تقديم الدعم لنظام لا يحمل في نفسه مبررات البقاء والصمود، ولم يعد جيشه قادرا على الدفاع عن نفسه.
ثالثاً: إرادةُ الشعوب لا تُقهر وانتصار الشعوب هو سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير. وهذا درس بالغ الأهمية يتوجب على الأنظمة العربية التي لا تزال قائمة أن تتعلمه، وأن تتوقف عن القمع والقهر، لأن الضمانة الحقيقية لبقائها هو رضا الناس لا قهرهم وقمعهم، وهذا ما أجمع عليه أغلبُ فقهاء السياسة، ومن بينهم المفكر الفرنسي الشهير جان جاك روسو، الذي تحدث عن نظرية «الإرادة العامة» التي قال إن النظام السياسي – أي نظام سياسي – يستمد شرعيته منها، وهذه قد يتم التعبير عنها بالانتخابات أو بالاستفتاء أو بالرضا العام.
لكن الأهم من كل هذه الدلالات والإشارات هو أن القوى السياسية في سوريا أمام اختبار بالغ الأهمية اليوم، حيث عليها بناء دولة مدنية ديمقراطية حرة، تستوعب كل أبنائها بعيداً عن الطائفية والجهوية والمحاصصة، وبعيداً عن المغالبة والقهر، لأن مستقبلاً مشرقاً لسوريا سوف يعني بالضرورة صلاح المنطقة بأكملها، تماماً كما كان العنف والفوضى ينعكس سلباً خلال السنوات الماضية على المنطقة برمتها. خلال الفترة الماضية كان النظام السوري هو الملهم لكل الثورات المضادة في المنطقة، وكانت المجازر والفوضى في سوريا هي البعبع، الذي يتم استخدامها لإخافة شعوب المنطقة وترهيبها من أي تغيير، واليوم قد يكون التحرر والتحول السلمي والديمقراطي والحر في سوريا هو الملهم أيضاً لتحول إيجابي على مستوى المنطقة بأكملها. ولا شك في أن الحرية في بلد عظيم بحجم سوريا كانت تستحق الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون.
كاتب فلسطيني
————————
تقسيم سوريا… هل تتوارى “الفزاعة” أم يدخل حيز التنفيذ؟/ بهاء الدين عياد
الثلاثاء 10 ديسمبر 2024
أدت التحولات السياسية في سوريا إلى تبدل خرائط إقليمها ومساحته وأوزان اللاعبين المؤثرين فيه حتى شملت التغيرات ألوان علم البلاد وشعارها واسمها الرسمي، وقد شهدت الدولة السورية عمليات مختلفة ومستمرة لإعادة بناء الدولة وتشكيلها.
على خلاف ما روجت له الآلة الدعائية للنظام السوري على مدار 13 عاماً من أن سقوط نظام بشار الأسد سيعني تقسيم سوريا حتماً إلى دويلات وتفتيتها إلى كيانات طائفية وعرقية، كنتيجة طبيعية لتحول الثورة إلى حالة الحرب الأهلية على مدار سنوات، ولكن مع انهيار رأس النظام تبرز من جديد زاوية حاسمة في مراقبة اتجاهات الوضع السوري الراهن بعد إعلان المعارضة عن دخولها إلى العاصمة دمشق ورحيل بشار الأسد، ومتابعة مسارات إعادة بناء الدولة السورية لنفسها، وهو مدى تمسك قوى المرحلة الانتقالية بوحدة الدولة السورية ومركزيتها، في مقابل الدعوات إلى الفيدرالية. فهل ما حدث صبيحة أول من أمس الأحد الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري يعد إعلاناً لنهاية فزاعة التقسيم التي استخدمها النظام وداعموه لتشويه المعارضة، أم بداية فعلية لتنفيذ مخطط الفيدرالية أو التقسيم الفعلي؟
تاريخياً أدت التحولات السياسية في سوريا إلى تبدل خرائط إقليمها ومساحته وأوزان اللاعبين المؤثرين فيه حتى شملت التغيرات ألوان علم البلاد وشعارها واسمها الرسمي، وقد شهدت الدولة السورية عمليات مختلفة ومستمرة لإعادة بناء الدولة وتشكيلها بداية من الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان وتقسيم البلاد عام 1920 وإخضاعها للحكم المباشر تحت “الاتحاد الفيدرالي السوري” عام 1922، مروراً بالوحدة بين دمشق وحلب داخل “الدولة السورية” عام 1925، مروراً، أيضاً، باستقلال لبنان عن سوريا الفرنسية عام 1943، ووصولاً إلى نهاية أولى محاولات الوحدة العربية، وخروج دمشق عن عباءة “الجمهورية العربية المتحدة” بانفصال سوريا عن مصر بعد انقلاب عسكري سوري عام 1961، ثم خسارة هضبة الجولان أمام إسرائيل التي تحتلها منذ حرب 1967، ليضاف كإقليم حدودي محتل داخل الدولة السورية جنباً إلى جنب مع خسارة إقليم لواء إسكندرون الحدودي السوري الذي تحول اسمه إلى “محافظة هاتاي” التركية.
ويرى مراقبون أن سوريا أمام أول تحول سياسي في تاريخها لا يتم من خلال انقلاب عسكري كما جرى خلال حقبة الخمسينيات والستينيات وما بعدها، وأن نهاية نظام الحزب الواحد الذي سيطر على الدولة المركزية السورية لمدة تجاوزت نصف قرن، وهرب رئيسه بشار الأسد عن العاصمة بعد 11 يوماً عن بدء الهجوم المفاجئ عليها بعد أن ظل ممسكاً بسلطته بها في وجه الثورة عليه لمدة زادت عن العقد، سيكون بمثابة نهاية للنظام وليس انهياراً للدولة السورية، كما يرى النظام، ويعتقد البعض أن نهاية النظام المفاجئة للبعض استغرقت سنوات وكانت متوقعة، ومن ثم فإن الحالة السورية مهيأة للانتقال إلى مرحلة جديدة يمكن أن يتحدد فيها شكل الدولة بناءً على دستورها المستقبلي، ولكنها تظل أمام سيناريوهات الأمر الواقع والتدخلات الإقليمية التي يمكن أن تؤدي إلى تصعيد وتفاقم الصراع، وبخاصة مع خسارة إيران أحد أقوى حلفائها من أنظمة وميليشياتها بالمنطقة على حد سواء، ووضع الميليشيات المدعومة منها في سوريا بعد سقوط الأسد، ودور وموقف ومستقبل الحضور والوجود العسكري للولايات المتحدة وروسيا في سوريا، ومسارات الصراع بين تركيا والأكراد.
فزاعة تقسيم سوريا
ظل الحديث عن “وحدة سوريا” مركزياً في خطاب النظام على مدار سنوات الأزمة تبريراً لما يقوم به من عمليات عسكرية وأمنية لقمع انتفاضة الشعب ومواجهة التنظيمات الإرهابية التي ظهرت على ساحة الفوضى السورية خلال السنوات الأخيرة، وفي اتصاله الهاتفي الأخير مع نظيره الإيراني مسعود بزشكيان، وقبيل أيام من رحيله عن قصره الرئاسي، حذر الرئيس السوري السابق بشار الأسد من أن الغرب يحاول تقسيم سوريا، واصفاً ما يجري من تصعيد في سوريا والمنطقة بـ”محاولات لتفتيت دول المنطقة وإعادة رسم الخرائط من جديد”.
ومن خلال هذه “الفزاعة” تمكن النظام ليس فقط من سحق معارضيه، بل ساعدته في تحسين صورته إقليمياً ودولياً ومد الجسور نحو الخصوم من جيرانه الداعمين للثورة والمتوجسين من ظهور كيانات انفصالية على انقاض سوريا كما هي الحال بين تركيا والأكراد في شمال شرقي سوريا، لتبدأ مرحلة التقارب الأخيرة بين أنقرة ودمشق، فضلاً عن حشد مزيد من دعم مؤيديه عبر التخويف من ظهور كيان يسيطر عليه المتطرفون، والتأثير في مواقف دول المنطقة المتمسكة برفض سيناريو التفتيت، فضلاً عن مخاطبة مصالح بعض القوى الكبرى في العالم مثل روسيا والصين.
ويذهب حسام طالب الكاتب والباحث السياسي السوري إلى أن “النظام نجح لعقود في خداع الشعب السوري من خلال فزاعة تقسيم سوريا ونشرها للإرهاب في المنطقة، مما جعل هناك التفافاً حوله منعاً لتقسيم سوريا، لكن بعد سقوط النظام تبين أن النظام هو من أسس لتقسيم سوريا وجعلها ساحة للفوضى، بتطبيق شعاره إما أنا، وإما الفوضى، بعد دخول المعارضة وأدائها الأخلاقي والإنساني مع كل مكونات الشعب السوري، وكان هذا غائباً عن الشعب السوري، ما سهل دخول المعارضة لدمشق نتيجة انتهاء وهم هذه الفزاعة، ولكن ما زلنا في خطر التقسيم، وهناك حاجة إلى توحيد فصائل المعارضة وقوات الجيش لتجاوز خطر التقسيم، وتجاوز هذه المرحلة مبدئياً”.
الكيان السني أم الكردي؟
مع اقتراب نهاية الأسد برز الحديث مجدداً عن “الكيان السني” في إشارة إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة السورية في إدلب، إضافة إلى مساحات تقدمها في محافظات حلب وحماة وحمص، وأن ما يجري أصبح إعلاناً لظهور هذا الكيان، لتعيد للأذهان تجربة ولادة “روج آفا” في شمال شرقي سوريا، حينما أعلن الأكراد في مارس (آذار) 2016 من محافظة الحسكة (شمال شرق)، عن إقرار النظام الفيدرالي في المناطق الخاضعة لسيطرتهم شمال البلاد، وهو ما رفضه النظام ومعظم المعارضة السورية آنذاك أيضاً، لكن هذا الموقف لم يمنع الأكراد من بقاء سيطرتهم على ثلث مساحة سوريا. يضاف إلى ذلك الآن، مما يشار إليه بالكيان العلوي في الساحل الذي قامت عليه سوريا الأسد وكرسته سنوات الحرب الأهلية والانقسام، وأخيراً يطل من جديد الكيان الدرزي في السويداء ذات الغالبية الدرزية، مع مشاركة التشكيلات المسلحة المحلية من السويداء ودرعا الجارتين في الجنوب السوري المحاذيتين للحدود مع الأردن في غرفة العمليات المشتركة لفصائل المعارضة السورية لإسقاط النظام.
بدوره يعتقد حسام طالب أن “سيناريو ظهور كنتونات طائفية في سوريا، بخاصة سنياً كان قائماً قبل فترة، وتعزز بتكريس الوضع الانقسامي الراهن الذي ظل لسنوات خلال سيطرة النظام، لكن هناك وضعاً مختلفاً مع تعامل المعارضة السورية في حمص وحلب وحماة مع الطوائف والإثنيات المختلفة بطريقة استيعابية وبداية حالة يمكن خلالها توحيد القوى السياسية السورية، والتفاف الشعب حول المعارضة، لكي لا يكون هناك كيان سوى الجمهورية العربية السورية لكل السوريين، لكن لا يزال خطر التقسيم قائماً إذا لم يتوحد السوريون في مؤسسات واحدة سواء الدفاع والأمن والبرلمان والحكومة، وبخاصة في ظل التدخلات الأميركية والتركية في شمال سوريا، والضربات الإسرائيلية المتكررة”.
ويعتقد البعض أنه لم يعد هناك مبرر لوجود كيان سني في ظل تحول ميزان القوى نحو المكون السني ليصبح ممثلاً في معادلة السلطة والحكم في مستقبل سوريا، وأن هذا الفاعل الجديد في المشهد السوري يوازيه في القوة المكون الكردي الآن، وليس العلوي، ومن الممكن أن تنشب الخلافات بين الجانبين على أساس العلاقة بالنظام خلال الثورة والتباين الأيديولوجي بين الجانبين.
من جانبه يرى السيد عبدالفتاح الباحث في الشأن الكردي مدير “مركز القاهرة للدراسات الكردية” أن النظام السوري كان يتيح للأكراد هامش حرية وسلطة أكبر في ظل ضعف النظام، وفقدانه السيطرة على مساحة واسعة من شمال سوريا، ولكن الخطر الأكبر كان على مشروع الأكراد كان تركيا، ولذلك من الممكن أن تلجأ تركيا والفصائل المعارضة المدعومة منها، بصورة مباشرة، بمحاولة إزاحة السيطرة الكردية على بعض المناطق، بخاصة أن بعض التشكيلات المسلحة المدعومة مباشرة من تركيا دخلت في اشتباكات بالفعل مع “قسد” في بعض مناطق سيطرتها، وحالياً لا يمكن القول إن الأكراد هم أكبر الخاسرين بعد الأسد، طالما استمر تحالفهم مع الولايات المتحدة التي ستحافظ على مناطق نفوذها ووجودها العسكري في سوريا، ولكن وضع الأكراد لم يعد سهلاً بعد الآن، وبخاصة بعد تأكيد أنقرة على عدم قبولها شرعية أي فرع لـ”حزب العمال الكردستاني”، وإمكانية استعادة المعارضة بعض المناطق ذات الغالبية العربية التي تنتشر فيها “قوات سوريا الديمقراطية” ذات الغالبية الكردية مثل دير الزور ومنبج. ولفت الباحث، كذلك، إلى حدة الخلافات الأيديولوجية بين المعارضة والأكراد، إذ ينظر البعض من أطراف المعارضة ذات الخلفية الدينية للأكراد كطرف علماني أو يصل الأمر للاتهام الصريح “بالإلحاد”.
وفي مقابل الحديث عن الغلبة للمكون السني وقوى المعارضة، قال القائد بإدارة العمليات العسكرية في المعارضة السورية أحمد الشرع، عقب وصوله إلى دمشق إن “النصر الذي تحقق هو نصر لكل السوريين”، وشدد على أن “الرئيس المخلوع بشار الأسد نشر الطائفية واليوم بلدنا لنا جميعاً”، مع إعلانه بقاء رئيس حكومة النظام السوري السابق محمد غازي الجلالي مشرفاً على المؤسسات العامة حتى تسليمها.
وعلى أي حال، يؤكد عبدالفتاح أن التمسك بالإدارة الذاتية للمناطق الكردية التي تسيطر عليها “قسد” سيظل مطلباً أساساً للمكون الكردي في شمال سوريا، فالجميع يرفع شعار “سوريا الموحدة”، لكن سيتمسك الأكراد، إلى جانب ذلك، بالإدارة الذاتية أي الحكومة المحلية التي تدير المنطقة، إضافة إلى صيغة مناسبة لدمج ميليشيات “قسد” في الجيش السوري النظامي، وحتى الآن “يهدد تطور المشهد السوري بعض مكاسب القوى الكردية، لكنه يتيح أمامها فرصاً أخرى لم تكن قائمة في ظل النظام، مثل سيطرتها على مطار القامشلي بعد فقدان النظام له أخيراً، أما على المدى البعيد فهي تطمح إلى وضع يكون شبيهاً بسلطة إقليم كردستان العراق”.
هل بدأ سيناريو التقسيم؟
لا يزال الصراع في سوريا مستمراً، ومن المبكر الحديث عن مآلات ما يحدث، ولكن مع ختام مشهد رحيل الأسد، ستدخل سوريا مرحلة جديدة من التجاذبات والاستقطابات التي تفرضها طبيعة الساحة السورية المتنوعة طائفياً وعرقياً ومناطقياً، إذ سيكون شكل الدولة السورية وتقاسم السلطة فيها ودور الجيش الوطني السوري النظامي المستقبلي، ومحددات أساسية في ما يتعلق بوحدة سوريا أرضاً وشعباً ومستوى مركزية نظام الحكم والإدارة.
وعلى رغم الضربات الإسرائيلية القاسمة التي تعرض لها “حزب الله” في لبنان، تثور التساؤلات في شأن موقف الحزب وحضوره السوري، وبخاصة في ظل تقدير واشنطن على لسان مبعوثها آموس هوكشتاين أن الوضع في سوريا يضعف “حزب الله” وإيران، مما يعني أن سوريا لا تزال في وجهة نظر واشنطن ساحة لتصفية الحسابات مع خصومها في المنطقة، ولا يختلف الموقف بالنسبة إلى الميليشيات العراقية المدعومة من إيران، وهذا ما عكسته مطالبة أبو محمد الجولاني قائد “هيئة تحرير الشام” الذي بدأ في استخدام اسمه الحقيقي، أحمد الشرع، لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بعدم تدخل ميليشيات “الحشد الشعبي” في سوريا، وأن “ينأى بالعراق من أن يدخل في أتون حرب جديدة”.
وبينما ظهر الشرع في مقطع شهير خلال إدارته المعارك في مقطع مصور يحذر فيه من تدخل عراقي بعد اتصال السوداني بالأسد، أكد الناطق باسم الحكومة العراقية باسم العوادى أن بلده لا يسعى إلى التدخل العسكري في سوريا، محذراً من أن تقسيم سوريا “خط أحمر للعراق”.
ويرى هيثم الربضي المحلل السياسي المتخصص في الشأن السوري “أن سيناريو شبح التقسيم لا يزال وارداً وخطراً حقيقياً يجب معالجته من الداخل السوري، بداية من قرار شعبي وحدوي، ومن قرارات الفصائل التي تدير عملية تحرير سوريا أو تغيير نظام حكمها، لأنه من الواضح توحد الفصائل بغاية واضحة وهي إسقاط النظام، ولكنها مختلفة في بقية الجوانب، سواء المشارب الفكرية والولاءات والتحالفات الإقليمية والدولية، والآن تقسيم سوريا خطر قائم فعلياً وأشد مما سبق بسبب الخوف من النزاعات الثأرية والطائفية والمناطقية أن تتغلغل داخل الثوار ومكونات الشعب السوري، ويكون هناك عدم صفح عن أخطاء الماضي من قبل كل الأطراف، فيلزم قرار شعبي بالمصالحة الوطنية العامة من دون استثناء، وقرار واحد من المعارضة السورية بالداخل والخارج حول شكل الدولة السورية المستقبلية، إضافة إلى الإرادة الدولية، فالقرار الدولي حالياً لا يطمئن كثيرين إلى أنه مع وحدة سوريا، وخلال الشهرين المقبلين سيتضح المشهد في سوريا بصورة واضحة مع بدء تشكيل حكومة انتقالية والولاية الجديدة للرئيس الأميركي دونالد ترمب”.
هل تعود عجلة التاريخ؟
وينظر بعض المؤرخين إلى الحكم في سوريا وعلاقاتها بجيرانها كتاريخ من الانقسامات وتبدل التحالفات وأوزان القوى المسيطرة في الداخل وفقاً لعلاقاتها الإقليمية وتحالفاتها الدولية أيضاً، إذ تعود سوريا من جديد إلى سياق أشبه بمرحلة ظهورها وبدايات استقلالها، إذ تعود الانقسامات التاريخية لتفرض نفسها على المشهد، جنباً إلى جنب مع الانقسامات المتكرسة التي فرضتها سنوات الحرب السورية.
فعملية بناء الدولة السورية كانت أبرز تحولات السياسة في المشرق العربي خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هذا ما يراه جمال عبدالجواد المتخصص في “مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية” بالقاهرة، إذ يؤكد أن سيناريو تقاسم سوريا أو تقسيمها والطمع في السيطرة عليها كان قائماً دوماً سواء من القوى الإقليمية الجارة لسوريا أو من جانب الدول العظمى، “فمنذ ظهور الدول العربية حديثة الاستقلال، للمرة الأولى، بعد انتهاء الحكم العثماني، بقيت سوريا تحت الحكم الفرنسي المباشر، بينما كانت هناك دولتا العراق والأردن، تحت حكم الهاشميين، وتنافسوا في ما بينهم للفوز بسوريا، مرة باسم الوحدة السورية، وأخرى تحت شعار وحدة الهلال الخصيب، كخطوات تمهيدية لوحدة عربية. كانت هناك أيضاً دولتا مصر والسعودية، اللتان قاومتا هذه الخطط خوفاً من ظهور دولة تهيمن على المنطقة”.
وطوال تاريخ سوريا انقسم السياسيون إلى وحدويين واستقلاليين، لكن هذه الانقسامات ظلت انعكاساً لصراعات النفوذ بين الدول الناشئة في المنطقة، وتعاظم الانقسام خلال فترة الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، ومرحلة الانقلابات العسكرية المدعومة سوفياتياً في سوريا، في مقابل التهديد المتكرر بغزو تركي مدعوم أميركياً، وصولاً إلى وقوعها في قبضة نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد، للتحول إلى لاعب إقليمي بالمنطقة، وتنتقل من مرحلة الدولة المخترقة، إلى الدولة المتدخلة في شؤون دول المشرق العربي وبخاصة بعد فرضه سيطرة كاملة على لبنان ظلت حتى اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري عام 2005، وفقاً لعبدالجواد.
ويستطرد الباحث “التحولات في ميزان القوى الدولية نتيجة انشغال روسيا في أوكرانيا والهزيمة التي لحقت بـ”حزب الله” وإيران على يد إسرائيل، أفقدت النظام أهم داعميه، ومع تراجع هذا المعسكر، وتحرك الميليشيات لتخليص دمشق من التعبية لطهران، ربما ستبحث سوريا ما بعد الأسد عن اللجوء إلى حليف جديد”.
من جانبه يحذر إبراهيم كابان الكاتب والباحث السياسي من عدم العقلانية في التعامل مع التناقضات السورية، سواء من جانب المعارضة أو المجتمع الدولي، واحتمال تكرار تجربة فشل المعارضة السورية في السيطرة على نحو 70 في المئة من الأراضي السورية خلال السنوات الماضية، مشيراً إلى الخشية من التنوع الديني والقومي داخل المجتمع السوري مع وصول تيار يصنف على أنه “من السلفية والإخوان” إلى السلطة.
ويستكمل الكاتب، “إذا لم تتجه القوى التي غيرت النظام نحو العقلانية سنكون أمام استنساخ لحال العراق مجدداً في سوريا، وإذا لم يتجاوز التغيير الحاصل محنة الصراع الطائفي والقومي، سندخل في مرحلة خطرة جداً، وإذا لم تتوجه السلطة الجديدة إلى حل وطني سوري للقضية الكردية سندخل في صراعات جديدة، وعلينا أن نفهم الواقع الذي أوصل سوريا لهذا الحد، مثل الصراع المذهبي، وإنكار الآخر، وإنكار المسألة الكردية، والانفراد بالسلطة، في مقابل المأمول من دولة تحترم الحق الكردي ضمن إطار الدولة السورية واحترام التنوع الديني بالمجتمع، ويمكن لتجربة كهذه أن تنجح في دعم الدول العربية والمجتمع الدولي”.
————————-
سوريا التي في الأرض… وحارس المتاهة/ راشد عيسى
10 كانون الأول 2024
الفرح الذي أصابنا أمس، في الثامن من ديسمبر/كانون أول، سوريين ومَن في حكمهم، مع نبأ هروب بشار الأسد من البلاد، لا يشبهه فرح، هذا من النوع الذي لا يأتيك إلا مرة واحدة في العمر، فرح من النوع الذي يجعلك تقفز، وتصرخ، وتبكي، وترغب في الركض، ولا تطيق مكاناً، تهتف للأحباء، لا لشيء محدد، إلا لتقول كم أنت فرِح وطائر وتريد أن تخرج من نفسك.
لا تعدم أشياء تشدّك إلى الأرض، إذ تتدافع الصور ومقاطع الفيديو من سائر السجون وفروع الأمن، أساساً أنت تنتظر مع المنتظرين هذه اللحظة قبل أيٍّ من غيرها، فالعذاب الذي يحمله هؤلاء هناك لا يشبهه سوى عذاب القبور.
أخيراً يتراكض هؤلاء ملهوفين، غير مصدقين، ذاهلين، شاحبين، يحاولون الركض، يبدون كمن يستهدي على طريقةٍ للمشي، بعضهم محمول على ظهر مُضعضع، أجساد أقرب إلى الموت منها إلى الحياة.
متاهة صيدنايا
في الأثناء ستحفر عيناك مع كل دقة أو ضربة إزميل أو أداة تحاول فتح ثغرة في جدار أو باب سجن سميك، فتعجز حين يعجزون، لقد اعتنى الوحش الأسدي ببناء متاهة عظيمة الإحكام، وأخذ المفتاح معه. مضى يومان حتى الآن، والأقاويل تزيد عن أبواب وسجون سرية، ممتدة بضعة كيلومترات، لم يكن لدينا شك في ذلك، لقد انْبَنَتْ متاهةُ السجون في مخيلاتنا ومناماتنا خلال ستين عاماً.
نشاهد فيديو قيل إنه بيت ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع ومنافسه على التوحّش. تبدأ الصورة من مكتب فسيح ونظيف وبيانو وإضاءة ساطعة، لتنزل من ثم إلى أقبية وممرات وأنفاق وأبواب صلدة، تقول إذا كان البيت، أو مكتب العمل، على هذا النحو، فكيف تكون السجون!
علينا أن نصدق إذاً أن سوريا موازية أنشِئت تحت الأرض، وقد أهدرت عليها أموال وجهود ما يكفي لسوريا مترفة فوق الأرض، لو أرادوا.
مَشاهد ما زالت حتى الساعة تفسِد فرحتنا، لا وجوه الخارجين وكلماتهم وضياعهم، وما تبقى من ذاكرتهم وحسب، بل وكذلك البحث عن ناجين، فيما نرى لوعة الأهالي الذين يوزعون أسماء وصور ذويهم هنا وهناك.
نتحدث عن آلاف المعتقلين، وربما أكثر. هؤلاء، في غالبيتهم، سجناء سياسيون، أُخذوا بُعَيد اندلاع الثورة السورية العام 2011، وكان يمكن لرحيل النظام، حينذاك، أن يُجنّب البلاد عشرات الآلاف من المعتقلين، والذين قضوا تحت التعذيب، والمهجرين الذين يشكّلون نصف الشعب السوري، وتَشتُّت العائلات، وجيلا كاملا بلا تعليم، وتحويل البلد برمته إلى مصنع ضخم لتجارة الكبتاغون، إلى ما هنالك من أشياء دمرت في هذا البلد حتى باتت الاندفاعة الأخيرة، التي لاقت الثوار في مختلف المدن أقرب إلى الحتمية.
كان في الإمكان ألا يحدث ذلك كلّه، لكن عنجهية النظام ومؤيديه تأبى التنازل، قرّروا، حتى قبل اندلاع الثورة أنها مندسة، وعميلة للخارج، وطائفية، وإسلاموية، ومسلحة.. لم تقلع أعينهم الوقحة قوارير الماء وورود الشهداء وأغانيهم السلمية حتى النخاع،.. وإن حدث أن اعترفوا لاحقاً بسلميتها فلأن رئيسهم لم يترك لهم فرصة الإنكار، حين اعترف في خطاب رسمي أن أشهر الثورة الأولى كانت سلمية.
إذاً فقد قابلوا سلميتها بالتشكيك، لم يقبلوا حتى أن ترفع المطالب على «كرتونة» في مظاهرة، اتهموا الورد والماء والأغاني وأنكروها، لكنهم، لم يتورّعوا، حين سقط الساقط، أن يستقبلوا الثوار القادمين من الشمال بكامل سلاحهم وعتادهم بالأعلام الخضراء ومزاعم الانتماء (ذلك ليس سيئاً تماماً، هو أفضل من الاستمرار في المكابرة والإنكار).
القلق من المستقبل!
ليس هذا إحباطاً لأي فرح، بالعكس من حقنا أن نفرح قدر ما نستطيع، لكن لا أحد بإمكانه المكابرة على الجرح، جروح الذاكرة كما جروح الواقع. نفرح، ونضحك، ونجنّ، ثم يباغتنا وجهٌ طالعٌ من وراء أسوار صيدنايا وأقبيتها، فماذا بوسعنا حينئذ!
سنبذل جهدنا لاجتراح الفرح، سنستميت في التحايل على جروحنا وأحزاننا، على طعم السجن في الحلق، كوابيسنا، التي طاردتنا في غربتنا.
من نِعم الحياة أن الإنسان قادر دائماً على أن يبدأ من جديد. ومن نعمها أيضاً أنه لا يبدأ تماماً من الصفر، ما يمكن أن تراه عبئاً على حياتك الجديدة، أو تركة ثقيلة، قد يكون هو بالذات التجربة الفريدة والخاصة بك أنت لا بسواك. خساراتك الهائلة ليست خسارة بالضرورة، ما دامت قد وقعت وانتهى الأمر لا بدّ من تحويلها إلى كنز للحياة.
أما القلقون على المستقبل، فأي قلق، يا قليلي العقل والضمير؟ أي قلق ومشاهد الماضي التي تتدفق حتى الساعة من سجون صيدنايا تقول لكم إن أي قادم سيكون أفضل من هذا.
لا هو بالتفاؤل الساذج، ولا بالأمل الأبله، فالنظام المتوحش والاستثنائي جعل بدمويته أي سيناريو محتمل أفضل من متاهة صيدنايا.
* كاتب من أسرة «القدس العربي»
القدس العربي
———————–
11 يوما هزت الشرق العربي/ طوني فرنسيس
الاثنين 9 ديسمبر 2024 1:02
منذ لحظة التقدم الأولى إلى حلب اتضح أن لحرب سوريا أكثر من هدف واحد “أنها ليست معركة على مستقبل سوريا فقط، بل هي أيضاً معركة على مستقبل إيران في الشرق الأوسط”. وعت إيران أخيراً حقيقة الأمر. روسيا أبدت عدم حماسة لكمين شرق أوسطي محتمل. لم تعد تهمها كثيراً استعادة حلب كما فعلت قبل أعوام، وإنما تعنيها كيفية الاستفادة من دروس حلب لئلا تتكرر في أوكرانيا.
عندما خرج الثلاثي روسيا وإيران وتركيا على الإجماع الدولي في شأن معالجة الأزمة السورية، زادت هذه الأزمة تعقيداً وبدلاً من السير في مفاوضات جنيف تحت سقف تنفيذ القرار الدولي 2254، ذهبت الأمور إلى تحت سقف أستانا.
ارتاح الثلاثي إلى هذا المنحى، وخرج من تحت عباءة مجلس الأمن و”الهيمنة الغربية” عليه وافتتح مسلكاً جديداً اعتقدت روسيا بأنها تقوده في مواجهة الأحادية القطبية. كانت منصة أستانا بالنسبة إليها شكلاً من أشكال العمل على قيام تعددية قطبية عالمية تحاصر وتنهي الأحادية الغربية الأميركية، مثلها مثل مشروع مجموعة دول “بريكس” أو منظمة “شنغهاي” للأمن والتعاون، لكن الخلل فيها تركيبة وأهدافاً كان أعمق بكثير والخلافات بين أعضائها الثلاثة يصعب جسرها لمجرد القول إنهم يلتقون على شعار مواجهة أميركا والغرب، هذا الشعار الذي يلغي حقائق من نوع حق الشعب السوري في الحرية والتغيير وحق الشعب الفلسطيني في السلام واللبناني في استعادة دولته.
كانت خطة تقسيم سوريا إلى مناطق لخفض التصعيد هي أهم ما أنتجته لقاءات أستانا، وبمقتضى تلك الخطة باتت سوريا موزعة بين مناطق بوتين- أردوغان في إدلب ومحيطها ومناطق بوتين- خامنئي في الوسط حول دمشق ثم بوتين في الساحل حول قاعدتي طرطوس وحميميم وأخيراً على حدود الجولان المحتل، وخامنئي على طريق طهران- بغداد- دمشق.
أمضى أطراف الثلاثي أعواماً يختبئون حول تقسيماتهم السورية فيما كان السوريون يوغلون في مآسيهم وهجراتهم من دون بارقة أمل في تغيير مقبل. وكانت أميركا تحافظ في الأثناء على سيطرتها في مناطق النفط بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية، معلنة مواصفاتها حرباً احترافية ضد عودة تنظيم “داعش” ومتمسكة بعنوان مجلس الأمن للحل في سوريا. وهي تعرضت في المقابل لانتقادات الثلاثي بوصفها قوات احتلال لم تتمتع بطلب دخول شرعي من بشار الأسد رئيس الدولة المخلعة.
لم تتقدم سوريا طوال هذا الوقت بوصة واحدة نحو الحل السياسي، وبقي نصف سكانها مشرداً في الداخل والخارج وممنوعاً من العودة، وصارت عودته جزءاً من مقايضات النظام على تثبيته واستمراره إلى الأبد، لا حقاً إنسانياً طبيعياً ومشروعاً. والرئيس السوري لم يقُم بخطوة مصالحة واحدة حقيقية على رغم الاحتضان العربي في محاولة لإخراجه من المشروع الخامنئي العبثي الدموي ومن المسارات المفتعلة خارج نطاق الشرعيتين العربية والدولية.
في الأثناء، لم تبذل روسيا جهداً لتحويل مناطق خفض التصعيد إلى نموذج لاحتواء التوتر ودفع هذه المناطق والقوى المسيطرة فيها نحو البدء بعملية سياسية جدية. ومن جهتها مضت إيران في وهم ترسيخ سيطرتها على سوريا باعتبارها المحافظة الإيرانية الـ35 وجسرها نحو المتوسط، حيث “جيشها اللبناني” “حزب الله” الذي سيقيم لها متراساً صاروخياً لا يقهر في وجه إسرائيل، وبه وبالممر السوري ستحقق حلمها المعلن في طرد الأميركيين والإسرائيليين وأعوانهم من “غرب آسيا”.
نسي الروس والإيرانيون جوهر مهمتهم المعلنة في سوريا وهو العمل لحل المشكلة السياسية والحفاظ على الدولة السورية الموحدة ذات السيادة الكاملة، وارتاحوا إلى نقاشاتهم في أستانا ودخلوا في البحث عن توطيد تحالفاتهم الاستراتيجية، وصارت سوريا والمشرق بالنسبة إليهم جزءاً من ساحة المعركة العالمية، فيها تحضر روسيا لتعزيز معركتها الأوكرانية وتتحرك إيران لحماية نظامها وضمان مستقبل الملالي وحكمهم تفاوضاً وحرباً بدماء الأتباع، مع وضد أميركا وحلفائها.
الفصل الأساسي من هذه الحرب حصل فعلاً وكانت نتائجه كارثية، ولقد جربت إيران قدراتها في غزة ولبنان، ففي القطاع انتهت المعركة التي رعتها وشجعتها إلى دمار شامل، وفي لبنان حصدت مقتلة مروعة، وفرضت إسرائيل التسوية التي أرادتها على “حزب الله”، وهي في طريقها للبحث عن أمر مماثل في غزة على رغم اختلاف الظروف.
لم يكُن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، شريك روسيا وإيران في رعاية الشأن السوري، غائباً عن سماع معنى التطورات الحاصلة، وعلى رغم ما قيل عن تلاعبه بعواطف الفلسطينيين والمسلمين فإنه دخل في حملة دعم سياسية وإعلامية لغزة قادته إلى التصادم مع إيران.
—————————
انتصار الثورة السورية العظيمة/ عبدالله الموسى
2024.12.09
وها أنتم تستيقظون مشبعين بالحرية والكرامة والهواء النقي بعيون غسلتها الدموع وقلوب غسلها النصر، تستيقظون على صباح ما كان فيه الخير كما هو اليوم، وما تخافون أنكم قليل مستضعفون في الأرض يتخطّفكم الناس، صدّقتم أن ما جرى ليس حلماً بل يقظة، وأن ساعات قليلة من النوم تكفي، وأن الشوق يتفجّر لرؤية الأهل والمنزل.
طلقة خرجت في قبتان وصلت دمشق، وقطرة عرق جُبلت بتراب إدلب حَقَنت شلال دم على أسوار الشام، وكلمة طيبة من قادة حرب التحرير أزهرت في قلوب عدوهم قبل حليفهم.
حكايتنا باختصار أن طفلاً نادى للحرية قبل 14 عاماً فأيقظ الكرامة بشموخ لم تكسره سياط الجلادين ورصاص الأمن وظلام المعتقلات وبارود الصواريخ وبرد الشتاء وجوع الحصار واختناق الكيماوي، فانتفض مَن قاوم سؤال الجدوى والملامة المحتملة إذا ما تكرر الدم المسكوب والمقابر الجماعية وقاتل بالأظافر مذخّراً بدعاء النساء وآهات الأطفال، فتزاحمت البلاد بجحافل المارقين والسماء بطائرات المحتلين تنهش من لحمنا، وتراكم المهجّرون في زاوية سوريا فكانت أختنا الكبرى الحنونة، وتملّك القهر منّا ودفعنا اليأس إلى أقاصي الدول وعشنا غرباء في الوطن وخارجه، وانتظرنا ما وعد به طفل في حافلة التهجير بالعودة.. ثم جاء جيل انبرى عوده في خيمة فانتزع قصر كسرى دمشق، كحصاة أقلقت جبلاً هشاً تآكل بدماء الشهداء وغرور السفاح وتعقيدات المشهد ودعوات المظلومين، وعلمٌ رسمناه على وجوه أطفالنا في كل آذار ثقة بوعد الله رُفع راية على الأموي وقلعة حلب وناعورة حماة وساعة حمص وجسر دير الزور، فحُرر المعتقلون ومُدّت دماء من قضوا إلى وجوههم الشاحبة شرياناً، وهُدمت أسوار صيدنايا بحبال المشانق وطار عصفور ميشيل كيلو إلى السماء، وهدم المهجرون خيامهم البالية، ووظب اللاجئون حقائب العودة، ورمى الصحفيون درعهم، وأغلقت المدافع فوهاتها، وشفيت الصدور وفاضت قلوبنا بالفرحة حتى كادت أن تتمزق.
وما تحررت هذه البلاد بالرصاص بقدر ما تحررت بوعي يليق بسوريا والسوريين وعقل راجح يعرف أن للدم خثرة وللمستقبل تنازلات ولساعة الحرية علامات ولهول النصر رؤوس محنية تكرماً وإجلالاً.. تحررت سوريا من دون أن نستجدِ أحدا وكان الأمل بسمر الزنود، ورصاصة لا تعيث فساداً، مدفوعين بحلم البدايات وصرخات معتقلينا حصناً يدفع عنا الاستسلام.. مدفوعين بجثث الشهداء عند أعتاب البيت تسبح بين الدم الطاهر ودموع الرفاق تَذاكِر للجنة.. مدفوعين بدعاء أمهاتنا حبالاً إلى الله.
كان من الصعب أن نحتمل كل هذا التعويض المكثّف والبشريات العظمى والتفاصيل الدرامية مثل أن يهرب بشار الأسد مدحوراً إلى الأبد من دون أي كلمة، يتخطّف الرعب قلبه، فلو قاوم وقُتل لصار في عيون أنصاره بطلاً، ولو تلا بياناً أنه “دافع عن البلاد للرمق الأخير” لصار كذلك، لكنه ساعد كل أنصاره ليكرهوه بلحظة واحدة فسحلوا أصنامه في الشوارع وحرقوا صوره التي تحتل الحيطان.
اللحظات المتخمة بالمشاعر عندما اعتلى شابان دبابة متروكة وسط ساحة الأمويين وركنت أربع صبايا سيارة يصدح منها صوت الساروت معلناً البيان رقم واحد، ومبشراً بأن هذه البلاد ستكون “جنة جنة”.
لا تدعوا لأسلئة المستقبل أن تعكّر عليكم هذا الفرح العظيم وأوقفوا شلال رمال الساعة وادفعوا المخاوف المشروعة بقناعة أن هذا الشعب يعيش على خمس طبقات من الحضارات المتتالية، لكن النظام الساقط أخذه أسيراً والآن عاد حراً.
هذا مقال قصير.. اعذروني فمشاعري تغلبني على الكتابة أكثر
تلفزيون سوريا
—————————-
يوم تاريخي مبين انتظره السوريون بفارغ الصبر/ عبد الباسط سيدا
10 ديسمبر 2024
وأخيراً، سقط حكم آل الأسد الذي أسّسه حافظ الأسد ليحكم سورية على مدى 30 عاماً، ثمّ أورثه (وهو في قبره) إلى ابنه بشّار ليحكم 24 عاماً. أيّ أن مجموع أعوام حكم الأب والابن بلغ 54 عاماً، مع العلم أن الخلافة الأموية (المفصلية في التاريخ الإسلامي) استمرّت في عاصمتها دمشق نحو 88 عاماً فقط.
وأخيراً هرب الدكتاتور الهزيل المستبدّ الفاسد المُفسِد، الذي كان من الواضح أنه منفصلٌ عن الواقع، يعيش عالمه الخاصّ المبني على جنون العظمة، وربّما على أمراض نفسية أخرى قد يُرفَع الغطاء عن أسرارها في ما بعد، مع العلم أن عبد الحليم خدام في مقابلة من مقابلاته التلفزيونية أشار إلى أمر من هذا القبيل، حين بيّن أن العظمة لدى بشّار هي ما كان يردّده المؤيّدون له، المستفيدون من سلطته بكلّ صفاقة، “الأسد أو نحرق البلد”. وقد كانت هذه الصفاقة تبلغ ذروتها حينما كانوا يُسبغِون عليه صفات الحاكم الإله، أو الحاكم المؤلّه، كما كان عليه الحال مع والده.
لم تحصل سلطة آل الأسد في يوم على شرعيّة وطنيّة حقيقيّة أقرّها السوريون، فالأسد الأب سيطر على الحكم بانقلاب عسكري، والأبن أتى إلى الحكم بانقلاب على الدستور، الذي كان والده قد وضعه من دون إرادة السوريين، ليكون في مقاس حكمه. ولكنّ الذين أشرفوا على نقل السلطات إلى الابن، بناءً على ترتيبات الأب في أيامه الأخيرة لم يجدوا حرجاً في تجاوز الدستور المعني، فأمروا بتعديله من مجلس الشعب الشكلي، وهكذا، بقدرة قادر، وخلال خمس دقائق، أدخلوا تعديلاً في المادّة التي كانت تنصّ على أن المرشّح لمنصب رئيس الجمهورية ينبغي أن يكون عمره 40 سنة حدّاً أدنى، ليصبح هذا العمر، بموجب التعديل الجديد لصالح بشّار، أي 34 سنة، ليتطابق تماماً مع عمره في ذلك الحين.
ومنذ استلامه مهامّه، أطلق بشّار الأسد الوعود الإصلاحية، ووعد السوريين بأن الأمور ستكون أفضل على صعيد حرّية التعبير، والظروف المعيشيّة، واحترام كرامة المواطن. وكان “ربيع دمشق” الذي بدأ بـ”بيان 99″، ثمّ “بيان الألْف”، وساهم مفكّرون ومثقّفون بارزون في ذلك الحراك الواعد، منهم الراحلون صادق جلال العظم وأنطون مقدسي وطيّب تيزيني وميشيل كيلو وغيرهم كثير كثير، بعضهم من الراحلين، وآخرون ما زالوا على قيد الحياة يشكرون الله الذي مكّنهم من رؤية هذا اليوم الحلم، يوم سقوط حكم آل الأسد المستبدّ الفاسد المُفسِد.
من الواضح أن تفاعلاً ما حدث في الأيّام الماضية بين العوامل السورية الداخلية من جهة، والتوجّهات الإقليمية والدولية من جهة أخرى، في ضوء ما حصل في لبنان على صعيد الجهود الغربية في ميدان الحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة، هذا النفوذ الذي يتمثّل في مشروع توسّعي أنهك دول ومجتمعات المنطقة، وقد أسفر هذا التوجّه الغربي مع القوى المتحالفة، واعتماداً على طاقات السوريين الميدانية، وتفانيهم في سبيل تخليص شعبهم وبلدهم من براثن سلطة لم تجلب لهم على مدى نحو ربع قرن من حكم الابن، و30 عاماً من حكم الأب، سوى الخيبات والويلات، وسدّت الآفاق أمام الجيل السوري الشاب الذي اضطر للخروج إلى الشوارع في معظم المدن السورية يطالب بالإصلاح بصورة سلمية، إلى أن فرضت السلطة بتوحشها خيار العسكرة على السوريين، فكانت المآسي، وكان التدمير والقتل والتهجير، وخرج الملايينُ من السوريين، لا سيّما من أصحاب الخبرات ورؤوس الأموال، ومن حملة الشهادات الجامعية الشباب، يبحثون في المهاجر المختلفة عن مستقبل يضمن لهم الحرّية والكرامة والعدالة، بعدما قطعوا الأمل من بلوغ هذه الحقوق البدهية في وطنهم، وفي ظلّ حكم يحترم شعبه ونفسه. ومع ذلك كلّه لم يقطع السوريون الأمل، وظلّوا بكل عناد وصبر يطرقون جميع الأبواب بحثاً عن أصدقاء مساندين لقضيتهم، يسعون بكلّ إمكاناتهم إلى حشد التأييد لقضيتهم، ودحض مزاعم السلطة، ومحاكمة مسؤوليها أمام المحاكم الأوروبية وغيرها.
ومع انطلاقة عملية “ردع العدوان”، اعتقد كثيرون أنها لن تكون سوى عملية استعراضية إعلامية كسابقاتها، ولن تخرج من نطاق أنها وجه من أوجه المنافسة والصراع بين الفصائل العسكرية في المنطقة الشمالية الغربية من سورية. ولكن مع تمكن القوات التي شاركت فيها (هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها)، من تحرير حلب، وتوجّهها نحو حماة، ومن ثم حمص، تيقّن الجميع داخل سورية وخارجها أن مسألة سقوط بشّار الأسد باتت مسألة وقت؛ إلا أن الخشية كانت متمثّلة في إمكانية حدوث مواجهات عنيفة بين الفصائل المعنية، وما تبقّى من الجيش الذي كانت السلطة الأسدية تهيمن عليه، وهو الأمر الذي لم يحصل (والحمد لله) نتيجة وصول قيادات الجيش المعني المغلوب على أمره إلى قناعة راسخة باستحالة الدخول في أيّ مواجهة حقيقية مع المهاجمين، الذين تعاطف معهم الناس، وانضمّ قسم كبير من المتطوعين الثائرين على سلطة آل الأسد إلى صفوفهم. هذا إلى جانب فرار عناصر حزب الله، وعجز النظام الإيراني عن تقديم المساعدة، خاصّة بعدما سدّت عليه الحكومة العراقية الأبواب، وبعد تأكّد النظام المذكور من أن قواته ستكون هدفاً مباشراً لطائرات التحالف في حال دخلت سورية لمساعدة سلطة بشّار الأسد.
يعيش السوريون اليوم فرحاً عامراً غامراً نتيجة سقوط حكم الطغاة، وهم يستعدّون للتعامل بمسؤولية مع تحدّيات اليوم التالي، التي لن تكون سهلة بطبيعة الحال، وذلك بعد هذه السنوات الطوال كلّها من الحكم المستبدّ، الذي أخرج المجتمع السوري في واقع الحال من علم السياسة، لا سيّما من ناحية عدم سماحه بتشكيل الأحزاب الوطنية، وإحداث انشقاقات في الموجود منها. فلو وجدت الأحزاب الوطنية المعارضة الكبيرة اليوم لكان من شأنها أن تبادر وترسم الخطّ السياسي، وتضع خريطة طريق تتناسب مع الواقع السوري ومشكلاته.
ومع ذلك، يلزم الواجب الوطني جميع القوى والأحزاب الموجودة التي كانت معارضةً حكم آل الأسد وناضلت من أجل التغيير لمصلحة الشعب السوري، إلى جانب الشخصيات السياسية والفكرية والاقتصادية والمجتمعية بصورة عامّة، المعروفة بوفائها لسورية وللسوريين، التوافق على برنامج وطني جامع، يحترم خصوصيات سائر المكوّنات المجتمعية السورية، ويعترف بحقوقها ضمن الولاء الوطني العام. ومثل هذه الخطوة من شأنها قطع الطريق أمام تباينات أو منافسات، قد تتحوّل صراعاتٍ (لا سمح الله!)، صراعات قد تستغلها القوى الخارجية، لا سيّما الإقليمية المتربّصة بسورية لتدعم ثورة مضادة تهدّد الانجازات التي حقّقها الشعب السوري بدمه وعرقه، وبسنوات من البؤس والحرمان في مخيّمات اللجوء والمهاجر، حيث كان السوريون عرضة لمختلف الحملات العنصرية البغيضة.
والنقطة الأكثر أهمية، التي ينبغي أن يتوافق عليها السوريون، هي أن يلتزموا القطع مع ذهنية الانتقام، وعدم الانسياق خلف النزعات الانفعالية التي من شأنها تكريس الأحقاد وروحية الكراهية. وهذا يتحقّق عبر الدولة المدنية التي تأخذ مسافة واحدة بصورة إيجابية من سائر الأديان والمذاهب والقوميات والتوجّهات الفكرية. حكومة تحقّق المساواة العادلة بين الرجل والمرأة، وتزيل العقبات أمام الأخيرة لتساهم بكفاءة واقتدار في نهضة مجتمعها وازدهاره.
وحتى نكون واقعيين، لا بدّ أن نتحسّب منذ الآن لخروقات وتجاوزات فردية قد تحدث هنا وهناك، لذلك علينا أن نتخذ الإجراءات لبناء آلية واضحة وفق القوانين للتعامل معها ومعالجتها، والحيلولة بالطرق كلّها من دون تحوّلها ظاهرةً عامّةً تمسّ هذا المكوّن أو ذاك، هذه الشريحة المجتمعية أو تلك. السوريون يحتاجون اليوم، وبأقصى سرعة، إلى حكومة أو إدارة (لا يهمّ الاسم) تقوم بمهام المرحلة الانتقالية، وتسهر من أجل تأمين احتياجات المواطنين وتقديم الخدمات لهم؛ وذلك إلى حين التوافق على دستور جديد للبلاد، يحدّد نظام الحكم، وآلياته، والقواعد التنفيذية، تمهيداً لإجراء انتخابات نزيهة شفّافة بإشراف عربي ودولي، تراعي ضرورة تمثيل سائر المكوّنات، وتكون مقدّمةً لحكم وطني ديمقراطي يضمن الحرّية والكرامة والعدالة المجتمعية لسائر السوريين من دون أيّ تمييز، ويجعل من سورية ميداناً لتمازج ثقافي حضاري، ومنصّةً لحواراتٍ إقليميةٍ دوليةٍ لصالح شعوب المنطقة ومستقبل أجيالها المقبلة.
مبروكٌ النصر المبين الذي حققه الشعب السوري بعد سنوات من الكفاح المرير، وحفظ الله سورية وأهلها من أيّ مكروه.
العربي الجديد
————————
لا يمكن تجاهل فرحة السوريين/ أحمد الصباهي
09 ديسمبر 2024
منذ انطلاق عملية “ردع العدوان” تبادر إلى ذهني الكثير من الأسئلة التي لا إجابة عنها، من موّل هذه “الجماعات المسلحة” (المتداول دائمًا أنها تركيا)، وكيف أعدّت نفسها طوال هذه المدة، وكيف استطاعت بعدة أيام أن تحقق نجاحات بوصولها إلى حلب والسيطرة عليها، وكيف تقهقر الجيش السوري أمامهم، بل وفرّ العديد منهم في كل الاتجاهات، وصولًا إلى فرار ألفين إلى العراق، ثم توالت الاختراقات وصولًا إلى سقوط نظام بشار الأسد، الذي كان حلم الكثيرين من أبناء الشعب السوري، وحقيقةً بعيدة المنال كما ينظر إليها “محور المقاومة” الذي قاتل في سورية لما اعتبره مخططًا ومؤامرةً لإسقاط دور سورية في مواجهة المشروع الأميركي الإسرائيلي، حيث تمثل سورية واسطة عقد محور المقاومة.
أؤمن كما يؤمن الكثيرون أنّ الحل الأوحد مع الاحتلال الإسرائيلي هو المقاومة، وأنّ المقاومة الفلسطينية بحاجة إلى كل من يمدّ لها يد العون، من أحزاب ودول، وأنها معنية بإنشاء تحالفات تسندها سياسيًّا وماليًّا وعسكريًّا، وسورية كانت إحدى تلك الدول، التي ساندت المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وقدّمت لها يد العون على عهدي حافظ وبشار الأسد.
لكن بلا شك، سورية في الداخل في عهدي حافظ وبشار الأسد، لم تكن كما في الخارج، كذلك كان عهد الرئيس جمال عبد الناصر، هو ألمعي في عناوين الوحدة العربية، لكن في الداخل كانت العناوين مختلفة.
وهنا يُطرح السؤال، هل تأييد المقاومة اللبنانية والفلسطينية، يعطي الحق لرئيس أي دولة، أن يمارس كل أنواع التحكّم والسيطرة، في الحياة السياسية الداخلية بكل عناوينها، الجواب البديهي والطبيعي لا. لكن هل هذا ينطبق على سورية في عهد بشار الأسد؟
ربما الجواب بوجهة نظري فيه الكثير من التعقيدات، لسبب وحيد في ذلك الوقت، أنّ ما عايشناه في الربيع العربي، أسقط ما اعتبرناه أنظمةً استبداديةً ديكتاتوريةً، حكمتنا على مدار عقود، تركت الشعوب والمجتمعات فقيرةً متخلفةً مرتهنةً بسياسييها ومثقفيها ورجال أعمالها للسلطة السياسية الحاكمة، فضلًا عن ارتهانها للغرب، وكان أملنا بالربيع العربي كبيرًا للتغيير، خصوصًا أنّ فلسطين كانت أحد العناوين الأساسية من شعارات “حرية عدالة اجتماعية”، وإذ نصاب بمقتل الديمقراطية في مصر عبر إسقاط الرئيس المنتخب “محمد مرسي”، وسحق حزب النهضة في تونس، وظهور “قيس سعيد” وتعليق بل وإنهاء الدستور، وضياع ليبيا، كل هذا بتدخّلات غربية وعربية، لم تقبل باستقرار سلطة إسلامية، أو تتبع حزبًا أو توجهًا إسلاميًّا، عبر انتخابات ديمقراطية، مما يذكّرنا كثيرًا بانتخابات المجلس التشريعي الذي فازت فيه حركة حماس، وحاربها العالم، وفي مقدّمتهم السلطة الفلسطينية، وإذا كان مآل الربيع العربي هو أنظمة ديكتاتورية، تخلفها أنظمة ديكتاتورية أخرى، فنظام الأسد إذًا ليس استثناءً، فما جدوى التغيير؟
ما الذي يختلف في سورية؟
منذ انطلاق الربيع العربي عام 2011، ظننت أنّ سورية ستكون بعيدة المنال، خصوصًا أنّ سورية تحكمها سلطة قوية، والمجتمع السوري وإن كان يعاني من انعدام الحياة السياسية، وتحكمه طبقة معينة بالسلطة والمال، إلا أنّه كان لديه اكتفاء ذاتي ضمن توجهات الدولة السورية.
ابتدأت الثورة في سورية، فابتدأت المخاوف، ماذا لو سقط النظام؟ ومن سيحكم سورية؟ وأين ستصبح توجهات سورية؟ وإذا سقط النظام هل ستحاصر المقاومة في لبنان، وهل سينتهي وجود المقاومة الفلسطينية في سورية؟
ومن غير الدخول في الكثير من التفاصيل، أذكر كثيرًا أني كنت من المؤيدين للنظام في سورية، تحت عنوان أوحد، “سقوط النظام في سورية يعني خسارة إحدى جبهات المساندة للمقاومة”، خصوصًا أنّ بعض تيارات المعارضة بشقّيها السياسي، والعسكري تلقّت تمويلًا عربيًّا وغربيًّا تحت عناوين مناهضة “لمحور المقاومة” مما زاد من التخوّف من مشاريع تلك الدول في سورية، وظهرت الكثير من التصريحات من بعض المعارضين السوريين تؤيد توجهات التطبيع بين سورية والكيان الإسرائيلي، واختفت من أمامي، كل العناوين التي أيّدناها في قضايا داخلية في سقوط أنظمة عربية، فلم نشاهدها في سورية، لم أكن بأي شكل من الأشكال من المؤيدين للجرائم التي وقعت في سورية، فقد كان ما يجري يندى له الجبين.
اختلفت مع كثيرين على منصات التواصل الاجتماعي حول سورية، وكنت مقتنعًا بأنّ ما يجري في سورية ليس بريئًا، خصوصًا أنه طُرحت مبادرات للحوار، “لكنه حوار الطرشان”، واضطرّت المقاومة اللبنانية من وجهة نظري، التدخّل في سورية، ثم إيران، وأخيرًا روسيا تحقيقًا لمصالح خاصة، وأضحت النتيجة كما قال لي صديق زار سورية قبيل عدة أشهر من سقوط النظام، أنّ الموظفين في الدولة السورية يشعرون بأنهم انتصروا على العالم، وهي عيّنة صغيرة ربما بما كان يشعر به نظام الأسد.
لم ينجح الحوار على مدار سنوات طويلة، وفشل فشلًا ذريعًا، ومن الواضح أنّ نظام الأسد لم يكن يستشعر أنه مضطر لأن يعطي شيئًا للمعارضة، فالمقاومة اللبنانية بظهره، وكذلك إيران وروسيا، لكن من قال إنّ المشهد لن يتبدّل، لقد تغيّرت ظروف حزب الله، وإيران، وروسيا، ونامت أعين النظام عما يجري في حلب، وتجاهل دعوات أردوغان، ليدفع الثمن “محور المقاومة” الذي ضاعت إنجازاته بأسابيع، بعد سنوات من القتال في سورية، قدّمت خلاله المقاومة اللبنانية الكثير من أبنائها تحت هذا العنوان، لكن الأسد اختار نفسه وزمرته الحاكمة على حساب الآخرين، وترك سورية هاربًا ليلقى لجوءًا إنسانيًّا وليس سياسيًّا، وهذا فيه معانٍ كثيرة، من بوتين، الذي لن يحلم حتى برؤيته أو السلام عليه.
فرحة السوريين
بعد سقوط النظام في سورية، في اليوم التالي، كنت جالسًا مساءً في القهوة، تجري في رأسي أسئلة كثيرة عن “أحمد الشرع”، وكيف تحوّل الخطاب نحوه من الجماعات الإرهابية، إلى الجماعات المسلحة، إلى المعارضة المسلحة، في الكثير من القنوات التي تتبع محور المقاومة. هل طُويت صفحة الأسد ونظامه إلى غير رجعة؟ يبدو كذلك، ماذا في اليوم التالي في سورية، وأين ستكون توجهاتها من محور المقاومة؟
قاطع تساؤلاتي أحد الأصدقاء وهو يحمل في يده علبة حلوى، اشتراها خصيصى للاحتفال بسقوط النظام، بدأ يقدّم الحلوى مبتسمًا، والجميع يهنّئونه، ووصل إليّ وهو يعلم رأيي في السابق في سورية من نظام الأسد، وقدّم الحلوى، لم أجد بدًا سوى أن أتلقّف هذه الحلوى، ولم أستطع تجاهل فرحته، وخرجت من فمي كلمة “مبروووك”، فابتسم، وغادر، لم يكن مضيفي سوريًا بل هو صديق لبناني، لديّ عدة أصدقاء سوريين، تبادلوا معي التهاني، ولم أستطع أن أتجاهل فرحتهم، فما في قلوبهم وما عانوه الكثير. وخلال ذلك، في رأسي تدور أسئلة صعبة، لقد خسرنا الأمين العام لحزب الله “السيد حسن”، والمقاومة في لبنان أضحت في موقف صعب بعد المعركة، والمقاومة الباسلة في غزة تقاتل، وقد خسرنا القادة إسماعيل هنية والشيخ صالح العاروري ويحيى السنوار، وغيرهم من القادة ومن أبناء الشعب الفلسطيني وقُسّمت غزة، وإيران تحت تهديد كبير ينتظرها، فهل سنتحمّل ما نعتبره واسطة عقد المقاومة في سورية.
لا نستطيع تجاهل ابتسامة السوريين، ولا نستطيع تجاهل معاناتهم، فمن يشاهد ما بثّته المعارضة السورية من مشاهد السجون وتحرير النساء، والفتيات، والأطفال، والشباب، وبالأخص سجن صيدنايا الذي إلى الآن في ظل كتابة هذه السطور يجري العمل على إخراج السجناء منه، يدعونا للقول، لا نستطيع أيضًا تجاهل فرحتهم.
ما ستفعله المعارضة السورية، هو رهن بقدرتها على استقرار الأوضاع، فأداؤها إلى الآن جيد، ومن الواضح أنّ تغيّرًا في التفكير قد حلّ محل التوجهات المتشددة السابقة، فهل سينجحون؟ وكيف سيبني السوريون دولتهم؟ وضمن أي توجهات؟ وما هو موقف الدول العربية، والغربية منها؟ وهل سيتركون السوريين وشأنهم؟ هذا رهن بالأيام المقبلة، وربما ما ستحمله من مفاجآت.
العربي الجديد
————————–
حين تُرك نظام الأسد يواجه مصيره المحتوم/ عمر كوش
10 ديسمبر 2024
قبل سقوط نظام بشّار الأسد، تواترت مؤشّرات إلى أن حلفاءه تخلّوا عنه، وتركوه يواجه مصيره المحتوم بالسقوط، فقد أوردت تقاريرُ إعلاميةٌ عالميةٌ أن الأسد طلب المساعدة بشكل يائس من روسيا وإيران، مع تقدّم فصائل المعارضة نحو مدينة حمص، ذات الأهمية الاستراتيجية، لكن كلّاً منهما لم تقدّما ما يمكن إنقاذه من السقوط، ما يعني أن إيران لم ترد أن تكرّر خوض حرب جديدة من أجل إنقاذ النظام مرّة ثانية، أي تكرار ما قامت به بعد اندلاع بداية الثورة السورية عام 2011، حين حشدت إمكاناتها العسكرية والمالية كلّها، وخاضت معاركَ ضدّ غالبية السوريين لإنقاذه، وكذلك فعلت روسيا بتدخّلها العسكري المباشر في نهاية سبتمبر/ أيلول 2015، الذي كان له الدور الرئيس في حسم المعارك مع فصائل المعارضة لصالح نظام الأسد، إلى جانب الاتفاقات التي عقدتها مع تركيا من أجل تحقيق ذلك كلّه. وقد سبق أن اعترف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في 18 يناير/ كانون الثاني 2017، بأنه لولا التدخّل العسكري الروسي لكان نظام الأسد قد سقط خلال أسبوعين أو ثلاثة، لكن روسيا التي منعت سقوط الأسد سابقاً شعرت بالعجز حيال الوضع في سورية قبل سقوط النظام، فلم يكن لديها أيّ خطّة لإنقاذ الأسد، خصوصاً بعد انهيار قواته أمام هجوم فصائل المعارضة، الذي بدأته في 27 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وأفضى بداية إلى تغيير دراماتيكي في موازين القوى، وتبدّل في خرائط السيطرة، نتيجة انهيارات واسعة في صفوف قوات الأسد والمليشيات الإيرانية المساندة لها، إذ بعد انسحابها الكيفي من مناطق عديدة في الشمال السوري (أهمها مدينة حلب)، لم تتمكّن هذه القوات من الصمود أكثر من ثلاثة أيام في مدينة حماة وريفها، فاضطرت إلى الانسحاب منها أمام زحف فصائل المعارضة السورية المسلّحة، التي تابعت طريقها إلى مدينة حمص، ثمّ تمكنت فصائل محلّية من السيطرة على كلٍّ من محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، وزحفت فصائل المعارضة نحو دمشق لإسقاط “نظام الاستبداد والفساد”.
كان واضحاً منذ الأيام الأولى لعملية “ردع العدوان”، التي قامت بها فصائل المعارضة السورية، أن الموقف الروسي قد تغير حيال نظام الأسد، فقال المتحدّث باسم الكرملين دميتري بيسكوف في 5 ديسمبر/ كانون الأول الجاري إن “روسيا تراقب الوضع من كثب في سورية، وتقيّم انطلاقاً من الوضع في الأرض حجم الدعم اللازم لها في مكافحة المسلّحين، والقضاء على تهديدهم”. ثمّ لم يتردّد لافروف في القول إن استقرار الوضع في سورية ليس بالأمر السهل، ووصف ما يجري فيها بأنه “لعبة معقّدة”، تشارك فيها أطراف عديدة. وكان يمكن أن يكون موقف الروس أكثر حزماً حيال الدفاع عن نظام الأسد، الذي منحهم موطئ قدم عند شواطئ البحر المتوسّط، وعقد معهم اتفاقية مدّتها 49 عاماً قابلةً للتجديد، وباتوا بموجبها يملكون قاعدةً عسكريةً بحريةً في ميناء طرطوس، لكنّهم في المرحلة الراهنة مشغولون أكثر بحربهم على أوكرانيا، وأدركوا أخيراً أن مصير الأسد بات محكوماً بالرحيل، وأن عليه التخلّي عن كرسي الحكم الذي حارب طويلاً من أجله. أمّا المسؤولون الإيرانيون فقد أيقنوا أن نظام الأسد آيل إلى السقوط، ودفع ذلك وزير الخارجية عباس عراقجي إلى القول إن مصير بشار الأسد “غير معروف”، ولعلّها المرّة الأولى التي يتحدّث فيها مسؤول إيراني عن الأسد بهذه الطريقة، والأمر عائد إلى أن إيران أدركت أنه من دون روسيا لن تستطيع تقديم ما يُذكر للنظام، خاصّة بعد أن أعلنت الحكومة العراقية أن أولويتها هي الدفاع عن حدود بلدها، وأنها لن ترسل قوات من الجيش العراقي أو فصائل من الحشد الشعبي كي تقاتل دفاعاً عن الأسد في سورية. إضافة إلى أن النظام الإيراني بات يهمّه أكثر الدفاع عن مواقعه الداخلية في إيران، والاستعداد لمواجهات أخرى لمشروعه التوسّعي في المنطقة.
كان نظام الأسد يعتمد خلال السنوات السابقة على الوجود العسكري الروسي بوصفه عامل ردع أمام محاولات المعارضة تغيير خرائط السيطرة على الأرض، لكن الانكفاء الروسي وإحجام حلفاء النظام التقليديين عن تقديم الدعم لنظام الأسد، أفضى إلى انكشاف النظام، وزاد من حجم الضغوط العسكرية والسياسية عليه، خاصّة بعد أن باتت كلّ من موسكو وطهران أكثر ميلاً إلى ترتيب مصالحهما في سورية بعيداً عن الالتزام المطلق ببقاء الأسد، ما وضعه أمام واقع سياسي وعسكري شديد التعقيد، أنذر بسقوطه، ولم يستطع أحد أن يقدّم له طوق النجاة لنظام. حتى إن السفارة الروسية في دمشق لم تجد لديها سوى مطالبة الرعايا الروس بمغادرة سورية، في وقت انتشرت فيه مقاطع فيديو لسحب الروس معدّاتهم العسكرية من مواقعها في المناطق السورية، إضافة إلى مغادرة سفن تابعة للأسطول الروسي القاعدة الروسية في طرطوس، فيما أعلنت حكومة اليمين المتطرّف في تلّ أبيب أنها تستعدّ لانهيار نظام الأسد، وأنها لم تلاحظ أيَّ تدخّل ملموس من إيران أو روسيا في سورية، وذلك بعد أن فقد النظام سيطرته في الحدود مع إسرائيل، وفقدها كذلك مع الأردن لصالح فصائل المعارضة، بعد سيطرتها على معبر نصيب، والمنافذ الحدودية كلها مع الأردن، والأمر نفسه حدث مع المنافذ الحدودية مع العراق، التي فقدها النظام بعد انسحابه من دير الزور والبوكمال لصالح قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وكانت متأخرةً الدعوة التي وجهها لافروف، بعد اجتماع ضامني محور أستانة في الدوحة، لكلّ من النظام والمعارضة إلى وقف القتال وبدء حوار سياسي، وتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، لأن ما سعت إليه المعارضة السورية هو إسقاط نظام الأسد، وإخراج إيران من سورية. وهو ما تلاقى مع ما تطمح إليه العديد من القوى الدولية، ويتقاطع مع المتغيّرات التي حصلت في منطقة الشرق الأوسط أخيراً، ومساعٍ عربية ودولية ترمي إلى تقويض نفوذ إيران في المنطقة، انطلاقاً من الملعب السوري، الذي له انعكاساته على لبنان والعراق. استمرّ زحف فصائل المعارضة نحو دمشق وترك النظام ليسقط مواجهاً مصيره المحتوم.
العربي الجديد
—————————
عن السجّان بشار الأسد ناهب الاقتصاد السوري/ رشا أبو زكي
10 ديسمبر 2024
هنالك تحت سورية سورية أخرى. سجون ممتدة تحت المؤسسات والمدارس والمستشفيات، وسجون تحت السجون. مشاهد الرعب بدأت تظهر، وخاصة من سجن صيدنايا. العيون هناك تحكي مليون قصة عن التعذيب والقهر والذل. صور وفيديوهات لسجناء حرروا من أقبية تحت الأرض تعفنت فيها عقولهم وأجسادهم على مر سنوات بلا شمس ولا هواء. كلمات تخرج من أفواههم بصعوبة، غير مفهومة، فقد أنساهم التعذيب والعزل الأحرف. كل ذلك لأنهم قالوا لا لشخص. وهذه الـ”لا” ثقيلة. هي تهدد نظاماً نهب بلداً كاملاً على مر سنوات طويلة، من الأب حافظ إلى ابنه بشار والمئات من أقاربهما وحاشيتهما، هؤلاء سجنوا الاقتصاد السوري تحت الأرض أيضاً، استفردوا بمؤشراته، ونهبوا كل مقوماته.
فمنذ بداية الثورة في 2011، وبدء نظام الأسد في قتل شعبه وتشريده، تعرضت سورية لخسائر اقتصادية ضخمة. وتشير التقديرات في العام 2021 إلى أن الكلفة الاقتصادية للحرب منذ عام 2011 بلغت 1.2 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي المفقود. ويشمل هذا الرقم الدمار الواسع النطاق للبنية التحتية، والانهيار الاقتصادي، والتأثير على رأس المال البشري. وإذا انتهت الحرب على الفور، فإن العواقب الطويلة الأجل قد تضيف 1.4 تريليون دولار إضافية في التكاليف بحلول عام 2035، ليصل المجموع إلى 1.7 تريليون دولار عند تضمين التأثيرات الأوسع مثل الصحة والتعليم.
على وجه التحديد، تم تقييم الدمار المادي للبنية التحتية وحدها بنحو 117.7 مليار دولار، وهو ضعف الناتج المحلي الإجمالي لسورية في عام 2010.
أما الليرة السورية فقد شهدت انهياراً هائلاً. في 2011، كان الدولار يعادل حوالي 50 ليرة سورية، بينما وصل سعر الدولار حالياً إلى ما يقارب 22 الف ليرة سورية في دمشق و36 ألف ليرة في حلب. هذا الانهيار الحاد في العملة المحلية ساهم في زيادة التضخم وارتفاع أسعار السلع بشكل كبير، في مقابل مداخيل زهيدة يتقاضاها من بقي من السوريين في أرضه.
أزمات جعلت من سورية بؤرة فقر، بنسبة تتخطى 84% من السوريين تحت خط الفقر، فيما حوالي 13 مليون سوري يعانون من نقص حاد في الغذاء. أما معدلات البطالة فهي تزيد عن 60% في أكثر المؤشرات تفاؤلاً.
لكن هذه المؤشرات لم تكن كافية للطاغية، فقد سجلت العديد من التقارير نهب النظام حتى جزءاً كبيراً من المساعدات الدولية وأموال إعادة الإعمار المخصصة للتخفيف من المعاناة، فيما فرض ضرائب ورسوماً باهظة على السوريين داخل البلاد وخارجها. ويشمل ذلك رسوماً عالية بشكل غير عادي على جوازات السفر. وتشير التقديرات إلى أن سياسات النظام وأفعاله منذ العام 2011 نهبت مليارات الدولارات من الاقتصاد السوري.
مقاتلون يؤمنون البنك المركزي السوري، دمشق في8 ديسمبر2024 (فرانس برس)
وهذا الخراب لم يبدأ منذ 13 عاماً. قبل العام 2011، كان الاقتصاد في عهد حافظ وبشار الأسد مخزن أموال لتحقيق مكاسب شخصية من خلال الفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والسيطرة على القطاعات الحيوية، وقد كانت هذه الطريقة آلية لترسيخ الاستبداد. إذ طوال حكم حافظ الأسد (1970-2000)، كان الاقتصاد ممسوكاً بالمطلق بيد الرئيس وحاشيته، تحت شعار “الاشتراكية”، التي كانت تستخدم باعتبارها كلمة براقة لنهب البلد وتوزيع الفتات للسكان. ولم يكن للسوريين متنفساً، حتى النقابات كانت بيد الأسد وتحت إمرته، ما عزز الفساد والاستغلال وراكم ثروات النخب المرتبطة بالنظام.
ولم يختلف الأمر في عهد بشار منذ عام 2000، إذ إن ما عرف بسياسات التحرير، لم تكن سوى إعادة تدوير للاستبداد الاقتصادي، ما جعل موارد البلد وقطاعاته الأساسية من نفط واتصالات وعقارات وصادرات وواردات وغيرها في يد رأس النظام وحاشيته وأقربائه، وقد قُدّر أن حوالي 33% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر قبل عام 2011، مع ارتفاع حاد في معدلات الفقر في الريف بسبب الجفاف وسوء توزيع الثروة. وفيما كانت البطالة رسمياً تبلغ حوالي 8.6%، لكن التقديرات غير الرسمية كانت تشير إلى أكثر من 20%.
كما عزز النظام سيطرته على المؤسسات المالية السورية، واستخدمها لتعزيز مصالحه، مع إعطاء تصاريح أمنية للخدمات المالية، وبالتالي استبعاد العديد من السوريين من النشاط الاقتصادي. وقد قدرت تقارير أن شبكات الفساد داخل النظام كانت تسحب مئات الملايين من الدولارات سنوياً من أموال الدولة، إما عبر العقود الاحتكارية أو سوء استخدام السلطة. منها مثلاً شبكة رامي مخلوف، الذي كان يتحكم بحوالي 60% من الاقتصاد السوري قبل 2011، وفق عدد من التقارير، ما جعله رمزاً للفساد في البلاد.
وخلال السنوات التي سبقت الثورة، أدى تخلي النظام عن سياسات الدعم للمواد الأساسية (مثل الوقود والغذاء)، إلى إفقار الملايين. بالإضافة إلى ذلك، استحوذت النخب المقربة من النظام على الأراضي والمشاريع الزراعية، ما دفع العديد من سكان الريف إلى الفقر المدقع.
وقد أدى الفساد والنهب الممنهج إلى خلق فجوة هائلة بين النخب الحاكمة وبقية السكان. ومؤشرات النمو التي كانت متصاعدة خلال حكم الأسد لم تكن مرتبطة بمسار اقتصادي حقيقي، وإنما بقطاعات ممسوكة بالكامل من قبل نظام اعتمد الفساد نهجاً للحفاظ على الولاءات.
هجوم حلب
نظام قتل وهجّر شعبه، هذه العبارة لا يوجد فيها أي نوع من المبالغات. فمنذ 2011، أُجبر 12.3 مليون شخص على الفرار من البلاد، مع وجود 6.7 ملايين نازح داخلياً، بينما قدر عدد سكان سورية في 2010 بـ23 مليون شخص. وتجاوز عدد القتلى المدنيين 231 ألف شخص، بينهم 30 ألف طفل و16 ألف امرأة، وجيش النظام كان مسؤولاً عن مقتل حوالي 201 ألف شخص منهم. كما تم توثيق اعتقال أو اختفاء قسري لحوالي 157 ألف شخص، من بينهم أكثر من عشرة آلاف امرأة وخمسة آلاف طفل.
الكل يذكر ما حل في مارس/ آذار 2011، حين أطلقت مجموعة من الأطفال شرارة الثورة. رسموا على حيطان درعا شعارات مناهضة للنظام، تم اعتقال هؤلاء الأطفال وتعذيبهم. لم يتابع أحد ما حل بهم اليوم، ولكن ما أرادوه تحقق بعد 13 عاماً. عقول حرة منذ الطفولة كهذه قد تحوّل قضبان سجون الأسد إبراً تحيك بها اقتصاداً يحقق للسوريين ما أرادوه في ثورتهم: خبز، علم وحرية.
————————————
العالقون في الثورات المضادّة/ محمد طلبة رضوان
10 ديسمبر 2024
ثمّة فارقٌ بين الاعتراف بالهزيمة، بوصفها مرحلة في الصراع، والتسليم بأنها قدرٌ محتوم لا فكاك منه. في وقت ما، كان من الضروري أن نعترف وبوضوح أننا مهزومون، وأن هزيمتنا نتيجة أفكارنا وممارساتنا، وليس ظلم الحياة، وفق معالجات وردّات قول وفعل مأساوية، مقدّمات تفضي إلى نتائج، ولا يعني قسوتها، أننا لا نستحقّها. كتب ذلك كاتب هذه السطور في حينه، وكتبه غيره، وتنوّعت المقاربات، وذهب أعلاها صوتاً إلى أن الطرق كلّها كانت تؤدّي إلى الهزيمة، وإلى المعتقلات، وإلى التصفيات الجسدية، والى الإخفاءات القسرية، وإلى المنافي الإجبارية، وأنه لم يكن من سبيل للانتصار على الثورات المضادّة لأن الأنظمة أقوى، وتحالفاتها أقوى، والقوى العظمى التي تدعمها أقوى، فالهزيمة هي نهاية التاريخ. والأكثر جدوى أن نستسلم للعدمية، أو للأنظمة الاستبدادية.
تظهر هذه الرؤية في قراءات كثيرين ممّن شاركوا في أدوار فعّالة في ثورة يناير (2011) للمشهد السوري الراهن، فهم منزعجون أشدّ الانزعاج ممّا يحدث في سورية، وموقنون أشدّ اليقين (!) أن رحيل بشّار الأسد على يد الفصائل المسلحة السورية بداية النهاية، ونذير الحرب الأهلية (القائمة بالفعل)، وتقسيم سورية (القائم بالفعل)، والحكم الطائفي (الحاكم بالفعل)، والسجون والمعتقلات والتشريد والقتل لآلاف وملايين السوريين، وقل ما شئتَ عن توقّعات الرفاق التي هي واقع سورية، وليس بالضرورة مستقبلها، ولا يعني نجاح الثورة السورية سوى تجاوز هذا المرار، ولا يعني فشلها سوى استمراره، تماماً كما أنشأه النظام الأسدي المليشاوي الطائفي، أكثر من الجولاني ورفاقه أو أخفّ وطأةً، وفق شروط جديدة. فليس لدى السوريين ما يخسرونه.
ثمّة بديهيات غائبة عن القراءة المصرية السوداوية، أهمها أن الفشل في مصر وغيرها لم يكن قدراً، ولن يكون، إنّما نتيجة. نتيجة رداءة في السياسات، ورداءة في الممارسات، وغياب كامل في لحظة الحضور، وحضور كامل في الغياب، ما يعني هزيمةً مستحقَّة. تخبرنا تجارب التحوّل الديمقراطي أن النخب هي من تنجز كلّ شيء، وأن “المنجز” مرهون بقدرة النخب الواقعية والعاقلة على “التفاهم”. وما حدث في مصر (وما زال يحدث)، هو صورة بالحجم الطبيعي للنخب المصرية. قدراتها وإراداتها ووعيها وتأثيرها، تختلف درجات المسؤولية، وتحمل التفاصيل كثيراً من وجهات النظر، لكن في الأخير تقع المسؤولية على من تقدَّم لحملها، فلم يحملها، في الأحزاب السياسية، وفي الجماعات الدينية، وفي المؤسّسات الإعلامية، وطبعاً في مؤسّسات الدولة. فلماذا تفترض النخب المصرية أن النخب السورية صورةٌ منها، وأن فشل المصريين هو قدر السوريين، بل قدرهم اليقيني الذي لا فكاك منه، إلى درجة تجريم سعادة السوريين بما أنجزوه؟
وبرحيل المجرم بشّار الأسد، وبإطلاق عشرات الآلاف من المعتقلين، وبفتح الطريق أمام عودة ملايين اللاجئين، ثمّ تجاوز التجريم إلى توعّد السوريين بأن القادم أسوأ وأسود وأغبر على دماغهم ودماغ أهاليهم ومن يباركون لهم، ممّن لم يكونوا معنا طوال 14 عاماً ليتأكّدوا بأنفسهم، كما تأكّدنا، أنه لا أحد ينتصر هنا (ما هذا؟).
يبحث العالقون في وعي الثورات المضادّة (ممن لا أشكّك في نيّاتهم) عن ثورة تفصيل، ثورة في مقاس تخيّلاتنا التي كانت أحد أسباب هزيمتنا، ثورة بلا إسلاميين، أي بلا أغلبية، وما فوز محمد مرسي بديلاً من اكتساح حازم أبو إسماعيل عنا ببعيد، ثورة بلا دعم إقليمي أو دولي يطعن في نقائها وطهرانيتها، ثورة بلا سياسة، في إعادة تدوير لنفايات التفرقة بين الثوري والسياسي، يبحث الرفاق عن انتصار قائم على أسباب الهزيمة كلّها، ثم يتوعّدون من لا يشاركهم البحث بأنه مهزوم لا محالة، أو ربّما “إرهابي”، وفق رواية الأجهزة الأمنية “الوطنية”.
يمثل رحيل بشّار الأسد إنعاشاً لذاكرة الثورات العربية، التي لا تعني هزيمتها نهايتها، فما حدث أكبر من إمكانية تجاوزه، مهما حاولت الأنظمة الاستبدادية أمنياً وإعلامياً، فإذا وعت النخب السورية دروس الهزيمة في تونس ومصر، وأحسنت إدارة مرحلة ما بعد بشّار، فهي البداية الجديدة لنا جميعاً، ولذلك فهي تستحقّ الرهان.
العربي الجديد
—————————–
خريطة سوريا الجديدة.. من يشكلها وكيف؟/ تسفي برئيل
10 كانون الأول 2024
انتشار قوات الجيش الإسرائيلي في المنطقة منزوعة السلاح في هضبة الجولان، والسيطرة على جبل الشيخ في الجانب السوري، ومهاجمة أهداف عسكرية في سوريا، كل ذلك ربما هو المميز الأول لخارطة سوريا الجديدة، التي قد تتطور في الفترة القريبة المقبلة. إسرائيل ليست الوحيدة التي بدأت في إعادة ترسيخ نفسها أمام سوريا وتغيير خارطة تموضعها العسكري في سوريا لصالحها.
أمس (الأحد) نشر بأن مليشيات مؤيدة لتركيا، التي تنتظم في منظمة “الجيش الوطني السوري”، (أحفاد تنظيم “جيش سوريا الحر”، المليشيا العسكرية الأولى والأكبر التي تشكلت في بداية التمرد في سوريا في 2011)، قد سيطرت على مدينة منبج غربي نهر الفرات، التي تتركز فيها قوات كردية كبيرة لتنظيم “قوات سوريا الديمقراطية”، عالقة في مركز خطة سيطرة تركيا على المحافظات الكردية في سوريا التي تشمل إقامة قطاع أمني في الأراضي السورية.
مليشيات وقوات شعبية غير منظمة سيطرت على مدينتي السويداء ودرعا جنوب سوريا، ومدينة القنيطرة على الحدود مع إسرائيل، وقد تطالب وتؤسس فيها “حكماً ذاتياً”. يبدو أن سوريا أصبحت الآن “أرض الإمكانيات غير المحدودة” لكل قوة مسلحة، في الداخل والخارج، التي ستحاول السيطرة على مناطق جغرافية ومواقع عسكرية لترسيخ الحقائق على الأرض قبل أن يستقر في دمشق نظام مركزي ومحاولة إقامة دولة موحدة تحت سلطة متفق عليها.
أبو محمد الجولاني، الذي تخلى أمس عن اسمه السري وعاد إلى اسمه الحقيقي، أحمد الشرع، أمر مقاتليه بعدم المس بالمباني الحكومية، والحفاظ على الممتلكات العامة، والحذر من حملة انتقام ضد أجهزة نظام الأسد والمدنيين الذين تعاونوا معه، بالأساس من أبناء الطائفة العلوية. ولكن يبدو أن سيطرته على غضبه وعلى مشاعر الانتقام محدودة. المقارنات التاريخية موضوع مضلل وخطير، ونتذكر المشاهد القاسية في الأيام الأولى لاحتلال العراق في 2003. فقد اندفع الجمهور في حينه إلى الوزارات الحكومية، وقتل مئات الأشخاص من حزب البعث في حملة انتقام على يد المواطنين والعصابات. تم نهب المتحف الوطني، وأصبحت الجريمة ظاهرة وجماهيرية حتى قبل بدء موسم العمليات الكبيرة وقبل تجذر تنظيم القاعدة في الدولة.
وفي ليبيا ظهرت مظاهر مخيفة خاصة بها، عندما (مع طرد وقتل الرئيس معمر القذافي في 2001) تمزقت في صراعات قوة قاتلة بين القبائل والعائلات، الأمر الذي تطور إلى مواجهات سياسية وعسكرية أحبطت وتحبط حتى الآن إمكانية إقامة دولة موحدة قادرة على العمل. ثمة وصفة مشابهة في سوريا لكل العوامل.
الطريقة الروسية
لقد كانت للجولاني خطة عسكرية ناجعة، التي -حسب قوله- أعد لها لأشهر كثيرة وربما لسنوات. وقد عرف كيفية استغلال الخطأ الروسي الاستراتيجي جيداً، التي خلقت في إدلب تجمعاً كبيراً من المسلحين الذين انتقلوا إليها من محافظات ومدن سوريا كجزء من عملية “المصالحة” مع قوات متمردين محلية، التي أملتها موسكو. هذه الطريقة كانت فرض حصار متشدد على المدينة أو المحافظة التي عمل فيها المتمردون المسلحون، واقتُرح عليهم نزع سلاحهم أو الإجلاء إلى إدلب. والنتيجة أن عشرات آلاف المسلحين من عدة محافظات ومن خلفيات مختلفة وجدوا أنفسهم في محافظة واحدة يعيش فيها 4 ملايين شخص تقريباً.
هذه المحافظة وفرت للجولاني المداخيل المطلوبة لتمويل نشاطات مليشياته، وتطوير وسائل قتالية دقيقة وإدارة مدنية للمحافظة تحت حكم “حكومة الإنقاذ” التي شكلها مع خمس مليشيات كبيرة أخرى. قرأ الجولاني الخارطة السياسية التي تطورت في ظل الحرب في قطاع غزة، ووجد توقيتاً مناسباً لشن الحرب في اليوم الذي دخل فيه وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان وحزب الله حيز التنفيذ. ولكن من أجل الوصول إلى مكانته كقائد أعلى للمليشيات في إدلب، فقد أدار حرباً ضروساً وحشية ضد الخصوم في الداخل، واضطر في السنة الأخيرة إلى مواجهة عصيان مدني داخلي في إدلب. وشمل التمرد مظاهرات احتجاج للجمهور ضد فساد “حكومة الإنقاذ” والضرائب التي فرضت على المواطنين وعلى المصالح التجارية، وضد المس المنهجي بالممتلكات الخاصة وأبناء الأقليات.
لكن إدارة المحافظة لا تشبه إدارة دولة معقدة ومنقسمة، التي تحمل شحنة ضخمة من حسابات الماضي، ليس فقط بين المواطنين والنظام، الذي ذبح أكثر من نصف مليون من المدنيين وجعل أكثر من 11 مليون لاجئين أو مهجرين، بل أيضاً بين أجزاء السكان: العلويون ضد السنيين، الأكراد ضد العلويين، أبناء النخب ضد الفلاحين أو الحضريين الذين انتزعت منهم كل ممتلكاتهم. عداء شديد تطور أيضاً بين هيئات المعارضة المدنية، مثلاً بين “حكومة الإنقاذ” التابعة للجولاني و”الحكومة المؤقتة” التابعة لائتلاف قوات المعارضة، وبينها وبين الحكم الكردي الذاتي الذي تشكل في المحافظات الكردية في شمال سوريا.
من الذي سيدير الدولة؟
نظرياً، من يحمل السلاح، أي الجولاني، هو من يملي تركيبة الحكومة الجديدة ويقرر شكل الدولة السورية الجديدة. ولكن السلاح الآن في يد الجميع، ولا حاجة إلى جيوش منظمة، مثل جيش “هيئة تحرير الشام”، لوقف عملية البناء السياسية. في سوريا والعراق واليمن والسودان، وبعض الدول الأخرى، تم تسجيل فصول مظلمة ودموية في تاريخ الصراع على بناء دولة. والمطلوب الآن في سوريا بناء دولة من البداية. إن الاطلاع على المقابلات ومحادثات الجولاني خلال سنين، يظهر أنه رغم تصميمه وثقته بالقدرة على إسقاط النظام، لم يطرح خطة سياسية دستورية واقتصادية، التي يطمح بحسبها إلى تأسيس الدولة بعد الأسد. من غير الواضح مثلاً، ماذا سيكون مصير الجيش السوري والشرطة وجهاز القضاء؛ هل سيتم حل البرلمان؛ هل ومتى ستكون انتخابات، ومن أين ستأتي ميزانية الدولة؟ قبل بضعة أيام، قال الجولاني إنه مستعد لحل المليشيا الخاصة به بعد إسقاط النظام. هذا تصريح جيد خرج من فم الشخص الذي عمل على التخلص من صورة المتعصب المسلم، الذي يثير الشك والخوف وحتى الرعب، في أوساط الجمهور السوري الواسع الذي تربى في أحضان حزب البعث العلماني. ولكن مثلما يعرف السياسيون في العراق ولبنان وليبيا، فالمليشيات العسكرية الخاصة وسيلة حيوية لمن يريد التأثير، ناهيك عن الحكم.
السؤال الحاسم الذي قد يؤثر الآن على طبيعة سوريا والتوجه السياسي، يتعلق بمصادر التمويل. سوريا دولة مفلسة، الليرة السورية انخفضت أمس بنسبة 46 في المئة في دمشق، و65 في المئة في حلب، وميزانية الدولة باتت ورقة لا قيمة لها، والاستثمارات الأجنبية غير موجودة، باستثناء مشاريع تسلمتها شركات إيرانية، وتعد جزءاً من دفع دين سوريا لإيران، الذي يقدر بـ 30 مليار دولار. الاعتماد الذي منحته للأسد، لم يعد موجوداً، والعقوبات الأمريكية والدولية التي فرضت على إسرائيل تمنع استثمارات شركات دولية، ومنظومة البنوك محطمة، وحقول النفط التي يسيطر الأكراد على معظمها، ويبدو أنها ستعود إلى سيطرة الدولة، بحاجة إلى إعادة ترميم عميقة مثل كل البنى التحتية في الدولة.
لكن العقبة الاقتصادية هي التي ستقرر وجهة سوريا. مع صورة “أرض الإمكانيات غير المحدودة” المتحررة من قبضة إيران وروسيا، تخلي دمشق الساحة لدول المنطقة والدول الغربية، التي ظلت تشاهد من بعيد، أو تابعت التطورات من قرب. هذه الدول لم تكن في الساحة عندما ذبح الأسد أبناء شعبه، ولم تعمل ضد النظام، باستثناء التنديد وفرض العقوبات التي لم تساعد في تغيير أسلوب الأسد.
إضافة إلى ذلك، أعادت الدول العربية الأسد إلى أحضانها في السنة الأخيرة، وفحص عدد من الدول الأوروبية تطبيع علاقاتها مع نظامه، وعرض الدولة كـ “مكان آمن” للتمكن من إعادة ملايين اللاجئين السوريين إلى بيوتهم. هذه الدول، مثل كل العالم، كانت غير مستعدة للانقلاب المضاد الذي نفذه المتمردون. وإزاء محاولة بذل الجهود “لبناء الأمة” في أفغانستان والعراق وليبيا، يمكن تفهم “موقف المشاهد” الذي تتبعه الآن. ولكن لا يمكنها التأثير وتوجيه تبلور نظام جديد في سوريا من هذا الموقف.
السعودية، مثلاً، فهمت بتأخير أنها فقدت العراق لإيران قبل البدء في نسج العلاقات السياسية والاقتصادية مجدداً مع بغداد. الولايات المتحدة يمكنها مساعدة لبنان في أزمته الاقتصادية الشديدة لو سمحت لمصر والأردن ببيعه الكهرباء، التي حرم منها؛ لأن خطوط الكهرباء ستمر في سوريا. الرافعة الاقتصادية التي يمكن إيجادها في سوريا لدول الخليج الغنية والدول الغربية لا تعد فرصة اقتصادية أو سياسية فحسب، بل تتعلق مباشرة بالأمن الإقليمي الذي يحتاج سلطة ناجعة ومستقرة. وإزاء الخطر الذي يتربص بسوريا، سيتطور نظام مليشيات يغرق في حرب العصابات.
هآرتس 9/12/2024
القدس العربي
—————————-
سوريا نشيد الأحرار: وتحققت أنغام الحرية/ مروة صلاح متولي
10 كانون الول 2024
أطل الصباح الحر المشرق على سوريا، صباح ندي حلو العبير، على نسماته يرفرف العلم السوري، رمز الإيمان بالوطن واليقين في عودته، والصبر الطويل على مصابه. يرفرف العلم السوري ومن حوله ترفرف القلوب، يسجد الشعب السوري شكراً لله وترتفع تكبيراته تشق السماء وتُسمع الجميع وتهز أوتار الإيمان في القلوب. ضحكات على وجوه صهرها الحزن، وبسمات في عيون دامعة وعلى شفاه تتمتم بحمد الله، وفرحة تصعد على جبال شاهقة من الآلام والمآسي والأهوال. تحررت سوريا وسقط الطاغية المجرم، عاشت سوريا وماتت الخيانة الدنيئة، تشبثت أرض سوريا بالحرية وبكل ما هو حر، ولفظت أثقال الظلم والقهر وكل ما هو خبيث. عادت الحرية النائية إلى ربوع سوريا، وعادت سوريا إلى الحرية، وعادت إليها الروح.
في مثل هذا الوقت يذهب القلب إلى كل ما هو سوري فرحاً مستبشراً، ومع موسيقى سوريا نحب أن نكون، فلنستمع إذن إلى «سوريا نشيد الأحرار» للموسيقار مالك جندلي ابن حمص العدية مدينة خالد بن الوليد، وكنا نستمع إلى ذلك النشيد في الأمس القريب كحلم جميل نؤمن بتحققه يوماً ما، لكن الحلم كان يرافقه السؤال المؤلم «متى؟». ألّف مالك جندلي «سوريا نشيد الأحرار» بعد مرور عامين على قيام الثورة السورية، رغم الألم ومن عمق الإيمان بالوطن والحرية، كان مالك جندلي يؤلف هذا النشيد ويعد لتلك اللحظة المنتظرة، لحظة الحرية التي كان موقناً أنه على موعد مع الشعب السوري.
كان مالك جندلي طوال الأعوام الماضية يعمل من ناحية على توثيق نضال الشعب السوري من أجل الحرية والكرامة والعدالة وحقوق الإنسان، فيصور بموسيقاه مآسي الإبادة الجماعية والمجازر الرهيبة، وآلام اللاجئين والأطفال في المخيمات والمهجرين قسراً إلى شتى بقاع الأرض بعيداً عن الوطن. ويهدي موسيقاه إلى نساء سوريا المعتقلات والمختفيات قسرياً مثل طل الملوحي ورزان زيتونة وغيرهما الكثيرات من النساء. ويُخلد شهداء الثورة السورية كالشهيد إبراهيم القاشوش، ويحفظ نداءات الثورة السورية في موسيقاه السيمفونية العالمية. ومن ناحية أخرى إلى جانب التوثيق كان جندلي يؤلف موسيقى المستقبل الذي يتطلع إليه كل سوري، نظر جندلي إلى النشيد الوطني السوري في عهد الطاغية الساقط، فوجده خالياً من اسم سوريا فلا يُذكر فيه بتاتاً، ووجده كذلك يفتقر إلى كلمة الحرية فلا وجود لها على الإطلاق، فأمسك بالقلم وكتب بنفسه كلمات «سوريا نشيد الأحرار» وبدأه باسم سوريا وختمه بكلمة الحرية. ثم منح الكلمات لحناً سيمفونياً رفيعاً فيه قوة الشعور الوطني وجمال النغم والتوزيع الأوركسترالي، وحماسة الأداء الصوتي الجماعي الكورالي.
عندما كانت الأهوال تسقط على رؤوس الشعب السوري، كان مالك جندلي يؤلف «سوريا نشيد الأحرار» تشبثاً بالإيمان والأمل ورجاءً في الغد، واستعداداً للمستقبل المقبل. أراد أن يكون لسوريا نشيد يردد اسمها ولا يتجاهله، ويُعلي أسمى قيمة تبنى عليها الأوطان وهي الحرية. يحمل النشيد في طياته اليقين بتحقق الحرية في النهاية، وإن بدا ذلك حلماً آنذاك، لكن ها هو الحلم قد تحقق. في كلمات موجزة مكثفة خطها قلم مالك جندلي، يصف النشيد سوريا بما يليق بها، ويذكر بعضاً من تاريخها العريق وحضارتها المجيدة، ويحدد ملامح مستقبلها المنشود. على وقع موسيقى تلتهب بحرارة الثورة السورية يتدفق الغناء الصادر من قلب الجموع، بعد نغمة افتتاحية تعد نموذجية لكي يفتتح بها هذا النوع من الأناشيد الوطنية. يتناول النشيد ويصور بالكلمات والموسيقى ملامح وجه الوطن، ويذكر مفاخر سوريا وصفاتها وما يميزها بين الأوطان والأمم، يذكر الأرض الغنية المليئة بالخيرات في موضعين متفرقين حين يقول: «سوريا سوريا أرض السنابل الذهبية» وعندما يقول «زيتون أجدادي»، وهنا يشير إلى خيرات سوريا وثراء أرضها الزراعية، فقد كانت في الأزمان القديمة سلة الغذاء للعالم في عصر الإمبراطورية الرومانية. ويصف جندلي سوريا بـ»مهد الأمم» في إشارة إلى مآثر الحضارة السورية، وكونها من أقدم البلدان والحضارات التي يربو عمرها على آلاف السنين، وعندما يقول: «نور تراثها ألهم القلم» يشير ذلك إلى حقيقة أن سوريا كانت سباقة إلى الكثير من الأمور الحضارية والثقافية ـ التي تنير التاريخ الإنساني، كالكتابة واختراع الأبجدية والتدوين الموسيقي، وأقدم أنواع الغناء والآلات الموسيقية وأقدم المطربات أيضاً. وفي قوله: «يا بلادي يا نهر العبر يروي مجدها الرُقم والحجر» إشارة إلى النقوش والكتابات الأثرية، ومجد سوريا المحفور على أحجارها وكل ما دلت عليه الآثار التي تركتها الحضارة السورية القديمة. يستمر الفخر بالوطن في ثنايا كلمات النشيد، فيقول: «موطن الأنبياء أبجدية وغناء»، ويقول أيضاً: «موطن الشرفاء مرقد الشهداء.. شمسنا في السماء نسرنا في العلاء» اعتزازاً بالشعب وشهداء الوطن، تمثل هذه العبارة ذروة موسيقية وصوتية غنائية، وتحمل شحنة معنوية هائلة وإيماناً كبيراً بقوة الوطن ومكانته الرفيعة المستحقة مهما تكالب عليه الطغاة والمعتدون. على الرغم من براعة الصياغة الفنية للنشيد بتفاصيله الموسيقية الدقيقة وربما تعقيداته، إلا أنه معد لأن يكون نشيداً سهلاً يغنيه الجميع، فمنذ لحظاته الأولى يرغب السامع في الانضمام إلى ذلك الصوت السوري الذي يردد كلمات سوريا الحرة في نشيد يضم الجميع إلى الوطن.
سوريا نشيد الأحرار
سوريا سوريا وطن الأحرار والحرية
سوريا سوريا أرض السنابل الذهبية
يا بلادي يا مهد الأمم.. نور تراثها ألهم القلم
موطن الشرفاء مرقد الشهداء
شمسنا في السماء نسرنا في العلاء
يا بلادي يا نهر العبر
يروي مجدها الرُقم والحجر
موطن الأنبياء أبجدية وغناء
ندعو رب السماء لا جفاء لا فراق
عن بلادي وأهلي وزيتون أجدادي
وأنامل الأطفال
تراب الأحرار وطن الحرية
سوريا سوريا وطن الأحرار والحرية
كاتبة مصرية
القدس العربي
————————–
ثلاث جوريّات من أجل سوريا الحرّة/ صبحي حديدي
لأنّ الحلم بسوريا آتية، حرّة كريمة ديمقراطية قائمة على دستور عصري مستنير يكفل المواطنة والتعدد والمعتقد ويساوي بين جميع السوريين في الحقوق والواجبات، لم يكن وليد برهة الانتفاضة الشعبية، ربيع 2011، فحسب؛ بل لعله رافق هذه السطور منذ أن امتزج الوعي السياسي بحسّ الضرورة التنظيمية وحافز العمل الميداني، على امتداد نصف قرن ونيّف. اليوم، مع انطواء صفحة نظام الاستبداد والفساد وسلطة آل الأسد الأب والوريث، فإنّ مشاعر الابتهاج العارم بأولى بشائر تجسّد الحلم، والتصميم الصلب على الانخراط الأقصى في أنساق بناء سوريا الجديدة الحرّة كافّة، والتيقظ العالي إزاء ما هو محتمل من مخاطر وعقبات… لا يدانيها، هذه وسواها، إلا أحاسيس الوفاء لذاكرة رفاق وأصدقاء وزملاء سوريين، ليسوا اليوم بيننا كي يفرحوا مثلنا، ومعهم نفرح.
ثلاث جوريات، إذن، باللون الأحمر ومن طراز الوردة الدمشقية Rosa Damascena الشهيرة، أضعها افتراضياً على قبور ثلاثة سوريين أعزاء رحلوا هنا، في المنفى الفرنسي؛ بين عشرات أو مئات ممّن يستحقونها أيضاً، هنا وهناك في منافي السوريين التي امتدت على مشارق الأرض ومغاربها. وأستعيد، في السياق والخلفية، ما انتهى إليه إدوارد سعيد في مقالته اللامعة “ذهنية الشتاء: تأملات حول الحياة في المنفى”، 1984، التي رأت أنّ المنجز الأساسي في الثقافة الحديثة صنعه منفيون أو مهاجرون أو لاجئون؛ وأنّ التفكير في فوائد المنفى، كباعث على الموقف الإنساني والإبداع، أمر لا يعني التقليل من عذابات المنفيّ الكبرى، لأنّها تسبغ الكرامة على شرطٍ كان القصد منه في الأساس الحرمان من الكرامة.
الجورية الأولى على قبر رياض الترك (1930 ــ 2024)، المعارض والقائد السياسي السوري البارز الذي دوّنت محطات حياته سلسلة من الخصائص والخيارات والمواقف والوقائع، أفردته إيجابياً عن الغالبية الساحقة من سجناء الرأي خلال سبعة عقود من تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، وتوّجت الحماسة الشعبية العريضة لمنحه لقب “مانديلا سوريا” قياساً على سنوات سجن طويلة ومتعاقبة امتدت نحو ربع قرن. انفرد الترك، إذن، في تعدد فترات الاعتقال على اختلاف الحكومات والحكام والسياسات؛ ومقادير التنكيل والتعذيب والحرمان من الحرية؛ وثباته، الأسطوري الفريد، على مناهضة أنظمة الاستبداد كافة.
“شيخ المعارضين” كان لقباً ثانياً استقرّ في الوجدان الشعبي العريض بوحي من مجموعة اعتبارات معقدة، نابعة من دأب الترك على معارضة الاستبداد أياً كانت طبيعة النظام الحاكم. وهذا نهج ظلّ يتواصل ويتعزز ابتداءً من خمسينيات القرن العشرين، وصولاً إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا 2011، وحتى اضطرار الترك إلى مغادرة البلد نحو فرنسا عبر تركيا في سنة 2018، ورحيله يوم 1 كانون الثاني (يناير) 2024 في إحدى ضواحي باريس.
الجورية الثانية على قبر جميل حتمل (1956ــ1994)، القاصّ والصحافي والناشط السوري؛ المراسل الثقافي لهذه الصحيفة “القدس العربي”، وعدد من الصحف والدوريات العربية؛ والمشارك الدؤوب في الملتقيات والمؤتمرات الأدبية العربية، إلى جانب شخصيته اليسارية والديمقراطية ومواقفه المعارضة للنظام السوري.
وقبل رحيله، وأثناء نوبة مرض عنيفة أقعدته في مشفى “كوشان” الباريسي طيلة عشرة أيام، تكسرت فيها نصال ونصال على الجسد الهزيل والروح ذات الشقوق الغائرة الفاغرة؛ كتب حتمل ثماني قصص قصيرة للغاية، أطلق عليها تسمية عامة: إنها مجموعة قصص المرض وقصص الجنون. المرض كان أوضح من أن تضيق عنه العبارة، وأما “الجنون” فقد كان ذروة ارتقاء حتمل إلى الإحساس بالحدث، وتحسّس الفعل، وحساسية القول. وهذا طراز خاصّ في الرقيّ الشعوري، يجمع أقصى الهشاشة العاطفية بأقصى الصلابة العقلية، ويقيم توازناً نادراً بين ضرورتين: الشجاعة والبكاء.
الجورية الثالثة على قبر فايز ملص (1940 ــ 2015)، الكاتب والمثقف والمواطن السوري الذي انتمى ــ بامتياز رفيع، كما يجب القول ــ إلى طراز خاصّ من معارضة وطنية وديمقراطية، عريضة وائتلافية، لا تنغلق عند هاجس أيديولوجي واحد (رغم انتماء الراحل إلى فكر يساري وتقدمي لا لبس في خياراته). كان مآلاً طبيعياً، إذن، أنّ تلك المعارضة لم تقتصر على مناهضة نظام الاستبداد والفساد في ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة فحسب، بل انفتحت على مفهوم مستقبلي عن سوريا، يُدرج اختلاف الأفكار وتعدد العقائد واتساع الآفاق واغتناء الجماعات.
مآل متمم آخر هو اتساع رؤية ملص الشخصية، أو الذاتية بالأحرى، لأنها انبثقت من أواصر واعتبارات ذات صلة بالذات أيضاً؛ بحيث تصدّرت القضية الفلسطينية مكانة مركزية في جهازَي الوعي والممارسة معاً. في عبارة أخرى، لاح وكأنّ ملص، أسوة بصفوة لامعة من النساء والرجال على شاكلة جيله ذاك، ظلّ معنيّاً بالبرنامج الاجتماعي ــ السياسي عند حركة “فتح” مثلاً، بقدر بحثه عن الثقافي والفكري عند “الجبهة الشعبية” في مثال ثانٍ.
هؤلاء ثلاثة سوريين، يجمع كلّ منهم سلسلة خصال تفترق تارة وتلتقي طوراً، على أكثر من خطّ وخيط وخيار ورأي؛ الأمر الذي يمنحهم، مع ذلك أو ربما بسبب من ذلك تحديداً، امتياز التعبير الفردي والجماعي عن شخصية سورية عليا، يندر أن تنفكّ عن نزوع البناء، ورفض الظلم، ومقارعة الاستبداد، والتطلّع إلى أكثر من فجر واحد ساطع الإشراق وطافح الضياء.
القدس العربي
————————-
سورية والذئب الإسرائيلي/ معن البياري
10 ديسمبر 2024
القرار الإسرائيلي أكثر من واضح: ضرب كل قدرات الجيش السوري الوازنة. دلّ على هذا الوضوح أن أكثر من مائة اعتداءٍ على مستودعات صواريخ متطوّرة وأنظمة دفاع جوي ومواقع أسلحة كيميائية، شنّها جيش الاحتلال، نهار أول من أمس ومساءه والليلة التالية، في أرياف القنيطرة ودرعا ودمشق، كما استهدف قاعدة عسكرية قرب السويداء، ساعاتٍ بعد الإغارة على موقع قرب مطار المزّة العسكري، وذلك كله بالتزامن مع احتلال أراضٍ سوريةٍ حدودية مع فلسطين، وإعلان نتنياهو “انهيار” اتفاق فضّ الاشتباك الموقّع بين سورية وإسرائيل في 1974. وذاع أمس أن وزير الحرب كاتس أمر “بإنشاء مجال أمني في سورية خال من الأسلحة الإستراتيجية الثقيلة والبنى التحتية التي تهدّد دولة الاحتلال”. وليس من معنىً لكل هذه الشهية لدى دولة الاحتلال للعدوان المتتالي على سورية، فور سقوط نظام بشّار الأسد، سوى أنها دلالةٌ مؤكّدةٌ على أن الذئب الإسرائيلي لن يترُك هذا البلد المدمّى، المُنهك، في أمنٍ وأمان، لن يجعل السوريين يمضون إلى إعادة بناء الجيش القوي القادر، لن يتركَهم ينهضون في دولةٍ لهم منيعة. وكان صحيحاً تماماً أن سورية ضعيفة مفكّكة اجتماعياً مهتزّة أمنيا ينهشها الفساد والخوف والتدليس القومجي والمجوّفة عسكرياً هي ما ترتاح إليها إسرائيل. ولذلك ظلت غبطتها كبيرة ببقاء بشّار الأسد الذي صيّر نظامُه المخلّع سورية، المفخّخة بكل أسباب الاهتراء، أضعف من بيت العنكبوت. ولا يضرب واحدُنا في الرمل لو يقول إنها غير مسرورة أبداً بنجاح الثورة السورية وإنهائها حكم آل الأسد.
لم تُسمع من البيت الأبيض والخارجية الأميركية أي كلمة رفضٍ لكل هذه الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي والمقدّرات السورية، ولا من أيٍّ من الدول الأوروبية التي أعلنت ترقبّها عملية انتقالٍ سياسيٍّ منظّم في سورية تستجيب لتطلعات شعب هذا البلد. وكان الأدْعى، أو الأوجب، من الولايات المتحدة والغرب أن يُطلب من دولة الاحتلال التوقّف عن استضعاف سورية، سيما وأنها في ظرفٍ شديد الحساسية، وبلا سلطةٍ واضحة المعالم، وتحتاج وقتاً كافياً للتعافي من جروح عميقة فيها. إذا كان الكلام الأميركي والأوروبي صادقاً، كما يلزم أن يكون الصدق، فإن أصحابه مدعوون إلى أن يُبادروا إلى هذه المطالبة. ولافتٌ في البيان الذي تلاه الرئيس جو بايدن بشأن سورية الليلة قبل الماضية أنه فيما هجا نظام الأسد البائد، لم يجد في إسقاط هذا النظام سوى “فرصة للشعب السوري لبناء السلام في بلده ومنطقة الشرق الأوسط”. ومع إعلانه استعداد واشنطن للعمل مع “جميع المجموعات السورية” من أجل إرساء مرحلة انتقالية، ركّز حديثه على عدم السماح لتنظيم الدولة الإسلامية لبناء قدراته ولتحويل سورية ملاذاً آمناً له. وتجيز هذه التعبيرات الارتياب في أولويات واشنطن في سورية الجديدة، فلا يُعتقد هنا أن الديمقراطية الحقّة في مقدّمة هذه الأولويات.
وإذا كانت السطور أعلاه قد تعلقت بالذئب الإسرائيلي وبتواطؤٍ أميركي معه، فإن الإتيان على موضوعهما لا يكتمل من دون التساؤل عن غياب صوتٍ سوريٍّ في الأثناء. ليس فقط لغياب سلطةٍ انتقاليةٍ واضحةٍ في دمشق، وإنما لأن هناك تأخّراً في تظهير واجهةٍ مدنيةٍ سياسيةٍ، مفوّضةٍ من قوى الثورة، تتولّى مخاطبة العالم. والمأمول أن يتجاوز الأشقاء السوريون ارتباك لحظات الفرح والمفاجأة إلى التسريع بتشكيل الهيئة، أو التشكيلة السياسية، الحكومية، يتأهّل منها متحدّثٌ باسم سورية الانتقالية، فيعلن ما تطلبُه دمشق من العالم، من دول الجوار العربية، من تركيا وإيران، من جامعة الدول العربية والأمم المتحدة ومنظمّة المؤتمر الإسلامي، ويلحّ على حاجة الدولة الجديدة إلى عوْن دولي وعربي عريضيْن، وعلى استقلال سورية الموحّدة الواحدة واحترام سيادتها وإرادتها، وعلى أن تتوقّف إسرائيل عن استباحتها مقدّرات البلاد ومنشآتها وإمكاناتها العسكرية والتسليحية، وعلى أن سورية تتطلّع إلى تحرير جزءٍ غالٍ من أرضها، الجولان المحتل.
مؤكّدٌ أن اللحظة السورية الراهنة مثقلة بالآمال والطموحات، وأن الفخاخ والتحدّيات (والمؤامرات، لم لا؟) ستكون مهولة، والذئب الإسرائيلي يستعجل إعلان أغراضه، ومباشرة استهدافاته سوريةً واعدة، سورية ديمقراطية قوية.
العربي الجديد
——————————-
عربات عسكرية تجوب شوارع دمشق/ زياد بركات
10 ديسمبر 2024
زرت دمشق مرّة وحيدة وكان ذلك عام 2006، بعد سنوات قليلة على ما عُرف بربيع دمشق. لم تكن عاصمة الأمويين على مزاج زائرها. ليست بنظافة العاصمة الأردنية أو التونسية، بل بشوارع متسخة تكتظ بالسيارات القديمة جداً وحتى المتهالكة مقارنة بتلك التي تركها خلفه في الدوحة.
كان ثمة خوف تستطيع أن تشمّه إذا تجولت في محيط الفندق؛ وعندما عبرت شاحنات عسكرية غير بعيد عن فندق الشام، كان تفسير المصور التلفزيوني متلعثماً، إنها توصل الجنود في إجازاتهم. يحدث هذا دائماً يا أستاذ؟ لكنّ الجبهات بعيدة، أو هكذا ظن زائرها، ما جعل المشهد بالنسبة إليه صادماً.
في فندق الشام ضيوف من مختلف الدول العربية لحضور مهرجان مسرحي. جمال سليمان بقامته السامقة يتمشى في اللوبي، محمود السعدني الذي يتحدث بصوت عال تراه مساءً يتناول العشاء في مطعم الكمال، وكانت ثمة ممثلات ببناطيل جينز وبلا زينة فاقعة، ورفيق يجيد النمائم، عندما خرج الزائر إلى الشارع ورأى العربات العسكرية.
كأنها سمكة في البحر، دراجات هوائية في كوبنهاغن أو أمستردام، مشاة يقطعون الشارع في القاهرة، كان المشهد مألوفاً كأنه بديهية فيزيائية: القمر يدور حول الأرض، الأرض تدور حول الشمس، الشمس والكواكب التي تدور حولها تدور حول نجم أكبر حجماً. يقول ذلك معلّم المدرسة فلا تناقشه، بل تتأمل وتفكر في تلك الحلقات الدائرية حول كوكب زُحَل. أنت هنا في دمشق حيث تعبر العربات العسكرية في الشوارع كما تسقط التفاحة عن الشجرة، فليس ثمة ما يستدعي التساؤل بعد نيوتن. أنظر إلى المصوّر اللمّاح والمتهكم، فيضحك: أنت هنا في دمشق، يا مرحبا يا هلا بالرفاق.
في المساء التالي يأخذنا بشار زرقان إلى شقة صغيرة جداً اشتراها شقيقه الأكبر، تصعد إليها عبر درجات زلقة بعض الشيء. في المطبخ ثمة لبنة وزيتون وبيض مقلي، وفخر بإنجاز شخصي لشقيق بشار الأكبر الذي اشترى الشقة لتربطه بدمشق. يشبه الأمر أن تدق مسماراً في حائط متهالك، هذا ما شعر به الزائر المتذمّر. قلت لهما ولكنها متسخة، دمشق متسخة، وخائفة، فيصمتان قبل أن يتحدث الشقيق الأكبر عن ربيع دمشق المغدور، فقد بالإمكان ولكنها… تظل بلادنا. لم يقولا ذلك مباشرة ولكنك لمحته في عيونهما. قلت لهما أنك رأيت عربات عسكرية عندما خرجت من الفندق، فلم أشعر أنهما استغربا الأمر، فأنت تولد وتموت وأنت ترى الشاحنات العسكرية تتجوّل في شوارع العاصمة.
إنها تنقل الجنود إلى الجبهات وتُعيدهم في الإجازات، ثم إنك تكبر وأنت ترى الصبية والفتيات يذهبون إلى المدارس بالزي العسكري، الكاكي، فما الغريب في الأمر؟
ثمة فسحة للمسرح أيها الزائر، ألا تراها؟ للزينة، ولجعل مشهد الشاحنات العسكرية، عادياً، فالدراما هناك وليست هنا.
لم يكن ثمة بث مباشر آنذاك من دمشق، كانت صدمة بيتر أرنت الذي نقل بداية القصف الأميركي لبغداد، صدمة أن تعرف الخبر فور وقوعه، حتى الإذاعات كانت تتلكأ في نقله. يحتاج الخبر وقتاً ليمر تحت مشارط المحررين، وبعد “سي أن أن” و”الجزيرة” لاحقاً أصبح مألوفاً أن تفتح التلفزيون وتتابع تدافع الكوريين الجنوبيين أمام البرلمان، مطالبين بإقالة الرئيس، لكن هناك وليس هنا في دمشق يا رفيق.
لم يكن ثمة غريب سوى تلك العائلة التي حوّلت بلاداً تحكمها إلى معسكر جيش، إلى جبهات يذهب إليها الجنود ويعودون منها من دون أن يضطروا للحرب أو القتال، وعندما فعلوا كانت بنادقهم تقتل مواطنيهم.
لم يكن ثمة غريب سوى أنك تسأل في تلك البلاد فيجيئك الجواب همساً، لماذا كل هذا المبلغ لشراء هذه الشقة الصغيرة تسأل؟ فيجيئك الجواب إن الشام تُباع الآن، بيوتها القديمة تُشترى وتتحوّل إلى مطاعم و”نايت كلوبز”. هناك انفتاح على السوق والعالم.
أليس ثمة انفتاح من نوع آخر، نحوكم؟ بلى، تجده هناك في المسرح ودراما دريد لحّام، أما البث المباشر فانس يا رفيق، حتى عندما أعلن عمر سليمان تنحي مبارك قام التلفزيون السوري بقطع بثه، ونقل تغطية “الجزيرة” على شاشته مع تعليق يقول “سقوط نظام كامب ديفيد”. فالبث المباشر من هناك، وليس من دمشق التي كانت الشاحنات العسكرية تجوب شوارعها، كأنها تفاحة نيوتن تسقط بعد قرون على رحيله، فلا تثير انتباه أحد.
العربي الجديد
——————————–
إنهيار محور المقاومة مع سقوط الأسد؟/ بسام مقداد
الثلاثاء 2024/12/10
يدرك الكرملين جيداً أن سقوط الأسد المدوي، وجه ضربة شبه قاصمة لكل ما اعتقد أنه حققه في عملية إنقاذ نظام الأسد، لا سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا. فمنذ دخوله سوريا العام 2015 “لإنقاذ سلطة الأسد الشرعية”، وهو يكرر أن مشاركته في المأساة السورية، أعادت إلى روسيا مكانة الدولة العظمى في العالم التي فقدتها مع سقوط الإمبراطورية السوفياتية. ويعكس إعلام الكرملين ومسؤولوه قلقاً شديداً على مصير قاعدتي طرطوس وحميميم، اللتين تشكلان خط الدفاع الرئيسي عن كل ما يعتقد بوتين أنه تحقق له في سوريا.
أما إيران، فقد كان سقوط الأسد ضربة قاتلة لمعظم ما جنته في المنطقة بعد ثورة الملالي، وخاصة بعد الغزو الأميركي للعراق. فقد كان نظام الأسد حجر الزاوية في “محور المقاومة”، ووفر لها شبكة التواصل الآمنة مع حزب الله الذي يكاد يتساوى مع النظام السوري في الأهمية بالنسبة إليها. وجاء إنهيار نظام الأسد حلقة مكملة، وليست نهائية، لكل ما ألحقته سلسلة الضربات الإسرائيلية القاسية لمشروع إيران التوسعي في المنطقة، سواء عبر قصف أراضيها مباشرة، والذي طاول مشروعها النووي جزئياً، أو عبر شل قدرات حزب الله وتدمير قدرات حماس شبه الكامل.
إسرائيل، المسؤولة عما وصل إليه حزب الله وحماس من ضعف وشبه إنهيار أصاب في الصميم مشروع طهران في المنطقة، ليست مسؤولة مباشرة عن سقوط نظام الأسد، وإن كانت غارات طيرانها المستمرة قد أسهمت جدياً في زيادة ضعفه وهشاشته في الداخل والخارج. لكن إيران تحمّل إسرائيل والغرب المسؤولية شبه الكاملة عن سقوط نظام الأسد، وتتجاهل كلياً ثورة الشعب السوري ضد وحشية قمعه وفظاعاته، والتي كان لها ولأذرعها القسط الأكبر من هذا القمع المتوحش. ولهذا يترافق إبتهاج السوريين بانتصارهم على نظام آل الأسد بتمزيق صورهم وتحطيم تماثيلهم، وبانتزاع صور ملالي إيران وحسن نصرالله، واقتحام السفارة الإيرانية في دمشق.
طهران التي تستفيق بالتدريج من “مفاجأة” سقوط نظام الأسد، وما يعنيه من تدمير لما جنته من سنوات هيمنتها على سوريا، ليس لديها ما ترد به على إسرائيل والغرب الذين تحملهم مسؤولية هذا السقوط، سوى التهديد بإنجاز مشروعها النووي. وقد انكشف عجزها عن هذا الرد بوضوح في تحججها بحرصها على إتفاق وقف إطلاق النار في لبنان لتمتنع عن الرد على هجوم إسرائيل عليها في 26 تشرين الأول/أوكتوبر المنصرم.
المستشرق الروسي المتخصص المعروف بالشؤون الإيرانية Nikita Smagin أوجز في 8 الجاري في موقعه في فايسبوك رأيه في ما تعنيه لإيران خسارة سوريا. رأى المستشرق أن محور المقاومة لم يعد موجوداً. قبل سقوط الأسد كان لا يزال من الممكن الحديث عن إحتمال إستعادة قدرات حزب الله والمجموعات الأخرى الموالية لإيران، لكن الآن، عملياً، ما عاد من وجود للمحور الموحد التابع لإيران.
ويبدو للمستشرق أن نجاح هيئة تحرير الشام في سوريا، سوف يلهم حتماً بعض معارضي السلطات في طهران. وإذا كانت حكومة دمشق غير الشرعية قد انهارت، فلماذا لا يلحق المصير عينه بالحكومة الإيرانية، التي فقدت دعم غالبية الإيرانيين؟ وكل هذا مجتمعاً سوف يرفع مستوى المخاوف الوجودية لدى النخب الإيرانية.
ويرى أن منظومة الردع غير المتكافئ لم تعد موجودة بشكلها السابق. مما يعني أن من الضروري العثور بسرعة على خيار جديد يضمن البقاء. الصواريخ جيدة بالطبع، لكن السلاح النووي أفضل. إلا أن المخاطر الداخلية هي أكثر ما سيشغل بال السلطات بعد سقوط الأسد، وليس أمامها سوى خيارين: الإصلاحات أو القمع. وعليها أن تسرع في إتخاذ قرارها، وإلا فقد يكون الأوان قد فات.
روسيا التي أفقدها أيضاً سقوط نظام الاسد بعضاً وازناً مما اعتقدت أنها جنته من مشاركتها الفاعلة في قتل السوريين وتدمير عمارهم، تحمل تركيا والولايات المتحدة وأوكرانيا المسؤولية عن هذا السقوط. لكن المسؤولية الأكبر تحملها للأسد نفسه لقصوره في تطوير الجيش ورفضه الإستماع لنصائحها في الإنخراط الجدي في الحوار مع “المعارضة الشرعية” لإنجاز تسوية سياسية للمأساة السورية. وذهب إعلام الكرملين إلى القول بأن الأسد ساهم في سقوط نظامه أكثر من جبهة تحرير الشام.
صحيفة الكرملين vz نشرت نصوصاً عديدة يوم سقوط نظام الأسد. وعلى عادة إعلام الكرملين حين يتحدث عن إنتفاضة شعب ما ضد جلاديه، يبرئ الجلاد ويتهم الغرب بالوقوف وراء الإنتفاضة. فقد عنونت الصحيفة أحد نصوصها بالقول أن “الغرب أغرق سوريا في حالة من الفوضى الخاضعة للسيطرة”. لكن لوحظ أنها تخلت عن وصف هيئة تحرير الشام بالإرهابية، واستهلت النص بالقول أن المعارضة السورية المسلحة قطعت مرحلة آل الأسد التاريخية التي بدأت العام 1971. ورأت أن هزيمة بشار الأسد تهدد بتغيير صورة الشرق الأوسط بشكل جذري.
أشارت الصحيفة إلى تصريح وزارة الخارجية بأن لا مخاطر محدقة الآن بالقواعد العسكرية الروسية في سوريا، علماً أنها وضعت في حالة تأهب قصوى.
نقلت الصحيفة عن المستشرق Vladimir Sajine قوله بأن إيران تبدو الخاسر الأكبر من سقوط الاسد. فسوريا بالنسبة لطهران تمثل “الحلقة الذهبية” في سلسلة النفوذ الشيعية. وقد أصبحت مثاراً للشك مقولة تصدير الثورة الإسلامية، ولن تتمكن إيران من تغيير الوضع بأي شكل من الأشكال. وسيتعين عليها أن تتقبل الوضع الناشئ المختلف كلياً، والتفاوض مع الحكومة السورية الجديدة على أمل إقامة علاقات دبلوماسية ما على الأقل. وليس من المؤكد أن تنجح إيران في ذلك، إذ ان هيئة تحرير الشام كانت ترى في إيران العدو الثاني من حيث الأهمية بعد نظام الاسد.
في سياق تبرير روسيا تقاعسها عن مساعدة بشار الأسد، والتملص مما يشاع عن توافقها مع أنقرة في لقاء منصة أستانا في الدوحة، على التخلص من الأسد وإطلاق عملية التسوية السياسية التي دأب الأسد على إفشالها، يحمّل إعلام الكرملين الأسد المسؤولية عن إنهيار سلطته. ليس لأنه بقي مصراً على الحل الأمني للأزمة السورية، بل لأنه لم يكن يستمع جيداً لتعليمات الكرملين تحت ضغط طهران جزئياً. ويعتقد البعض أن بوتين أبلغ الأسد، أثناء إستدعائه إلى موسكو، بقرار الكرملين عدم تقديم المساعدة له التي قد تنقذه كما في العام 2015. ويتذكر الأسد، ولا شك، أن مساعدة بوتين له في ذلك الحين أنقذت سلطته التي كانت على وشك الإنهيار. وفي ظل عجز إيران عن تقديم أي مساعدة أيضاً، رأى أن الخناق قد ضاق حول عنقه وحلت ساعة إستسلامه من دون مفاوضات شكلية. فعمد إلى أصدار الأوامر إلى جيشه بالتراجع أمام هجمات الفصائل المسلحة، وصولاً إلى دمشق وتسليمها السلطة دون مقاومة.
نقلت صحيفة الكرملين أيضاً عن الخبير العسكري الروسي Vadim Koziouline قوله بأن مقاتلي جبهة تحرير الشام فعلوا أقل بكثير مما فعله بشار الأسد لإنهيار النظام السوري. وكان الأسد ينام على حرير الإنتصارات السابقة، واعتبر مع فريقه أن الصراع على السلطة قد انتهى. ولهذا السبب، لم يتم إيلاء أي إهتمام بتطوير الجيش وتحديثه. وتحول الجيش إلى مجموعة من القادة العسكريين، كان كل منهم يحاول إقامة إقطاعه الخاص. ولم يكن هذا ينال إعجاب الجنود، ولا المواطنين، وأخذت هيبة الأسد تتراجع إلى أن سقط سقوطاً مدوياً.
المدن
———————
سورية: هل أملك إجابة؟/ سلام الكواكبي
08 ديسمبر 2024
لطالما سُئلت من القريبين والبعيدين إن كنتُ سأعود يوماً لزيارة مدينتي حلب، إن خرجت منها قوات النظام السوري، بعساكرها وأمنييها وشبّيحتها وحماتها العرب والأجانب. ولطالما تردّدت إجابتي في أن تمنح وضوحاً وثباتاً. ولطالما استدام تردّدي المفعَم بألم الحنين بعد فراق أكثر من 14 عاماً.
في آخر زيارة لي قمتُ بها لبيتنا في حلب سنة 2010، خرجت ذات صباح لأسترجع ذكرياتي ومساري اليومي إلى مكان عملي السابق على الأقدام، وهذا يعني الانتقال من حيٍّ سكنيٍّ في غرب المدينة مروراً بوسطها للوصول إلى مركزها التاريخي في أطراف أسواقها القديمة. وعند وصولي إلى منتصف الطريق، وقعتُ على تظاهرة لا بأس بحجمها ترفع شعارات مطلبية، وصوراً لزعماء وطنيين زيّنوا نسبياً تاريخاً تلا الانتداب الفرنسي وصولاً إلى انقلاب حزب البعث سنة 1963. وقْع المفاجأة كان كبيراً، لأنني، على الرغم من غربتي الطويلة، أعرف طبيعة النظام الحاكم الذي لا يسمح بتجمّع عدة أشخاص في مكان عام دونما تصريحٍ من أجهزته الأمنية الساهرة على أمنه واستدامته. كانت هذه المفاجأة عظيمة إلى درجة أن دموعي تجاوزت مقلتيّ، لتصبّ بشدة على خديَّ الملتحيَين، تعبيراً عن سعادتي بحدوث “تطوّر” ما في العقلية التي تتحكّم بشؤون البلاد والعباد. أضف إلى ذلك هدوء عناصر الشرطة الذين كانوا يؤطّرون التظاهرة، وهم يتبادلون الأحاديث وابتساماتهم النادرة تمنح المرء راحة نفسية، تشير إلى استيعابٍ نادرٍ لمثل هذا النشاط الاحتجاجي السلمي شديد الجدّة والغرائبية في بلدٍ أنفاسُ سكانه تُحصى وكلماته توزَن بمقاييس الذهب.
حينذاك، قرّرتُ الاقتراب أكثر، والاستفادة من أريحية رجال الأمن، لممارسة عملي البحثي وسؤال المشاركين في مقدّمة التظاهرة عن السبب وراء نشاطهم، والاستفسار عن السبب وراء اختيار صور شخصيات بعينها. لكنني سرعان ما استيقظت من وهمي الذي كاد أن يُصالحني جزئياً مع الأمل بحراكٍ شعبي يُحاكي تفتّح براعم ربيعٍ عربيٍ منشودٍ، كدتُ أن أمحوه من قاموس آمالي، ففور اقترابي من مقدمة الجموع، صرخت حنجرة مليئة بالتبغ وبالتعب وبالقرف: “ستوب… يا حيوان ألا ترى أننا نصوّر؟”.
وبمعزل عن شدة التهذيب التي قوبلت بها من هذا الصوت القذر، سارع رجال أمن إلى الإحاطة بي ودفعي إلى الخروج من حقل التصوير التلفزيوني الإبداعي الذي كانوا مستأجرين لحمايته من عبث عابثٍ إن جرؤ. لم أشعُر بالإهانة التي تعوّدها السوريون عقوداً بقدر ما شعرتُ بالإحباط العظيم الذي حطم توقعاتي المتفائلة، وأعادني إلى “حضن الوطن” الذي يعيش حتى الاستساغة قمعاً مستداماً، وعلى درجات وتباينات مختلفة. إثر هذا الفخ الذي تعثّرت به، عدتُ أدراجي، مستنكفاً عن متابعة جولتي، وأنا أناجي النفس التي كانت أمّارة بالأمل، أن تعود إلى رُشدها وإلى تشاؤمها التقليدي. وعدتُ بعد أيامٍ إلى منفاي الاختياري، متخلّياً عن تَوقي إلى عيش تجربة إنسانية تحمل انفتاحاً تدريجياً لمسارٍ اعتقلته رؤيةٌ تسلطيةٌ على البلاد.
شكّلت صناعة الدراما التلفزيونية في سورية ثروة أغنت كثيرين ممن استفادوا من جرأة مصطنعة وكوميديا تنفيسية رضي عنهما الحاكم، ومنهما استفاد. أما دراما الحياة والمعيشة الذليلة، فقد أرخَت بأجنحتها المُدماة على عقول (وقلوب) الجزء الأكبر من فاقدي المواطنة ومن رعايا الاستبداد، كما رعاته أحياناً. فيما اعتبر بعضٌ من الباحثين الغربيين المهتمين بسورية وقتذاك هذا الإنتاج الدرامي، الذي يستعيد حقباً تاريخية حافلة بالنشاط السياسي وبحرية تعبير نسبية، ما هو إلا مؤشّر على نوعٍ من الانفتاح السياسي المؤطّر، الذي يمكن أن تُبنى على أساساته استنتاجاتٌ لا حول لها ولا قوة ولا معنى.
بعد عدة أشهر من هذه التجربة المرّة، خرج سوريون وسوريات في مظاهرات حقيقية بعيداً عن كل أنواع التغطية الإعلامية، وبدأوا بالموت تدريجياً وبأعدادٍ كبيرةٍ، على الرغم من تحرّكهم السلمي، تحت وابل رصاص العسس الذي استساغ دماءهم. وسرعان ما تحوّلت ثورتهم الى مقتلة مستمرّة، تابعها أغلب الرأي العام العالمي بصمتٍ شريكٍ، واستغلّتها قوى إقليمية ودولية لتعديل درجات سيطرتها على حساب حيوات السوريين.
اليوم، بعد أن سيطرت قواتٌ غير حكومية تتبنّى شعارات الثورة ومبادئها وترفع علمها، وتنادي بالتغيير نحو الأفضل، حتى إشعار آخر، جرى تكرار السؤال من كل حدب وصوب إن كنت أنوي زيارة حلب التي افتقدها، والتي يبدو أنها تحرّرت من عسف السلطة بانتظار ما ستؤول اليه الترتيبات السياسية المنظورة على ما يُظنُّ. تردّدت الإجابة بالإفصاح عن حمولتها، وتنازع في ثنايا تفكيري عنصرا العقل والعاطفة. وتزاحمت الأسئلة في ذهني، عما إذا كنت سأتحمّل مشاهد الدمار المادي والمجتمعي التي تنوء تحت حمولتها الثقيلة حلب كسواها من الحواضر السورية. هل سيتمكّن الناس، حالما يصبحون مواطنين، ويتخلون عن لعب دور الرعية الخاضع، من أن يخرجوا إلى التظاهر مطالبين بالحقوق من دون مُخرجٍ تلفزيوني؟ هل سينفتح القائم الجديد على شؤون البلاد والعباد باتجاه جميع السوريين والسوريات ليتشاركوا في عملية إعادة البناء على تنويعاتها؟ هل سيقبل الدبّ الروسي بالدخول في سُباتٍ شتوي والسلطان التركي بأن حلب ليست “له”؟ وهل سيقبل المرشد الإيراني بخسارة جديدة، وهل ستصمت أبواقه مشرقاً ومغرباً؟
لائحة لا منتهية من الأسئلة لستُ مؤهلاً للإجابة عنها، ولكنني وعدتُ أمي وأبي اللذين قضيا في المنفى الاختياري أن أعيدهما إلى حلب، فهل سأفعل؟
العربي الجديد
—————————–
كيف انهار نظام الأسد في 11 يوماً؟/ إياد الجعفري
الإثنين 2024/12/09
قِيل الكثير عن أسباب الانهيار الدراماتيكي السريع لقوات النظام السوري خلال 11 يوماً، حتى فجر الأحد 8 كانون الأول/ديسمبر، الذي تبخر فيه النظام من العاصمة دمشق. فهذه القوات التي أذاقت السوريين صنوفاً شتى من الويل، على مدار 13 عاماً، منذ بدء ثورة العام 2011، وقبل ذلك في الثمانينات من القرن الماضي، كانت أشبه بورق مقوى خلال الأيام القليلة المدهشة، التي أسرَت ألبابنا بعيد صبيحة 27 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت.
وفيما شاع على نطاق واسع، التفسير القائم على نظرية التوافقات الخارجية، صوّب كثيرون على ملامح انهيار الروح المعنوية لمقاتلي النظام. حتى أشدهم تمثيلاً لحاضنته المقرّبة. انهيار لا يكفي تفسيره بانكفاء الحلفاء، ممثلين بحزب الله وإيران عن دعمه في التوقيت المناسب، وبالكم المناسب من الدعم، رغم أهمية هذا الانكفاء. كما لا يكفي لتفسيره، ذاك الدعم الروسي الخجول، عن قصد أو عن عجز، رغم أهمية هذا العامل أيضاً. ولا يكفي لتفسيره، كذلك، كفاءة أداء مقاتلي المعارضة ونضوجهم التنظيمي، وتسليحهم الملفت. إذ تبدو هذه عوامل مساعِدَة، كشفت مع تضافرها عن سبب عميق لهذا الإدبار الملفت عن القتال في أوساط شريحة من الموالين، سبق أن نذروا الغالي والرخيص فداءً للنظام ذاته، قبل 13 عاماً فقط.
بدأ هذا السبب العميق يكشف عن رأس جبل الجليد منه، في صيف العام 2023، حينما انفجر نشطاء علويون موالون عبر وسائل التواصل، مهاجمين الأداء الاقتصادي لنظام الأسد، وصولاً إلى رأس الهرم وزوجته ودائرته المقرّبة. كانت أكثر ملامح ذاك الانفجار دراماتيكية، تسجيلات الناشطة لمى عبّاس، التي كانت قبل ذاك التاريخ بسنوات من أشرس الداعمين للنظام. والتي وصّفت أسباب الانهيار المعيشي غير المسبوق الذي وصل إليه السوريون، بثلاثية الحواجز وإتاوات “المكتب السرّي” والاحتكار. وهي الركائز الأساسية في استراتيجية جمع الثروة لصالح العائلة الحاكمة في رأس هرم النظام، والمقرّبين منها. وهو ما صوّب عليه نشطاء علويون آخرون أيضاً، من أشهرهم كان كنان وقّاف. قبل أن يتمكّن النظام من إخراس هذه الأصوات بأدواته الأمنية التقليدية. ورغم أن الرهانات يومها، أي في صيف 2023، كانت على انفجار الساحل، إلا أن الانفجار حصل في السويداء، التي كانت حتى وقت قريب قبل ذلك التاريخ، أميل بغالبية مكوناتها إلى عدم الصدام مع النظام، ولا حتى مع المعارضة.
انفجار صيف 2023، الذي بقي “فيسبوكياً” في الساحل، فيما تحوّل إلى الشارع في السويداء، كان تعبيراً عن احتقان غير مسبوق وصلت إليه حواضن اجتماعية، كان من المفروض أنها موالية للأسد، أو في أقل الحدود محايدة. وكانت أسباب هذا الاحتقان، معيشية بصورة أساسية. وهو احتقان تفاقم مع تصاعد الانهيار المعيشي لعموم السوريين، في السنوات الثلاث التي تلت العام 2020. انهيار نتج أساساً عن إدارة مافيوية لاقتصاد منهك جراء الحرب التي شنها الأسد ضد الثائرين عليه في 2011. فالبلد الذي كان من المفترض أن يحظى بأقصى درجة ممكنة من الإدارة الرشيدة، بعد تدمير مقدراته بشراسة، في حربٍ لم تُراعَ أي حُرمة فيها، لا للدم، ولا للممتلكات العامة ولا الخاصة، حيث باتت حصيلة خسائرها الاقتصادية تُعد بمئات مليارات الدولارات، بإقرار من بشار الأسد ذاته، عام 2018، هو البلد ذاته الذي أداره الأسد ذاته، والدائرة الضيّقة المقرّبة منه، بعقلية الغنيمة. وكان العام ذاته، 2018، وهو العام الذي عدّه الأسد منعطف “انتصاره” على “الإرهابيين” و”المؤامرة الكونية”، كان المنعطف نحو “نيوليبرالية” متوحشة وأكثر شراسة من تلك التي عرفها السوريون قبل العام 2011، والتي كانت السبب العميق لتفاقم احتقان الموالين للأسد.
ببساطة، كرّر الأسد أخطاء الماضي القريب ذاتها، التي أقرّ هو نفسه في إحدى كلماته التنظيرية قبل نحو عام من الآن، بأنها كانت مقدّمة لما حدث في العام 2011. وتحديداً في كلمة ألقاها الأسد خلال اجتماعات اللجنة المركزية لحزبه الحاكم. يومها قال الأسد، ما مفاده إن النمو قبل 2011، رغم أنه كان يحدث بنسب عالية نسبياً -وسطي 5.1% سنوياً- إلا أنه لم يؤدِ إلى تنمية شاملة. وهو ما أسس لحالة “الحرب” التي استغلها الغرب، حسب وصفه يومها. وبعيداً عن مدى وقاحة الأسد حينما يتحدث عن الفشل التنموي قبل 2011 وهو الذي كان الحاكم الأوحد والمطلق للبلاد، فإن المشكلة كانت أن الأسد لم يتعلّم شيئاً من تلك التجربة. بل كرّرها، وبحدة أكبر بعد العام 2020 تحديداً.
وفي كتابه الموسوعي، “العقد الأخير في تاريخ سورية، جدلية الجمود والإصلاح”، للباحث السوري محمد جمال باروت، نجد تشريحاً تفصيلياً للأسباب الاقتصادية والاجتماعية العميقة، التي تسببت في الانفجار الاحتجاجي الكبير في عموم سوريا عام 2011. إذ هيمن نموذج “اللبرلة الاقتصادية التسلطية” على السياسات الاقتصادية – الاجتماعية، واقترن التحرير التجاري بهدر التصنيع، وتم التركيز على الخدمات والسياحة على حساب القطاعات الإنتاجية، خدمةً لطبقة رجال الأعمال الجدد، الذين عبّروا عن مصالح العائلة الحاكمة والمقرّبين منها. وهو ما تكرّر مجدداً، بحذافيره، وبشدة أكبر، بعد نحو عقدٍ من ذلك الزمن.
وفي تقرير صدر في أيلول/سبتمبر 2023، عن المركز السوري لبحوث السياسات، تم تقديم استعراض إحصائي رقمي مرعب، للانهيار الاقتصادي في سوريا، في الأعوام ما بين 2020 – 2023. وهي الأعوام التي تمتع فيها النظام بتأمين كامل من أي تهديد وجودي لكرسي الحكم فيه. إذ انكمش الاقتصاد 20%، وقفزت درجة اعتماد البلاد على المساعدات الخارجية إلى نسبة 30% من حجم الناتج المحلي الإجمالي. فيما وصل العجز التجاري إلى 70%، وبلغت المستوردات 6 أضعاف الصادرات، ووصل عجز الموازنة إلى 50% مقارنة بالناتج المحلي. والأبرز، أن مديونية سوريا تجاوزت 250% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022. وتصاعدت معدلات البطالة بين عامي 2021- 2022، إلى نسبة 43%. وارتفع الرقم القياسي العام للأسعار بأكثر من 8 أضعاف، ما بين 2019 و2022. وسجّل الرقم القياسي للأسعار تضخماً سنوياً بنسبة 113% في 2020، و110% في 2021، و85% في 2022.
وكانت الحاضنة الموالية للنظام، تحديداً العلويون، من أكبر المتضررين جراء كل ما سبق، نظراً لانخراطهم الكبير في الوظائف الحكومية، التي باتت القيمة الحقيقية للراتب فيها لا تتجاوز 25 دولاراً شهرياً، ولقلّة المغتربين والمهجّرين خارج البلاد منهم، مما جعل نسبة الحوالات الدولارية الخارجية الموجّهة إليهم، أقل مقارنة بحواضن اجتماعية أخرى، أصبحت مُعالة بشكل كبير من هذه الحوالات.
كل ما سبق يضيء جانباً عميقاً من أسباب انعدام الروح القتالية لدى الوحدات العسكرية المقرّبة من الأسد. ومن دون أن نُغفل أثر العوامل الأخرى. ومن دون أن ننكر دور توافقات خارجية ما، على ترتيب عملية تسليم المدن بهذه السلاسة، ومن دون أن تتورط البلاد في حرب مدن مُكلفة. لكن تبقى كل العوامل الأخرى، مساعِدَة في كشف السبب العميق. ذاك الذي ما كان ليتحقق لو توافر لدى الأسد وحاشيته قدر مقبول من الرُشد، في إدارة الاقتصاد والدولة في سوريا، بعيداً عن عقلية الغنيمة.
———————————
الموت السوري كصرخة حياة/ رشا الأطرش
الإثنين 2024/12/09
كأن شعباً بكامله يُبعث من الموت، بل هي شعوب. السوريون، ومعهم لبنانيون وفلسطينيون وعرب وأجانب، استمر صَلبهم أكثر من نصف قرن، وقاموا في اليوم الأول، بل في اللحظات الأولى للولادة الجديدة، بل منذ بدأ مخاض الحرية والأمل.
هي معجزة تعلن الحياة، بقدر ما هي مخضبة بالقتل والدم والعذابات. سوريا العائمة على قبور جماعية تحوي ملايين القتلى البردانين في شتاء إنصافهم المتأخر. وفيها الأحياء بالكاد، وقد خرجوا من توابيت كمَوؤودين عميقاً في بطن الأرض، كأنهم كنوز أحبائهم المدفونة بأيدي قراصنة الحُكم. احتاج المُحرِّرون – حرفياً – إلى خريطة مفقودة ونبش وتكسير جدران الدهاليز لاستخراج المُغيّبين. كم تكررت تلك الكلمة طوال عقود، وكم جرحت حناجر. المغيّبون الآن حاضرون. يمكن للكلمة أن ترتاح.
من الموت والتغييب والجراح، تتدفق الحياة بالأمل والضحكات والدموع.
لبشار الأسد وسليلته، سيرة قصيرة، رغم عمرها الطويل: ورث أباه، قتل شعبه، هرب كالجرذ بلا حتى كلمة، ولا حتى شتيمة.
وسِيَر الناس تسع السماء والأرض. عادوا جميعاً مرئيين، الأموات غيلةً وحسرة قبل الأحياء، المعتقلين قبل الأحرار، المنسيين في لجوئهم وشتاتهم قبل النجوم. الأموات وأشباه الأموات يعلنون قيامة الأحياء، أيقونات بأسماء وصُور كاد يغيبها النسيان واليأس، كاد يمحوها فراغ الإيمان بأي تغيير. وليسوا فقط سوريين، فهذه “عَظَمة” المستبد الممتدة امبرطورية إجرامه. فنانون وناشطون، صحافيون وكتّاب ومثقفون ورياضيون وسياسيون. كلهم عادوا دفعة واحدة: الطفل حمزة الخطيب، باسل شحادة، الساروت، مصطفى خليفة وغلاف “قوقعته”، غياث مطر، ميشيل كيلو، مي سكاف، رزان زيتونة، لقمان سليم، رفيق الحريري، سمير قصير، وكثر كثر… مواطنوهم ومحبوهم يهدونهم التحيات ويزفون إلى ذكراهم الخبر المزلزل، يريدونهم أن يرتاحوا في رقادهم، ليرتاح أهلهم بدورهم، فالمصير – كما اتضح – ليس مختوماً بشمع أحمر.
وأسماء وصُور أخرى، رجال ونساء وأطفال، لا يعرفهم إلا ذووهم وأصدقاؤهم، غمرت صورهم الفضاء. كلٌّ يبث حبّه وترحّمه على أب أو أم أو إبن، في مناسبة سعيدة غامرة مبللة بدموع الفرح والحِداد الحقيقي المؤجل، الحِداد الذي لا يستقيم ولا يُشفي إلا بالعدالة والقصاص من الجلاد.
والموت أيضاً يخيّم على طقوس الاحتفال وبُشرى اقتراب العودة. الكلّ يعلن وعداً بزيارة قبر ما، بالحجّ إلى زنزانة ما. وهناك الحُكم المُبرم بالموت.. المُنفّذ حتماً… إلا دقائق. ظهرت المُدوّنة طلّ الملوحي. ما زالت حيّة! المتذكّرون يشعرون بذنبٍ يُخالط فرحهم بها، كادوا أن ينسوها، هي التي اعتُقلت في المرحلة السلمية الوردية الأولى للثورة السورية. لكن مَن يستطيع تذكّر الجميع؟ وأي عَين تقاوم مخارز الحرب التي جبَّت ثورة الورود والشموع والتدوين؟
هنا وهناك صور أشخاص يسأل أهلهم إن كان ثمة مَن يعرف عنهم شيئاً، مَن رآهم في أحد السجون، مَن تعرّف عليهم في هذا القبو أو ذاك المدفن للقتلى المؤجّلين يوماً أو أسبوعاً أو ساعات. يفتشون عمّا ينفي حزناً دهرياً، بقيامة من من الرماد، ولو برمق الأنفاس الأخيرة. هل عُرف شيء عن رانيا العباسي وأولادها الخمسة؟ هل ارتطم أحدكم بواحد من أطفالها راكضاً مع الراكضين عبر البوابات الحديدة المجنزرة؟ تائهاً مع التهائين؟
إن كان للحكايات منبع، فقد تفجّر الآن، من تحت الأرض، غزيراً رقراقاً جارفاً. كل ما مرّ في كفّة، وما استُهلُّ في الثامن من كانون الأول 2024، في كفّة أخرى. شهرزادات بالملايين لن يسكتن عن الكلام المباح، لا بصياح الديك ولا بزئير أسد، ولا بسَوط ساديّ. آن أوان تحوّل الحبس الكبير إلى مَلحَمة وقضية في محكمة. فكل ما قيل وكُتب منذ عقود يبدو الآن مجرد نحنحةٍ راوٍ يسخّن عدّته.
هكذا ينقلب الموت من نهاية إلى بداية. يمسي مبتدأً للحياة. القتل والتعذيب والخوف، وثيقة الآن، مستند، عِبرة. ما عاد ابتلاء قَدَرياً يُعالج بالصبر والتخفّي وركوب البَلَم. الموت الناجز، كما الموت الذي كان وشيكاً ومُهاباً… رحم ينزف ويتألم ليُنجب حريات وذواتٍ مدمّاة، تصرخ وتبكي، فتُفتح الرئة وتشهق أوّل الأنفاس وأحلاها.
المدن
—————————
اتحاد كتّاب الأسد ينال جائزة أسرع بيان استدارة!/ علي سفر
الثلاثاء 2024/12/10
لعل بيان “اتحاد الكتّاب العرب” في سوريا، الصادر يوم سقوط نظام بشار الأسد، هو الأسرع بين منشورات المنظمات “الشعبية” وفق تصنيف حزب البعث والنظام السوري البائد، إذ يتنصل من تبعيته لهما!
لكن المفارقة التي لا تُضحك، بل تستدعي التفكير، تتجلى في أن أقرب شيء للبيان في موقع الاتحاد، هي كلمة لرئيسه د.محمد الحوراني، يتحدث فيها بشكل عادي، وكما كان يفعل هو وغيره دائماً، عن ارتباط المنظمة التي يديرها بالمقاومة، فيقول: “لقد كانَ اتّحادُ الكُتّاب العرب في سورية، ولا يزالُ، وسيبقى، مُؤسّسةً للفكر والثقافة المُقاوِمة”! ويذهب إلى تعداد مفاخر الاتحاد بنفسه بزهو واعتداد: “إذا كانَ يحقُّ لنا أن نفخرَ بشيء فإنّ أوّلَ ما نفخرُ به هو حفاظُنا على وطنِنا وتاريخِه وحضارتِه، على الرغم من الريح العاتية التي حاولت اقتلاعَنا منهُ وتدميرَ بُناهُ ومُؤسّساتِه”!
غير أن رئيس الاتحاد، لا يستطيع أن يغادر الخطاب التقليدي للأيديولوجيا البعثية، التي ترى بأن وعي الجماهير، هو المشكلة، فيتابع قائلاً: “فقد اتّضحَ أنّ أزمتَنا في جانبٍ من جوانبِها هي أزمةُ ثقافة، لذلك علينا إعادةُ بناءِ الوعي الثقافيّ الوطنيّ على أُسسٍ متينةٍ نابعةٍ من روح العصر ومُتطلّباتِه”.
هكذا، ووفق هذه الصيغة السحرية للنجاة من استحقاقات المؤسسة النقابية، في مواجهة الواقع، يهرب رئيس الاتحاد من أول واجبات مؤسسته، في تحري واقع الكُتاب، والدفاع عن حرياتهم، ليجعل أساس الموضوع معركته مع مفهوم بات عائماً هو الثقافة. ولعل هذا هو أفضل السبل للنجاة من الأسئلة الملحة. سبق أن شاهدنا حالة مشابهة لدى أدونيس، الذي كان يهرب دائماً من ابداء الرأي بنظام الأسديين، عبر إحالة المشكلة إلى أزمة ثقافية عربية مستعصية على الحل!
هنا لا يمكن أن يتساوى رأي شاعر مستقل، مطرود من الاتحاد، مع رأي آخر لرئيسه. فبعد عشرات السنين من وجوده، لا بد أن يواجه الاتحاد عيون السوريين، وهي تحدق في مبناه الرابض عند أوتوستراد المزة، المبني على أرض منحه إياها حافظ الأسد، في خطوة استعراضية كرست حضوره كمالك للبلاد، يهب جزءاً منها لمن يريد ولأجل ما يشاء!
الاتحاد الذي يجد تمويلاً كافياً لتسيير أموره، وتخصيص رواتب تقاعدية لكبار السن من منتسبيه، عبر تأجير جزء من المكان لمؤسسات يعجبها موقعه مثل “شركة شل” النفطية في وقت ما، ثم شركة سيريتل للاتصالات، يُعتبر واحداً من أشد المؤسسات الشعبية ارتباطاً بمحور المقاومة والممانعة، ودأب منذ سنوات على الدفاع عن إيران وتوجهاتها. كما أن السفير الإيراني حسين أكبري لدى سوريا، اعتاد مخاطبة أعضائه، كلما وجد الفرصة سانحة.
الموقف هنا ليس عادياً، ولهذا يذهب الاتحاد في بيانه المستعجل إلى التنصل من المرحلة الأسدية، وأيضاً إلى امتطاء الشعارات، من دون أن نعثر في تاريخه على أي مقاربة سابقة حول ما يظنه القارئ مادة دائمة الحضور في أدبياته. فكتب أصحاب البيان قائلين: “لم نكن مسؤولين أمام الله والشعب والتاريخ مثلما نحن اليوم، فالواجب علينا جميعاً أن نكون على قدر التحديات وعظم المسؤوليات. ببطولة وتضحيات أبناء شعبنا العظيم، انتهت حقبة بما لها وبما عليها، وسيكون التاريخ هو الفاصل في التأريخ للحظات الفاصلة من تاريخنا بكل ما فيه”!
السرعة في تدوين البيان، تظهرُ من خلال ارتباك صياغته. فترى في سطر واحد منه، تكراراً لكلمة التاريخ ومشتقاتها، وبما يوحي أن الاتحاد بذاته يعاني مشكلة لا يستطيع أن يخفيها، هي مشكلته مع ماضيه الذي لا يمكن محوه من خلال بذل بضعة سطور، مُصاغة على عجل، لتكون مفتاحاً للنجاة من المحاسبة، بعد زمن مديد كان فيه سنداً للطاغية وإجرامه.
فهو لم ير في المنتفضين سوى حفنة من الإرهابيين، وقام بإصدار كتب توثق “تضحيات” جيش الأسد الذي ارتكب المجازر بحقهم، لكنه الآن يحكي عن “بطولة وتضحيات السوريين الثائرين الذين صنعوا التغيير”. وحين يصل القارئ إلى بيضة قبان البيان، في قول أصحابه: “إنّنا مطالبون اليوم أن نكون مع بلدنا ووطننا والأكثر حرصاً على الحاضر والمستقبل بكلّ أمانة واقتدار مع شعبنا وحقّه في الحريّة والكرامة بعيداً عن الاستبداد والاستئثار والطائفية”، فإن الصورة الأولى التي تقفز إلى الذهن، إنما هي لائحة طويلة من ممارسات الإقصاء، التصقت تاريخياً بهذه المؤسسة، منذ عهد رئيسه الأسبق علي عقلة عرسان (ع.ع.ع) ومن جاء بعده. إذ طُرد أهم الأدباء السوريين من صفوفه، بحجج متعددة، تأتي قصة التطبيع في مقدمتها، حيث تشدد القائمون عليه ضد آراء الكتّاب السوريين أصحاب الرؤى المختلفة.
ولعل الصورة الأكثر إلحاحاً، التي تغلق على العيون كل مساحات الرؤية، تتأتى من المشهد الدموي السوري خلال ما يقارب عقد ونيف، أخذ فيها الاتحاد “وضعية المزهرية” تجاه ممارسات الأجهزة الأمنية ضد الكتّاب السوريين الذين أيدوا الثورة، فتم فصل بعضهم بحجج عدم دفع الاشتراكات، وأيضاً بحجة الانتساب إلى رابطة الكتّاب السوريين المعارضة!
لكن الفداحة تأتي، من أن هذا الاتحاد ساهم في وقت ما، بفك عزلة نظام الأسد عربياً، في وقت مبكر، من خلال نشاطاته مع اتحاد الكتّاب والأدباء العرب.
وفي المقلب الآخر، لم ينبس ببنت شفة حول عشرات حالات الاعتقال للكتّاب الذين مازال بعضهم مختفياً ولا يعرف له مصير، كالسياسي والكاتب عبد العزيز الخير، والكاتب الفلسطيني السوري علي الشهابي، والكاتب والسياسي فائق المير، والكاتب الصحافي جهاد محمد، والسيناريست عدنان زراعي، وغيرهم الكثير.
لم ينتظر اتحاد الكتاب، ككل المؤسسات التي يديرها انتهازيون يسترزقون من ممالأة الطغاة، من أجل أن يغير موقفه، أن يشاهد الصور المرعبة، عما كان يحدث في سوريا الأسدية التي دعم مجرميها، حيث أمسى الوطن سلسلة طويلة من سجون لا تنتهي، وقصوراً يتم نهبها، بعدما نهبت السوريين لنصف قرن، وتماثيل شاهقة، للأسد الأب وابنه، كلما هوى واحد منها، ارتجت الأرض، وسُمعت صرخات القتلى تحت التعذيب في بقاع مجهولة حتى اللحظة.
المدن
——————————
اللاذقيّة خلال 3 أيام الحرب التي لن تحصل أبداً/ مكسيم عثمان
10.12.2024
تشهد سوريا تغيراً قاسياً ومفصلياً، إذ يشعر الناس بشعور من الإخاء، نتج من الجهد الذي بذلوه خلال الأعوام الماضية لإنقاذ حياتهم يومياً وسط ظروف صعبة. في هذا السياق، قدمت اللاذقية نموذجاً جيداً للأمان الاجتماعي والمسامحة المضمرة بين سكانها، ما يعكس رغبة في التعايش وتجاوز الخلافات.
ذهب الأسد على متن طائرة إلى جهة غير معلومة. عند الساعة الحادية عشرة والثلث، انتشر الخبر كالنار في الهشيم، وبحلول منتصف الليل، كان الجميع قد استفاق. تزايدت الاتصالات الهاتفية وتكثفت الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما جعل اللاذقية تعيش حالة من الغليان.
وعندما نقلت “رويترز” الخبر، تعالت أصوات التكبير في كل مكان، لتعود صرخة “الله أكبر” بصوت حاد ومتلاحق. كانت أصوات التكبير ترسمُ بُعداً غريباً في الأصوات، جوع السوريين وفقرهم وفرحهم. كان التناغم الصوتي يصنع توهجاً عاطفياً مدهشاً ومفاجئاً.
بحلول الثالثة صباحاً، بدأت مقاطع الفيديو تنتشر من دمشق، تُظهر الجنود وهم يهربون تاركين أسلحتهم وراءهم. وعند الرابعة فجراً، استيقظت سوريا بأسرها على حقيقة سقوط نظام الأسد.
في اللاذقية، لم تنجح محاولات النظام لدفع العلويين إلى المعركة منذ سقوط حلب. فهم رفضوا أي برامج للتسلح أو عسكرة جديدة، وظلوا على الحياد الكامل. منذ خمس سنوات، انقطعت علاقة المشايخ العلويين بعائلة الأسد، ولم يذكروها حتى في أحاديث المجالس. لم تجد جهود النظام، من تجنيد العلويين إلى محاولة استخدام شخصيات مثل وسيم الأسد أو رامي مخلوف، أي استجابة تُذكر. افتتاح المكاتب لتجنيد العلويين باء بالفشل، وظل الموقف ثابتاً: الحياد التام.
عندما وصلت أخبار سقوط النظام إلى اللاذقية، بدأت أحياء المدينة تشهد تكبيرات قوية من السكان. في البداية، خرجت الأصوات من داخل الأبنية، وعندما لم يظهر الشبيحة أو رجال الأمن والشرطة لإطلاق النار، خرج الناس إلى الشوارع يهتفون للحرية. خرج السوريون إلى الشرفات لينظروا لأنفسهم؛ اختفى العمار وعاد البشر السوريون ليشكلوا جمالهم الإنساني وهم يتماوجون ويبكون. كانت لحظة جماعية، تجسد فيها الانعتاق من الخوف والقمع.
خرجت الأجساد بكل فقرها ورثاثة ثيابها، نزلت النساء قبل الرجال إلى الشوارع. الكل بكى، الكل أراد أن يصدق أنه ذهب. ارتبكت الأرجل في البداية، لم تتجه الى الساحات فوراً، حتى وصل الشبان وبدأوا بتحطيم تمثال حافظ الأسد. للمرة الأولى في تاريخ المدينة، لم ترتبك الأجساد وهي تمسك الهواتف لتصوّر المشهد: الأسد المنتصب أمام مدرسته، محاطاً بحديقة مائية قذرة ورثة. التمثال الأكبر في المدينة، الذي كان يحظى بدورية أمنية تحرسه، تُرك منذ سنوات حين بدأ الجنود يتململون من حماية الجثث المحنطة.
في تلك اللحظات، كان البكاء في الشوارع أكثر من مجرد تعبير عن الحزن أو الفرح؛ كان فعل تطهر عاطفي، حرر النفوس من حمل سنوات طويلة من القمع والخوف. الأجساد المرتبكة، التي بالكاد كانت تعرف كيف تتحرك بحرية، وجدت في هذا الانفجار الجماعي فرصة لاستعادة إنسانيتها المفقودة.
كل ما توقعه الناس قد سقط، لكن النهب والخوف وانتشار أكثر من 500 آلة عسكرية بين أيدي العامة، وبخاصة فتيان لم يتجاوزوا الثامنة عشرة، خلق حالة من الرعب بين سكان المدينة. هذه الآلات أُخذت من الفروع الأمنية المنهوبة ومراكز الشرطة والثكنات العسكرية. كان هذا الانتشار مقلقاً بما يكفي لمنع دخول اللاذقية وطرطوس، وهو قرار اتخذته قادة حركة “ردع العدوان” رغبةً في إراحة المدينة ومنع تخويفها من الإشاعات التي كان النظام يروّجها، بأن أي تغيير سيجلب الفوضى والرعب.
بفضل اتصالات مكثفة بين حركة “ردع العدوان” والإدارة العسكرية، تم التوصل إلى اتفاق على إرسال قوة عسكرية بشكل آني إلى اللاذقية. وصول هذه القوة أثار نوعاً من الهدوء والحذر لدى النهابين، لكنه لم يكن كافياً لتغيير المشهد فوراً. التأخر في الوصول سببه سوء تقدير من الإدارة العسكرية، التي ظنت أن الشرطة والأمن لم يتخليا عن مواقعهما. لكن الواقع كان عكس ذلك؛ التخلي عن المواقع الأمنية أشعل البلاد، تاركاً الملك العام عرضةً للنهب.
مع ذلك، وحتى نهاية اليوم الأول، كانت الأضرار مادية ومرتبطة بالملك العام فقط، ولم يُصب أي إنسان بأذى مباشر. كان هذا التخلي الجماعي عن المواقع الأمنية هو الشرارة التي أطلقت حالة من الفوضى المؤقتة، لكنها بقيت محصورة في إطار الممتلكات من دون أن تتحوّل إلى كارثة إنسانية.
سارع ناشطون وساسة ومعتقلون سابقون إلى الاتصال بالإدارة العسكرية، والمكتبين الأميركي والروسي، في محاولة لدفع القادة الجدد الى التحرك سريعاً. كان لهذه البادرة دور كبير في إدخال المقاتلين إلى المدينة وزجهم في الأحياء لضبط الأمن. كان الاحتفال مهيباً ومؤثراً، لكنه حمل أيضاً بوادر قلق، ما دفع القادة الجدد إلى اتخاذ خطوات فورية لتخليص الأسلحة من أيدي المدنيين الذين حصلوا عليها عبر النهب. بدأت القوات بمداهمة الأحياء وطلب تسليم السلاح بشكل صارم.
درج
———————-
لا عصافير في سجون سوريا/ ميسا العمودي
10.12.2024
ما حدث خلال الأيام الماضية بشكل متسارع كان فتحاً للسجون وليس للمدن السورية فحسب، بل وشكّل استعادة للإنسان وليس للمدن فقط.
مباركةٌ هذه الحرية لسوريا والسوريين، وهنيئاً لمتابعي المشهد السوري من العرب وغير العرب، الذين صدّقوا رواية الثوار والسوريين المكلومين، وأخيراً بعدما اطلعوا بأنفسهم على مشاهد السجون التي توضح الحالة المزرية اللاإنسانية التي كان يواجهها الإنسان السوري وكل من يواليه أو يعترف بإنسانيته أو لا يتفق مع النظام القمعي السابق وحقوقه حتى وإن كان مجرد عابر من سوريا.
ما حدث خلال الأيام الماضية بشكل متسارع كان فتحاً للسجون وليس للمدن السورية فحسب، بل وشكّل استعادة للإنسان وليس للمدن فقط. وهذا ما يلخّص ببساطة معنى الثورة السورية وطموحاتها بشكل لافت، بعيداً من تنظيرات المحللين التي سئمناها منذ اندلاع الربيع العربي وتقييدهم مفهوم الثورات وأسبابها بناء على التجربة الفرنسية وثورة الخبز، حتى دفع الحكام العرب آنذاك مبالغ للحد من احتمالات الثورة في بلدانهم، وربما استفادت منها الأبواق والمحللون السياسيون قبل الثوار أنفسهم لإخماد الغضب الشعبي بدلاً من تحسين سياستهم تجاه مواطنيهم.
السجون السورية وفرحة السوريين التي أعادت الأمل الى الإنسان العربي رغم كل الشوائب والمطامع السياسية الدولية التي تحيط بهذا الحدث العظيم، حكاية هذه الأيام بلا منازع، والتي أخرجتنا ولو لبرهة من آلام نعيشها مع غزة لأكثر من عام. وهي الحكاية التي حركت الكثير من شجوني وشجون كل إنسان مرّ ولو بضعة أيام من سجن. مطلع كانون الأول/ ديسمبر، صادف الذكرى العاشرة لسجني في بلدي السعودية على خلفية ملف قيادة المرأة السيارة. وفي هذه الذكرى، قررت أن أنسى هذا الحدث تماماً وأطوي صفحته لأمضي قدماً، بعدما نأيت بنفسي عن الخوض مجدداً في ما يتعلق بالحراك والواقع المحلي كمواطنة وحتى كصحافية، فأنا منذ عام 2006 لا أقيم أساساً في السعودية. وبعد انتهاء سجني ومنع السفر اللذين داما لنحو عام هناك، أكملت طريقي للعيش بعيداً بطريقتي التي أحب لما تبقى لي من حياة. حتى أني بدأت أنسحب من المشهد الإعلامي وهو مهنتي الأساسية، إيماناً مني بأن المقاييس الإعلامية تغيرت ولم تعد هناك مساحات حرة كافية لممارسته، لأنشغل بوسائل التعافي مما مررت به. ورغم رغبتي في تناسي الذكرى العاشرة والحدث ككل، وجدت نفسي أستعيد الحكايا كسجينة سابقة وكصحافية تشعر بألم وخجل من عدم القدرة على إيصال إجابات بسيطة كان بمقدورها أن تمحو تساؤلات المتابعين لواقع السجون ليس السورية فحسب بل والعربية، وصدماتهم من هول المشاهد المفزعة لسجون الأسد المأهولة وأبنيتها التي لا تليق بأي كائن حي، وصور الأطفال واستعادة حكاية رواها قبل نحو عقد من اليوم الكاتب والصحافي السوري الراحل ميشيل كيلو، والذي بكل أسف لم يعش هذه اللحظة التاريخية، عن طفل لم يعرف العصفورة ولا الشجرة نتيجة الظروف التي يعيشها داخل الزنزانة برفقة أمه منذ ولادته. لأجد نفسي أتوه داخل أسئلة عن أسباب إهمال الناس لهذه القصة سابقاً في خضم الأزمة السورية، عن أسباب عدم أخذ حقها آنذاك أو ربما عن احتمالية عدم تصديق البعض الروايات حتى يراها في وثائقيات!
عن الأطفال وحكايات السجن، كتبت روايتي “ميموزا” ونشرتها عام 2017، وسردت بعض التفاصيل في مقاطع فيديو، ومع ذلك في كل مرة أذكر قصة عابرة أجد دوائري القريبة تسمعها وكأنها للمرة الأولى! عن طفلة دخلت السجن مع والديها أثناء عملية تهريب مخدرات وهي في الأشهر الأولى لألتقي بها وهي في الرابعة من عمرها. وعن أخرى كانت أمها حاملاً بها “حمل سفاح”، أي خارج إطار الزواج، فتم إيقافها ووالد الجنين في المطار أثناء مغادرتهما لتولد الطفلة في السجن. وفي وجودي حيث كانت لم تكمل الرابعة من عمرها بعد، ذهبت يوماً مع أمها للقاء والدها وهو من الجنسية الآسيوية ذاتها، فعادت مذعورة تبكي لأنها رأت قطة على الطريق، وكان ذلك أمراً عظيماً بالنسبة الى الطفلة التي رأت كائناً لا يشبه البشر فجأة. الطفلة التي تعيش بعيداً من أشعة الشمس تماماً مثلنا، وعن ابن الخمس سنوات الذي انتقل مع أمه لسجن آخر، فرفض الخروج من السيارة عند تجربتها للمرة الأولى في حياته من شدة انبهاره بهذا الاختراع الممتع. وعن الطفلة التي ولدت في السجن، عن تلك الليلة التي خرجت السجينات فيها عن صمتهن لإنقاذ إمرأة حامل إثر اغتصاب حان مخاضها في منتصف الليل، وعن المتسولة العربية إبنة العشرة أعوام وأخرى تبلغ الـ12 عاماً واكتشافهم في السجن لما يسمى بالحمام “دورات المياه” للمرة الأولى، فحياتهم في الجبال لا تعرف مثل هذه التفاصيل المرفهة. جميع هؤلاء الأطفال كانوا يمكثون معنا تحت سقف واحد، وكانوا الدافع الأقوى لشجاعتي هناك، وأنا أقبع بين قضايا القتل والسرقة والمخدرات. كانت أمهاتهم تبتكرن لهم الألعاب بتشكيل المناشف على هيئة دمى، ونحن بدورنا نحتفظ لهم بعلب اللبن التي كنت من خلالها أعد أيام الأسبوع، ونشتري البسكويت لخلطهما وصنع حلوة الآيس كريم لهم.
هذه بعض حكايا الأطفال في السجون، أما النساء فلديهن الكثير من القصص، ولعل أبرزها أن دورتهن الشهرية تنقلب، فتصبح أيام الشهر كلها دورة، والنادر من الشهر هو الخالي منها، أي بعكس طبيعة أجسادنا. وكنا نحصل على الفوط الصحية المجانية ونتقاتل عليها. وكان لدينا تلفاز بقوانين صارمة، كانت السجينات وغالبيتهن من الجنسيات الآسيوية، يملن الى متابعة أفلام بوليوود التي تعرضها بعض القنوات الخليجية. لكني لمحت يوماً مسلسل “سجن النساء”، فاقترحت عليهن مشاهدته لأني لم أكن قد شاهدته آنذاك، وبالفعل تابعناه ولا أنسى مشهد إعدام روبي الذي أثر عليهن كثيراً، نامت يومها السجينات وسط كم من الكوابيس بسبب فعلتي.
لم أبالغ في الترويج لروايتي “ميموزا”، وقد كتبتها بصيغة خيالية لأن المكان والزمان ليسا الحكاية وحدها، ولم أرد أن ينشغل القارئ ببلد محدد بل بالحالة المتشابهة في هذا العالم. فالسجون العربية وغير العربية متشابهة جداً، وقد رأيت يوماً في تقرير وصلنا من ليبيا أثناء عملي في التلفزيون، مشاهد لسجون تشبه تماماً ما كنت فيه.
لقد أوقفت طباعة “ميموزا” بعد الطبعة الثانية ونشرتها بنسخة إلكترونية في موقعي الشخصي، لاعتقادي بعد متابعة ردود الأفعال العامة بأننا عربياً نبحث عن حكايا مسلّية بلغة إبداعية أكثر من تلك البسيطة الطامحة لإيصال الفكرة. لكن الحالة السورية اليوم والتفاعل معها أعاداني الى التفكير في طرق إيصال أصواتنا العربية، ولا أخشى سوى أن الإنسان بطبعه لا يُصدق حتى يرى… أو ربما يُفضل أن يُصدق الطرف الأقوى فقط.
ميموزا
حكايا الأطفال قصة بحد ذاتها، فمعظمهم قد ولد هناك فيما دخل البقية منهم في أول أشهر لهم من هذه الحياة الى ذاك المكان المنعزل، لذا فهم لا يعرفون شيئاً عن ألوان الحياة الخارجية.
أولئك الأطفال يخشون رؤية الشارع، فما أن يرافق الطفل والدته الى المستشفى و،هو المشوار الوحيد تقريباً المسموح به، حتى ترينه خائفاً مذعوراً من ذلك الطريق ومن تلك القطط في الشارع وأصوات السيارات ورؤية الموظفين الرجال. لكن، أذكر أن أحدهم قد خرج يوماً مع أمه لينتقل من مبنى الى آخر بعيد في نخل الراغوا، فما كان يقبل أن يغادر السيارة التي أعجبته رغم أنها من نوع الحافلة المتهالكة، وبقي لدقائق متشبثاً داخلها.
لقد كان هؤلاء الأطفال، وهم الحلقة الأضعف في ذلك المكان، يتحملون غضب أمهاتهم في أحيان كثيرة وتوتراتهم واضطراباتهم وغير ذلك…
فتوقفي عن استخدام ذلك الحمام بعد شهر من مكوثي في ذلك المكان، يعود الى سيدة ضخمة تدعى حواء وهي من بلاد عمق الأدغال حاولت الانتحار حينها داخل ذلك الحمام. كان موقفاً صعباً على الجميع، وكانت لها طفلة لم تتجاوز الرابعة من عمرها. إذ دخلت السيدة المكان كمتاجرة بالمخدرات عندما كانت طفلتها السمراء النحيلة بشعرها الغزير القصير الأجعد لا تتجاوز الستة أشهر، وكبرت في هذا المكان الذي لا يرى الشمس.
وفي يوم خرجت حواء عن صمتها عندما تجاهلت الموظفات حالة طفلتها التي تعاني من حساسية في الصدر وصعوبات في التنفس، لقد استيقظت يومها على صوت بكاء السيدة العالي، ويبدو أنه كان نتيجة نقاش حاد مع الموظفات حول الأمر. جلست في مكاني حيث أستيقظ كل يوم، وهو عبارة عن مخدة اسفنجية وغطاء ناعم و قطعة “مَرتبة” مفردة للنوم تفصل بيني وبين البلاط البارد الذي كان لي نصيب من النوم عليه لأيام في البدايات. جلست لدقائق ثم استيقظت المقيمة الملاصقة لي وأبدت لي تعجّبها بإشارات أومأتها لي بوجهها ثم قامت صوب السيدة الباكية.
درج
———————-
من سيحكم سوريا؟/ بد الرحمن الراشد
10 ديسمبر 2024 م
بعدَ أن تنتهيَ الاحتفالاتُ ويتدحرجُ آخرُ تماثيلِ الأسد في الميادين، سيواجه السوريون يوماً جديداً وغامضاً. من سيحكمهم؟ شخصٌ أم لجانٌ، أم ستكون هناك أكثرُ من سوريا، ثلاث أو أربع؟
قد لا يكون الوضعُ بهذا اليسر والسلاسة، فقد ترك الأسد بلداً مفككاً تتنازعه فئاتٌ متعددة. فالذي أسقط حلبَ وقادَ التغيير كانت «هيئة تحرير الشام» بقيادة أحمد الشرع، قادمة من منطقة النفوذ التركي، والقوة التي دخلت دمشق (غرفة عمليات الجنوب بقيادة أحمد العودة) زحفت من محافظة درعا، وهي فرقةٌ صغيرة من بقايا الجيش الحر، وكانَ الذي قامَ بتأمين الخط الحدودي مع العراق هو تنظيم «قسد» ذو الغالبيةِ الكردية في منطقة النفوذ الأميركي.
دمشق مثل برلين في أبريل (نيسان) 1945، عندما دخلتها جيوش الحلفاء؛ بريطانيا وأميركا من جهة الغرب، والسوفيات من الشرق. اتفقوا على هتلر الذي انتحرَ قبيل وصولهم، واختلفوا على حكم برلين. الرُّوس جلسوا في الشرق، وذهب غرب العاصمة للغرب.
في يوم النصر في دمشقَ، الفاتحون جميعاً سوريون، وصلوا من مناطق نفوذ مختلفة، حيث لم يكن ممكناً إسقاطُ النظام دون إسنادهم. ووفق التفاهمات التي سبقت رحيلَ بشار، الذي يقال إنَّه تبخّر في العاشرة مساء الخميس، يفترض أن يؤوّلَ الحكم إلى القوات السورية والثوار والمستقلين، ووفق قرار مجلس الأمن 2254 الوثيقة الدولية الوحيدة التي وافقت عليها الدول الخمس الكبرى تقول تُحكم دمشق بحكومة مؤقتة وكتابة دستور ثم بالانتخابات. إنَّما الأرجح أن «هيئة تحرير الشام» هي التي ستصبح في الأخير الحاكمَ الحقيقيَ لسوريا، على اعتبار أنَّها القوة الأكبر، التي قامت بمهمة التخلص من نظام الأسد في أسبوعين تقريباً. وستستمر «قسد» حاكمة على شرق سوريا، وسيكون الفرات مثل جدار برلين يفصل بين الجانبين السوريين، إلا إذا شهدنا توافقاً بين الفصائل يقوم بتوزيع فيدرالي، كما وعد به من قبل، أو شيء من هذا القبيل، أحمد الشرع نفسه.
وحتى لو توافقوا فإنَّ سوريا ليست للسوريين فقط، وهذا قدرها على مرّ التاريخ. دائماً الدول الكبرى الإقليمية والأجنبية لها كلمتها. وكنت قد أنهيت كتابَ جيمس رايت «خط في الرمال» عن التنافس البريطاني الفرنسي، وجزءٌ كبيرٌ منه عن الصراع على الشام في ما بين الحربين العالميتين. سنرى إيران وتركيا والعراق وإسرائيل لن تتخلَّى عن التدخل والتأثير على دمشق.
ستندرج العلاقةُ مع هذه الدول، وفق مصالحها وسياستها المعروفة. دول ستمثّل خطراً على استقرار سوريا الجديدة، تخشى أن تصبح قطباً يهدّدها. ودول ستعمل على دعم استقرار الحكمِ الشامي الجديد لتعديل كفة ميزانِ القوى الذي كانَ يميل لصالح إيران، وهي تعتقد أن هذا التغيير في دمشق لمصلحة استقرار المنطقة.
هذا يعني أن خيار دمشق إما أن تقفز فوق الألغام، أو أن تستبق زرعها، وتقدم كل ما يمكن لطمأنة الدول القلقة بما فيها جارتها العراق، وكذلك إيران وحتى إسرائيل، وجميعها تشترك في القلق من سقوط نظام الأسد.
مصلحة سوريا والمنطقة في تشكيل نظام إقليمي جديد يخفض حالة التوتر الخطيرة، وينهي حالة الاستقطاب الحادة التي شارك فيها نظام الأسد وتسببت في نهايته. يمكن أن تكون سياسة التصالح هي بوليصة التأمين للنظام الوليد. وهو ما تحدث به أحمد الشرع وأثار انتباهنا جميعاً، في رسالته المتلفزة لرئيس وزراء العراق قائلاً إن سوريا لن تكون عدوة لبلاده، وإنَّه يمد يده لعلاقة ود واحترام.
سوريا خرجت للتو من حقبة ستين عاماً وأمامها قضايا عديدة داخلياً وخارجياً. الدولة الوليدة ستحتاج إلى المال والنصيحة والصبر عليها. ستحتاج من شقيقاتها العربية والصديقة إلى الدعم الإنساني وليس فقط المساندة السياسية.
وتوفير الدعم المعنوي بالحضور والمشاركة وعدم ترك القيادةِ الجديدة فريسة لأصحاب الأهواء والنيات السيئة، ودعاة المغامرات الذين تسببوا في دمار بلدانهم وبلدان غيرهم. فحرائق المنطقة لم تخبُ منذ 13 عاماً وإلى اليوم. انظروا حولكم، توجد الكثير من التغييرات الخائبة، وهي بذاتها دروس وعبر كافية للثوار الجدد.
الشرق الوسط
———————————–
سوريا… صفحة جديدة وأمل في مستقبل مختلف/ عمر اونهون
بالنسبة لإسرائيل، قد يبدو تراجع النفوذ الإيراني في سوريا بداية إيجابية
آخر تحديث 09 ديسمبر 2024
فتحت سوريا صفحة جديدة مع سقوط نظام بشار الأسد. ويشعر السوريون وكأنهم قد ولدوا من جديد، إذ يغمرهم مزيج من الحماس والسعادة رغم استمرار الشكوك والمخاوف التي تخيم على المشهد.
بينما عاش الأسد، الذي حافظ على موقعه بدعم من روسيا وإيران، حياة مترفة في قصره على جبل قاسيون، كافح الشعب السوري، بما في ذلك الكثير من مؤيديه السابقين، للبقاء على قيد الحياة بأبسط مقومات العيش. استشرى الفساد والأنشطة غير المشروعة، ما أدى إلى زيادة تفكك البلاد إلى أجزاء متعددة. وفي ظل هذه الظروف القاسية، كان من المستحيل أن يستمر نظام الأسد وكأن شيئا لم يكن.
تعلمنا الدروس المستقاة من التاريخ أن الطغاة لا يمكنهم الاستمرار في حكمهم إلى الأبد. فمهما بلغت قسوة الطاغية ودهاؤه، فإن عجلة الزمن تدور دائما. وها هو الأسد ينضم الآن إلى صفوف الطغاة الذين أطيح بهم.
القضية الأكثر إلحاحا في سوريا اليوم هي إنشاء إدارة انتقالية تحول دون وقوع فراغ في السلطة أو عودة الحرب الأهلية.
أحد الشخصيات الرئيسة في هذا الفصل الجديد هو أحمد الشرع، المعروف بأبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام”. يقدم الجولاني رسائل معتدلة تهدف إلى تعزيز الثقة بين مختلف الأطراف. وكما أشرنا سابقا في “المجلة”، أصبحت “هيئة تحرير الشام” التي تعود جذورها إلى “تنظيم القاعدة” و”جبهة النصرة”، نموذجا مشابها لطالبان، ولكن بطابع مخصص للسياق السوري.
في المقابل، اكتسبت تركيا مكانة دولية مرموقة، حيث يعزى إليها الفضل في دورها المحوري في إسقاط الأسد. وخلال مؤتمر صحافي في الدوحة، تعهد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بمساعدة السوريين في إعادة بناء بلدهم.
وفي خضم هذا التحول، كانت إيران وروسيا أكبر الخاسرين. فقد شهد النفوذ الإيراني في سوريا تراجعا كبيرا، ما أدى إلى إضعاف “محور المقاومة” الذي يربط بين إيران والعراق وسوريا ولبنان. كما تعطل الممر اللوجستي الحيوي الذي يربط إيران بالمشرق.
وعلى الرغم من احتفاظ روسيا بقاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم، إلا أنها فقدت الكثير من مكانتها الإقليمية. وظهر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، رغم ثقته الظاهرة خلال مشاركته في منتدى الدوحة، في موقف محرج نتيجة للتطورات السريعة التي تلت تصريحاته.
لقد دفعت كل من روسيا وإيران ثمنا باهظا في سوريا، وأصبحتا الآن موضع كراهية لدى شريحة كبيرة من السوريين.
يعكس الوضع الحالي شبكة معقدة من المفاوضات متعددة الأطراف، تضم الكثير من الجهات الفاعلة: تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا والدول العربية الإقليمية و”هيئة تحرير الشام” و”الجيش الوطني السوري” و”وحدات حماية الشعب” وبقايا النظام نفسه. وفي لعبة القوة المعقدة هذه، تتغير التحالفات بسرعة، حيث تتصارع الأطراف وتتعاون في الوقت ذاته.
ليس من المفاجئ أن تشهد هذه الدول صراعات مستمرة ومعارك متبادلة. ففي عالم الدبلوماسية الدولية لأزمات النزاعات، غالبا ما تعمل الديناميكيات الإقليمية والعالمية في منطقة رمادية، حيث يمكن للخصوم أن يتصافحوا بيد، بينما يحكمون قبضتهم بخناق بعضهم باليد الأخرى.
لقد أعيد تشكيل خريطة سوريا لتنتج ثلاث مناطق عمودية متمايزة: الشريط الساحلي الذي يهيمن عليه العلويون، والمناطق الوسطى التي تسيطر عليها المعارضة، والأراضي الشرقية التي تديرها “قوات سوريا الديمقراطية”. ومع ذلك، يبقى السؤال عما إذا كان هذا التقسيم دائما أم لا؟
طوال فترة النزاع الأخير، تجنبت قوات المعارضة استهداف المناطق الساحلية (طرطوس- بانياس- اللاذقية)، التي تعد معقل الطائفة العلوية. ويُعزى ضبط النفس هذا على الأرجح إلى اتفاق ضمني يعتبر هذه المنطقة ملاذا آمنا للعلويين والمؤيدين للنظام.
الآن، المسألة الأكثر أهمية هي ما سيحدث لاحقا. من الضروري تجنب انهيار الدولة، ويجب على الأمة السعي لعدم الانزلاق إلى مزيد من الانقسام. وفي هذا السياق، أعلن رئيس الوزراء محمد غازي الجلالي استعداده للتعاون مع المعارضة، مؤكدا التزامه بحماية الأمن العام ومد يده لتحقيق المصالحة. وقد لاقى هذا النهج التصالحي استجابة إيجابية من قِبل المعارضة.
تتمثل الأولوية الفورية في ملء الفراغ الإداري. وقد اقترح الجولاني تشكيل لجنة إدارة، إلا أن التفاصيل حول تكوينها لا تزال غامضة. فمن غير الواضح من سيشارك في هذه اللجنة، وما هي المجموعات التي سيتم تمثيلها، وما إذا كان سيتم إشراك عناصر من النظام السابق أو “وحدات حماية الشعب”. وقد تعمل حكومة رئيس الوزراء بشكل مؤقت تحت توجيهات هذه اللجنة.
كان أحد الأسباب الرئيسة لنجاح الأسد في المراحل الأولى من الحرب الأهلية هو تشرذم جماعات المعارضة، مما أدى إلى تحول تركيزها من محاربة الأسد إلى محاربة بعضها البعض. ومع ذلك، أظهرت المعارضة في الأسابيع الأخيرة قدرة مشجعة على العمل بشكل جماعي، مما حقق تقدما كبيرا. وسيكون الحفاظ على هذه الوحدة أمرا بالغ الأهمية بينما تنتقل سوريا إلى الحكم وإعادة الإعمار. فالفشل في ذلك قد يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية جديدة.
ومع الكشف عن جرائم نظام الأسد، من المتوقع أن تُنشأ محاكم لضمان تحقيق العدالة. ومع ذلك، يجب أن تتجنب هذه العمليات التحول إلى حملات انتقامية، حيث قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات بدلا من معالجتها. وستكون معالجة مخاوف وهواجس الطائفة العلوية/النصيرية ضرورية لتحقيق سلام دائم.
تُعد معاملة من خدموا تحت حكم الأسد، خاصة في صفوف الجيش، قضية ملحة. ينبغي الاستفادة من الدروس المؤلمة المستخلصة من العراق، حيث أدى حل الجيش إلى حالة من الفوضى. وتكرار هذا الخطأ في سوريا قد تكون له عواقب كارثية مماثلة.
تشكل خطوط الصدع المحتملة تحديا كبيرا. إذ تكمن أبرز مخاطر الصراع بين المعارضة والعلويين، وبين فصائل المعارضة نفسها، وبين المعارضة و”وحدات حماية الشعب” الكردية، وداخل المجتمع الكردي، فضلا عن التوترات بين العرب والتركمان.
وتمثل المعارضة، التي تتألف إلى حد كبير من جماعات جهادية ذات أيديولوجيات إسلامية، تحديا حاسما لمستقبل سوريا. ويبقى السؤال المحوري- عما إذا كانت هذه الجماعات ستلتزم باحترام التاريخ الغني لسوريا كمجتمع متعدد الثقافات والأديان والطوائف- إرثا يعود لقرون قبل عهد الأسد. كما أن شكل الحكم الذي تسعى إليه هذه الجماعات سيكون عاملا حاسما. فإذا ما دفعت نحو نظام إسلامي صارم، قد ينجم عن ذلك توترات كبيرة وعدم استقرار.
ولا يقل أهمية عن ذلك مسار “وحدات حماية الشعب”، التي تم تدريبها وتسليحها من قبل الولايات المتحدة. فخلال الأيام العشرة الماضية، وسّعت هذه الوحدات من نطاق سيطرتها الإقليمية، ومن الواضح أنها تسعى لتحويل هذه المكاسب إلى نفوذ سياسي دائم. وقد أشار قادتها مرارا إلى أنهم سيطالبون، على الأقل، بالحكم الذاتي.
وقد أعلنت تركيا بشكل قاطع أنها لن تسمح لـ”وحدات حماية الشعب” بإنشاء كيان شبيه بالدولة في سوريا، وهو موقف يحظى بدعم غالبية العرب السوريين الذين يعارضون أيضا هذه الطموحات. ومع ذلك، يبقى السؤال حول كيفية استجابة الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب. ففي حين أعرب ترمب عن رغبته في تجنب التدخل العسكري في سوريا، قائلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي: “هذه ليست معركتنا”، يبقى من غير الواضح ما إذا كان هذا الموقف يشمل “وحدات حماية الشعب”، خاصة مع تصاعد التوترات في المنطقة.
وبالنسبة لإسرائيل، قد يبدو تراجع النفوذ الإيراني في سوريا بداية إيجابية. ومع ذلك، فإن انهيار نظام الأسد قد يؤدي إلى هيمنة الجماعات الإسلامية على سوريا بشكل متزايد. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات تجنبت حتى الآن استهداف إسرائيل، وفي بعض الحالات استغل الطرفان بعضهما بما يخدم مصالحهما، فإن المخاوف تظل قائمة في كل من إسرائيل والولايات المتحدة من أن هذا الوضع قد يتغير. فقد تتبنى هذه الجماعات في النهاية مواقف تتماشى مع القضايا العربية والإسلامية الأوسع نطاقا، مما قد يخلق تحديات أمنية جديدة.
وعلى الرغم من أن سقوط الأسد يمثل نهاية حقبة في سوريا، فإن التحديات لم تنتهِ بعد. والطريق إلى الأمام مليء بعدم اليقين، وقد يؤدي حل بعض القضايا إلى نشوء مشكلات جديدة غير متوقعة.
المجلة
——————————-
تجربة “سوريا الفيدرالية” التي لم تعش طويلا/ سامي مبيض
شهدت منجزات عدة رغم عمرها القصير
آخر تحديث 08 ديسمبر 2024
هل تعلم أن عاصمة سوريا كانت– ولفترة قصيرة من القرن العشرين– مدينة حلب وليس دمشق؟
كان ذلك في يونيو/حزيران 1922، بعد سنتين من فرض الانتداب الفرنسي على سوريا وتقسيمها إلى دويلات: دولة دمشق (تضم حمص وحماة). ودولة حلب (تتضمن الحسكة ودير الزور والرقة). ودولة جبل الدروز وعاصمتها السويداء. ودولة جبل العلويين التي تضم مصياف وطرطوس وعاصمتها اللاذقية. وعلى الرغم من اسمها، لم تكن دولة العلويين دولة علوية بالكامل، وفيها بحسب إحصاء سنة 1923 ما لا يقل عن 94 ألف مسلم سني، و34 ألف مسيحي، و5 آلاف إسماعيلي، و101 مواطن علوي.
وقد قررت فرنسا تغيير هذا النمط من الحكم وتأسيس “اتحاد الدول السورية”، الذي يشار إليه أحياناً باسم “دولة الاتحاد” في 28 يونيو 1922. وكان مبنياً على النموذج السويسري، ويجمع بطريقة فيدرالية بين دويلات دمشق وحلب وجبال العلويين.
تفاجأ أهالي دمشق بسماع أن مدينتهم، عاصمة الأمويين، لن تعود عاصمة في “دولة الاتحاد” وعلق الزعيم الوطني فارس الخوري في مذكراته: “يجب تبديل العاصمة لإرضاء الدمشقيين”. وقد أسس “الاتحاد” لنظام فيدرالي بين الدويلات الثلاث، في الشؤون المالية والعدلية والطابو والجمارك والأوقاف والبرق والبريد. وبقي لكل دولة الاحتفاظ بمناهجها التعليمية الخاصة وعلمها وطوابعها وسكوك ملكيتها، وإصدار شهادات الميلاد والزواج والوفاة والبيع والشراء. ورسمت حدود لكل دولة على الخرائظ، وطلب من كل واحدة منها تقديم نصف عائداتها المالية إلى بقية الدول، والاحتفاظ بالنصف الثاني لشؤونها الداخلية.
حددت الأعياد المسيحية والإسلامية في الدول الثلاث، مع فرض عيد الثورة الفرنسية في 14 يوليو/تموز، أو عيد الباستيل، عيداً جامعاً لكل السوريين من رعايا الدولة الفرنسية المنتدبة. واختار الجنرال هنري غورو 15 مندوباً للمجلس التمثيلي الأول في دولة الاتحاد (5 أعضاء لكل دولة)، وطلب إليهم انتخاب رئيس جامع للدولة الفيدرالية، مع إبقاء حاكم دولة دمشق حقي العظم في منصبه وكذلك حاكم حلب كامل القدسي. وأعطيت كل دولة صوتا واحدا في الشؤون المتعلقة بـ”الاتحاد” ككل، على أن يمر بالأغلبية. وأخيراً جاء في نظام “الاتحاد” أن يجتمع المندوبون عن الدول الثلاث مرتين في السنة الواحدة، وأن تكون قراراتهم ملزمة للجميع.
الرئيس الفيدرالي
انتخب أعضاء “مجلس الاتحاد” الوجيه صبحي بركات رئيساً لهم، ابن مدينة أنطاكيا، وهو نائب سابق في البرلمان السوري (المؤتمر السوري الأول) سنة 1919. غضب الدمشقيون لتسميته رئيساً لهم من الشمال، وحاول بركات إرضاءهم بتعيين أحد أعيان دمشق، سامي باشا مردم بك، نائباً له. وغضبوا أيضاً من المساواة بينهم وبين الحلبيين وسكان دولة العلويين، وكتب فارس الخوري معقباً: “جاهروا في إذلال دمشق بغية الحطّ من شأنها وإضعافها وأقاموا حلب نظيرة لها وعطفوا على حلب بجعلها مركزاً للاتحاد السوري”.
كان صبحي بركات يتكلم العربية بصعوبة، وقد جعل اجتماعات “مجلس الاتحاد” باللغة التركية ولكن خطاباته كانت بالعربية وفيها الكثير من الأخطاء اللغوية. وقد قامت الصحف الدمشقية بنشر الخطابات دون أي تعديل أو تصحيح، للنيل من سمعة رئيس الدولة. حتى الحلبيون لم يعجبهم نظام الدولة الجديد لأنه وضعهم في مرتبة واحدة مع الدمشقيين والعلويين، وجعل عائدات دولتهم- الأغنى بين الدويلات الثلاث- تذهب إلى تطوير الزراعة في ريف دمشق مثلاً، أو إنشاء المدارس في اللاذقية وريفها. طالب أهالي حلب أن تبقى ثروات حلب في يد الحلبيين واعترضوا على أن معاشات دولة دمشق كانت أعلى من معاشاتهم بسبب غلاء الأسعار والإيجارات في دمشق.
وقد جاء شحّ في الأمطار أضر كثيراً بزراعة الدويلات الثلاث، وتوقفت تركيا عن الاستيراد من حلب بسبب الحدود والتعاريف الجمركية التي فرضتها سلطة الانتداب الفرنسي، ما أضر كثيراً بصناعة الحلبيين وتجارتهم. وكانت حلب يومها تعاني من تحديات كبرى لتأمين الجالية الأرمنية الكبيرة التي استوطنتها منذ الحرب العالمية الأولى، هرباً من المجازر العثمانية. حتى العلويون لم يكونوا راضين، لأن “دولة الاتحاد” حرمتهم من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها في مطلع مرحلة الانتداب، ومنها المحاكم الخاصة بهم.
شكّل رئيس الدولة صبحي بركات حكومة مصغرة من أربعة وزراء، اثنان من دمشق واثنان من حلب، دون تعيين أي وزير من دولة العلويين. اعترض البعض قائلين إن الوزارة فرضت فرضاً ولم تأتِ بالانتخاب أو الشورى، فرد غورو بأن الدولة السورية لا تزال فتية وغير جاهزة للديمقراطية. وعندما قرر وضع علم جديد للدولة، صُمم على أساس الأخضر نسبة للخلفاء الراشدين والأبيض نسبة للدولة الأموية)، وفي زاويته العليا وضع مصغر العلم الفرنسي. علّق الخوري في مذكراته: “وأنا لست أعلم المسوّغ لإقحام العلم الفرنسي في العلم السوري، فإن الانتداب مؤقت في حين أن العلم السوري دائم”.
انتخابات “الاتحاد” سنة 1923
عقدت أولى جلسات حكومة “الاتحاد” في حلب يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 1922، وفي شهر يونيو من عام 1923 كانت الانتخابات الأولى لثلاثة برلمانات محلية، يشكلون مجتمعين مجلسا تمثيليا موحدا لـ”الاتحاد”، يجتمع دورياً في حلب. وجاء أن المواطنين السوريين فقط يملكون حق الانتخاب لمن بلغوا الواحد والعشرين من العمر، شرط أن يكونوا مقيمين في دولتهم عند التقدم بالترشح، لما يقل عن ستة أشهر.
مقاطعة الانتخابات
في ريف الساحل السوري لم تكن الانتخابات مسيسة لعدم وجود صحف أو أحزاب أو مجتمع سياسي حقيقي للتأثير على الناخبين، ناهيك عن ارتفاع نسبة الأمية في القرى العلوية. وقد تمّت فيها الانتخابات بشكل عشائري وتقليدي، أما في دمشق وحلب فكان الوضع مختلفا تماماً، وتشكلت ثلاث كتل، الأولى برئاسة صبحي بركات، والثانية برئاسة حاكم دولة دمشق حقي العظم، والثالثة من قبل رئيس الوزراء الأسبق رضا الركابي. وفي المقابل كانت هناك تيارات وطنية معارضة للانتخاب والتقسيم، تعتبر أنهما يشرعان الانتداب، أحدها بزعامة المحامي فوزي الغزي، أستاذ القانون في معهد الحقوق، والثاني بزعامة وزير الخارجية الأسبق عبد الرحمن الشهبندر. طالبوا بمقاطعة الانتخابات في دمشق، وفي اليوم الأول لم يشارك إلا 25 في المئة من السكان، مقابل 49 في المئة في حلب، حيث لا نفوذ للغزي والشهبندر. في ريف حلب وصلت نسبة المشاركة إلى 99 في المئة، وفي دولة العلويين إلى 77 في المئة.
كانت الانتخابات مقررة في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1923، ولكنها أجّلت إلى التاسع والعشرين من الشهر نفسه، وكانت النتيجة نجاح قائمة صبحي بركات كاملة وهزيمة قائمة رضا الركابي، مع فوز حقي العظم بكل مقاعد دولة دمشق. وصلت كتلة صبحي بركات– كتلة شمال سوريا– إلى 16 من أصل 19 مقعداً وفاز حلفاؤه بعشرة مقاعد في دولة العلويين، ما جعله زعيم الكتلة النيابية الأكبر في سوريا. حاول عبد الرحمن الشهبندر منع المرشحين الفائزين عن دمشق من الالتحاق بالمجلس النيابي، ودخل مجموعة من الغوغاء على نائب دمشق عبد الحميد العطار (خطيب الجامع الأموي) وضربوه، كما تعرّض زميله التاجر رشدي الركابي السكري إلى مقاطعة في سوق البزورية بهدف الضغط عليه للانسحاب من المجلس النيابي. لم تنجح مساعي الشهبندر كلها، لكن الفرنسيين لم يكملوا التجربة الفيدرالية حتى النهاية وكان أول تغير طرأ عليها نقل العاصمة من حلب إلى دمشق، بإلحاح من الدمشقيين، في 30 أكتوبر 1923.
إنهاء “الاتحاد”
المندوب السامي الجديد ماكسيم ويغان لم يكن متمسكاً بالفكرة لأنها من مخلفات سلفه هنري غورو، وقد سمع أنه لا الدمشقيون ولا الحلبيون ولا العلويون كانوا راضين عن التجربة الفيدرالية. وعند طرح وحدة الأراضي السورية في المجلس، صوت نواب دمشق وحلب معها، ومعهم نائب دولة العلويين السنّي عبد الوهاب هارون، ابن مدينة اللاذقية.
وفي 5 ديسمبر 1924، صوت المجلس على حل “الاتحاد”. وقبل مغادرته سوريا عائداً إلى فرنسا، صدّق المندوب السامي على القرار واستبدل بـ”الاتحاد” نظام “الدولة السورية” التي تضم دولتي حلب ودمشق، مع المحافظة على استقلالية دولة العلويين.
أصبح صبحي بركات رئيساً للدولة السورية بعد أن كان رئيساً لـ”دولة الاتحاد”، وفي 21 ديسمبر 1925 استقال من منصبه احتجاجاً على قصف العاصمة السورية من قبل الفرنسيين في 18 أكتوبر من العام نفسه، وذلك في أعقاب الثورة السورية الكبرى.
أثناء عمرها القصير شهدت “دولة الاتحاد السوري” منجزات عدة، كان أهمها دمج معهدي الطب والحقوق لإنشاء الجامعة السورية في دمشق سنة 1923، وبدء الأعمال الإنشائية على جر مياه نبع عين الفيجة إلى سكان مدينة دمشق، كما ألغيت الامتيازات القانونية للمواطنين الأجانب المقيمين في سوريا التي كانوا يتمتعون بها زمن العثمانيين.
المجلة
————————–
سقوط الأسد… نهاية عائلة ونظام ومحور/ إبراهيم حميدي
التاريخ يثبت أحكامه. الشعب يقهر ولايُقهر
09 ديسمبر 2024
سقط بشار الأسد. انتهى نظام عائلة الأسد. التاريخ يثبت أحكامه. الشعب يقهر ولايُقهر. الوحشية لا توقف مسار التاريخ. السقوط، هو النهاية الحتمية لأي ديكتاتور.
طوت سوريا 54 سنة من تاريخها. بعد 14 سنة من الثبات، يفتح السوريون صفحة جديدة في تاريخهم. بعد 11 يوما من الجولة الأخيرة، فر بشار الأسد إلى موسكو ودخل رئيس “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) إلى دمشق. تجول الثوار في قصور الرئاسة وأنفاقها السرية واستنشق السجناء الحرية وعانقوا الشمس، وبات الأسد وعائلته في المنفى في انتظار القدر والملاحقة.
لكن كيف أسقطت المعارضة الأسد في 11 يوما؟
لا شك أن الإطار العام لهذا الانتصار، هو تضحيات السوريين المستمرة منذ عقود ضد النظام، فوق الأرض وفي الأقبية والزنازين. كثيرون قتلوا وسجنوا وشردوا وعانوا. المعاناة شملت الملايين. قلائل هم الأشخاص الذين لم يصابوا بأذى مباشر أو غير مباشر من النظام، سواء كانوا داخل البلاد أو خارجها. الضرر لحق بكثيرين وإن اختلفت الدرجات. زادت المعاناة بعد 2011. قُتل وعُذب وسُجن كثيرون وهجر الملايين داخل البلاد وخارجها. لكن الإصرار على التغيير بقي ملازما الكثيرين رغم يـأس البعض وتخلي حلفاء عن دعم المعارضة وقبول النظام كأمر واقع.
لكن يمكن الحديث عن خمسة أسباب مباشرة للقضاء على الأسد بالضربة القاضية:
أولا، 7 أكتوبر السوري: بينما كان هناك قبول إقليمي بالأسد، كانت فصائل معارضة تعد العدة لهجوم كبير. عكفت “هيئة تحرير الشام” وفصائل مسلحة على إعداد العدة لمعركة كبيرة للسيطرة على حلب ثاني أكبر المدن السورية. اشتغل هؤلاء في شمال غربي سوريا، على خطة عسكرية وأمنية وإعلامية ومدنية لأكثر من سنة، تضمن هذا الكثير من التدريب والاستعداد والإعداد لـ”المعركة الكبرى” وساعة الصفر.
ثانيا، الأسد عاريا: في السنتين الأخيرتين، أصيب كثيرون بخيبة إضافية من الأسد. لا شك أن دولا كثيرة بقيت متشككة في نيات الأسد وتعتبره دكتاتورا قتل وهجر الكثيرين ويستحق المحاسبة. أيضا، فوّت فرصة إضافية أعطيت له، إذ إنه لم يقم بالوفاء بالتزاماته بعد قرار التطبيع معه في منتصف 2023، التي شملت إصلاحات داخلية تتضمن عودة اللاجئين، وإطلاق سراح السجناء، والتوقف عن تصنيع “الكبتاغون” وتهريبه، وإعادة تموضع إقليمي في علاقته مع إيران و”حزب الله”.
لم ينفذ عمليا أيا من هذه الوعود، بل بالعكس واصل أسلوب التنصل مع الوعود واللعب على الكلمات و “التذاكي” لشراء الوقت.
ثالثا، الجيش السوري: تبين بوضوح في “معركة حلب” أن الجيش السوري غير قادر ولا يريد القتال. صحيح أن الفصائل أعدت لمعركة “ردع العدوان” في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكن حجم الانهيارات في خطوط الجيش غربي حلب، كان مدهشا. كان يسقط خطا وراء آخر، ثم قطعة عسكرية وراء أخرى، مدينة بعد أخرى.
الجيش السوري قرر عدم القتال. لقد فقد العقيدة والعدة والرغبة والإمكانية والعصب. قاتلوا بعد الاحتجاجات السلمية في 2011، ماذا حصدوا؟ حصدوا مزيدا من الفساد والمحسوبيات والتهميش والفقر. في مقابل العقيدة والانضباط والتدريب والاستعداد للفصائل، كان الجيش في الضفة المناقضة في كل شيء.
رابعا، “المحور الإيراني”: تعرضت إيران ووكلاؤها في السنوات الأخيرة لضربات كثيرة، تحديدا في السنة الأخيرة، أُضعفت إيران و”حزب الله” أمام الضربات الإسرائيلية في سوريا ولبنان. فكان هروب بشار الأسد امتدادا لاغتيال حسن نصرالله كتعبير عن الضربات التي تعرض لها “محور الممانعة”.
عمليا، ظهر هذا في خطوط القتال غربي حلب. بالتوازي مع انهيار خطوط النظام بسرعة، كانت ميليشيات إيران تنسحب وتنهار أمام ضربات الفصائل.
في 2012 وصل قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني إلى سوريا، مع السلاح والميليشيات بل إنه قاد بعض المعارك بنفسه. في 2024، لم يأت إسماعيل قاآني إلى ساحات الوغى. فالمسرح السوري تغير وبات تحت السيطرة الجوية لضربات الانتقام الإسرائيلية لـ”7 أكتوبر” 2023.
خامسا، أولويات روسيا: منذ تدخله في أوكرانيا في 2022، باتت أولوية الرئيس فلاديمير بوتين تحصين “الحديقة الخلفية” التي تحولت قضية داخلية وشخصية لـ”القيصر”. وفي هذه الفترة التي يقدم فيها بايدين، في آخر أيامه، الدعم العسكري والصاروخي لفلوديمير زيلينسكي، فإن آخر شيء يريده بوتين هو تشويشه عن المعركة الكبرى وتحسين موقفه التفاوضي إزاء أوكرانيا مع قرب تسلم دونالد ترمب الراغب في تسوية سريعة.
في 2015، زار سليماني بوتين واتفقا على معادلة: روسيا توفر الغطاء الجوي وإيران توفر الميليشيات لدعم الأسد. هذا ما حصل، خرج الأسد من حافة الانهيار واستعاد 63 في المئة من سوريا بعدما كان يسيطر على 10 في المئة. كما حصل بوتين على قاعدتين عسكريتين، جوية في اللاذقية وبحرية في طرطوس.
في 2024، لم يجد “المرشد” علي خامنئي “جنديه” قاسم سليماني كي يرسل الميليشيات الإيرانية. بوتين لم يجد “جنديه” سيرغي شويغو كي يرسل الطائرات. خامنئي مشغول بتضميد جراحه الداخلية والإقليمية. بوتين مشغول بتضميد جراحه الروسية والأوكرانية.
أمام هذا المشهد باتت سوريا أمام وصفة صاغها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ملامحها: خروج الأسد من دمشق ودخول الشرع (الجولاني)، والإبقاء على القاعدتين العسكريتين غربي سوريا والاعتراف بالنفوذ الروسي، وتحييد الجيش والحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، والتمسك بالتنوع السوري وعدم المساس بالعلويين وبيئتهم المحيطة بالقاعدتين الروسيتين، والحفاظ على وحدة سوريا عبر عملية انتقالية تجمع “الدويلات الثلاث” بخيمة مركزية في دمشق، وإضعاف النفوذ الإيراني وقطع طريق الإمداد العسكري من طهران إلى “حزب الله” تواكبه ضربات و”منطقة عازلة” إسرائيلية.
ليس سهلا تنفيذ هذه التقاطعات. صحيح أن هناك الكثير من التحديات أمام سوريا المستقبل، وأن الطريق لن يكون سهلا، وأن تجارب التغيير التي حصلت في العراق وليبيا لم تكن سلسة وسهلة.
لكن لا خلاف أن حقبة طويت. انتهت “سوريا الأسد” وسقط نظام الأسد. هذا تحول كبير ولحظة انتظرها السوريون لعقود وضحوا لأجلها لعقود. لحظات تستحق الاحتفال والاستعداد لمعالجة أسئلة كبيرة قادمة.
المجلة
————————
التحديات الكبرى… ماذا بعد رحيل بشار؟/ عبدالله الجديع
تركيا هي التي تضمن سلوك المجموعات المسلحة وتضبط إيقاعها السياسي
10 ديسمبر 2024
بمشاهد حبست أنفاس العالَم لسجونٍ تحت الأرض، لغرف إعدام وآلات تعذيب، اختتم بشار الأسد عهده في سوريا، ويعيش بعدَها حياته لاجئا في روسيا بعد أن عاش ملايين السوريين لاجئين في جنبات الأرض، ولا يكاد يوجد إنسان له حساب على وسائل التواصل الاجتماعي إلا رصد الفرح الهادر الذي اجتاح السوريين وكل إنسان ذي قلب وهو يشاهد خروج النساء والأطفال من سجون وسراديب غيبتهم عن العالَم في ظروف غير صالحة للحياة.
رحل بشار بعد أن تصدرت الإعلام وحديثَ الناس أخبارُ سقوط المحافظات تباعا، لكن ذلك الرحيل مثل كل ما ارتبط ببشار خلف صعوبات كبرى بعده، صعوبات تتعلق بإنشاء دولة بعد أن ارتبطت الأولى به وبنظامه وسياسته الداخلية والخارجية التي هوت حين اختفى عن المشهد السياسي، ففي الشمال الشرقي من سوريا تنشط مجموعات الأكراد المسلحة، وحلم الانفصال أو على الأقل إنشاء منطقة كردية بميليشياتها الخاصة، إلى جانب فصائل أخرى ارتبطت بتركيا، إذ مولتها وسلحتها، مؤَملة من ذلك دفع الأكراد عن حدودها، وضمان أن لا تطالَب بالانسحاب من الشمال السوري وهو مطلب بشار الذي منع المحادثات مع أنقرة، إلى بقايا وفلول “داعش” التي استهدفها الجيش الأميركي مع تقدم المعارضة.
وفي جنوب سوريا تتحرك إسرائيل خارقة اتفاق وقف إطلاق النار مع سوريا 1974 وتوسع من تدخلها في الحدود السورية بعد الاستيلاء على جبل الشيخ وعدة مناطق أخرى، بل قصفت مناطق حساسة تابعة لما كان من الدولة سابقا مثل: مركز أبحاث علمية، وموقع لتطوير الأسلحة الباليستية، خشية أن تقع في أيدي المعارضة المسلحة وتُستثمر في أي نظام جديد فيها، وسط بيانات عربية تؤكد على وحدة الأراضي السورية، رافضة لأي مشروع تقسيم لها.
وفي ظل هذا تتربع تحديات كبرى على رأس أولويات المرحلة السورية المقبلة التي تواجه الفصائل، وأولها إنشاء جيش وطني سوري موحد، يضمن حل مختلف الميليشيات مهما كان اسمها وخلفيتها العرقية والأيديولوجية، فدون تجاوز هذه العقبة لا يمكن لأي نظام سياسي أن يستقر، ولضرورة إنشاء جيش وطني ينبغي أن يوجد لدى العناصر عقيدة وطنية تتعالى على النزاعات الطائفية والعرقية، لتفويت الفرصة على أي مشروع انفصالي فيها، وضمان قيام الدولة الوطنية، وهو ما تصعبه مخلفات الحرب السابقة بين العناصر الاجتماعية التي ارتبطت بمشاريع سياسية متنافرة.
كذلك الجانب الاقتصادي ويواجهه سقوط العملة السورية، والتي حلت مكانها العملة التركية في إدلب سابقا، والاعتماد على العملة التركية سيجعل من سوريا سوقا كبرى لتركيا وسط نفوذها السياسي القوي على عدد من الفصائل التي رعتها وسلحتها وزودتها بالمعدات كالمدرعات، بل بلغ الأمر ببعضها إلى وضع العلم التركي على بزته العسكرية أو خوذته قبل سقوط الأسد ودخول دمشق، مما يجعل من بناء اقتصاد وطني ضرورة للانعتاق من التبعية الخارجية والتي تمثل تركيا الوزن الأكبر فيها ضمن المعادلة الجديدة.
ومن ذلك الاعتراف الدولي، وتمثيل السوريين وفق نظام سياسي يقوم على أساس دستور جديد يحفظ حقوق المواطنين، ويكون البوتقة التي تصهر مختلف العناصر الاجتماعية والسياسية لتشكل هوية وطنية، وفي وجه هذه التحديات عقبات كبيرة، من أهمها وجود فصائل مثل “هيئة تحرير الشام” على لوائح الإرهاب بل إن الجولاني قائدها المعروف حاليا بأحمد الشرع نفسه على قائمة الإرهاب الأميركية، وقد وضعت ثمنا لمن يدلي عنه بمعلومات، فبقاء هؤلاء على تلك القوائم يعيق من بناء الدولة، إذ قد يكون ذريعة لتدخل إسرائيل أكثر في سوريا بحجة أن تلك جماعات (إرهابية) وصلت إلى حدودها، ويمكن أن يستثمر في النزاعات الداخلية سيما من جانب الميليشيات الكردية التي تتواصل مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
ولا تُظهر تلك الجماعات زهدها في السلطة، وإلا كان في حلها لنفسها وتواري رموزها عن الأنظار ما يجنب سوريا هذه العقبة، لكن أحمد الشرع سارع إلى تحديثات في خطابه وتخلى عن اسمه السابق، وأرسل رسائل تطمين إلى دول الجوار، وحرص على الظهور في لقاء مصور مع قناة “سي إن إن”، وتسجيله لحضوره في حلب ودمشق، بما يؤكد على رغبته في البقاء متنفذا في عالم السلطة وطموحه إلى اكتساب شرعيتها، وهو ما يبزرُ سؤالا عن برنامجه السياسي؟ أو على الأقل عن أفكاره السياسية؟
لقد أكد- وهو صاحب الكتلة الأكبر من المقاتلين على الأرض- على مجموعة من التطمينات مثل امتناعه عن قتل أحد من السوريين لخلفيته الدينية أو العرقية، ورغبته بعدم وجود انفراد في الحكم لأحد، وتأكيده على أنه لن يتدخل في الدول المجاورة، لكنها كلها تأكيدات سلبية، بمعنى أنه يقول: لن يفعل هذا، والسؤال ما الذي يود فعله؟ وهو ما لا إجابة واضحة عليه في كلامه، ولو فُرض أنه قد حل تنظيمه المسلح هل يستطيع أن يكون له جناح سياسي، له رؤية تميزه عن غيره؟ فـ”الهيئة” هي عناصر مقاتلة شحنت في مرحلة الحرب سابقا بمختلف عناصر “العقيدة القتالية” لكنها تفتقد إلى الرؤية السياسية، مما يجعلها مثل غيرها عُرضة للاستفزاز، والارتجال، والوقوع في أخطاء سياسية فادحة.
في مقابل ذلك يزيد هذا من التأثير التركي عليها، على اعتبار أن تركيا هي الدولة التي تضمن سلوك تلك المجموعات وتضبط إيقاعها السياسي، وفي هذا خطورة على وحدة السوريين فقد تدفع تركيا إلى قتال الميليشيات الكردية لحساباتها القومية فقط مما يهدد بتفجير حرب أهلية في سوريا، وحينها تصبح المراهنة على سوريا ممزقة حتى لا تستقل عن القرار التركي، مع دخول لاعبين آخرين قد يدعمون الأكراد مثل إسرائيل في المقابل، هذه التحديات مفصلية وفي طريقة التعامل معها ما يحدد مستقبل سوريا السياسي.
المجلة
————————–
صيدنايا: تفاصيل اللحظات الأخيرة لأسوأ السجون في العالم/ عروة خليفة
كيف تمّ اقتحام المسلخ البشري وتحرير المعتقلين؟
09-12-2024
يوم أمس كانت اللحظات الأخيرة لأسوأ سجن في العالم، المعروف باسم المسلخ البشري، سجن صيدنايا الذي أُنشِئ في التسعينيات كي يضمّ سجناء سياسيين وعسكريين، وتَحوَّلَ مع بداية الثورة في سوريا عام 2011 إلى واحد من أسوأ المعتقلات العسكرية في التاريخ.
حصلت الجمهورية.نت على معلومات خاصة حول عملية تحرير السجن، وتفاصيل إطلاق سراح المعتقلين، من خلال التواصل مع رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، ومع المقاتلين المحليين الذين قاموا باقتحام السجن، وحرّروا المعتقلين فيه.
وأفادت هذه المصادر بأنّ جميع المعتقلين الذين كانوا موجودين داخل سجن صيدنايا قد تمَّ تحريرهم، وبأنّ الشائعات حول وجود زنازين لا يمكن الوصول إليها غير صحيحة، مضيفةً أنّ قوات «ردع العدوان» تُسيطر منذ عصر الأمس على السجن بشكل كامل.
وقال رئيس رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا دياب سرّية، في حديث مع الجمهورية.نت ليل أمس، إنّ تقارير صحفية أُعدت في وقت مبكر وعُرِضَت على شاشات التلفزة عصراً، أعطت أيحاءً بوجود معتقلين ما زالوا موجودين حتى اللحظة في السجن، وهو أمرٌ غير صحيح، إذ تمّ الوصول إلى السجناء الموجودين في المنفردات داخل البناء الأحمر وتحريرهم بشكل كامل.
والبناء الأحمر هو البناء المُخصَّص للمعتقلين السياسيين، بينما يضم السجن أيضاً بناءً يدعى البناء الأبيض، يضمّ معتقلين من العسكريين الذين يقضون محكوميات بسبب ارتكابهم جرائمَ أو جُنحاً، وكان كثير منهم قد خرج مسبقاً من السجن عند وصول المقاتلين المحليين إلى سجن صيدنايا لتحرير المعتقلين فيه.
عملية تحرير السجن بدأت مع توجُّه عدد من المقاتلين المحليين، الذين كانوا في فصائل الجيش الحر سابقاً من بلدتي رنكوس وعسال الورد في القلمون، نحو صيدنايا واستباقِ وصول قوات «ردع العدوان» إلى المنطقة، وذلك بحسب أحد المقاتلين الذين شاركوا في العملية وتحدّثت إليه الجمهورية.نت.
أَمَّنت المجموعات المحلية سيارتي بيك آب تحملان رشاشات متوسطة من نوع «دوشكا»، وقام عناصر آخرون بمرافقتهم على خمس دراجات نارية. وبحلول الساعة الثانية بعد منتصف ليل السبت فجر الأحد، استطاع المقاتلون اقتحام نقطة عسكرية تبعد عن سور السجن الخارجي مسافة 500 متر، وسيطروا عليها بعد استسلام مُجنّدين كانوا موجودين فيها.
وبعد اقتحام النقطة جرت اشتباكات لمدة 45 دقيقة مع حامية السجن، لتنتهي باتفاق خروج عناصر النظام من السجن دون التعرّض لهم، بعد أن خاطبهم المقاتلون المحليون وحذروهم من وصول تعزيزات كبيرة، ومن تبعات إصابة أحد من المقاتلين أو المدنيين بأذى جرّاء هذا الاشتباك. وأكد دياب سرّية للجمهورية.نت أنّ الرابطة كانت على تواصل مع المقاتلين المحليين، وأرسلت أحد أعضائها إلى المكان على الفور، وعند دخول المقاتلين المحليين بدأوا بفتح الزنازين الموجودة داخل الطوابق الأساسية، وبعد ساعات من العمل الشاق، بسبب عدم توافر معدّات مناسبة، جرى إخلاء جميع السجناء في الزنازين الأساسية.
كان التواصل بين رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا والأشخاص الموجودين داخل السجن صعباً للغاية بسبب وجود محطة تشويش داخل السجن، جرى تدميرها بعد عدة ساعات من قبل الأهالي من أجل تسهيل التواصل، وقال دياب سرّية للجمهورية: «باعتبارنا معتقلين سابقين في السجن، وكنا لحظة الاستعصاء ونعلم ممراته ومواقع الزنازين فيه بدقة، قمنا بمساعدة الأشخاص داخل السجن، ودَلَلناهم على زنازين انفرادية موجود داخل مطبخ السجن الأحمر»، وبحلول الساعات الأولى من الصباح بدأ العمل على فتح مدخل الزنازين الانفرادية الموجود في مطبخ السجن، وجرى إخراج السجناء من تلك المنفردات بالكامل.
وصل المئات من أهالي المعتقلين إلى السجن بحلول الساعة التاسعة صباحاً، بالإضافة إلى صحفيين من عدّة وسائل إعلامية، ما أدى إلى حالة من الفوضى في السجن بحسب المصادر التي تحدّثت إليها الجمهورية.نت. وخلال ساعتين، كان عدد الأهالي الواصلين إلى السجن يفوق سبعة آلاف شخص، بعضهم جاء من حمص وإدلب وحماة، بالإضافة إلى الواصلين من دمشق وريفها، للاطمئنان على أبنائهم الذين يظنون أنهم معتقلون في السجن، وذلك بحسب سرّية وأحد المقاتلين المحليين الموجودين في المكان.
بحلول ذلك الوقت، كان المعتقلون الموجودون في السجن قد خرجوا بشكل كامل، لكنّ رغبة الأهالي بمعرفة مصير أولادهم جعلتهم يرفضون تقبُّل فكرة أنّ السجن فارغٌ تماماً، خاصة مع انتشار شائعة تفيد بوجود زنازين لا يمكن الوصول إليها. وساهم عدد كبير من الحسابات على وسائل التواصل ومجموعات التواصل عبر تطبيق واتساب بنشر هذه الشائعة مع صور وفيديوهات ومعلومات غير صحيحة، كما روّجت شخصيات عامة تلك المعلومات دون التأكد من صحتها، خاصة تلك المرتبطة بوجود أكواد وشيفرات لزنازين سرّية لم يتم الكشف عنها، مع أنّ كل ذلك غير صحيح على الإطلاق.
وصلت فرق الدفاع المدني مساء أمس وباشرت العمل، وصدر بيان عن الدفاع المدني بأنّ فِرَقه استخدمت كل معدّات الكشف الصوتي وأجهزة استشعار يجري استخدامها عادةً للبحث بين الأنقاض عن ناجين، كما قاموا بتكسير عدد من الجدران والأرضيات، ولم يتم الكشف عن وجود أي زنازين سرية جديدة أو معتقلين ما زالوا داخل السجن.
وقال سرّية للجمهورية.نت إن مبادرات أهلية في بلدات التل ومنين استقبلت المعتقلين المُحرَّرين من السجن، والذين قُدِّرَت أعدادهم بين 2000 و2500 معتقل-ة، وتم فرز المعتقلين بحسب محافظاتهم وتأمين باصات لنقلهم إليها، بينما تَجمَّعَ معتقلي دمشق وريف دمشق في جامع السلام بحي برزة في العاصمة دمشق.
لا يوجد إحصاء دقيق أو مصدر موثوق لأسماء المعتقلين المُحرَّرين من السجن حتى اللحظة، كما أنّ المعلومات التي تفيد بوجود ثلاثين ألف معتقل داخل السجن لحظة تحريره هي مُجرّد شائعات، والإحصاء الوحيد حتى الآن هو ما صَرَّحَ به رئيس رابطة معتقلي صيدنايا في حديث مع تلفزيون سوريا، وهو الإحصاء الناتج عن إجمالي عدد المعتقلين الذين تمّ توثيق دخولهم إلى سجن صيدنايا منذ العام 2011، بما يشمل المعتقلين الذي قُتلوا أو توفوا نتيجة التعذيب وسوء المعاملة والظروف، أو المُفرَج عنهم. ومن المؤكد بأنّ عدد المعتقلين المُحرَّرين من السجن لا يتجاوز في أي من الحالات 2500 معتقل.
حالة الوثائق في السجن سيئة للغاية بحسب سريّة، حيث أفاد بأنها تعرّضت للبعثرة نتيجة بحث الأهالي المحموم عن مصير أبنائهم؛ «لا يمكن لوم الأهالي بالطبع» يقول سرّية، إذ أنّ غياب أي دليل عن مصير عشرات الآلاف من المعتقلين المختفين قسراً في سوريا، يجعل من أي بصيص أمل للعثور عليهم أحياء أو معرفة مصيرهم أمراً بالغ الأهمية.
وأشار سريّة إلى أنّ معتقل سجن صيدنايا لا يجب أن يكون السجن الوحيد الذي يتم التركيز عليه، لأن هناك عدداً هائلاً من المعتقلات في سوريا، ويجب معرفة مصير المعتقلين فيها، كما أنّ البلاد تضم معتقلات سرّية لم يجرِ الكشف عنها حتى اللحظة. وفي هذا السياق علمت الجمهورية.نت خلال حديث مع مصدر مُقرَّب من غرفة إدارة العمليات في مدينة حلب، بأنّ مقاتلي «ردع العدوان» اكتشفوا سجوناً سرّية في الأكاديمية العسكرية في حلب، وتحت فرع الحزب في حي الجميلية في المدينة، تمتد تحت الأرض حتى ساحة سعد الله الجابري، وتشير شهادات إلى انتشار هذا النوع من السجون السرّية في سوريا على نطاق واسع.
كانت نهاية «حزينة ومُتعِبة» لواحد من أسوأ سجون العالم، يقول دياب سرّية المعتقل السياسي السابق في سجن صيدنايا. لم يستطع الآلاف من الأهالي من الوصول إلى معلومات عن أبنائهم، والنظام الذي سقط لا يزال يسبب الألم والفقدان للسوريين.
موقع الجمهورية
———————–
الدور التخريبي لإسرائيل/ عدنان علي
2024.12.10
تمضي عملية نقل السلطة في دمشق بسلاسة كبيرة وسط ارتياح شعبي برحيل النظام البائد الذي عمّ كل المناطق السورية، مع أقل قدر من الأخطاء والتجاوزات التي عادةً ما تحدث في حالات مشابهة.
غير أن ما عكر صفو هذه العملية ونغّص فرحة الشعب السوري بهروب حاكمهم المعتوه، إضافة إلى غموض مصير نحو مئة ألف من المعتقلين في سجون النظام البائد، الذين يُعتقد أنه تمّت تصفيتهم، هو الاعتداءات الإسرائيلية الواسعة التي بدأت في اليوم الأول من سقوط النظام. وقد طالت مئات الأهداف العسكرية ومراكز البحوث في أرجاء سوريا كلها، رافقها احتلال إسرائيل لمناطق في سوريا، وإلغاء اتفاقية الهدنة معها الموقعة عام 1974، وسط صمت مريب من الجميع، وكأن ما يحدث هو من حق إسرائيل.
شملت الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة حتى الآن آلاف المواقع، وجرى خلالها القضاء على كل سلاح الطيران في سوريا، والدفاعات الجوية، ومعظم سلاح البحرية، وأنظمة الصواريخ المتقدمة، ومستودعات الأسلحة، والمنشآت لتصنيع الذخائر، والمصانع والمعاهد البحثية العسكرية، وحتى الدبابات والأسلحة الثقيلة. وقد بررت إسرائيل ذلك بزعم أن هذه الأسلحة قد تشكل خطراً على أمنها في حال وقوعها بأيدي القوى الجديدة التي تسلّمت السلطة في سوريا. ورافق ذلك توغلات إسرائيلية واسعة في الأراضي السورية وصلت إلى منطقة قطنا التي تبعد عن دمشق نحو 20 كلم فقط، إضافة إلى احتلال قمة جبل الشيخ الاستراتيجية.
إسرائيل، التي طالما دعمت نظام بشار الأسد وسمحت لإيران وميليشياتها بمنعه من السقوط طوال السنوات الماضية، تسعى اليوم، وقد فوجئت بسرعة وصول فصائل المعارضة إلى دمشق، لاستغلال انشغال القوى الجديدة بترتيب الأوضاع الأمنية والخدمية للبلاد، وعدم رغبتها في فتح معارك خارجية، لتحطيم ما تبقى من الدولة السورية. يهدف ذلك إلى تصعيب عملية نقل السلطة، ووضع الإدارة الجديدة في سوريا أمام تحديات جديدة، على أمل استفزازها للرد، مما يتيح لإسرائيل تحريض الغرب والولايات المتحدة لتصنيفها في خانة القوى الإسلامية المتطرفة المعادية لإسرائيل، وبالتالي عدم الاعتراف بشرعيتها وحجب أية مساعدات محتملة عنها.
كما تسعى حكومة الاحتلال الإسرائيلي إلى استغلال حالة الفراغ السياسي في سوريا لقضم أراضٍ سورية جديدة تحت ذريعة الحفاظ على أمنها، زاعمةً أن ذلك سيكون إجراءً مؤقتاً، لكن التجارب السابقة تشير إلى أن أية أرض تحتلها إسرائيل لا تنسحب منها بسهولة، بل تجد الذرائع لتبرير احتلالها مستقبلاً.
من الواضح أن إسرائيل تحاول فرض أمر واقع جديد على الحكم المقبل في سوريا، مستغلةً عدم رغبة وقدرة هذا الحكم على فتح معارك خارجية في الوقت الحاضر، نظراً لضخامة المهام الملقاة على عاتقه في الداخل السوري.
إلى ذلك، تحاول إسرائيل العبث بالوضع الداخلي في سوريا من خلال فتح اتصالات مع بعض القوى الكردية في شرق سوريا، وتشجيعهم على عدم التعاون مع الحكم الجديد، بغية إبقاء جذوة الصراع في البلاد متقدة، ولمنع الحكومة الجديدة من وضع يدها على المقدرات النفطية التي تسيطر عليها تلك القوى، والتي تُعدّ ضرورية جداً للبلاد في هذه المرحلة، لتمكينها من سد الاحتياجات الداخلية من كهرباء وغاز، وتوفير مصدر دخل لخزينة الحكومة التي تركها نظام الأسد فارغة.
ولا شك أن الحكومة المتطرفة في إسرائيل ستواصل هذه العمليات التي بدأت تشمل تنفيذ اغتيالات للكوادر العلمية في سوريا، بهدف القضاء على الإمكانات البشرية والعلمية في البلاد، ذلك أن مصلحة إسرائيل تقتضي بقاء سوريا ضعيفة ومشتتة في صراعات داخلية، غارقة في المشكلات الأمنية، وتلهث دائماً لتأمين المتطلبات الأساسية لمواطنيها.
من هنا، من غير المستبعد أن تلجأ إسرائيل إلى تنفيذ اغتيالات وتفجيرات في بعض المناطق، بغية تأليب كل القوى على بعضها البعض، عبر اتهامات متبادلة بالوقوف وراء هذه الأعمال، أو اتهام الحكم الجديد بالتقصير في توفير الحماية والأمن في البلاد.
في هذه المرحلة الحساسة، لا ينبغي ترك الإدارة الجديدة في سوريا من دون مساعدة خارجية، والتي تفتقر إليها حتى الآن، في ظل ترقب مفتعل من جانب المجتمع الدولي لمراقبة سلوك الإدارة الجديدة. وعلى بعض القوى الفاعلة في الشأن السوري عدم انتظار تبلور المواقف الغربية والأميركية، بل التحرك لمساعدة هذه الإدارة التي تشكل بارقة أمل للسوريين بعد عقود من الحقبة الظلامية لحكم آل الأسد.
ولعل في مقدمة الدول المطالبة بالتحرك في هذا الإطار، تركيا التي كان لها دور فاعل في القضية السورية طوال الفترات الماضية، من خلال تقديم المساعدة والمشورة الفنية والاقتصادية والأمنية للحكومة الجديدة، وكذلك قطر من خلال الدعم المالي. كما يجب على الناشطين السوريين في الولايات المتحدة الذين كان لهم دور فاعل في استصدار قوانين وتشريعات أميركية ضد نظام الأسد، أن يعملوا على رفع هذه القوانين، وإقناع صناع القرار في واشنطن بفك سياساتهم في سوريا عن سياسة إسرائيل، لأن الأخيرة من مصلحتها دوام الضعف والتفتت في هذا البلد، بينما يُفترض أن تكون مصلحة الولايات المتحدة في رؤية سوريا مستقرة وقادرة على النهوض من جديد.
تلفزيون سوريا
———————–
سوريا والمرحلة الجديدة/ لمى قنوت
توافقت الدول المؤثرة في القضية السورية، ومن ضمنها تركيا وروسيا وأمريكا وإسرائيل، على إخراج “الحرس الثوري الإيراني” والأذرع الإيرانية في سوريا، أو الحد من وجودها ونفوذها، كعنوان عريض لمعادلة جديدة، مدركين عدم قدرة الأسد على إخراجهم، حاسمين أمرهم في الضغط عليه، بعد مراوغاته ورسائله المزدوجة، التي تارة ما تطمئن الإيراني من جهة، وتضيق عليه من جهة أخرى.
لقد أسهم اختلال التوازنات الإقليمية بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، والضرر الذي أصاب المحور الإيراني في لبنان وسوريا، عبر إضعاف “حزب الله” وضرب إمدادات سلاحه التي تمر عبر سوريا، بالإضافة إلى رفض الأسد كل المحاولات التركية المتكررة المدعومة من حليفه الروسي للحوار معه، في إنضاج تفاهمات دولية للضغط عليه وعلى الإيرانيين عبر عملية عسكرية مضبوطة تقوم بها فصائل معارضة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، خاصة أن الأسد تعنّت في رفض كل الفرص السياسية التي قُدمت له بدءًا من حل سياسي وفق القرار “2254”، مرورًا بلجنة دستورية لا سقف زمني لعملها، والانفتاح العربي عليه الذي لم يثمر بتغيير مواقفه تجاه أي “تسوية سياسية” مهما كانت شكلية وسطحية تمهيدًا لعودة اللاجئين واللاجئات ووقف إغراق الأسواق العربية وصولًا إلى العالمية بـ”الكبتاجون”، بل على العكس تمامًا، بقي متمترسًا ومتصلبًا مواصلًا قيادة سوريا نحو الدمار الشامل على كل الأصعدة.
توقيت انطلاق عملية “رد العدوان” في 27 من تشرين الثاني 2024 كان مفاجئًا لإيران فقط، فالتعبئة والتحضير لدخول حلب كانت تعد لها الفصائل حسب تصريح أحمد الشرع (أبو بكر الجولاني) في خطابه في 28 من أيار 2024، حين قال إنه “لم يبقَ إلا القليل لنصل إلى حلب”، وخاطب يومها الحاضرين قائلًا: “أراكم تجلسون في حلب كما أراكم أمامي الآن”، واصفًا حلب بأنها كانت رافعة للثورة السورية، ولا تزال، وبأن خسارتها كانت نكسة أليمة للثورة.
إن تهاوي خطوط دفاع النظام، والانسحابات العشوائية، وترك معدات الجيش والضباط المصابين منه بعد الانسحاب من حلب، دليل واضحة على تفكك الجيش وتهالك معنويات قواته، بالرغم من مزاعم قيادته على أنها تراجعات تكتيكية مؤقتة، كما ورد في بيان وزارة الدفاع السورية بعد سيطرة فصائل المعارضة على محافظة حماة، والأهم من ذلك أن عددًا لا بأس به من قوات الجيش لا ترغب في الدفاع عن نظام أودى بشعبه، كل شعبه، للتهلكة والاقتتال والإفقار، وتشير أيضًا هذه المعطيات إلى ضعف وهشاشة سلطة الأسد وإذعانه الواسع للنفوذ الإيراني والروسي، والفراغ العسكري الذي تركه “حزب الله” بعد انسحاب عدد من قواته إلى لبنان بعد عملية السابع من أكتوبر2023 ، وانسحاب قيادات إيرانية بعد اتفاقات “خفض التصعيد” في إطار عملية “أستانة”.
لن يحارب داعمو الأسد بدلًا عنه، هذا ما صرح به حليفاه الروسي والإيراني، كتصريح مصدر مقرب من الكرملين لـ”بلومبيرغ” أن موسكو “لا تتوقع أي خطة لإنقاذ الأسد ما دام الجيش السوري يترك مواقعه”، وأن تدخلهم سيكون محدودًا ولديهم أولويات أخرى في هذا التوقيت، وتصريح عباس عراقجي وزير الخارجية الإيراني أنه “لا يمكن التنبؤ بمصير الرئيس السوري بشار الأسد”، كما أن إيران أجلت العديد من قادتها العسكريين في سوريا إلى العراق ولبنان واللاذقية، ونقلت بعض ميليشياتها مثل “لواء فاطميون” الأفغاني إلى دمشق واللاذقية، وفسر المحلل الإيراني مهدي رحمتي هذا الإجلاء بأنه: “جاء نتيجة إدراك إيران أنها لا تستطيع القتال كقوة استشارية وداعمة إذا كان الجيش السوري نفسه لا يريد القتال”.
أما إسرائيل التي تسعى وراء أطماعها التوسعية، فتستبيح المنطقة الحدودية السورية المنزوعة السلاح، عبر توغلات عسكرية، ودورات تدريبة استعدادية لجنودها ومجنداتها، وإنشاء مشروع خط ألفا، الذي يهدف لقطع جغرافي بين الجولان المحتل وباقي الأراضي السورية عن طريق حفر وتجهيز خندق كبير، بالإضافة إلى غاراتها الجوية وقصفها المتكرر، ويعتبر قادتها كالرئيس السابق للاستخبارات العسكرية، تامير هيمان، الذي يقول إن “الأحداث في سوريا تولّد فرصًا أكثر بكثير من المخاطر، وهو أمر من المهم استغلاله”، وهذا ديدن الاحتلال في دعم أنظمة الاستبداد واستغلال هشاشة الدول والانقسامات الداخلية والصراعات وما يطلق عليه بحالات الفوضى المضبوطة (controlled chaos).
حتى الآن، رغم الخطاب الجديد لـ”الجولاني”، وإظهار فصائل المعارضة انضباطًا وقدرة على تجنب الفتن، والاشتباك مع المدنيين، وعدم فرض أيديولوجيتها عليهم بشكل عام، وعلى النساء بتنوعاتهن بشكل خاص، وترك إدارة المدن والمناطق التي سيطرة عليها للمدنيين، فإن تجربتنا على سبيل المثال مع “هيئة تحرير الشام” في مناطق سيطرتها قبل عملية “رد العدوان”، كانت مليئة بالانتهاكات، وعمّ الاستبداد بكل أشكاله فانطلقت مظاهرات شعبية في إدلب تطالب بإسقاط “الجولاني” و”الهيئة”، كما فرضت “الهيئة” قيودًا كبيرة على النساء والفتيات بتنوعاتهن، وحدّت من قدرتهن على الحركة والعمل والناشطية.
أمامنا اليوم، كسوريين وسوريات، تحديات كبيرة في ترجمة توقنا للتحرر من الاستبداد، وفرحتنا الحالية في تبييض السجون وإخراج المعتقلين والمعتقلات، وعودة المهجرين قسرًا إلى مدنهم وبيوتهم، إلى بناء سوريا وطنًا ومواطنة لجميع السوريين، نساء ورجالًا، بكل تنوعاتهم، وأن تكون سوريا موحدة مستقلة في قرارها الوطني ذات سيادة على كامل أراضيها وثرواتها بعيدًا عن هيمنة دول ومشاريع احتلال.
عنب بلدي
————————
عن الذين يعاندون عقارب الساعة/ غزوان قرنفل
لم يكن الاجتياح الكبير لمناطق سيطرة النظام، الذي تم في بضعة أيام لا أكثر، عملًا عسكريًا اعتياديًا من تلك التي اعتادت عليها مساحة الصراع في سوريا طوال 12 عامًا. حقًا لقد كان زلزالًا جيوسياسيًا بدّل قواعد الصراع نفسه، واقتنص أوراق قوة تسمح للسوريين الواقفين على ضفة الثورة بالتفاوض بزخم وقوة أكبر، بعد أن انتزعوا من خصومهم أوراقًا ليس من السهل على هؤلاء ابتلاع خسارتها.
غني عن القول بطبيعة الحال إن هذا الفعل لم يكن ليحصل دون ضوء أخضر تركي، وربما غض طرف روسي، أريد به في المقام الأول كسر شوكة “الأسد” وإجباره على الامتثال لموجبات الرسائل الدبلوماسية التي حضّته عليها روسيا بشأن الاستجابة لرسائل التطبيع التركية، وهو ما يعني أن العملية كان يفترض أن تكون محدودة الزمن والنطاق الجغرافي بما يسمح باستعادة المناطق التي خسرتها الفصائل المعارضة عام 2020 أو بعضها، وربما لم تتوقع روسيا، أو ربما تركيا أيضًا، أن تتطور الأمور باتجاه السيطرة مجددًا على حلب التي استماتت روسيا قبل ثماني سنوات لانتزاعها من الفصائل المعارضة.
حجم الانهيار والضعف والارتباك في صفوف النظام وميليشياته كان صادمًا ومفاجئًا، رغم إدراكه أن المعركة قد تتطور باتجاه حلب نفسها، بدليل التحضيرات والأوامر التي تسرب بعضها بضرورة إخراج ونقل جميع السجلات الحكومية وإفراغ المصارف منها، وهذا يؤشر إلى مدى هشاشة النظام ومؤسساته العسكرية والأمنية التي ما عادت قادرة على تنظيم دفاع حقيقي عن مدينة كبرى كحلب دون أن يكون لديها دعم كبير من حلفائها، وخاصة من الميليشيات الطائفية الشيعية و”الحرس الثوري الإيراني”، الذي ما إن فقدهما بسبب الاستهداف الإسرائيلي لهما وتقليم أظافرهما في سوريا ولبنان، وانشغال روسيا في وحلها الأوكراني، حتى بان العجز فاضحًا على سلطة لا تملك إلا الاستقواء على شعبها واستباحته.
على المستوى النظري والدبلوماسي، لا يمكن افتراض أن هذه العملية أسقطت صيغة “أستانة” بكليتها والاتجاه نحو نهج الحسم العسكري لهذا الصراع، ربما يمكن تأويلها على أنها كسر للمحددات التي أجبرت الفصائل المسلحة المعارضة على الامتثال لها إثر هزيمتها العسكرية عام 2020 وتقلّص مساحات سيطرتها الجغرافية كثيرًا بما لا يجعل لها أي وزن أو قيمة فارقة في معادلات الحل السياسي، خصوصًا مع جنوح أنقرة نحو المصالحة مع النظام وإيجاد تفاهمات معه تتيح لها إعادة اللاجئين وسحب قواتها العسكرية من سوريا دون قلق على أمنها القومي، كما كانت تعتقد، والتي لم يستجب لها النظام، ونشكر الله أنه لم يفعل.
إذًا، هذه الانتصارات ليست فقط تضيف تثقيلًا قويًا لوزن القوى المعارضة، بل أيضًا تمنحها زخمًا وأوراقًا تفاوضية قوية، تجعلها قادرة على قبول أو رفض ما يمكن قبوله وما يتعين رفضه، والمعيار في ذلك دائمًا هي مطالب السوريين بطي صفحة الاستبداد وتفكيك بناه وأدواته السلطوية والانتقال إلى ضفة تحول ديمقراطي حقيقي يعلي من شأن الإنسان وحقوقه ويكرّس مبادئ المواطنة وسيادة القانون.
الحقيقة أن السوريين أمام مرحلة جديدة واستحقاقات كبيرة مرتبطة بالإجابة عن سؤال جوهري ذي شقين، الأول منهما يتعلق بالمقاربة الروسية الصدئة للمسألة السورية التي تبنتها موسكو منذ بدء الاحتجاجات قبل 13 عامًا، عندما حبست نفسها ضمن معادلة أنها “لن تسمح للسنة بحكم سوريا”، وأن نظام الأسد هو البديل عن نظام الأسد! أما الشق الثاني فيتعلق بالنظام نفسه وبقدرته على الاستجابة الجدية لموجبات حل سياسي حقيقي ومستدام في سوريا.
منطق الأشياء يقودنا لإجابة تقول إن الأسد لا يستطيع ولا يرغب بالامتثال لموجبات الحل السياسي، لأنه يدرك أن أي حل يتسم ببعض الموضوعية يعني دقًا للمسامير الأخيرة في نعشه، وأن روسيا نفسها لم تعد على الأغلب قادرة على الخروج من مقاربتها الغبية والقاصرة للحل في سوريا، بعد أن أعملت قتلًا في السوريين واختبرت أسلحتها على حيواتهم وأحيائهم ومدنهم، إلا إذا حصلت على ضمانات تحميها من المساءلة عن تلك الجرائم، وأن يكون لها دور وكلمة في تشكيل بنية السلطة البديلة إن حصل توافق دولي معها على ذلك.
خارج هذا السياق أعتقد أن الصراع سيبقى مفتوحًا، على الأقل في الآماد المتوسطة، على مختلف الاحتمالات، رغم أن جميع الأطراف الإقليمية والدولية يفترض أنها قد تعزز الإدراك لديها الآن أن السوريين ليسوا في وارد التخلي عن حقوقهم وأحلامهم بالعيش كبشر.
المساعي الدبلوماسية تنصب الآن لبعث الروح في صيغة “أستانة” عبر الصدمات الكهربائية بهدف معاندة عقارب الساعة، وغالبًا سيتم الاشتغال على تفاهمات بين الفاعلين ليست معظمها في مصلحة السوريين، فحذارِ من أولئك الذين يؤخذون مخفورين ليكونوا شهود زور على موت أحلام السوريين.
عنب بلدي
———————-
محمد البشير أوّل وجوه المرحلة الانتقالية السورية… ومساران للعملية السياسية الجديدة/ جاد ح. فياض
ديسمبر 10, 2024
بعد سقوط نظام بشّار الأسد، تتجه الأنظار في سوريا والمجتمع الدولي نحو النظام الجديد وقادته، وشكل الحكم وآلياته. مساران محتملان مرتقبان، المسار الأول يقوم على عملية انتقالية ومن ثم استحقاقات انتخابية جديدة لتشكيل السلطة، والمسار الثاني الفوضى وتشكيل إدارات حكم ذاتي مدنية وعسكرية في الأقاليم المختلفة، مع احتمال الانزلاق نحو حرب أهلية جديدة.
المؤشرات الأولية تشي بأن العملية الانتقالية السياسية تأخذ مسارها، إذ كلّف قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع (المعروف بأبو محمد الجولاني) ورئيس وزراء حكومة نظام الأسد محمد الجلالي رئيسَ حكومة الإنقاذ السورية التي كانت تدير إدلب محمد البشير، بتشكيل حكومة سورية جديدة لإدارة المرحلة الانتقالية، في خطوة هدفها تثبيت المسار السياسي التنظيمي والابتعاد عن مسارات الفوضى.
يُعرف عن البشير قربه من الشرع، ما يعني أن الأول سيكون انعكاساً سياسياً للثاني، خصوصاً أنّه مقبل من تجربة سياسية في إدلب، لكن الأنظار تتجه نحو العملية الانتقالية التي يتحدّث عنها مدير المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية رضوان زيادة قائلاً إن “السنوات الـ13 السابقة كانت فرصة للمعارضة السورية للتفكير بالمرحلة الانتقالية وسيناريواتها”.
وانطلاقاً من خبرته بدراسة العمليات الانتقالية السياسية، يُبدي زيادة في حديث لـ”النهار” تفاؤله إزاء المؤشرات الأولية المرصودة في سوريا، مشيراً إلى “اتجاه نحو عملية انتقالية ديموقراطية تتبعها انتخابات للمجلسين الدستوري والبرلماني لإقرار الدستور والقوانين وانتخاب رئيس للجمهورية، وهي عملية تنتج منها دولة مدنية وديموقراطية”.
السياسي والإعلامي السوري الأميركي أيمن عبد النور يتحدّث عن خطّين موازيين يتم العمل عليهما، “الأول داخلي يقوم على تنظيم القوى العسكرية نفسها وتشكيل جسم أو هيئة سياسية”، أي كما حصل مع تكليف البشير، لكنّه يُشدّد لـ”النهار” على أهمية إصدار نص قانوني من خلال قانون طوارئ أو إصدار إعلان دستوري موَقت أو تشكيل مجلس ثوري من أجل تحصيل اعتراف سياسي وقانوني داخلي ودولي.
أما الخط الثاني وفق عبد النور، “فهو مسار يعمل عليه المجتمع الدولي يقوم على القرار الأممي 2254 الذي يتحدّث عن انتقال سياسي، مع استبدال ممثلي الأسد بممثلي كتل من نظامه من أجل ضمان حقوق أكثر للأقليات، وضمان دور للدول الفاعلة في الملف السوري والأمم المتحدة، ومن ثم تشكيل لجنة خبراء من مختلف القطاعات تقدم الخبرات البيروقراطية والفنية والاختصاصية غير المتوافرة الآن للقيادة السياسية”.
في المحصّلة، فإن سوريا أمام استحقاق قد يكون الأهم بتاريخها السياسي الحديث، و”فرصة ذهبية” للانتقال نحو نظام ديموقراطي ذي آليات حكم متطوّرة. وإذ تشي المؤشرات الأولية بأن فصائل إدارة العمليات العسكرية تسعى إلى عملية انتقالية سلمية وديموقراطية تبدّد خلالها المخاوف من حكم ديني متطرّف، فإن المرحلة المقبلة ستكون بمثابة اختبار لهذه المشهدية.
النهار العربي
—————————
نداء الدار البيضاء من أجل الديمقراطيّة
و حقوق الإنسان في العالم العربي
الإخوة و الأخوات الأعزّاء
السادة و السيّدات الأفاضل
بمناسبة إنتصار الثورة السوريّة بعد 14 عام من مقاومة نظام حزب البعث و المجرم السفّاح بشّار الأسد، نعيد نشر نداء الدار البيضاء للديمقراطيّة و حقوق الإنسان، و الذي صدر يوم 10 نوفمبر 2010. أي شهرين فقط قبل أندلاع ثورات الربيع العربي في تونس و مصر و ليبيا و اليمن و سوريا، و الذي أمضى عليه أكثر من ألفي مفكّر و ناشط حقوقي و سياسي من مختلف الإتّجاهات الفكريّة و السياسيّة من مختلف الدول العربيّة، يسعدنا أن نرسل لكم مرّة أخرى نصّ النداء، راجين أن يكون محفّزا لكم على مواصلة النضال من أجل الحقوق و الحرّيات و بناء الدولة الديمقراطيّة في دول العالم العربي المنكوب بالفساد و الإستبداد و الظلم و التطرّف و الإرهاب، مع التذكير أنّ هذه القيم و المبادئ هي وحدها الكفيلة على تحقيق التطوّر و النموّ و الحرّية و الكرامة و الإستقرار الحقيقي الذي تبحث كلّ الشعوب العربيّة بدون إستثناء
مع خالص الشكر و المودّة و التقدير لما تقومون به من جهد لبناء مستقبل أفضل لشعوبنا و أمّتنا
و السلام
رضوان المصمودي
رئيس مركز دراسة الإسلام و الديمقراطيّة
نداء الدار البيضاء
من أجل الديمقراطيّة و حقوق الإنسان
نحن الموقعين على هذا النداء من سياسيين ومثقفين ونشطاء بالمجتمع المدني، إيمانا منا بأن إنجاز الديمقراطية وتجسيد حقوق الإنسان في العالم العربي يشكلان ضرورة قصوى، ويتطلبان انخراطا أوسع من مختلف المواطنين والقوى السياسية والاجتماعية، وانطلاقا من معاينة أن الوضع العربي الراهن يتصف بتراجع كبير في مسار الإصلاح السياسي، بعد أن برزت بعض المؤشرات الإيجابية المحدودة في مطلع الألفية الثالثة، وذلك بسبب عديد العوائق الذاتية والموضوعية ذات الطابع الهيكلي، قررنا التوجه نحو جميع الأطراف المعنية بقضية الديمقراطية من حكومات ومؤسسات وتنظيمات سياسية ونقابية وهيئات مدنية ووسائل إعلام، وذلك اعتقادا منا بأن تحقيق التغيير الفعلي والجاد مهمة جميع الأطراف.
نؤكد بأنّ مواجهة مختلف العوائق التي لا تزال تحول دون تحقيق التداول السلمي على السلطة، تتطلب ما يلي :
ـ أولا : الإسراع بالقيام بإصلاحات سياسية جادة وعميقة تعيد الاعتبار لدولة القانون والمؤسسات القائمة على الفصل بين السلطات، وتحقيق سيادة الشعب، واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية، وتجعل من صندوق الاقتراع الوسيلة الشرعية الوحيدة لتحقيق التداول السلمي على السلطة، وذلك بضمان شفافية الانتخابات، والتسليم بنتائجها. وتعزيز جهود المراقبة المستقلة وفق المعايير الدولية.
ـ ثانيا : اعتبار استقلالية السلطة القضائية أولوية قصوى لمجمل مطالب قوى التغيير الديمقراطي، باعتبارها شرطا أساسيا لحماية الحريات وحقوق الإنسان، وضمان قيام دولة القانون والمؤسسات.
ـ ثالثا : إطلاق سراح سجناء الرأي والسجناء السياسيين الذين يعدون بالآلاف بمختلف السجون العربية، ووضع حد للمحاكمات السياسية والتنكيل بالمعارضين، ووضع حد لظاهرتي الاختطاف والتعذيب.
ـ رابعا : العمل على تمكين الأحزاب السياسية والنقابات من التنظم و حق ممارسة نشاطها بدون عوائق قانونية أو إدارية، واستعمال وسائل الإعلام كافة، والاستفادة من التمويل العمومي، والتوقف عن تدخل أجهزة الدولة في شؤون الأحزاب.
ـ خامسا : إقرار حق منظمات المجتمع المدني في أداء دورها، باعتبارها قوة اقتراحية وتدافعية، بحرية وفعالية، واحترام استقلاليتها وخصوصيّاتها، وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية، وتوفير الدعم المالي لها، والدخول معها في شراكة من أجل تحقيق التنمية البشرية المستدامة، وتمكين النساء والشباب من المشاركة الفعلية في عملية التنمية.
ـ سادسا : إطلاق حرية التعبير، وتمكين وسائل الإعلام والصحافيين من الوصول إلى المعلومات ومصادر الخبر، واحترام استقلالية نقاباتهم، وتمكينهم من نشر المعلومات والآراء بعيدا عن أجواء الرقابة أو الضغوط الإدارية والقضائية ، وإلغاء عقوبة الحبس في التهم الموجهة للصحفيين.
ـ سابعا : وضع آليات لضمان حياد أجهزة الدولة، وجعلها في خدمة المواطنين بعيدا عن مختلف أشكال الانحياز السياسي، والتدخّل في شؤون الأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني.
ـ ثامنا : تعبئة مختلف القوى والطاقات والجهود من أجل الالتزام بالحكامة والنزاهة ومحاربة الفساد باعتباره ظاهرة أخلاقية واجتماعية واقتصادية، خاصة وأنه قد تحول بمختلف الدول العربية من مجرد فساد إداري إلى منظومة لإدارة الفساد مما يقوض جهود التنمية ويستنزف الثروات الوطنية المادية والبشرية، ويهدد السلم الاجتماعي.
ـ تاسعا : دعوة مؤسسات القطاع الخاص إلى الوعي بأهمية مساهمته في الدفع نحو الإصلاح السياسي ورفع سقف الحريات، نظرا للارتباط الشديد بين التنمية والديمقراطية، وضمان الشفافية والمنافسة الحرة والنزيهة. وأن يتحمل القطاع الخاص مسؤولياته الاجتماعية والمجتمعية لتحقيق العدالة الاجتماعية.
ـ عاشرا : العمل على تحقيق المصالحات الوطنية من أجل تجنب المخاطر المهددة لوحدة الأوطان والمغذية للصراعات الطائفية والدينية والمذهبية والسياسية، والمهددة لاستقرار الدول والمجتمعات العربية.
ـ إحدى عشر : مناشدة القوى الديمقراطية في العالم للضغط على حكوماتها من أجل الكف عن مساندة الأنظمة غير الديمقراطية في العالم العربي، وعدم اعتماد ازدواجية المعايير.
ـ إثنا عشر : أخيرا التأكيد على ترابط الإصلاح السياسي بتجديد الفكر الديني، وهو ما يستوجب دعم الاجتهاد وتعميق ممارسته، وتوسيع نطاقه في ظل مناخ من الحرية الكاملة، وفي ظل أنظمة حكم ديمقراطية. كما نثمن الحوارات التي انطلقت منذ سنوات بين الإسلاميين والعلمانيين على أصعدة محلية وإقليمية، ونؤكد أهمية الاستمرار في هذا التوجه نظرا لصبغته الاستراتيجية، والعمل على تعميقه من أجل توفير الأرضية الصلبة لحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان من أي انتكاسة لأسباب سياسية وأيديولوجية.
الجزائر
بوجمعة غشير شبكة الديمقراطيّين العرب – الجزائر
عبد المجيد مناصرة رئيس المنتدى العالمي للبرلمانيين الإسلاميين – الجزائر
مصطفى بوشاشي الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الأنسان
زين الدين طبال حركة مجتمع السلم – الجزائر
وفاء مرزوق أستاذة جامعية وصحفية
عروس الزبير استاذ جامعي
ذويبي محمد برلماني سابق – حركة النهضة – الجزائر
جلال / عقاب يحيى كاتب وروائي
انور نصر الدين هدام حركة الحرية و العدالة الاجتماعية ـ الجزائر
التهامي مجوري كاتب صحفي
ا.د. عبد الكاظم العبودي كاتب واستاذ اكاديمي باحث
Mrs. Safia Fahassi human rights activist, algerian committee of families of missing
Moussi Baya Aalila ligue algérienne pour la défense des droits de l’homme
Mohammed Bouddou UNIVERSITAIRE MEMBRE DE LA LIGUE ALGERIENNE DES DROITS DE L’HOMME
Aldjia Aiche journaliste
البحرين
عبدالنبي العكري الحمعيه البحرينيه لحقوق ألنسان
جاسم بو جاسم منظمة العفو الدولية – البحرين
علي سرحان المكتب السياسي – جمعية العمل الوطني الديموقراطي
محمد يوسف الصميخ الجمعية البحرينية لحقوق الانسان
عبدالرضا حسن الجمعية البحرينية لحقوق الانسان
نبيل رجب مركز البحرين لحقوق الانسان
ندى علي فخرو محامية
ندى الزهيري سيدة اعمال
محمد فضل ناشط حقوقي
محمد عبدالله الأحمدي باحث اقتصادي
عيسى الغايب ناشط حقوقي –
عبداللة بوحسن فني أشعة
شوقي العلوي ناشط سياسي
شرف الموسوي ناشط في حقوق الانسان و مكافحة الفساد
زينب إبراهيم الدرازي كاتبة وناشطة سياسية و حقوقية
خليل بوهزاع جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد)- البحرين
جواد العصفور مستقل
Saba Al Asfoor BWA
Najat Ahmed Jassim employee
Mohammed Al Sameikh
Dr Ali Mohamed Fakhro Independent
الكندا
ملهم الدروبي رئيس شركة
محمد ولد محمد احمد قانوني
محمد زهير الخطيب عضو المجلس الوطني لاعلان دمشق
محمد حسام فاضل University of Toronto Faculty of Law
د. محمد القاهري اقتصادي وباحث
جان عبدالله المعارضة السورية
Hasan Mahmud Muslim Canadian Congress
Professor Ibrahim Hayani Ryerson University, Toronto, Ontario, Canada
Nabil Mustafa none
Ibrahim SBALLIL Human Rights Activist
Hasan Al-Attar Scientist
Chraibi M. Hassan None
مصر
عماد الدين شاهين شبكة الديمقراطيّين العرب – أستاذ جامعي – مصر
سعد الدين إبراهيم مركز إبن خلدون للدراسات الديمقراطيّة – مصر
جورج إسحق المنسق الأسبق لحركة كفاية
حسام الدين علي احمد المعهد المصري الديمقراطي
د / كمال مغيث باحث ومدير الجمعية المصرية للتربية المدنية وحقوق الانسان
عاطف السعداوي مدير تحرير مجلة الديمقراطية بالأهرام، ومدير المنتدى المصري للشباب والتنمية(تحت التأسيس)
قطب حسانين قطب سكرتير عام اتحاد شباب حزب الغد الليبرالى
مجدي حلمي نائب رئيس تحرير جريدة الوفد – مصر
نادر أيوب منتدي التنمية وحقوق الأنسان
منى محمد عيد رئيس مجلس ادارة الجمعية المصرية للتربية المدنية
منى طلبة أستاذ جامعي ، جامعة عين شمس
مصطفي الحسن طه مركز هشام مبارك للقانون
مصطفى محمد الحسيني شحاتة كاتب سياسي
مصطفى محمد الحسيني كاتب سياسي
محمود الفرعوني وكيل مؤسسي الحزب المصري الليبرالي )تحت التأسيس(
محمد مبارك منشط ببرنامج التعليم المدنى وبرنامج نشر ثقافة السلام
محمد علي المركز التكنولوجي لحقوق الانسان – شبكة المنظمات الشابة
محمد طلبة ناشط حقوقي
محمد جمال حشمت استاذ جامعى ونائب بالبرلمان المصرى السابق
محمد الشيوخ كاتب وباحث سعودي
محمد السعيد مشتهري مركز دراسات وبحوث القرآن الكريم
محمد احمد محمود ابراهيم باحث
فتحية محمد ابراهيم ابوزيد عضو الهيئة العليا لحزب الغد ايمن نور
فاطمة صابر مرسي مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية
على سعيد احمد على مساعد مدير تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون
علاء جاويش الحركة الشعبية للتغيير
عبدالرحمن عياش الاخوان المسلمين
عادل غزالي أحمد خبير تنمية وناشط سياسي
صابر احمد نايل المركز العربي للتنمية وحقوق الانسان
شيماء أبو الحاج كنانة للتنمية
شريف أيمن شباب الإخوان المسلمين
سيد ابوالعلا اتحاد المدافعين عن حقوق الانسان العرب
سندس عاصم ناشرة
سعد عبد المجيد إعلامي
زين العابدين فؤاد شاعر
رجب سعد طه باحث ومدير تحرير مجلة )رواق عربي( المتخصصة في الديمقراطية وحقوق الإنسان – مركز القاهرة لدراسات حقوق
د.م/ محمد منير مجاهد حركة مصريون ضد التمييز الديني
حمدي عبد العزيز صحفي وباحث
تامر مبروك سليمان http://www.elhaqeqa.com/
السعيد العبادى صحافى مصرى
الدكتور ياسر أبوشبانه أستاذ بجامعة الأزهر
إسماعيل الإسكندراني باحث وصحفي ومدون وناشط حقوقي
أسامه عبد الحكيم بيومي مركز حقك للتنمية الديمقراطية ودعم حقوق الانسان
أحمد محمد أبو العلا مهندس معمارى
أحمد الاشر منسق حركة كفاية
Islam L. Shalaby International Human Rights Law Consultant
yousra saad mwaten association for development & human rights
wael mohamed farrag facebook
tarek amin almasry alyoum newspaper
solyman hassan solyman
Rushdi Said Retired Professor
Mona Tollba Ain Shams University
Mohammed M. Fawzy Moharrum Ibn Khaldoun Center for Developmet Studies (I.C.D.S.)
Mohammed Elsayed Hamasna web site
Mahmoud Elphraouni Founder represetitive of Liberal Egyptian party (under construction)
magdi youssef, prof.dr University Professor, Cario University (emeritus)
Ibrahim Hussein None
Ibrahim Elhadary مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية
Hany Al-Sawy own personal affiliation
ghada said gerges horyya for studies and human rights
gaber abdou atta pharmacist
Fatma Saber Morsy مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية
Dalia Ziada American Islamic Congress
Amal Sabet Zachariassen مركز إبن خلدون للدراسات الديمقراطيّة – مصر
Ahmed Salah human rights activist
Afaf Marie The Egyptian Association for Community Participation Enhancement
Aboualnasr Aboualmagd Chairman of the Federation of Lawyers Liberals in Egypt
فرنسا
محمد بن نصر أستاذ جامعي
عمر المرابط منسق حزب العدالة والتنمية في أوروبا
علاء السيلاوي فرنسا- طالب دكتوراة قانون
عبد السلام بو شداخ Président de DLMM
Sausen Mustafova philosophy teacher
meriem abouri associative, domaine d handicapé
JMAL Neji Directeur adjoint d’un groupe scolaire
Jallane Jalal Abdelhak JIL EL GHIWANE
Jallane Jalal Abdelhak Artiste
Habib Trabelsi Journaliste – www.saudiwave.com
Farhad Khosrokhavar Professor at Ecole des Hautes Etudes en Sciences Sociales, Paris
Khaled Ben M’barek Réfugié tunisien
Ali Bouraoui علي بوراوي Journaliste صحفي
ألمانيا
محسن الجندوبي ناشط حقوقي
د. فادي المسالمه ناشط بالمجتمع المدني
د. عمار الفتيتي أكاديمي و مدير موقع الجزيرة24.نت
الدكتور لطيف الوكيل يصدر الان عني كتاب مبادئ الديمقراطية الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين
إبراهيم مخلي مهندس إعلاميات و مدير نشر موقع مرايا بريس
أحمدسليمان صحافي ، رئيس منظمة ائتلاف السلم والحرية
Niklas Anzinger Student
Nabil Bushnaq Ibn Rushd Fund for Freedom of Thought
Hikmat Bushnaq-Josting Engineer, Berlin, Germany/Nablus Palestine
Dr. Saleh University Erlangen
العراق
يونس هاشم البياتي أتحاد الصحفيين العراقيين
صهيب جمال البرزنجي شبكة الديمقراطيّين في العالم العربي – العراق
ياسر ضياء سعيد مركز العدالة للحقوقيين
د.أسماء عدنان الدليمي عضو مجلس النواب العراقي السابق
ياس العرداوي منظمة بنت الرافدين
وصف عبدالله علي رئيسة منظمة التنمية المستدامة لقدرات المراة
واعي كاظم المنصوري شبكة فعل المدنية العراقية
هدى صابر زنكنة ناشطة في مجال حقوق الانسان
هاشم الزيباري ناشط في مجال حقوق الانسان واستاذ جامعي
نوري علي صحيفة الأخبار الإلكترونية
نوال الكرعاوي مركز حقوق المرأة في النجف الأشرف
نقاء جواد العبادي امين عام رابطة المراة المتضررة في العراق
نداء الكناني اعلامية ومحررة في مؤسسة الحياة الثقافية
نجم العتابي الجمعية الثقافية لشباب العراق
نبأ سليم حميد البراك أكاديمية، ناشطة في تعزيز حقوق النساء وبناء السلام ورئيسة منتدى الأفق الجديد للمرأة
نبأ سليم حميد البراك الرئيس التنفيذي منتدى الأفق الجديد للمرأة
ناههدة عبد المجيد الصراف ناهدة
ميسون الشمري حزب تجديد
ميسون البدري منظمة سلام الرافدين
منى الهلالي شاعرة/ أعلامية/ رئيس منظمة أور لثقافة المرأة والطفل
منتصر الامارة رئيس اتحا البرلمانيين العراقيين وعضو الجمعية الوطنية سابق
مقداد جبار الدفاعي رابطة خريجي الجامعات والمعاهد في العراق
مصطفى قاسم حسين البلداوي نائب رهيس هيئة الشباب والطلبة
محمد حميد فارس كاتب وصحفي
محمد حسين العبوسي منظمة زهرة الرافدين الثقافية
محمد بهلول الياسري منظمة المستقبل الشبابية في المثنى – العراق
محمد الجيزاني مركز عراق الامل للتنمية والتطوير الاقتصادي
محمد الاوسي مستقل
مجيد شليع الزبيدي منظمة أبناء النازحين في ميسان
ماجد الخياط مدير المركز العراقي للدراسات والبحوث الاعلامية
مؤيد عبيد حسن محامي – مدير مركز الاستشارات القانونية وحقوق الانسا – هيئة الاغاثة الدولية في العراق /كركوك
مؤسسة المسلة لحقوق الانسان في العراق – الانبار مؤسسة المسلة لحقوق الانسان
لبيب نجل الشيخ فاتح كاشف الغطاء طالب في كلية الحقوق الجامعة الاسلامية في لبنان
كريم الربيعي ناشط مدني ومحرر نشرة سنابل الالكترونية -العراق
قيدار حسن جمعة جمعية ينابيع الخير لرعاية الارامل والايتام – العراق
قاهره علي العمار مؤسسه فتيات السلام للتنميه والاغاثه
قاسم نوري مدهلي مدير المركز العراقي لنشطاء حقوق الانسان – العراق -البصرة
فيان الشيخ علي رئيسة نظمة تموز للتنمية الاجتماعية / العراق
فلاح الياسري المركز المدني للدراسات والاصلاح القانوني
فلاح الفضلي إعلامي
فلاح الزرفي جمعية مراقبة حقوق الانسان العراقية
فراس سالم ياسر رئيس منظمة شباب الجنوب
فالح كاظم زاير رئيس جمعية المهندسين العراقية
فاتن عبدالواحد الحلفي المركز الثقافي النسوي لجمعية الرحمه الانسانيه
فؤاد فليح حسن المعهد العراقي
غازي الجبوري رئيس تحرير جريدة زهرة الصحافة
عمار عدنان الصكبان مركز الارشاد لحقوق الانسان
علاء كاطع الفريجي منظمة النور للتنمية وحقوق الطفل
علاء عبد السادة عبيد الجبوري صحفي عراقي
علاء شاكر العبيدي الامين العام لمنظمة حرية الرأي الاعلامية في العراق
علاء حسون مهدي السعدي مؤسسة القدوة للتنمية وحقوق الانسان
علاء الميالي رئيس منظمة العطاء الانسانية للانماء المجتمعي
عطا محمد أحمد منظمة التمية المدنية – اقليم كردستان العراق
عزيز الجنابي المركز العربي الاوربي لفظ المنازعات – العراق
عدنان بهية معهد أكد الثقافي
عبدالعزيز يونس الجربا رئيس جمعية التحرير النموذجية
عبد الكريم حبيب الهاشمي مراسل صحفي
عباس كاظم نقابه ذوي المهن الهندسيه الفنيه
————————
=======================
فرار الديكتاتور، سورية حرة إلى الأبد
تحديث 08 كانون الأول 2024
————————-
سقوط الأسد… سوريا بانتظار اليوم التالي/ منير الربيع
الأحد 2024/12/08
بوتيرة متسارعة ولم تكن متوقعة، سقط النظام السوري. غادر بشار الأسد قصره الرئاسي. لتفتح مرحلة جديدة من تاريخ سوريا، فيها الكثير من التحديات وسط مباحثات حول مرحلة ما بعد سقوطه. بخلاف التوقعات بطول أمد المعركة ومع الانسحابات التي كان يجريها الجيش السوري من مراكز المحافظات والمدن الكبرى وسط غياب واضح لإرادة القتال، قدّمت قوى المعارضة مواقف تحرص فيها على وحدة سوريا، وأن سوريا لكل السوريين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم.
كانت معركة حمص هي المفصل الأساسي والتحول الإستراتيجي، فبعدما انسحبت منها قوات الجيش السوري وسيطرت عليها المعارضة كما جرى في المحافظات السابقة، انتقل الاهتمام الأساسي إلى دمشق وريفها والتي كانت تشهد تحركات دفعت الأسد إلى مغادرة البلاد. بعض المؤشرات التي سبقت لحظة السقوط، تفيد بصراعات كثيرة وقعت داخل بنية النظام، وبين دمشق وحلفائها، وسط اتهامات جرى توجيهها إلى كل الحلفاء ولا سيما روسيا وإيران بالتخلي عن النظام والسماح بسقوطه، أما الحلفاء فاتهموا الجيش السوري بأنه لا يريد القتال ويريد انتظار تدخل قوى أخرى كحزب الله والعراقيين. كانت حمص معركة ذات بعد استراتيجي، ولم يكن الإيرانيون وحزب الله يريدون التسليم بسقوط حمص، ولذلك تم إرسال قوات من الحزب إلى تلك المنطقة نظراً لرمزيتها الاستراتيجية ولقربها من الحدود اللبنانية، وباعتبارها المرتكز الأساسي لسوريا المفيدة ولخط الإمداد.
لم تنجح إيران وحزب الله في صدّ هجوم قوى المعارضة في حمص، لفرض موازين قوى للدخول في آلية تفاوض، والتي اختصرها وزير خارجية إيران بثلاثة احتمالات، إما حرب أهلية طويلة، وإما تفاوض يقود إلى تسوية، وإما سيطرة كاملة لقوى المعارضة. في الاحتمالات الثلاثة هناك تسليم إيراني بانعدام القدرة على السيطرة الكاملة على سوريا المفيدة.
بإصرار النظام وإيران على عدم تقديم أي تنازلات جدية، كانت الحرب ستتجدد بقوة، ما سيجعل سوريا مفتوحة على احتمالات سلبية وسودواية، خصوصاً أنه سيتم تكريس “تقسيم” مناطق النفوذ، لا سيما في ظل توسع “الاكراد” في الشمال والشرق، وسط مساعي الإيرانيين للاحتفاظ بنقاط أساسية في دمشق وحمص وامتداداً نحو الساحل، على أن تكون قوى المعارضة مسيطرة على حماه، إدلب وحلب، فيما الجنوب السوري سيكون ذات تأثير أردني أو إسرائيلي، بالإضافة إلى حالة السويداء. هذا النموذج يذكر بنموذج الجنرال غورو مع دخول الانتداب الفرنسي إلى سوريا، وهو ما رفضه السوريون يومها، وهناك تأكيدات على رفضه حالياً بالاستناد إلى مواقف واضحة تطلقها قوى المعارضة. وهو ما يمكن البناء عليه بعد مغادرة الأسد.
لا يمكن إغفال المخاوف مما قد يعمل على حياكته الإسرائيليون في الاستثمار بكل هذه التناقضات السورية، لتغذية منطق الإنقسام والتقسيم. وتجدر العودة إلى كلام وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الذي تحدث قبل فترة عن تعزيز “تحالفات الأقليات” وتعزيز علاقة إسرائيل مع الأكراد والدروز، وهو مشروع إسرائيلي قديم جديد يهدف إلى تفتيت المنطقة وخلق دويلات طائفية ومذهبية، وهو ما يستوجب التعاطي معه بمسؤولية ووعي.
وفي هذا السياق فإن النظام يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية بالإضافة إلى حلفائه وخصوصاً إيران، كي لا تتحول سوريا إلى ساحة صراع لتصفية كل القوى المقاتلة على أراضيها وما سيتأسس عنه من فرز تقسيمي. حزب الله أيضاً أمامه تحدّ أساسي وهو الذي خرج لتوه من حرب قاسية جداً مع إسرائيل، وتفيد التقارير الإسرائيلية بأن جزءاً كبيراً من حالة انكشافه أمنياً وعسكرياً كان تدخله في سوريا، ولا بد من الالتفات إلى أن دخول الحزب إلى ساحة القتال السورية ستحقق لإسرائيل أهدافاً كثيرة، أهمها الاستمرار في ضرب سوريا وإضعافها، وإنهاك الحزب وخسارته في حرب استنزاف جديدة لغالبية مقدراته.
على هامش هذه النقاشات ووقع المعارك العسكرية، هناك نقاش من نوع آخر يجري على مستوى دولي وإقليمي، يشير إلى البحث في مرحلة ما بعد الأسد، أو اليوم التالي في سوريا، ما تقدّمه المعارضة ينذر بإيجابية حول بقاء سوريا موحدة، وسط بحث في تشكيل هيئة حكم انتقالية، أو إنشاء مجلس عسكري يضم جهات مختلفة، يتسلم السلطة كمرحلة انتقالية بانتظار ترتيب الأوضاع السياسية وتنظيم إنتخابات لتشكيل سلطة مدنية وكتابة دستور جديد. هذا أيضاً سيكون أمامه الكثير من التحديات، بما تحمله من انعكاسات وتداعيات على الواقع السوري وعلى دول الجوار.
المدن
—————————
ليست سوريا الأسد/ بشير البكر
الأحد 2024/12/08
“ليست سوريا الأسد، إنها سوريا العظيمة”. هذه الجملة الخالدة التي قالتها الفنانة السورية الراحلة مي سكاف، باتت أمراً واقعاً صباح الثامن من الشهر الحالي. لقد عاد اليلد إلى أهله، وفر الطاغية بشار الأسد أمام الموجة الثانية للثورة الشعبية، التي بدأت من استعادة حلب في السابع والعشرين من الشهر الماضي من سيطرة قوات النظام والميليشيات الطائفية الإيرانية.
هرب سراً، كما يليق بمن ارتكب جريمة، وانتهى بذلك عهد آل الأسد الذي قام ل 55 عاما على الدم، وأول خطوة قام بها السوريون الذين نزلوا للشوارع هي ازالة تماثيله هو والده، إنهم يريدون مسح آثار الخوف والرعب والجريمة، وإيصال رسالة بأن سوريا لم تعد مزرعة آل الأسد، التي استولوا عليها عام 1970، وسجلوها ملكية خاصة باسمهم، الأب أعد ابنه باسل ليخلفه، لكنه قُتل في حادث سير عام 1993، ومن ثم انتقل الى ابنه الثاني بشار، رغم أنه يبدو عليه غير مؤهل لقيادة اليلاد، وحكم بشار سوريا كصاحب مزرعة، هو وزوجته اسماء، وصارا يحضران ابنهما حافظ كي يتولى المسؤولية بعد والده. كانت العائلة واثقة من أنها باقية إلى الأبد، ولن يزحزها احد، من دون أن تتعلم من التاريخ، ويخامرها أي شك بأن السوريين يقرأون في كتاب الحرية.
دفع كل سوري ثمن الحرية، ليس هناك بيت لم يعرف ابناؤه السجون والتعذيب أو المنافي أو القتل على يد النظام، ليس هناك أسرة لم تعرف الإذلال والقهر وسلب الحقوق، ليس هناك معارضاً أو اكاديمياً أو كاتباً أو صحافياً أو رجل أعمال وصاحب مهنة، لم يتعرض للقمع ومصادرة الحرية، ليس هناك محافظة لم تحولها العائلة الأسدية الى استثمار شخصي وتنهبها وتمنعها من التطور. ليس هناك مهنة لم تخضع لقوانين الطوارئ بما في ذلك الحلاقة وتنظيم الافراح.
لم نكن نظن بأن الحرية قريبة إلى هذا الحد. قمعنا نظام عائلة الأسد حتى صرنا لا نصدق أحلامنا. لقد تابعنا العمليات العسكرية طيلة عشرة أيام، بدءا من حلب، ورغم تهاوي النظام، كانت القلوب تخفق توجساً وقلقاً، كلما أرادت أن تفرح حتى النهاية، تجد ما يشدها نحو الوراء. إنها النكسات واحباطات التجارب السابقة، التي جعلت في داخل كل منا رقيباً على حالة الفرح. صوتنا الخفي يقول لنا، لا تفرح كثيرا كي لا تنتكس. كل افراحنا انتهت بخيبات. كأن الناس في حلم، لا احد يصدق، بأن الأسد هرب من دمشق من دون أن تُطلق رصاصة في العاصمة، أو يتم تدمير أي معلم أو تُخرب مؤسسة أو يحصل تجاوز على أحد.
اللحظة السورية خاصة جدا. وكل من تابع التطورات لاحظ بأن الشعب السوري لم ينم منذ عدة أيام، الكل ينتظر، صغارا وكبارا، وهناك عائلات عاشت الحدث على مدار الوقت، كلما غفا احدهم بقي آخر، يتابع التطورات ويسجل ما يحصل لحظة بلحظة وتفصيلاً بتفصيل، مخافة أن يفلت منهم شيء. يريدون أن يعرفوا كل ما يحصل، كأن كل واحد يدير الحدث ويتحكم به. هناك ملايين تترقب بوجل شديد منذ ان تجاوزت الفصائل حماة، الناس في المخيمات والمنافي وفي الداخل أيضا. ينتظرون لحظة اعلان نهاية النظام. ولا احد كان يظن أن اللحظة ستحصل قريباً، هناك جبال من المخاوف تركها حكم آل الأسد من السقوط المدوي، من الفوضى، التي يمكن ان تحصل من سيناريوهات عربية وغير عربية حصلت في حالات مماثلة، الكل يضع يده على قلبه بأن يحصل انتقال هادئ والحفاظ على المؤسسات العامة وحقن الدماء وتجاوز سلبيات الماضي والثأر. الكل يريد سوريا على قدر عذاباته وأحلامه، غير منقوصة، فرحة كاملة اليوم وغداً وإلى الأبد.
عدم حصول معارك في حلب ودمشق علامه مهمة على أن التغيير الآتي سوف سيسير بطريقة سلمية، وعلى أسس مدروسة تضع الوضع المعقد في نصابه، من دون استخفاف بالتراكمات الكبيرة التي خلفها حكم عائلة الأسد. تحتاج اللحظة إلى وعي ونضج وحكمة وتكاتف وعمل جماعي تشاركي، ومقدرة على قراءة الوضع المحيط بنا من دون تسرع أو ردود فعل.
يريد السوريون الحرية، ولكن بلا دم، بلا ثأر، بلا تطرف، انتقالا مدروسا يطوي صفحة العهد البائد ويفتح بابا واسعا الى حياة توازي قدر الضحايا التي قدموها للخلاص من عائلة الأسد.
المدن
———————
السجن الكبير الذي كان اسمه “سوريا”/ أكرم قطريب
الأحد 2024/12/08
تحت جسر “السيد الرئيس”
أكثر ما كان يميز هذا الحيز من العاصمة رائحة البول والنشادر. تحت الجسر وعلى جانبي السلالم الحجرية، والجدار الملاصق لمعرض دمشق الدولي، إلى كونه تجمعاً لسرافيس وباصات النقل الداخلي وقربه من المتحف الوطني، لم يجعله يسلم من رائحة السخام المنتشرة فيه، وعلى الأرصفة تشغل بسطات الكتب المستعملة والأكشاك والمخبرون حيزاً لا يستهان به. دخان المازوت الحالك، وخليط المشهد برمته لن يثني أحداً أياً كان عن المرور به. إنه واحد من الشريانات الأساسية في دمشق. يتواعد الأصدقاء فيه، ومن هناك يذهبون إلى جهة ثانية. في الليل الإنارة خفيفة جداً ولا يمكنك أن تسأل أو تتحدث عن تلك الظلمة المختلطة مع الرائحة. تصغي لهمهمات الجسد والكائنات الشاحبة المحمومة والقصص التي يروونها في محادثات جانبية. منتصف الليل ولحسن الحظ سيحدث شيء خارق للعادة: ستطيرأعمدة الكهرباء لوحدها وسيقوم الرجل الذي يجلس بجانبي في الباص بالقفز من الشباك لأن مفتش البطاقات ظهر فجأة في عملية هي أشبه بمداهمة، وتبدأ النظرات المتبادلة بين الركاب وأتهيأ للبحث عن بطاقتي قبل أن أُسأل عنها، ولن أجدها إلا بصعوبة بالغة بين صفحات الكتب التي أحملها في يدي.
تشعر أن اليوم لا يمر دون حراسة، ثمة لا مرئيون يرمقونك ويحيطون حياتك دون أن تدري.
مفتش الباص والحارس الواقف بباب الجامعة وسور المدينة الجامعية والشرطي الذي ينتصب في عرض الطريق منتظراً سيارة تمر كي يضبط صاحبها مخالفة أو يأخذ منه البرطيل. الأشخاص الغامضون الذين يظهرون فجأة أمامك، وأنت تتمشى مع صديقتك قرب سور حديقة تشرين القريبة من قصر الشعب ويسألونك عن الهوية، وترفض فينهالون عليك بما تيسر من الصفعات وتترك صديقتك وراءك، وربما تفلح أن تصل إلى غرفتك على قدمين مرتجفتين وقلب مكسور.
ترمي بجسدكَ على السرير وتبكي وتئن مثل نمرٍ جريح، وستحلم بالسفر إلى بلاد قصية عن هذا المكان الذي لا تستطيع أن تطلب فيه النجدة من أحد.
تمرّ الأيام والشهور، إلى يوم كنتُ أمشي قرب الجامعة في البرامكة، نازلاً على الدرج الحجري للجسر، باتجاه موقف الباصات، ملتفتاً إلى صوت يناديني باسمي، وإذ بصديقتي ذاتها، التي لم أرها كل هذه الفترة الطويلة، تلوّح لي من شباك الميكرو المسرع، لوحتُ لها أيضاً لكنني لم أستطع لفظ اسمها، ابتعدت هي أيضاً، وستختلط يدها بالظلال وأعمدة الجسر وهمهمات العساكر الذاهبين في إجازة.
*
قصيدة الشوارع
الشوارع التي كنا نقطعها بين البرامكة وباب مُصلى وطريق الزاهرة القديمة،
وصولاً إلى حارات التضامن في عزّ الظهيرة، وفي مثل عمري ذلك الزمان المتفحم،
كنت أشير إلى منزلها من نافذة الميكرو، وكنا بشراً شبيهين بموتى المقابر البحرية،
محشورين داخلها كتماثيل بقمصان منزوعة الأزرار.
كان كافياً أن أجد مفتاح البيت فوق ساعة الكهرباء،
في الوقت الذي يعمّ الظلام المدينة.
*
أهم شيء منسيّ تلك الأدراج التي لم يكتشفها أحد،
تلك الحوليات النائمة تحت الجلد
لقدرة شخصٍ واحدٍ أن يحوّل شعباً
إلى جالية مرمية في صحراء.
*
جمهورية الخوف
جمهورية الخوف بُنيت بأكملها بفزَّاعة الشعارات الطنانة، على مزيجٍ من ظلم هائل، محصور في متناول قلّة، يمتلكون كل مفاتيح العمارة المتقنة التأسيس، ولها صلاحيات مفتوحة لتطوير هكذا نوع من اقتصاد الإكراه، والذي غايته صناعة جيش من الكائنات الجاهزة لتقديم الولاء بشكل مشرّف كلما سنحت الفرصة. لا وقت للراحة والكسل فاللافتات التي كانت تغطي المدن بإمكانها أن تستر نصف عري الكرة الأرضية، والألوان التي كان يتقاسمها الرسامون كي يصبغوا جدران الأروقة اللانهائية لمستعمرة النوم والطبول والميكروفونات. الوجوه المعفرة بالوحل وروائح التعفّن في السجون التي بنيت في العراء. المنازل المفتوحة الأبواب على الهشيم والخسارات. المكانة الرفيعة للحزن على وجوه أمهاتٍ ينتظرن أبناءهنّ على العتبة لدهرٍ لا اسم له، ويجمعن الصبر في حصالة نحاسية إمبراطورية الانتظار تجترح المعجزات.
*
هل ستبتسم لمن يهم بقتلكَ،
وتدعوه إلى العشاء مع الأهل والأصحاب
وتعطيه معطفكَ كي يتغطى تحت النجوم،
وأساور زوجتكَ كي يفرح،
وأكياس الطحين كي يصير بينكما خبزٌ وملح،
وعلبة سجائركَ كي يُطفئها في ظهورِ أبنائكَ
وهم يدخلون في المرايا واحداً واحداً.
*
– فن العقاب في جمهورية “إلى الأبد” جعل المواطن متعهداً لآلامه ومنتجاً وممثلاً وجابي ضرائب وشوفير تاكسي بعد الدوام لا يشقُّ له غبار.
– السوري حتى وهو يبكي تخال دموعه معلّقة من المعلقات الجاهلية، موزونة على بحرٍ لا سفن فيه ولا نجوم.
– لم يغادر زنزانته الإنفرادية طيلة عقود، حتى وهو يأخذ قيلولته أو يتشمّس تحت صندوق الشكاوى وظلم الذين اشتروا حياته بثمنٍ بخس. تدمير المكان الآن يجمع في صورة رمزية شكل الخيال المريض الذي اعتاد مبارزة طواحين الهواء، والإصغاء إلى التصفيق الطويل في مجالس الشعب.
– ولأن البلد ليست بئر غاز وخزنة ذهب أو رزم أموال مرمية في صحراء.
ليست هيلانة الإغريق.
ولا طروادة المدن.
*
يخرجُ من صورتهِ
الرجلُ في الصورة
لن يرحلَ
قبل أن يقصف عمر الظلّ.
يكوي لحم البلاد بمحاسن العائلة،
وملمس الدم،
والكتب التي تمدح بلوغه التسعين.
الرجل الذي يحملنا في ابتسامته
ورسائل البريد،
ينحني على البيوت ومعطف التجاعيد،
يبارك طريقتنا في المشي،
وطوافنا حول تماثيل الأبناء.
الرجل المقلوب كسُلَّم،
يَصرّ كظهيرة كالحةٍ،
ممدودةٍ فوق الوجوه
وهي تئن كصدقة الشحاذ.
يخرجُ من صورته وينام وحيداً.
*
2000 ميلادية
—————————
رسالة إلى باسل شحادة/ أسعد قطّان
الأحد 2024/12/08
إبّان شهر أيّار من العام 2012، قُتلت في حمص، المدينة التي احتضنت أيّامك الأخيرة، وأنت لا تزال طافحاً بالحياة ومؤمناُ بأنّ البشر قادرون على صنع التغيير بصدورهم العارية. وها هي حمص اليوم تتصدّر المشهد من جديد في فصل آخر من فصول الحرب على الأرض السوريّة المجيدة بينما الكلّ يشخص إلى ما يحدث بكثير من التهيّب والرهبة محاولاً أن يتلمّس ما سوف يحدث. هل كنت تحدس، حين غادرت الولايات المتّحدة ورجعت إلى سوريا التي أحببت، أنّ الثورة فيها، التي أردتها بيضاء ناصعةً مثل مناديل أمّهاتنا، ستكون عود الثقاب الذي يستجلب الأمم كافّةُ إلى الأرض القديمة كي يسفكوا الدم هناك؟ لئن كنّا، يا صاح، لا نستطيع تغيير التاريخ، إلّا أنّنا قادرون على التعلّم منه، أي أن نستعيد بالتحليل العقليّ الأخطاء المقترفة لئلّا نكرّرها، وأن نستخلص العبر من الماضي. ولعلّ هذا التعلّم ينسحب على سيرتك أيضاً، وذلك من دون أن نجرح هذا التواضع الذي تفترّ عنه ابتسامتك الخرافيّة حتّى بعد انقضاء أكثر من عقد على موتك في حمص كأنّك مشهد من تراجيديا يونانيّة لم تنتهِ فصولها بعد. فثمّة عبرة يمكن استمدادها منك أيضاً، ومن مرورك السريع كشهاب برق في تاريخ سوريا إبّان مطلع القرن الأوّل من الألفيّة الثالثة.
من سيرتك، يا باسل، نستقي، أوّلاً، أنّ المسيحيّين، بخلاف ما جرى التسويق له إبّان الأعوام المنصرمة، معنيّون بقضيّة الحرّيّة في هذا الشرق، لا لأنّ هذا الهمّ ينتسب إلى كونهم مواطنين فحسب، بل لأنّه متأصّل في إنجيلهم أيضاً. فنحن لا نعرف كتاباً آخر من الكتب الدينيَة المرجعيّة طرح قضيّة الحرّيّة كما طرحها إنجيل يسوع المسيح. هذا الإنجيل يتحدّث عن يسوع بوصفه هو الحقّ الذي يحرّر البشر من عبوديّتهم. أيّ نوع من العبوديّة هو هذا؟ إنّها العبوديّة التي تجعل الناس أرقّاء لكلّ ما يفصلهم عن البشر الآخرين سواء كان اسم جدار الفصل هذا مالاً أو منصباً أو تعامياً عن الفقير والضعيف والأرملة أو شيطنةً للزناة والفجّار وجباة الضرائب أو عمارةً قوميّة رعناء. بيد أنّ الحرّيّة التي يتكلّم عليها الإنجيل هي أيضاً تلك التي كشفها نجّار الناصرة حين رفض أن يساوم على راديكاليّة موقفه عبر الاصطفاف إلى جانب الإيديولوجيا السائدة في مجتمعه. ومن ثمّ، مهر هذه الحرّيّة بموته على الصليب بعدما فضح التحالف الموضوعيّ الخبيث بين أراخنة اليهود المستفيدين من مؤسّسة الهيكل في فلسطين وممثّلي القيصر الرومانيّ من ملوك وولاة. حكاية المسيح تبيّن، في كلّ ثنيّة من ثنيّاتها، كم كان هذا الرجل متشبّثاً بالكرامة الإنسانيّة، حتّى إنّه غفر للزانية، وأكل خبزاً وملحاً مع الخطأة، وجعل عيون الأطفال أبواب الملكوت؛ وكم كان حرّاً من انغلاق الإيديولوجيا وضحالتها سواء أكانت دينيّةً أم سياسيّةً أم اقتصاديّة. والمسيحيّون، إذا هم أرادوا اليوم أن يكونوا مسيحيّين بالفعل، عليهم أن يستلهموا هذا الذي تسمّوا على اسمه بعيداً من الحسابات الطائفيّة الضيّقة وسيناريوهات التزلّف والتحاصص والذمّيّات المعلنة والمحتجبة.
الدرس الثاني الذي نتعلّمه من سيرتك أيّها المهندس والمخرج السينمائيّ هو إيمانك باللاعنف. ولعلّ هذا لا ينبثق من ثقافتك التي تعلّي الكرامة الإنسانيّة فحسب، بل يأتي أيضاً من مسيحك المعلّق على الصليب حين رفض أن يستجير بالله أبيه كي يقمع صالبيه، وغفر لهم ذنوبهم من قلب متاهة الموت. ما سرّ اللاعنف؟ وما سرّ هذا القائل «مَن ضربك على خدّك فاعرض له الآخر»؟ إنّه، طبعاً، ليس الاستكانة حيال الظلم، ولا هو، بطبيعة الحال، التقهقر ودفن الرأس في الرمل بإزاء ما نشهده في هذا العالم من غياب العدل. لكنّه الإيمان بأنّ العنف، في نهاية المطاف، لا ينتج إلّا العنف، وأنّ الحقد لا يولّد إلّا الحقد. يسوع، في دعوته إلى اللاعنف، كان يومئ إلى أنّ هذا وحده قادر على فضح العنف وكسر حلقته المغلقة. طبعاً، البشريّة تدرك بالخبرة أنّ ثمّة حالات يستشري فيها الشرّ ويستفحل ويتحوّل إلى شرّ بنيويّ، ما يستوجب اللجوء إلى شكل من أشكال العنف بغية التصدّي له. لكنّ العنف الذي لا بدّ منه للخروج من دوّامة الشرّ لا يعطّل المبدأ اللاعنفيّ الذي بشّر به يسوع. فالعنف يبقى شرّاً حتّى عندما يصبح ضرورة. ولعلّ تكريس مبدأ اللاعنف ساهم في وصول شرائح واسعة من البشر إلى الاقتناع بأنّ الحروب شرّ مستطير، وأنّ الزعم أنّ هناك حروباً «عادلةً» أو «مقدّسةً»، طمعاً في تبرير مبدأ الحرب، إنّما هو ضرب من ضروب الهذيان. والمسيحيّون، إذا أرادوا الالتصاق بمسيحهم، مطالبون بأن يكونوا رسل اللاعنف، لا مداراةً للشرّ أو خوفاً من مواجهته، بل في سبيل اقتلاعه واستئصاله.
يا باسل، تذهب العيون اليوم إلى حمص التي ضمّتك إلى حِجرها حين سُفك دمك. وتذهب العيون إلى سوريا، الأرض القديمة التي عشقتها، هذه التي، منذ سنوات، ما برحت تحوّل الحزن إلى حنطة والدموع إلى شموس تتوهّج. ارفع الصلاة من أجلنا يا صاحب البسمة التي أصبحت وجهاً. حمى الله سوريا…
المدن
———————-
بعد 77 عاماً… سقوط البعث ونهاية “الأبد”!/ حسام فران- صحفي لبناني
08.12.2024
دمشق بدون الأسد، العبارة التي لطالما حلم السوريون بقولها، واليوم، النظام سقط، والسوريون يعيشون لحظات فرحة تاريخّية
تتشابه صور سقوط بشار الأسد في بعض جوانبها، مع صور سقوط صدام حسين الأيقونية قبل أكثر من عشرين عاماً. فإسقاط تماثيل الأسد ووالده وشقيقه باسل في العام 2024، تشابه إسقاط تماثيل صدام في العام 2003. كما يتشابه إحراق صور الأسد مع إحراق صور صدام. ومع أن السياقات مختلفة تماماً، وإسقاط الأسد لم يتم على متن دبابات أميركية، كما هي حال صدام، لكن نهاية البعث تتشابه، لشدة ما يتشابه البعثان في البلدين.
والبعثان؛ السوري والعراقي، أصلهما واحد، يعود إلى ما قبل 77 عاماً، إلى العام 1947 تحديداً، حينما أسس ميشال عفلق وصلاح الدين بيطار الحزب، الذي سيحكم العراق وسوريا لفترات طويلة، ويمد نفوذه إلى بلدان مجاورة، أبرزها لبنان الذي وقع في فترات مختلفة تحت تأثير البعثين، في الحرب الأهلية اللبنانية، كترجمة لصراعهما الذي وقع عملياً في العام 1966، مع انقلاب بعثيين يساريين في سوريا على عفلق وبيطار، وأطاحوا بهما من منصبيهما في الحزب، كما أطاحوا في الآن عينه بأحمد حسن البكر وقريبه صدام حسين من فرع البعث في العراق. على إثر ذلك، أعلن البكر وصدام قيادة قطرية جديدة للبعث في بغداد، حظيت بدعم المؤسس ميشال عفلق، وتلك كانت النقطة المفصلية التي قسمت الحزب إلى بعثين: عراقي وسوري.
والانشطار هذا، كما يقول حازم صاغية في كتابه “البعث السوري- تاريخ موجز”، كان “بمكانة الاستكمال والتتويج لعملية الفرز بين نظامين في بلدين مستقلين. ذاك أن وصول فئات اجتماعية معينة، في سوريا والعراق، إلى السلطة، ألغى الحاجة إلى القاطرة الوحدوية وإلى الزعم الأيديولوجي اللذين تولّيا إيصالها”.
حكم البعثان سوريا والعراق لفترات طويلة بالدم والبطش والنار، وتبين أن أفكار البعث لا تُنتج إلا الديكتاتورية والقمع، وتبين أيضاً أن حكام البعث في البلدين لم يسلّموا لتداول السلطة أبداً، بل كانا يُقيمان، كنوع من المسرحية “الديمقراطية” مهرجانات المبايعة على شكل انتخابات، فيها صناديق وأوراق اقتراع، فيربح حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار بنسب تتخطى 97% في كثير من الأحيان، وتذهب وقاحة صدام حسين إلى إعلان نتائج فوزه بالانتخابات بنسبة مئة في المئة!
حكم البعث العراق منذ العام 1968 لمدة 35 عاماً، كان لصدام حصة 24 في العام 2003. أما بعث سوريا فحكم منذ العام 1963 بعد انقلاب وقع في آذار/ مارس، لم يصمد طويلاً حتى وقع انقلاب على الانقلاب في شباط/ فبراير 1966، وصولاً إلى انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في حركته “التصحيحية” في العام 1970، ليحكم سوريا منذ ذلك الحين، لثلاثين عاماً، ثم يورّث حكمها لابنه بشار بعد وفاته في العام 2000، ولتكون “حصة الأسد” من السلطة 54 عاماً، وقعت بثقلها على كاهل الشعب السوري.
ولم يتخلّص شعبا العراق وسوريا من حكم البعث إلا بمخاض عسكري عنيف، ولم يتحقق هذا الأمر في العراق إلا بواسطة غزو أميركي كبير أطاح بالطاغية، بعد حصار اقتصادي قاسٍ مورس على العراق منذ إخراج جيش صدام من الكويت في حرب الخليج الأولى. أما في سوريا فكان المخاض أطول منذ 15 آذار/ مارس 2011 وحتى فجر الثامن من أول/ ديسمبر 2024.
وهذا التاريخ الأخير هو النهاية الفعلية للبعثين في البلدين العراق وسوريا بشكل كامل، بعد سقوط بشار الأسد وفراره من سوريا، وهو لا شكّ سيكون مقدمة لنهاية الوجود الكاريكاتوري لفرع حزب البعث السوري في لبنان، الذي يرأسه اليوم علي حجازي بنفوذ مستمد من “حزب الله”، بعدما كان “البعث السوري” في نسخته اللبنانية يتمتع بنفوذ كبير في فترة الوصاية السورية، مستمد من القيادة القطرية في سوريا مباشرة.
وإذا كان العراق قد وقع في خطأ “اجتثاث البعث” الذي كان من أفظع ارتكابات الحاكم المدني الأميركي بول بريمير، فإن التعويل في سوريا اليوم على حكمة منشودة للثوار السوريين الذين أطاحوا بالأسد، للحفاظ على مؤسسات الدولة، واحتواء البعثيين بعد محاسبة المرتكبين الكبار منهم، والانتقال بسوريا من جحيم البعث إلى مستقبل أكثر استقراراً وأماناً للشعب السوري العطِش للحرية، والمستحق لها بجدارة.
درج
———————-
نظام بشار الأسد كان أوهن من بيت العنكبوت/ طارق اسماعيل – كاتب لبناني
08.12.2024
سقط بشار الأسد، ولحظة سقوطه ستتبدى كزمن موغل في وجدان السوريين، هي لحظة للانعتاق من طاغية استعصى طغيانه الموروث على شعب سوريا أكثر من خمسة عقود، وعلينا أيضاً نحن اللبنانيين، أو أكثرنا، لكنه ككل طاغية ينسحب من المشهد تاركاً إرثاً دموياً يتصل ماضيه بحاضره.
كان جمهور الممانعة يكايد خصومها بمقاربة رديئة أفضى إليها بقاء بشار الأسد حاكماً لسوريا، وعليها، منذ بداية الثورة السورية حتى انحسارها في العام ٢٠١٩.
المكايدة الرديئة تلك استدرجت إلى المقاربة الكثير من رؤساء الجمهوريات والحكومات الغربية التي ناهضت حكم الأسد، كدونالد ترامب وباراك أوباما في الولايات المتحدة الأميركية، ونيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند في فرنسا، وتيريزا ماي وقبلها ديفيد كاميرون في بريطانيا، وأنجيلا ميركل في ألمانيا.
كانت المقاربة المكايِدة تقول: “رحل فلان وبقي الأسد”، وفلان في العبارة هو فراغ يملأ مكانه أي اسم من الرؤساء المذكورين أعلاه، كأن يُقال مثلاً: “رحل ترامب وبقي الأسد”، وهو مثال يفضح تهافت المقاربة التي أفضى راهنها إلى رحيل الأسد وعودة ترامب إلى الحكم.
وعلى عادتهم، كان محبو الأسد يتحاشون المقاربة المنطقية والسياسية لمغادرة هؤلاء للسلطة، كمغادرة محكومة بالآليات الديمقراطية لأنظمة الحكم في بلادهم، التي تصطدم طرداً بالنموذج السوري سواء قبل الثورة عليه أو بعدها، أي بالمسار الديمقراطي المتهافت في سوريا قبل العام ٢٠١١، أو ببقاء بشار الأسد بعدها، الذي تتقاطع فيه أسباب كثيرة كعوامل قوة، أهمها التدخل الإيراني وأذرعه العسكرية في الحرب، ثم الروسي وهو الأهم، فيما تبدّى بشار الأسد في كل هذه الوقائع الحلقة الأكثر ضعفاً، على ما وشى راهن تبدلت أو تلاشت فيه عوامل القوة تلك.
عام ٢٠١٥ انخرطت روسيا في الحرب السورية، قبلها ومنذ العام ٢٠١٢ كانت إيران، وبإشراف مباشر من “جنرالها” قاسم سليماني قد سبقتها إلى ذلك الانخراط عبر فصائلها في لبنان (حزب الله) والعراق (الفصائل الولائية) وأفغانستان (لواء فاطميون).
الانخراطان تكفّلا توالياً في حسم تلك الحرب لمصلحة النظام السوري، بمعزل عن تبدل هويات المحاربين من معارضي الأسد، كما عناوين فصائلهم من وطنية إلى إسلامية، ثم إلى إسلامية متطرفة.
راهناً، تبدلت، وتلاشت، الكثير من وقائع تلك الحرب، اغتيل قاسم سليماني، وبدا أن خلفه أقل جاذبية وقدرة على حمل إرثه، فيما الإنهاك تبدى سمة “حزب الله” بأثر حربه الأخيرة مع إسرائيل، أما روسيا فتعاطت مع الوقائع الموجبة لسقوط الأسد بمنطق أن ما تريده من سوريا وفيها، سيكون لها على الأرجح. نحن إذاً أمام نظام بدا في أيام نزاعه الأخير فاقداً لكل مؤثرات بقائه. نظام لم يعد مغرياً للروس طوعاً، وللإيرانيين وأذرعهم قسراً.
سقط بشار الأسد، ولحظة سقوطه ستتبدى كزمن موغل في وجدان السوريين، هي لحظة للانعتاق من طاغية استعصى طغيانه الموروث على شعب سوريا أكثر من خمسة عقود، وعلينا أيضاً نحن اللبنانيين، أو أكثرنا، لكنه ككل طاغية ينسحب من المشهد تاركاً إرثاً دموياً يتصل ماضيه بحاضره.
“المزة”، “عدرا”، “صيدنايا”، “تدمر”، هي نماذج عن هذا الإرث العدمي لآل الأسد، إنها أمكنة كان يُفترض أن تُباشر شهرتها من تراث حضاري وإنساني، لا من سجونها التي التصقت بذاكرة السوريين كمرادفات للموت، أو في أحسن الأحوال قتل الحرية، عدا أن فضاء سوريا كوطن تحوّل إلى سجن كبير أفضى انعدام الحرية السياسية فيه، إلى افتقار معارضي الأسد (الوطنيين) خلال الثورة وقبلها وبعدها، إلى تأطير معارضتهم، ومنحها عوامل القوة حتى في أشد لحظات ضعف النظام، وأيضاً قصورها عن ملاقاة حناجر مثقلة بالوجع عبّرت عنها حنجرتا عبد الباسط الساروت وابراهيم قاشوش. افتقار أتاح لاحقاً بروز “ثائرين” تقاطع على شهرتهم صعود الإسلام السياسي، وعبث المستثمرين من قطر إلى السعودية، وطبعاً تركيا في الحربين الأخيرتين، والوقت المستقطع بينهما.
سقط اسم بشار الأسد في لحظة دوي اسم آخر، “أبو محمد الجولاني” هو الاسم الذي يدخل الآن تاريخ سوريا دخول الفاتحين. فيما لحظة انعتاق السوريين الراهنة تبدو لحظة مؤجِلة لعصف ذهني عن مقاربة ضرورية ليس لماضٍ يُقفَل الآن بسقوط بشار الأسد كأسوأ أقدارهم، ولكن عن قدر مستقبلي متأتٍ من رجل “قاعدي” يرتق ماضيه بحواضر تتقاطع مع رؤية أغلب السوريين لمستقبل بلدهم.
عود على بدء إلى تلك المكايدة الباهتة التي اندثرت راهناً بسقوط بشار الأسد، وإلى الرجل الذي تسيَّد حدث سقوط الأخير.
يتقاطع ماضي أبو محمد الجولاني، أو أحمد الشرع، مع ماضي سمير جعجع ك “حكيم” ترك اختصاصه والتحق بتنظيم “القاعدة” لمحاربة الاحتلال الأميركي للعراق، ويتقاطع في لحظة انتصاره الراهن مع لحظة وصول بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية في العام ١٩٨٢، الأخير قرر يومها “حل” ميليشيا “القوات اللبنانية”، فيما الأول وشى بحل جبهة “تحرير الشام”. تقاطعان، بالأسماء والوقائع، يضاعفان على الأرجح حسرة الممانعين بسقوط بشار، وبمُسقِطه.
ظلت عبارة “أوهن من بيت العنكبوت” التي أطلقها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله عن إسرائيل، عبارة خالية من مضمونها، لكن راهنها السوري يتبدّى قطعياً عن الوهن وبشائره.
نظام بشار الأسد كان أوهن من بيت العنكبوت.
درج
—————————–
فتح سجون الأسد: معركة على جبهات الأمل/ رقية العبادي – صحافية وكاتبة سورية
07.12.2024
كنا نراقب الصور والفيديوات القادمة من سجن حماة، مع مزيج من مشاعر الفرح والحزن والخوف، مشاعر متناقضة يصعب السيطرة عليها، لكن مشهد تحرير السجناء كان له وقع مختلف على كل الأحداث المتسارعة.
على مدى سنوات طويلة، ظل سيناريو تحرير المعتقلين من سجون نظام الأسد حلماً يراود كل من عاش تجربة الاعتقال، خاصة عندما كانت أصوات الاشتباكات والقذائف تقترب من السجون. كنتُ، كما العديد من المعتقلين والمعتقلات السابقين، نعتقد أن “الجيش الحر” سابقاً، أو ما يُعرف الآن بالفصائل المعارضة المسلحة، سيأتون لإنقاذنا. لكن مع مرور الوقت، بدا ذلك الحلم بعيد المنال إلى حد كبير.
خلال السنوات الماضية، معظم من خرجوا من سجون الأسد؛ وأنا منهم، لم يتحرروا إلا عبر دفع عائلاتهم رشى لضباط النظام أو صفقات تبادل. لكن الفيديو الذي انتشر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، يوثّق لحظة تحرير السجناء السياسيين من سجن طارق بن زياد في حلب على يد الفصائل المعارضة المسلحة، أعاد الأمل الذي اعتقدنا أنه قد تلاشى.
لم أستطع التوقف عن مشاهدة الفيديو الذي يُظهر معتقلين ومعتقلات يركضون حاملين أكياس ملابسهم وسط صرخات الفرح. بقيت يومين متتاليين أشاهد الفيديو مراراً، حتى علق في ذهني مشهد امرأة تحمل كيساً صغيراً وتركض حتى تختفي في عتمة الشارع. تمنيت لو أنني ركضت خلفها لأعانقها بشدة.
هذا الفيديو لم يذهلني وحدي، بل أثار مشاعر العديد من أصدقائي وصديقاتي ممن عاشوا تجربة الاعتقال في سجون الأسد. بالنسبة لنا، كان مشهداً يُجسد أملاً كنا نظنه مستحيلاً.
سيناريوات الخروج من سجون الأسد بهذا الشكل، كما رأيناها في الفيديو، كانت حديثاً نتداوله في كل مرة نسمع فيها أصوات الاشتباكات والقذائف بالقرب من الفروع الأمنية أو السجون المدنية.
تستعيد صديقتي رويدا كنعان، ذكرياتها بعد مشاهدتها لحظات إطلاق سراح المعتقلين. تتذكر تجربتها في سجن عدرا المركزي خلال عام 2014، حيث تعرضت للاعتقال ثلاث مرات بين عامي 2011 و2014. تنقلت خلالها بين فرع الجنائي في دمشق، وفرع أمن الدولة المعروف بـ”فرع الخطيب”، قبل أن تُنقل إلى سجن عدرا المركزي.
تقول رويدا: “عندما رأيت النساء يخرجن حاملات أكياس ملابسهن، شعرت بفرحة لا توصف. تذكرت كيف كنا نعيش حالة استعداد دائم. في إحدى المرات، اشتدت الاشتباكات حولنا في سجن عدرا، فقمنا بتجهيز أكياس صغيرة وضعنا فيها حاجياتنا القليلة، مستعدات لأي لحظة قد يأتي فيها الجيش الحر سابقاً لتحرير السجن”.
“الحرية التي جاءت من حيث لم أحسب”
بعد سيطرة الفصائل المعارضة المسلحة على مدينة حلب، أصبحت حماة، رابع أكبر المدن السورية، المدينة الثانية التي تنتقل إلى سيطرة الفصائل. حماة، التي تحمل جروحاً عميقة منذ مجازر عام 1982 التي ارتكبها حافظ الأسد وشقيقه رفعت الأسد ضد سكانها، تعود اليوم إلى الواجهة، لكنها هذه المرة تحمل بصيص أمل جديد.
من بعيد، كنا نراقب الصور والفيديوات القادمة من حماة، مشاعرنا مزيج من الفرح والحزن والخوف. مشاعر متناقضة يصعب السيطرة عليها، لكن مشهد تحرير السجناء كان له وقع مختلف على كل الأحداث المتسارعة.
الفيديوات التي وثّقت تحرير نحو 3000 معتقل ومعتقلة من سجن حماة، بينهم سوريون ومن جنسيات أخرى كلبنانيين وعراقيين، أعادت الحياة إلى ملف المعتقلين. هؤلاء الذين كانوا مغيبين قسرياً لعقود، عادوا ليرسموا لحظة فارقة في تاريخ ملف المعتقلين.
وسط هذه اللحظات، كتبت صديقتي جمانة حسن، الناجية من الاعتقال القسري، على صفحتها الشخصية عبر “فيسبوك”:
“خروج المعتقلين من السجون السورية ليس تفصيلاً هامشياً، لا على المستوى الشخصي ولا الجمعي. إنه حدث فارق في تاريخ سوريا الحديث، وفي حياة السجناء الذين استعادوا حريتهم اليوم، وفي حياة أهاليهم الذين عاشوا سنوات من الألم والانتظار. كما أنه أعاد الأمل إلى قلوب عائلات المختفين قسراً، وأحيا حلماً حاول العالم بأسره، بالتواطؤ مع نظام بشار الأسد، قتله في نفوس السوريين”.
جمانة، التي عاشت ما يقارب عشرة شهور في اختفاء قسري، بلا محكمة، بلا سجن معلوم، وبلا معرفة بما يجري في الخارج، تصف تلك الفترة بقولها: “كل شيء كان غامضاً ومجهولاً. فكرت كثيراً في احتمالية أن يُقتل المعتقلون دون أن تُتاح لهم فرصة الحرية”.
خرجت جمانة عبر صفقة تبادل، كان الأمر بالنسبة لها غير متوقع تماماً. تقول: “صفقتي كانت ضمن عملية شاركت فيها جبهة النصرة سابقاً، بما يُعرف حالياً بهيئة تحرير الشام، وتحديداً بعد صفقة راهبات معلولا في عام 2014. لا أكنّ أي ولاء لجبهة النصرة سابقاً، ولم أشعر بأي امتنان تجاهها، لكنني أردت الخروج بأي ثمن”.
وأضافت: “الخروج من السجن، بالنسبة لأي معتقل، هو لحظة تعجز الكلمات عن وصفها. تختلط فيها مشاعر الصدمة والفرح والارتباك. ربما أحتاج إلى وقت أطول لفهم ما حدث فعلاً، لكن ما أدركه الآن هو أن الحرية، مهما كانت الطريقة التي جاءت بها، هي معجزة كنا ننتظرها جميعاً”.
فتح السجون: مشاهد لا تُنسى
منذ عشرة أيام، نراقب من بعيد تطورات معركة “ردع العدوان”، التي شنتها الفصائل المعارضة المسلحة. تتسارع أحداثها بشكل يفوق كل التوقعات، خاصة بعد سنوات من خيبة الأمل بسقوط نظام الأسد، ومع عودة العلاقات بين النظام وبعض الدول العربية التي أعادت فتح سفاراتها في دمشق.
وسط زخم المعارك على الأرض، تبرز الصور التي تُظهر عودة المهجرين إلى بيوتهم ولقاءهم مع أهاليهم، وإطلاق سراح المعتقلين من سجون عدة في محافظات مختلفة. بعد حلب وحماة، رأينا مشاهد إطلاق سراح معتقلين من سجون السويداء ودرعا، مروراً بدير الزور.
مع كل منطقة أو مدينة تتحرر من سيطرة نظام الأسد، يزداد ترقبنا للحظة التي يخرج فيها المعتقلون والمعتقلات من زنازين النظام. بالنسبة لنا، نحن الذين نعرف جيداً تلك الأقبية التي شهدت التعذيب والقتل والاختفاء القسري لآلاف المدنيين من جنسيات عربية مختلفة، هذه المشاهد لا يمكن وصفها إلا بـ المفرحة والمبشرة لعودتهم إلى عائلتهم، ومن ينتظرهم.
لا يهم من الذي يفتح تلك الزنازين؛ المهم أن تُكسر الأبواب المغلقة، وأن يعود المعتقلون إلى الحرية. مشاهد لقاء العائلات بأبنائها، التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي، لا تترك مجالاً إلا للتعاطف والبكاء، حتى وإن لم يكن لك أحد داخل تلك السجون. المشهد يحمل رهبةً وتأثيراً لا يمكن إنكارهما.
يقول صديقي سرمد الجيلاني، الذي اعتُقل أربع مرات بين عامي 2011 و2012، متنقلاً بين فروع الأمن التابعة لنظام الأسد في عدة محافظات:
“بكل ما حدث، حتى لو كان من حرر السجون شياطين، لم أستطع كبت دموعي. بعد 12 عاماً، ما زلت عاجزاً عن تجاوز الأضرار النفسية والجسدية. لقد أوصلنا الأسد إلى مرحلة لم نعد نستطيع فيها تخيل شعور هؤلاء الأشخاص الذين كأنهم بُعثوا للحياة بعد سنوات من الموت. لقد مُنحوا عمراً جديداً.”
برغم مخاوفنا من احتمال سيطرة الجماعات الإسلامية على سوريا بعد سقوط الأسد، لكن لا يمكننا إنكار فرحتنا. نقولها بصوت عالٍ: نحن فرحون. لا شيء يعلو على فرحة فتح سجون الأسد وعودة المعتقلين والمعتقلات المغيبين قسرياً إلى عائلاتهم. وفي الوقت نفسه، تبقى أعيننا متجهة نحو سجن صيدنايا، منتظرين اليوم الذي تُفتح فيه أبوابه أيضاً.
درج
————————–
طريق طويل أمام السوريين لإزالة جرائم بشار الاقتصادية/ مصطفى عبد السلام
08 ديسمبر 2024
بالطبع، الطريق طويل جداً أمام السوريين لإزالة كوارث وخيانات وإخفاقات وجرائم نظام بشار الأسد الاقتصادية، ووضع بلدهم على الطريق الصحيح، وتوحيد أراضي الدولة بعد تفتتها لسنوات، ودعم الاستقرار والحرية، وإعادة بناء دولة المؤسسات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإقرار الدستور الدائم، ذلك لأن هذا النظام أجرم بحق الشعب السوري كله، وترك تركة ثقيلة جدا تحتاج سنوات طويلة لترميمها وعلاجها.
نظام بشار لم يكتف فقط بتجريف الحياة العامة وقتل المشهد السياسي والحزبي طوال ربع قرن، والتفريط في أراضي وأصول وسيادة الدولة للأجانب، بل طغا وتجبّر وعاث في الأرض فساداً، فقد قتل أكثر من مليون شخص خلال فترة لا تتجاوز العشر سنوات، واغتصب نظامه وجيشه السوريات في السجون والمعتقلات والشوارع، واعتقل خيرة شباب سورية وغيّبهم في السجون والمعتقلات ووراء القضبان، وارتكب جريمة الاختفاء القسري للمعارضين على نطاق واسع.
وهجّر الملايين من السوريين إلى الخارج والدول المجاورة، وقصف المدن والقرى والثوار بالمدافع والطيران، وألقى البراميل المتفجرة على رؤوس الأطفال والنساء والمدنيين وبلا رحمة، واستخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه. وصادر أموال وممتلكات السوريين، وساعد في احتلال بلاده وجلب المحتل الإيراني والروسي لتثبيت نظامه والحيلولة دون سقوطه، وأجهض ثورة شعبية سلمية تعامل معها بالرصاص والحديد والنار والقمع، وطأطأ رأسه أمام هجمات واعتداءات جيش الاحتلال على بلاده، فلم يردّ على إهانة إسرائيلية واحدة أو انتهاك واحد لسيادة سورية طوال فترة حكمه.
الرئيس المخلوع صادر أموال وممتلكات السوريين، وساعد في احتلال بلاده وجلب المحتل الإيراني والروسي لتثبيت نظامه والحيلولة دون سقوطه
وحاول إغراق الدول المجاورة، ومنها منطقة الخليج والأردن والعراق وتركيا، بالمخدرات والكبتاغون، إما للحصول على النقد الأجنبي الذي تهاوى بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، أو لإثارة القلق داخل هذه الدول. ودمر البنية التحتية الرئيسية في جميع أنحاء الدولة بسبب القصف الجوي وهجمات الكيميائي، بما في ذلك حلب المدينة الاقتصادية الرئيسية في سورية. وجلب العقوبات الدولية على سورية، والأخطر اشعال حرب أهلية استمرت ما يزيد عن عقد من الزمان.
هذه عناوين عامة لجرائم مارسها بشار الأسد ضد الإنسانية، وقبلها ضد شعبه منذ توليه الحكم في العام 2000، ومن قبله ارتكب أبوه حافظ جرائم لا تقل قسوة عن جرائم الابن، فقد ارتكب الأب واحدة من أسوأ مجازر القرن العشرين وهي مجزرة حماة. ومارس وشقيقه رفعت القمع الوحشي على نطاق واسع وطوال سنوات حكمه، وتلقى هزيمة منكرة في العام 1967 على يد جيش الاحتلال.
تاريخ طويل من الدم والمذابح المروعة والجرائم لأسرة الأسد، لكن هناك جانباً آخر وأخطر مارسه نظام بشار وهو تجويع السوريين وإفقارهم وبيع أصول وثروات سورية للمحتل سواء الروسي أو الإيراني، ورهن مقدرات الدولة للحلفاء الدوليين الذين ساعدوه في البقاء في الحكم رغم الجرائم الوحشية التي مارسها هو وأسرته على مدى يزيد عن نصف قرن.
نظام بشار حقق فشل ذريعا في إدارة الاقتصاد السوري على مدى ما يقرب من ربع قرن، فبعد أن كانت الدولة بلا ديون خارجية ولديها احتياطي أجنبي مريح وصادرات قوية واستقرار ملحوظ في سوق الصرف، باتت الآن تعاني الإفلاس والتعثر والفساد والتضخم الجامح والاحتكارات، وسيطرة الأسرة الأسدية على مقدرات الدولة والشركات الكبرى، وتهاوت الليرة السورية مقابل الدولار لتفقد أكثر من 141% من قيمتها منذ عام 2011، فالدولار الذي كان يساوي 47 ليرة عند اندلاع الثورة، أصبح الآن يباع بأكثر من 22 ألف ليرة في دمشق و40 ألف في حلب.
وتوزعت ثروات الدولة على المحظوظين والقريبين من دوائر صنع القرار، وتفشى الغلاء في كل ركن من أركان الدولة، وانهارت الطبقة الوسطى، أما ملايين الفقراء السوريين فقد باتوا مكشوفين أمام الفقر والغلاء واختفاء السلع الأساسية، ولا يجدون الحد الأدنى من الطعام في اليوم.
ولن أتحدث هنا عن انهيار مستوى الخدمات العامة من صحة وتعليم ومواصلات عامة وبنية تحتية وشبكات مياه وصرف صحي وكهرباء خلال فترة حكم بشار. أما الأعباء المالية على المواطن فحدث ولا حرج، فيكفي أن تعرف مقدار الزيادات القياسية في الضرائب والرسوم الحكومية وزيادة أسعار الوقود التي تتم سنوياً.
ليست هذه هي جرائم نظام الأسد الاقتصادية فقط، فهناك ما هو أخطر؛ حيث تنازل عن أصول الدولة الاستراتيجية للمحتلين والطغاة، فكل دولة ساعدته في إجهاض الثورة وقتل الشباب حصلت على نصيبها من الكعكة والمشروعات والثروات.
مقاتلون يحمون صناديق نقود/المركزي السوري8ديسمبر 2024 (سام الحريري/فرانس برس)
إيران أكبر حليف لنظام الأسد أغرقته في الديون التي تقدر قيمتها بنحو 50 مليار دولار، وصفقات السلاح، وخطوط الائتمان والمنح النفطية، وفي المقابل حصدت طهران مئات المشروعات، وسيطرت على الأنشطة الاقتصادية المهمة داخل سورية بمباركة ودعم النظام المجرم.
ومؤخراً عجز النظام عن سداد ديونه الخارجية، ولذا سارع إلى بيع أصول الدولة للوفاء بتلك الديون والأعباء المستحقة عليها، وقبلها تنازل النظام عن مناجم الفوسفات في تدمر الأهم على مستوى الموارد الطبيعية، وعن رخصة تشغيل الهاتف الجوال ومحطات كهرباء ومستودعات ومحطات للنفط والغاز في مناطق سيطرته لإيران التي حمته من السقوط. تكرر المشهد مع روسيا، والنتيجة أن غالبية موارد البلاد الطبيعية باتت خارج مناطق سيطرته
العربي الجديد
———————
- من أجل إنقاذ سورية/ محمد أبو رمان
08 ديسمبر 2024
لا يمكن اختزال المشهد في حلب وحماة (وتحديداً في حماة) في بُعده الاستراتيجي – العسكري أو حتى السياسي، فهنالك كمّ كبير من الدلالات والمعاني الرمزية والسيكولوجية والإنسانية الدراماتيكية، خاصة في لحظة اقتحام سجن حماة المركزي وإخراج المساجين، وكم لهذا السجن من قصص وحكايات وأساطير وروايات! وكم لحماة من رمزية تاريخية (معاصرة) وسياسية، ليس فقط في المشهد السوري، بل المشهد العربي عموماً، منذ ستينيات القرن الماضي، مروراً بالمجزرة المعروفة في العام 1982، ولاحقاً مع قصة الثورة السورية 2011، وأهازيج إبراهيم القاشوش الشهيرة، الذي انتهى به الأمر- كما تذكر قصص إعلامية- منحوراً وحنجرته اقتلعها شبّيحة النظام السوري حينها!.
وبالرغم من أنّ النظام السوري تقهقر بسرعة أمام ضربات المعارضة المسلّحة، فذلك لا يعني (بالضرورة) نهاية المطاف، إلاّ إن حدث انهيار داخلي سريع، ولم يجد حلفاء النظام وقتاً أو مجالاً للتدارك. مع ذلك، حتى وإن حدث ذلك، فإنّ البنية الطائفية الصلبة في سورية ستجعلنا أمام سيناريو حرب داخلية أو تقسيم جديد على حدود طائفية عرقية، وليس أمام انهيار نظام ديكتاتوري وبروز نظام ديمقراطي، وهو السيناريو (الحرب الداخلية) الذي تؤيده نظريات التحوّل الديمقراطي عموماً، سواء ما كتبه دنكوارت روستو (شدّد على أهمية الوحدة الوطنية في أي عملية انتقال ديمقراطي)، وما كتبه أنصار نظرية التحديث السياسي من اعتبار “الهيرموني” السياسي والثقافي والمجتمعي متطلباً مهمّاً لنجاح التحوّل الديمقراطي، وتجنّب الحروب الأهلية التي تنبثق من الشقوق الاجتماعية والثقافية والعرقية والدينية والتخوّفات المتبادلة بين هذه الشرائح.
ثمّة تحدّيات عديدة، إذاً، أمام المعارضة السورية المسلّحة اليوم، وحتى تكون لدينا ضمانات بألا نستعيد السيناريو الافغاني، بصورةٍ أو بأخرى: الأول، ضرورة وجود تصوّرات واضحة لليوم التالي، ولصورة نظام الحكم السوري، ما يبعد شبح نماذج “طالبان” أو حكومات إسلامية أصولية من مخيّلة السوريين والمجتمعيْن، الدولي والإقليمي، ويؤكّد أنّ النظام البديل ديمقراطي، يقبل الجميع، وأنّ الأقليات وحقوقها وأدوارها موجودة وحاضرة في المعادلة المقبلة، فمعروف أنّ النظام السوري استخدم ورقة الإسلاميين والإرهاب لتخويف العالم من أي بديل، ولعلّ هذه المخاوف هي التي وقفت وراء اختراعه مفهوم “سورية المفيدة” التي تضم الأقليات العلوية والدرزية والمسيحية في مواجهة الأغلبية السنيّة، التي وُسمت بصورة عامة بالإرهاب والتطرّف والأصولية!
يتمثل التحدّي الثاني في مصير هيئة تحرير الشام، التي وبالرغم من أنّها مرّت بتحوّلات أيديولوجية بنيوية، وفصلت نفسها من “القاعدة”، ثم تخلصت من نسبة كبيرة من أنصار “القاعدة”، الذين ذهبوا نحو “حرّاس الدين”، وساهمت الهيئة في التخلص من عدد كبير منهم (بالمناسبة، منهم قيادات أردنية جهادية معروفة)، وهي اليوم تطرح خطاباً مختلفاً وجديداً يحاول تقديم ضماناتٍ- مع ذلك، يشكّل بقاء الهيئة نفسها تحدّياً كبيراً وعنصراً من عناصر القلق، كما أنّها لم تُمحَ من قوائم الإرهاب الأميركية والغربية، فالحل يكمن في أن يكون هنالك تخطيط لحل الهيئة، وتحوّلها إلى أحزاب سياسية متعدّدة، مع نهاية النزاع الحالي.
يتمثل التحدّي الثالث في مصير مؤسسات النظام والجيش والقوات السورية وحزب البعث السوري. ومن المهم أنّ الهيئة أرسلت ضمانات إلى السفارات الغربية بأنها لا تنوي أن تحلّ الدولة ومؤسّساتها، وهذا جيد. لكن من الضروري الوصول إلى تفاهمات مع أطراف داخل بنية النظام الحالي، القوى الراهنة، بحيث تعطى ضمانات لهم ولمستقبلهم، والتركيز على مفهوم العدالة الانتقالية، وتجنب موجات الانتقام، وهو أمر يعدّ في النظريات الديمقراطية، أيضاً، بمثابة متطلّب مهم من متطلّبات نجاح العبور نحو النموذج الديمقراطي، لأنّ القوى القديمة لا تتمثل فقط في رأس النظام، بل في شبكة كبيرة من الموظفين والبيروقراطيين والقوى والمستفيدين والزبائن وغيرهم. سيشعر جميع هؤلاء بالرعب ويقاومون إذا لم يكن هنالك خيار آخر أمامهم. لذلك من الضروري منحهم مخارج سياسية وإنسانية وضمانات أمنية معقولة، واعتبارهم جزءاً من المرحلة الجديدة، كي يكونوا قادرين على تقبّل الانتقال من مرحلة ونظام إلى مرحلة ونظام آخر.
يمثّل التقدّم العسكري الراهن فرصة لإنهاء حكم ديكتاتوري دموي، لكن ثمة شروط للبديل، كي لا تنقلب الفصائل نفسها على بعضها، كما حدث في الحالة الأفغانية، أو حتى تتحوّل إلى حرب داخلية وطائفية. ومن هنا، فإن صيغة سياسية داخلية برعاية دولية – إقليمية هي الضمانة الرئيسية لجميع الأطراف، والدخول في مرحلة سياسية جديدة، ربما دولة فيدرالية تعطي البنى الاجتماعية والسياسية المختلفة ضماناتٍ وتحافظ على حقوقهم..
——————-
سورية إلى أين؟/ صلاح الدين الجورشي
08 ديسمبر 2024
تتواصل التداعيات المزلزلة لحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل في غزّة على الصعيدين المحلي والإقليمي. وما التطورات الهامة والمفاجئة التي تشهدها سورية حاليا سوى دليل على ذلك، فانسحاب النظام من مدن استراتيجية مثل حلب وحماة وغيرها بشكل سريع، وخلال أيام قليلة، يدل بوضوح على الأزمة الخانقة وغير المسبوقة التي يمرّ بها الجيش السوري، رغم عدم دخوله في قتال مع الجيش الإسرائيلي، وبقي يتقبّل الضربات العديدة خلال الأشهر الأخيرة. وقد كشفت المعارك التي خاضها أخيراً ضد المعارضة عن ضعفٍ شديدٍ وارتباك واضح في صفوفه، ما جعله يفضل الانسحاب من المدن الكبرى، في انتظار معركة الدفاع عن النظام في دمشق.
تغيّرت الخريطتان، العسكرية والسياسية، وأصبح حلفاء الأسد يتوقعون الأسوأ بالنسبة لمصير النظام الذي فوّت فرصة العرض المقدم من الرئيس التركي أردوغان، فالمفاوضات التي قد يقبل بها النظام السوري لن تكون في صالحه، وستُظهره في صورة الهيكل الضعيف والمرتبك الذي يدير ثلث البلد بعد خسارته حماه ثم حمص التي تصفها المعارضة بأنها مدينة الثورة.
شرعت أطرافٌ عديدة في الحديث عن مرحلة ما بعد الأسد، وهو السؤال الكبير والمثير للقلق، ليس للسوريين فقط، ولكن أيضا لمستقبل المنطقة، فالشام ليست بلداً صغيراً أو هامشياً. وهو ما جعل الجميع يفتحون من جديد أوراق (وملفات) القوى العسكرية والسياسية المكوّنة للمعارضة السورية بمختلف أطيافها، فهذه المعارضة معارضات وقوى ذات تضاريس متعددة. وقد سبق أن اختلف قادتها، وفشلوا في توحيد صفوفهم وتكوين جبهة حقيقية، وقبلوا في الأخير باتفاق أستانة قبل ثماني سنوات خلت. فهل اليوم، وقد اتّحدوا حول رفع السلاح والقيام بعملية استباقية مكنتهم من إجبار النظام على الانسحاب والتراجع، سيتمكنون من الاستمرار في المحافظة على هذه الوحدة، أم سيختلفون ويتنازعون من جديد، ويعودون إلى تغليب المصالح العِرقية والمناطقية والطائفية والأيديولوجية؟
هناك تخوف إقليمي ودولي، وربما شعبي، من الدور الذي يمكن أن يلعبه القيادي في إدارة العمليات المشتركة التابعة للمعارضة السورية، أبو محمد الجولاني، القائد الأعلى لهيئة تحرير الشام التي كانت تسمّى جبهة النصرة، واعتُبرت في فترة الفرع السوري لتنظيم القاعدة، وصنّفت وزارة الخارجية الأميركية أميرها “إرهابياً عالمياً”. ونظراً إلى أنه يلعب حالياً دوراً قيادياً محورياً في هذه العملية المسلحة التي قد تقلب موازين القوى في سورية، ويُخشى في حالة الانتصار أن تعود البلد إلى وضع لا يتمنّاه الشعب السوري الحائر والممزّق، وتجد المنطقة نفسها من جديد في مرحلة “القاعدة” و”داعش”، وما كان يحصل في الرقة.
يقال إن الرجل تغير بعد أن استقلّ بآرائه، وعدّل في أفكاره، وقبل التعاون مع بقية فصائل المعارضة، لكن المستقبل وحده سيكشف مدى صحة ذلك. الثابت حالياً أن القوى العسكرية والسياسية التي قادت هذا الهجوم المضاد، بما فيها هيئة تحرير الشام، تعاملت بمسؤولية مع المدنيين، ولم ترتكب ما من شأنها أن يوصَف أعمالا إرهابية وإجرامية، فالخطاب مطمئن إلى حد ما، وكذلك الممارسات. غير أن المعارضة، في حال استمرار الهجوم، واتُّخذ القرار بالتقدّم نحو دمشق، ومحاصرة النظام لإطاحته، وقد يقاوم بشدة، ستكون، بمختلف تشكيلاتها، أمام اختبار صعب ومعقد.
سورية بلد متنوّع، وهذا التنوع لابد من المحافظة عليه بمختلف الوسائل، وأن يكون النظام السياسي الجديد قادرا على احتواء هذا التنوع ودسترته. وبالتالي، لا خيار أمام المعارضة سوى تبنّي الديمقراطية، واحترام الحرّيات وضمان حقوق الإنسان للجميع. وهذا ما رفضه النظام منذ استلام حزب البعث السلطة في سورية وفي العراق. صحيح أن البنية الاستبدادية والاحتكارية للحزبيْن تمكّنت من الصمود عشرات السنين، لكن الحصيلة جاءت كارثية. فوضع العراق اليوم مؤلم على جميع الأصعدة، ويُخشى أن تتجه سورية نحو التقسيم أو العجز عن إدارة الدولة، وتآكل الوحدة الوطنية في حال عجزت المعارضة عن توزيع السلطة.
———————-
بشار الأسد هرب وصار للسوريين وطن/ عدنان عبد الرزاق
08 ديسمبر 2024
لأن الأنظمة تسقط من العواصم، ها هم ثوار سورية يعلنون من دمشق، الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، عيدهم الوطني لاستقلالهم الثاني من الاحتلال، بعد أن هرب صبيحة اليوم، بشار الأسد وأسرته وأمواله، ككل مستبد أثيم. أعلنوها من ساحة الأمويين، سورية الدولة الحرة المحررة، من دون عصابة السرقة والتجويع، أعلنوها سورية الجديدة المتطلعة الحالمة، كما محرروها الذين سطروا الإعجاز خلال عشرة أيام، زارعين الأمل من الأقصى إلى الأقصى، إدلب فحلب وحماة وحمص، حتى وصلوا إلى دمشق، بعد أن كسا الإحباط السوريين وأوصلهم اليأس وانسداد الآفق، للموت غرقاً بالبحر وجوعاً وتجمداً على الحدود ما بين الدول، خلال مجازفات البحث عن وطن بديل، ولو بمراتب مواطنة دنيا.
الأمل يبدأ منذ اليوم، باسترداد السوريين سوريتهم، والبحث بما يلزم اليوم التالي، يوم ما بعد السقوط وإعلان التحرير. يوم لن ينساه السوريون ولا العالم، بعد أن واظبوا بطريق حريتهم للوصول إلى الدولة، رغم قتل واعتقال وتهجير نصف السكان. البحث عن صيغة تعايش وعقد جديد، يقوده مجلس مشترك أو حكومة طوارئ أو أي نمط حكم عاجل، يحفظ مكاسب التحرير، من دون أن يفرّط بالمؤسسات والمقدرات والكوادر أو حتى يشوّش على أمل المنتظرين وطناً، ليعودوا من منافيهم وبلدان لجوئهم.
قصارى القول: عانى السوريون خلال حقبة الأسدين، ومنذ 55 عاماً، كل أشكال الاضطهاد ومصادرة الحقوق وإلغاء المواطنة، لتأتي السنين العجاف، خلال انتفاضة السوريين منذ عام 2011، بأشكال جديدة من القصاص، إن عبر القتل والاعتقال لكل من اقترف جرم المطالبة بحقوقه والعدالة باقتسام الثروة، أو التهجير بهدف العبث بالبنية السكانية والتغيير الديمغرافي، لمن حالفه الحظ ونجا من الموت والسجون… وليبقى ما بينهما، سواد السوريين الأعظم، يكابدون أسوأ ظروف العيش، وأقسى المعاناة لتحصيل الحد الأدنى من شروط العيش الآدمي.
ولئلا نقع فريسة الفرحة الغامرة بخلع الأسد وتحقيق حلم السوريين، وتأخذنا الإنشائية، هاكم بعضاً من واقع السوريين حتى يوم أمس، ليعرف العالم، كل العالم، أن هذه العصابة التي سرقت سورية وأسرت شعبها، يلزمها ألف ثورة وثورة. ومن مثال المعيشة ربما، اختزال ودليل، إذ لا يزيد متوسط دخل السوري على 300 ألف ليرة (الدولار= 15 ألف ليرة على الأقل)، فيما تزيد نفقات الأسرة شهرياً على 13 مليون ليرة، ولعل في هذا المثال وحده دليلاً وتأكيداً لسياسة التفقير والتجويع التي اعتمدتها عصابة المخلوع، ليبقى السوريون أسرى لقمة عيشهم بعيدين عن المطالبة بحقوقهم أو التطلع إلى الحرية.
وحتى يجسر السوريون هاتيك الفجوة الهائلة، بين الدخل والإنفاق، تاهوا بإيجاد عمل ثانٍ أو دخل إضافي، بواقع تلاشي فرص العمل وزيادة نسبة البطالة على 85%، وهاموا على وجوههم، ساعين للخلاص، ولو على مركب مطاطي قد يحيلهم غذاءً لسمك البحار، بعد أن فقدوا الأمل بوطن مسروق، ليأتي الخلاص عبر أحداث متسارعة، كسرت جميع قوانين الصيرورة وبدلت من طرائق سقوط المستبدين، معلنة نهاية كابوس وبداية حلم، مشرعة السؤال الأصعب، كيف ومن أين ستكون البداية.
قد يمكن الانطلاق من بيان رئيس حكومة النظام البائد بشار الأسد، محمد غازي الجلالي، الذي تلاه من منزله فجر اليوم الأحد، ليؤكد هروب الأسد وانتهاء عصر العصابة المافيوية، ويدعو بالآن نفسه، إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة، مبدياً استعداده للقيام بمهمة الإدارة المؤقتة ريثما يحصل التسليم خلال فترة التحوّل، من دون المساس أو تبديد أي وثيقة أو حقوق ملكية بمؤسسات الدولة.
ولأن المحررين يسعون للبناء والحرص على كل الموجودات والمقدرات، جاء الرد فوراً من القائد العام لإدارة العمليات للمعارضة المسلحة، أحمد الشرع “الجولاني”، مخاطباً القوات كافة في مدينة دمشق: “يُمنع منعًا باتًا الاقتراب من المؤسسات العامة، والتي ستظل تحت إشراف رئيس الوزراء السابق حتى يتم تسليمها رسمياً”، الأمر الذي يعزز الأمل لدى السوريين، بالحفاظ على مؤسساتهم، رغم الذي لحقها من تخريب واستنزاف، خلال فترة التجميد وسياسة التهديم الممنهج التي كانت ضمن أولويات بشار الأسد والدور الوظيفي الذي قام به منذ تطلع السوريون إلى الحرية مطلع عام 2011، ويمنح الطمأنة لجميع العاملين في المؤسسات السورية، اقتصادية كانت أو خدمية، أنهم شركاء خلال الفترة المقبلة، الثقيلة بحملها وأمانيها، وليسوا أعداءً أو مفصولين من عملهم، وفق ما حاول نظام الأسد البائد، تكريسه ضمن حملات التخويف وشيطنة المعارضة، ليبقى فقط، على كرسي أبيه.
نهاية القول: كثيرة هي الأفكار والأماني، وأكثر منها ربما، ما يجب فعله على الأرض، لتبقى عجلة المؤسسات تدور، ولو بأقل من سرعة الأمل واستعادة سورية ما قبل حكم البعث وعصابة الأسد، لتتم، خلال مرحلة الأمل والتحوّل، جدولة الأولويات ولزوم ما يلزم، التي تبدأ من تصحيح النظرة الكئيبة، عن سورية والسوريين التي التصقت بهم، خصوصاً من بلدان لجوئهم، لا تنتهي عند ملاحقة الأسد لمحاكمته على جرائمه واسترداد الأموال المنهوبة، وما بين حدي هذا التطلع، يأتي البناء والإعمار والاستثمار وتكريس المواطنة، إذ بظل ما نرى من إعلان المحررين، للتشاركية والمؤسسية وتحريم الثأرية والانتقام، كل شيء ممكن وهيّن ومعقول.
العربي الجديدة
———-
العجز عن الفهم كان مشكلة بشار الأسد الأهم/ د. هيثم الزبيدي
بشار الأسد مثال على الشخص الذي يمعن في إضاعة الفرص التي تقدمها إليه الأقدار. هو ابن الصدف السياسية والأقدار ظل يعول على بقاء الأقدار على ديدنها معه بأن تلقي له بالمزيد من الفرص.
الاثنين 2024/12/09
لم يتعلم من بيئته ولا من بيئة زوجته
كل محاولة لتفسير ما جرى في سوريا خلال الأسبوعين الماضيين، بدءا من دخول قوات هيئة تحرير الشام حلب ووصولا إلى دخولها دمشق وإسقاط نظام بشار الأسد، ستصطدم بنقطة عصية على التفسير. حدث كل شيء بسرعة. الانهيار الشامل للنظام أمام قوة متوسطة الحجم مثل قوة الهيئة، يصعب وضعه في إطار التحليل السياسي أو العسكري. لكن من الواضح أن نظام بشار الأسد في مرحلة ما بعد “انتصاره” في الحرب الأهلية، استنفد الزمن في عملية تآكل داخلية كبيرة حولته، بكل ما للكلمة من معنى، إلى نظام أجوف.
قد يقول البعض إن النظام لم ينتصر أصلا، ولكن كل الأطراف خرجت مستنزفة إلى درجة أن لا أحد يريد ادعاء النصر في الحرب، فبادر الأسد وقال “أنا المنتصر”. هذا وارد بالطبع، لكن كان بوسع النظام أن يستمر في التواري خلف أرقام عديده من الجند والأمن، وخلف دعم روسي وإيراني. لكن العديد كان يتطلب إنفاقا كبيرا لا يتوفر لدى النظام بحكم وضعه كنظام مغضوب عليه دوليا بسلسلة عقوبات. في حين انشغل الروس بحربهم في أوكرانيا التي تحولت إلى مواجهة شاملة مع الغرب، وتخبط الإيرانيون بمغامرة حماس في هجوم “طوفان الأقصى” وانجرار حزب الله إلى المغامرة وصولا إلى تدمير شبه كامل لحماس وغزة من جهة، وقطع رأس حزب الله وتفكيك هيكليته بضربات إسرائيلية ستدرّس يوما على أنها حبكة حربية أشبه بمشهد درامي معد سلفا، لم يفلت فيه المخرج من يده أدقّ التفاصيل.
في قلب التفسيرات يقف بشار الأسد بحكم كونه اللاعب الأول في دراما الأسبوعين الماضيين. ما حدث هو تكرار لطبيعة عجز الأسد، لمرات بعد مرات، عن فهم أهمية الزمن وعن إدراك قدرة الحدث الجديد على إزاحة المشهد القديم. فخلال ثلاثة عقود من تواجده السياسي في الموقع الأول (أو شبه الأول) في السلطة، لم يتمكن الأسد من التحرك بوعي يتناسب مع الزمن وحراجة الموقف. إذا صح القول، فإن الرئيس السوري السابق بشار الأسد مثال على الشخص الذي يمعن في إضاعة الفرص التي تقدمها إليه الأقدار. بشار الأسد، ابن الصدف السياسية والأقدار، ظل يعول على بقاء الأقدار على ديدنها معه بأن تلقي له بالمزيد من الفرص. هذه المرة، تركته الأقدار لمصيره.
لا نريد الخوض عميقا في تاريخ أسرة الأسد. يكفي أن نقول إن حافظ الأسد أحسن اقتناص فرصة الوصول إلى الحكم، وحالما وصل إلى الحكم لم يترك شيئا لم يفعله كي يستمر حاكما مطلقا لسوريا.
لم يكن ثمة شيء اسمه بشار الأسد تقريبا إلى حد ذلك الفجر المظلم الذي أضاف إليه الضباب المزيد من العتمة. قُتل باسل الأسد، الأخ الأكبر لبشار، ليولد بشار كوريث محتمل لوالده (ولسلطة أسرة الأسد التي لا ينقصها طموح العم أو أولاد العمومة أو أولاد الخؤولة). قُتل باسل في حادث على طريق المطار، وسارع الأسد الأب إلى استدعاء ابنه “المجهول” من كلية طب العيون في لندن.
كانت هذه أول فرصة أضاعها بشار الأسد. الأب كان ضعيفا وبحاجة إلى من يسنده بعد أن راهن على باسل واستبعد أخاه رفعت. لكن بدلا من أن “يتدرب” الأسد الشبل على أن يصبح رجل دولة محنكا، تلهى بالحديث عن الجمعية المعلوماتية السورية، وكان كلما تحدث عن المستقبل ربط الأمر بانتشار الإنترنت في سوريا وقدم هذا الانتشار على أنه معجزته القادمة. هذا كان سقف بشار السياسي بداية من موقعه شبه الأول من خلف والده، إلى حين وفاة حافظ الأسد عام 2000.
كان وصوله إلى الرئاسة الفرصة الثانية التي بددها يوم وصل تقريبا. فقد استقبله السوريون كشخص عاش لفترة (مهما كانت قصيرة) في الغرب، وتزوج من سورية درست وعملت في بريطانيا، ما يعني أنه سينقل بعضا مما تعلمه أو تعلمته زوجته إلى واقع سوريا. لم يطلب السوريون ديمقراطية أو مرونة في الحكم، واكتفوا بأن يروا شيئا من الهدوء في التعامل بين السلطة والمواطن ينسيهم قسوة الأب. صرنا نسمع السوريين يبشرون بعهد بشار، في حين تعامل الرئيس الشاب مع الوضع المستجد كما لو أن الدهر كله له. لا شيء كان يبدو مستعجلا عند الرئيس، واستمرت المماطلات في كل شيء. بعد فترة أضاف الرئيس الشاب خليطا عجيبا لعلاقاته الإقليمية والدولية، إذ لم يكتف بعلاقات مصلحية محسوبة على طريقة أبيه حافظ مع الإيرانيين وحزب الله وحماس، بل صدّق الأمر وصار مؤمنا بطورين متجانسين من الإسلام السياسي هما الطور الخميني والطور الإخواني. سجل الأسد سابقة سياسية بالإيمان بالخلاص على يد حزبين دينيين وهو زعيم حزب البعث القومي العلماني.
بعد فترة بدأ السوريون يفقدون حماسهم، ثم ركض الأسد خلف الوهم الإيراني من بوابة حزب الله وبدأ سياسة معادية للخليج وتصادم مع السعوديين من دون سبب مفهوم سوى قدرته المذهلة على عدم فهم ما يجري.
ذهبت المنطقة إلى اغتيال رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان وحرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل، وبقي بشار الأسد على “دهريته” في أن الزمن لصالحه وأن ما لا يُصلَح اليوم، فمن الممكن إصلاحه بعد عقد أو عقدين. تحرك الإقليم وتغير بشكل كبير بعد غزو العراق، وبقي الأسد عاجزا عن فهم خطورة ما حدث وأنه يصب في صالح الإيرانيين، وأنه بقصور فهمه واستيعابه صار الحلقة التي أوصلت الإيرانيين عبر العراق إلى المتوسط. إنها الحلقة نفسها التي ربطت مع حزب الله موضوع الهيمنة الإيرانية على لبنان والشأن الفلسطيني. لم يتمكن من إدراك حجم التهديد الذي كانت المنطقة تواجهه بأن تحول المشروع الأيديولوجي الإيراني إلى مشروع إمبراطورية شيعية.
حينما تستمع لما كان الأسد يقوله، تصير لا تصدق أذنيك إذا كان فعلا يؤمن بما يقول. ومع عدم قدرة الآخرين على تصديق ما يقوله الأسد، كان الأسد يضيع المزيد من الفرص، إلى أن وصلنا إلى نكبة الربيع العربي. فخلال أسابيع تمكن الأسد، وبدلا من احتواء الأزمة، من تحويل حركة احتجاجات شعبية إلى حرب أهلية كاملة الأوصاف. لا حاجة إلى الحديث عن المستوى البشع الذي وصلت إليه الأوضاع في سوريا فهذا أكثر من موثق. لكن تكفي الإشارة إلى أن تراجع العنف بعد سنوات كان يفترض أن يفتح الباب للعثور على حل. إلا أن الأسد، مرة أخرى، عجز عن فهم عامل الزمن وأهمية التوقيتات، وترك الأمر لينجرف سنوات وصولا إلى الفترة الأخيرة من حكمه.
شهدت الأعوام الأخيرة من حكم الأسد إعادة انفتاح عربي على النظام، ومنح أكثر من فرصة وصار مشهد حضوره القمم العربية والإقليمية مألوفا. لم يستفد الأسد من الانفتاح العربي عليه، بل ساعد الانفتاح على حلحلة العلاقة مع عدوه اللدود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. لوهلة، بدا أردوغان وكأنه يتوسل المصالحة مع الأسد، وفي المقابل واصل الرئيس السوري تمنعه لضعف في إدراك أن الأمور لا تبقى محصورة في الأسود والأبيض، معك وضدك. التمنع السوري كان سمة السنوات الطويلة من حكم الأسد الابن، لكنه صار مشكلة متأصلة أعجزت حتى من يريد مساعدته من الدول العربية التي كانت تدرك أن العالم يتغير بسرعة كبيرة وأنه لن يترك “دهر الأسد” على حاله.
لعل آخر تجسدات عهد العجز عن الفهم كان في عدم قدرة الأسد على استيعاب ما كان يحدث على بعد خطوات عنه، بل في عقر داره. دمرت إسرائيل حماس، ودمرت قدرا كبيرا من رصيد إيران العسكري والسياسي في سوريا، ثم التفتت إلى تدمير حزب الله. كان الأسد على موقفه “الزعلان” من حماس، والمقتنع بأن حزب الله قوة لا تقهر لن تستطيع إسرائيل النيل منها، وأن الردع “حقيقة” إيرانية في مواجهة إسرائيل وليس مجرد جداريات لصواريخ على حيطان طهران أو تقدم خلال استعراضاتها. وحتى حين خضع كل شيء للاختبار وسقط فيه، منذ اليوم الذي تمكنت فيه إسرائيل من توجيه ضرباتها إلى كبار قادة الحرس الإيراني في سوريا، وتقطيع أوصال حزب الله باستهداف كل عضو ذي حيثية في هيكليته عبر استهداف البيجر والووكي توكي، ثم قتل حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، فسر الناس صمت الأسد على أنه حلم إستراتيجي. لم يكن أحد يتخيل أن العجز عن الفهم وصل إلى هذا المدى مع الرئيس السوري.
انتهى الأمر، وسقط النظام وأخذ (وسيأخذ) معه الكثير من الاستثمار السياسي والمالي والإستراتيجي الإيراني. لم يمر يوم سيء على إيران وقيادتها مثل فجر يوم 8 ديسمبر 2024 وسقوط نظام الأسد. إيران، التي بدت وكأنها تخلت عن الأسد، استوعبت مبكرا ما يحدث بعد أن تم تدمير قوتها الصاروخية والمعنوية على يد إسرائيل. تركت الأسد يموت موتا سريعا لتلتفت إلى ما يمكن إنقاذه من بقايا أحلام إمبراطوريتها. لا وقت لديها لإطالة التأمل تحت غطاء تصنّع الحكمة، على حال ما كان يفعل الأسد.
إذا كان ثمة شيء يمكن أن يتعلمه السوريون من العجز عن الفهم وعدم القدرة على إدراك عامل الزمن، فهو أنهم أمام فرصة فهم وإدراك تدفع بهم بعيدا عن الوضع الذي وصلوا إليه. بعض الخليجيين -ممن بقوا حريصين على سوريا رغم كل ما حدث من الأسد ونظامه- لا يزال يريد العمل على إنقاذ سوريا من كبوتها الطويلة. ومن بينهم من مد اليد ووصل إلى مرحلة أولى في الإنقاذ، ولا شك أنه سيستمر في دعمه للسوريين. هذه فرصة ربما لن تتكرر، ومن الضروري أن يلتقطها السوريون وألا تتحول إلى جزء من لعبة سياسية إقليمية بسبب أطماع لصغار. الحظ لا يستمر في قرع الباب نفسه لمرات.
كاتب من العراق مقيم في لندن
العرب
——————-
نجحت تركيا حيث فشلت إيران…/ خيرالله خيرالله
انتصار تركيا في سوريا سيظلّ موضع تساؤل بسبب استخدامها التطرّف الإسلامي ممثلا بفكر الإخوان المسلمين، وستواجه في سوريا عقبات مثل تلك التي واجهت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في مرحلة معيّنة.
الاثنين 2024/12/09
انتصار.. لكنه موضع تساؤل
سقط النظام السوري. نجحت تركيا حيث فشلت إيران التي سيطرت على البلد عبر ميليشياتها، خصوصا “حزب الله” اللبناني. رحل بشّار الأسد الذي لم يكن أكثر من شخص مريض نفسيا وحل مكانه أبومحمّد الجولاني الذي كشف أخيرا عن اسمه الحقيقي أحمد الشرع. هل يكون أحمد الشرع غير أبومحمد الجولاني زعيم “هيئة تحرير الشام” الذي وضعت أميركا جائزة عشرة ملايين دولار على رأسه بصفة كونه إرهابيا؟
استفادت تركيا إلى أبعد ما يمكن أن تستفيد، على الصعيد السوري، من تراجع المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة. جاء التراجع نتيجة الضربات التي تلقاها “حزب الله” في لبنان و”حماس” في غزّة. كانت لـ”طوفان الأقصى”، وهو الهجوم الذي شنته “حماس” انطلاقا من غزّة في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023، نتائج عكسية على المشروع الإيراني. اعتقدت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في البداية، عبر الحروب الموازية التي شنها بدءا بفتح جبهة جنوب لبنان، أنّه ستلد من رحم “طوفان الأقصى” أوراق ستستخدم في التوصل إلى صفقة إيرانيّة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي.
لم تدرك إيران أنّ “طوفان الأقصى” غيّر المنطقة. يبدو أن تركيا، عبر الطريقة التي اعتمدتها من أجل الاستحواذ على الورقة السورية، تسير حسب النهج الإيراني. سيظهر قريبا هل ما فعلته تركيا في مصلحة سوريا… أم تثير سيطرتها على البلد مخاوف من انطلاقة جديدة للإسلام السياسي على الصعيد الإقليمي؟
من دون تركيا ودعمها، لم يكن ممكنا لمجموعات المعارضة السوريّة، بمن في ذلك “هيئة تحرير الشام” (“النصرة” سابقا)، تحقيق ما حققته وصولا إلى السيطرة على دمشق وصدور البيان الرقم واحد. إن السؤال الذي يظلّ مطروحا ما الذي لدى “هيئة تحرير الشام” أن تقدّمه لسوريا، مهما استخدمت من أدوات تجميل وتغطّت بتنظيمات أخرى بعيدة عن التطرّف الديني مثل “الجيش الوطني”؟
ستواجه تركيا صعوبات سوريّة نظرا إلى أنّ المشروع الذي تطرحه لا يمتلك أسسا تأخذ في الاعتبار تركيبة المجتمع السوري. سيرفض هذا المجتمع في كلّ وقت أن يكون تحت حكم الإخوان المسلمين وتلك التنظيمات التي ولدت من رحمه، مثلما رفض الميليشيات المذهبيّة التي جاءت بها إيران، إلى الأراضي السوريّة لحماية النظام العلوي.
تأخّرت تركيا برئاسة رجب طيب أردوغان في دعم الثورة الشعبيّة في سوريا في بداياتها. كانت لديها فرصة حقيقيّة في 2011 لتحقيق حسم سريع قبل أن تبدأ “الجمهوريّة الإسلاميّة” في نشر ميليشياتها المذهبيّة في مختلف الأراضي السوريّة. شمل ذلك ميليشيا “حزب الله” التي لعبت دورا كبيرا في حماية دمشق وتغيير طبيعة التركيبة الديموغرافيّة في محيطها.
سيظلّ انتصار تركيا في سوريا موضع تساؤل بسبب استخدامها التطرّف الإسلامي ممثلا بفكر الإخوان المسلمين. ستواجه تركيا في سوريا عقبات مثل تلك التي واجهت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في مرحلة معيّنة، في حال لم تتنبه إلى الخصوصيّة السوريّة.
اضطرت إيران ابتداء من العام 2015 إلى الاستعانة بروسيا كي تمنع سقوط النظام العلوي الذي قام عمليا في العام 1966 ورسّخه حافظ الأسد في 1970. دخلت موسكو طرفا مباشرا في الحرب السوريّة منذ ذهب إليها قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري”، الذي اغتاله الأميركيون مطلع العام 2020، مستنجدا. لبت روسيا الطلب الإيراني وحالت، عبر القاذفات الروسية التي كانت تنطلق من قاعدة حميميم قرب اللاذقيّة، دون سقوط الساحل السوري والمناطق القريبة منه، معقل الوجود العلوي في سوريا.
لا يمكن تجاهل أنّ لدى تركيا مصلحة في أن يكون الشمال السوري منطقة آمنة يستطيع السوريون الموجودون في أراضيها العودة إليها. عدد هؤلاء يتجاوز ثلاثة ملايين. تحوّل وجود هؤلاء في تركيا تهديدا للاستقرار الداخلي. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أيضا أنّ سوريا في حاجة إلى ما هو أهمّ بكثير من ذلك. أي أنّها في حاجة إلى مشروع عربي خاص بها. الحاجة السوريّة إلى تسوية سياسية تأخذ في الاعتبار كلّ مكونات المجتمع السوري، بمن في ذلك الأكراد، وكلّ المناطق السورية.
اعتقدت إيران، إلى ما قبل فترة قصيرة، أنّ في استطاعتها تغيير الديموغرافيا السوريّة عبر حملات التهجير والتشييع التي شنتها. جاء وقت اعتراف إيران أنّها ليست في وضع يسمح لها بالاستمرار في مشروعها الإقليمي، لا في سوريا ولا في لبنان ولا حتّى في العراق. أكثر من ذلك، سيكون وجود الحوثيين وسيطرتهم على شمال اليمن موضع تساؤل.
في الإمكان بلورة مشروع عربي متكامل لسوريا يحول دون تفكّك البلد الذي تحوّل بسبب العلاقة العضوية التي أقامها النظام السابق مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” خطرا على أمن الخليج وعلى الأردن. كان الخليج يعاني من تهريب المخدرات، خصوصا الكبتاغون عبر الأردن انطلاقا من الأراضي السورية. كان هناك أيضا تهريب سلاح من سوريا إلى الأردن بغية ضرب الاستقرار فيه. فوق ذلك كلّه، صار هناك وضع جديد في لبنان في ضوء هزيمة “حزب الله” في حربه على إسرائيل من جهة والإصرار الإسرائيلي على وقف تهريب السلاح الإيراني إلى لبنان عبر الأراضي السوريّة من جهة أخرى.
الأولوية في هذه المرحلة لإنقاذ سوريا، كل سوريا، والحؤول دون تشظي البلد في وقت لم يعد وجود للنظام وفي وقت لن يكون في استطاعة العراق لعب الدور المطلوب منه لسدّ الفراغ الناجم عن التراجع الإيراني. لدى العراق، في ظلّ حكومة محمّد شياع السوداني، المنحازة إلى إيران، ما يكفي من المشاكل الداخلية كي تتواضع حكومته قليلا وتبتعد عن لعب الدور الذي يطلبه منها “الحرس الثوري” الإيراني.
حسّنت تركيا موقعها في سوريا، لكنه يفترض بها إدراك أنّ ملء الفراغ الناجم عن التراجع والانكفاء الروسيين لا يكون عبر السير على خطى إيران… والاستعانة بإرهابيين لا فارق كبيرا بينهم وبين الميليشيات المذهبيّة التي استعانت بها “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة!
العرب
————————
آن لسوريا أن تستريح/ علي قاسم
كل شيء غامض عن ماضي أحمد حسين الشرع وحاضره ومستقبله؛ ماذا يخفي هذا الشاب الأنيق الذي يتحدث بهدوء عن التسامح والمصالحة ويحذر من ممارسة أعمال انتقامية ويدعو إلى احترام حقوق الأقليات؟
الاثنين 2024/12/09
صورة أقوى من ألف بيان
بعد أكثر من ستين عاما من حكم الحزب الواحد، أراد السوريون التغيير حتى لو كان البديل هو الشيطان نفسه. هذه الحقيقة رفض النظام السوري إدراكها رغم أكثر من نصف مليون قتيل منذ بدء أحداث 2011 حتى اليوم. ورغم 12.3 مليون شخص هجروا سوريا، يقيم أكثر من نصفهم في مخيمات بدول مجاورة وفي ظروف يمكن أن توصف بأنها لا إنسانية.
في 8 مارس- آذار 1963 استلم حزب “البعث” الحكم في سوريا. كنت آنذاك في التاسعة من عمري، واليوم أتممت عامي السبعين. لم يتبدل المشهد على مدى الفترة المذكورة، وفي أي انتخابات كانت تجري يكون فوز البعثيين مضمونًا مسبقًا.
أمضيت خارج سوريا أكثر من أربعين عامًا. لم أكن يومًا من المعارضة ولم أكن يوما مؤيدا للنظام الحاكم. زرت سوريا مرتين، ليس بسبب الجفاء، ولكن لسبب بسيط؛ كلما دخلت سوريا انتابني إحساس بأنني أدخل معتقلًا كبيرًا أخشى أن تُقفل أبوابه عليّ.
هذا الشعور يعيشه الملايين من السوريين الذين احترقوا شوقًا لزيارة بلدهم، ولكنهم خشوا الوقوع أسرى داخل جدران المعتقل الكبير. الغريب، بعد ذلك، أن أي مسؤول سوري كان يردد أن الحكم في سوريا ديمقراطي ويحترم حقوق الإنسان. ويبدو لي أنهم بمرور الوقت باتوا يصدقون الكذبة التي أطلقوها.
أي ديمقراطية تحدثوا عنها ونصف الشعب السوري يعيش في المنافي بعيدًا عن الوطن؟
رغم كل الفرص التي مُنحت للحكومة السورية لتحقيق المصالحة، كانت في كل مرة تختلق المبررات والأعذار للتنصل من تنفيذ ما تعهدت به.
حتى بعد الضربة الأخيرة التي وُجهت إلى حماس وحزب الله في لبنان وتجريد إيران من أذرعها، رفض بشار الأسد اليد التي مدها إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمصالحة. ما أراده النظام دائما هو معارضة يفصّلها على مقاسه ويضمن معها الجلوس إلى طاولة المفاوضات لتحقيق مكاسب مسبقة.
عندما سقطت مدينة حلب ومن بعدها حماة، رفضت أن أصدق ما يحدث. كنت أخشى أن يكون ذلك بداية مجازر ومذابح جديدة تُرتكب بحق الشعب السوري. وكنت أخشى أكثر أن تنتهي سوريا لتكون بين أيدي تنظيمات إرهابية، خاصة أن الحراك يتزعمه تنظيم هيئة تحرير الشام المصنفة ضمن التنظيمات الإرهابية بقيادة أبي محمد الجولاني.
بادرت إلى الاتصال بأصدقاء يعيشون خارج سوريا، وهالني أن أسمع منهم أنهم لا يمانعون في أن يكون الجولاني بديلًا عن بشار الأسد. يكفيهم أن يعودوا إلى سوريا أو يقوموا بزيارتها دون أن يتعرضوا للمضايقات، حتى لو كان الشيطان يحكمها.
انكفأت على نفسي ورحت أبحث عن معلومات عن “الشيطان” الذي قد يكون شريكا في حكم سوريا. سبق أن سمعت باسم الجولاني، ولكني لم أكترث يومًا بمن يكون، ولم أنشغل بالبحث عن معلومات عنه. كان يكفي أن أعرف أنه متهم بالإرهاب.
ماذا يخفي هذا الشاب الأنيق الذي يتحدث بهدوء عن التسامح والمصالحة ويحذر من ممارسة أعمال انتقامية ويدعو إلى احترام حقوق الأقليات؟ باستثناء علاقته الموثقة مع تركيا، كل شيء غامض عن ماضي وحاضر ومستقبل أحمد حسين الشرع، المكنى بأبي محمد الجولاني. الشاب الذي عاد إلى سوريا عام 2011 بعد سبع سنوات قضاها مقاتلًا ضمن تنظيم القاعدة برفقة خمسة مقاتلين، لتأسيس فرع للقاعدة باسم جبهة النصرة. حتى مكان مولده وتاريخه مازال موضع خلاف.
سرعان ما تنامت مجموعة الخمسة مع انضمام أعداد متزايدة إليها لتضم اليوم قوة عسكرية كبيرة يتراوح عدد المقاتلين فيها بين 20000 و30000 مقاتل. خلال 13 عامًا لم يُكشف الكثير عن شخصية الجولاني، وبدا الأمر وكأنه يستمتع بالغموض الذي ضربه حول نفسه، بما في ذلك تاريخ ولادته ومكانها.
وهنا لا بد من ملاحظة أن الجولاني الذي اتهم بالإرهاب من قبل الولايات المتحدة، غيّر خلال هذه السنوات اسم المجموعة إلى جبهة فتح الشام، ثم عاد لتغييره ثانية ليبتعد به عن الإيحاء الإسلامي، حيث أسقط كلمة “فتح” لتحل محلها كلمة “تحرير”.
التغيير لم يطَل الاسم فقط، بل تغير المظهر وتبدلت الملابس، ومعها تبدلت القناعات. في عام 2013، أجرى مقابلة دون أن يكشف عن وجهه، وقال إن ما يسعى إليه هو أن يرى سوريا تُحكم بموجب الشريعة الإسلامية، وأن لا مكان فيها للأقليات.
بعد ثماني سنوات ظهر في مقابلة مع محطة “بي بي أس” الأميركية في برنامج “فرونت لاين” مرتديًا قميصًا وسترة، ليؤكد أنه يعارض قتل الأبرياء -بالطبع لم يذكر كيف يفرق بين المذنب والبريء.
منذ شهرين تقريبًا كتبت أن العودة إلى الوطن حلم يراود 12 مليون سوري اضطروا إلى النزوح واللجوء. وقلت إن دمشق تحتاج إلى اتخاذ خطوات جادة لبناء الثقة مع هؤلاء المهجّرين. يجب أن تكون هناك ضمانات حقيقية لسلامتهم وحقوقهم، والأهم أن يشعروا بأنهم مرحب بهم في وطنهم دون خوف من الانتقام أو الاعتقال.
كل ما كان على النظام السوري عمله هو الإصغاء لهؤلاء وبث الطمأنينة في أنفسهم بإعلان العفو العام. النظام ومؤيدوه عملوا عكس ذلك تماما بإصرارهم على إدانة كل من غادر سوريا واعتباره خائنًا.
لو لم يصم النظام السوري آذانه، لجنب نفسه وجنب البلد كل هذه المآسي. لكن، مع الأسف، لم يتخذ النظام أي خطوة في هذا الاتجاه. لذلك، لا يهم السوريين اليوم أن يكون الشيطان الذي يعرفونه أفضل من الشيطان الذي لم يتعرفوا عليه بعد. ما يهم هو أن تصان حريات الأقليات وحقوقها، وأن تسقط جدران المعتقل ويعود اللاجئون والمنفيون إلى المنازل التي هُجّروا منها.
آن لسوريا بعد كابوس استمر أكثر من ستين عاما أن تستريح.
كاتب سوري مقيم في تونس
العرب
————————-
دروس من سوريا/ طارق الحميد
08 كانون الأول 2024
منذ فترة طويلة وأنا أكتب هنا أن سوريا التي نعرفها، قد انتهت، والآن، وعطفاً على الوقائع على الأرض نتحدث عن ملامح التدهور، وبالتالي دروس التدهور بمنطقتنا، وهي الأهم.
هذه الدروس لا بد من التذكير بها الآن من أجل سوريا أفضل، سوريا المواطنة، والاستقرار، والدروس كثيرة، ومجنون مَن لا يتعظ. وأول هذه الدروس بمنطقتنا أن من يذهب لا يعود، والصومال خير مثال، والأمثلة كثر.
وعلمتنا دروس التدهور أن كل مَن يسقط في منطقتنا، ونتاج عبث، أو أخطاء، أو نتاج مجموعة من حالمين، يخلفه تطرف أشد مما سبق، والأمثلة أيضاً كثيرة، سواء في إيران، أو العراق، وليبيا.
ومنذ ما عُرف زوراً بالربيع العربي، وثورته الحقيقية كانت الثورة السورية، والجميع يعرف أن مصر ليست تونس ولا ليبيا، ولا اليمن، فلكل دولة سياقات ونسيج، ومخاطر مختلفة.
مصر، مثلاً، تميّزت بوجود المؤسسة العسكرية القوية الفاعلة، والحامية للمكون المصري، ولذا لجأ لها المصريون جميعاً بوصفها منقذاً في لحظة اختطاف الإخوان المسلمين للدولة، ومحاولة تحصين قرارات الرئيس الإخواني دستورياً.
هذا الأمر لم يتحقق لليبيين، أو اليمنيين، وإن كان تحقق للتونسيين، بدرجة مختلفة، بينما هذا الأمر لا يتحقق للسوريين الآن، وسوريا ليست العراق الذي حل جيشه بعد الغزو الأميركي، بل إن سوريا ونظامها في لحظة تدهور، ونتاج عمل مسلح.
وأقول «مسلح» ليس لأنه انقلاب، بل نتاج سنوات من صراع مسلح، ومنذ 2011، استعان به النظام بقوات خارجية لمواجهة مطالب اجتماعية، أشعلها تصرف صبية كتبوا على الجدار «جاك الدور يا دكتور»، وكان يمكن حلها بكل سهولة، لكن النظام كابر.
تصدع النظام كان بسبب تجاهل الوطن والمواطن ولعب دور مؤامراتي بكل المنطقة، ولا أذكر نظاماً ارتكب كل تلك الأخطاء، ومنح الفرص، كما منح نظام الأسد، لكن تلك قصة تكتب في حينها.
أهم دروس التدهور بمنطقتنا أن القادم ليس دائماً أفضل، وطريق الإصلاح والبناء طويل، وهو طريق عدد الأصدقاء الصادقين فيه محدود، وأشبه بالخيال، ففي عالم السياسة كل يبحث عن مصالحه.
هناك إيران التي فقدت مشروعها التاريخي. وهناك الميليشيات التي فقدت خطوط الإمداد. وإسرائيل التي لا يمكن أن يؤمن جانبها بتلك المنطقة، وهذه اللحظة. وهناك الروس، ومصالحهم على المتوسط، وأكثر من ذلك.
وعليه، فإن أهم ما لدى السوريين الآن هم السوريون أنفسهم، والذين هم من دون مؤسسات دولة، ومؤسستهم الوحيدة هي العقول السورية المتعلمة والمثقفة، والراغبة في دولة للجميع، دولة تحتوي الكل من أقليات وخلافه.
دولة يتوق كل عاقل، وداعي استقرار، ومؤمن بالمواطنة، إلى وجودها وبعيداً عن الآيديولوجيا، وإنما دولة تطور وتكنولوجيا، وحينها سيجد السوريون أنفسهم أهم مما سبق؛ حيث بمقدورهم أن يكونوا نقطة الربط بين الخليج والشام عموماً وتركيا، وامتداداً إلى أوروبا.
وسيجدون شركاء حقيقيين في الخليج العربي، وعلى رأسه السعودية دون منازع، اقتصادياً واجتماعياً، وثقافياً. لذلك أهم دروس التدهور هو الحفاظ على المؤسسة السورية الأهم الآن، وهي العقل.
الشرق الأوسط»
————————
ماذا بعد الأسد؟/ د. سعيد الحاج
8/12/2024
كان اجتماع الدول الضامنة الثلاث وفق مسار أستانا، تركيا وإيران وروسيا، في الدوحة الفرصة الأخيرة لبلورة مسار سياسي في سوريا بين النظام والمعارضة. لم يصل المجتمعون لصيغة اتفاق أو تفاهم فسقط الأسد ودخل مقاتلو “ردع العدوان” إلى دمشق.
رؤى متناقضة
وضعت الثورة السورية في 2011 العواصم الثلاث في محورين متواجهين، حيث دعمت أنقرة المعارضة السورية، في حين وقفت موسكو وطهران إلى جانب النظام، وكان عام 2015 ذروة التوتر والتصعيد بين الجانبين، لا سيما في أزمة إسقاط المقاتلة الروسية.
بيد أن إطار أستانا الناشئ بعد معركة حلب في بداية 2016 أسس لمسار تنسيقي بين الدول الثلاث يمنع الصدام المباشر بينها، ويفتح الباب على تفاهمات بخصوص القضية السورية.
في مايو/ أيار 2017 وفي الجولة الرابعة من محادثات أستانا، اتفقت الدول الضامنة الثلاث على إنشاء أربع مناطق خفض تصعيد بين النظام والمعارضة. بيد أن النظام وبدعم من حلفائه سيطر على ثلاث منها لتبقى إدلب وحيدة وتضم مجمل أطراف المعارضة وتجمع مدنيين يُحسب بالملايين.
لاحقًا، اضطرت أنقرة لتفكيك بعض نقاط المراقبة التابعة لها في الشمال السوري؛ بسبب حصار قوات النظام لها، واستمر الأخير في استهداف إدلب رغم التحفظات التركية المتكررة والتحذير من سيناريو الانفجار.
في الشهور الأخيرة، عرضت أنقرة – وعلى لسان الرئيس أردوغان – على النظام تطبيع العلاقات بين الجانبين وتطويرها، إلا أن الأخير اشترط سحب القوات التركية، وتخلي أنقرة عن دعم المعارضة، فضلًا عن أن تركيا ألمحت إلى أن إيران لم تشجّع الأسد على هذا المسار.
بعد انطلاق عملية “ردع العدوان”، تصادمت رؤى الدول الثلاث ومواقفها مرة أخرى. ففي المؤتمر الصحفي المشترك بين وزيرَي خارجية إيران عباس عراقجي والتركي هاكان فيدان في أنقرة، عزا الأول ما يحصل لتدخلات خارجية تدعم منظمات إرهابية، فيما أكد الثاني على أنها تطورات داخلية سببها إدارة النظام ظهره للحل السياسي.
وفي تصريحات لاحقة من موسكو وطهران كان ثمة اتهام ضمني لأنقرة بأنها تقف خلف العملية وتدعم “إدارة العمليات العسكرية” دون تحميلها المسؤولية بشكل مباشر وصريح، لدرجة أن بيانًا للخارجية الإيرانية عبّر عن الأسف “لوقوع تركيا في الفخ الأميركي الإسرائيلي”.
اجتماع الدوحة: لا اتفاق
وفق هذه المستجدات، كان ثمة حاجة لتفعيل مسار أستانا مجددًا في اجتماع ثلاثي عقد على هامش منتدى الدوحة، لا سيما أن الدول الثلاث أكدت على إمكانية بل وضرورة الحل السياسي.
شارك في اللقاء وزراء الخارجية فيدان وعراقجي ولافروف، ودارت تصريحات الوزراء الثلاثة حول نفس المعاني تقريبًا وإن بصيغ وأولويات مختلفة، والتي دارت حول ضرورة وقف الأعمال العسكرية والعودة للمسار السياسي، والتأكيد على وحدة أراضي سوريا، فضلًا عن تصريح عراقجي بأنّ إيران وروسيا تجريان مناقشات مع الحكومة السورية حول مخرجات الاجتماع.
سريعًا وبعد الاجتماع الثلاثي، عقد اجتماع موسع ضمّ إلى الدول الضامنة الثلاث كلًا من قطر، ومصر، والسعودية، والأردن، والعراق، شارك به وزراء خارجية الدول السبع، وممثل عن روسيا.
وفي البيان الختامي الذي نشرته وزارة الخارجية القطرية، أكد المجتمعون على ضرورة وقف العمليات العسكرية “تمهيدًا لإطلاق عملية سياسية جامعة استنادًا إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، تحفظ وحدة وسيادة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها، وتحميها من الانزلاق إلى الفوضى والإرهاب”.
في قراءة مخرجات الاجتماعين، يمكن القول إن الاجتماع الأول لم ينجح بالوصول لتفاهم أو صيغة مشتركة بين الدول الضامنة الثلاث، ما ولّد الحاجة للاجتماع الموسع. كما أن العبارات الفضفاضة التي صاغت البيان الختامي لاجتماع الدول العربية الخمس مع دول أستانا مع الإشارة “لاستمرار التشاور والتنسيق الوثيق للوصول لحل سياسي”، تقول بوضوح إن اتفاقًا تدعمه جميع هذه الأطراف ما زال بعيد المنال في هذه اللحظة.
يعني ما سبق أن الكلمة تركت للميدان الذي يشهد تطورات متسارعة بطريقة غير مسبوقة، حيث لم ينتهِ الاجتماعان إلا وأعلنت “إدارة العمليات العسكرية” إتمام السيطرة على كامل مدينة حمص. وقبل صباح اليوم التالي أعلنت “إدارة العمليات العسكرية” عن دخول دمشق وسقوط النظام، لتدخل سوريا والمنطقة في مرحلة جدية بالكلية.
ما بعد الأسد
من الإيجابيات البارزة لعملية “ردع العدوان” وما تلاها من تطورات حتى دخول دمشق سلاسة الأحداث وسرعتها وعدم حصول مواجهات كبيرة، والخطاب الهادئ الذي رافقها بحيث لم تسجل مظالم كبيرة أو تجاوزات كثيرة، وهذا مما يسهل الخطوات المقبلة داخليًا.
تخبرنا التجارب السابقة في سقوط الأنظمة، ولا سيما الدكتاتورية منها، أن سقوط النظام ليس النهاية، وإنما بداية مرحلة جديدة مختلفة تمامًا وبتحديات جديدة عديدة.
في مقدمة تلك التحديات إدارة الفترة الانتقالية، والمرور نحو تأسيس نظام جديد، وكيفية إدارة المؤسسات وتقديم الخدمات من قبل من كانوا حتى اليوم معارضة، وهو تحدٍّ كبير بعد نظام حكم لعشرات السنين. بيد أن الخطاب الذي ساد حتى لحظة دخول دمشق يدعو للتفاؤل بإمكانية تخطي المرحلة الأولى دون عقبات كبيرة.
بيد أن تأسيس نظام سياسي جديد يبقى تحديًا كبيرًا في بلد متعدد الأعراق والأديان والمذاهب وبعد ثورة وحرب داخلية استمرت لأكثر من 13 عامًا، وفي ظل وجود عدد كبير من الفصائل المسلحة، فضلًا عن الوجود الأجنبي.
وأما التحدي الثاني الذي لا يقل أهمية وحساسية، فهو الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، في ظل سيطرة قوات “ردع العدوان” على مناطق واسعة من البلاد، ولكن مع وجود فصائل وقوات أخرى على الأرض مدعومة كذلك من أطراف خارجية، وفي مقدمتها قوات سوريا الديمقراطية الموجودة شمال شرق سوريا والمدعومة أميركيًا والتي وسّعت مناطق نفوذها خلال الأيام القليلة الماضية بعد أن ترك لها النظام بعض مواقعه ومناطقه، فضلًا عن “غرفة عمليات الجنوب” جنوب البلاد، و”قوات سوريا الحرة” في الشرق، وغيرها.
وهنا، يبرز تعامل هذه القوى مع بعضها البعض كتحدٍّ كبير، وهي التي حرصت على إظهار وجود تنسيق في مستوى ما فيما بينها، ولكن حالة التنافس بل والتسابق إلى دمشق كانت ماثلة ولا تخطئها عين متابع. فكيف يمكن إدارة هذه الحالة بين فصائل مسلحة ومسيطرة على الأرض، وتعتمد إلى جانب السلاح على دعم خارجي ملموس؟
ومن التحديات الكبيرة مستقبلًا خروج أو إخراج القوات الأجنبية الكثيرة من البلاد، وهو أمر ستقف أمامه عقبات كثيرة، حيث ستتذرع القوى الأجنبية بعدد من الذرائع لتمديد وجودها وتأجيل خروج قواتها، وستحاول إبرام تفاهمات مع السلطة الجديدة لشرعنة وجودها وإطالة أمده.
وتبقى “إسرائيل” تحديًا وعقبة كبيرة أمام سوريا الجديدة، وهي التي سارعت لتجاوز الحدود وحشد قوات النخبة في الجولان، وتستعد لإقامة منطقة عازلة، وربما احتلال جزء إضافي من سوريا، وكان وزير خارجيتها جدعون ساعر، قد أوضح موقفها بالقول إنها لا ترى النظام ولا المعارضة كأطراف جيدة بالنسبة لها وإن “الأقليات هي حليفنا الطبيعي”، ما يعطي إشارات حول أولوياتها وعلاقاتها وتحالفاتها، ويطرح تحديات ومخاطر في المرحلة المقبلة.
هنا، ستبرز للدول الثلاث الضامنة في مسار أستانا أدوار في المرحلة المقبلة، تركيا في المقام الأول، وروسيا إلى حد كبير، مع تراجع ملموس لدور إيران، حيث للدول الثلاث مصالح عديدة وكبيرة في سوريا، وكذلك مصلحة مشتركة باستثمار الفترة الانتقالية في الولايات المتحدة والإسهام في دعم مسار سوري داخلي قبل دخول ترامب للبيت الأبيض الشهر المقبل، بحيث يكون عليه أن يتعامل مع أمر واقع، بدل أن يملك أريحية نسج سياسات يضطر الآخرون للتعامل معها من موقع رد الفعل.
ولعله من التحديات غير المعلنة حتى اللحظة أن اللاعب المسيطر على معظم سوريا، وهو “إدارة العمليات العسكرية”، يتشكل في معظمه من “هيئة تحرير الشام” التي ما زالت مصنفة كمنظمة إرهابية بالنسبة لعدة دول منها تركيا، ما يطرح تحديات إضافية على الفترة المقبلة سوريًا وعلى الدول العربية والإقليمية في التعامل معها كأمر واقع وكيفية رسم المسار السياسي المقبل في سوريا.
————————–
مكاسب تركيا عقب الإطاحة بالأسد/ سمير العركي
8/12/2024
“تركيا قد تتأخّر في فعل اللازم لكنها تفعله بالنهاية”، هذه العبارة لوزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، وهي تشرح الكثير في طريقة عمل الدولة التركية تجاه الأزمات التي تواجهها، والأزمة السورية خير مثال على ذلك.
فما بين عامي 2016 و2020 أطلقت تركيا أربع عمليات عسكرية داخل سوريا لتطهير منطقة الحدود من المنظمات الانفصالية المصنفة على قوائم الإرهاب داخل تركيا، والتي تعد فروعًا للتنظيم الأمّ في تركيا، حزب العمال الكردستاني PKK.
وعلى مدار أربع سنوات، عمدت تركيا إلى تجميد الأوضاع في سوريا، مع الاستمرار في مكافحة الإرهاب عبر اعتماد أساليب أخرى متنوعة، كما أن المتابع للملف السوري، كان يلحظ بسهولة الجهود التركية لإعادة تأهيل فصائل المعارضة السورية المسلحة، لتتحول إلى كيانات أكثر انضباطًا واحترافية.
لذا فمع انطلاق عملية ردع العدوان في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، اتجهت الأنظار صوب تركيا، باعتبارها الدولة الداعمة لفصائل المعارضة السورية بأشكال متنوعة.
والآن مع نجاح المعارضة في الإطاحة بالرئيس السوري، بشار الأسد، فإن المكاسب الإستراتيجية لتركيا على الصعيدين الخارجي والداخلي تعاظمت بشكل واضح، لكننا سنكتفي في هذا المقال برصد تأثيرات ذلك، على الداخل التركي.
جدل سياسي حاد
أحدثت التطورات العسكرية في سوريا منذ بدايتها، حالة من الجدل بين الأحزاب السياسية، وصلت إلى حد التراشق الكلامي، على خلفية الأيديولوجيات المتضادة.
فزعيم حزب الحركة القومية MHP “يميني”، دولت بهتشلي، أبدى فرحته الشديدة بتحرير مدينة حلب، معتبرًا ذلك شعور كل تركي، ومعللًا إياه بأن حلب “تركية ومسلمة حتى النخاع”، مطالبًا الجميع بالعودة إلى حقائق التاريخ والجغرافيا.
وحتى يتم فهم كلام بهتشلي، ووضعه في سياقه الصحيح، لابد من التذكير بأن ولاية حلب زمن الدولة العثمانية، كانت تعد الولاية الأهم والكبرى، وتمتد جغرافيًا من حلب الحالية لتضم مساحات واسعة من شمال سوريا، إضافة إلى ولايات الجنوب الشرقي الحالي في تركيا، وصولًا إلى مدينة مرعش.
فهذه المساحة الجغرافية الكبيرة، خلفت دونما شك إرثًا حضاريًا وثقافيًا وديمغرافيًا مشتركًا ومتنوعًا، لم يستطع التقسيم التالي للولاية ما بين دولتي تركيا وسوريا أن يمحوه.
لكن في مقابل بهتشلي، كان هناك انزعاج واضح من حزب الديمقراطية والمشاركة الشعبية DEM “يساري كردي” حيث طالبت الرئيسة المشاركة للحزب، تولاي أوغولاري، أطرافًا لم تسمّها، وإن كان معروفًا أنها تقصد الحكومة وحلفاءها، بعدم الوقوع ” فريسة الحماس والانتهازية لتدمير مكتسبات الكرد في سوريا وروج آفا ( تشير إلى شمال سوريا وتعني غرب كردستان)”.
كما نددت تولاي باستهداف التنظيمات التابعة لتنظيم حزب العمال PKK في سوريا، معتبرة أنه “من المستحيل تسديد الرمح للأكراد الذين يعيشون في روج آفا، ومد غصن الزيتون للأكراد في تركيا!”.
لم يكتفِ الحزب بذلك بل صعد من هجومه، حيث اتهمت نائبة رئيس المجموعة البرلمانية للحزب، غولستان كيليتش، الدولة بمحاولة “غزو سوريا واحتلال حلب”، وذلك على خلفية رفع العلم التركي فوق قلعة حلب.
الرد على غولستان، جاء من رئيس حزب الاتحاد الكبير BBP “يميني”، مصطفى ديستجي، معتبرًا أن مناطق سوريّة مثل عين العرب “كوباني” والحسكة وغيرها ليست مناطق تابعة لحزب العمال، حتى يقوم باحتلالها، وقال: إن ” تركيا لن تنحني أمام الإرهاب وامتدادات المنظمات الإرهابية والقوى الإمبريالية التي تجعل من الإرهاب مشكلة لأمتنا!”.
كما أن الإطاحة بنظام بشار الأسد، ستحرم المعارضة التركية وخاصة حزبي الشعب الجمهوري CHP “يساري أتاتوركي”، وحزب السعادة SP “إسلامي”، من ورقة كانا يستخدمانها ضد أردوغان، في إطار الصراع الحزبي.
انحسار الإرهاب
هذا الجدل العنيف بين الأحزاب التركية الذي أشرنا إليه على وقع تطورات الملف السوري، لا يمكن فهمه إلا ضمن نقاش أوسع بشأن مشكلة الإرهاب الذي تعاني منه تركيا منذ عقود.
فخلال الأسابيع القليلة الماضية، تفاجأ الرأي العام التركي بمبادرة رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، والتي دعا من خلالها، زعيم حزب العمال، المسجون حاليًا، عبدالله أوجلان، للقدوم إلى البرلمان، والتحدث إلى أعضاء الكتلة النيابية لحزب المشاركة الشعبية والديمقراطية، والإعلان عن حل التنظيم وإلقاء السلاح، مقابل إمكانية العفو عنه.
هذا العرض غير المسبوق من زعيم قومي له مكانته وتأثيره مثل بهتشلي، لاقى ردودًا إيجابية من الرئيس، رجب طيب أردوغان حتى الآن.
لكن في موازاة ذلك لم يكن الحل الأمني غائبًا، فقد عمدت الدولة إلى اتخاذ عدد من التدابير الاستثنائية، فعزلت بعض رؤساء البلديات، وأحالتهم على جهات التحقيق بتهمة التعاون مع الإرهاب.
فيما لم يكن الحديث متوقفًا عن إمكانية شن عملية عسكرية في شمال سوريا لطرد التنظيمات السورية التابعة لحزب العمال الكردستاني من منطقة غرب الفرات.
لكن الإطاحة ببشار، ستمنح تركيا قوة إضافية في هذا الملف، خاصة مع نجاح قوات الجيش الوطني في طرد تنظيم وحدات الحماية الكردية YPG من مدينة تل رفعت بريف حلب الشمالي، وهو ذات المصير المرتقب حدوثه في أي وقت لقوات التنظيم في مدينة منبج.
أضف إلى ذلك، ما أعلنه وزير الدفاع، يشار غولار، يوم 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي قبل انطلاق عملية ردع العدوان، بيوم واحد فقط، بشأن تطهير منطقة الزاب شمال العراق من تنظيم حزب العمال.
كل هذا سيمثل ضغطًا على شديدًا على الداعمين السياسيين للتنظيم داخل تركيا، وفي مقدمتهم حزب المشاركة الشعبية والديمقراطية، وأيضًا على أوجلان نفسه، الأمر الذي قد يزيد من قناعاتهم بعدم جدوى استمرار التنظيم المسلح، وعبثية ديمومة المواجهات الدموية المستمرة منذ أكثر من 40 عامًا، وأن الأفضل للحالة الكردية، الانخراط الكامل في العملية السياسية، خاصة مع اختفاء نظام البعث السوري أحد أهم الداعمين التاريخيين لحزب العمال.
حل أزمة اللاجئين
يترقّب الجميع داخل تركيا أن تقود تلك التطورات إلى حل أزمة اللاجئين، الذين تقدر أعدادهم وفق الإحصائيات الرسمية قرابة 3 ملايين لاجئ.
هذه الأزمة الإنسانية بالغة التعقيد والحساسية، تم تسييسها على مدار السنوات الماضية، ولعبت دورًا في خسائر حزب العدالة والتنمية الحاكم، على مستوى البرلمان والبلديات.
كما أنه وعلى أكتافها، صعدت أحزاب يمينية متطرفة، أحدثت جلبة وصخبًا، وقادت بعض الشرائح إلى ارتكاب انتهاكات في حق اللاجئين السوريين.
لكن استعادة الثورة السورية سيطرتها على العديد من المدن، وفي مقدمتها حلب ثم كامل الأراضي الآن، ستتيح الفرصة لعودة المزيد من اللاجئين مستقبلًا، ما يعني تخفيف الضغط على الداخل التركي.
فبحسب وزير الداخلية، علي يرليكايا، فإن أكثر من 1.2 مليون لاجئ ينحدرون من حلب فقط، أي أن استتباب الأوضاع هناك، سيمكن قرابة 42% من اللاجئين داخل تركيا من مغادرتها طوعًا، إضافة إلى قرابة 190 ألفًا آخرين منحدرين من إدلب التي تمت السيطرة عليها كاملة.
هذه الأرقام ستتضاعف حال تمت تهيئة الأمور في بقية الأنحاء السورية، بما يسمح بعودة اللاجئين من تركيا، إضافة إلى النازحين على حدودها.
هذه العودة حال إتمامها، ستفقد الأحزاب العنصرية ورقة ضغط كانوا يستخدمونها ضد الحكومة، ورئة كانوا يتنفسون منها، تعويضًا لضعف حضورهم الشعبي.
ولا ننسى أن حل أزمة اللاجئين السوريين، سيساعد الحزب الحاكم على تعويض بعض خسائره السياسية، التي مني بها على مدار السنوات الأخيرة.
الطريق إلى 2028
لا نبالغ إذ نقول إن تأثير الإطاحة ببشار ونظام حزب البعث، خاصة إذا اتجهت صوب الاستقرار وإعادة بناء نظام سياسي جديد، سيعيد تشكيل المشهد السياسي التركي استعدادًا للاستحقاقات الانتخابية عام 2028 من خلال عدد من المتغيرات أهمها:
ومن ثم ازدياد قناعة تلك القوى بالمشاركة الإيجابية في وضع دستور جديد للبلاد، ما قد يفتح الباب أمام أردوغان للترشح مجددًا إذا ما أراد ذلك.
استعادة حزب العدالة والتنمية زخمه السابق، واستمراره في موقع الصدارة الحزبية بفارق مريح، خاصة إذا تحسنت الأوضاع الاقتصادية وانخفضت نسب التضخم.
والخلاصة، أن انتهاء حقبة البعث السوري وحكم “آل الأسد”، هو بمثابة “تسونامي” سياسي، سيترك أثره ليس على الداخل التركي فقط، بل على المنطقة كلها.
—————————-
بين سقوط طاغيتين: نهاية نظام لا انهيار دولة/ سعد بن طفلة العجمي
يتبارى بشار الأسد مع صدام حسين في الأهوال ودرجات الطغيان فكلاهما تفنن في ترويع وإرهاب شعبه
الأحد 8 ديسمبر 2024
كثير من المراقبين يرفض المقارنة بين الشعبين العراقي والسوري، ويرون أن الشعب العراقي أكثر دموية سياسية من أي شعب عربي آخر بالمنطقة، ولكن آخرين يرون أن العقود الخمسة الماضية أثخنت في الجسد السوري جراحاً وقيحاً ونزفاً يصعب التئام جراحه بسهولة.
تتوالى الأخبار من سوريا، تتصدر أخبارها نشرات الأنباء وعواجل الأحداث الإعلامية. سقط نظام بشار الأسد الذي استمر في حكم سوريا مع حكم أبيه لـ55 عاماً. حكمها الأسد بالحديد والنار والاستخبارات والتعذيب والقتل وقصف المدن والتهجير والتجويع والطائفية وكل أنواع البطش التي لا يمكن أن تخطر على بال بشر.
يتبارى بشار الأسد مع طاغية العراق صدام حسين بالأهوال ودرجات الطغيان، فكلاهما حكم باسم حزب البعث العربي الاشتراكي. كلاهما تفنن في الترويع وإرهاب شعبه وإذلاله وقهره وحصاره وتجويعه وتهجيره. سقط صدام حسين عام 2003 بغزو أميركي. ظهر بعيد السقوط مباشرة شراذم نهبت العراق وقتلت وروعت شعبه ولا يزال بعضها يتصدر المشهد السياسي العراقي اليوم.
وبصياغة أميركية صرفة، وافق المعارضون العراقيون الذين أتى بهم الجيش الأميركي على دستور يكرس الطائفية السياسية في بلاد الرافدين، فعاثت الطبقة الحاكمة فساداً وقتلاً طائفياً لم يتوقف حتى اليوم. فمنذ سقوط نظام صدام والعراق منتهك السيادة والإرادة، فإيران تتحكم بقراره وتعين رؤساء الجمهورية والوزراء والبرلمان فيه، وتركيا تحتل شماله، وكردستان منفصل عنه كواقع حال، والمسؤولون العراقيون في غالبهم مشغولون بنهب ثروات البلاد والصراعات بينهم على مغانم الدولة.
تفشت الطائفية السياسية التي تحكم العراق اليوم وتتبع أوامر إيران، وجلبت معها دموية طائفية لم تتوقف حتى اليوم، فهجرت ملايين من مختلف الطوائف – وغالبيتهم من السنة – وقتلت المئات من المحتجين في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وغالبيتهم من الشيعة، وتدهورت الحال الخدمية بجميع مناطق العراق وخصوصاً تلك التي يسكنها غالبية شيعية تقول النخب الحاكمة إنها تحكم باسمهم.
وخلقت الميليشيات الحاكمة ازدواجية الدولة داخل الدولة ممثلة بالحشد الشعبي الذي له ميليشياته وقياداته وفصائله ومحافظاته واستخباراته وسجونه ومعتقلاته. لم يطو العراقيون صفحة الماضي، وأصروا على سياسة الانتقام بدلاً من “العدالة الانتقالية” التي تنتقي باختزال كبير، مثلما جرى في جنوب أفريقيا بعد سقوط النظام العنصري هناك عام 1990، إذ نادى نيلسون مانديلا بتجاوز صفحة الماضي والتطلع نحو العيش المستقبلي المتصالح، ذلك ما جرى بالعراق بعد سقوط طاغيته جعل بعضهم يردد، “رحم الله الحجاج، فقد كان أرق بعباده”، وهو درس لثوار سوريا اليوم، الذين قدموا تضحيات جساماً في مواجهة آلة طحن وبطش يشيب لها الولدان طوال خمسة عقود.
كثير من المراقبين يرفض المقارنة بين الشعبين العراقي والسوري، ويرون أن الشعب العراقي أكثر دموية سياسية من أي شعب عربي آخر بالمنطقة، ولكن آخرين يرون أن العقود الخمسة الماضية أثخنت في الجسد السوري جراحاً وقيحاً ونزفاً يصعب التئام جراحه بسهولة، ويرون أن الطبيعة السلمية المتصالحة للشعب السوري تلاشت إبان حقبة حكم الأسد الدموية المتوحشة، فخلقت أجيالاً تتطلع للثأر، وهو ما قد يجر الأمور إلى ما لا تحمد عقباه.
البوادر الأولية تبشر بالتفاؤل، فقد طالب قادة الفصائل مسلحيهم بحماية الناس بجميع طوائفهم ودياناتهم وممتلكاتهم، وألقى رئيس الوزراء بعهد بشار الأسد – محمد الجلالي – خطاباً عقلانياً واقعياً أعلن فيه تسليم مؤسسات الدولة للثوار بصورة سلمية، وهو ما وافق عليه الثوار ومن المفترض أن ينفذوه على وجه السرعة. وهناك رهان لمحبي سوريا وشعبها بأنهم سيتسامون فوق جراحاتهم المتقيحة، ويترفعون عن ممارسات عدو شعبهم القبيحة، ويقدمون صورة مختلفة للتسامح والتعايش وتجاوز الماضي بآلامه ومآسيه التي تهد الجبال.
المحيط السوري وتداعيات سقوط النظام
تركيا
تحاول تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان أن ينسبوا نجاح الثورة السورية لهم، وأن يستثمروا في الواقع السوري الجديد لمصالحهم، لكن السوريين أذكى من أن يتذاكى عليهم أحد، فهم يعرفون أن مهجريهم ولاجئيهم استخدموا ورقة للضغط على أوروبا للحصول على المساعدات، كما خبروا في تركيا أنواعاً بشعة من التمييز ضدهم كلاجئين، ناهيك بأن الوضع الاقتصادي بتركيا يعاني التضخم وتراجع سعر صرف الليرة التركية مقابل العملات العالمية، وتتراجع السياحة والاستثمارات الأجنبية لأسباب عدة، لذا فقط يكون التعويل على أنقرة من قبل سوريا الجديدة في غير محله، هذا لا يعني عدم التعاون معها كدولة جارة ومهمة للانفتاح السوري القادم، ولكن الاعتقاد أنها يمكن أن تكون المخلص لسوريا الجديدة من آلامها وجروحها ودمارها وخراب اقتصادها وفقرها، هو وهم وسراب.
إيران
لعبت إيران دوراً مدمراً ومسانداً للبطش الأسدي ضد الشعب السوري، وأتت بقواتها باسم المستشارين وميليشياتها “حزب الله” من لبنان و”زينبيون” و”فاطميون” وأفغان وباكستانيين، بل إنها هي من أقنعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإنقاذ نظام الأسد يوم ترنح آيلاً للسقوط في الأعوام الثلاثة الأولى للثورة السورية.
استثمر الإيرانيون في علاقتهم بنظام الأسد كثيراً وطويلاً على حساب الشعب السوري ودمائه وتضحياته، ولكنهم تخلوا عنه وبدأوا يطلقون لغة ناعمة من طهران تسمي الثوار “فصائل المعارضة المسلحة” بعدما كانت تسميهم قبل يوم واحد من سقوط بشار “التكفيريين والإرهابيين”، لذا فلا أظن أن إيران مرحب بها في الوقت الحالي بسوريا، وقد ينظر السوريون في إعادة علاقتهم معها مستقبلاً إذا ما رأوا تغيراً في سلوكها تجاههم وتجاه المنطقة عموماً.
روسيا
نسقت إدارة الرئيس فلاديمير بوتين مع إيران بعد زيارة لقاسم سليماني عام 2015 لإنقاذ النظام الذي كان على وشك السقوط، فارتكبت جرائم حرب مهولة بقصف المدن السورية بالبراميل المتفجرة، وأخمدت الثورة إلى حين، وعليه فالعلاقة بين موسكو وسوريا الجديدة ستمر بحقول ألغام شاسعة، وسيوضع ملفها على الرف في الوقت الحالي.
العراق
سيبقى القرار العراقي تجاه سوريا مرهوناً بالعلاقة مع إيران ما دامت طهران باقية تتحكم في الشأن العراقي ببغداد، ولذلك فالقراءة لموقف بلاد الرافدين من تطورات الأحداث في دمشق تظل كتابع وليس قراراً مستقلاً نابعاً من إرادة سياسية حرة.
لبنان
للشعب السوري تاريخ طويل من الحلاوة والمرارة مع لبنان، لكن تاريخه الحديث ارتبط بالتدخل الطائفي الشائن الذي لعبه “حزب الله” اللبناني – الإيراني بقمع الثورة السورية وارتكاب المذابح الطائفية بالقصير والحولة وحلب وما حولها، لكن ضعف الحزب ومقتل أمينه العام المؤثر حسن نصرالله أضعف كثيراً من قدراته ليس داخل سوريا وحدها وإنما حتى داخل لبنان نفسه. وكان الحزب والمشروع الإيراني بلبنان وعبر البحر المتوسط يتنفس برئتي بغداد ودمشق التي تقطعت طرقها بعد سقوط حليفها بشار الأسد.
الأردن
عانى الأردن طويلاً العلاقة مع العسكر في سوريا منذ حكم حافظ الأسد الأب، فقد أرسل دباباته إلى جرش وعجلون عام 1970 لمساندة منظمة التحرير الفلسطينية بحربها الانقلابية ضد الملك حسين بن طلال في ذلك العام، واستمر النظام في سوريا يرتكب أعمال التخريب والتهريب والتهديد لاستقرار الأردن. كما استضافت المملكة أكثر من مليون لاجئ سوري على أراضيها. لا شك في أن الأردن فرح لسقوط نظام بشار الأسد، لأن ذلك يعني نهاية التهديدات الطائفية للميليشيات التابعة لطهران بانتهاء النفوذ الإيراني بسوريا، ويمكن أن يكون الأردن رئة تتنفس منها سوريا الجديدة.
دول الخليج العربية
وقف الخليجيون مع الثورة السورية منذ اندلاعها في أبريل (نيسان) عام 2011، وقدموا كثيراً من المساعدات للثوار وللشعب السوري، وتشير التقديرات إلى وجود مليون ونصف المليون سوري يعيشون بدول الخليج مثل ملايين من الشعوب الأخرى بالخليج، لكنهم لا يعيشون بمخيمات كلاجئين ولا تأخذ دول الخليج مساعدات من الأمم المتحدة لاستضافتهم، فليس من بين دول الخليج من وقع اتفاقية فيينا للاجئين (1951)، على عكس سوريا ولبنان والعراق وإيران التي لم تستقبل لاجئاً سورياً أو لبنانياً واحداً.
السوريون العاملون بالخليج يمكن أن يكونوا شريان حياة لسوريا الجديدة بمدخراتهم وتحويلاتهم وخبراتهم التي اكتسبوها بعرق جبينهم وكدهم بالخليج. واستضافت الكويت وبمبادرة من أميرها الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح مؤتمرين للمانحين لمساعدة الشعب السوري عامي 2013 و2015، وخلالهما تعهدت تقديم 500 مليون دولار كدفعة أولى.
لم ولن تتوانى دول الخليج عن المسارعة في تقديم العون والمساعدة للشعب السوري لتجاوز محنته العصيبة، وبناء دولته العزيزة على العرب جميعاً.
أميركا وأوروبا وإسرائيل
تنظر الولايات المتحدة لمنطقة بلاد الشام ومصر من منظار إسرائيلي بحت، ولا أظن الشعب السوري الذي أنهكه وأدماه نظامه على مدى خمسة عقود لديه بوادر الدخول في مواجهة مع أي طرف كان، ناهيك بالدخول في مواجهة مع إسرائيل في هذه المرحلة لتحرير الجولان- أو قل لتحرير فلسطين، وخصوصاً أن إسرائيل تحكمها حكومة إبادة كالثور الهائج الذي أمن حتى الإدانة الدولية الكلامية بسبب أفعاله وجرائمه في غزة ولبنان.
ولذلك فإن الشعب السوري مطالب بالتركيز على التعافي وإعادة بناء الدولة، ففيه قوته الداخلية، كما أن قدرة سوريا على الوقوف على قدميها بقوة ستكون قوة للعرب جميعاً ولفلسطين والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص.
لم ينته الأمر بعد
صحيح أن نظام بشار قد سقط، ولكن سقوط الطغاة لا يعني نزول اللبن والعسل على الشعوب تلقائياً، هكذا علمنا التاريخ، فالشعب السوري اليوم يعيش فرحة عارمة ونشوة غامرة ونفحة هواء عليلة للحرية، ولكن غداً ستذهب السكرة وتأتي الفكرة – كما يقول العامة – وسيجد من يحكم سوريا الغد ملفات عديدة ومعقدة للبناء والتصالح والتفاهم مع الأكراد شرقاً ومع مدن الساحل غرباً واحتوائها واستيعاب تطلعاتها.
ملفات الخبز والماء والكهرباء والتعليم والطبابة والخدمات التي دمرها النظام البائد تحتاج إلى خطة إعمار “مارشال” هائلة لتنهض سوريا الجديدة. السوريون معروفون بذكائهم واجتهادهم “وشطارتهم” وحبهم للعلم والعمل، وإذا ما أتيحت الفرص للشباب السوري – المهجر والنازح والمقيم – في أجواء من السلم والتعايش والتنافس والبناء، فإن سوريا ستنهض وتعيش فجراً جديداً سيشع بنوره على المنطقة كلها. تفاءلوا بحذر.
———————
التطورات السورية.. معادلات الربح والخسارة/ طارق فهمي
ما بين إتمام الاتفاق بين «حزب الله» وإسرائيل، واندلاع الأحداث في حلب ما يثير الكثير من الهواجس ارتبطت بتهديدات علنية من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو تجاه سوريا، ومروراً بحسم العمليات في عمق حلب، والتي كانت ساحة لصراع كبير بدأ من 2017 والتي تم التفاهم بشأنها بين روسيا وتركيا إلى التهدئة، وصولاً إلى توقيع اتفاق خفض التوتر.
ومن يومها ظلت الأمور على حالها إلى أن تفجرت الأوضاع مؤخراً، وبدأ الصراع مجدداً من قبل التنظيمات المسلحة التي تمارس دوراً في الساحة السورية متفقاً عليه، وفي ظل تقاسم للسلطة وللحكم، والسيطرة، وفق مناطق النفوذ، وهو الأمر الذي أكدته تطورات الأوضاع الراهنة والمفتوحة على مشاهد عدة، وبما يؤكد أن ما يجري جزء من مخطط دولي كبير تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة روسيا و«حزب الله»، وإيران في آن واحد، وما يؤكد أن من حدد ساحة الاختيار للمواجهة الراهنة يدرك انشغال روسيا في الحرب في أوكرانيا وانكفاء إيران على حساباتها السياسية والاستراتيجية، إضافة إلى ضعف «حزب الله» في لبنان.
ومن ثم، فإن ساحة المواجهة ارتبطت بالفعل بسيناريو محكم في توقيت له دلالاته، ما يؤكد استثمار المسار الراهن في سوريا من جانب، ولبنان من جانب آخر، دفع لنقل المواجهة إلى سوريا، وربما أيضاً إلى العراق بعد قليل، فالأمر لا علاقة له فقط بسيطرة التنظيمات المسلحة على حلب وإدلب، وصولاً إلى الشمال الشرقي وسقوط حماة بقبضة التنظيمات المسلحة، والوصول إلى حمص، ما يفتح الباب أمام مدن الساحل ودمشق.
فمن دون التدخل الروسي، و«حزب الله»، والدعم الإيراني، لن يقوى النظام السوري على المواجهة بمفرده، بل سيظل يدافع عما يعرف باسم سوريا المفيدة، والتي يوجد فيها النظام السوري، ولا يريد أن يخرج منها في إطار وجود أربع مناطق للحضور الدولي والإقليمي في سوريا ما يؤكد أن سوريا مقسمة الحدود بالفعل، وأن الحدود التي رسمت بالدم ستبقي في موقعها، ولن تتغير في ظل توقعات بتغيير الحسابات السياسية والاستراتيجية بالفعل، بل وتبدل مواقف الأطراف المعنية.
فمن مصلحة إسرائيل، إقليمياً، أن تكون جبهة سوريا منشغلة بالداخل، وفي ظل تصميم إسرائيلي على ترتيب حساباتها الاستراتيجية، بل والعمل مع الولايات المتحدة لتغيير الوضع في سوريا، وفي ظل ما يدعو إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو من أن إسرائيل ستغير الشرق الأوسط عبر مقاربات سياسية واستراتيجية جديدة، ومن خلال محاصرة الجانب الإيراني في سوريا لتغيير المشهد الداخلي، خاصة أن الولايات المتحدة قد تتدخل بقوة في توجيه المشهد الراهن، حتى ما بعد تولي الرئيس المنتخب ترامب مقاليد الحكم في يناير المقبل الأمر الذي سيدفع إلى الحفاظ على القوات الأميركية في سوريا، بل وإعادة تقوية مركز «قوات سوريا الديمقراطية» لمواجهة أية سيناريوهات مطروحة.
ويبدو أن هناك دلالات حول إعادة ترتيب الحسابات الأميركية، والدخول في مسار المقايضات الكبرى في سوريا مع روسيا بل وإيران، ما يؤكد الهدف الرئيس للولايات المتحدة، ومن ورائه إسرائيل في التعامل بطريقة جديدة مع المشرق بمنظور مستجد سوريا ولبنان والعراق، ومن قبل رام الله وغزة، وما يؤكد أن الشرق الأوسط القديم سيتغير كرسالة أولى من الولايات المتحدة وللأطراف السورية واللبنانية والعراقية، مع تتبع التحديات الواردة من تنظيمات تعمل في سوريا تتبع «داعش»، أو «القاعدة»، حيث صراع التنظيمات الكامن، فيما ستناور تركيا بورقة الجيش الوطني السوري، وبقوات تحتل مساحات كبيرة من الأراضي السورية، حيث ستعمل في اتجاهات منضبطة، بما في ذلك التلويح بورقة التصالح مع النظام السوري نفسه، بعد أن استعادت علاقتها بمحيطها العربي مع مصر والسعودية والامارات.
ومن ثم، فإن أي تحرك دولي أو إقليمي سينطلق في هذا الاتجاه والعمل وفق صفقة كبرى، وإعادة ترتيب الحسابات الكبرى والصغرى للأطراف الرئيسة، ومنها الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا، ما يؤكد أننا أمام سيناريوهات جديدة مفتوحة أمام المشهد السوري بكل تفاصيله المعقدة، ويدفع بقوة إلى طرح سياسات جديدة في إطار خدمة المصالح الإسرائيلية التي ستتكامل ملامحها، استناداً لرؤية أميركية ستعمل مع الرئيس الأميركي المنتخب ترامب، ومع التأكيد على ثوابت الأطراف الأخرى، بما في ذلك إيران، ما قد يؤدي إلى التغيير وفق معادلة رابح/ رابح، وبدء تفكيك شبكة العلاقات السورية الإيرانية من جانب، والسورية الروسية من جانب آخر، مع تبني استراتيجية جديدة لإنهاء وجود التنظيمات الإرهابية التي قد تمثل خطراً على أمن إسرائيل في المدى الطويل.
في المجمل، ستستفيد إسرائيل من إضعاف الوجود الإيراني في سوريا، الأمر الذي سيضر بإمدادات الأسلحة الإيرانية إلى «حزب الله» في لبنان، كما ستستفيد الولايات المتحدة أيضاً إذا أجبر الروس على مغادرة سوريا مع التخوف بأنه في حال حدوث تغيير في سوريا – وفقاً للمنظور الإسرائيلي- فإن التنظيمات المسلحة التي تقودها جماعات سلفية قد تخلف تهديداً أكبر على الحدود الإسرائيلية، وهناك خطر من ظهور «داعش» جديد، أو من نشوء دولة دينية سنية متطرفة، ما يشكل تهديداً أكبر لإسرائيل، مقارنة بالنظام السوري الذي ظل، بالرغم من عدائيته لتل أبيب، محافظاً على الهدوء النسبي في الجولان.
نقلاً عن “الاتحاد”
————————
بالخلاص لنا ولكم/ عالية منصور
إنه زمن المعجزات
08 ديسمبر 2024
كسوريين سنحكي الكثير ولسنوات وسنوات عن تجاربنا، عن طفولتنا، ونحن نرتدي البدلة العسكرية، سنوات وملايين الصفحات سنملؤها. كم كانت أحلامنا كشعب بسيطة، وكم كان الثمن الذي دفعناه كبيرا، سنحكي كثيرا ونبكي كثيرا، وسنضحك كثيرا اليوم ونحن نعيش لحظات قضيت أكثر من نصف عمري أنتظرها، وأدفع ثمنها. سأؤجل الحديث عني وعنا قليلا لأحكي عنهم، عن المعتقلين غير السوريين الذين يخرجون من سجون الأسد. علي حسن العلي، مواطن لبناني من عكار، بعد نحو 40 عاماً على اختفائه، خرج قبل أيام من سجن حماة المركزي، بعد سيطرة الفصائل السورية على السجن وتحرير المعتقلين، 40 عاماً ماتت خلالها والدته قهرا، كآلاف الأمهات، وهي لا تعلم إن كان ابنها حياً أم ميتاً، علي اعتقله الجيش السوري عام 1985 في مدينة طرابلس. عودة العلي أعادت الحديث عن المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، المعتقلين الذين طالما رفضت حكومة دمشق إعطاء إجابات شافية عنهم، والذين أنكر رئيس الجمهورية اللبنانية السابق ميشال عون أيضا وجودهم.
بعد خروج العلي من المعتقل حياً، عاد الأمل لمئات العائلات اللبنانية لكشف مصير أبنائهم، 622 عائلة لبنانية تنتظر اليوم، هل سيعودون جميعاً أحياء بعد تحرير السجون؟ أن تمضي أمهات أعمارهن ينتظرن هل يتشحن بالسواد حزناً على مقتل أولادهن، أم ينتظرن عمرهن خبراً عن مصيرهم؟ في السجون السورية أكثر من 3000 فلسطيني وفقاً لتوثيق “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا” صدر قبل عام، المجموعة التي وثقت قتل الأمن السوري لـ643 لاجئاً فلسطينياً تحت التعذيب في معتقلاته، بينهم نساء وأطفال وكبار في السن، أشارت يومها إلى أن الأعداد أكبر من ذلك، ولكن هناك غياب لأي إحصاءات رسمية صادرة عن الأجهزة الأمنية السورية، بالإضافة إلى تخوف بعض أهالي المعتقلين والضحايا من الإفصاح عن تلك الحالات، خوفاً من ردة فعل الأجهزة الأمنية السورية.
من السجون سيخرج سوريون ولبنانيون وفلسطينيون وعراقيون وأردنيون، وأجانب، ولكن هل كان يخطر على بال أحد منا أن تحرير السجون سيحرر معتقلات إثيوبيات وإندونيسيات وغيرهن؟ كتبت إحدى المحررات السوريات عن “زميلاتها” في المعتقلات، إثيوبيات وإندونيسيات وفلبينيات كما ذكرت، أتين إلى سوريا للعمالة المنزلية وعند انتهاء عقود العمل، وقبيل سفرهن، اعتقلن من المطار ليزج بهن في السجون، وليتم تخييرهن لاحقاً بين العمل عند زوجات الضباط مقابل حريتهن، أو البقاء في السجن. ليأتي التعليق من معتقلة سابقة تؤكد على مأساة العاملات الأجنبيات في السجون السورية، وتقول عمن شاركت معهن الزنزانة “أقله نحن كنا فاهمين ما يحصل ولكن هن؟”، هذه ليست “انتهاكات” لحقوق الإنسان، هذه عبودية ورق في عام 2024 في “سوريا الأسد”.
هذا ما حصل لغير السوريات، هذا بعض ما حصل، ولهن حكايات وحكايات سيروونها يوماً، لهن أسماء حوّلت إلى أرقام منسية، لهن أحلام راحت، لن يكون الانتقال إلى سوريا الحلم سهلاً، سنواجه الصعوبات وسنتعثر، لكن المسيرة انطلقت نحو وطن يتسع لنا جميعاً، نحو بلد لا يخاف زواره أن يُغيّبوا في أقبية السجون عشرات السنين حتى يصبحوا ذكرى… إنها ساعات الفجر الأولى بعد ليل طويل.
لقد دفع أبناء سوريا بكل ألوانهم وعقائدهم، ثمنا يفوق الخيال حتى بانت أي بارقة أمل يتلقاها الجميع بمزيج من الفرح والقلق، الفرح بتحطيم الصخرة التي كانت تسد طريق المستقبل، والقلق من الإخفاق والمزيد من الجراح. لكن هذا الفرح لا يمكن أن يكتمل إلا بالكشف عن مصير المفقودين والمغيبين، فعشرات آلاف الأسر التي باتت تدقق في صورة كل معتقل يتم تحريره من السجون، تنتظر أخبارا يقينية عن مصير أولادها، وهم يبتهلون بأن يكونوا على قيد الحياة، وأن لا يكونوا من أولئك الذين قضوا تحت سياط التعذيب، فجمال المستقبل لن يكتمل إلا بهم.
إلى صديقي الذي يتهرب من الرد على اتصالات والدته لتسأله عن مصير شقيقه، إنه زمن المعجزات، وليكن مصير محمود كمصير علي العائد إلى عائلته.
—————————
=============
تحديث 07 كانون الأول 2024
———————–
سوريا: ليس لدى الأسد من يدافع عنه!
رأي القدس
07 كانون الأول 2024
تشهد سوريا، حاليا، تغيّرا تاريخيا مشهودا. لقد تطوّرت الأحداث في البلد ذي الأهمية الكبيرة في الجغرافيا السياسية للمشرق العربي بسرعة كبيرة جدا بشكل يمكن أن يؤدي، مع ديناميّة التسارع هذه، إلى إعلان سقوط النظام الدكتاتوري لآل الأسد الذي حكم سوريا بالحديد والنار لمدة 54 عاما.
سينهي هذا الحدث، إذا حصل، مرحلة سوداء من تاريخ البلاد والمنطقة بدأت مع انقلاب 1963، الذي صفّى فيه ضباط محسوبون على حزب «البعث» كل آثار المراحل المدنية السابقة منذ استقلال البلاد عام 1946، فاستبدل الحكام العسكريون المؤسسات الديمقراطية بأجهزة حكم مركزي صارم، وقمعوا الأحزاب المعارضة، واستشرت قوة الأجهزة الأمنية.
ما لبث أن أدى الصراع الداخليّ بين ضباطها إلى انقلاب ثان عام 1966، تبعته هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وكان من الوقائع الغريبة الدالة أن حافظ الأسد، الوزير المكلّف بالدفاع عن البلاد، قام بانقلاب أخير استلم فيه السلطة عام 1970، لينتهج بعدها سياسات إحكام السيطرة على البلاد والعباد، لينطلق بعدها في محاولة الهيمنة على ملفّات المنطقة، مع دخول قواته إلى لبنان عام 1976، وتدخّلاته العنيفة للتحكم بالقرار الفلسطيني، وأشكال التوتّر الكبيرة مع البلدان العربية، وخصوصا الأردن والعراق (أيام صدام حسين).
شهدت هذه المرحلة من تاريخ حكم آل الأسد لسوريا تدهورا متدرجا بعد وفاة الدكتاتور الأب بدأ مع قيام المنظومة الأمنية – العسكرية بتوريث الحكم لابنه بشار (بدلا عن شقيقه الأكبر باسل الذي قتل في حادث سير) وحصل ذلك بطريقة اضطرّت المنظومة لتعديل الدستور بطريقة فجة، عام 2000. ساهم هذا الوريث، غير المؤهّل سياسيا أو عسكريا، في قرارات خطيرة أفقدت المنظومة، في نهاية المطاف، السيادة على البلاد، وما لبثت أن جرّدت «الرئيس» نفسه من سلطاته وجعلته تابعا يجري في فلك روسيا، وإيران.
ظهرت إشارات مهمة على هذا التدهور مع انقلاب الأسد الابن على وعود الانفتاح السياسي عام 2001، وما سمي حينها «ربيع دمشق» حيث ارتفع منسوب حرية التعبير ونشأت منتديات سياسية، ولكن بشار، ومنظومته الأمنية، سارعا بعد 7 أشهر، لوأد هذه الفرصة، وما لبثت هذه المنظومة أن تورّطت بتغطية اغتيال رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الأسبق، عام 2005، وهو ما أنتج قوة ضغط لبنانية وعربية وعالمية أنهت الوصاية السورية على لبنان في العام نفسه، كما تورّطت في فضائح أمنية ـ سياسية مشينة كان اعتقال «مستشار الأسد» الإعلامي ميشال سماحة، في قضية تشكيل «عصابة إرهابية وإدخال متفجرات من سوريا إلى لبنان ومحاولة تفجيرها لقتل سياسيين ورجال دين ومواطنين».
دشّن تعاطي الأسد مع الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت عام 2011 مسارا هائلا للانحطاط السياسي سواء مع الرسالة الضمنية لإسرائيل مع بدء الأحداث بأنه يحمي حدودها، ثم بإدخال القوات الروسية والإيرانية للدفاع عنه، مما أفقده السيادة على البلاد، وأفقده لاحقا سلطاته الفعلية، كما هبط النظام في مدارك الإجرام الوحشيّ الذي وصل إلى درجة قصف ضواحي دمشق المتمردة بالسلاح الكيميائي، وتدمير مدن البلاد الكبيرة وحواضرها، من حمص إلى دير الزور وحلب، وتسليم مقدّرات البلاد الاقتصادية والعسكرية لقوى وميليشيات أجنبية، كما هو الحال في قاعدة حميميم التي تسيطر عليها روسيا، وبلدات القصير والزبداني ومضايا والسيدة زينب وريف دير الزور والبوكمال، الموجودة تحت سيطرة «حزب الله» وإيران وميليشيات عراقية ويمنية.
تظهر المواقف العربية والدولية الأخيرة مآل الانهيار الكبير الذي لحق بمصداقية النظام، والتي توحي بأن أحدا، بمن فيهم حلفاؤه الفعليون (أو المستترون) غير قادر على إنقاذه، ويبدو أن مطالبات الأسد اليائسة من روسيا وإيران لا تجد قبولا بعد أن استنفد البلدان موارد هائلة في دعمه، وحسب وكالة بلومبرغ للأنباء عن أحد المقربين من الكرملين أن «ليس لدى روسيا خطة لإنقاذ الأسد طالما أن جيشه مستمر في التخلي عن مواقعه» ورغم إعلان إيران عن مواصلة دعمها للأسد، فإن الضربات الكبيرة التي تلقّتها في سوريا، جعلت ثقتها الأمنية بالنظام السوري تهتز، ولا يبدو أن سرعة الأحداث تؤهلها لتقديم أكثر مما هو موجود على الأرض السورية حاليا، وينطبق الأمر على الحكومة العراقية التي أعلنت شروطا لاحتمالات تدخّلها، وكذلك إسرائيل التي حرّكت قوّات برية وجوية إلى الحدود مع سوريا، ويجتمع «كابينت» حكومتها لدراسة ما يحصل، فيما تحمّل العواصم الغربية الأسد مسؤولية ما يحصل، ويقوم بعضها بالتواصل مع مكوّنات سورية موالية للأسد لنصحها بالابتعاد عنه.
القدس العربي
—————————
سورية… المشكلة والحلّ/ بشير البكر
07 ديسمبر 2024
كثيراً ما قيل لو أن رئيس النظام السوري بشّار الأسد ألقى خطاباً مختلفاً أمام مجلس الشعب، في 30 مارس/ آذار 2011، لما عرفت سورية المسار الكارثي. والقصد أنه بدلاً من أن يقدّم مشروعاً للإصلاح، وجّه الوضع ليأخذ هذا المنحى التدميري، الذي يتمثّل في رفض الاعتراف بوجود أزمة سياسية كبيرة مزمنة يعيشها البلد منذ الاستقلال، وفي رمي كلّ المطالب بالحرّية والكرامة والديمقراطية على ظهر المؤامرة، التي وعد بأنه سيتصدّى لها، ويقضي عليها. وطوال أكثر من عقد من الانهيار، لم يستوعب ما جناه على البلد، ولم يستفد من الفرص المحلّية والإقليمية كي يوقف المسار الذي كلّف سورية دماراً كبيراً، وما يتجاوز نصف مليون قتيل، وأكثر من عشرة ملايين مهجّر في الداخل والخارج. وما يجري اليوم من معارك في حلب وإدلب وحماة، هو أحد مظاهر الاحتجاج على تعفّن الوضع العام، وعدم قبول الأسد التزحزحَ عن موقفه بشأن الحلّ السياسي، وعودة ملايين المهجّرين.
بات الأسد مرادفاً للنكبة السورية، ومعبّراً عنها، ولا سبيل لإنهائها من دون ذهابه، وطيّ صفحة حكم عائلة الأسد، الذي يتواصل منذ 54 عاماً. هذه حقيقة يعيها السوريون وغير السوريين، وما لم تُتجاوز هذه العقبة، سيبقى الوضع يراوح في مكانه، ويوغل في السوء. وتلتقي إيران وإسرائيل عند هذا الهدف، ولا تريدان لسورية أن تتجاوز ما هي عليه اليوم، فتستعيد وحدتها وسيادتها، وتبسط سلطاتها في كامل أراضيها، وتعملان على دفعها أكثر فأكثر نحو التمزّق، وهو ما يحقّق مصالحهما في تحويلها ساحةَ حربٍ بالوكالة، الأمر الذي يفسّر تمسّكهما، على حدّ سواء، ببقاء الأسد في الحكم.
خسرت سورية وحدتها، وباتت مجزّأة مقسّمة بين سلطات أمر واقع محلّية وخارجية، وأصبح النظام طرفاً ضعيفاً، عاجزاً ومعزولاً، يخضع لحماية مباشرة من روسيا وإيران، وقد سعت أطراف عربية إلى الانفتاح عليه في الأعوام الثلاثة الماضية ومدّه بقوارب نجاة من أجل إعادة تأهيله، ومساعدته على لملمة الوضع تدريجياً، لكنّه لم يتجاوب مع ذلك. ومن أبرز المبادرات تلك التي قامت بها السعودية عام 2023، بدعوته إلى حضور القمّة العربية في جُدَّة، على أساس الخطّة الأردنية “خطوة مقابل خطوة”، لتكون البداية من السماح بعودة المهجّرين السوريين في دول الجوار؛ الأردن ولبنان وتركيا، الذين يتجاوز عددهم خمسة ملايين، ولكنّ الأسد لم يتفاعل مع العرض السخي، واستمرّ في العمل بخطّة التطهير التي وضعتها إيران لتهجير الملايين من أرياف دمشق وحمص وحلب وحماة.
بيان جنيف 1، الصادر في 12 يونيو/ حزيران 2012، كان الوثيقة الدولية الوحيدة التي صدرت من مجلس الأمن باقتراح من مبعوثه كوفي أنان، وحازت توافقاً عربياً ودولياً، ونصّت على عملية انتقالية، لكنّها تركت المسألة مواربةً لأنها لم تنصّ صراحةً على أن المرحلة الانتقالية تنتهي برحيل الأسد. وهو ما اختلف بشأنه التفسيران الأميركي والروسي. واعتبرت موسكو أن البيان لم ينصّ على ذلك، ممّا فتح المجال أمامها كي تغطّي النظام سياسياً، إلى حين تدخّلت عسكرياً في سبتمبر/ أيلول 2015، عندما أصبحت إيران عاجزةً عن حمايته من فصائل المعارضة المسلحة، التي سيطرت على القسم الأكبر من الجغرافيا السورية، وباتت تقترب من العاصمة.
ها هو الوضع، يتفجّر اليوم من جديد، وتشتعل الحرب من أجل إخراج سورية من الوضع المأساوي، وهو ما يرتّب على الأطراف الإقليمية والدولية ضرورة التحرّك للمساعدة في حلّ سياسي ينهي الكارثة، وتتحمّل الدول العربية مسؤوليةً أساسيةً في مساندة خيار الشعب السوري بالخلاص من النظام، الذي بات استمراره يشكّل مصلحة إيرانية إسرائيلية.
العربي الجديدة
—————————
سقط الأسد.. انتهت الثورة والحرب/ عمر قدور
السبت 2024/12/07
سقط الأسد. ربما يحدث هذا في الوقت الفاصل بين كتابة هذه السطور ونشرها، ويمكن الجزم بمآله ما لم تحدث مفاجأة من العيار الثقيل جداً. بل يجوز القول إن مفاجأة من العيار الثقيل قد حدثت حقاً مع طلب موسكو من رعاياها المدنيين مغادرة سوريا، وكانت الصين قد سبقتها إلى ذلك، ثم مع التسريبات (المتعمدة على الأرجح) التي نشرتها وكالة بلومبيرغ، وفيها أن موسكو ليس لديها خطة لإنقاذ الأسد على غرار ما فعلته عام 2015.
دخول الفصائل المهاجمة إلى حمص يعني الكثير في الميدان لجهة التقدم إلى دمشق، وحتى قبل الوصول إلى دمشق، لأن حمص عقدة استراتيجية تتقاطع عندها الخيوط السورية، وفقدانها معناه عزل الأسد في دمشق، خصوصاً بعدما قامت فصائل محلية في درعا والسويداء بتحرير معظمها من سيطرته، وقد لا تتأخر فصائل “نائمة” من الغوطة عن ملاقاتها. لذا، قد لا تكون نهاية الأسد بوصول الفصائل المهاجمة من الشمال إلى دمشق؛ قد يسبق السقوط وصولَها، وربما يكون مدبّراً برعاية خارجية، وقد يبقى بشار في طهران التي قيل أنه في زيارة إليها طالباً للدعم، بعد فوات الأوان حسبما تقول التطورات الميدانية.
يُستحسن في هذا السياق استبعاد السيناريو الذي يفترض أن الساحل هو آخر معقل للأسد في سوريا، وأنه سيتحصن فيه محاطاً بحماية طائفية “علوية”. هذا السيناريو لن يكون ما لم يحظَ بغطاء دولي، أي أن حماية الأسد في الساحل ستكون دولية، مع اعتماد على الشبيحة المحليين الذين سيدافعون عن أنفسهم في المقام الأول، وهم ليسوا بالشريحة التي لها غطاء اجتماعي محترم. وحتى رامي مخلوف، الذي عاد إلى الظهور بتسجيل مصوّر بعد انقطاع مديد، استبعد ضمناً ابن عمته بشار الأسد بعدما انتقده، ليزكّي الضابط المعروف سهيل الحسن وكأنه البديل المنقذ.
على الصعيد نفسه، سيكون مجافياً للواقع عدم ملاحظة التغييرات التي طرأت على المزاج الموالي عموماً، وعلى المزاج في الساحل لمن يشاء التخصيص. وكنا قد شهدنا قبل أكثر من سنة حالات فردية عبّر أصحابها عن غضبهم من الأسد، وعن يأسهم من إصلاحه هو وحاشيته في الحكم. تلك الأصوات هي تعبير عن نقمة أوسع تجاه بشار الأسد. وبالعودة إلى الوراء، كان جزء كبير من الدعم الذي ناله في الساحل له علاقة بالهالة التي ارتسمت لأبيه من قبل، والكثير من اللافتات المرفوعة هناك كانت تعبّر صراحة عن أن دعمه هو على سبيل الوفاء لأبيه.
بشار وأخوته، وأمثالهم من أولاد الجيل الانقلابي، هم أبناء العاصمة أكثر من كونهم أبناء الساحل، وينظرون باستعلاء “مديني” مكتسب إلى منابتهم الأصلية. وهذا معروف هناك. استثمار آل الأسد في الساحل هو استثمار الحرب، وقد انتهت كما نعلم إلى بقائه بعون حليفيه الإيراني ثم الروسي، ما جعله يعود إلى عدم اكتراثه بأولئك الذين استثمر بهم وقت الضرورة. في الخلاصة، إذا شئنا وصف المزاج الأكثر شيوعاً في الساحل فالتوق إلى الخلاص من حكم الأسد هو الرائج مع مسحة من التوجّس إزاء المستقبل، وهو ما يُعبَّر عنه في الجلسات الخاصة، وغالباً بتجرؤ لم يكن وارداً في السابق.
التوق إلى الخلاص يكاد يكون السمة التي توحّد معظم السوريين، على اختلاف سلطات الأمر الواقع التي تتقاسمهم، لأنهم جميعاً أُنهكوا بالبؤس الذي لاقوه خلال السنوات الأخيرة، وإذا أمكن الحديث حتى الآن عن الكثير مما يفرّقهم، فإن ما يوحّدهم هو يأس كل مجموعة من سلطة الأمر الواقع التي تحكمها. من وجهة النظر هذه، صار السوريون بمعظمهم أقرب إلى تقبّل التغيير، ولو أن استعدادهم الحالي أتى جراء ثمن باهظ جداً.
الأهم أن تقبّل فكرة التغيير اخترق الحدود القديمة التي رسمها اندلاع الثورة، بين ثورة وموالاة، فقلة من الذين كانوا موالين في عام 2011 حافظت على الولاء القديم، وبمبرراته القديمة. وفي المقابل، تراجع الكثير من الآمال التي كانت معقودة على الثورة، إذ حطّمها العنف الذي استُخدم ضدها من قبل الأسد وحلفائه، ثم العنف الذي استُخدم ضدها من فصائل ادّعت الانتساب إليها. والأصحّ القول إن هذه الفصائل تندرج في إطار الحرب المركّبة في سوريا وعليها، وحتى تشجيعها من قبل كثر محكوم بالرغبة في إسقاط الأسد، من دون أن يستتبع تفويضاً لها بالحكم بعدما جُرِّبت فيه ضمن أماكن سيطرتها.
وإذا عُزي انهيار قوات النظام إلى غياب الدعم الخارجي الروسي والإيراني، وهذا صحيح، فإن العامل الآخر شديد الأهمية هو ربط الانهيار بانعدام الحافز للدفاع عنه. ولئن تحرّك الحدث السوري الحالي، محمولاً على إرادات خارجية، فإن قوى الخارج تدرك جيداً أن الأسد فقد التأييد داخلياً، بالتوازي مع فشله في تلبية مطالب الراغبين دولياً أو إقليمياً بالتطبيع معه. سيكون السوريون متأخرين عن الخارج ما لم ينتبهوا إلى هذا جيداً، وما لم ينتبهوا تالياً إلى ما هو مشترك بينهم، من دون مبالغة تنص على أنهم صاروا متحدين.
لقد سقطت خطوط التماس القديمة، العسكرية منها والسياسية قبل العسكرية. وسقوط الأسد الذي حدث بموجب التطورات الميدانية الأخيرة، حيث لم يبرز أي مظهر موالٍ يُعتد به للدفاع عنه، يشير إلى وجوب التفكير في اليوم التالي. وسقوط الأسد يعني فيما يعنيه انتهاء الثورة التي يتشبّث البعض بالقول إنها لا تزال موجودة، وأيضاً انتهاء الحرب التي لن تكون مبرراتها قائمة مع استكمال سقوطه.
يُفترض بالوضعية الجديدة أن تنهي الاصطفافات القديمة، سواء ما تعلّق منها بالثورة أو بالحرب. ومن نافل القول أن الصراع في سوريا لن ينتهي مع سقوط الأسد، والمأمول أن يتخذ الصراع المسارَ السياسي السلمي، وأن يُحتكم إلى الآليات الديموقراطية. على ذلك من المتوقع، بل من شبه المؤكد أن تبرز تحالفات من نوع مغاير لتحالفات الثورة أو تحالفات الحرب، وبعبارة أخرى، ستنتهي تحالفات الضرورة والاستثناء لتبدأ تحالفات معبّرة عن نوع مختلف من المصالح، تحالفات أكثر ديمومة بطبيعتها.
إن فهماً رحباً لمعنى سقوط الأسد هو المدخل الأوسع والأنسب لاستهلال المرحلة الجديدة، من دون حمل أثقال الماضي القريب والتي لن يكون لها مفعول سوى إعاقة المضي إلى اليوم التالي؛ أيضاً وفق الدلالات الأعمق التي تجعل اليوم التالي يستحق هذه التسمية. ولا مبالغة في القول أن فهماً رحباً من هذا القبيل هو ما يؤسس لمصالحة كبرى يحتاج السوريون حدوثها عن اقتناع، ومن المؤسف أن اليأس من التغيير حال دونهم والتفكير في المستقبل؛ المستقبل الذي أتى مباغتاً رغم طول الانتظار!
المدن
—————————–
مات الجولاني… وُلِد الشرع/ بيار عقيقي
07 ديسمبر 2024
إذا كان من شيء يُمكن إطلاقه على “غرابة” المشهد السوري في الأيام الماضية، فهو حملة “العلاقات العامّة” التي يقودها أحمد الشرع. نعم الشرع، المعروف بأبو محمّد الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً). في تحرّر الرجل من لقبه بعد دخول قواته مدينة حماة السورية، الخميس الماضي، لحظة تخلّ أو قتلٍ لماضٍ ناهز العقدَين، من رحلة عراقية في هامش أبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي، وسجون أميركية في العراق، وظهور خجول في زوايا محافظة إدلب السورية، إلى ساعة الصفر للتمدّد خارج إدلب باتجاه حلب وحماة، ولاحقاً دمشق، إذا ظلّت وتيرة العمليات العسكرية على هذا المنوال. هي لحظة تؤكّد فيها الطبيعة رفضها الفراغ، وإذا كان أبو محمد الجولاني مرافقاً، كما اسم هيئة تحرير الشام، لجرائم وانتهاكات، فلا بدّ من قتل هذا اللقب للعودة إلى ما هو مكتوب في الهُويَّة منذ عام 1982: أحمد الشرع.
انضمّ الشرع أيضاً إلى كوكبة من قياديي هذا العالم المدركين أهمية وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً أن مسيرته بعد عام 2011 على وجه التحديد، يُمكن وصمها بـ”البراغماتية”، إذ عمد إلى تبديل تحالفاته بصورة مصغّرة عن الزعيم الأفغاني عبد الرشيد دوستم. وعلى الرغم من أن صوره والفيديوهات المنشورة تُظهِر شخصيةً يريد إبرازها، إلا أنها في المقابل تحكي كثيراً عن نياته الفعلية. قد تكون السنوات الخمس في السجون الأميركية من العوامل التي صنعت من الجولاني ـ الشرع إنساناً يسعى إلى استثمار اللحظويات، حتى تخلو الطريق أمامه. وتحت اسم أبو محمد الجولاني، راقب تهاوي أمراء تنظيم داعش، الواحد تلو الآخر، وتحوّل التنظيم خلايا متفرّقةً وموزّعةً في البادية السورية والصحراء العراقية. لاحقاً، عمل على ابتلاع الفصائل السورية في إدلب، وصولاً إلى قمعه أيَّ احتجاج ضدّ هيئة تحرير الشام. هدأ الوضع بعض الشيء بين عامي 2023 و2024، فلا بدّ من خطوة ما بعد الاستقرار النسبي.
لم يأتِ الجولاني ـ الشرع بجديد حين قرّر خوض معركة حلب، لكن الجديد كان قدرته في الحدّ الأدنى على إقناع باقي الفصائل بخوض المعارك معه، وبالحدّ الأقصى تحوّل “الهيئة” إلى الفصيل الأقوى في الشمال السوري على حساب الجميع، بما يُجبر الآخرين على مواكبته في خطواته. وفي براغماتيته، خرج من قلعة حلب، للتذكير بدور صلاح الدين الأيوبي في فتح المدينة، وفي إضافة منشآت إلى القلعة. تصرّف كأبو محمد الجولاني. لكنّه في رسالة موجّهة إلى سكّان حلب، المسيحيين خصوصاً، بدا أحمد الشرع وكأنه حارس لدولة مدنية، بل طبيب يحاول إطاحة طبيب آخرَ في دمشق.
بعد إحكام السيطرة على إدلب وحلب، بدت معركة حماة فاصلةً، أو بالمعنى العسكري خطّ التماس الجديد في سورية. لم يدم الأمر طويلاً، بمعزل عن حسابات الروس والإيرانيين والأتراك والأميركيين. الواقع أن زخم تقدّم الفصائل، ومعهم الجولاني، لم يخبُ، بل ازداد اندفاعاً، وهو ما منح الشرع الفرصة للتوجّه إلى العراق والسفارات الأجنبية بما معناه أنه لا يريد قتال أحد خارجي. ومفكراً استراتيجياً يؤكّد أن انتقال الحرب إلى العراق هو “وهم”. في كلامه توكيد على أن ما حصل من تمدّد لـ”داعش” في عام 2014، لن يتكرّر معه. لا يريد الشرع إسقاط الحدود القومية، ولا تغيير أنظمة، بل “تحقيق التغيير في سورية” فقط.
الخميس الماضي، أنهى قائد “تحرير الشام” رحلة أبو محمد الجولاني، ليبدأ مسار أحمد الشرع. لا يجب على أحد أن يفاجأ إذا تحدّث لاحقاً بلغة أكثر “مدنية”، أو دعا إلى “التعاون بين الدول الإقليمية”. لن يكون صعباً التخيّل أنه سيرتدي ثياباً مدنيةً مشروعَ رئيس لسورية المستقبلية، حسبما يوحي في رسائله وبياناته المتلاحقة. ما فعله الجولاني منذ بدء معركة حلب هو أنه قتل شخصاً قديماً بداخله، ليقوم آخر غريب على قدر غرابة الأيّام السورية.
العربي الجديد
——————————-
ثلاثة احتمالات أمام الأسد.. وهل يتدخل “الحزب” أم يخرج؟/ منير الربيع
السبت 2024/12/07
خلطت أحداث سوريا أوراق المنطقة كلها. يمكن لتطوراتها أن تشكل مدخلاً لحلّ يطال دولاً عديدة، ويمكن لها أن تتحول إلى ساحة متجددة لصراع طويل لا أحد سيكون قادراً على التحكم بمساراته ولا التوقع بمآلاته. التحولات السورية تتأثر بها دول عديدة، منها العراق، لبنان، وإيران. الوضع مختلف عما كان عليه لحظة اندلاع الثورة السورية في العام 2011. في حينها كانت إيران في عز قوتها وكذلك حزب الله والفصائل العراقية، بينما لم تكن قوات المعارضة السورية في حالة منظمة ومتماسكة مشابهة لما هو الوضع اليوم. وكان هناك الكثير من التشظي والضعف. حتى الظروف الدولية والإقليمية تختلف جذرياً. لا سيما أن المعركة التي فتحتها المعارضة تأتي بعد ضربات كثيرة تعرضت لها إيران وحلفاؤها، ولا سيما حزب الله، وبعد ضغوط أميركية أسهمت في تحييد العراق عن الكثير من المعادلات.
ثلاثة احتمالات
ما تسعى إليه المعارضة السورية هو إسقاط النظام، وإخراج إيران من سوريا. الهدف الثاني يتقاطع مع رؤية عربية ودولية، سعت إلى التقارب مع دمشق في سبيل تقويض نفوذ إيران في المنطقة، وبالتحديد انطلاقاً من الساحة السورية لما سيكون لذلك من انعكاسات على لبنان وقطع طرق الإمداد عن حزب الله، وعلى العراق أيضاً. لا سيما أن الطريق الاستراتيجي والحيوي من إيران إلى العراق فسوريا فلبنان سيكون قد تعطّل. أمام كل هذه التطورات فإن سوريا تقف أمام ثلاثة احتمالات.
الاحتمال الأول، هو أن يستمر الضغط العسكري بقوة وتتمكن المعارضة من السيطرة على المزيد من المحافظات والمناطق وتطويق دمشق، لدفع الأسد إلى تقديم تنازلات قاسية عسكرياً وسياسياً، ويساهم في إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا، ويلتزم ضبط الحدود السورية اللبنانية والسورية العراقية، بما يمنع انتقال المسلحين والأسلحة وقطع خطوط الإمداد، بالإضافة إلى تنازلات تتعلق بصيغة وتركيبة الحكم في سوريا من خلال إشراك المعارضة في السلطة.
الاحتمال الثاني، هو أن يتواصل الضغط العسكري ولا يستجيب الأسد لكل المبادرات والمحاولات، أو لا يكون قادراً على مواكبتها، فتتمكن قوى المعارضة من حشد قواها باتجاه دمشق وإحداث متغيرات دراماتيكية تفضي إلى سقوط النظام.
أما الاحتمال الثالث، فهو أن يرفض النظام تقديم أي تنازلات، ويستند على دعم إيراني وروسي جديد، مع دخول الإيرانيين بقوة على الخطّ إلى جانب حزب الله وفصائل عراقية، واتخاذ قرار بخوض قتال شرس كما حصل بعد العام 2012. ما يعني تحويل سوريا إلى ساحة اقتتال دموي عنيف قد يستمر لسنوات من دون أن تتمكن أي جهة حسم الوجهة. وبذلك تسعى إيران إلى تثبيت مناطق نفوذها كما قوى المعارضة تثبت مناطق نفوذ، وكل جهة إقليمية ودولية تعزز وضعيتها على الساحة السورية. وهذا يعني إعادة خلق مناطق نفوذ للأتراك في الشمال وامتداداً نحو الوسط السوري. فيما يسعى الأكراد إلى توسيع نطاق نفوذهم في شمال شرق سوريا، على أن يحتفظ الروس بنفوذهم في الساحل. أما إيران فستكون على خط الوسط باتجاه دمشق. وستنتهز إسرائيل الفرصة للتوسع أكثر باتجاه الجنوب السوري بذريعة حماية أمنها القومي.
القرار الإيراني
ما يعلنه الإيرانيون وما أعلنه أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم حول عدم التخلي عن سوريا، يشير إلى الاستعداد للتدخل، وسط معلومات عن إدخال حزب الله لعناصر أو مشرفين وإبداء إيران الاستعداد لإدخال مستشارين عسكريين. ما يعني الاستعداد للدخول في قتال طويل الأمد، ولكن بالتزامن مع تسريبات دخول قوات من حزب الله إلى حمص، وإعلان إيران الاستعداد لدعم دمشق عسكرياً، كانت الأخبار تتوارد عن انسحاب قوات النظام السوري من حمص. وبحال انسحب الجيش السوري من هناك لن يتمكن الإيرانيون وحزب الله من الحفاظ على مواقعهم أو الصمود لأنه لا يتوفر أي غطاء سوري لهما. كذلك بالتزامن مع الانسحابات لقوات النظام من مناطق مختلفة في دير الزور، كانت المعلومات تشير إلى انسحابات من قبل الإيرانيين من تلك المنطقة باتجاه العراق. واللافت هنا أن طهران وضعت الأسد أمام معادلة حرجة، وهي ربط تدخلها العسكري بتوجيه طلب رسمي سوري، علماً أن المطلوب إقليمياً ودولياً من سوريا هو إخراج إيران.
ما توحي به المعطيات الإيرانية أن طهران ستحاول ممارسة ضغط عسكري مضاد من قبل النظام السوري، لأجل وقف تقدم قوات المعارضة، ولتثبيت الجيش السوري في مواقع ونقاط أساسية، ما يمكن أن يفتح باباً تفاوضياً جديداً. في المقابل، المعطيات الدولية الأخرى تشير إلى أن المشروع هو ضرب النفوذ الإيراني في سوريا، والضغط على دمشق يأتي في سياق دفع الأسد إلى ذلك، علماً أنه كان قد استخدم آلية تفكير تقليدية ووفق الطريقة الإيرانية، وهي البقاء في مكانه وعلى مواقفه والرهان على الوقت لتتغير الظروف وتتحسن. فلم يقدم على أي خطوة لتحسين وضعيته لا مع العرب ولا مع الغرب ولا مع الأتراك. وهو ما أدى إلى انفجار كل هذه التطورات في وجهه.
أحداث سوريا لن تقف عند حدود الجغرافيا السورية، وحتماً تداعياتها ستطال دول الجوار المختلفة. وبما يتعلق بلبنان، فالمطلوب من دمشق قطع كل طرق الإمداد عن حزب الله، وقطع طريق دخول المسلحين وخروجهم، سواء كانوا من حزب الله أو من بعض القوى العسكرية في المعارضة، وقطع طريق الإمداد والأسلحة ما بين سوريا والعراق.
المدن
————————–
سوريا… بين الصراع على الأرض والمساومات وراء الكواليس/ عمر اونهون
مخاوف تركية من تحفيز التطورات مسار إنشاء “هيكل كردي”
07 ديسمبر 2024
يواجه الرئيس السوري بشار الأسد أصعب أيامه منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011، فعلى جبهة المعارك، تمكنت القوات المناهضة للأسد بقيادة “هيئة تحرير الشام” من السيطرة على حلب وحماة وتتقدم الآن في ريف حمص في ظل معارك للسيطرة على المدينة، في وقت أكد الجيش السوري انسحابه من درعا والسويداء. وعلى الجبهة الشمالية، سيطر “الجيش الوطني السوري” على تل رفعت، ويُقال إنه يحشد قواته حول منبج بهدف طرد “وحدات حماية الشعب” من هناك أيضا.
تجد الفصائل المسلحة نفسها هذه المرة قوية في الأسلحة والمعدات التي تمتلكها، ولكن أيضا في المعنويات والحافز.
وفي المقابل، فإن إزالة “وحدات حماية الشعب” من المنطقة واستعادة حلب وريفها– وهي منطقة ينحدر منها عدد كبير من اللاجئين السوريين في تركيا– منحتا أنقرة ميزة كبيرة. وهذا يتماشى مع أولويات تركيا الرئيسة في الأزمة السورية: معالجة المخاوف الأمنية المتعلقة بـ”وحدات حماية الشعب” وتسهيل عودة اللاجئين السوريين.
ومع ذلك، أعلنت تركيا منذ البداية أنه لا علاقة لها بهذه العملية، على الرغم من أن الاعتقاد السائد داخليا ودوليا هو أن التحضيرات لهذه العملية وتنفيذها لم يكن ممكنا من دون دور تركي بطريقة أو بأخرى. وفي تصريح حديث لوزير الخارجية هاكان فيدان، أكد المسؤول التركي على علاقات تركيا مع المعارضة السورية عبر السنوات، قائلاً إن تركيا تقاتل مع المعارضة السورية ضد إرهاب “داعش” و”وحدات حماية الشعب”، لكنه أشار إلى أن هذه العملية كانت نتيجة لقرار المعارضة وبمبادرتها الخاصة. وفيما أكد علاقات تركيا مع المعارضة، نفى أي تدخل تركي في العملية.
ولكن المعلوم، على الرغم من هذا وذاك، أن الأزمة السورية تدخل في صلب الاهتمامات التركية، وبالتالي فإن من العبث الاعتقاد أن تركيا غير متورطة فيها وأنها تتابع التطورات عن بعد، فحسب.
وقد ألقى كل من الرئيس أردوغان ووزير الخارجية هاكان فيدان المسؤولية في هذه العملية على سياسات الأسد. والحق أن الأسد عندما عاد إلى جامعة الدول العربية والعالم العربي، تصرف كما لو أن جميع المشاكل قد حُلت.
لقد تآكل النظام في سوريا بشكل كبير نتيجة للأزمات الاقتصادية وتداعي البنية التحتية، إلى جانب الفساد المستشري والأنشطة غير القانونية الواسعة النطاق. ويكافح السوريون من أجل البقاء على قيد الحياة بمبلغ لا يتجاوز 10-15 دولارا شهريا، مما يعكس الظروف المعيشية القاسية في البلاد.
إن التراجع السريع لقوات النظام لا يعود فقط إلى التحسن الكبير في تنظيم الفصائل المسلحة، بل أيضا إلى الإرهاق وانخفاض معنويات مؤيدي الأسد. وبينما ازدهر تجار الحرب، تعيش غالبية قاعدة الأسد الشعبية في حالة من الفقر. وقد تكبدت الأقلية العلوية– التي تشكل الداعم الأساسي للأسد– خسائر كبيرة، ما قلل من قدرتها على تحمل المزيد. وإذا استمرت هذه المجموعة في القتال، فمن المحتمل أن يكون ذلك بدافع الخوف من الانتقام من قبل “الفصائل الجهادية” داخل المعارضة أكثر من الولاء لحكومة دمشق.
وفي الوقت نفسه، لم يعد يخفى على أحد الانقسامات بين شركاء منصة آستانه– روسيا وإيران وتركيا. ففي مؤتمر صحافي مشترك مع هاكان فيدان في أنقرة الأسبوع الماضي، وصف وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي العملية بأنها هجوم نفذته “مجموعات تكفيرية” يُزعم أنها مدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل. واتهم المسؤول الإيراني، الذي كان قد اجتمع مع الأسد في دمشق، تركيا بشكل غير مباشر بالتعاون مع هذين البلدين والمساهمة في تحقيق أهدافهما.
وعلى الرغم من هذه التوترات، من المتوقع أن يجتمع شركاء منصة آستانه الثلاثة على هامش منتدى الدوحة بين اليوم وغدا 8 ديسمبر/كانون الأول، على مستوى وزراء الخارجية، كجزء من مناقشات منصة آستانه.
وجنبا إلى جنب، برزت على السطح جهود دبلوماسية موازية، حيث من المقرر، وفقا لتقارير صحافية، أن يجتمع وزراء خارجية الدول العربية في القاهرة بدعوة من سوريا، بينما عقد اجتماع آخر في بغداد بين إيران وسوريا والعراق.
وعلى الأرض، تتقدم القوات المناهضة للأسد باتجاه حمص، وهي مدينة ذات أهمية استراتيجية لوقوعها عند تقاطع الطريق الرئيس بين دمشق والساحل. كما تظل حمص نقطة توتر طائفي بين السنة والعلويين، حيث إنها ذات غالبية سنية مع وجود نسبة كبيرة من السكان العلويين.
وفي المراحل الأولى من الحرب الأهلية، شهدت المدينة مواجهات عنيفة وجرائم متبادلة. ورغم أنه كان من المتوقع أن تدافع قوات الأسد بقوة عن حمص، تشير التقارير إلى أنها تنسحب لإعادة تنظيم صفوفها وتأسيس خط دفاع رئيس حول دمشق.
وصرح الرئيس رجب طيب أردوغان، بعد صلاة الجمعة في 6 ديسمبر في إسطنبول، قائلاً: “إدلب، حماة، حمص، وبالطبع دمشق هي الأهداف. نأمل أن تستمر مسيرة المعارضة دون أي عقبات.”
وفي المقابل، يُرجح أن تكثف روسيا استخدام قواتها الجوية لوقف تقدم الفصائل نحو دمشق. ولكن في حال تفاقمت الانقسامات الداخلية داخل حكومة دمشق، وتفكك الجيش، وتمكنت الفصائل من إشعال انتفاضة شعبية في دمشق، فقد تتغير الديناميكيات بشكل كبير.
ويبقى الطريق الأكثر جدوى للمضي قدما هو السعي إلى حلّ سياسي مستدام يعتمد على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2254، الذي أيده جميع الأطراف في ذلك الوقت، بما في ذلك روسيا والأسد، وإن كان تحت الضغط.
أما أسوأ السيناريوهات فهو أن تنتشر الحرب الأهلية مرة أخرى في جميع أنحاء البلاد، وتستخدم حكومة دمشق الأسلحة الكيماوية مرة أخرى، ويحدث تدفق جديد للاجئين، وتنقسم البلاد.
لقد وضعت عملية “ردع العدوان”، “هيئة تحرير الشام” في الواجهة، وهي مدرجة على قائمة الأمم المتحدة للمنظمات الإرهابية منذ عام 2018، وتم تصنيفها كذلك من قبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والكثير من الدول والمنظمات الأخرى.
وفي الأشهر الأخيرة، كثرت النقاشات حول فرضية أن “هيئة تحرير الشام” قطعت جميع روابطها مع الماضي، بما في ذلك ارتباطها بتنظيم “القاعدة”، وتحولت إلى منظمة إسلامية معتدلة. وتتردد شائعات بأن الولايات المتحدة ودول غربية أخرى كانت على اتصال بـ”هيئة تحرير الشام” لبعض الوقت، ومصادر هذه الشائعات موثوقة. وتوّج ذلك بمقابلة أجرتها قناة “CNN” الأميركية الخميس مقابلة مع أبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام”، الذي كانت الحكومة الأميركية قد وضعت مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه.
وفي هذه المقابلة، قدم الجولاني مرة أخرى رسائل معتدلة ومصقولة، مشيرا إلى أنهم يعتزمون إنشاء حكومة في سوريا تعتمد على المؤسسات ومجلس منتخب شعبيا.
ويبقى التخوف من احتمال ظهور ترتيب شبيه بنموذج طالبان في سوريا، مشابها لما حدث في أفغانستان. فمن الجلي أن “هيئة تحرير الشام” تسعى لتأمين دور لها في حكم سوريا المستقبلي، بل لعلها تطمح لتولي قيادة الإدارة. قد تحل نفسها أو تعيد تنظيمها تحت اسم جديد، تماما كما فعلت “وحدات حماية الشعب” بناء على نصيحة من الولايات المتحدة.
وبالنسبة لروسيا وإيران، وكذلك اللاعبون الإقليميون الآخرون مثل الإمارات، يُنظر إلى تراجع النفوذ الإيراني في سوريا على أنه تطور إيجابي. ومع ذلك، فإن ازدياد قوة “هيئة تحرير الشام” والمنظمات ذات الأيديولوجيا المشابهة يشكل مصدر قلق لهم.
أما إسرائيل، فتُرحب بضعف النفوذ الإيراني في سوريا ويسرها أن الفصائل السورية غير مهتمة بسياسات إسرائيل وصراعاتها. بيد أن التصرفات الحالية لهذه الجماعات لا تقدم أي ضمانات بشأن سلوكها المستقبلي.
ماذا نتوقع الآن؟
في عام 2015، أنقذت روسيا الأسد، لكن احتمالية أن يتمكن الأسد من جديد من دحر الفصائل وإنقاذ الموقف الآن تكاد تكون معدومة. وإذا تحقق هذا الاحتمال الضئيل بطريقة ما، فستكون هناك الكثير من العواقب السلبية على تركيا، ليس أقلها مواجهة تدفق جديد للاجئين السوريين يعادل العدد الحالي الموجود على أراضيها.
أما السيناريو الأفضل فهو أن تخلق هذه العملية فرصة للأطراف المتنازعة للجلوس إلى طاولة المفاوضات. وربما تكون العملية العسكرية قد مهدت الطريق لذلك.
ومع ذلك، بغض النظر عن كيفية تطور الأحداث في سوريا، سيكون هناك، على الحدود الجنوبية لتركيا، الكثير من الهياكل المسلحة (“وحدات حماية الشعب”، “هيئة تحرير الشام”، “الجيش الوطني السوري”)، والتي يُقدر عدد مقاتليها بحوالي 200 ألف أو أكثر، وينبغي أن نضيف مقاتلي “داعش” إلى هذا العدد.
“وحدات حماية الشعب” هي امتداد لمنظمة “حزب العمال الكردستاني”، ولكن الغرب يعتبرها شريكا وحليفا في محاربة “داعش”، على الرغم من تمسكها بأجندتها الخاصة. وليس من المستغرب أن تكون “وحدات حماية الشعب” قلقة بشأن الخطوات التي قد تتخذها تركيا وتشعر بالقلق وعدم اليقين من مدى وثوقها بالولايات المتحدة، خاصة في ظل إدارة دونالد ترمب.
ويتضح، إلى ذلك، أن هناك نوعا من الاتصال والتعاون بين وحدات “حماية الشعب” وحكومة الأسد، وهو أمر اعتدنا رؤيته منذ بداية الأزمة. وغالبا ما تترك قوات الأسد المواقع التي تتخلى عنها لـ”وحدات حماية الشعب”.
وعلى الرغم من أن تركيا تقول إنها مستعدة لمواجهة تهديد من “وحدات حماية الشعب” وغيرها من المنظمات، فإن بعض السياسيين والمحللين الأتراك قلقون من أن تؤدي، التطورات التي تُعتبر حاليا مكاسب، إلى تحفيز وتسريع مسار يفضي لإنشاء “هيكل كردي” في المنطقة على المدى المتوسط والطويل.
وليست هذه المخاوف بلا مبرر، ولا سيما مع احتمال وجود حوار مع عبد الله أوجلان على الأجندة في ظل البيئة السياسية الحالية والاضطرابات.
وأخيرا، يعتمد ما سيحدث في سوريا على عوامل شتى، بينها ما إذا كانت الأطراف المتصارعة على الأرض ستتصرف بعقلانية. ولعل واحدة من أكثر العوامل الحاسمة ستكون المفاوضات والمساومات التي تجري وراء الكواليس، والتي ربما لم نشهدها علانية، ولكن لا ينبغي الشك في أنها تحدث وراء الأبواب.
المجلة
———————————-
الخوف والهلع في سوريا… هل “يجنّد” النظام الأقليات كورقة أخيرة؟/ مكسيم عثمان
07.12.2024
الكثير من السوريين اليوم يؤدون دور المتفرج، المتفرج الذي لا يُرحم، بل يعاني من الاستبداد الموازي والمتجاور بين النظام والمعارضة. في هذه الديناميكية، على كل سوري أن يشعر بالقمع من طرف ما؛ لا أحد يملك قدرة التملص من قبضة القمع. والأسوأ، أن المتفرج فقد قدرته على التأثير أو الشعور بأن سوريا تعنيه وهي تحترق بهذا الشكل المأساوي.
غيرت عملية “ردع العدوان” التي تقودها فصائل المعارضة السورية المسلحة الواقع السياسي خلال أيام معدودة، إذ سيطرت الفصائل على مساحات واسعة من سوريا من ضمنها مدينة حلب، ثاني أكبر المدن السورية، وحماة والآن على أبواب حمص، الاختبار الحقيقي لهذه الفصائل في ظل التوترات الطائفية والأقليات الخائفة على مصيرها بوجود عناصر متشددة لا تخفي خطابها الطائفي.
تطمين الأقليات الدينية (المسيحيين والعلويين) والإثنية (الأكراد والأزيديين) عبر “فيديوات ترويجية” قابله صمت النظام السوري، وتراجع قواته بصورة لم يصدقها البعض، وتلويحه و”قسد” بخطر “داعش” وتحركها في البادية السورية.
انطلقت المعركة بتنسيق عالٍ بين الفصائل، وخلال ساعات الهجوم وامتداده لأيام، ترافق مع “إعادة انتشار” للجيش السوري الذي يتراجع بصورة مستمرة، وانبرى الآلاف من المغردين والمؤثرين للتعليق على الحدث، متفاعلين مع حالة فرح سادت بين معارضي النظام السوري، برز أيضاً مؤثرون ساخرون اجتاحوا وسائل التواصل الاجتماعي، معبّرين عن أكثر الغرائز عنفاً بطريقة ساخرة وشامتة.
تصاعدت مظاهر الشماتة العدوانية سريعاً لتصل إلى حالة من الانفصال العاطفي، وشكل من أشكال الوعيد المؤجّل للجنود السوريين، المجنّدين إلزامياً، إذ تعرضوا للضرب في استعراضات مسرحية مُهينة، وفي أخرى تحوّل الأمر إلى نوع من أنواع استعراض الأخلاق، كسؤال الجرحى منهم “هل أنت علوي أم شيعي؟”، أثناء نومهم في أحد المشافي، وكأننا أمام تعداد أو استعراض للفرق والطوائف بين الطرفين، المسلحين!.
تتناقض الفيديوات، بعض المقاطع تُصوّر بُعداً متعاطفاً مع “الأسرى”، وبعضها يدعو إلى قتلهم وتقتلهم على الهواء مباشرة، لكن لا انتهاكات مسجلة حد الآن، وانتشرت آليات تنفيس جمعي وفردي قاتمة، حيث اختلطت مشاعر الفرح بالنصر ورغبة دفينة في الانتقام، مع حذر وريبة جراء ما حدث وسرعته !.
عاد المشهد السوري ليحمل خليطاً من التفكك الأخلاقي وتصريحات تحتفل بـ”النصر القادم من الله” ومكارم أخلاق “أحفاد عُمر”، وانتشر التلذذ بفيديوات ترافقها كلمات ” فطايس، دعسناهم، جايين نحرقكم” وبدأت التأويلات حسب كل خائف. لكن نصر أو هزيمة، نحن المدنيين نشاهد عاجزين أمام الاثنين، بين من يملأ حلب كهرباء وماء ويحافظ على أشجار الميلاد، وبين خوف من الطيران الذي قد يقصف المدينة بمن فيها!.
“خائن أو حُر”
عادت السجالات السورية إلى شكلها الأولي، بين “خائن” و”حُر”، بين من يؤيد إخراج النظام وقواته وميليشياته الطائفية من البلاد، ومن يرى في هذا التحرير نوعاً من الفوضى أو الحرية السلبية التي لا تبني شيئاً.
بعيداً عن موالي النظام، الذين شعروا بالخوف واعتبروا المقاتلين المحررين “إرهابيين”، برز سجال آخر بين معارضي النظام أنفسهم. شعور البعض بأن ما حدث لا يمثّل تحرراً حقيقياً أدى إلى انقسام جديد، بل وأكثر تكثيفاً، داخل صفوف المعارضة، وسادت فوضى سلطوية في المناطق التي خرج النظام منها.
رفض بعض أنصار “الثوار- المجاهدين” استقراء هذه الفوضى أو فهمها في المناطق التي سيطر عليها جديداً، خصوصاً أمام حديث عن تسليم “حكومة الإنقاذ” حكم حلب، واستبدل السؤال السياسي بـالخدمي، عبر توفير الماء والكهرباء والإنترنت، مع ذلك تحضر أطياف عدالة انتقامية وعدوان مستتر، سيؤسس من جديد لنزاع داخلي جمعي قد يُعيد إنتاج الصراعات بشكل أعمق، صراعات لا يمكن تجاوزها بتفعيل القطاع الخدمي في حلب وحماة!.
في هذا السياق، لا تنفك مصطلحات الإسلام السياسي عن لعب دورها في تأسيس التعبئة الأيديولوجية، واستعراض “مكارم الأخلاق” لدى المسلحين، مقابل “أخلاق” النظام والتقتيل الطائفي الذي شهدته سوريا، هذه الرؤية لا تمنع أي حوار فقط، بل تُعيد كل جهة إلى تموضع طائفي صارخ، أما حلّ “هيئة تحرير الشام”، فلا يعني بناء دولة سورية مدنية أو فتح حوار قائم على الحقوق والواجبات، خصوصاً أن تاريخ الهيئة والنظام في تصفية الخصوم واضح وموثق.
الاحتفاء بالانتقام؟
يخلط أغلب إعلاميو “ردع العدوان” بُعداً إنسانياً مع بُعد انتقامي، وبرزت خطورة المؤثرين على “تيك توك” و”يوتيوب” بشكل هائل، فأغلبهم إما برفقة مع “االمجاهدين -الثوّار” أو خارج البلاد، ولهم تأثير على الظاهرة الاجتماعية السورية عموماً، لافتقار سوريا النوعي والعميق للنخب السياسية المؤثرة، أو الأحزاب، أو حركات التجمع المدني، ما أسبغ على السوريين تبنياً لمشاهد السلاح والحديث الانتقامي، ومصطلحات التحرير ضمن سياق “إلهي”.
يتسطح العقل السوري ويعيش على حوادث سطحية ظاهرها الفرح، من دون التمعن والتفكير بالغايات الكبرى البعيدة التي يُمكن صنعها، فالرغبة في التخلص من النظام؛ ورغم مشروعيتها، لن تودي إلى شيء، طالما لا يملك المدنيون أي خطة تُوضع أمامهم، لا شيء يُرى إلا بوصفه تحرراً وانتقاماً.
ما يزيد الوضع سوءاً هو انخراط بعض مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي في دعم حركة “ردع العدوان” بأساليب تتّسم بالشماتة أو تعكس تضخماً نفسياً ناجماً عن سباق المشاهدات وما تعرضه صفحاتهم بشكل مكثف. يظهر أن البعض يتناول الأحداث وكأنها فرصة لزيادة التفاعل، متجاهلين عمق القضية السورية. بدلاً من التركيز على أبعاد الصراع الحقيقي، ينغمسون في إطلاق شعارات وكلمات عدائية وسطحية، مما يُفقد القضية عمقها ويحوّلها إلى مجرد صراع بين شخصيات إعلامية، لا نضال وطني.
هذا التوجه يخلق شعوراً لدى المتابع بأننا أمام استراتيجية تهدف إلى إلهاء العقل السوري، عبر إشغال الناس بقضايا هامشية تزيد الانقسام. ما كان تراجيدياً يتحوّل إلى بطولات زائفة يصنعها مؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي، مما يضر بالمشهد الإعلامي، فيجعله أداة للتسلية بدلاً من نقل المعرفة.
الأسوأ أن شخصيات إعلامية بارزة تنخرط في هذه الدوامة، مثل الهجوم المتبادل بين حسين مرتضى وآخرين، مما يعكس انحدار النقاش إلى خلافات شخصية، تُفقد القضية رمزيتها الوطنية، وتجعلها تبدو كصراع فردي بعيد عن جوهرها الحقيقي.
مرض العسكرة المزمنة
لم تكن ردة فعل النظام ومواليه المقربين سوى الدفع بالحرب إلى أقصاها، لا شيء يتغير في الوجه الآخر لهذه البلاد؛ سارع النظام إلى قصف المدنيين في إدلب وريفها وحلب، بدا الرد الخجول عنيفاً، لكنه غير كاف لإعادة ترسيخ سيطرته بأي وسيلة ممكنة. كأنه يعاني من مرض العسكرة المزمنة، لا شيء سوى في العنف، حيث يبني بقاءه على القوة المسلحة، ويرفض أي مقاربة سلمية أو سياسية.
وهذا ما دفع ثمنه أيضاً في عدم انجذاب مواليه، الذين لم يعودوا مثلما كانوا في عام 2011، فهروب الجيش لم يأتِ من فراغ، فإن لم تكن أوامر بالانسحاب، ربما من إحساس الجيش بأن لا أهمية أبداً تُرتجى بالقتال مع النظام، فراتب العسكري لا يتجاوز 23 دولاراً، ولم يعد الاستقطاب الطائفي للعلوين يُجدي نفعاً، لكن النظام يُراهن بدون أدنى شك على خطاب المعارضة لإعادة تحفيز العلويين للقتال معه، خاصة أنهم عانوا من فساد النظام وإفلاسه، كما عانى الشعب السوري كله.
ناهيك بخروج رامي مخلوف، الذي “خاصمه” النظام، وأعلن “ثقته” بسهيل الحسن، صاحب فكرة البراميل، محشّداً الطائفة العلوية، ومعلناً استعدادته للتبرع بما يفوق 3 ملايين دولار لـ”يد الحسن” من أجل محاربة “الإرهابيين”، هذه الدعوة لحمل السلاح، رافقها عروض ودعوات للتسلح مع رواتب من قبل وسيم الأسد مثلاً، الذي دعا “المواطنين الشرفاء” لتشكيل “مجموعات إسناد وحماية” لمحافظة اللاذقية وريفها، المناطق التي تحوي علويين ومسيحيين.
الخوف من المسلحين لدى المدنيين، تُرجِم بصور لأعداد كبيرة من سكان مدينة حمص، يقال إنهم علوييون، يتجهون نحو قرى الساحل، ودعوات إلى التسليح لم تظهر إلى العلن، عدا فيديو ترويجي من” مركز الدفاع الوطني” في اللاذقية، حيث يظهر ضابط يخطب بالمتطوعين بـوصفه “قوة التدخل السريع” لينتهي الفيديو بهتاف “بالروح بالدم نفديك يا بشار”.
هناك شيء لا يقدّره المعارضون المسلحون اليوم، بأن النظام لم يعد يملك أي هيمنة اجتماعية أو سياسية، النظام محاصر ومنهار وعنيد، و90 في المئة من الشعب تحت خط الفقر، وسادت دعابة سريعة في مناطق النظام: “الكهرباء جاية بحلب من الصبح للمسا من تركيا”، بات الناس أقل قدرة على الخوف أو الارتعاد من أي مصير جراء دور المتفرج الذليل الذي كرسه النظام.
حشد النظام إعلامييه لدعم الجيش السوري، بينما حاول الإعلام الرسمي إنكار الوجود الإيراني، برغم أن مئات الصور التي تملأ مناطق سيطرة النظام كانت كاشفة ومحرجة له، صور الخميني، وحسن نصر الله، والخامنئي، وسليماني أصبحت رموزاً واضحة في المشهد.
لكن، تكشف الصور كيف عمل النظام على تحويل الثقافة الرمزية للمناطق التي يسيطر عليها، إلى أدوات قهر تحت قيادة إيران، من الأعلام السوداء إلى صور سليماني المنتشرة في كل مكان، يبدو أن الهيمنة الإيرانية لا تقتصر على السياسة أو العسكرة، بل تمتد إلى الهوية الثقافية لسكان تلك المناطق، في محاولة لإعادة تشكيلها بما يخدم المشروع الإيراني.
بدا وكأن المناطق العسكرية الخاضعة للنظام أصبحت تابعة لإيران، يسعى النظام إلى تثبيت هيمنته عبر رواية واحدة تتمحور حول مكافحة الإرهاب، متجاهلاً تماماً أي نظرة أخلاقية لتوجهات الناس أو احتياجاتهم. هذا السعي الأحادي يعكس فشله في تقديم أي مشروع سياسي، وردة فعله اليوم تؤكد أن النظام لن يفعل شيئاً على الإطلاق، في ما يخص الشأن السياسي.
ماذا بعد دور المتفرج القاسي؟
ما يلخص المشاهد كلها خروج المعتقلين السياسيين ركضاً من أبواب الفروع الأمنية، من دون أن ينتظروا شيئاً، سوى الخلاص من النظام ومن سطوته وآلته العنيفة. هذا هو أكثر مشهد يظهر على السوريين المستسلمين، خرجوا من الأبواب، من دون أن ينظروا إلى محرريهم، يحتاجون خلاصاً خارج أي إطار رمزي أو ديني أو سياسي، الركض بقدمين شبه حافيتين للوصول إلى أي مكان خارج السجون، أو سطوة الأسلحة أو العمائم.
عانى السوريون من استلاب هائل، بُني على مدى أربعين عاماً من نظام غير سياسي، يكرس شكلاً لدولة تُنظم الحشود الفيزيائية من دون أن تعترف بالسوريين كشعب، بل تراهم مجرد جمهور خاضع بلا إرادة، فالنظام وإيران لا يسعيان إلى تعبئة ثقافية، يستخدمان الرموز كوسائل لقهر ثقافة الجماعة السورية وترسيخ السيطرة.
بالتوازي مع ذلك، يتمسك النظام بـالاستدامة العسكرية كأداة لمنع النازحين والعائدين من العودة إلى بيوتهم، مع إدامة الانقسامات المجتمعية والسياسية، تلك التي تُخفي وراءها الخوف، الذي يلخص بأخبار عن ازدحام هائل في طريق حمص- طرطوس، وصور مئات السيارات تتجه بعيداً عن حمص، نحو قرى الساحل، هناك حيث الخوف على أشدّه.
الواقع اليوم، الذاكرة القهرية لانقسام السوريين، تدفعهم إلى تبني خطاب أحد المنتصرين، سواء من النظام أو المعارضة. لم يبقَ شيء من الدولة أو الرغبة فيها، وفقد السوريون، في ظل مجاعة كبرى وصراعات طويلة الأمد، أي نية أو طاقة للانفعال.
الكثير من السوريين اليوم يؤدون دور المتفرج، المتفرج الذي لا يُرحم، بل يعاني من الاستبداد الموازي والمتجاور بين النظام والمعارضة. في هذه الديناميكية، على كل سوري أن يشعر بالقمع من طرف ما؛ لا أحد يملك قدرة التملص من قبضة القمع. والأسوأ، أن المتفرج فقد قدرته على التأثير أو الشعور بأن سوريا تعنيه وهي تحترق بهذا الشكل المأساوي.
نستطيع أن نشارك كل سوري فرحه بعودته إلى بيته وقريته ومدينته، لكن على أمل أن يكون لهذا الفرح أمانٌ، ألّا يُقصف بالطائرات، وأن يتمكن كل نازح من العودة إلى بيته وبلاده من دون خوف وبسلام، ألّا يدفع الكل إلى مقتلة جديدة.
النظام السوري لن يستسلم، والإرادة الدولية تعتاش على فعل الفرجة أكثر من أي أحد. لكن، أقله، يملك السوري اليوم اعترافاً لنفسه، بأن دور المتفرج يحقق سلاماً داخلياً، كي لا يشارك في مقتلة، أو يحتفي بنصر قد يليه حريق.
درج
———————
4 قوى تتصارع في الريف الشرقي لحلب… ماذا نعرف عن أهدافها؟/ كمال شيخو
07 كانون الأول 2024
في الوقت الذي نفى فيه مسؤول عسكري كردي في «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) تحركها رسمياً نحو الريف الشرقي لمحافظة حلب، تظهر إفادات ميدانية تقدمها وسيطرتها على بلدتي الخفسة ومسكنة الواقعتين بالنطاق، وأن «قسد» باتت تفصلها عن مركز بلدة دير حافر المجاورة نحو 20 كيلومتراً.
وأفرزت معركة حلب وجود 4 قوى عسكرية سورية متنافسة، تتوزع في الريف الشرقي للمدينة، التي تُعد ثانية كبريات المدن السورية، وعاصمتها الاقتصادية.
والقوى الأربع المتصارعة حول الريف الشرقي لحلب، هي: الجيش السوري الحكومي، و«هيئة تحرير الشام» المقربة من تركيا، و«الجيش الوطني الحر» (الموالي لتركيا)، وقوات «قسد» (المدعومة من الولايات المتحدة، وقوامها من الأكراد)، وهذه الجهات بعضها يعادي بعضاً، ودخلت في معارك طاحنة منذ السيطرة على حلب، وتقدمها نحو محافظة حمص وسط سوريا، بعد سيطرتها على مدينة حماة.
وذكر فرهاد شامي، مدير المكتب الإعلامي لقوات «قسد»، خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أنه لم ينشأ متغيرات بخريطة التوزيع العسكري فيما يتعلق بـ«قسد» المتمركزة في مناطق نفوذها غرب نهر الفرات، ويقول: «لا تغيير يذكر في خريطة التوزيع العسكري لقواتنا التي تتصدى لهجمات نفّذها (مرتزقة الاحتلال التركي)، على مناطق سيطرة قوات مجلسي (منبج)، و(الطبقة) العسكريين، وأوقعت كثيراً من القتلى في صفوفهم».
وأشار المسؤول العسكري الكردي إلى أن اشتباكات عنيفة تخوضها القوات بريف منبج الجنوبي، بالتوازي مع اشتباكات في بلدة دير حافر بريف حلب الشرقي، وأضاف شامي: «إن قوّاتنا أبدت مقاومة عظيمة لحماية أهالي تلك المناطق من انتهاكات وجرائم المرتزقة، ونؤكد جاهزيتنا الدائمة للتصدي لأي هجمات إرهابية»، على حد تعبيره.
وتسيطر «قسد»، وهي تحالف بين قوات كردية وعربية تدعم الولايات المتحدة الأميركية وقوات التحالف الدولي، على كامل مدينة منبج وريفها وبلدة العريمة التابعة لمدينة الباب بالريف الشرقي لمحافظة حلب، وعلى مدينة الطبقة التابعة لمحافظة الرقة وتقع غرب نهر الفرات، إلى جانب مركز مدينة الرقة والريف الشرقي الشمالي لمحافظة دير الزور والقسم الأكبر من محافظة الحسكة الواقعة أقصى شمال شرقي البلاد.
4 قوى عسكرية سورية تتنافس للسيطرة على الريف الشرقي لحلب
وتقدمت «قسد» على الأرض، وسيطرت على محطة «بابيري» لضخ المياه التي تعد مصدراً رئيسياً لتزويد مدينة حلب بمياه الشرب، كما تمكنت من السيطرة على قرية خفسة في ريف منبج الجنوبي بعد اشتباكات عنيفة مع فصائل «الجيش الوطني الحر» الموالية لتركيا.
تشابك وتزاحم
وفي المقابل، سيطرت الفصائل الموالية لتركيا المنضوية في صفوف «الجيش الوطني» وغرفة عمليات «فجر الحرية»، الأحد الماضي (الأول من ديسمبر الحالي)، على بلدتي السفيرة وخناصر بريف حلب الشرقي، ومطار كويرس العسكري والفوج 111 والمحطة الحرارية، وصولاً إلى الضفة الغربية لنهر الفرات في جيب محاصر يمتد بين بلدتي خفسة (شمالاً) ومسكنة (جنوباً) وعلى طول أقل من 10 كيلومترات، بعد سيطرتها على قرى الشهباء وبلدة تل رفعت الاستراتيجية بريف حلب الشمالي.
فيما سيطرت «هيئة تحرير الشام» وفصائل غرفة «الفتح المبين» التي تقود عملية «رد العدوان»، على كامل مركز محافظة حلب ومدينة السفيرة وبلدات التايهة وجبل عزان الواقعة بريفها الشرقي، وكل المدن والبلدات بريفها الجنوبي، وانتزعت المحطة الحرارية من قبضة الفصائل الموالية لتركيا، وتقدمت صوب محافظة حماة المجاورة لحلب.
ويحتفظ الجيش السوري بمثلث محاصر في ريف حلب الشرقي، يشمل بعض قرى بلدات مسكنة ودير حافر وخناصر التي خسرها مؤخراً، بعد انسحاب قواته للتمركز في ريف حماة الجنوبي، ومحافظة حمص الملاصقة للمنطقة.
إعادة رسم الحدود
ويتسم المشهد في ريف حلب الشرقي بالتوتر والتغير المتسارع بعد انسحاب قوات الجيش السوري، ويرى بدر الدين ملا رشيد، الباحث المختص بالشأن الكردي في مركز «رامان» للبحوث والدراسات الاستراتيجية، أن معركة حلب خلطت الأوراق السورية، وأعادت رسم حدود مناطق التماس والسيطرة بين الجهات السورية وداعميها الإقليميين والدوليين.
وقال ملا رشيد لـ«الشرق الأوسط» إن «قوات (قسد) سيطرت على عدة مواقع استراتيجية لتنسحب لاحقاً بذات السرعة، واليوم تعود للتقدم على مسار حوض نهر الفرات الغربي، ويظهر من هذا التقدم وجود رغبتين رئيسيتين لدى هذه القوات».
عناصر من «قسد» خلال عمليات سابقة ضد الفصائل الموالية لتركيا في شمال حلب وشرقها (المرصد السوري)
وبحسب الباحث، تتمثل الرغبة الأولى في «السيطرة على ضفة نهر الفرات الغربية لإبعاد خطر سيطرة قوات (الجيش الوطني الحر) لمنعها من التقدم نحو بحيرة الأسد ثم مدينة الطبقة الاستراتيجية، وسهولة الوصول لمركز محافظة الرقة لاحقاً من الجنوب». بينما تتمثل الرغبة الثانية وفق الباحث في «محاولة (قسد) كسب مزيد من المناطق والمواقع الاستراتيجية عسكرياً، لتشكّل خط مواجهة جديد بدلاً من الخطوط الحالية المتمثلة بحدود مدينة منبج الإدارية بحلب، والطبقة بالرقة الملاصقة لضفة نهر الفرات الغربية».
وأوضح أن انتشار وتوزع 4 جهات عسكرية سورية متصارعة ومتحاربة بريف حلب الشرقي «يحتاج لمزيدٍ من الوقت، ولربما ستفتح مواجهات مستقبلية في ظل وجود تضخم كبير من قوات الأطراف المتحاربة على حساب انحسار القوات السورية، وداعميه روسيا وإيران».
ويرهن الباحث ضبط إيقاع تشابك وتزاحم هذه القوات في بقعة جغرافية محدودة بـ«العامل الحاسم المتمثل في تدخل الولايات المتحدة في ضبط المشهد بين الأطراف المتحاربة، منعاً لمزيد من الصراعات العسكرية والأمنية، وللتركيز على معركة ما بعد حماة، في حال تقدمت قوات (ردع العدوان) أكثر نحو العاصمة السورية دمشق».
—————————-
تمدد الفصائل يُقلق دول الجوار السوري
إسرائيل تتمسك بتحجيم «حزب الله» وإيران… تركيا ترى فرصة سانحة… لبنان يخشى التداعيات… العراق بين نارين… والأردن أمام سيناريو تغيّر مصدر التهديد على حدوده
كميل الطويل
07 كانون الأول 2024
تبدو سوريا، هذه الأيام، على أبواب تغيير كبير في موازين القوى لم تشهده منذ عام 2011، فالزحف السريع لمقاتلي «هيئة تحرير الشام»، بمعاونة فصائل مسلّحة أخرى، من حلب شمالاً باتجاه العاصمة دمشق جنوباً، مروراً بحماة بالأمس، وربما حمص الآن، بات يهدد فعلاً بتغيير جذري في خريطة السيطرة والنفوذ بالبلاد، وهي خريطة كانت شبه ثابتة منذ عام 2020. وواضح أن تمدد الفصائل المسلحة في أجزاء واسعة من سوريا ستكون له تداعيات كبيرة على الداخل السوري، خصوصاً أن هدفها المعلَن قلب نظام الحكم. لكن تداعيات ما يحصل لن تكون محصورة في النطاق السوري المحلي، فثمة قلق واضح في دول الجوار السوري من تقدم الفصائل نحو دمشق، ربما باستثناء تركيا التي شكلت، لسنواتٍ، المظلة التي احتمى تحتها معارضو الرئيس السوري بشار الأسد، والتي ترى في انتصاراتهم ضد قواته فرصة سانحة لتحقيق أهدافها في سوريا.
فما تداعيات ما يحصل في سوريا على دول الجوار؟
تركيا… فرصة مواتية
نأت تركيا، منذ البداية، بنفسها عن هجوم «هيئة تحرير الشام» على حلب، لكنها حمّلت، في الوقت نفسه، حكومة الأسد المسؤولية بسبب رفضها إبرام اتفاق مع معارضيها. قد تكون حكومة الرئيس رجب طيب إردوغان صادقة فعلاً في نفيها وقوفها المباشر وراء الهجوم الحالي للفصائل. لكن مؤيدي حكومة دمشق سيكون من الصعب، في المقابل، إقناعهم بأن أنقرة لم يكن في وسعها، لو أرادت، منع «هيئة تحرير الشام» من إطلاق معركة حلب. فهذه «الهيئة»، مع فصائل أخرى، كانت تحتمي تحت مظلة الانتشار العسكري التركي في شمال غربي سوريا، على الأقل منذ عام 2020، وهو التاريخ الذي تمكنت فيه حكومة الأسد، بمساعدة روسيا وإيران، من دفع معارضيها باتجاه جزء من محافظة إدلب؛ الجيب الوحيد الذي بقي تحت سيطرة الفصائل المسلحة. كان المعارضون وقتها على شفا الهزيمة، لولا التدخل العسكري التركي الذي منع روسيا من إكمال مهمتها في مساعدة الأسد على استعادة شمال غربي البلاد. وأسهم التدخل التركي في قيام ما أصبح يُعرَف لاحقاً بـ«مناطق خفض التصعيد» أو منطقة «بوتين – إردوغان» التي رسم حدودها الرئيسان الروسي والتركي، وبقيت ثابتة منذ عام 2020.
أعادت «هيئة تحرير الشام»، منذ ذلك الوقت، بناء قواتها وفرضت هيمنتها على كثير من الفصائل المسلحة التي كانت منتشرة في شمال وشمال غربي البلاد. وبالتوازي مع إعادة بناء قوتها، سعت «الهيئة» إلى إعادة رسم صورتها من خلال تأكيد فك ارتباطها بتنظيم «القاعدة»، وتقديم نفسها على أنها فصيل معارض نشاطه محصور بسوريا وليست له علاقة بمشروع «الجهاد العالمي». وهكذا أطلق زعيم «الهيئة» أبو محمد الجولاني حملة إعلامية سعى فيها إلى تسليط الضوء على صورته الجديدة بوصفه قائد فصيل همُّه تغيير نظام الحكم في دمشق. خلع الجولاني عباءة «الزعيم المتشدد» التي ظهر بها عندما كان زعيماً لـ«جبهة النصرة»؛ فرع «القاعدة» في سوريا، وصار يجول بملابس مدنية على البلدات المسيحية والدرزية في ريف إدلب، محاولاً طمأنة سكانها القليلين الخائفين من ممارسات تستهدفهم من قِبل جماعات متشددة.
لكن الإنجاز الأكبر، الذي تمكّن الجولاني من تحقيقه، تمثَّل في تنفيذه تعهداته للأتراك، كما يبدو، وعبرهم لأطراف خارجية، بأنه لن يسمح باستخدام مناطق نفوذه لشن هجمات خارج سوريا. في هذا الإطار، قام الجولاني بتحجيم نفوذ مؤيديه السابقين الذين رفضوا فك الارتباط بـ«القاعدة»، وألزم فصائل مسلحة أخرى بالبقاء تحت سقف ما يقرره تنظيمه. شمل ذلك فصائل عدة؛ بينها جماعات متشددة من خارج سوريا، كمقاتلي الحزب الإسلامي التركستاني؛ وهم من الأويغور الصينيين الذين قَدِموا إلى سوريا مع بدء الثورة عام 2011 وباتوا، اليوم، وفق بعض التقارير، جزءاً من التركيبة السكانية في شمال غربي البلد نتيجة تزوجهم من سوريات. وشمل تحرك الجولاني أيضاً مقاتلين من الأوزبك والروس والشيشان، من ضمن مناطق أخرى.
وفوق ذلك كله، شنت «هيئة تحرير الشام» حملة واسعة ضد خلايا تنظيم «داعش»، التي تبيَّن أنها تنشط سراً في إدلب، علماً بأن زعيميْ «داعش» السابقين أبو بكر البغدادي وأبو إبراهيم الهاشمي القرشي قُتلا في عمليات أميركية بريف هذه المحافظة. وعلى الرغم من حملات الجولاني ضد «داعش»، فإن خلايا التنظيم ظلت قادرة على شن هجمات متفرقة، بينها هجوم انتحاري يُنسب لها أودى بحياة قيادي كبير سابق في «هيئة تحرير الشام» هو أبو ماريا القحطاني الذي كان حليفاً للجولاني لدى تمرده على زعيمه السابق أبو بكر البغدادي. وكان القحطاني قد اختلف مع الجولاني قبل مقتله، في وقت سابق هذه السنة، إذ كان يدعو إلى حل تنظيم «القاعدة» كلياً نتيجة نفوذ إيران على قادته المقيمين على أراضيها.
وانطلاقاً مما سبق، يمكن توقع أن تكون تركيا سعيدة بما يحققه الجولاني وتنظيمه في سوريا، وستَعدُّ ذلك في النهاية انتصاراً لسياستها وتمدداً لنفوذها في اتجاه دمشق. لكن تمدد حلفاء تركيا جنوباً في اتجاه العاصمة السورية يرافقه تمدد آخر سيصب في مصلحتها أيضاً، باتجاه ريف حلب الشرقي. وفي هذا الإطار، تبدو الفصائل الموالية لتركيا عازمة على طرد القوات الكردية الناشطة، في إطار ما يُعرف بـ«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، من الضفة الغربية لنهر الفرات، إذا نجح هجومها على ريف منبج. وتُحقق الفصائل السورية هنا رغبة الرئيس التركي التي كررها مراراً بأنه يريد إبعاد القوات الكردية عن الشريط الحدودي مع بلاده. ولم يتمكن إردوغان من تنفيذ رغبته هذه، في السنوات الماضية، بسبب الفيتو الأميركي. فالولايات المتحدة تَعدُّ الأكراد حلفاء لها؛ كونُهم كانوا رأس الحربة في القضاء على تنظيم «داعش» عام 2019. وتأتي عمليات الفصائل الموالية لتركيا ضد الأكراد، اليوم، في وقت تمر فيه الإدارة الأميركية بمرحلة انتقالية بين إدارتين، ما يعطي انطباعاً بأن حكومة الرئيس جو بايدن قد تكون عاجزة عن وقف التحرك الحالي ضد الأكراد السوريين.
العراق قلِق والجولاني يطمئنه
تشعر الحكومة العراقية بأنها معنية مباشرة بما يحصل في سوريا، لكنها عالقة بين نارين: نار الماضي الذي يثير مخاوفها من الفصائل السورية، ونار المستقبل الذي يُحتم فتح صفحة جديدة معها في ضوء رسائل الطمأنة التي تبعثها إلى بغداد.
تتخذ الفصائل الشيعية العراقية، التي لعبت دوراً أساسياً في الهزيمة التي ألحقها الأسد بخصومه، قبل انتكاسته الحالية، من محافظة دير الزور، شرق البلاد، قاعدة أساسية لنشاطها الذي اندرج في إطار رغبة إيران في تأمين خط إمداداتها عبر العراق وسوريا إلى «حزب الله» في لبنان. لكن الفصائل العراقية تبدو عاجزة، اليوم، عن التدخل مجدداً لإنقاذ الحكومة السورية. قد تكون هناك رغبة لدى بعض الفصائل في التدخل عسكرياً لمساعدة الأسد، لكن غير واضح ما إذا كان هذا الأمر مسموحاً به أميركياً. ومعلوم أن الطيران الأميركي وجّه، قبل أيام، ضربات ضد فصائل عراقية يُزعم أنها كانت تتجه من شرق سوريا لمساعدة الجيش النظامي في صدّ الهجوم على ريف حماة، ما يوحي بأن الأميركيين ربما يعارضون انخراط الفصائل العراقية في مساعدة الرئيس الأسد.
من جهتها، تبدو الحكومة العراقية، المدعومة من فصائل بعضها شارك في الحرب السورية، قلقة من التغييرات الحاصلة في سوريا، وهو أمر عبّر عنه كبار المسؤولين العراقيين. والقلق ربما يكون مرتبطاً بهوية الفصائل التي تُقاتل الحكم السوري. فالحكومة العراقية تعرف أن الجولاني نفسه كان عنصراً في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق بقيادة أبو بكر البغدادي. يتذكر العراقيون بالطبع أن هذا التنظيم كان وراء إرسال جيش من الانتحاريين الذين ارتكبوا فظاعات في البلاد وكادوا يجرُّونها إلى حرب أهلية. وكان لافتاً أن الجولاني سعى، في الأيام الماضية، إلى طمأنة حكومة محمد شياع السوداني بأنها يجب ألا تخشى وصولهم إلى الحكم في دمشق، وبأنهم لا يريدون التدخل في الشؤون العراقية، رابطاً ذلك بالطبع بتحييد الحشد الشعبي العراقي عما يحصل في سوريا اليوم.
على أي حال، لا يُعتقد أن الفصائل العراقية يمكن أن تتحرك لمساعدة الرئيس السوري إلا إذا كان ذلك رغبة إيران؛ فهذه الدولة كانت وراء إقامة تحالف يضم جماعات شيعية من أكثر من دولة (مثل الفصائل العراقية و«حزب الله» اللبناني وجماعتي «فاطميون» و«زينبيون») للتدخل في سوريا ودعم حكومتها تحت مسمى حماية المراقد الشيعية المقدسة. وفي حين بدت طهران مترددة، في الأيام الماضية، في اتخاذ خطوة واضحة لدعم الأسد من جديد، يبدو أن هذا الأمر على وشك أن يتغير إذا صحت الأنباء التي سَرَت، اليوم، عن قرار إيراني بالتدخل. فقد نقلت وكالة «رويترز» عن مسؤول إيراني كبير أن طهران تعتزم إرسال صواريخ وطائرات مسيّرة إلى سوريا، وزيادة عدد مستشاريها العسكريين هناك؛ لدعم الرئيس الأسد. وذكر المسؤول، الذي طلب عدم كشف هويته: «من المرجح أن طهران ستحتاج إلى إرسال مُعدات عسكرية وصواريخ وطائرات مسيّرة إلى سوريا… وقد اتخذت طهران كل الخطوات اللازمة لزيادة عدد مستشاريها العسكريين في سوريا ونشر قوات».
لبنان… «حزب الله» الضعيف وشهية معارضيه
لا يبدو لبنان، بدوره، بمنأى عما يحصل في سوريا. ففي سنوات الحرب السورية، شهد لبنان جزءاً من هذه الحرب على حدوده الشرقية التي انتشر فيها مقاتلون من «داعش» و«جبهة النصرة»، قبل طردهم منها منذ سنوات في إطار ما يُعرَف بـ«معركة الجرود» (جرود منطقة عرسال). لكن تلك المعركة لم تكن سوى جزء بسيط من الصورة الأشمل التي تمثلت بانخراط «حزب الله» بكامل قوته في دعم قوات الرئيس السوري ضد معارضيه. ولا شك أن تدخل الحزب لعب دوراً أساسياً في منع سقوط حكومة دمشق التي كانت تمر بأحلك أيامها بين عاميْ 2013 و2014، قبل أن تتدخل روسيا عسكرياً في سبتمبر (أيلول) 2015، وهو التدخل الذي لعب دوراً حاسماً في تغيير خريطة السيطرة والنفوذ لمصلحة الأسد.
لكن تدخُّل «حزب الله»، اليوم، يبدو كأنه يواجه صعوبات، فالضربات الإسرائيلية، في الحرب الأخيرة، ألحقت خسائر ضخمة بقيادات الحزب وعناصره ومُعداته؛ ليس فقط في لبنان، ولكن أيضاً داخل سوريا، بما في ذلك قاعدته الأساسية في القصير بريف حمص. وفي حين نقلت «رويترز» عن مصدرين أمنيين أن «حزب الله» أرسل، ليلاً، عدداً من عناصره من لبنان إلى حمص، وشنت إسرائيل غارات فجراً على معابر حدودية بين لبنان وسوريا، في رسالة واضحة تؤكد قرار منع تحرك الحزب إلى الداخل السوري. وأوضح الجيش الإسرائيلي، في بيان، أن سلاح الجو «شن غارات على طرق تهريب أسلحة وبنى تحتية إرهابية قرب معابر النظام السوري عند الحدود السورية اللبنانية».
ويُتوقع أن يكون «حزب الله» قلقاً، اليوم، من لجوء الفصائل السورية إلى الانتقام منه؛ لمشاركته في إلحاق الهزيمة بها خلال سنوات الحرب.
لكن قلق الحزب ينسحب، بشكل طبيعي، على لبنان ككل، نتيجة تداعيات ما يحصل في سوريا، على أوضاعه الداخلية. فخلال سنوات الحرب السورية، ظهرت في لبنان جماعات مسلحة مؤيدة لدعم معارضي الرئيس الأسد، في مقابل انخراط «حزب الله» عسكرياً لمصلحته. وفككت السلطات اللبنانية، في السنوات الماضية، جماعات مسلحة مؤيدة للمعارضين السوريين، لكن ضعف «حزب الله»، اليوم، وانتكاسة قوات حكومة الأسد، قد يثيران شهية بعض الجماعات لإعادة إحياء نشاطها في لبنان.
الأردن… القلق على التهديد الآتي من الحدود السورية
لم يتدخل الأردن عسكرياً في النزاع السوري، لكنه سيكون بالطبع قلقاً من التغييرات التي تحصل على حدوده الشمالية. كان مصدر القلق الأساسي للأردن، في السنوات الماضية، مرتبطاً بتهريب المخدرات (الكبتاغون) والأسلحة، وبانتشار فصائل شيعية مُوالية لإيران قرب الجانب السوري من حدوده. لكن القلق، اليوم، سيكون منصبّاً على احتمال وصول جماعات متشددة طالما ناصَبَها العداء، إلى حدوده. ومعروف أن الأردن لعب دوراً مهماً في الحرب ضد خلايا الجماعات المتشددة المرتبطة بتنظيم «القاعدة» في السنوات الماضية، لكنه يبدو، اليوم، أمام احتمال أن تصل هذه الجماعات إلى حدوده لتحل محل الجماعات الموالية لإيران.
لكن الأردن يمكن أن يراهن على العلاقة الجيدة التي نسَجها مع عشائر الجنوب السوري خلال سنوات الحرب، وهو رهان يمكن أن يجنبه تداعيات أي تغييرات يمكن أن تحصل في سوريا. وليس واضحاً تماماً كيف سيكون مستقبل منطقة التنف الحدودية مع الأردن، والتي تنتشر فيها قوات أميركية وغربية أخرى إلى جانب فصيل سوري مسلح معارض لحكومة دمشق. وبالإضافة إلى قاعدة التنف، يوجد على الحدود الأردنية السورية مخيم الركبان للاجئين السوريين المعارضين لحكومة الرئيس الأسد.
إسرائيل… منطقة عازلة؟
ولا تبدو إسرائيل بدورها بعيدة عن تداعيات ما يحصل في سوريا. كان همها الأساسي تحجيم نفوذ إيران و«حزب الله»، وهو أمر حققته، إلى حد كبير، من خلال سلسلة غارات أسهمت، في الواقع، في انهيار دفاعات القوات الحكومية السورية، خلال الهجوم الحالي للفصائل المسلحة.
وإذا كانت إسرائيل متمسكة بسياسة منع «حزب الله» وإيران من إعادة التموضع في سوريا، إلا أنها قد تواجه في مرحلةٍ ما احتمال أن تحلّ مكان الفصائل الشيعية المُوالية لإيران فصائلُ سنيّة متشددة كانت حتى وقت قريب جزءاً من تنظيم «القاعدة». ويجري الحديث، اليوم، عن استعدادات إسرائيلية لإقامة منطقة عازلة على الحدود في سوريا، إذا وصلت فصائل المعارضة المسلحة إلى دمشق. ولن يكون هذا السيناريو هو الأول من نوعه لإسرائيل، فقد كشفت تجربة سنوات الحرب السورية أن معارضين مسلحين كانوا ينتشرون على الحدود مع إسرائيل، لكن همّهم الأساسي كان مواجهة القوات الحكومية السورية، وليس شن هجمات ضد الدولة العبرية. لكن إسرائيل قد تكون قلِقة، اليوم، من وصول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» إلى حدودها، خصوصاً أن الجولاني نفسه كان قد أدلى بمواقف أشاد فيها بهجوم حركة «حماس» ضد إسرائيل في طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
الشرق الأوسط
————————-
خطوة بخطوة يظهر البديل…أما اليوم فيحق للسوريين الفرح!/ وليد بركسية
السبت 2024/12/07
ضعف النظام السوري الواضح اليوم، وانهياره السريع في غضون أسبوع واحد فقد خلاله السيطرة على محافظات كاملة، بما في ذلك حلب وحماة، أعاد الأمل لملايين السوريين الذين يبكون ويضحكون في مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما ظنوا لسنوات أن ثورتهم وصلت إلى طريق مسدود، في تعبير عن مشاعر معقدة تتراوح بين الفرح والذهول، وتتجاوز مجرد التهليل للجهاديين كما قد يتهمهم البعض، وتشكل في مجملها انعكاساً لعقود من القهر والقمع جعلت أي احتمال للخلاص من النظام، مهما كان الثمن أو الطريقة، سبباً للارتياح.
وحتى في عالم مثالي، تكون الحدود واضحة فيه بين الخير والشر وبين الأبيض والأسود، لا يمكن وصف النظام السوري على أنه البديل الجيد لأن الطرف الأخر هو فصائل يتزعمها تنظيم جهادي فك ارتباطه بتنظيم “القاعدة” شكلياً قبل سنوات. وتتحول تلك المفاضلة بين السيء والأقل سوءاً إلى مشكلة أخلاقية عندما تصبح تهمة تتوجه للأفراد من الطرفين، ممن يناقشون الحالة السورية اليوم.
ويكفي القول أن سوريا الأسد، منذ نشأتها كدولة بوليسية مطلع سبعينيات القرن الماضي، إثر انقلاب عسكري نفذه الرئيس الراحل حافظ الأسد قبل توريث الحكم لابنه بشار العام 2000، قدمت للعالم نماذج للرعب المعاصر مثل سجن تدمر سيئ السمعة أو سجن صيدنايا العسكري الذي تصفه منظمة العفو الدولية “أمنستي” بـ”المسلخ البشري” وبأنه “أسوأ مكان على الكوكب”، للتذكير بمعنى الحياة تحت حكم نظام الأسد.
#حماة
• “المقدم علي المصري”، المعروف باسم المقدم علي رئيس مفرزة الامن العسكري في #الميادين وقع اسيراً في قبضة الثوار في #حماة وعثروا في هاتفه على فيديوهات له وهو يُعدم مدنيين بمسدسه.#ردع_العداون #حماة_تتحرر #سوريا_تتحرر pic.twitter.com/c3UjqLMRui
— ghada (@70ghada) December 5, 2024
ومنذ بدء الاحتجاجات العام 2011، دخل نصف مليون شخص إلى سجون ومراكز اعتقال تابعة للنظام السوري، قضى نحو 60 ألفاً منهم تحت التعذيب أو نتيجة ظروف اعتقال مروعة، بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، وبات ذلك أيضاً سوقاً يجني منها النظام السوري الأموال عبر ابتزاز عائلات المعتقلين والمغيبين قسراً، سواء لتقديم معلومات عنهم أو لنقلهم إلى السجون المدنية.
هذه الأهوال، وغيرها، لم تتوقف على مدار عقود، وخلقت جرحاً عميقاً في ذاكرة السوريين. في مواقع التواصل، تُروى قصص الناجين من المعتقلات بكثافة. أصدقاء الضحايا وأفراد عائلاتهم يستذكرون صورهم وأسماءهم، موثقين معاناة أجيال بأكملها تحت حكم النظام، فيما تشكل صور الأمهات اللواتي يلتقين بأبنائهن بعد سنوات من الفراق القسري بسبب التهجير، مدخلاً للشعور بسعادة حقيقية نادرة ضمن بلد مأزوم.
والقهر الذي عاشه السوريون لأكثر من خمسة عقود، والذي تعاظم بعد ثورة العام 2011 بسبب الحل الأمني الذي اعتمده النظام لمواجهة المظاهرات السلمية حينها، يظهر اليوم بصورة الفرح الذي طال انتظاره، فيما يبدو المشهد ككل عاطفياً، مع صور المعتقلين المحررين من السجون سيئة السمعة، بما في ذلك أشخاص اعتقلوا في الثمانينيات، والمقابر الجماعية التي عثر عليها، ومقاطع الفيديو التي توثق الإعدامات الجماعية لمدنيين، وصولاً للقاءات التي تجمع معارضين سوريين بأمهاتهم تحديداً، بعدما أمضوا جل العقد الماضي نازحين، قرب قراهم ومدنهم من دون أن يتمكنوا من العودة إليها.
مأساة السوريين في السنوات الماضية غابت عن التغطية الإعلامية. وبدا أن كثيرين نسوا بالفعل اليوم وجود نحو 5 ملايين نازح داخلي في البلاد، معظمهم في محافظة إدلب حيث عاش الملايين في الخيام، وباتوا يملكون اليوم فرصة للعودة إلى قراهم المدمرة على الأقل للإقامة في البيوت المهجورة التي لطالما قصفها جيش النظام وحلفاؤه بالبراميل المتفجرة والقنابل العنقودية وغيرها من الأسلحة بحسب تقارير حقوقية موثقة، قبل أن تعاني تلك المدن والقرى من تعفيش جيش النظام لما تبقى فيها.
هذا الشاب اسمه “عثمان شحود تعتاع” وهو من كفرنبل ، كان طالب طب بشري و اعتقله النظام في عام 2013 مع 11 طالب طب بشري في حلب
اليوم تحرر مع تحرير سجن حماة المركزي pic.twitter.com/RTtFydTFYO
— عمر مدنيه (@Omar_Madaniah) December 5, 2024
وعلى مر السنوات انحرفت السردية السائدة في سوريا خصوصاً في الإعلام العالمي، من توصيف ما يجري في البلاد على أنه ثورة إلى كونه حرباً أهلية. حيث ساهم انتشار الجماعات الجهادية في تأطير إضافي للأزمة في البلاد على أنها تعيش حرباً ضد الإرهاب، خصوصاً في فترة بروز تنظيم “داعش”. ورغم أن ذلك قد يكون صحيحاً ضمن سياق معين، إلا أن العنصر الحاسم هنا هو أن الحرب السورية أصلاً لم تكن حرباً ضد “داعش” وأخواته، بل كان تمدد الجهاديين في مساحات واسعة من سوريا، مرتبطاً بالصراع الأصلي في البلاد، أي الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، والتي تحولت إلى حرب أهلية وإقليمية ودولية، منذ لجوء النظام السوري إلى القوة في ردّه على التظاهرات السلمية.
وكان نظام الأسد يراهن على النسيان والتشاؤم. وعمل مع حلفائه على ضخ سرديات بديلة شوهت معنى الثورة السورية كحركة شعبية طالبت بالحرية، عبر إطلاق صفة العمالة الخارجية أو الجهادية الإسلامية على المعارضين ككل، وحاولت أيضاً نسف التاريخ الدامي للتنصل من المسؤولية والبقاء في السلطة من أجل إبقاء الكابوس السوري مستمراً، مع الإشارة إلى أن النظام في السنوات التي احتفى فيها بنصره، لم يقدم أي تنازلات عن السلطة سواء للمعارضة الداخلية أو الحركات الجهادية أو المعارضة المعتدلة أو ما تبقى من الناشطين المدنيين بل نفذ حرفياً تهديده الذي لا يُنسى: “الأسد أو نحرق البلد”، في استمرار لما قامت عليه الدولة الأسدية في جوهرها منذ تأسيسها: “حكم البلاد بالإكراه”.
وإن كان الخوف من الجهاديين ومشروعهم مبرراً، إلا أن أخذ تلك الفكرة وتحويلها إلى شعار يحاكم السوريين على مشاعرهم تجاه نظام الأسد بوصفها تهمة، حتى من قبل معارضين، يعتبر نوعاً من الوصاية الفكرية والأخلاقية، وهو ما يلاحظ في منشورات تذم “النخبة السورية” في مواقع التواصل بوصفها منفصلة عن الواقع، كما أنه جدال يمكن عكسه مع إحساس صحافيين ومعارضين آخرين، في المنافي عموماً، بأنهم غير قادرين على التعبير عن خوفهم من نتيجة التغيرات العسكرية على الأرض بسبب الطبيعة الإسلاموية للفصائل الحالية المقاتلة ضد الأسد، ويلقى الطرفان تخويناً متبادلاً بالتالي.
وفي السنوات الماضية، كان النزاع في سوريا مجمداً عبر الزمن. ولم يتم الوصول إلى حل لجوهر ذلك الصراع بل تعامل كثيرون مع بقاء الأسد في السلطة وتعويم رموز حكمه على أنه أمر واقع، خصوصاً بسبب الدعم الروسي والإيراني له. لكن ملايين السوريين داخل وخارج سوريا كانوا يكررون كل عام، خصوصاً عند إحياء ذكرى لحظات مفصلية في تاريخ الثورة السورية، على أن الثورة لم تمت ولن تموت قبل تحقيق أهدافها في الحرية من النظام المستبد. وكان الرد على أولئك يأتي عبر توصيفهم بالرومانسيين والحالمين، حتى من طرف معارضين أصيبوا بخيبة الأمل على مر السنين وباتوا يفضلون الحفاظ على سقف منخفض للآمال.
سجناء خرجوا من سجون “نظام بشار الاسد” ، السجين علي حسن العلي سجين لبناني في سجن حماه منذ 40 سنة ، وهذا الذي في المقطع منذ 33 سنة ، وما خفي كان أعظم #دمشق #حمص_تتحرر #حماة_تتحرر #سوريا_تتحرر #السويداء #لبنان pic.twitter.com/P6GxENbxax
— عيسى الزهراني (@esaa85632) December 6, 2024
والتغييرات السريعة هذا الأسبوع، جعلت الفرح والأمل رائجين. وهذه المشاعر ليست تأييداً لفكر الإسلاميين، بل هي رد فعل طبيعي لمن عاشوا القهر على يد النظام. والسوريون الذين يعبرون عن فرحتهم بسقوط مناطق من قبضة الأسد، لا يذهبون إلى صناديق الاقتراع لدعم مشروع جهادي، بل يتعاملون مع الواقع كما هو. هم ببساطة يفرحون بلحظات تتيح لهم استعادة جزء مما فقدوه على مدار أكثر من عقد، ويتبنون نهجاً براغماتياً للتعامل مع مشكلاتهم خطوة بخطوة، لأن الحياة ليست خياراً بين الأبيض أو الأسود، بل تمتلئ بالمناطق الرمادية، خصوصاً في الحرب والسياسة.
وعليه، تصبح مشكلة الحكم الإسلامي في حال حدوثها، مشكلة مستقبلية يتم التعامل معها لاحقاً، لأن الثورة كفكرة ليست فكرة “نظيفة” بالمطلق، ولا تحدث تغييراً وردياً فورياً، بقدر ما قد تكون فكرة فوضوية تقود إلى تغيير جيد في المستقبل البعيد. ويعني ذلك أن إسقاط نظام الأسد، مهما كان البديل، يوفر إمكانية لسوريا مختلفة قائمة على الحرية والكرامة بعد عقود، لكن إبقاءه أو تعويمه بطريقة أو بأخرى، من دون تفكيك بُنيته البوليسية، يعني الوقوع في دوامة من التكرار التي لا توصل إلى نتيجة. مع التذكير بأن النظام سعى جاهداً لأسلمة الثورة بإطلاقه سراح الجهاديين من السجون العام 2011، واعتقال واغتيال المفكرين والناشطين العلمانيين، لتقديم نفسه على أنه الخيار المتحضر في وجه الظلامية الإسلامية، وهو فخ لا يجب الوقوع فيه اليوم، بعد كل هذه السنوات.
ولخص الصحافي السوري مصطفى الدباس المدافع عن الديموقراطية والذي احتفت به الأمم المتحدة قبل سنوات، كل ذلك بالقول عبر صفحته الشخصية في “فايسبوك”: “بعد جولتين من نزوح عائلتي وآلاف العائلات، مرة من دمشق إلى إدلب، ومرة من إدلب إلى مخيمات النزوح في الشمال، لمدة 10 سنوات، من دون أن أرى أحداً يتعاطف ولو حتى معنوياً مع مأساتهم المستمرة وخسارتهم منزلهم، أرضهم، أشجارهم، فإن التحالف مع الشيطان أفضل من وجود بشار الشيطان وعائلته إذا كان الشيطان سيعيد عائلتي إلى منزلها”.
المدن
—————————–
سوريا: سباق بين الغبطة واحتمالات الخيبة
07 كانون الأول 2024
جميعنا مأخوذون بالمشهد، نظام بشار الأسد يتداعى تحت أنظارنا، سؤال ما بعد السقوط، أو ما بعد انعقاد الخريطة على واقع مختلف، شرط سياسي لا بد منه، لكنه لا يستوي في بعده العاطفي مع السؤال السياسي. الكلام عن تأجيل السياسة إلى ما بعد انكشاف سير المعركة، يشبه طلب تأجيل نقد حماس إلى ما بعد نهاية الحرب في غزة، ويشبه أيضاً إحالة حزب الله لنا، نحن اللبنانيين، عند السؤال عن مستقبلنا، إلى “الميدان”.
يجب ألا تبلغ بنا الغبطة مبلغاً يعمي أبصارنا، فنشيح بوجهنا عن حقيقة أننا حيال أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع كما يفضّل تسميته في سياق محاولاته لإعادة تسويق نفسه.
الجولاني أو الشرع آتٍ إلى الحرب في سوريا من تنظيم “القاعدة”، نعم نحن حيال مرحلة متقدمة من انهيار أحد أقبح الأنظمة في العالم. لكننا أيضاً حيال احتمالات عنف جهادي سبق اختبارها، فهل يمكن أن نضبط معدل الأدرينالين حين نعاين مشاهد السجناء الخارجين من سجنَي حلب وحماة؟
المهمة صعبة، لا بل غير منطقية، وغير إنسانية. بعض السجناء السياسيين أمضى في السجن ما يزيد عن أربعين عاماً. وملايين من السوريين أُخرجوا عنوة من مدنهم وبلداتهم، وها هم يعودون إليها، ولكن بمعية الجولاني، الرجل الذي حكم إدلب بـ”أحكام الشريعة”. إنه قدر السوريين، ولا يمكن إلا أن نتفهم ما يحصل لوجدانهم.
جميعنا مأخوذون بالمشهد، نظام بشار الأسد يتداعى تحت أنظارنا، سؤال ما بعد السقوط، أو ما بعد انعقاد الخريطة على واقع مختلف، شرط سياسي لا بد منه، لكنه لا يستوي في بعده العاطفي مع السؤال السياسي. الكلام عن تأجيل السياسة إلى ما بعد انكشاف سير المعركة، يشبه طلب تأجيل نقد حماس إلى ما بعد نهاية الحرب في غزة، ويشبه أيضاً إحالة حزب الله لنا، نحن اللبنانيين، عند السؤال عن مستقبلنا، إلى “الميدان”.
السياسة تُرسم الآن، في الطريق من حلب إلى حماة، ومن حماة إلى حمص. هذه الطريق معبدة بالمآسي، منذ المجزرة الأولى في العام 1982، ومنذ الهزيمة في حمص، والخيبة في حلب، والنهاية في إدلب.
ماذا نفعل نحن العاجزين عن إشاحة أنظارنا عن مشهد السجون وقد أطلق نزلاؤها؟ ذلك الطرابلسي الذي أمضى في السجن نحو أربعين عاماً، حُرر بالأمس بعدما كانت عائلته تعتقد أنه قُتل، وآلاف السوريين مثله أيضاً. لكن على مسافة ليست بعيدة من السجن المشرعة أبوابه أمام السجناء، أنباء عن امرأة كردية قطع رأسها، وآلاف العفرينيين المهجرين أمام سطوة “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، ومؤشرات أخرى غير مطمئنة. حماية المسيحيين لا تكفي وليست إجراء نهائياً. هذا لن يوقف طبعاً جريان الأدرينالين، لكنه قد يستبق خيبات لطالما أصابتنا.
ثم إن للغبطة مطبات موازية، منها عدم التقاطنا السياق الرئيسي للحرب، فالنظام ليس أكثر من خسائر جانبية للحرب على أذرع إيران. الأسد بهذا المعنى قد ينجو بدويلته التي سبق أن أسماها “سورية المفيدة”، والممتدة من الساحل السوري إلى دمشق. فماذا عنا الذين ساقتنا عواطفنا وراء هذا الاحتمال الراجح؟ والرجل وراءه هذه المرة الخليج بممالكه وإماراته، وروسيا، وإيران، وعلى الأرجح إسرائيل أيضاً. “الميدان” لا يساعد كل هؤلاء حتى الآن، لكن إلى متى يبقى هذا الميدان قادراً على إطاحة كل هؤلاء.
المشهد السوري ينطوي هذه المرة على قدر هائل من العناصر التي تجعل التوقع مستحيلاً. من هو هذا الجولاني الذي صار اسمه بين ليلة وضحاها “أحمد الشرع”، ثمة من يطبخ كل هذه التحولات. من هو هذا الطاهي؟ أميركا أم تركيا؟ الجولاني خريج سجن بوكة في البصرة، هناك حيث وُلد “داعش”، وموفد أبو بكر البغدادي إلى سوريا، والمنشق عن تنظيم الدولة الإسلامية والملتحق بعدها بـ”القاعدة” ثم المنشق عن الأخيرة ومؤسس “النصرة”، ومحولها إلى “هيئة تحرير الشام”. هذا الرجل أطل اليوم، وخاطبنا من “موقعه الجديد” بوصفه محرر المدن السورية من نظام البعث!
لم يسبق أن خضعنا لهذا النوع من الاختبارات، السوريون يمرون بأوقات غريبة عجيبة، لكل لحظة انعطافتها. أصوات من كل حدب وصوب يدعو معظمها إلى التريث، وجميعها لا تخفي خوفها، ولا تخفي حماستها. لكن المرء إذ يشعر أن هذا لا يكفي، يشرع بالبحث عن نفسه وسط هذه المفاجآت المدوية، فلا يعثر على أكثر من الانتظار. وفي هذا الوقت لا بأس بقليل من الغبطة، على الأقل في ظل مشهد تحرير السجناء وعودة أهالي المدن والقرى الى بيوتهم.
——————————————-
هل نعرفُ حقاً ما يجري في حلب؟/ كارمن كريم
06.12.2024
أيامٌ كانت كافية لرفع علم الثورة السورية على قلعة حلب، بالإضافة الى أعلام أخرى. ساد الخوف والقلق بين أهالي المدينة، الذين لم يخشوا تشدد الفصائل وحسب، بل قصف النظام الذي سيساوي المدنيين بالمسلّحين، فهرب من هرب وبقي من لم ولا يستطيع، وبدأ فصل جديد لمدينة حلب التي خاضت معارك وقصفاً عنيفاً بين عامي 2012 و2016 انتهت بسيطرة النظام عليها.
يحاول السوريون اليوم استيعاب الصدمة، السعيدة للبعض والتعيسة للبعض الآخر. حلب باتت بيد المعارضة السورية المسلحة المتشددة، والتي دخلتها في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ثم تبعتها حماة، ومن العدل أن نظل نقول “متشددة” حتى لو أعاد عناصرها رفع شجرة الميلاد أو سمحوا للنساء المسيحيات بالخروج مكشوفات الرأس. أن نصدق ما يجري في حلب أمر يحتاج الى وقت، بدءاً من “سقوط المدينة أو تحريرها” على يد المعارضة وانسحاب جيش النظام السريع، وصولاً إلى الأصوات التي تقول “كل شيء بخير”، لكن هل حقاً كل شيء بخير؟
هل نصدق؟
أيامٌ كانت كافية لرفع علم الثورة السورية على قلعة حلب، بالإضافة الى أعلام أخرى. ساد الخوف والقلق بين أهالي المدينة، الذين لم يخشوا تشدد الفصائل وحسب، بل قصف النظام الذي سيساوي المدنيين بالمسلّحين، فهرب من هرب وبقي من لم ولا يستطيع، وبدأ فصل جديد لمدينة حلب التي خاضت معارك وقصفاً عنيفاً بين عامي 2012 و2016 انتهت بسيطرة النظام عليها.
عنوان المرحلة الأولى من سيطرة المعارضة المسلحة على حلب: هل نصدق؟ هل نصدق أن المعارضة المتشددة لم تعد متشددة وأن إسقاط شجرة الميلاد مجرد خطأ فردي؟ هل نصدق وجوه الناس المذعورين وهم يرددون أنهم بخير وأن كل الخدمات من ماء وكهرباء وخبز موجودة وأننا كلنا سوريون ولا فرق بيننا؟ هل نصدق أن النظام وحلفاءه لن يقصفوا المدينة؟
من جهة أخرى، لا يكترث النظام لحياة المدنيين، حقيقة بسيطة كررها مئات المرات خلال عقد ونصف العقد، لكن المعارضة أيضاً، وإن حاولت أن تبدو كذلك، فهي تنحاز عن سابق إصرار الى مدنيين على حساب آخرين، والأمر ذاته بالنسبة الى داعمتها تركيا. في النهاية، لا أحد يكترث لحياة المدنيين في سوريا، وهم في ما يبدو، وبعد 15 عاماً، باتوا يدركون هذه الحقيقة جيداً، ويقبلون بأقل شروط الحياة على ألا يُقصفوا ليلاً نهاراً.
النظام السوري ليس بأفضل حالاته
فيما وصلت المعارضة الى حلب ثم انتقلت إلى حماة، وهي اليوم على مشارف حمص، لم تقدم روسيا للنظام دعماً حقيقياً الى الآن، واكتفت ببعض بيانات الوعود والدعم العسكري، وكأن روسيا ليست بكامل حماستها كما السابق لأسباب جلية وأخرى غير واضحة. بوتين منهك من حرب أوكرانيا وقواته لا تتحمل إرسال جزء منها إلى سوريا. قد يقرر في مرحلة لاحقة حماية مصالحه وحسب، وهي بشكل أساسي متركّزة على الساحل السوري. وربما سيتوقف طموح المعارضة السورية وتركيا عند حدود اللاذقية وطرطوس قبل أن تصل إلى مصالح بوتين، وهنا قد نفهم الأسباب غير الجلية لبرود روسيا في حماية أسدها في حلب.
من جهة أخرى، حزب الله منهك ومنهار ولا عتيد أو عتاد لديه، وأي تحرك له داخل البلاد ستبادره إسرائيل بقصف سريع. إذاً، الأسد وحيدٌ أكثر من أي وقت مضى.
بالأحوال كافة، التكهنات السياسية كثيرة اليوم، لكن أكثرها دقة هو أن جيش النظام السوري ضعيف ومتزعزع ولا يملك دافعاً حقيقياً كما السابق، حتى الدوافع تذوي وتموت مع الوقت إن شعر صاحبها أنه مجرد أداة، ومنذ زمن بات السوريون يدركون أنهم مجرد أداة.
كيف وصلت الجماعات المسلّحة الى هذه النقطة؟
على الجانب الآخر هناك حقيقة مريبة، وهي قوة وتنظيم الجماعات المسلحة التابعة لـ “غرفة العمليات العسكرية” بقيادة أبو محمد الجولاني، ولكن كيف ومتى ومن وما الطريقة التي أُقنعت فيها هذه الفصائل بالتوافق؟ لا أحد يعلم، لكن وبما أن عقيدتهم إسلامية وجهادية، فالدافع حتماً أقوى من ذلك الذي يملكه عناصر جيش النظام الجائعون والخائفون وغير المدرّبين أصلاً بما يكفي. من دون أن ننكر أن المقاتلين هم شبانٌ هُجّروا قسراً من بلداتهم وعاشوا في الخيام تحت البرد والحرّ والجوع، ولديهم الدافع الأقوى وهو الرغبة في الحياة. فكل ما يرونه خلفهم الآن هو الخيمة والموت، وكل ما يرونه أمامهم هو الحياة، شبانٌ يريدون العودة إلى بلداتهم وعائلاتهم ومنازلهم وحسب.
الصور والفيديوهات القادمة من حلب بهية وصادمة في آن، وتثير مشاعر متناقضة، لكنها في مرحلة ما غير مقنعة، لأسباب كثيرة، منها عجزنا عن تصديق تحول جبهة النصرة إلى قائدة للبلاد بعدما تبنت قبل سنوات تفجيرات انتحارية في دمشق راح ضحيتها عشرات المدنيين، حتى وإن ارتدى أتباعها البدلات الأنيقة والتقطوا الصور وهم يلوحون للناس من قلعة حلب.
لا شكّ في أن هناك تغييراً في ممارسات الفصائل المسلحة على أرض الواقع، إذ باتت أقل تكفيراً ووحشية ربما، لكن المريب أن هذا التغيير هو على صعيد التحركات العسكرية وليس على الفكر ربما، بمعنى أن الممارسات المنفتحة نوعاً ما ضرورة عسكرية أكثر منها حقوقية أو إنسانية.
عن ورقة المسيحيين الرابحة
المسيحيون في واجهة أعمال المعارضة المسلّحة، وكأن الأخيرة دخلت حلب لتقول للعالم أنظروا نحن “إنسانيون”. بكل الأحوال، لا شك في أن الفيديوهات التي ينشرها إعلام المعارضة عن مسيحيي حلب هي رسالة قوية وذكية وإن بات مبالغاً فيها. ولا شك أيضاً في أن إعلام “ردع العدوان” متفوق بمراحل على إعلام النظام الكسول والمتردد أمام تعقيد ما يحدث.
يعود منح الأمان للمسيحيين، وهو أمر لم تعتد عليه الجماعات المتشددة، الى أمرين: أولاً، كسب الناس إلى طرف المعارضة، ليس سكان حلب وحسب بل أقليات المدن السورية الأخرى أيضاً. لا شك في أن هذه الصورة التي نُقلت بشكل مكثف على مدار الأيام الماضية، منحت طمأنينة لمسيحيي سوريا بشكل عام، ومن جهة ثانية هي صورة تصدر إلى الغرب وتظهر الجولاني كـ “بديل” للأسد. وأكثر ما قد يخيف الغرب هو التشدّد، إذ إنه قد يعترف بقائد ديكتاتوري ولكن سيرفض حتماً الاعتراف بقائد متشدد. ورغم سخرية الفكرة، لكن أبو محمد الجولاني طموح، وطموح الرجل يطبّق على الأرض بقوة وفاعلية، والساحة السورية تفاجئنا يوماً بعد آخر بتطورات لم تكن بالحسبان.
على الجانب الآخر، لا يمكن نسيان خطر داعش في البادية السورية، وهو ما زالت موجوداً، وما زال فكره ينمو في مخيمات الهول والروج، والخلايا النائمة تنتظر الفرصة لترفع رأسها وتبسط سيطرتها على ما تستطيع من البلاد. ولذلك، أعلن العراق استنفاره منذ اللحظة الأولى، ففي البداية أعلن عن استعداده الكامل لحماية حدوده ثم صعّد لهجته ولمّح الى تدخل إلى جانب النظام في وجه الجماعات “المتطرفة”.
إذاً، الخوف الأساسي يتأتى من المستقبل السوري الغامض الذي يوحي دائماً بالمفاجآت، فماذا لو كانت مفاجأة من العيار الداعشي الثقيل!
ما يحصل في سوريا اليوم ضروري حتى وإن كان مخيفاً وبخاصة للأقليات. مياه السياسة السورية الراكدة منذ أعوام كانت توحي بفشل الثورة (السلمية والمسلحة). أما الآن فهناك خلط جديد للأوراق، قد يجد من خلاله بعض السوريين الطموحين والمؤمنين طريقة لحل سياسي يحقن الدماء ويعيد اللاجئين إلى بلدهم. وفي مأساة بحجم الصراع السوري، يأتي حقن الدماء أولاً حتى يتمكن السوريون من فتح عيونهم على خطوة أو يوم آخر أو ربما حل سياسي. من يعلم!
درج
———————————–
«ثلاثية أستانا» تلتئم اليوم: تركيا ترفع سقف طموحاتها
07 كانون الأول 2024
عاد خطاب الإملاء الذي مارسته تركيا على سوريا في بداية الأحداث عام 2011، إلى الظهور مجدّداً على إثر التطورات الأخيرة، عبر دعوة النظام إلى إدراك شروط المصالحة الداخلية، وفي مقدّمها تلبية «المطالب المشروعة للشعب السوري»، وتحميله مسؤولية انفجار الوضع، بسبب عدم اهتمامه بالمسار السياسي للحلّ. وفي المقابل، تتنصّل أنقرة بالكامل من مسؤوليتها في دعم الفصائل المسلحة، حتى إن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أعلن أن المرحلة الجديدة في سوريا «تُدار بهدوء»، وسط محاولات لتلميع صورة زعيم «هيئة تحرير الشام»، «أبو محمد الجولاني»، من جانب الولايات المتحدة وتركيا. ويأتي ذلك كله مع بدء ثلاثية أستانا اجتماعاتها، اليوم وغداً، في الدوحة، بمشاركة قطر.
وفي حوار مع صحيفة «حرييات»، قال رئيس «الائتلاف الوطني» المعارض، هادي البحرة، الذي كان رئيس وفد المعارضة في محادثات جنيف للسلام في سوريا عام 2016، إن «الأولوية الآن للعمليات العسكرية، والهدف منها جلْب الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى طاولة التفاوض، والانتقال السياسي نحو النظام الديمقراطي، ومن ثمّ خلق بيئة مناسبة لعودة اللاجئين». وأضاف أن الهدف هو تطبيق القرار 2254 الذي أقرّه مجلس الأمن الدولي، في 18 كانون الأول 2015، لافتاً إلى أنه لا يتخوّف من اندلاع نزاعات مع «هيئة تحرير الشام»، فـ«الكلّ متّفق على تحرير سوريا، والمعارضة ستشكّل إدارة ذاتية لحكم حلب».
وإلى صحيفة «جمهورييات»، تحدّث رئيس «الحكومة المؤقتة» التابعة لـ«الائتلاف»، عبد الرحمن مصطفى، قائلاً إن تركيا «وفّرت للمعارضة الأرضية السياسية لعملياتها ضدّ قوات النظام»، مشيراً إلى أن «حلب وكل ريفها الشمالي الشرقي ما عدا منبج، قد تم تحريرهما للمرّة الأولى منذ بداية الحرب». كما لفت إلى أن «تركيا تقف إلى جانب الشعب السوري بالكامل وحتى النهاية، وإيران والقوى الحليفة لها تعرّضت للخسارة، فيما روسيا ليست في وارد التدخّل المؤثّر إلى جانب النظام».
وكتب سادات إرغين، بدوره، في «حرييات»، عن العلاقات التركية – الإيرانية، والتي قال إنها «وُضعت تحت الضغط الشديد» بعد اندلاع الأحداث. وبيّن أن محادثات وزير الخارجية الإيراني، عباس عرقجي، في أنقرة، «أظهرت التباين الكبير بين البلدين في الموقف من سوريا»، مشيراً إلى أن وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، اتّهم طهران بتجاهل الحقائق عندما قال لنظيره الإيراني إنه «سيكون من الخطأ في هذه المرحلة تفسير ما يحدث في سوريا على أنه تدخّل خارجي. وهذا خطأ مَن لا يريدون أن يفهموا الحقائق المرتبطة بسوريا». وأضاف فيدان: «كان من الخطأ تجاهل المطالب المشروعة للمعارضة، والنظام لم يشارك بإخلاص في العملية السياسية». ووفقاً لإرغين، فإن «الخلاف الأساسي بين تركيا وإيران مرتبط بأسباب الأزمة في سوريا. فطهران تردّ الأزمة إلى التدخّل الأميركي والإسرائيلي وتفجير الوضع عبر الجماعات المسلحة لحرف الأنظار عن الوضع في غزة وتغطية جرائم إسرائيل. وبالتالي، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل تقفان خلف عمليات جبهة تحرير الشام ضدّ حلب وحماة وغيرهما من المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام».
أمّا السبب الثاني للخلاف، فهو تصريحات مستشار المرشد الأعلى، علي أكبر ولايتي، والتي انتقد فيها أنقرة، قائلاً: «كان مفاجئاً أن تسقط تركيا في الفخ الذي نصبته أميركا وإسرائيل». ورأى إرغين أن ذلك «كلام كبير من مستشار الشخصية الأقوى في إيران. ولذا، نرى هذا الانزعاج الإيراني الكبير ممّا حدث في حلب، وهي التي قدّمت الدعم السياسي والعسكري للأسد خلال أعوام الحرب ليبقى واقفاً على قدميه؛ فأرسل حزب الله عناصره إلى سوريا، وأرسلت إيران قواتها أيضاً لتعضد الأسد، فيما كانت إسرائيل تقصف بصورة دورية التواجد العسكري الإيراني في سوريا». وأشار الكاتب إلى أن طهران لم تدعم عملية المصالحة بين إردوغان والأسد، بل «يمكن القول إنها عملت على عرقلتها، وفيدان كان صرّح في 22 تشرين الثاني الماضي، بأن التطبيع بين تركيا وسوريا ليس من أولويات إيران»، إذ «لعلّها كانت تعتبر أن التطبيع بين البلدين سيقلّل من الحاجة إليها في سوريا. فيدان كان يرى أن مسار أستانا مع روسيا وإيران لعب دوراً مهمّاً في وقف التوتر والنزاعات في سوريا عند نقطة معينة. لكنّ الهدوء الذي ساد، لم يُترجم لاحقاً إلى خطوات لحلّ سلمي. وبالتالي، خرجت أستانا عن كونها صالحة لإدارة الوضع. وهذا يعطي اجتماع الدوحة أهمية كبيرة حول الخطوات المقبلة في الأزمة السورية ومصير الاتفاقات. وفي ظلّ الضغط الذي تتعرّض له العلاقات التركية – الإيرانية، ستشكّل الأيام المقبلة اختباراً مثيراً للاتجاه الذي ستسلكه هذه العلاقات».
من جهته، كتب عبد القادر سيلفي، في صحيفة «حرييات»، عن العلاقات التركية – الإيرانية أيضاً، لافتاً إلى أن «أنقرة تحمّل دمشق وطهران مسؤولية انفجار الوضع في 27 تشرين الثاني الماضي. والتباين كان واضحاً مع زيارة عراقجي إلى أنقرة، إذ اتّهم تركيا بالمسؤولية عن الأحداث، ليردّ عليه فيدان بأن تركيا لا تقوم بعمليات عسكرية سرّية. ولكن من الطبيعي في ظلّ وجود حدود بطول 911 كيلومتراً مع سوريا، وتعرُّضنا لهجمات إرهابية، أن نكون معنيين بما يجري هناك. أنتم لا تساهمون أبداً في جهود تحقيق السلام في سوريا». وعدّد سيلفي عناصر الموقف التركي من سوريا على النحو التالي:
1- إن كل أنواع عدم الاستقرار في سوريا، بما في ذلك الإرهاب، تؤثّر على تركيا.
2- أولوية تركيا هي ضمان السلام والاستقرار في إطار وحدة الأراضي السورية.
3- بهذا المفهوم، تدعو تركيا إلى تلبية مطالب الشعب السوري «المشروعة».
4- ترى تركيا أن عملية أستانا يجب أن تولي هذا الأمر أولوية.
5- كما ترى ضرورة إعطاء أولوية لمنطقة إدلب باعتبارها منطقة خفض تصعيد.
6- تركيا لا تدعم التنظيمات المسلحة، لذا، فهي منزعجة ممّا يجري.
7- تدعو تركيا إلى منع تصاعد العنف كي يمكن مواجهة الخطر الإسرائيلي.
8- يدعو إردوغان سوريا إلى بدء الحوار السياسي.
9- تركيا مصمّمة على مكافحة إرهاب «حزب العمال الكردستاني» حتى النهاية.
10- إن أساس الحلّ هو تطبيق القرار 2254.
11- عودة اللاجئين طوعاً وبصورة آمنة إلى بلادهم.
في هذا الوقت، بدأ الإعلام الموالي حملةً لتلميع صورة الجولاني، وتقديمه على أنه معتدل يمكن له قيادة الحوار مع دمشق، على الرغم من أن منظّمته لا تزال مُدرجة ضمن قوائم الإرهاب التركية. وبحسب الكاتبة نيلغون تيكفيدان غوموش الموالية، فإن «السفير الأميركي السابق لدى سوريا، روبرت فورد، قال إن هيئة تحرير الشام تغيّرت وهي تدير ملايين الناس في إدلب. لم تعد الهيئة كالسابق. وعندما ضغطت أنا في عام 2012 لإدراجها ضمن قوائم الإرهاب، لم يكن ذلك عبثيّاً، كونها كانت أحد أفرع تنظيم القاعدة في سوريا والعراق». وأضافت الكاتبة أن «الذين يفكرون الآن في الغرب، بأن هيئة تحرير الشام أصبحت معتدلة وتتعاون مع بقية فصائل المعارضة قد ازداد عددهم. الهيئة والولايات المتحدة أمام فرصة للتعاون مع وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة، فيما يزداد مأزق الأسد. الأمل هو في ثلاثية أستانا لتجد مخرجاً وحلّاً للأزمة».
أما سرتاتش إيش، في «جمهورييات»، فيرى أن «تركيا لا حليف لها في الشرق الأوسط، ولم ينجح حزب العدالة والتنمية في كسب أيّ حليف، على رغم الجهود الدبلوماسية التي بذلها. فقد تخلّى عنه حلفاؤه في حلف شمال الأطلسي. والولايات المتحدة تدعم حزب العمال الكردستاني. وعملية أستانا مع روسيا وإيران فشلت، ولا يمكن إنكار الخلاف مع هاتين الدولتين». لذلك، بحسب الكاتب، «لا يبقى لتركيا سوى سوريا الموحّدة. لكن هذا المطلب يضعف يوماً بعد يوم. والجميع في انتظار ترامب. المشكلة أن الممثلين للسياسة التركية تنقصهم منذ وقت طويل ثقافة الجيوبوليتيك».
الاخبار
———————————-
عن أفق حل سياسي في سوريا اليوم
7 كانون الأول 2024
شهدت سوريا تطورات عسكرية كبيرة مع تحرير المعارضة السورية المسلحة، ذات الطابع الإسلامي المتشدد، كامل محافظة إدلب وسيطرتها على مدينة حلب، وبدء دخول قواتها إلى مدينة حماه. قامت المعارضة بهذه الهجمات تحت عنوان «ردع العدوان» فيما انتزعت قوات «الجيش الوطني» المدعوم من تركيا مدينة تل رفعت الاستراتيجية، التي كانت تحتلها «الوحدات الكردية» تحت عنوان عملية «فجر الحرية».
تمثّل الرد العسكري على هجوم طرفي المعارضة المفاجئ بتوجيه الطيرانين السوري والروسي ضربات جوية وصاروخية مركزة على ريف إدلب الجنوبي وريف حماه الشمالي، كما قامت قطعات للبحرية الروسية، في هذه الأثناء، بالقيام بـ«مناورات عسكرية» في البحر المتوسط شملت التدريب على إطلاق صواريخ «فرط صوتية».
تناظر ذلك مع هجمات شنتها «قوات سوريا الديمقراطية» (وهي ذراع عسكري لحزب العمال الكردستاني، نظيرة لـ«الوحدات الكردية» ولكنه يضم أيضا عناصر من عشائر عربية) ساندتها ضربتها لـ«التحالف الدولي» الذي تشكل أمريكا القوة الرئيسية فيه، على قرى في شرق محافظة دير الزور يسيطر عليها النظام وميليشيات إيرانية وعراقية، وكان لافتا، في هذا السياق، تأكيد القوات الأمريكية أن هذه الضربات «لا علاقة لها بتقدم المعارضة».
على المستوى السياسي، أعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، والذي كان لبلاده دور كبير في هذه التطورات الجديدة، أن «دمشق يجب أن تشارك في العملية السياسية لتجنب تفاقم الوضع» وتكامل هذا مع مواقف قطرية، مثل إعلان محمد بن عبد العزيز الخليفي، وقوف الدوحة إلى جانب السوريين وتأييد دفع العملية السياسية وفق القرارات الدولية، وكذلك تصريحات عبد الله بن علي بهزاد، سكرتير وفد قطر لدى الأمم المتحدة في جنيف، الذي طالب الأطراف المؤثرة بممارسة الضغوط على النظام السوري للتوصل إلى حل سياسي.
برز، على الجهة المقابلة، موقف إيران، حليف النظام السوري الأكثر تضررا من تقدم المعارضة، فتحدث رئيسها مسعود بزشكيان عن استعداد بلاده لـ«تقديم كل أشكال الدعم لسوريا» كما أعلن متحدث باسم الخارجية عن «بقاء المستشارين العسكريين الإيرانيين» (وهو ما يعني أن إيران مستمرة بدعم النظام السوري عسكريا) فيما أعلن علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد العام للجمهورية الإسلامية، موقفا أكثر تشددا بالهجوم على تركيا، معتبرا أنها «وقعت في فخ أمريكا وإسرائيل» وتناغم ذلك مع تهديد رسمي عراقي، على لسان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، بأن «العراق لن يقف متفرجا على تداعيات الوضع في سوريا».
ظهر شبيه بهذين الخطابين على المستوى الدولي، في جلسة مجلس الأمن التي بحثت تطورات سوريا، ففيما أدان فاسيلي نيبينزيا، مندوب روسيا في مجلس الأمن، عمليات المعارضة العسكرية معتبرا إياه «هجوما إرهابيا منسقا من الخارج» رأى روبرت وود، نائب ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، أن الظروف التي تشهدها سوريا سببها «فشل الامتثال لقرار الأمم المتحدة 2254» مشيرا بدوره إلى دور إيران وروسيا و«حزب الله» في اندلاع الحرب الداخلية بسوريا، ومؤكدا، في الوقت نفسه، أن بلاده لا علاقة لها بالهجوم، وهو ما أكدته أيضا القوات الأمريكية بعد الضربات الأخيرة في دير الزور.
تشير هذه الوقائع كلها إلى وجود أجندتين أساسيتين، الأولى تدرك أن ما يحصل حاليا سببه سد نظام بشار الأسد آفاق العملية السياسية، والثانية، تحاول إلغاء الحل السياسي وإنقاذ نظام فقد أسباب بقائه.
تشكل الحالة العسكرية ـ السياسية المستجدة، في الحقيقة، فرصة كبيرة، يمكن الاستفادة منها، لإقفال ملف الحرب الوحشية الهائلة التي كلفت السوريين، والإقليم، والعالم، أكلافا رهيبة، وهي مناسبة للدول العربية، قبل غيرها، كما للمنظومة الدولية، للضغط في اتجاه تحقيق تسوية سياسية طال انتظارها.
القدس العربي
—————————-
هل أوشكت الحركة التخريبية الأسدية على الانتهاء؟/ د. فيصل القاسم
07 كانون الأول 2024
في عام ألف وتسعمائة وسبعين أطلق حافظ الأسد ما يسمى بـ«الحركة التصحيحية» لكن منذ ذلك الحين لم ير منها السوريون سوى الخراب والدمار والفقر والقهر والظلم والطغيان. لم يكن الهدف من تلك الحركة المشؤومة مطلقاً تصحيح مسار سوريا كما زعم حافظ وعصابته البعثية الطائفية الفاشية، بل كان هدفه منع أي تصحيح أو أية نهضة في سوريا، لأن أهم الشروط التي فرضها عليه مشغلوه الإسرائيليون والغربيون وقتها أن يمنع السوريين من تحقيق أي تقدم على كل الأصعدة، كي تبقى سوريا والسوريون متخلفة ومنهارة، ولو شاهدت مشاهد فيلم «خياط للسيدات» بطولة زياد مولوي الذي تدور أحداثه في دمشق عام ألف وتسعمائة وتسعة وستين، وقارنت مشاهده بمشاهد اليوم لوجدت أن دمشق لم تتغير قيد أنملة، فكل شيء على حاله، لأن النظام جاء خصيصاً لتجميد سوريا ومنعها من نهضة حقيقية، لهذا مثلاً سلّط على السوريين عشرات الأجهزة الأمنية التي كانت تتدخل حتى في حفلات الأعراس ومراسم الدفن، وكان التجمع ممنوعاً لأكثر من شخصين في سوريا، وكان هناك رقابة على تبادل الزيارات والسهرات بين الأقارب وأهل القرية الواحدة، ومن خالف كان يتعرض للاعتقال والاختفاء في أقبية الجزار.
ولا يمكن لأي معاملة أو مشروع تجاري واقتصادي وتنموي أن يمر دون الحصول على ألف تصريح وإذن من الأجهزة الأمنية، فحتى لو أردت مثلاً أن تفتح مصنعاً صغيراً لصناعة أحذية الأطفال كان لا بد من الحصول على موافقة من المخابرات الجوية والعسكرية. بربكم ما علاقة المخابرات الجوية بأحذية الأطفال؟
هل شاهدتم يوماً حذاء طفل يطير في الجو ولا بد من المخابرات الجوية أن تضبط حركته جواً؟
والله لا أمزح، لقد كانوا ومازالوا يتدخلون في كل شاردة وواردة، وحتى لو أردت أن تقيم حفلة عرس أو سرداب عزاء، فلا بد من موافقات من الأمن السياسي. والهدف طبعاً أن تبقى سوريا تحت التحت تنفيذاً لشروط الذين سلّطوا حافظ الأسد ونظامه على سوريا والسوريين.
وفي عام ألفين وأحد عشر، عندما ضاق السوريون ذرعاً بهذا النظام الفاشي الذي لا مثيل له في تاريخ الشرق الأوسط، تعلمون ما حصل، فقد تداعى القاصي والداني لتدمير سوريا وتشريد نصف الشعب السوري وقتل واعتقال الملايين نظراً لأهمية النظام بالنسبة لمشغليه، وبدل أن يخرج السوريون من تحت ربقة القبضة الأمنية فقدوا بلدهم الذي باعه النظام بالجملة والمفرق للغزاة والمحتلين كي يبقى على عرشه الذليل.
لكن العصابة الحاكمة وداعميها لم يستطيعوا منذ سنوات أن يؤمنوا للسوريين أبسط مستلزمات العيش كالخبز والماء والكهرباء، فتحولت سوريا إلى جحيم لا يطاق على كل الأصعدة، وبدل أن يبادر النظام إلى تخفيف وطأة الأزمة الطاحنة على الشعب السوري، راح يتفنن في التنكيل بالسوريين، ففرض الأتاوات والضرائب ولم يترك مصنعاً أو تاجراً إلا ونهب أمواله لتمويل عصاباته وإرضاء حلفائه من جيوب الشعب السوري المنتوف والمسحوق.
وظنت العصابة الحاكمة أنها تستطيع أن تسحق السوريين لصالح مشغليها إلى ما لا نهاية، لكن فجأة وقبل أيام وبسرعة البرق بدأت علائم الانهيار بالظهور بعد أن تمكنت فصائل المعارضة السورية من تحرير حلب ثاني أكبر محافظة في سوريا، ثم حررت ريف إدلب، ثم حررت محافظة حماة مدينة أبي الفداء التي ذبح حافظ الأسد وأخوه رفعت عشرات الألوف من أهلها ودمرها في بداية ثمانينيات القرن الماضي. وتتوجه الأنظار الآن إلى حمص وما بعد حمص. ولا ندري كيف سيكون الوضع الميداني بعد كتابة هذا المقال، لأن الأوضاع تتقدم بسرعة قياسية.
إلى أين تسير سوريا يا ترى بعد عودة الحراك بعنفوان لا مثيل له؟ لا شك أن غالبية السوريين يتمنون لو أن قوى المعارضة تكمل تقدمها حتى تسقط وكر الاحتلال والإجرام في قلب دمشق، وإذا تُركت الفصائل دون ضغط خارجي لوصلت إلى الشام بسرعة قياسية.
والسؤال اليوم، هل انتهت مهمة هذا النظام في التخريب والتفكيك والتهجير والتغيير الديمغرافي في سوريا كما هو مطلوب منه من مشغليه وداعميه؟ من الواضح أن بشار لم يعد ذا فائدة كبرى لداعمي نظام أبيه ومن الواضح الآن أنهم باعوه، فقد فعل بسوريا والسوريين أكثر مما طلبه الإسرائيلي منه بكثير، بحيث بات يستحق تماثيل من ذهب في قلب تل أبيب، لأن إسرائيل نفسها لا تستطيع أن تخرب وتدمر في سوريا عشرة بالمائة مما دمره وخربه هو وعصابته.
لا عجب أن أطلقت عليه الصحف الإسرائيلية ذات يوم لقب «ملك ملوك إسرائيل» نظراً لحجم الخدمات الكبرى التي قدمها لإسرائيل.
لا شك أن السوريين يأملون اليوم أن تكون الحركة التخريبية التي بدأها حافظ الأسد عام ألف وتسعمائة وسبعين، ثم أكملها بشار بحرق سوريا وتدميرها وتهجير نصف شعبها وبيعها بالجملة والمفرق لمشغليه وداعميه، أن تكون قد أوشكت على نهايتها، لعلهم يعيدون بناء ما تبقى من بلدهم، فهل فعلاً انتهى دور هذا النظام في التخريب والتدمير والتفكيك في سوريا؟ المؤشرات حتى الآن تبشر بالخير، فعلى ما يبدو أن مهمة ذلك النظام قد شارفت على الانتهاء، وكما حكم سوريا ودمرها لأكثر من نصف قرن برعاية خارجية، فهو الآن يتساقط تدريجياً أيضاً بمباركة خارجية، وهو يعلم أنه أصبح عارياً بعد أن بدأ ينفض من حوله داعموه ويكنسوه كما كنسوا من قبله كل عملائهم وأدواتهم الوسخة بعد أن أكملت وظائفها القذرة؟
هل بدأت سوريا تعود فعلاً إلى الحياة؟ هل يمكن أن تستعيد وحدتها الترابية والوطنية والشعبية؟ هل سيسمحون لها بأن تنهض من تحت الرماد كطائر العنقاء؟
كاتب واعلامي سوري
القدس العربي
—————————-
التطورات في سوريا: بين «إعدام ميت» و»الهري»/ يحيى مصطفى كامل
07 كانون الأول 2024
ليس من قبيل المبالغة أن أزعم أن مسار الأحداث في سوريا أدهش الجميع بسرعة وتيرته والسهولة الظاهرية التي تقهقرت بها قوات النظام، وبالأدق ما يُسمى بالنظام، أمام الحركات العسكرية المسلحة، التي تقدمت بسرعة كاسحة تساقط معها وأمامها عددٌ من المدن على رأسها مدينة حلب بكل أهميتها ومكانتها التاريخية والجغرافية والاقتصادية. من الطبيعي والمتوقع أن يحتل ذلك التقدم المزلزل صدارة المشهد، ويستحوذ على الاهتمام، خاصةً أن إسرائيل وصلت بالرأي العام، العالمي بالأخص، في الشأن الغزاوي إلى حيث تريده أن يكون: ألف القتل والدمار، حيث صارت أعداد القتلى بالعشرات، بل والمئات حدثاً يومياً معتاداً، بل أخشى أن أقول باهتاً وسط بركةٍ آسنةٍ من التبلد، حيث لم يزل وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية هو الموقف الرسمي المعلن، رغم خروقات إسرائيل المتكررة.
كما أنه من الطبيعي والمفهوم أن يستشعر الجمهور العربي القلق، لاسيما وأن خريطة القوى على الأرض والصورة لم تزل غامضة من حيث تعقيدات الواقع السوري، بكثرة فصائله وعلاقاتها بداعميها الخارجيين، سواءً من القوى الإقليمية الأهم كتركيا وإيران، أو العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وأن مخاوف مشروعة من الخلفية والمرجعية العقائدية لبعض هذه الفصائل وما قد تؤدي إليه من ممارسات، خاصةً في حق المعارضين والمغايرين دينياً وطائفياً تلح على الناس الذين ما زالوا للأسف في خانة «المفعول به»، كما أن التوقيت، بعد اتفاق وقف إطلاق النار في لُبنان وما مُني به حزب الله من ضرباتٍ موجعة، رغم صموده، قابلٌ أن يؤخذ على محمل المؤامرات. غير أن ما أجده غير طبيعي، بل ومحزن، أن أغلب التعاطي مع هذا الشأن لم يزل يصدر عن قناعاتٍ وأفكارٍ مسبقة، لا تمت إلى ما قبل 2011 وحسب، بل إلى قرابة النصف قرنٍ الماضي، كأن شيئاً لم يحدث ولم تجد أي معطياتٍ على الإطلاق، فالرطانات وبطاريات الدفاع هي هي، كأن كل الانتكاسات والهزائم والتشرذم لم يدفع بالكثيرين إلى إعادة تقييم المواقف والمنطلقات. لا أزعم أنني أعرف تماماً ما يجري على الأرض، إلا أنني أكاد أجزم أيضاً بأن كثيرين ممن يصدرون أحكاماً صارمة، واثقة ويقينية عن المؤامرات لا يعرفون أكثر مني بكثير. في هذا السياق، أزعم أن المتاح أمام كثيرين (وأنا منهم) هو إبداء بعض الملاحظات من باب التذكير والتدبر ومحاولة البحث وتقرير ما نعلم بدرجةٍ عالية من الثقة إن لم يكن اليقين.
نظام بشار الأسد
يعرب الكثيرون عن قلقهم ويتباكون خيفةً على مصير نظام الأسد وسقوطه، الذي يراه البعض محتملاً والآخر وشيكاً، والبعض ينطلق من خوفٍ على الدولة، التي قد تحل محلها الفوضى، والبعض الآخر يمضي إلى آخر الشوط مغرقاً إياه بصفات الوطنية والعروبية والقومية والتقدمية والمقاومة إلخ؛ حقيقةً لا أعلم هل يفكر هؤلاء جيداً وبترو قبل أن يندفعوا، أو يستجيبوا إلى إلحاح الحماسة، أم أنهم يتعامون أم يهرجون أم يستخفون بنا أم يخدعون أنفسهم بخلقٍ واقعٍ موازٍ، بعد أن سقطت كل الأقنعة تقريباً ولم يبق سوى الواقع العربي المترهل بقبحه؟ كأنهم نسوا أن نظام الأسد الانقلابي، بدأ عهده بأسر كل من أطاح بهم من رفاقه في قيادة الحزب، الذين لم يخرجوا من السجون إلا ليحتضروا ويموتوا بعد أن طواهم النسيان، وأن هذا النظام هو الذي أجهز على ما تبقى من مجالٍ عام وحرياتٍ سياسية في البلد، وقام بالفرز والانتقاء الطائفيين في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وفي التسلل والإحلال في صفوف حزب البعث الحاكم، وأنه فرض حكماً سلطوياً لم تعرف له سوريا مثيلاً من حيث القمع والدموية، مكللاً إياه بمجزرة حماه في 1982؟ أما في التاريخ الحديث جداً وإبان 2011، ألم يسقط النظام السياسة وحلولها أمام التعامل العسكري، منذ أول يوم فأغرق الثورة أو الحرك السوري، في بحرٍ من الدماء ما دفع إلى العسكرة؟ ألم يخرج «الجهاديين»، أولئك الذين يخيفون المتباكين على النظام «المدني» في سوريا الآن، من سجونه وسلحهم ليسمم ويفسد الحراك الثوري؟
السؤال الأهم والحقيقي؟ أين هذا النظام وما الذي تبقى منه لُيبكى عليه؟ لقد كان على وشك الانهيار بعد أن اندحرت قواته، ولم ينقذه سوى التدخل الخارجي، والروسي خاصةً، بعد أن استهلك الدعم الإيراني المسنود بقوات حزب الله. لولا هذه القوى لما بقي بشار الذي صار من الناحية الفعلية مجرد عمدة أو مختار لدمشق وبعض ضواحيها والمدن الأخرى، اسمياً أكثر من أي شيء، وفقاً لتفاهمات بين اللاعبين الحقيقيين الذين أوقفوا إطلاق النار ورضوا أو تصالحوا على تقاسم مواطئ الأقدام والنفوذ. لولاهم، أو لو اتفقوا على رحيله ونظامه لما بقي بضعة أيام، فهو لا يستند إلى قوة داخلية وما تبقى من جيشه مترهلٌ متفسخٌ رديء التسليح والتدريب، والاقتصاد مهلهل حتى صار يعتمد على تصدير مخدر الكبتاغون للحصول على العملة الصعبة. هذا النظام ميتٌ من الناحية الفعلية ومنذ زمنٍ بعيد، وما وجود بشار إلى حلية لإكساب الوجود الآخر، الحقيقي، صيغةً ما شرعية توحى بنوعٍ من الاستقرار وإملاء الإرادة؛ لذا فلئن أُسقط، فر أو رحل فما ذلك إلا إعدامٌ للميت أو دفنه.
«الهري»
دخلت هذه الكلمة في القاموس الدارج في مصر بمعاني خاصة تختلف وتتباين عن معناها اللغوي الأصيل؛ في الاستخدام الدارج الآن تعني النقاشات المحتدة حامية الوطيس، التي تستمر في جولات أخذٍ وردٍ يستهلك الناس فيها أنفسهم ذهنيا وعصبياً، وقد يصل الأمر بينهم إلى الاحتداد على بعضهم بعضا، ومن ثم الشجار والقطيعة أحياناً، كما أن ذلك الاستخدام يحمل ضمناً، ربما من قبيل السخرية المريرة، كون هذه النقاشات عبثية تماماً فاقدة الجدوى. أرى أن كثيراً من النقاشات والانحيازات بصدد التطورات الميدانية في سوريا، وفي ضوء ما أسلفت، تندرج في سياق «الهري» بمعناه الذي وضحت، ناهيك عن كون التصورات والرؤى والألفاظ تنتمي إلى زمنٍ مضى وواقعٍ ماضٍ. من ذلك مثلاً التباكي القومجي على الدولة القومية أو دولة المواطنة: أولاً، أين هي هذه الدولة السورية؟ لقد دمر نظام آل الأسد هذه الدولة أو الحلم بها؟ أما الخوف من الفصائل الجهادية، وهي مخيفة بحق، فلا بد من التذكير بأنها نتاج تجفيف المجال العام السياسي ومصادرة، بل اعتقال العمل العام المقترن مع الدموية والقمع، ومن ناحيةٍ أخرى يتعين التذكير أيضاً بأن نظام الأسد، أباً وابناً، لم يكن بعيداً عن «الأصوليات» المسلحة الدموية فقد انخرط في مشروعٍ أصوليٍ آخر هو مشروع إيران وحزب الله، ولا حاجة للتذكير بكيف تعامل النظام الإيراني مع معارضيه، خاصةً إبان الثورة الإيرانية بمحاكمها وتصفياتها الجسدية، لا لأنصار الشاه فحسب، بل للفصائل السياسية التي عارضت الشاه وعلى رأسها أو في عدادها حزب «توده» اليساري الذي اعتقل من كوادره آلاف ناهيك عن الذين أعدموا وصُفوا جسدياً، ولا الوقت مناسباً للسؤال عن من اغتال مهدي عامل وكوكبة من قيادات الحزب الشيوعي اللبناني مع التذكير بعلاقة النظام السوري «التقدمي الوحدوي» بهذه الاغتيالات طيلة الوقت ( من يذكر كمال جنبلاط)؟
لكن «الهري» بمعناه الأوضح والمثالي يتجلى حين يختلف الناس مع أو ضد في حين أن الفاعلين الأساسيين في التوازنات السياسية، كما أسلفنا، كلهم خارجون عن سوريا، من الولايات المتحدة إلى روسيا إلى إيران إلى تركيا وإسرائيل ودول الخليج، وسيكون بقاء النظام وبشار من عدمه نتيجة لتوازنهم النهائي على الأرض، كما أنه قمة الهري الحديث عن المؤامرات متناسين ملايين من المهجرين لهم مصلحة في سقوط النظام والعودة إلى مدنهم وأهاليهم، يحركهم غضبٌ تاريخي محتدم على نظامٍ بطش ودمر وشرد فنتناسى معاناتهم واستعدادهم، بل انتظارهم للحظة المناسبة التي يستطيعون منها وفيها العودة والثأر من هذا النظام الميت المسخ، ومن الطبيعي أن تكون لحظة ضعف وانحسار أعوانه، ومن ثم انكشافه، هي اللحظة المناسبة.
إن أدمغتنا المسكونة بالمؤامرات تنسينا أن هناك ما هو أبسط منها: المصالح وتوافقها، لا ننكر المؤامرات، لكنها ليست الشيء الوحيد. لا شك أن الوضع في سوريا معقد، لا يمكن اختزاله، ناهيك عن شرحه بقاموس ورطانات الخطاب القومي العربي المستمد من حقبٍ سابقة، كانت الصورة فيها أوضح كالاصطفافات، وفي هذا السياق لا بد من التأكيد على كون النظام السوري وأشباهه هم من بدأوا بخلط الأوراق وفرض الثنائيات البغيضة من عينة أنا أو الفوضى أو إرهابي (كنظام) مقابل إرهاب الجماعات المتطرفة. لن يفيدنا في شيء تناسي أن ما نراه الآن ليس سوى حصاد كابوس هذه الأنظمة، فلئن سقطت فهي أهلٌ لذلك ولا تستحق ما هو أفضل منه، كما أن المد في عمرها لن يفيد في شيء سوى في إعادة إنتاج الظرف الذي أدى إلى الإرهاب والتطرف، فلن يكون ما نفعل سوى من قبيل المداواة بالداء، ناهيك عن كون الهري تحديداً لن يغير من مصيرها في شيء.
إنني أتفهم الخوف من المقبل، من احتمالات التطرف المذهبي والطائفي، لكن هناك دائماً خيارٌ ثالث وهو التريث والتأكيد على البحث عن حراكٍ شعبي بديل إذا ما اتضح أن القوات المتقدمة ليست سوى مرتزقة (وهو ما أشك فيه باعتبار ملايين المشردين). لو أن لي أن أراهن فلن أراهن على هذا النظام المجرم ولا على الفصائل الإرهابية، بل سأراهن على الملايين من المشردين الذين خبروا الثورة والشتات والقهر وحملوا السلاح على أن يعدلوا الميزان ويقيموا دولة المواطنة التي لم يقمها نظام آل الأسد في أي مرحلة.
كاتب مصري
القدس العربي
—————————
وقائع انفجار «السردية الإيرانية» و«الربيع العربي» الذي سبقها/ وسام سعادة
07 كانون الأول 2024
منظومة «الممانعة» المشكلة من نظام الولي الفقيه في إيران، والنظام البعثي في سوريا، وجمع الميليشيات المرتبطة أو المحاكية أو المتصلة بالحرس الثوري الإيراني تتصدّع، تترنّح، تنخسف، تنهار.
لكن ذلك لا يحدث هذه المرة في أعقاب قومات شعبية، كمثل انتفاضة الإيرانيين على تزوير انتخابات 2009، أو احتجاجاتهم العارمة على خلفية اقتصادية اجتماعية 2019-2020 أو خروجهم الغاضب من بعد مقتل الشابة مهسا أميني 2022، ولا كنتيجة مباشرة لنزول ملايين السوريين العزّل إلى الميادين 2011-2012، في مواجهة بطش جلاوزة النظام الدموي وعقيدة «الأسد أو نحرق البلد» ولا من بعد نزول مئات آلاف المواطنين اللبنانيين إلى الساحات تنديداً بالاغتيالات ورفضاً للوصاية وتنديداً بمن أوصل بلدهم إلى حالة الإفلاس كما حدث في 2005 و2019، ولا في أعقاب احتجاجات تشرين العراقية التي حُرِّقَ فيها العلم الإيراني، وقَتَلت فيها الميليشيات الدهمائية الرجعية ألفين من الطلاب والشباب الغاضب وتعقبت الناشطين المدنيين أو على مواقع التواصل تختطفهم وتغتالهم.
منظومة الممانعة تتداعى الآن بعد سنوات على تألق هذه الحيويات الشعبية واصطدامها جميعها في نهاية المطاف بالظروف غير المؤاتية، وعناصر الوهن والتفسّخ الداخلي وما أكثرها، والتأهب «البطشيّ» العالي للميليشيات. فماذا حدث؟
قبل أي اعتبار آخر حرب غزّة.
الأنظمة «الأنتي ممانعة» اتخذت لها حيال هذه الحرب موقفاً غير راغب في ممارسة أي ضغط عربي جدي وشامل على إسرائيل لإيقاف حرب إبادتها. سلوك أسرة «الاعتدال السلطوي» هذه لن يمر هو الآخر بلا عواقب، إنما ليس الآن. ليس بالشكل المباشر.
منظومة الممانعة في المقابل تدخلت، عرضت أسلوبها في ممارسة نظرية «وحدة الساحات الجهادية». إنما بالشكل الذي لم يوقف هذه الحرب. بل امتدت لاحقاً إلى لبنان بشكل أتى أيضاً على ما كان يقوم مقام «الحبكة» في السردية المبثوثة انطلاقاً من إيران.
تقوم هذه السردية على جحود هائل بتركة الحروب النظامية بين العرب وبين إسرائيل، وعلى وصم هذه المرحلة بأنها كانت «انهزامية» من الأساس، مغتربة عن مصادر القوة والسؤدد لدى «المستضعفين في الأرض». وأن خروج مصر من الصراع، مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ودخول إيران اليه، من بعد الإطاحة بمحمد رضا بهلوي وإقامة شاهنشاهية الكهانة، تعني أنه قد «ولى زمن الهزائم وأقبل زمن الانتصارات».
لا تحتمل السردية الإيرانية الخمينية تأرجحاَ في مجرى الصراع مع إسرائيل بين هزائم وانتصارات. تقوم على تقسيم الزمن نصفين. قبل الثورة الإيرانية زمن الهزائم العربية، وفي إثر الثورة انطلاقة مسلسل الانتصارات وصولاً إلى تخريب إسرائيل وقد اعتبرتها الأيديولوجيا نفسها استمرارية لحصون خيبر!
لقد استطاعت هذه السردية أن تلحق بها من كان يفترض أن له بالأساس سردية أخرى. كالنظام السوري، المفترض أنه لا ينظر لحرب 1973 «التحريرية» كزمن «هزائم» وأنه يتبنى مقال التسوية، على أساس منطلقات مؤتمر مدريد ومبدأ «الأرض مقابل السلام». وحركة حماس، المفترض أنها لا تتشارك مع هذه المنظومة الإيرانية رؤيتها العقدية العامة، ولا فكرة أن الفلسطينيين وسائر العرب كانوا كالهائمين على وجوههم في مجرى الصراع إلى أن حضر خميني.
هزيمة إيران الخمينية أمام صدام حسين أواخر الثمانينيات كانت كفيلة بتفتيت هذه السردية، لولا أن صدام نفسه اجتاح الكويت في إثرها وجرجر وراءه حسابات قاتلة إلى حين الغزو الأمريكي لأرض الرافدين، الذي فتح بوابة المشرق العربي للجحافل الإيرانية على مصراعيها.
رعونة بشار الأسد دفعته أيضاً إلى التضحية بالمفاهيم التي كانت لا تزال تفصل بين نظامي «البعث» و«ولاية الفقيه». لكن عنصر القوة الأساسي في السردية الإيرانية الخاصة بالصراع مع إسرائيل كان «حزب الله» وبالذات في حقبة السيد حسن نصر الله. الضربة القاسية التي تعرّض لها الحزب في الحرب الأخيرة حجمت إلى حد كبير هذا العنصر.
الأنتي ممانعة تقول جهاراً إنها ليس عندها ما تقدمه لفلسطينيي غزة. ليس عندها «سردية» سوى الاكتفاء بتحميل المسؤولية الى خيار استمرار مقاتلة إسرائيل، ومن دون الاهتمام بالوصل الكافي بين هذا الأمر وبين فض إسرائيل يدها نهائيا، وبلا رجعة على ما يبدو، من كل تراث «الأرض مقابل السلام».
الممانعة لا تزال تقول للفلسطينيين واللبنانيين إنهم يعيشون زمن انتصارات. يقود ذلك حتماً إلى انفجار السردية. لقد حبس التصور الخمينوي للصراع مع إسرائيل نفسه في هذه القسمة بين عصر هزائم «عربي – دنيوي السمة» وعصر انتصارات «إيراني – اسكاتولوجي السمة».
يعكس انفجار السردية مشكلة عويصة أخطر، وهو أن منظومة الحرس الثوري والميليشيات المرتبطة به وصلت إلى حد التوسع اللامحسوب، التوسع الذي عادة ما تنفجر الامبراطوريات من بعده حين تصل اليه، إذ يتحول هذا التوسع إلى وبال عليها، يرهق إمكاناتها، ويستهلك مواردها بدلاً من أن يجلب لها الجاه والكنوز وعناصر المكنة والاستمرار. أصاب إمبراطورية الحرس ما يصيب كل الإمبراطوريات التي كانت فعلا امبراطوريات، من مغبة «التوسع الزائد». مع فارق أن هذه الإمبراطورية الحرسية بقيت وهمية إلى حد كبير. إمبراطورية أبقت بلداً ضخماً بحجم إيران على هامش الثورة الصناعية الآسيوية.
يبقى أنه ليس الشيء نفسه أن يحدث انهيار منظومة الممانعة تحت أثر الاستباحة الإسرائيلية لدماء الفلسطينيين واللبنانيين، وتلف النظام السوري وهو يحاول استجماع عناصر بقائه الموميائي من التعويم الرسمي العربي له، وتقاسم مناطق سيطرته مع الإيرانيين والروس. ليس الشيء نفسه أن يحدث الانهيار نتيجة الاهتراء المتزايد وليس تحت وطأة القومات الشعبية. بل وفي عز اليأس والقنوط لدى الجموع، واستفحال النزيف الديموغرافي في بلدان المشرق، وهذه حالة لا تلغيها ردات الفعل على تقهقر قوات بشار وماهر الأسد مدينة في إثر مدينة.
هذه السنوات التي تفصل قومات هذه المنطقة ضد «الممانعة» بمختلف عناوينها على انهيار منظومة الممانعة نفسها، وقد بدأت فصوله، ليس من السهل إلغاؤها، أو اعتبارها مجرد استراحة محارب. إنها بالعكس، مؤشر إلى تلف مجتمعي عميق لا يمكن أن يعالج بالمكابرة الآن على التعددية الإثنية والإثنو-دينية في «الكيانات الوطنية الرسمية» القائمة. فقبل أن تتهافت سردية «الممانعة» تهافتت سردية «الربيع العربي» أيضاً. تلك التي ترى الى «شعوب» غير موجودة بهذا الشكل الملحمي التمجيدي لها، الجاحد بالاختلافات القارّة فيها، غير المسائل للبنى الثقافية المانعة لاستدامة النزعات التحررية، بحجة اجتناب «الثقافوية» وكيد الاستشراق.
هل هذه المجتمعات قابلة لإعادة الاستصلاح بالفعل؟ وفي جيلنا هذا؟
اليوم تنهار سردية الممانعة، وتنهار في إثرها أشكال الطغيان التي تغذت على هذه السردية، لكن سردية «الربيع العربي» هي أيضاً أصيبت في مقتل، ولا ينحصر هذا في القمع الذي لقيته، أو السياق الجيوبوليتيكي الذي ساهم بإجهاضها.
هل هو سؤال «تيئيسي» فقط لا يتناسب مع المشاعر الجياشة المفترضة ومع ميلودراما «الفرح والخوف» الرائجة حالياً؟
بل هو سؤال يعكس، بلا شك، قدراً من الإرهاق أصاب شعوب هذه المنطقة. قدراً من الاعتراف بأن «القوى الحية» في هذه المجتمعات ما عاد وجودها بالأمر البديهي، التلقائي. قدراً لا يجعلها قادرة على استبدال غنائية ملحمية بأخرى، بين ليلة وضحاها. قدراً لا يجعلها قادرة على استمرار استبعاد سؤال المسؤولية عنها طول الوقت. ربما هو السؤال المستبعد منذ قتل هشام بن عبد الملك لغيلان الدمشقي، شهيد الدفاع عن فكرة أن الإنسان مسؤول عمّا يفعل.
كاتب من لبنان
القدس العربي
————————–
الأردن والعرب ومسؤولية إنقاذ السوريين/ محمود الريماوي
07 ديسمبر 2024
يمثل الأردن أحد دول جوار سورية الأكثر أهمية، ويتأثّر بصورة مباشرة بالأوضاع في هذا البلد، وقد انعكست الأزمة السورية منذ عام 2011 بتدفق أكثر من مليون لاجئ سوري إلى الأردن، خصّصت لهم ثلاثة مخيّمات، وتناقصت أعدادهم، حتى بلغت نحو 620 ألف شخص، نتيجة الانتقال إلى بلد ثالث، أو العودة الطوعية إلى بلادهم. وبينما ينظر الأردن إلى الأحداث التي تشهدها سورية بقلق، فإنه يشاطر دولاً أخرى موقف التمسّك بوحدة الأراضي السورية وسلامتها، وأهمية إحلال الاستقرار فيها، وهي مبادئ عامّة حقّاً، لكنّها لم تمنع عمّان من اتخاذ مبادرات لكسر الجمود في الأزمة السورية، بتشجيع دمشق على الترحيب بعودة اللاجئين وضمان سلامتهم، في مقابل عودة النظام إلى جامعة الدول العربية، وهو ما تمّ، وعادت أعداد ضئيلة تقدّر ببضعة آلاف من اللاجئين، وقد شكّل البلدان لجنة ثنائية عالية المستوى، وذات طابع أمني، لمنع تدفّق المخدّرات إلى الأردن عبر حدوده الشمالية والشمالية الشرقية، لكنّ تدفّق هذه السموم إلى الأردن لم يتوقّف، بغرض تسريبها إلى البلاد أو “تصديرها” إلى دول الخليج العربية. وسبق أن استضاف الأردن في إبريل/ نيسان الماضي اجتماعاً وزارياً تشاورياً بخصوص الأزمة السورية انبثق منه بيان عمّان، الذي يثمّن السعي نحو حلّ سياسي ومعالجة مشكلة اللاجئين.
ومع انطلاق عمليات المعارضة المسلحة العسكرية في 27 من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، فقد حرصت عمّان على التقليل من التصريحات الرسمية عن هذه التطوّرات، حال غالبية العواصم العربية، فقد فوجئت عمّان بهذه التطوّرات، كحال أطراف إقليمية ودولية. كانت أنظارها متّجهة إلى البؤر الساخنة في لبنان، وتلك الملتهبة في قطاع غزّة، إضافة إلى السودان، فإذا بالمعارك تندلع لدى الجار في الشمال، مُحدثة (حتى تاريخه) تغييراً في معادلات القوة والسيطرة في هذا البلد. وتتمحور التصريحات والمتابعات الإعلامية حول ضرورة حفظ المصالح الأردنية، وعدم تأثّرها سلباً بما يجري وراء الحدود الشمالية، وأن تشهد هذه الحدود استقراراً، فلا تقف في الجانب الآخر مليشيات إيرانية الولاء، ولا مجموعات سلفية متشدّدة.
غير أنه تبقى هناك آمال، رغم هذه التطورات الدراماتيكية، في أن تتجه الأوضاع هناك إلى استقرار سياسي مثمر، يفتح الباب أمام عودة اللاجئين السوريين من دول المنطقة إلى بلدهم، وعودة النازحين في الداخل السوري إلى مناطق إقامتهم، في وقتٍ زادت فيه أعداد هؤلاء النازحين بفعل التطوّرات أخيراً، بما يسمح بالانتقال (إذا كان هناك استيعاب سياسي لما يحدث) إلى حالة تعافٍ بمشاركة العدد الأكبر من السوريين في جميع المناطق. وفي مناسبات عدّة، تحدّث مسؤولون أردنيون عن أهمية الحلّ السياسي ومرجعية قرار مجلس الأمن 2254، الذي من شأنه وضع الأزمة في طريق الحلّ، وإشاعة مناخ سياسي جديد يزيل الحواجز بين السوريين وانشطارهم بين موالاة ومعارضة، ويعيد إحياء مؤسّسات الدولة وتنشيطها، ويحصر السلاح بأيدي الدولة في أجواءٍ من مصالحة فعلية واسعة تستحق التطلّع إليها، مع أنها تعكس في هذه الظروف نظرة حالمة.
والانطباع حتى اللحظة هو الحذر الشديد، بغير اضمحلال الأمل بأن لا تزداد الأزمة تعقيداً بدخول عناصر إضافية عليها من خارج الحدود، وذلك مع الإدراك بأن السوريين قد تعبوا من المواجهات المسلحة، ومن الانهيار الاقتصادي والضائقة المعيشية، ومن انسداد الأجواء أمام أي حلّ شامل ومُستدام، كما أن دول الجوار، ومنها الأردن، قد ضاقت ذرعاً بالتداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية للأزمة وانعكاسها في هذه الدول، وليس سرّاً أن شطراً من الدول الأعضاء تقف إلى جانب دمشق في مواجهة تمدّد نفوذ الفصائل، بينما تربط دول أخرى وقوفها إلى جانب دمشق بأهمية التوصّل إلى حلّ سياسي جدّي وملموس، بوصفه أفضلَ ردٍّ على الأزمة القديمة المتجدّدة، وهو ما تعكسه مواقفُ أطراف دولية مثل المجموعة الأوروبية وأميركا، وأطراف إقليمية أبرزها تركيا. وعلى الأرجح، وبما تفيد به خبرة الأداء السياسي الأردني، أن تتّخذ عمّان موقفاً وسطاً بين هذين التوجُّهَين، علماً بأن اطّراد المواجهات سوف ينعكس حُكماً في بلورة مواقف العديد من الدول والأطراف، بالرغم من أن الآمال تتمحور حالياً حول وقف المواجهات العسكرية.
من المعلوم أنه قد شُكّلت في بحر هذا العام (2024) لجنة وزارية عربية، عُرفت بلجنة الاتصال الخاصّة بالأزمة السورية، وتضم مصر والسعودية والأردن ولبنان والعراق وسورية وجامعة الدول العربية، في إطار تحصين عودة سورية إلى الجامعة بتحقيق تقدّم في مسار الأزمة. وقد عقدت اللجنة اجتماعَين في القاهرة وعمّان، إلا أن اجتماعا ثالثاً كان مقرّراً في بغداد في أغسطس/ آب الماضي لم يُعقد، وبدا أن هذه اللجنة تجمّدت من غير إيضاح سبب توقّف جهودها. ويثير تجدّد المواجهات المسلحة في نطاق واسع في الداخل السوري الحاجة إلى مبادرات عربية موضوعية تأخذ في الاعتبار سائر عناصر الأزمة وجوانبها، وتدفع نحو مبادرات جديدة لتطويق الأزمة، وتفادي مزيد من التعقيد عليها، بما في ذلك تفادي نشوء مزيد من التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية التي تمُسّ حياة الملايين من السوريين، علاوة على تهديد أمنهم. أجل، ثمّة حاجة ماسة لإحياء لجنة اتصال، أو إعادة تشكيلها بالتوافق بما يخدم جهود حلّ الأزمة، ويستجيب للتحدّي الراهن، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة التطوّرات الجديدة، وبحيث يكون نقل هذا البلد إلى برّ الأمان مسؤولية عربية قبل مسؤولية أي طرف خارجي إقليمي أو دولي، ومن غير تقليل لأهمّية مواقف هذه الأطراف الخارجية، فإيران وروسيا موجودتان في عمق الأزمة السورية وجوانبها، بينما تتمتّع تركيا بنفوذ سياسي كبير على المعارضة بمختلف مكوّناتها. وليس معلوماً إذا ما كان الاتفاق (حتى لحظة كتابة هذه السطور) قد نضج لعقد لقاء رباعي في الدوحة يجمع تركيا وروسيا وقطر وإيران، وإذا ما قُيّض لهذا الاجتماع أن يعقد فسوف تنعكس مُخرجاته على أي اجتماع عربي في رحاب الجامعة. وإلى أن يُدرك السوريون في مختلف مواقعهم، وبالذات من هم في مواقع الحكم، أن إنقاذ بلدهم وشعبهم، بما في ذلك تسهيل عودة ملايين اللاجئين، هو بأيديهم.
العربي الجديدة
———————————
عن مخاطر فرض الرؤى الأحادية في مجتمع متنوع/ سميرة المسالمة
7 ديسمبر 2024
يعتبر التنوع الثقافي والديني والإثني من أهم السمات التي يتمتع بها المجتمع السوري، وهو ليس مجرد ظاهرة اجتماعية حديثة، بل إرث حضاري تشكّل عبر قرون من التفاعل بين حضارات متعددة. هذا التنوع، هو الذي جعل من سورية تاريخيًا مركزًا للتعددية الثقافية، وهو طالما كان مصدر إبداع وحيوية وقوة لها، إلا أنه لم ينج كغيره من الثوابت السورية من الاستغلال والقمع في بعض المحطات التاريخية، وصولا إلى هذه اللحظة، التي تمر بها البلاد، وهي كما تركت بالسابق أثرًا عميقًا على المجتمع، فتحوّلت من رمز وحدة إلى أداة نزاع سياسي، قد يتحول اليوم إلى سلاح يحسم المعركة محليًا ودوليًا.
في التاريخ السوري الحديث، شهدت البلاد محطات عديدة أُسيء فيها استخدام التنوع الثقافي والديني والإثني، فبعد الاستقلال، شهدت سورية تناميا للحركة القومية العروبية، التي سعت إلى تعزيز الهوية العربية، إلا أن بعض السياسات المطبقة في هذا الإطار أدت إلى تهميش بعض الأقليات. ومن أبرز هذه السياسات كانت حملات التعريب القسرية في الستينيات، التي أسهمت في زيادة الشعور بالعزلة والتوتر بين المكونات المختلفة، وعلى سبيل المثال، فقد تم تقييد استخدام الأكراد للغتهم سواء في الحياة الأسرية أو في المجال الرسمي، كما تم منعهم من التعبير عن هويتهم الثقافية بحرية.
هذه السياسات لم تؤدِ إلى الاندماج الذي كان يُروج له النظام الحاكم، بل على العكس، أسهمت في زيادة التوترات التي كان من الممكن تجنبها، لو تم احترام التنوع الثقافي والحقوق على أساس المواطنة، بدلًا من التمسك بالهوية القومية الضيقة.
في السبعينيات والثمانينيات، حاولت السلطة الحاكمة تقديم نفسها كضامن للتنوع الثقافي، مؤكدة أنها تحمي الأقليات الدينية من أي تهديدات، هذا الخطاب رغم ما حمله من تطمينات ظاهرية، استخدم في الواقع لتعزيز سيطرة نظامي الأسد الأب والابن، وإضفاء شرعية على سياساتهما، فعاشت بعض الطوائف في هذه الفترات، في حالة من القلق، نتيجة لممارسات سياسية تعمق الانقسام، حيث بات التنوع أداة تستخدم لتعزيز الولاءات السياسية، بدلا من أن يكون جسرًا للوحدة الوطنية.
هذه التحديات لم تأتِ فقط من السلطة. فخلال الصراع الأخير في سورية، ظهرت جماعات متشددة سعت إلى فرض رؤى أحادية على مجتمع متنوع، ما أدى إلى استهداف الهوية الثقافية والدينية لمكونات عديدة. كمثال، فقد كانت هناك محاولات لتدمير المواقع التراثية والدينية، مثل تدمير (معبد بل) في تدمر على يد تنظيم “داعش”، وهو رمز حضاري يعكس التداخل الثقافي بين الشعوب. هذا التدمير لم يكن مجرد خسارة مادية، بل كان هجومًا على الروح الثقافية التي جمعت السوريين لعقود طويلة.
وإلى جانب هذه التحديات التاريخية، ظهرت مؤخرًا بعض الصور أو الفيديوهات لممارسات قد تهدد مرة أخرى التعددية الثقافية في سورية. وعلى الرغم من أنه لا يمكن الجزم بحقيقتها إلا أن التذكير بأن حلب مدينة تنوع بشري هائل من كل الديانات والقوميات، وأي محاولة لانتهاك حق أي منها في ممارسة نشاطاتها الاقتصادية على اختلافها، قد يعطي رسالة مختلفة تماما عن خطاب دخول الفصائل المعارضة إلى حلب، والتي أكدت احترامها لجميع المكونات السورية، ما يعني أنها مطالبة فعليًا بنفي أنها تسعى لفرض رؤية ثقافية أحادية على مجتمع متنوع.
فأي ممارسات قمعية ترفض الآخر ومعتقداته ورغباته هي مدفوعة بتوجهات أيديولوجية تنطلق من أنها ترى في التنوع تهديدًا، فتسعى إلى تقليصه أو استبعاده من خلال فرض نمط حياتي معين على المجتمع، وهذا ما يضعف الوحدة الوطنية في أي بلد متنوع المعتقدات.
وعلى الرغم من أن بعض هذه الحوادث قد تبدو شخصية، أو محدودة في تأثيرها، إلا أنها تحمل دلالات أعمق، وقد تمنح النظام من جديد، فرصة الدفاع عن نفسه، كوجه علماني أمام المجتمع الدولي، واعادة استخدام التنوع كأداة سياسية لتكريس نفوذه دوليًا، تحت مسمى (حماية قيم التعايش والتسامح). واللافت أن استغلال حماية التنوع داخل سورية ليس محصورا بالنظام، بل هناك قوى دولية، أيضا، تستخدم قضايا التنوع كجزء من استراتيجياتها السياسية، فكل طرف يتبنى رؤية مختلفة حول كيفية التعامل مع المكونات السورية، وهو ما يسهم في تعقيد المسألة، ويزيد من حدة الانقسامات الداخلية.
أحيانا تكفي صورة واحدة مقابل عشرات أو مئات المشاهد الجيدة، لقلب المشهد، وضرب مصداقية الخطاب السياسي المعتدل التي تسعى المعارضة لتقديمه، ويضعف من الثقة (المشكوك بها أساسًا) بقدرة هذه الأطراف على تقديم نموذج جامع يتسم بالقبول بين مختلف فئات المجتمع، كما أن هذه الممارسات تهدد الجهود المبذولة لتحقيق مصالحة وطنية، لأنها تخلق انقسامات إضافية بين مكونات المجتمع السوري، فالتجارب التاريخية تُظهر بوضوح أن قمع التنوع أو استغلاله يؤدي إلى زعزعة استقرار المجتمع وإلى تقويض هويته الوطنية.
إن محاولات فرض رؤية أحادية على مجتمع متنوع ستواجه رفضًا محليًا ودوليًا، لأنها تعادي القيم الإنسانية الأساسية مثل الحرية والمساواة والتعددية، لأنه عندما تستهدف الحريات الثقافية والدينية، كما حدث في تلك المحطات، فإن ذلك لا يُضعف المكونات المستهدفة فقط، بل يهدد تماسك المجتمع ككل.
إن حماية التنوع السوري وإعادة الاعتبار له تتطلب فصله عن النزاعات السياسية وتكريسه كقيمة ثقافية وانسانية، وكفيمة تاريخية ومعنوية، حيث لا يمكن النظر إلى التنوع كمجرد واقع اجتماعي، بل يجب أن يكون حجر الزاوية في بناء هوية وطنية جامعة تحترم كل مكوناتها، وهذه مسؤولية مهمة ومشتركة بين المجتمع المدني والمثقفين والمؤسسات الثقافية، مع أي سلطة حاكمة، والتي يجب أن تعمل على تعزيز قيم التعايش واحترام الاختلاف، وما لم يسارع المجتمع إلى انتقاد أي صورة تهددها، ستترسخ كفعل سلطوي، تمارسه على المجتمع نفسه كل سلطة مسلحة وفقا لايديولوجيا قادتها.
قد يكون من الصعب تقبل حرية الرأي في موضوع حساس كهذا، لكن الصمت عنه سيكون بداية الخضوع إلى هوية جديدة، وغريبة عن تنوع المجتمع السوري، بتاريخه العريق كمركز للتعددية الثقافية، ومثال للعالم في كيفية استعادة التعايش بالرغم من الأزمات. إن الدفاع عن حقنا في هذا التنوع ليس مجرد واجب وطني، بل هو ضرورة أخلاقية وإنسانية تذكر بأن التعددية هي مصدر قوة، وغنى وحيوية، وليست عامل ضعف، ومحاولة إلباس سورية عباءة حامل السلاح المنتصر، لا تختلف عن محاولة اختطافها لعائلة الأسد الحاكمة.
*كاتبة سورية.
————————
اختبار صعود المجموعات السنّية المقاتلة في سورية/ مراد بطل الشيشاني
07 ديسمبر 2024
قد يبدو لبعضهم أننا نطوي صفحة غزّة وجنوب لبنان لنفتح الملفّ السوري في هذا الشرق الأوسط المتخوم بصراعاته السياسية، وكأنّ قدر المنطقة أن تتنقل من صراعٍ إلى آخر، لكنّ هذا الشرق الأوسط أيضاً تتشابك فيه العلاقات والصراعات بشكل كبير، ولعلّ في السَنَة وأزيد، الدموية الماضية، كثير يروى عن تلك التشابكات، إحداها حال الجماعات الإسلامية السنّية المقاتلة.
بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، أعادت حركة حماس، بنظر المتعاطفين، الاعتبار للمجموعات الإسلامية المحلّية أو الوطنية المقاتلة، على حساب المجموعات الإسلامية الجهادية العالمية أو العابرة للحدود، ومثالها الأبرز طبعاً “القاعدة”، وتنظيم ما يعرف بـ”الدولة الإسلامية” (داعش)، وهذه كانت (وما زالت) تعيش حالةَ ضعف وإنهاك من “الحرب على الإرهاب”، وضربات “التحالف الدولي ضدّ داعش”، على التوالي خلال العقدَين الماضيَين.
وكانت النماذج التي تُعدّ، بعد السابع من أكتوبر، من الجماعات الإسلامية المحلّية المقاتلة، تلك التي ترتبط بإيران، إمّا عضوياً مثل حزب الله في لبنان، أو إدارةً مثل الفصائل العراقية المسلّحة، أو تحالفاً يرتبط بملفّ جغرافي محدّد (الخليج)، وهنا أنصار الله الحوثيون، أو تحالفاً ودعماً تكنولوجياً كما في حالة “حماس”، الوحيدة المفارقة مذهبياً لإيران. خارج تلك المجموعات، وفي الجانب السنّي لم تكن تُذكَر نماذجُ كثيرة، لعلّ أشهرها حركة طالبان، وهناك مجموعة “أنصار الدين” في مالي بعلاقتها الملتبسة بتنظيم القاعدة، ولكنّ النموذج الأبرز هو تنظيم هيئة تحرير الشام، الذي عُرِف بشكل أشهر باسمه الأول “جبهة النصرة”، والذي شكّل تعبيراً عن تحوّلٍ من الجهادية العالمية إلى المحلّية، وإظهار القدرة على إدارة حكم محلّي بطريقة براغماتية، كما في إدلب، ومناطقها المحدودة جغرافياً، لا بل إنها شنّت حملات داخلية في إدلب والشمال السوري بمنطق “الحرب على الإرهاب”، باستهداف جماعات مناوئة، ولا أدلّ على هذا التغيّر أكثر من شخصية قائد الهيئة أبو محمد الجولاني، بانتقاله من الزيّ التاريخي الأفغاني أو البزّة العسكرية إلى البدلة الرسمية، وتقديم نفسه لاعباً سياسياً، وليس زعيم مجموعة مسلّحة.
يلعب ضرب (أو تراجع) إيران وحلفائها دوراً أساساً في رسم استراتيجية تقدّم قوات المعارضة في سورية وصولاً إلى حلب وحماة، والأكثر أهمية أن مثل هذا التقدّم يُعلي من قيمة المجموعات الإسلامية المحلّية المقاتلة وتأثيرها، ونتحدّث بصيغة الجمع باعتبار أن هيئة تحرير الشام ليست اللاعب الأوحد في هذا التوسّع، لكنّه قد يكون الأكثر أهميةً، وتحالفه مع المجموعات الثورية الأخرى، ومجموعات “الجيش الحرّ”، تعبّر عن ذلك التحوّل. لكنّ قياس قدرة هذا التوسّع على الاستمرار والسيطرة على مناطق يسيطر عليها النظام السوري، والحفاظ عليها (أو إدارتها)، سيقيّد اختباراً أساساً لنجاح هذا النموذج، الذي دخل في مواجهات مع التيّار العالمي من المسلّحين الإسلاميين، وفي الحالة السورية فإن هذا التقدّم العسكري قد يشبه (إلى الآن)، وهو أمر مبكّر، بنموذج استعادة غروزني عام 1996، حين نفّذ المقاتلون الشيشان عمليةَ استعادة عاصمتهم من القوات الروسية، بدخول المدينة من أطرافها كافّة في ساعة صفر، مسجّلين هزيمةً مذلّةً لتلك القوات، وكان ذلك النصر عاملاً أساساً في دفع روسيا إلى التفاوض مع المقاتلين الشيشان، والاعتراف بفترة انتقالية للاعتراف بدولتهم المستقلّة، لتجري خلالها العمليات الاستخباراتية كلّها، ونسج التحالفات الجديدة، وتعبيد الطريق أمام المجموعات المتطرّفة لتشنّ بعدها حرباً دموية، تنهي أمل الشيشانيين بالاستقلال عن روسيا، ولو إلى حين.
وبالتالي، في الحالة السورية، مسألة السيطرة على الأرض مرهونةً بردّ النظام العسكري، وحلفائه من الإيرانيين، والأكثر أهميةً الروس، ولعلّ الفرصة سنحت لقوات المعارضة بحكم الضغط الواقع على إيران، وخلافات طهران مع نظام الأسد، وانشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، رافعةً حصص تركيا من النفوذ، وهذا شأن آخر. وبالتالي، قدرة القوات على بسط النفوذ مرهونة بقبول الحواضن الشعبية، ولعلّ هذا يذكّر بنموذج طالبان (مثالاً آخرَ على الإسلامية المحلّية)، إذ نشرت “نيويورك تايمز” تقريراً يلقي الضوء على إشادات لعائدين أفغان، رغم استمرار طالبان في فرض قوانينها المتشدّدة خاصة ضدّ المرأة، بحال الأمان والهدوء في البلاد (وهذا كلام سمعناه مرّات سابقة حين حَكَم الإسلاميون وانقلبت البلدان حالةً من الفوضى في أكثر من مكان، بما فيها أفغانستان تحت حكم “طالبان”)، لكنّ الجديد أن الإسلامية المحلّية السنّية تقدّم الآن نموذجاً عن التحوّل من التفكير مجموعةً مسلّحةً إلى إدارةً للدولة، وطبعاً، لا ضمانة أنها ناجحة، لكن يبدو أن هذا طريق اتخذته بعد فشل محاولات سابقة من إسلاميين آخرين، لكنّها فرصة البقاء الآن، ومختبرها على ما يبدو سورية.
العربي الجديد
——————————–
فيلّليني في سورية/ معن البياري
07 ديسمبر 2024
طويتُ آخر صفحات رواية الصديق وحيد الطويلة “حذاء فيلّليني” (دار المتوسّط، ميلانو، 2016)، ثم تسارَعت الأحداث في حماة التي صارت في أيدي المعارضة السورية المسلحة. وفي الأثناء، ذاع الخبر عن تحرير معتقلين ومُحتجزين (لا تزيّد في وصف أكثرهم مخطوفين) في سجون المدينة. أحدّق في صورة أحدهم، اللبناني علي حسن العلي، حطامَ رجل بلحيةٍ بيضاء، ثم أعرف، كما غيري، أنه في السجن منذ نحو 40 عاماً، حُبس وهو في السادسة عشرة من عمره، بتهمة تفجير تمثالٍ لحافظ الأسد، فتضجّ فيّ زوبعةٌ من أسئلة عن الواقع الذي يتحدّى الخيال، عن الجحيم الذي كان يغالبه هذا الفتى ثم الشاب ثم الرجل الشائخ في هذه العقود، عن حاجة عملٍ أدبيٍّ رفيعٍ ينكتب عن هذه المحنة إلى علوٍّ شاهقٍ في ذرى اللغة، لتتسع لكل ما توزّعت عليه ليالي هذا الإنسان ونهاراتُه وكوابيسُه وأحلامُه في مساحات الألم والفانتازيا والكاريكاتورية السوداء والانتهاك والجروح و… . عن فيلمٍ سينمائيٍّ يحتاج حذاقةً استثنائيةً في تشخيص هذه الدراما الفريدة الفردانية التي، لا ريب، تُحسَب شاهداً كاشفاً عن شيءٍ من أهوال منظومة القمع التي شيّدها حافظ الأسد في سورية. أجدُ أن رواية المصري وحيد الطويلة تتوسّل احتيالاً (مكشوفاً إلى حدٍّ ما)، عندما توهِم قارئها بأنها منشغلةٌ بانتهاك آدميّة الإنسان في فظاعات التعذيب عربياً، ولا تتعلق بسورية تخصيصاً، غير أن إشارةً عابرةً إلى هذا البلد “تحسم” هذا الأمر، وإنْ تُبيح مناوراتُ السرد لهذا القارئ أن يتعايش مع هذا الوهم، فليس بين القنافذ أملس، وأنظمة عربية ليست قليلة، انخلعت وأخرى ليس بعد، يصدُقُ عليها الذي نقرأه في هذه الرواية.
فعلها أيضاً ميشيل كيلو في روايته (أو قصّته الطويلة) “دير الجسور” (دار ميسلون، اسطنبول، 2019) عندما رمى إشارةً عارضةً وحيدة تُنبئ أن الترميزات الغزيرة في النصّ تأخذه إلى سورية. وفعلها أيضاً عندما أعطى السجّان، ضابط المخابرات، الموظف الأمني في دواليب السلطة، مساحةً واسعةً ليقول ما يقول بضمير المتكلم، عمّ يفعل من أجل خدمة الوطن، وفي تأديب المتآمرين. وفعلها أيضاً عندما انتهت الرواية بانتهاء هذا الرجل في زنزانة. وعلى ما بين عملي الطويلة وكيلو من مساحات تبايُن، فإن نقاط تلاقٍ بينهما مثل هذه حاضرة (لا ينتهي الجلاد في رواية وحيد إلى السجن، إنما إلى مصحّة المعالج النفسي السجين السابق لديه الذي تعرّض للتعذيب الثقيل منه).
لك أن تقول إن التركيب والالتباس في بناء “حذاء فيلّليني”، من حيث تناوب الرواة (المعالج النفسي، الضابط الجلاد، زوجته، المخبر مأمون)، ووجود صوت المخرج الإيطالي فيديريكو فيلّليني (1920 – 1993)، واستخدام تقنيات السينما في مختتم الرواية، إن هذا كله تطلّب جهداً من القارئ، ضاعف من مساحات “لذّة النصّ”، النصّ الذي يقول عن سورية القبو، سورية التي يُفصح الجلاد فيها، في الرواية وفي الواقع، بأنهم (من هم إن لم يكونوا بوليس السلطة ومخابراتها وسجّانيها؟) من اخترعوا الروبوتات قبل اليابانيين، “هم يصنعونها من جماد، ونحن نصنعها من البشر”. بديعٌ ما أنطق به وحيد الطويلة هذه الشخصية في الرواية، قبل أن يصير بعد عشرين عاماً جسداً مقهوراً على سرير المعالج النفسي، وكان “كبير الضباط المكلّف بالإشراف على التعذيب”، كما عرّفت به زوجته التي أتت به إلى هذا المعالج الذي اسمُه مُطاع وصار “مطيع” في قبو الأمن عند هذا الضابط، جاءت لتتحدّث عن نفسها، عن اضطهاده لها جنسياً. يُخاطبه “أنفي انكسر حين كنت أجلس القرفصاء على الأرض أمامك، تحطّم من عدة ركلات متتالية”.
يسأل مُطاع الذي صيّروه مطيعاً: لم يحارب هؤلاء، من أجل من؟ وتقول زوجة الضابط الجلاد وهو مسجّى مريضاً على السرير “لا أريد موتَه، سأموتُ لو مات، أريدُه حياً لأسقيه من كأسه”. أما الضابط نفسُه فمن كثيرٍ قاله “أفنيتُ عمري كله في خدمة هذا الوطن، نذرتُ كل وقتي لأبنائه، أسعدتُ خمسة وعشرين مليوناً، ضحّيتُ براحتي وراحة بيتي من أجلهم”. يُخاطب مُطاع “حاولتُ أن أغيّرك لتصير أفضل، وأنت الآن تعبُر فعلاً إلى الأفضل. أنت كنتَ تخرّب الوطن، وأنا كنتُ أحمي الوطن”. …
سمّوا المعالج النفسي “فيلّليني الشام” من فرط مشاهدته أفلام المخرج الشهير. خاطب جلّاده بما أفضت به حشاياه، لمّا كان هذا الأخير مسجى على سرير علاج نفسي. تُرى، بماذا كان اللبناني علي حسن العلي يُخاطَب في السجن في حماة 40 عاماً؟ هل سيُتاح له يوماً أن يلقى واحداً من جلّاديه؟ هل من سينمائيٍّ بمخيّلة فيلليني يُنجز سينما رهيفة عنه؟ …؟
العربي الجديد
———————
سقط الأسد: أي مصير ينتظره؟/ إبراهيم اليوسف
07 كانون الأول 2024
سوريا، أو الجمهورية السورية، لا الجمهورية الإسلامية أو العربية التي حملت على عاتقها تاريخًا طويلًا من الحضارة والتنوع، منذ قرن زمني كامتداد لحضارات سابقة في أمكنتها وليس في مكانها، تحوَّلت خلال ما يقارب العقد ونصف العقد الأخير إلى ساحةٍ للصراعات والانقسامات، بسبب تعنت الرئيس بشار الأسد قيد الخلع. وكان ذلك نتيجةً مباشرةً لنظامٍ قاده بعنفٍ واستبداد، حيث استولى حزب البعث بقيادة الأسد على مقدرات البلاد، محوِّلًا إياها إلى مزرعةٍ عائلية تُدار بالحديد والنار.
منذ أن فُرض الأسد على الشعب، بدأ بتفصيل البلاد على مقاس حكمه. استهل مسيرته بخطواتٍ استبدادية، بدءًا من خرق الدستور لتأمين استمرارية سلطته، حيث عدَّل مواد الدستور لتتناسب مع سنِّه عند توليه مهمة الرئاسة، في سابقةٍ خطيرة. أرسى نظامًا قوامه القمع والترهيب، واستغل موارد الدولة لخدمة مصالح عائلته والمقربين منه. لقد جعل من سوريا مسرحًا للفساد المنظَّم، حيث سيطرت أسرته على القطاعات الاقتصادية الحيوية، من النفط إلى الاتصالات، مما أدى إلى تهميش الشعب وإفقاره.
كانت الأسرة الحاكمة، بكل أفرادها، رمزًا للفساد والاستبداد. إذ حوَّل الأسد البلاد إلى مسرحٍ لإثراء عائلته، حيث تضخمت ثروات المقربين بينما عانى المواطنون من البطالة والفقر المدقع. هذا النهج الفاسد، الذي امتد لعقود، ساهم في تفكيك المجتمع السوري وإضعاف بنيانه الاقتصادي والاجتماعي.
هذا النظام كان مسؤولًا عن تدهور سوريا في جميع المجالات. فبدلًا من أن تكون الدولة نموذجًا للاستقرار والتقدُّم، انزلقت إلى مستنقعٍ من الفوضى. لقد أدخل الأسد، منذ بداية حكمه، البلاد في صراعاتٍ داخلية وإقليمية خطيرة. كان مسؤولًا بشكلٍ مباشر عن استدعاء قوى أجنبية لتثبيت حكمه؛ فتح الأبواب أمام إيران وميليشياتها، وحزب الله بمخططاته التوسعية، وتركيا التي تسعى إلى استعادة أحلامها العثمانية، وروسيا التي جعلت من سوريا قاعدةً لتحقيق طموحاتها الجيوسياسية.
لم يكتفِ النظام بتوريط البلاد في حروبٍ داخلية، بل أطلق يد الفساد والمحسوبيات لتدمير ما تبقَّى من المؤسسات. أُفقرت البلاد، وتشرَّد الملايين، وقُمع الشعب بكل الوسائل الوحشية الممكنة. العائلة الحاكمة كانت رمزًا لتجسيد روح البعث التسلطي؛ حزبٌ استولى على السلطة تحت شعارات الوحدة والحرية، ليقمع كل صوتٍ معارضٍ ويحرم السوريين من أبسط حقوقهم.
لقد شكَّل البعث، تحت قيادة الأسد، نموذجًا صارخًا للطغيان، حيث تم تجريد المجتمع من إمكاناته الطبيعية للتقدُّم. كان من الممكن أن تحقق سوريا الكثير، لولا تسلُّط هذا الحزب وتحويله البلاد إلى سجنٍ كبيرٍ لشعبها.
مع سقوط الأسد، تواجه سوريا سؤالًا وجوديًا: كيف يمكنها أن تُعيد بناء نفسها بعد كل هذا الخراب؟ المصير الذي ينتظره النظام، بعد سنواتٍ من الفساد والدمار، يرتبط بقدرة السوريين على تجاوز إرث البعث والاستبداد. لن تكون هذه المهمة سهلة، في ظل وجود قوى داخلية وخارجية تسعى لاستغلال الوضع لصالحها.
وداعًا للأسد: احتمالات كثيرة
سوريا ما بعد الأسد ستقف على مفترق طرق. الاحتمالات متعددة ومتشابكة، لكنها تحمل في طيّاتها فرصًا لبناء مستقبل جديد. على ألا يكون لتركيا أي حضور في سوريا ما بعد الأسد، لئلا تسير البلاد نحو “الأخونة”، وهو خطر يهدد التنوع والتعايش فيها. أما إذا كان ما يجري وفق مخطط دولي كما يُقال، ويتحفظ العارفون بالأمر عن الكشف عن تفاصيله التي لم تنكشف بعد – إن لم يكن في الأصل تنجيماً قد يصدق – فإنَّ هناك إمكانية لإعادة رسم خريطة سوريا من جديد. وأتصور أن دخول تركيا – على الخط – ليس إلا بسبب شمها رائحة تغيير ما في الشرق الأوسط، كي تعيد مؤامرة 1932 مرة أخرى، على حساب الكرد وكردستانهم، وأرجو ألا توفق في محاولتها هذه!
لكن في ظل الظروف الراهنة، فإنه من الصعب أن يتخلى المقاتلون، الذين يعتمد عليهم النظام الدولي جزئيًا، عن قبضة القيادة إلى أجل غير مسمى، إذا ما كانت التطورات قد تمت بالاعتماد عليهم وحدهم، وهذا ليس إلا لأجل التخلص من هؤلاء. ضرب جميعهم ببعضهم بعضاً، من دون أن تخسر إلا حبر مخططها، وضمان عدم التعرض الجوي لهم ودعمهم الميداني. وعلى أي حال، فإنه لا يمكن تحقيق انتقال مستقر دون إشراف دولي يضمن تسيير الأمور بطريقة تمنع حدوث مجازر جديدة، وتفتح المجال للسوريين للتوافق على مستقبلهم.
من بين كل هذه الاحتمالات، تبرز حقوق الكرد كمسألة جوهرية، كما تنص على ذلك الدساتير الدولية في حق تقرير المصير، أو الانضمام ضمن سوريا فيدرالية ترتعد المعارضة المأجورة من ذكرها، كل هذا وذاك بحسب الإجماع الكردي بما يخدم مصلحة ثاني قومية في سوريا تعيش فوق ترابها. لكن قبل كل شيء، لا بد للكرد أن يتفقوا بعيدًا عن التأثير الميداني لحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي أضر بالقضية الكردية وأساء إلى العلاقة مع المكونات الأخرى، التي أظهرت مواقف أكثر عنصرية على امتداد حوالى عقد ونصف مضى، كامتداد وترجمة لعنصرية البعث، من لدن هذه المعارضة التركية – القطرية، وبدا ذلك على نحو خاص خلال المؤتمرات التي عُقدت من قبل المعارضة المسيرة لا المخيرة. إبعاد هذا التأثير عن مسار الكرد السياسي والاجتماعي يمكن أن يُعيد ترتيب الأولويات لتحقيق شراكة حقيقية مع باقي السوريين في بناء الدولة الجديدة. إذ على حزب العمال الكردستاني (PKK) وكل جهة كردستانية أن تكون عاملًا مساعدًا للكرد دون أي تدخل مباشر، بعد فشل تجربة PKK في مكانها وفي الأجزاء الأخرى. وأيّ علاقة بفكر وسياسات حزب العمال الكردستاني تُعد أمرًا مدمرًا للكرد في سوريا، كما هو الحال في كل جزء كردستاني آخر.
سوريا ما بعد الأسد تقف على مفترق طرق، وإن كانت سوريا أصلاً من دون أسد منذ أول صيحة في شوارع مدن سوريا نادت بإسقاطه، فها هو يعيش حتى الآن بسند كفالة دولي يتم إنهاؤه، كما يبدو. الاحتمالات متعددة ومتشابكة، لكنها تحمل في طيّاتها فرصًا لبناء مستقبل جديد. فمن أولويات المرحلة المقبلة العمل على إنهاء التدخلات الخارجية التي عرقلت تطور البلاد، خاصةً الدور التركي الذي سعى إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية على حساب استقرار سوريا. إبعاد تركيا عن سوريا المستقبل سيمثل إنجازًا كبيرًا في مسار إعادة الإعمار واستعادة السيادة الوطنية، طالما أن إيران وعبر يدها الضاربة – حزب الله – أو عبر تدخلها المباشر باتت تجر أذيال الهزيمة.
الأمل الوحيد يكمن في إرادة الشعب السوري لإعادة بناء بلاده، وإبعادها عن جميع أشكال التسلُّط. سوريا التي كانت تنبض بالحياة لا تزال تمتلك من الإمكانيات ما يُعيدها إلى مكانتها الطبيعية، بشرط التخلص من إرث الظلم الذي خلَّفه النظام.
ايلاف
————————
الشرع و«هتش» على أبواب دمشق/ عبد الرحمن الراشد
07 كانون الأول 2024
ليس من الحَصافة استعجالُ الحكم على الأحداثِ الكبرى في سوريا، وبعيداً عن الاصطفافِ في ظرفٍ غامضٍ متغير جغرافياً وسياسياً إقليمياً ودولياً، ليس لنا إلا أن نتابعَها وفق تبدلاتِها. حتى أكثر المطلعين معرفةً دُهشوا من سرعة الانهيارات في شمالِ غربي سوريا، والبارحة في شرقها في دير الزور، وربما قريباً في الجنوب حيث درعا.
هناك العديد من الأسئلة ليست لها إجابات محسومة بعد.
أولها عن «هيئة تحرير الشام» (هتش) وشخص زعيمها أحمد الشرع، الجولاني سابقاً، المتهمين بالقاعدية؟
بالفعل، جذورها «جبهة النصرة». إنَّما خلال السنوات الماضية طرأت تغيراتٌ على سلوك هذه الجماعة وعلى خطاب قائدها الشرع نفسه، وهذا التغير ليس وليدَ الحرب الحالية، بل منذ نحو 5 سنوات.
هل يمكن أن تكون تقية سياسية؟
ربما، وليس أمامنا سوى التعامل مع ما يفعله، وكما قال لـ«سي إن إن»: «انظروا إلى أفعالي، لا إلى كلامي». ولو افترضنا أنه قاعدي مستتر، كما يرميه خصومه، فإنَّ مستقبل مشروعه السياسي لن يبحر بعيداً. حتى تركيا، الداعم الرئيسي له، ستخشى تسليمَ الحكم لجماعة متطرفة قد تؤثر على أوضاعها الداخلية. لهذا بعيداً عن التفتيش على النوايا، فإنَّ العالم مضطر للتعامل معه وفق أفعاله، وليس بالإصرار على محاكمة تاريخه. وهذا ما جرى مع الإمام الخميني عندما وصل للحكم في إيران، و«طالبان» أفغانستان في عام 1996، و«الإخوان» بعد ترؤسهم مصر، حيث تعاملت معهم حكومات العالم وفق قاعدة القبول بالواقع الجديد حتى يثبت خلاف ذلك.
هل يمكن أن ينهار النظام السوري؟
لا شك أنه ارتكب أخطاء استراتيجية بإصراره على علاقة عسكرية مع إيران ذات أبعاد خارجية، وكذلك عندما رفض التعامل مع جارته الكبرى تركيا، وعندما أغلق الباب بعد انتصاره في 2018 أمام المصالحة مع المعارضة، مع أنها استمرّت تسيطر على نحو نصف البلاد. دمشق تحصد ما زرعته. وقد بنت سياستها الدفاعية على دعم إيران وميليشياتها، بما فيها العراقية و«حزب الله»، الذين هم في وضع صعب، في حين بات المسلحون على بعد ساعة من دمشق فقط.
لكن ما كان يظن أنه حتمي في 2015 بسقوط الأسد، فوجئ العالم بأنه ربح المعركة. بالتأكيد، ظروف اليوم مختلفة، فالحرب الأخيرة بين محور إيران مع إسرائيل شلّت طهران، ولو عبرت قواتها الحدود إلى سوريا فالأرجح أن تتدخل إسرائيل، ناهيك عن الموقف التركي الواضح بأنها ستشارك في المعركة إن دخل العراق. عسكرياً، يتبقى أمل النظام في نجدة روسية جواً وبراً بقواتها «الفاغنر»، لكن الوقت قصير مع اقتراب الفصائل المسلحة من دمشق، وروسيا منشغلة في حرب أكبر في أوكرانيا. سياسياً، ربما تنتظر معجزة بمبادرة مصالحة مع تركيا، اللاعب الرئيسي في المعركة، وحلّ يقدم الجميع فيه تنازلات كبيرة، تبدو بعيدة مع اتساع الخلاف بين العاصمتين، وإعلان الرئيس إردوغان أن المسلحين ذاهبون إلى دمشق.
هل ستتغير المنطقة في حال استيلاء المعارضة على الحكم؟
قطعاً وبشكل كبير. فالتوازنات الإقليمية ستتبدل، كونها تترافق مع نتائج حربي غزة ولبنان. سوريا مهمة للاستراتيجية الإيرانية، وبفقدانها يتغير ميزان القوى الإقليمي. أمام سوريا والسوريين أيام صعبة، راجين لهم أن يخرجوا منها بأمن وسلام.
الشرق الأوسط
———————————–
هل سيتدخلون لإنقاذ بشار الأسد؟/ جيرار ديب
7/12/2024
دعت السفارة الروسية في دمشق رعاياها الجمعة 6 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إلى “مغادرة البلاد”، محذرة من الوضع العسكري والسياسي الصعب في سوريا.
هذا، وكان قد ذكر مصدر أميركي مطلع لوكالة بلومبيرغ الأميركية أن “روسيا ليست لديها خطة لإنقاذ الرئيس السوري بشار الأسد، ولا تتوقع ظهور خطة ما دام الجيش السوري يواصل التخلي عن مواقعه”.
في هذا السياق، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف الخميس 5 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إن “روسيا تراقب الوضع من كثب في سوريا، وتقيّم انطلاقًا من الوضع على الأرض حجم الدعم اللازم لها في مكافحة المسلحين، والقضاء على تهديدهم”.
دلالات كثيرة من الممكن أن يأخذ بها المتابع من الموقف الروسي، الذي من المفترض أن يكون أكثر حزمًا فيما خصّ الدفاع عن النظام السوري الذي فتح المجال للتواجد الروسي في المنطقة، وتحديدًا على شواطئ البحر المتوسط، في ميناء طرطوس. لكنّ الروسي بات يدرك أن القرار اتخذ بمصير الأسد الذي بات أمام حلّ وحيد هو الرحيل.
لم يكن الأسد قارئًا جيّدًا للرسائل التي وجهت إليه، لهذا وقع في أخطاء أقل ما يُقال عنها أنها سترسم نهايةً لحكمه في سوريا. فإن رفضه ضبط الحضور الإيراني وحلفائه في سوريا على رأسهم حزب الله، وإصراره على تصنيف معارضيه بالجماعات الإرهابية، دون ملاقاتهم في منتصف الطريق للتباحث على مستقبل البلد، كان خطأ سيكلّف النظام ثمنًا يدفع به استمراريته في الحكم.
يجد البعض أن الأسد بات مهددًا بالرحيل عن دمشق، إذ لا تحتاج إلا قراءة هادئة للموقف الروسي من خلال حديثه عن عدم وجود خطة لإنقاذ الأسد، إلى التحركات الروسية، لا سيما الحديث عن مغادرة بعض مدمراتها ميناء طرطوس، والطلب من مواطنيها مغادرة سوريا، جميعها مؤشرات تعجّل الرحيل، وتدفع نحو الاستعداد إلى المرحلة السورية فيما بعد الأسد.
لكنّ السؤال الذي يطرح ذاته، هل سيكون للأسد من متّسع من الوقت ليقول وادعًا، وعلى متن أي مدمرة أم طائرة سيغادر البلاد؟
ما إن وضعت الحرب الإسرائيلية على حزب الله في لبنان أوزارها وانتهت بتسوية برعاية أميركية الأربعاء 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حتى أتت المفاجأة من الشمال السوري عندما قامت الفصائل المعارضة بشنّ هجوم واسع على محافظة حلب وغيرها من المحافظات. إذ أعلن الجيش السوري في وقت سابق أنه خسر حماة لحساب فصائل المعارضة التي دخلت المدينة.
“خربطات” الحرب في سوريا أتت على خارطة التوازنات في المنطقة التي رست منذ سنوات على “ستايكو” بين القوى الإقليمية الفاعلة في المنطقة. هذا ما أعطى استقرارًا بمكان ما للنظام السوري بقيادة بشار الأسد، حيث بسط نفوذه على ما يقدر بحوالي 60% من أراضي سوريا، بدعم روسي وإيراني واضح، رغم الخلافات بين القيادة الروسية والإيرانية التي ظهرت إلى العلن على نقاط كثيرة، لا سيما بعدما وضعت موسكو “فيتو” أمام طهران التي عمدت إلى فتح جبهة الجولان إسنادًا لحزب الله في لبنان.
تشظت الأوراق في سوريا وتطايرت من يد الأسد، أمام اللاعب التركي الذي أمل الرئيس رجب طيب أردوغان في أن “يتواصل تقدم مقاتلي المعارضة في سوريا من دون مشاكل”. في دلالة على أن تركيا على ما يبدو غير منزعجة من الأحداث المتسارعة التي تصبّ لصالحها، بعدما ذهب النظام بعيدًا في خياراته، نحو فتح باب التواصل مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تصنفها أنقرة بأنها جماعة إرهابية.
يقدم الطيران الروسي دعمًا جويًا واضحًا للنظام السوري، ومن المستنظر أن تلعب القوى الداعمة لبقاء الأسد – ليس محبة فيه، بل لأنّه يجسد مشروعها في المنطقة وعلى رأسها إيران وفصائلها – دورًا في مساندة الأسد.
إذ أطلق رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق، فالح الفياض، تصريحًا يعتبر فيه أن أمن واستقرار العراق مسؤولية الجميع، وأنه لا يمكن للعراق أن يغض النظر عما يحصل في سوريا.
أمور كثيرة سارعت في إسقاط ورقة الأسد، وفي جعله ورقة تفاوضية بيد موسكو، تبدأ من الموقف التركي المساند للفصائل والداعم لها، حيث إن روسيا تحتاج إلى أنقرة حليفة ثابتة معها في وجه الهجوم الغربي.
كما أن تركيا أبدت نيّة جيدة تجاه روسيا عندما رفضت مشاركة الغرب بفرض عقوبات على موسكو، وهي إلى الآن تقف حجر عثرة أمام تمادي حلف شمال الأطلسي تجاه روسيا. لهذا تجد موسكو أن من مصالحها تمتين العلاقة مع أنقرة حتى لو كلّف الأمر أن يكون الأسد رئيسًا لمحافظة دمشق، أو المساومة على رحيله مقابل ضمان مصالحها في المنطقة.
كان متوقعًا أن يشتعل الميدان في ظلّ تصاعد الحديث عن دخول الآلاف من حزب الله الحرب إسنادًا لبشار، مع أوراق تفاوضية على أكثر من طاولة مستديرة للاعبين الإقليميين، لتحديد مصير هذا الرجل الحاكم.
لكنّ ما لم يكن في الحسبان، هو التحول الذي قام به زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، في إسقاط سرديات لطالما استخدمها النظام ومن معه، بإطلاق صفة الإرهاب على كل من يعارضه.
وفي مقابلة في صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، نشرت الجمعة 6 ديسمبر/ كانون الأول، أكد الجولاني أن هدف المعارضة هو كسر الأسد، وإقامة دولة المؤسسات، حيث قدّم مشروعًا أكبر لبناء سوريا، مؤكدًا أن الهيئة قد تتفكك في أي وقت، لأنها ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لأداء مهمة.
ضباب يسيطر على المشهدية في سوريا، ولاعبون كثر باتوا يتحركون في ساحة صراعها، مع الحديث عن دخول الدبابات الإسرائيلية بلدة القنيطرة السورية، لحماية حدودها في حال سقط النظام، ووصلت الفصائل إلى الحدود معها.
لهذا تبقى كافة الفرضيات مقبولة، حتى فرضية رحيل الأسد، حيث لن يجد يومها من يودعه أو يلوّح له يعِده بالعودة إلى سوريا مجددًا.
جيرار ديب
أستاذ الفكر السياسي في الجامعة اللبنانية
الجزيرة نت
————————————
عن التقاء المصالح بين تركيا والمعارضة في سوريا/ يحيى عالم
7/12/2024
أثارت العملية التي أطلقتها المعارضة السورية في الشمال السوري، عددًا من الأسئلة حول مدى قدرة مكونات المعارضة على تحقيق إنجاز كبير يؤدي إلى انهيار قوات النظام في مدن سوريّة بشكل متتالٍ دون دعم أو إسناد خارجي، وذهب البعض إلى التشكيك في العملية ذاتها بالنظر إلى التوقيت الذي أعلن فيه عن بدايتها.
بينما تشكل هذه المعطيات ذاتها أرضيةً لقراءة مغايرة تنتصر للثورة السورية ومعاناة الشعب السوري، وتعيد توجيه الأنظار تارة أخرى إلى الدور الذي اضطلعت به إيران في دعم النظام، مما يفرض عليها وعلى أدواتها بالمنطقة مراجعة مسار التدخل في سوريا للتخلص من تبعاته الأخلاقية، فدعم الحقوق المدنية للفلسطينيين لا يمنح أي طرف حق اتخاذه ذريعة لإطلاق اليد في مناطق أخرى، وفي مقدمتها سوريا.
ذكاء إستراتيجي
تتجه الأنظار صوب تركيا بشأن العملية التي أطلقت عليها المعارضة السورية “ردع العدوان”، وأدت إلى انهيار قوات النظام السوي والأطراف الداعمة له في عدد من المدن. وقد اتُهِمت تركيا باستغلال انشغال إيران بالتوتر في المنطقة، وروسيا بالحرب الأوكرانية، لدعم عملية المعارضة في الشمال السوري، وهذه قراءة تبسيطية تزيح المسألة السورية بالكامل من ديناميات الصراع في المنطقة منذ عدة سنوات.
لا ينبغي أن نطمس من الذاكرة، خروج الشعب السوري ثائرًا سنة 2011 ضد نظام سلطوي لا مثيل له في المنطقة. لكن هذا الشعب المطالب بحريته، وجد نفسه بين أكفّ النار واللهب، وتم الزج به في صراعات إقليمية ودولية، فشردت ملايين منه على الحدود، نحو تركيا وأوروبا ودول المنطقة، وكانت تركيا أكبر محتضن للسوريين الفارين من لهيب النار، وفي الآن ذاته أكبر متضرر من تبعات التهجير، الذي أدى إلى تداعيات سياسية واجتماعية في الداخل التركي، تمثلت في ارتفاع منسوب العنصرية واحتداد الاستقطابات الداخلية.
إن المعارضة السورية تتقاطع مصالحها حتمًا مع مصالح تركيا في عودة المهجرين إلى مدنهم، ولا يمكن بحال اعتبار كل المعارضة السورية أداة في يد تركيا، ذلك أن الثورات بطبيعتها مسار ممتد في الزمن وديناميات متغيرة ومعقدة حسب السياقات ووضعية العناصر الفاعلة فيها والداعمة لها من جهة، أو وضعية الأطراف التي تسعى إلى وأدها.
لكن في الآن نفسه، فإن الكلفة الباهظة التي دفعتها تركيا دون أن تفي الكثير من الدول بتعهداتها، قد يحتم عليها من منطلق دولتي محض، توظيف السياقات الحالية لصالحها؛ والتي تتجسد في انكشاف هشاشة القوات السورية؛ بسبب انشغال حلفاء النظام السوري في نقاط اشتباك أخرى.
وبالنظر إلى المرحلة السابقة، فإن عدم استجابة النظام السوري للتفاوض من أجل عودة المهجرين وانتقال سلمي للسلطة، قد حفز المعارضة لإطلاق عمليتها العسكرية، كما أنه قد يعطي مشروعية ما للتدخل التركي؛ بسبب تداخل جغرافيتها مع الشمال السوري، ودعمها المادي والسياسي للمهجرين على الحدود وفي الداخل التركي، فالمسألة حسب هذا التوصيف، أضحت جزءًا من أمنها القومي.
لذلك فإن ما جرى ويجري سواء كان بتخطيط مستقل من المعارضة، أو بإيعاز تركي، فإنه يعبر عن ذكاء إستراتيجي، ويخدم المسألة السورية في نهاية المطاف، بل إنه يمكن أن يحمل ولادة جديدة للثورة السورية برمتها، ويستعيد أسئلة التغيير التي طرحها الربيع العربي.
نحن حتمًا لسنا أمام ثنائيات توصيفية مختزلة أو أحكام جاهزة تطلق على الفاعلين السوريين لأغراض التعبئة والحشد المضاد، بل أمام ديناميات متداخلة تستثمر في اللحظة الراهنة وظروفها المتعلقة بالسياقين؛ الإقليمي والدولي ومتغيراتهما، لخلق مساحات جديدة للضغط والتفاوض على أرضية موازين القوى المستجدة على الأرض، من أجل معضلة ملايين السوريين وعودتهم إلى بيوتهم، ونقض أركان نظام فاقد لكل أسس الشرعية.
أما القوى الداعمة للنظام، فإنها بحاجة إلى مراجعة مسار تدخلها في سوريا وربطه بالقضية الفلسطينية، حتى لا تكون وسيلة لتبرير الممارسات اللاأخلاقية التي تورَّطت فيها على امتداد عقد ونيف.
يثار على هامش السيطرة على حلب وإدلب عدد من الردود والاتهامات المعلنة بشأن ما يجري، وبين ثنايا كل تلك التهم يتم إغفال مآسي السوريين الممتدة في الزمن والجغرافيا على الحدود، وفي الذاكرة مع مشاهد الخراب والموت الجماعي بأفتك الأسلحة، ولا تكاد تذكرهم إلا باعتبارهم تهديدًا لمشروع المقاومة، وكأن القبول بما يسمى “مشروع المقاومة”، يقتضي التنازل عن الحرية والعيش الكريم، بل والقبول بالتهجير من الوطن.
هذا الضرب من التبريرات يمثل اغتيالًا معنويًا لحق شعب في التطلع نحو الحرية والكرامة، ويحمل أزمته في ذاته أولًا، ذلك أن هذا الفكر شمولي بطبعه ويصادر التعبيرات والتصورات السياسية والفكرية الأخرى، فهو قائم على المفاصلة مع باقي الآراء، لذا يمكن اعتباره تطرفًا مع اختلاف العمامة واللون السياسي والمذهبي الذي يعبر عنه.
يكفي القول هنا، إن توطين الديمقراطية في سوريا وغيرها من الدول العربية، سيعد حتمًا أكبر انتصار لفلسطين وللتحرر والسلام عمومًا، ذلك أن شعوب المنطقة لها ميل فطري إلى عدالة القضية الفلسطينية، وتعتبرها على رأس أولوياتها وفي مقدمة قضاياها.
لقد شكل الانخراط في وأد الثورة السورية ضربة أخلاقية وسياسية للادعاءات الخطابية والتي يتأسس عليها ما يسمى “مشروع المقاومة”، حيث عدّت النزعة الدموية للنظام السوري وحلفائه؛ تقاطعًا موضوعيًا مع القوى الدولية والإقليمية الأخرى التي كانت معادية للتحرر في المنطقة.
لم يكتفِ حلفاء النظام بإخماد الثورة في حينها بأساليب موغلة في التوحش، بل تفيدنا المعطيات، بأنه تم العمل على إحداث تغيير جذري في النسيج الاجتماعي والديمغرافي للشام، فعملية التهجير التي تعرض لها السوريون كان يوازيها توطين مضاد في المقابل من منطلق الخلفية المذهبية أو الطائفية.
وبكلمة، فإن البعدين؛ القومي والطائفي ظلا يوجهان أولئك الحلفاء في سوريا، والانتصار للنظام من هذا المنطلق يشكل من دون شك إثارة، وإذكاء للبعد الطائفي، بينما كان الأفق التحرري قادرًا على استيعاب الجميع.
هذا العمى الإستراتيجي الذي وقع فيه هؤلاء، ينبغي ألا تقع فيه المكونات الأخرى في سوريا مستقبلًا، إذ لا بديل عن أفق يستوعب النسيج المجتمعي التعددي بطبيعته، ويمنح الناس أعز ما يملكون؛ أي حريتهم.
إن عمل كل الأطراف الخارجية ضد الثورة السورية والشعب السوري في مسيرته المؤلمة والقاسية، كان جريمة مهما كانت المسوغات التي قدمها حلفاء النظام السوري، ومن ثم فإن أي دعم لنظام بشار الأسد في السياق الراهن سيكون جريمة أكبر، ينبغي تجنبها ومراجعتها. فلا يمكن رفض الهيمنة من جانب ومناهضة حرية شعب من جهة أخرى، كما لا يمكن أن يجتمع لفرد أو مكون حب الأقصى وفلسطين، والدفاع عن مستبد سفاح.
تلك التناقضات تفرز بالضرورة أزمة أخلاقية عميقة، وقد قدمت القضية الفلسطينية في هذا الصدد، فرصة نادرة لذلك الفريق لممارسة نقد ذاتي جريء، يعالج المعضلة الأخلاقية؛ إذ لا يمكن أن تجمع بين شرف الدفاع عن الأقصى ومناهضة العدوان من جهة، وممارسة العدوان في الآن ذاته ضد شعب مطالب بالحرية من جهة أخرى، والذي يرقى في واقع الأمر إلى درجة الإرهاب.
فمعارك التحرر الكبرى تنتصر ببعدها الأخلاقي أولًا وبما تحوزه من مشروعية الدفاع عن الحق، وإن كانت أدواتها ووسائلها بسيطة، وكذلك كان الأمر في كل التجارب التحررية.
ختامًا: إن استحضار هذه الجوانب في سياق المبادرة التي أطلقتها المعارضة السورية – رغم التحفظ على بعض مكوناتها- والتي تزامنت مع اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، يدفعنا إلى الاعتقاد بأهمية ممارسة إيران وحزب الله مراجعة نقدية عميقة لأدبياتهما الفكرية والسياسية، ومراجعة تموقعهما السياسي في سوريا؛ لتخفيف التوتر والصراع وتحقيق الاستقرار المجتمعي في كنف الحرية والديمقراطية.
باحث سياسي مغربي في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة
الجزيرة نت
—————————-
واشنطن تراقب بحذر تقدم المعارضة السورية/ طارق الشامي
محللون: إذا أطيح الأسد ستكابد إيران للتأثير في المنطقة وهو ما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل بقوة
السبت 7 ديسمبر 2024 15:57
بينما راقبت الولايات المتحدة وأجهزة استخباراتها ما يجري على الأرض في سوريا، تشعر واشنطن بقدر كبير من الارتياح لفشل روسيا وإيران الذريع في سوريا، فقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن استثمار موسكو لمدة ثمانية أعوام في إعادة بناء الجيش الحكومي لم يكن له تأثير يذكر في قدرته على القتال بفاعلية تحت الضغط.
غيّر الهجوم المفاجئ الذي شنته فصائل المعارضة المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام بصورة كبيرة مشهد الحرب في سوريا، لكن الولايات المتحدة التي تراقب تطورات الأوضاع من كثب ظلت تترقب تداعي نظام الرئيس بشار الأسد في هدوء من دون أن تبدي أي قدر من الارتياح أو القلق، على رغم أنها أحد أكبر المستفيدين مما يجري في سوريا، فما الذي تتوقعه واشنطن وما تنتظره من نتائج؟ وما طبيعة المكاسب أو الخسائر التي سوف تسفر عنها التحولات الجيوسياسية في سوريا والمنطقة؟
تغيير قواعد اللعبة
في غضون أيام اجتاحت الفصائل السورية المسلحة مدناً رئيسة مثل حلب وحماة ووصلت حتى مشارف حمص واستولت على مساحات شاسعة من الأراضي عبر أربع محافظات وتقدمت نحو العاصمة السورية دمشق، وبعد ساعات من مطالبة روسيا رعاياها بمغادرة سوريا، واستياء “الكرملين” من عدم رغبة الجيش السوري في القتال، وتردد أنباء عن سحب قطع الأسطول الروسي من ميناء اللاذقية، بدأت إيران أيضاً إجلاء قادتها العسكريين وموظفيها من سوريا، مما يشير إلى عجز إيران عن المساعدة في إبقاء بشار الأسد في السلطة.
ومع انهيار خطوط الجبهة للنظام السوري واحداً تلو الآخر، وبعد ما يقارب خمسة أعوام من الجمود في خريطة سيطرة الأطراف المختلفة على الأراضي في جميع أنحاء البلاد، غيرت التطورات الدراماتيكية قواعد اللعبة، إذ لم يكن أمام أي من داعمي سوريا ما يمكن فعله للحفاظ على تماسك قوات النظام بينما كانت تتجه نحو الفوضى، ولم يكن الهجوم نفسه مفاجئاً بحسب عدد من مراكز البحوث الأميركية نظراً إلى أن خطط هيئة تحرير الشام بالهجوم كانت معروفة منذ منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عندما تدخلت تركيا في محاولة لوقفها، وأغارت روسيا أياماً بهجمات جوية مكثفة في محاولة لردعها واستنزافها.
ارتياح أميركي
بينما راقبت الولايات المتحدة وأجهزة استخباراتها ما يجري على الأرض في سوريا، تشعر واشنطن بقدر كبير من الارتياح لفشل روسيا وإيران الذريع في سوريا، فقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن استثمار موسكو لمدة ثمانية أعوام في إعادة بناء الجيش الحكومي لم يكن له تأثير يذكر في قدرته على القتال بفاعلية تحت الضغط.
وعلى رغم أن جهود روسيا عززت بعض القدرات الفعالة داخل وحدات عسكرية مختارة مثل فرقة المهمات الخاصة الـ25، فإن القوات المسلحة السورية ككل اتضح أنها غير موحدة وضعيفة التنسيق بعدما أصيب الجهاز العسكري للنظام بالركود في الأعوام الأخيرة، وانهار من الداخل وتفكك من الخارج، وبدا أن شبكة من الميليشيات الموالية تقدم قدرة عسكرية أعظم من الجيش نفسه.
وفي حين أن القدرة النوعية الوحيدة التي أضافتها روسيا إلى الجيش العربي السوري في الأعوام الأخيرة هي استخدام طائرات “درون” انتحارية، فإن وحدة طائرات الـ”درون” من “كتائب شاهين” التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” تفوقت عليها بصورة كبيرة من جهة الحجم والتأثير، بعدما أطلقت مئات الأجهزة على مواقع النظام الأمامية والدبابات وقطع المدفعية وكبار القادة خلال الأسبوع الماضي، وتمكنت من إخراج أسلحة ثقيلة للنظام من ساحة المعركة، واستخدمت أيضاً صواريخ “كروز” محلية الصنع تعادل قوتها التفجيرية شاحنة مفخخة انتحارية، مما جعل التفوق واضحاً لهيئة تحرير الشام وحلفائها الآخرين على الجيش السوري.
وإذا كان مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان صرح بأن الإدارة الأميركية لديها مخاوف حقيقية حول أهداف هيئة تحرير الشام في إشارة مبطنة إلى أنها مصنفة منظمة إرهابية، فإن مبعث الارتياح الأميركي يعود إلى أن الفصائل المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام استغلت حقيقة أن إسرائيل ألحقت أضراراً كبيرة بمحور المقاومة الإيراني، وتسببت في إضعاف “حزب الله” بصورة كبيرة، ومع انشغال روسيا بمعركتها في أوكرانيا أصبح من الصعب الدفاع عن نظام الرئيس الأسد، مما قد يمنع إيران من توفير خطوط الإمداد لـ”حزب الله” اللبناني عبر الأراضي السورية في المستقبل، إذا نجحت القوات المهاجمة في بسط سيطرتها على حمص ثم دمشق وتمكنها من إسقاط النظام، مما يضعف النفوذ الإيراني بصورة كبيرة ويجعل تأثيره معدوماً.
افتقار إلى الفاعلية
غير أن المواقف الأميركية الأولية التي صدرت عقب الهجوم على حلب تشير إلى عدم فاعلية الولايات المتحدة وافتقارها إلى إستراتيجية واضحة في سوريا منذ إدارة الرئيس باراك أوباما وحتى الآن، إذ أوضح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي شون سافيت في بيان له رداً على التصعيد العسكري في سوريا، أنه ليست للولايات المتحدة أية علاقة بهذا الهجوم الذي تقوده منظمة إرهابية، في إشارة إلى “هيئة تحرير الشام”، وأن عملية سياسية جادة وموثوقة يمكنها إنهاء هذه الحرب الأهلية مرة واحدة وإلى الأبد بتسوية سياسية تتفق مع قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254.
لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ إدارة أوباما فشلت في التعامل مع تعقيدات القضية السورية سورياً، وباستثناء الجهود السياسية الناجحة لتفكيك الترسانة الكيماوية للنظام السوري وتوفير المساعدات الإنسانية ظلت سياسات إدارة أوباما غير فعالة إلى حد كبير، ولم تسفر برامج التدريب العسكري المتعددة والجهود الدبلوماسية الشاملة للتوسط في وقف إطلاق النار عن أي تقدم ملموس، وهو ما يعتبره بعض المراقبين فشلاً سياسياً يعود إلى اعتبار سوريا مجرد دولة غير ذات أهمية إستراتيجية.
وفي دورة حكم الرئيس دونالد ترمب الأولى واصلت الولايات المتحدة نهج إدارة أوباما تجاه سوريا، حين أعطت إدارة ترمب الأولوية لمحاربة تنظيم “داعش” وتنفيذ ضربات بطائرات مسيرة متقدمة ضد عناصر “القاعدة” المشتبه فيهم، وكان التغيير الأساس عن سياسة أوباما هو شن غارات جوية عقابية ضد نظام الأسد في أعقاب هجماته بالأسلحة الكيماوية، لكن كل من إدارتي ترمب وبايدن لم تقدم التزاماً مستداماً بتسهيل الانتقال السياسي في سوريا.
عكس المسار
الآن وبعد 13 عاماً من الصراع الدموي في سوريا تواجه الإدارة الأميركية القادمة تحديات كبيرة تفرض تحقيق انتقال سياسي في سوريا، ليس فقط من أجل الحفاظ على المعايير الدولية، بل وأيضاً لتعزيز المصالح الإستراتيجية الأميركية في المنطقة والاستقرار الدولي على نطاق واسع، ومن أبرز هذه التحديات أن التسوية الأميركية المحتملة مع إيران يجب أن تنطلق من سوريا إذا لم يسقط نظام الرئيس الأسد، لأن سوريا تشكل أهمية إستراتيجية أكبر بالنسبة إلى النظام الإيراني، إذ توفر لإيران إمكانية الوصول إلى البحر المتوسط، وتعمل كقناة حاسمة لتزويد “حزب الله” بالسلاح.
ومكنت هذه العلاقة طهران من تعزيز نفوذها في لبنان، وأدى إطالة أمد الصراع إلى تعزيز الوجود العسكري الإيراني في سوريا، مما سمح لها بإنشاء قواعد للقوات الإيرانية ووكلائها داخل الأراضي السورية، وفي غياب النظام السوري سوف يواجه محور المقاومة الإيراني تحديات لوجستية وجيوسياسية كبيرة.
استعادة الدور النشط
في أية مفاوضات محتملة مع إيران يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دوراً نشطاً في تفعيل القرار 2254، الذي أشار إليه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أثناء تأكيده أن مسار “مفاوضات أستانا” الذي يشمل روسيا وإيران وتركيا لم يسفر عن حل للصراع، ومن شأن تفعيل القرار 2254 أن يحول الديناميكية السياسية في سوريا إلى موقف أقل ملاءمة لإيران، ومن ثم تقليص نفوذ طهران في المفاوضات.
ومن الواضح أن دعم التحول السياسي في سوريا أمر بالغ الأهمية للحفاظ على هزيمة تنظيم “داعش” وضمان الانسحاب الآمن للقوات الأميركية، ومن دون ذلك سوف يغذي عدم الاستقرار الدائم وضعف الحكم عودة “داعش” والمتطرفين المتشددين الذين استغلوا قبل سنوات المشهد السياسي المجزأ في سوريا وفراغات السلطة وبخاصة في المناطق المهمشة.
وفي غياب ترتيب سياسي شرعي ومستقر، تظل هذه المناطق عُرضة لعمليات التمرد وتجنيد المتطرفين، كذلك فإن الانتقال السياسي المنظم من شأنه أن يسهل جهود إعادة الإعمار الدولية المنسقة، والحد من الصعوبات الاقتصادية والسخط الاجتماعي، وهي كلها عوامل رئيسة يستغلها تنظيم “داعش” لكسب الدعم.
التحول السياسي السريع
في غياب مثل هذه الخريطة فإن انسحاب القوات الأميركية من شمال شرقي سوريا أو من قاعدة “التنف” الحدودية مع الأردن يخاطر بتكرار التجربة في أفغانستان، إذ أدى الخروج المتسرع إلى انتصار سريع لـ”طالبان”، وكان الرئيس المنتخب ترمب منتقداً صريحاً لهذا الخروج، لهذا فإن تمكين المؤسسات الحكومية ودعم التحول السياسي هو ما يمكن أن يسمح للولايات المتحدة بالخروج من سوريا بطريقة مسؤولة، والتخفيف من خطر عودة ظهور “داعش”.
وسيؤدي ضمان التحول السياسي السريع والمستدام في سوريا إلى تعزيز الجهود الأميركية لمكافحة نقل المخدرات، إذ أصبحت سوريا مركزاً رئيساً لإنتاجها وبخاصة الـ”كبتاغون” الذي يمول نظام الرئيس بشار الأسد وحلفائه، بما في ذلك “حزب الله”، إذ تولد تجارة الـ”كبتاغون” عائدات تتجاوز بكثير الصادرات السورية المشروعة، ويغذي تجارة المخدرات هذه عدم الاستقرار الإقليمي، وتمتد إلى ما هو أبعد من الشرق الأوسط من خلال شبكات “حزب الله” الراسخة في أميركا اللاتينية، وهي تشكل خطراً مع إمكانية دخول المخدرات إلى السوق الأميركية، مما يتماشى تماماً مع أجندة الرئيس المنتخب ترمب، الذي جعل الحد من تهريب المخدرات وعداً رئيساً في حملته الانتخابية.
ترويض الشيطان
وبينما يكمن الشيطان في التفاصيل فإن مهمة الولايات المتحدة هي كيفية ترويضه والتغلب على الفكرة المضللة التي تقدم الصراع على أنه يفرض التعامل مع بشار الأسد أو “هيئة تحرير الشام”، الذي يعد أمراً تبسيطياً بصورة خطرة، إذ لا ينبغي أن يكون لمسألة من يحكم الأسبقية على كيفية اختياره، ذلك أن العملية التي يصل بها القادة إلى السلطة هي التي تميز الأنظمة الديمقراطية، ولهذا لا ينبغي صرف الانتباه عن القضية الأوسع والأكثر أهمية وهي إنشاء عملية سياسية شرعية.
وفي المستقبل يمكن للإدارة الأميركية القادمة أن تتبنى نهجاً عملياً تدرجاً بالتعاون مع أصحاب المصلحة الدوليين والإقليميين بحيث تسترشد بجداول زمنية واضحة، وأن تركز على مجالات موضوعية محددة مثل الدفع نحو التوصل إلى إجماع في شأن إطلاق سراح المعتقلين السياسيين كشرط سابق لأي انتقال سياسي في سوريا.
ويمكن لواشنطن أن تضغط على المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا للتخلي عن فكرة صياغة دستور جديد، وهو أمر غير قابل للتطبيق حالياً نظراً إلى الديناميكيات السياسية الجامدة، وفشل الجهات السياسية الحالية في التوصل إلى تسوية، مما يجعل صياغة الدستور غير عملية.
في المقابل تقدم الدستورية التدرجية، كما يقول الباحث المتخصص في القانون بجامعة “هارفارد” ضياء الرويشدي نهجاً أكثر مرونة وواقعية مع التركيز على العملية بدلاً من النتائج، إذ يتطلب وضع الدستور تصميم أطر إجرائية تعزز الاستقرار السياسي والدستوري، لذا ينبغي للجنة الدستورية السورية أن تفوض مسؤولية التصميم الإجرائي إلى جهات فاعلة تكنوقراطية غير سياسية، مع قيام الأعضاء الحاليين بدور استشاري فقط.
إضافة إلى ذلك تشكل المساءلة قضية ذات أهمية قصوى ومن دونها سوف تترك جذور الحرب من دون معالجة، ومن ثم تعرض لخطر إعادة ظهور الصراع، ولهذا ينبغي أن تعتمد المشاركة في عملية الانتقال السياسي على رغبة الأطراف السورية وقدرتها على الانخراط بعملية مساءلة حقيقية يقودها الشعب.
بقاء أم رحيل؟
يوجد للولايات المتحدة حالياً 900 فرد عسكري أميركي في سوريا موزعون على قواعد عدة في شمال شرقي سوريا، وفي حامية “التنف” على الحدود الجنوبية مع الأردن، وهم هناك لمساعدة قوات “سوريا الديمقراطية” في احتواء تنظيم “داعش”. وعلى رغم أن استيلاء الفصائل المعارضة المسلحة على حلب وحماة وغيرها من القرى والمدن الصغيرة لا يغير هذه المهمة، فإن السؤال الذي يظل مطروحاً هو ما إذا كانت هذه القوات ستبقى بعد تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب في الـ20 من يناير (كانون الثاني) 2025.
خلال ولايته الأولى تعهد ترمب مرتين سحب هذه القوات، لكن بدلاً من ذلك اختار تحت ضغط من مستشاريه إعادة نشر بعضها، وتماشياً مع رؤيته العالمية “أميركا أولاً” فقد يختار ترمب هذه المرة سحب هذه القوات بغض النظر عن الوضع في سوريا التي لا تشكل حالياً تهديداً للأميركيين أو للوطن الأميركي.
مع ذلك فإن التقدم السريع الذي بدأ بالاستيلاء المفاجئ على حلب، يحدث على بعد أكثر من 200 ميل (328 كيلومتراً) من موقع حقل غاز “كونوكو” في شرق الفرات، وهو من بين أربع قواعد أميركية متناثرة عبر شمال شرقي سوريا التي تسيطر عليها قوات “سوريا الديمقراطية” ومكونها الرئيس وحدات “حماية الشعب” الكردية التي تعتبرها تركيا جزءاً من حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا والولايات المتحدة.
وفي حين يركز العسكريون الأميركيون في المقام الأول على منع عودة “داعش” وخلق مساحة دبلوماسية للتفاوض مع أنقرة في شأن قوات “سوريا الديمقراطية” (قسد) وتأمين حدود تركيا، فإن ما يهم واشنطن دائماً أن الوجود الأميركي يشغل أيضاً مساحة كان الإيرانيون والروس ليملأوها لولا وجودهم في شرق سوريا، وكما يقول متخصص الشؤون العسكرية والأمنية في إيران والعراق ودول الخليج بمعهد “واشنطن”، مايكل نايتس “إذا غادرت الولايات المتحدة فإن السيطرة على المنطقة ستمنح إيران جسراً برياً تشتد الحاجة إليه لدعم (حزب الله) في لبنان، ولدى الإسرائيليين أيضاً مصلحة قوية في منع حدوث ذلك”.
لكن إذا تمكنت الفصائل السنية المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام” من التمسك بمكاسبها أو إطاحة حكم الرئيس الأسد، فسوف تكابد إيران للتأثير في الأحداث بالمنطقة بصورة ملحوظة، وقد لا تتمكن من استخدام الأراضي السورية كقناة للوصول إلى مقاتلي “حزب الله” في لبنان، وهذا هو ما تريده بقوة كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، حسبما يشير نايتس.
اندبندنت عربي
—————————–
تاريخ حماة السياسي في القرن العشرين… من آل العظم إلى “تحرير الشام“
أكثر ما عرفت حديثا بشلالات الدم في شوارعها عام 1982
07 ديسمبر 2024
عرف العالم الحديث مدينة حماة السورية ليس لأي إنجاز علمي أو ثقافي، ولا لأي مؤتمر دولي، وإنما بسبب شلالات الدم التي سالت في شوارعها سنة 1982، يوم وقوع المواجهات الدامية بين الرئيس السوري حافظ الأسد و”الإخوان المسلمين”.
وبعد تدمير جزء كبير من أحياء المدينة، غابت حماة عن التداول الجمعي العالمي، لتعود مع مظاهراتها الضخمة المطالبة بإسقاط النظام سنة 2011 واليوم بعد سقوطها بيد “هيئة تحرير الشام” وإخراج حكم حزب “البعث” منها والمستمر منذ سنة 1963. تطوي حماة صفحة أخرى من صفحات تاريخها الطويل العائد إلى ما قبل الميلاد، ويتوقع كثيرون أن يزورها زعيم “الهيئة” أبو محمد الجولاني، كما زار حلب قبل أيام، وفي الأوساط المؤيدة له يشبهون دخوله حماة “فاتحاً” بدخول أبو عبيدة بن الجراح إليها في عصر الفتح الإسلامي.
حماة وآل العظم
تعاقب على حماة حكام كثر وصولاً إلى العثمانيين الذين احتلوا سوريا سنة 1516 واعتمدوا على عائلة العظم الحموية لحكمها في القرن الثامن عشر. أشهرهم وأقواهم كان أسعد باشا العظم، والي دمشق في السنوات 1743-1757.
أنشئ قصر العظم في مدينة حماة القديمة سنة 1742، وقصر العظم بدمشق سنة 1749، قبل إنشاء خان أسعد باشا سنة 1753. وأصبحت الأسرة العظمية هي الأقوى والأكثر نفوذاً في سوريا من يومها وحتى مجيء حزب “البعث” سنة 1963، يوم صودرت أملاكهم وتم إقصاؤهم عن المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي. ومن أشهر أبنائها كان محمد فوزي باشا العظم، الناظر (الوزير) في الدولة العثمانية ورئيس المؤتمر السوري الأول (البرلمان السوري) سنة 1919. ثم جاء حقي العظم رئيساً للحكومة السورية سنة 1932، تلاه خالد العظم، رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ سوريا الذي شكل خمس حكومات وكان أحد أقطاب السياسة السورية في خمسينات القرن العشرين. وهو آخر رجل من الأسرة يحكم في سوريا قبل بداية الحكم البعثي سنة 1963 وقد عرف بثقله الاقتصادي، أي إن مجرد تسميته رئيساً للوزراء كانت كافية لجلب الاستثمارات، واستقرار سعر الصرف، وارتفاع أسهم الشركات الصناعية في سوق البورصة السورية.
انتفضت حماة ضد الانتداب الفرنسي وحمل أبناؤها السلاح في الثورة السورية الكبرى سنة 1925، وقد ظهر اثنان من أعيانها في قيادة الحركة الوطنية السورية، وهما الدكتور توفيق الشيشكلي والآغا نجيب البرازي. وفي نهاية مرحلة الانتداب، لمع نجم الضابط الحموي الشاب أديب الشيشكلي، الذي انشق عن الفرنسيين وقاد عصياناً مسلحاً في حماة سنة 1945. وانتسب إلى “الحزب السوري القومي الاجتماعي” المنادي بسوريا الكبرى وكان أحد مؤسسي الجيش العربي السوري في 1 أغسطس/آب 1945، ثم بعد سنتين تطوع في جيش الإنقاذ وخاض معارك في فلسطين، قبل أن يدخل أرض المعركة مع الجيش العربي السوري سنة 1948. وشارك في انقلاب سوريا الأول في 29 مارس/آذار 1949 وفي انقلابها الثاني ضد سامي الحناوي في 14 أغسطس من العام نفسه، قبل أن يقود انقلابه الأول– وهو الثالث لعام 1949– في 19 ديسمبر/كانون الأول 1949.
كان الشيشكلي ثاني رئيس عسكري في سوريا بعد حسني الزعيم، وأول وآخر حموي يصل إلى سدة الرئاسة في دمشق. جاء انقلابه الأول اعتراضاً على مشروع وحدة مع العراق كان زعماء “حزب الشعب” الحلبيون يريدون إقامتها مع بغداد. نصب الشيشكلي نفسه رئيساً لأركان الجيش وفي يوليو/تموز 1953، انتخب رئيساً للجمهورية. عرف عهده القصير بالانفتاح الاقتصادي والعلاقات الجيدة مع العرب، ويعتقد أن انقلابه الناجح وانقلاب حسني الزعيم من قبله كان لهما دور في إلهام الضباط الأحرار في مصر على القيام بانقلابهم سنة 1952. ولكن عهد الشيشكلي لم يستمر طويلاً وسقط عسكرياً وشعبياً في فبراير/شباط 1954. استقال الشيشكلي من منصبه “حقناً للدماء” واغتيل على يد مواطن درزي في البرازيل يوم 27 سبتمبر/أيلول 1964، بعد عشر سنوات من خروجه من الحكم. وقد جاء اغتياله انتقاماً لقصف الشيشكلي لجبل الدروز أثناء فترة حكمه، وقوله الشهير: “احذروا الجبلين” في إشارة إلى جبل الدروز في جنوب سوريا وجبل العلويين في المنطقة الساحلية.
أكرم الحوراني و”البعث”
كان الشيشكلي ابن عائلة إقطاعية معروفة وثرية، تقاسمت أراضي حماة الزراعية الخصبة مع آل البرازي والعظم والبارودي وغيرهم. كان أبناء تلك الأسر التقليدية يملكون قرى بأكملها، بما فيها ومن فيها، وفي مرحلة الأربعينات ظهر أكرم الحوراني لمنازعتهم على ملكهم وملك أجدادهم، هو ابن عائلة ثرية أضاعت ثروتها وجعلته ناقماً على الأغنياء والمالكين القدامى. بعد دراسته الحقوق وانتسابه إلى القوميين السوريين انتخب نائباً عن حماة عام 1943 على قائمة ترأسها أحد الإقطاعيين الكبار. ثم انقلب على هؤلاء الإقطاعيين ودعا إلى مصادرة أرزاقهم ومعاقبتهم تطبيقاً للفكر الاشتراكي الذي كان يؤمن به. أسس “الحزب الاشتراكي العربي” سنة 1951 وكان مسانداً لانقلاب الشيشكلي الأول والثاني، ولكنه أقصي عن العمل السياسي في عهده وهرب إلى لبنان، حيث تحالف مع قادة حزب “البعث” ودمج حزبه بحزبهم ليصبح اسمه “حزب البعث العربي الاشتراكي”.
كان لأكرم الحوراني اليد العليا في إيصال الفكر البعثي إلى الريف السوري، بعد أن كان حزباً لأبناء الطبقة المدنية الوسطى في دمشق منذ تأسيسه سنة 1947. عقد سنة 1950 أول مؤتمر جماهيري للعمال والفلاحين في حلب، رافعاً شعار: “الأرض لمن يعمل بها”. وانتخب رئيساً لمجلس النواب بعد سقوط الشيشكلي وكان من أشد المتحمسين للرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي عينه نائباً له في الجمهورية العربية المتحدة سنة 1958.
كان الحوراني صاحب مشروع الإصلاح الزراعي الذي أطلقه عبدالناصر وصادر بموجبه أراضي كل الملاك القدامى في حماة وغيرها من المدن الكبرى، تشفياً وانتقاماً من الإقطاعيين القدامى وفي مقدمتهم آل البرازي والعظم والبارودي الحمويين. وعلى الرغم من انتمائه الحزبي، فإن البعثيين كانوا أول من غدر به بعد وصولهم إلى السلطة في 8 مارس 1963. اعتقل الحوراني ثم أفرج عنه ونفي خارج سوريا حيث توفي سنة 1996.
حماة و”البعث”
شهدت مدينة حماة أول انتفاضة شعبية ضد حزب “البعث” والتمدد العلوي في الجيش السوري في أبريل/نيسان 1964. وظهر في حماة يومها مروان حديد مؤسس الطليعة المقاتلة لـ”الإخوان المسلمين”. نصبت حواجزها في حماة وصارت توقف المارين وتسألهم عن هويتهم ومذهبهم، وعند العثور على علوي أو مسيحي يتم اعتقاله أو تصفيته. قُتل ضابط من الحرس القومي وسحل في شوارع حماة، واعتصم 70 شخصاً من الجماعة في جامع السلطان، مطالبين بإسقاط حكم “البعث”. أمر رئيس الدولة أمين الحافظ بقصف الجامع وقتل 40 شخصاً من المعتصمين في داخله.
هدأت حماة قرابة 12 سنة، مع معاقبتها على تمردها بحجب المشاريع العمرانية والتنموية عنها، وفي سنة 1976 اغتيل أحد رجالات الاستخبارات السورية فيها وقتل الطبيب الحموي عبد الستار عدي، واعتقل في المقابل مروان حديد ومات في السجون في يونيو/حزيران 1976. استمرت اغتيالات “الإخوان المسلمين” وفي سنة 1979 كانت حادثة مدرسة المدفعية الشهيرة في حلب شمالي سوريا، التي قتل على أثرها قرابة 80 طالباً معظمهم من العلويين. وفي 26 يونيو 1980 حاولوا اغتيال حافظ الأسد في دمشق، ورد الأسد في حماة بعد أن دعا “الإخوان” من مساجدها إلى “جهاد مقدس” ضده سنة 1982. قتل عدد كبير من “الإخوان”، ومن أهالي حماة والوافدين إليها، وقد تراوح عدد القتلى ما بين 10-35 ألف شخص، ودمرت أحياء بأكملها.
غيّر النظام بعدها من تركيبة حماة الديموغرافية، وأدخل إليها أعداداً كبيرة من المسيحيين والعلويين، لكي لا تبقى مدينة سنية بالكامل. كما أزال الكثير من الممرات الضيقة القديمة واستبدل بها شوارع أعرض للسماح للدبابات والمدرعات بالدخول للقضاء على أي تمرد قد يحصل في المستقبل.
المجلة
———————————
سوريا والنقابات العمالية في “مناطق النظام”… أداة للقمع والسيطرة/ جوزيف ضاهر
سيكون بناء منظمات نقابية مستقلة في المستقبل ضرورياً لتحسين ظروف معيشة السوريين
07 ديسمبر 2024
تؤدّي النقابات العمالية في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري دوراً في الهيمنة على الطبقة العاملة في البلاد وقمعها، ما يمنع العاملين من أي تنظيم ذاتي بغرض الدفاع عن مصالحهم. تشكل النقابات جزءا من شبكات السلطة التابعة للنظام التي يستخدمها لفرض سلطته على السكان. بعد الانتخابات التي جرت أخيراً لمختلف اللجان والقيادات النقابية على مستوى المحافظات، فلنلقِ نظرة على واقع النقابات العمالية في سوريا.
تعود أصول النقابات العمالية التي تعمل كأداة لسلطات النظام إلى ما بعد انقلاب البعثيين عام 1963. نفّذ حزب البعث، ولا سيما في عهد صلاح جديد الممتد بين عامي 1966 و1970، سياسات مثل الإصلاح الزراعي والتأميم وتعزيز القطاع العام، قلّلت في شكل كبير التفاوت الطبقي. كذلك أنشأ نظاماً للضمان الاجتماعي، وخدمات حكومية مجانية، وإسكاناً مدعوماً، وتعليماً مجانياً، ورعاية صحية عامة. استفادت قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة وصغار الفلاحين من هذه الإجراءات وشهدت تحسناً في ظروفها المعيشية. ومع ذلك، قُمِعت بعنف أي استقلالية للحركة العمالية وأي شكل من أشكال المعارضة اليسارية والتقدمية البديلة.
وبدأ النظام الجديد بمهاجمة أي توجه نضالي داخل النقابات العمالية، وأي معارضة للنظام البعثي في ستينات القرن العشرين. لم تُمنَح الطبقة العاملة تمثيلاً سياسياً مستقلاً في ظل النظام البعثي ومُنِعت من المشاركة في عملية اتخاذ القرارات السياسية. ولتحييد النقابات العمالية المشاكسة، بنى النظام قطاعه العام على غرار النموذج المصري، إذ شكّل هيئات تسيطر عليها الدولة، تُسمَّى “مؤسسات عامة” للإشراف على الإنتاج في قطاعات محددة. ولتمتين السيطرة على العاملين، أُجبِرت النقابات العمالية كلها بالقانون على الانتظام داخل الاتحاد العام لنقابات العمال عام 1968.
أنهى انقلاب حافظ الأسد عام 1970، و”الحركة التصحيحية” التي تلته، السياسات الاجتماعية والاقتصادية الراديكالية السابقة، وبدأ عملية تدريجية من التحرير الاقتصادي البطيء لكن التدريجي. ومن بين العديد من الدوافع، جرى ذلك أيضاً بهدف كسب النظام دعم قطاعات في الطبقة البرجوازية الدمشقية. هذا التطور في مسار النظام الاقتصادي السياسي، رتّب أيضاً تداعيات على النقابات العمالية، التي شهدت القضاء على معارضي النظام جميعاً داخلها في السنوات التالية.
النظام برئاسة الحاكم الجديد حافظ الأسد حدد رسمياً في مؤتمر الاتحاد العام لنقابات العمال عام 1972 الغرض من النقابات العمالية بأنه “سياسي”. بعبارة أخرى، بات أي دور سياسي مستقل للنقابات مقيداً إلى حد كبير، وباتت أي مطالب مادية، ثانوية إزاء الالتزام الأعلى بزيادة الإنتاج المحلي والمساعدة في “النضال من أجل التحرير وبناء الأمة”.
واعتُبِرت الحركات كلها التي تعبّر عن “مطالب” أو “مظالم”، ولا سيما في ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية، حركات تؤدي إلى نتائج عكسية في ظل ما يُسمَّى بالنظام “الاشتراكي” الحاكم في سوريا، وشكلاً من أشكال “تخريب” المسار الاشتراكي. علاوة على ذلك، بحلول أبريل/نيسان 1980، كان النظام السوري قد فكّك النقابات المهنية كلها (بما في ذلك تلك التي تمثّل المهندسين والمحامين والأطباء)، وأنشأ نقابات مهنية جديدة تسيطر عليها الدولة، وعيّن قادتها.
نقابات الفلاحين مع وراثة الأسد الإبن
بعد تولي بشار نجل حافظ الأسد السلطة عام 2000، ترسّخت الطبيعة الوراثية للدولة في يد عائلة الأسد وأقاربها في شكل كبير، من خلال عملية تسريع تنفيذ سياسات نيوليبيرالية، وإحلال أقارب لبشار الأسد أو أفراد مقربين منه محل الحرس القديم. وفي الوقت نفسه، تم تقويض النظام القديم الخاص بالتنظيمات السلطوية، بما في ذلك النقابات العمالية (إلى جانب الاتحاد العام لنقابات العمال) ونقابات الفلاحين التي منحت سابقاً النظام علاقات وبعض الحضور داخل المناطق الريفية والطرفية. على النقيض من ذلك، تم تعزيز الأجهزة الأمنية في هذه المناطق. واعتبر بشار الأسد هذه الهياكل والتنظيمات عقبات في طريق الإصلاح الاقتصادي النيوليبيرالي.
عشية الانتفاضة الشعبية عام 2011، تحول الاتحاد العام لنقابات العمال والنقابات المهنية جماعياً إلى أدوات سلطوية في يد النظام السوري. فقد سيطر حزب البعث عليها وتحكّم بها إلى حد كبير. كان الرؤساء والغالبية العظمى من القادة الآخرين للاتحاد العام لنقابات العمال والنقابات المهنية – ولا يزالون – خاضعين دائماً إلى اختيار منهجي من قبل كبار الأعضاء في حزب البعث. وجّه الاتحاد العام لنقابات العمال سلوكه وسياساته في العقود القليلة الماضية بهدف تعبئة أعضائه لمواصلة الجهود الإنتاجية، والترويج لسياسات النظام في صفوف الطبقة العاملة، حتى عندما تتعارض تلك السياسات مع مصالح هذه الطبقة، والعمل كدرعٍ واقية للنظام نفسه عند الحاجة. مثلاً، لم يعارض الاتحاد العام لنقابات العمال إصلاحات قانون العمل الصادر عام 2010 في القطاع الخاص والقطاع العام-الخاص والقطاع التعاوني، وهي إصلاحات جعلت فصل أصحاب العمل للعاملين أسهل وأرخص تكلفة.
النقابات العمالية بعد عام 2011 لخدمة مصالح النظام
عند اندلاع الانتفاضة الشعبية في منتصف مارس/آذار 2011، لم يكن لدى الاتحاد العام لنقابات العمال أو التنظيمات السلطوية الأخرى القدرة على حشد أعضائها نتيجة للتهميش السياسي الذي عانت منه في العقد السابق. بعد عام 2011، أعاد النظام السوري تقييم أدوار التنظيمات السلطوية “الشعبية”، مثل الاتحاد العام لنقابات العمال، وتلك التابعة لحزب البعث. ساعد الاتحاد العام لنقابات العمال، إلى جانب اتحاد الشباب الثوري، وهو المنظمة الشبابية لحزب البعث، والتنظيمات السلطوية “الشعبية”، مثل الاتحاد العام للفلاحين، في قمع الحركة الاحتجاجية والسيطرة في شكل عام على المجتمع. وبالمثل، طلبت أجهزة أمن النظام من النقابات المهنية استبعاد الأعضاء الذين شاركوا في الاحتجاجات جميعاً.
كشف عضو المكتب التنفيذي لاتحاد عمال #دمشق عمر البوشي، عن استقالة 4520 موظفاً من المؤسسات الحكومية خلال عام 2023، إضافة إلى انتهاء خدمات 3460 موظفاً، مشيراً إلى أن هذا العدد يشمل فقط المنتسبين إلى الاتحاد العام لنقابات العمال في #سوريا.#الشرق_سوريا pic.twitter.com/IBH2vQ8UJE
— الشرق للأخبار – سوريا (@AsharqNewsSYR) November 24, 2024
قبل عام 2011، ضمّ الاتحاد العام لنقابات العمال ما يُقدَّر بنحو 1.2 مليون عضو، وهو ما يقرب من مجموع العاملين في القطاع العام. عام 2018، أعلن رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال أن عدد الأعضاء قد تقلص إلى نحو 950 ألف عضو، في حين قدرت صحيفة “قاسيون” التابعة لحزب الإرادة الشعبية المرضي عنه من النظام والذي أنشأه النائب والوزير السابق قدري جميل – عدد الأعضاء بنحو 600 ألف عضو.
لا احتجاجات عمالية لذوبان القوة الشرائية لليرة السورية
لم يعرب الاتحاد العام لنقابات العمال عن أي معارضة عملية أو رسمية للديناميكيات الاقتصادية والسياسية الحكومية. بل على العكس تماماً: داخل الاتحاد العام لنقابات العمال، لا يُسمَح بأي نوع من المعارضة. ويُعاقَب على أي شكل من أشكال النقد أو التحدي للنظام ولحزب البعث. وفي هذا السياق، تُعَدّ أشكال المعارضة داخل الاتحاد شبه معدومة.
ولم يشارك الاتحاد العام لنقابات العمال في أي حملة لتحسين الظروف المعيشية لأعضائه، أو لعموم السكان، بما في ذلك ما يتعلق بزيادة الرواتب إلى مستوى يواكب معدلات التضخم، ومعالجة فقدان القوة الشرائية، ومعارضة إجراءات التقشف وخصخصة أصول الدولة، وما إلى ذلك. ولم يفِ رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال جمال القادري، منذ عام 2015 والعضو في حزب البعث، بالالتزامات التي تعهد بها في بداية ولايته، بما في ذلك رفع الرواتب بالقيمة الحقيقية، أو الحفاظ على القطاع العام الحكومي، أو النضال ضد إجراءات التقشف.
الرواتب الشهرية لموظفي الدولة… “مهزلة”
لا يستطيع معظم السكان العاملين في الدولة وفي القطاع الخاص تغطية معظم احتياجاتهم الشهرية برواتبهم. يبلغ جدول الرواتب الحالي لموظفي الخدمة المدنية ما بين 280 ألفاً و890 ليرة سورية و336 ألفاً و348 ليرة سورية (ما يعادل 22.2 دولارا و26.6 دولارا على التوالي بسعر الصرف الرسمي البالغ 12 ألفاً و625 ليرة سورية للدولار). ليست رواتب كهذه كافية إلى حد كبير لإعالة عائلة. في أكتوبر/تشرين الأول 2024، ووفق تقديرات صحيفة “قاسيون”، بلغ متوسط تكلفة المعيشة لعائلة سورية مكونة من خمسة أفراد في دمشق 13.6 مليون ليرة سورية (سجل الحد الأدنى للتكلفة 8.5 مليون ليرة سورية) (أي ما يعادل ألف و77 دولاراً و673 دولاراً على التوالي).
يدفع هذا الوضع معظم موظفي الخدمة المدنية والجنود وغيرهم من الموظفين في المؤسسات السورية إلى البحث عن وظائف إضافية ويجعلهم أقل مناعة أمام الأنشطة الاقتصادية غير القانونية، بما في ذلك الفساد، في كل مرحلة من مراحل الإدارة الحكومية والقطاع العام. بالإضافة إلى ذلك، تنتشر موجات كبيرة من الاستقالات في القطاع العام نتيجة لانخفاض الأجور.
“نقابات العمال” مع الخصخصة!
في القطاع الخاص، تختلف الرواتب في شكل كبير بحسب القطاع الاقتصادي. وفق دراسة أُجرِيت خلال صيف 2024، تتراوح رواتب العاملين في القطاعات الصناعية والتجارية والصيدلانية والخدمية بين 900 ألف ليرة سورية (71 دولاراً) للموظفين الأساسيين و10 ملايين ليرة سورية (792 دولاراً) للمديرين الماليين الكبار.
وبالمثل، دأب الاتحاد العام لنقابات العمال بقيادة القادري على الترويج للخطاب النيوليبيرالي التقليدي، لجهة الحاجة إلى تعزيز كفاءة الشركات المملوكة للدولة والمؤسسات العامة، من خلال تعزيز المرونة وتحسين آليات العمل، وإعادة النظر في التشريعات التي تعمل بموجبها. وذكر القادري أن أهم إجراء يجب اتخاذه في أي إصلاحات مقبلة هو القضاء على “الروتين البيروقراطي” في قطاع التصنيع المملوك للدولة، لتمكين الإصلاح المالي للشركات والتعامل مع كل وحدة إنتاجية كإدارة مستقلة ذات حرية في اتخاذ القرارات، مع المطالبة في الوقت نفسه بالمساءلة عن نتائجها. وأضاف أيضاً أن برامج الشراكة بين القطاعين العام والخاص تشكّل حلاً إيجابياً للشركات الخاسرة. ولهذا السبب لم يعارض الاتحاد العام لنقابات العمال سياسات الخصخصة المستمرة التي تنتهجها الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك خصخصة الشركات الحكومية التي تراكم أرباحاً على غرار تحرير تجارة التبغ الذي أُعلِن في مايو/أيار 2024 أو خصخصة الخطوط الجوية السورية في يوليو/تموز 2024.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أعلن وزير الصناعة محمد سامر الخليل تكبد عدد كبير من الشركات والمؤسسات والمصانع التابعة للوزارة خسائر كبيرة جداً، تثقل كاهل خزينة الدولة. ومن أجل إيجاد حل لهذه المشكلة، دافع عن بيع هذه الشركات إلى القطاع الخاص.
أكد الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة #دمشق، شفيق عربش، أن الحكومة عاجزة عن تأمين رواتب وأجور تكفي العاملين السوريين لتحقيق حياة كريمة، معتبراً أن الأمر الذي أصبح مخالفاً للدستور.#الشرق_سوريا pic.twitter.com/L7PIGqFxlL
— الشرق للأخبار – سوريا (@AsharqNewsSYR) November 2, 2024
ويشجع رئيس الوزراء الجديد محمد غازي الجلالي سياسة الخصخصة المستمرة لأصول الدولة، وأوضح أن انتقال الدولة من التوظيف إلى التنظيم لا يعني تراجعاً في دور الدولة، بل يعني تطوير دورها ونقله إلى صيغة أكثر واقعية وإنتاجية.
تُعتبَر قوانين العمل التي تنظم التوظيف العام في الدولة (قانون العمل الرقم 50 الصادر عام 2004) أكثر ملاءمة من قوانين العمل التي تنظم القطاع الخاص لجهة الرواتب والحوافز، بما في ذلك بدلات الوجبات، والنقل المجاني، والتأمين الصحي والاجتماعي، والمعاشات التقاعدية، ومعدات الحماية الشخصية.
إلى جانب هذه الديناميكيات، دعم الاتحاد العام لنقابات العمال استخدام النظام التوظيف في الخدمات العامة كأداة لتعزيز الطاعة وفرضها ومكافأة الأفراد والمجتمعات المحلية التي تُعتبَر موالية. يعكس العديد من المراسيم والقوانين التي أصدرتها الدولة في السنوات القليلة الماضية هذا التوجه. في ديسمبر/كانون الأول 2014، مثلاً، أصدرت الحكومة قراراً يقضي بتخصيص 50 في المئة من فرص العمل الجديدة في القطاع العام لعائلات “شهداء” الجيش العربي السوري. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2018، حرم إجراء اتخذه مجلس الوزراء الذين لم يؤدوا الخدمة العسكرية أو الاحتياطية جميعاً من الحق في التقدم إلى التوظيف العام.
تسبب القمع التاريخي الذي نفذه النظام السوري في العقود الماضية بحق مساعي النقابيين المشاكسين والجهات الفاعلة السياسية اليسارية المشاكسة إلى تعزيز مصالح الطبقة العاملة، إلى جانب سياسات السيطرة على الاتحاد العام لنقابات العمال والنقابات المهنية وتحويلها إلى أداة في يده، بإعاقة شديدة لأي تعبئة عمالية محتملة وعمل جماعي محتمل في أعقاب اندلاع الانتفاضة في مارس/آذار 2011. يؤدي الاتحاد العام لنقابات العمال دوراً كأداة للسيطرة والقمع في يد النظام، ويدافع عن سياساته على حساب مصالح قطاعات كبيرة من الطبقات العاملة.
سيكون بناء منظمات عمالية مستقلة وجماهيرية في المستقبل في سوريا ضرورياً لتحسين ظروف معيشة السكان وعملهم، وللنضال في شكل عام من أجل الحقوق الديمقراطية.
المجلة
————————–
“الشبكة السورية”: تسع توصيات قانونية وحقوقية إلى جميع فصائل المعارضة
2024.12.07
أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان توصيات قانونية وحقوقية للفصائل العسكرية في سوريا، تزامنا مع اتساع رقعة الأعمال العسكرية في البلاد.
وقالت الشبكة “منذ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، شهدت العديد المناطق في سوريا تطورات ميدانية متسارعة، فقد تمكنت فصائل المعارضة المسلحة، بالشراكة مع هيئة تحرير الشام، من السيطرة على مساحات واسعة في إطار عملية عسكرية حملت اسم “ردع العدوان”. وفي 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أعلن الجيش الوطني إطلاق عملية عسكرية جديدة تحت اسم “فجر الحرية”، استهدفت السيطرة على مناطق في ريف حلب الشرقي التي كانت تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وقوات النظام السوري”.
وتابعت “أعلنت “غرفة إدارة العمليات العسكرية” عن سيطرتها على مدينة حلب ومدينة حماة وأجزاء واسعة من ريف محافظتي إدلب وحماة، وريف حمص الشمالي بينما استحوذ الجيش الوطني على مناطق كبيرة في ريف حلب الشرقي. كما أعلنت غرفة عمليات الجنوب (تجمع فصائل المعارضة المسلحة في محافظة درعا) سيطرتها على مدينة درعا وأجزاء واسعة من ريفها، كما أعلنت فصائل مسلحة ومجموعات أهلية سيطرتها على أجزاء واسعة من محافظة السويداء”.
هذه التطورات وضعت مسؤولية إدارة مناطق تضم أعداداً كبيرة من السكان، بمن فيهم موالون للنظام السوري، على عاتق هذه الجهات المسيطرة.
اقرأ أيضاً
التغطية الحية
434
الزحف إلى دمشق.. الفصائل العسكرية تتقدم نحو العاصمة وسط انهيار قوات النظام
على مدى أكثر من 13 عاماً، أصدرت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان مئات التقارير التي أكدت فيها على أهمية احترام القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العرفي، مع التركيز على التمييز بين المدنيين والمقاتلين وضمان حماية المدنيين. يهدف هذا البيان إلى تقديم توصيات رئيسة لضمان الالتزام بهذه المبادئ في ظل التطورات الراهنة.
1. حماية الممتلكات المدنية من النهب والسرقة:
التوصيات:
1. إجراءات للحدِّ من النهب:
إصدار أوامر واضحة وصريحة تحظر النهب والسرقة في المناطق الواقعة تحت السيطرة.
فرض عقوبات تأديبية فورية على المخالفين.
2. ضمان حماية الممتلكات:
إنشاء محيطات آمنة حول المناطق المدنية، الأسواق، والمنازل لمنع الوصول غير المصرح به.
إعداد سجلات دقيقة توثق الممتلكات المهجورة في أثناء النزاع لضمان حمايتها.
3. المساءلة عن حوادث النهب:
تنفيذ تحقيقات شاملة في قضايا النهب والسرقة، مع محاسبة المسؤولين قضائياً، سواء عبر القضاء العسكري أو المدني.
التعاون مع منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية لتوثيق الانتهاكات وضمان تحقيق العدالة.
4. التوعية العامة:
تنظيم برامج توعوية تستهدف المقاتلين والمدنيين، لرفع مستوى الوعي بأهمية القوانين التي تحظر النهب والعواقب المترتبة على انتهاكها.
5. حماية البنية التحتية الحيوية:
تأمين أنظمة المياه والكهرباء وشبكات الاتصالات لضمان استمراريتها ومنع استغلالها أو تخريبها.
2. تحقيق التوازن بين العدالة وحقوق المعتقلين: ضرورة ضبط الإفراج من مراكز الاحتجاز:
إنَّ الإفراج العشوائي عن معتقلين من دون مراجعة دقيقة لملفاتهم قد ينجم عنه إطلاق سراح أفراد متورطين في ارتكاب جرائم، مما يُلحق ضرراً إضافياً بالضحايا وأسرهم. كما قد تُفسر مثل هذه القرارات على أنَّها دليل على غياب الجدية في تحقيق العدالة، ما يؤدي إلى زعزعة ثقة المجتمع بالقضاء وتعزيز شعور عام بعدم الأمان.
حقوق المعتقلين السياسيين:
على صعيد آخر، من الضروري ضمان الإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين احتجزهم النظام السوري بشكل تعسفي وتعرضوا للتعذيب الوحشي. الإفراج غير المنظم قد يُستغل من قبل بعض الأطراف لتبرير إطلاق سراح مرتكبي الجرائم، مما يضر بملف المعتقلين السياسيين ويضعف مصداقية المطالبات الحقوقية.
لضمان العدالة وتجنب هذه المشكلات، ينبغي اتباع آليات واضحة ومدروسة في عمليات الإفراج، منها:
1. مراجعة الملفات: دراسة ملفات المعتقلين بدقة، لضمان التمييز بين المعتقلين السياسيين والمجرمين المتورطين في أعمال تهدد الأمن المجتمعي.
2. إشراف حقوقي مستقل: تكليف منظمات حقوقية مستقلة بالإشراف على عمليات الإفراج لضمان تحقيق العدالة.
3. التواصل مع الضحايا: إشراك الضحايا أو ممثليهم في اتخاذ القرارات المتعلقة بالإفراج عن مرتكبي الجرائم الكبرى، لضمان احترام حقوقهم.
3. معاملة المعتقلين:
التوصيات:
1. المعاملة الإنسانية:
ضمان معاملة المعتقلين بكرامة، مع الحظر الصارم للتعذيب والمعاملة القاسية أو المهينة.
توفير الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والماء والرعاية الصحية الكافية، مع السماح لهم بالتواصل مع عائلاتهم.
2. فصل المعتقلين حسب الفئات:
فصل المدنيين عن العسكريين، وكذلك فصل المشتبه بارتكابهم جرائم عن أسرى الحرب، لضمان معاملة تتناسب مع الوضع القانوني لكل فئة.
3. الحقوق القانونية:
إبلاغ المعتقلين بأسباب احتجازهم ومنحهم الفرصة للطعن في قرارات الاحتجاز أمام محاكم نزيهة.
تمكين السجناء من الحصول على تمثيل قانوني، والسماح بزيارات المنظمات الإنسانية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
4. إدارة السجون:
الاحتفاظ بسجلات دقيقة تشمل بيانات جميع المعتقلين وأسباب احتجازهم.
إنشاء آليات رقابة مستقلة لضمان متابعة مرافق الاحتجاز ومنع الانتهاكات.
5. التدريب والمساءلة:
تدريب العاملين في السجون على معايير المعاملة الإنسانية وحقوق الإنسان.
محاسبة المسؤولين عن أي انتهاكات وفقاً للقوانين المحلية والدولية.
4. إنشاء الأمن والشرطة:
الالتزامات القانونية:
• تقع على عاتق الجهات المسيطرة مسؤولية استعادة النظام العام وحماية السلامة العامة.
• يتوجب على قوات الأمن احترام حقوق الإنسان، وفقاً للمادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
التوصيات:
1. تشكيل قوات شرطة محلية:
إنشاء وحدات شرطة مدنية مؤقتة، مكونة من أفراد محليين مدربين ومراعين للثقافة المحلية والديناميكيات الاجتماعية.
تجنب الاعتماد على ميليشيات حزبية أو فئوية، للحيلولة دون تأجيج التوترات داخل المجتمعات.
2. التدريب والمساءلة:
تقديم برامج تدريبية مكثفة لأفراد الشرطة حول مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
إنشاء آليات لمراقبة أداء الشرطة ومساءلة المخالفين عن أي انتهاكات.
3. التنسيق مع الهيئات المحلية:
إشراك القادة المحليين وممثلي المجتمعات في اختيار أفراد الشرطة وتعيينهم والإشراف على عملهم.
ضمان تنوع القوات الأمنية ديموغرافياً لبناء الثقة وتعزيز التعاون مع السكان المحليين.
4. البنية التحتية لإنفاذ القانون:
تطوير مراكز شرطة مجهزة بمرافق حديثة، وتحسين أنظمة الاتصال والدعم اللوجستي لضمان كفاءة العمل الأمني.
5. الحقوق والحريات في المناطق الخاضعة للسيطرة:
المبادئ الأساسية:
• الالتزام باحترام الحقوق والحريات من دون أي شكل من أشكال التمييز.
• ضمان حرية التنقل والتجمع والتعبير بما يتماشى مع أحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
• تجنب الاعتقالات التعسفية أو أي ممارسات تضييق، مثل المضايقات والترهيب بحقِّ المدنيين.
6. الوصول الإنساني والنزوح:
التوصيات:
1. تسهيل عودة النازحين:
ضمان العودة الطوعية والآمنة للنازحين وفقاً للمبادئ التوجيهية المتعلقة بالنزوح الداخلي.
إزالة الألغام ومخلفات الحرب لتوفير بيئة آمنة وخالية من المخاطر للنازحين العائدين.
2. التوعية بالمخاطر:
تنفيذ برامج توعية مجتمعية تركز على مخاطر الذخائر غير المنفجرة، مع استهداف الفئات الأكثر عرضة للخطر، مثل الأطفال.
7. المساءلة عن السلوك:
التوصيات:
1. محاسبة المخالفين:
فرض حظر صارم على الأعمال الانتقامية ضد المدنيين.
التحقيق في جميع الانتهاكات بجدية وإجراء محاكمات عادلة لضمان العدالة.
2. تسهيل المراقبة:
السماح للمنظمات الحقوقية المحلية والدولية بمراقبة الأوضاع وتوثيق الانتهاكات.
الحفاظ على سجلات شفافة ودقيقة تتعلق بالأعمال العسكرية والاعتقالات.
8. توفير الخدمات الأساسية:
التوصيات:
1 إصلاح البنية التحتية:
إعطاء الأولوية لإعادة تأهيل أنظمة المياه والكهرباء وشبكات النقل لضمان استمرارية الخدمات.
2. تقديم الخدمات الصحية:
إعادة تشغيل المستشفيات والعيادات وضمان توفير الرعاية الصحية الأساسية لجميع السكان.
3. ضمان التعليم:
إعادة فتح المدارس مع توفير بيئة آمنة للأطفال لضمان استمرار العملية التعليمية.
9. حماية التراث الثقافي:
الالتزامات القانونية:
• الالتزام بحماية المواقع الأثرية والتاريخية من التخريب أو السرقة أو التدمير المتعمَّد.
• ضمان الحفاظ على الأصول الثقافية وصيانتها كجزء من التراث الإنساني.
تلفزيون سوريا
———————————-
استعصاء الحل السياسي في سوريا: الشعب خارج الحسابات/ ماجد كيالي
07 ديسمبر 2024
لم يعد الصراع السياسي في سوريا بيد السوريين، على جبهتي النظام أو معارضيه منذ سنوات عديدة، إذ باتت أطراف خارجية، دولية وإقليمية، تتحكم في هذا الأمر، كل بحسب حجمه وقدراته وموقعه، بعد التحول من الصراع في سوريا إلى الصراع عليها، ما يفيد بحصول تداخل بين المسألتين، كما بينهما، والصراع على تشكيل المشرق العربي، تبعا للتداعيات الناجمة عن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل، ولا زالت، في غزة ثم في لبنان.
وفي نقاش الوضع السوري، نحن إزاء مسألتين متمايزتين لكنهما متداخلتان، يصعب الفصل بينهما. الأولى، تخصّ الصراع السوري في بعده الداخلي. والثانية، تخصّ الخريطة السياسية والأمنية المتشكلة في المنطقة، وأوزان وتموضع الفاعلين الدوليين والإقليميين فيها.
في المسألة الأولى، يفترض توضيح طبيعة النظام السوري، التي يتغاضى عنها البعض، فهو يحكم البلد منذ ستة عقود، والرئيس الحالي له في الحكم 25 عاما، علما بأنه أتى إلى ذلك المنصب بعد والده، ويفيد ذلك بأن هذا النظام يهيمن على البلد والدولة والمجتمع منذ أمد طويل، لذا فمن البديهي أنه المسؤول عن تردي أحواله السياسية والاقتصادية والأمنية، وافتقاد السوريين إلى حقوق المواطنة، وإلى حركة سياسية حية، ومجتمع مدني فاعل، وهي الأوضاع التي أدت إلى الانفجار الحاصل منذ مطلع عام 2011، كثورة، أو كانتفاضة شعبية سلمية.
المشكلة هنا أن النظام لم يلتقط خطورة ما يجري في حينه، وأحاله إلى مؤامرة خارجية، في إنكار لمصادر ومشروعية التمرد الداخلي، وخروج الناس إلى الشوارع، لذا لم يبادر إلى اقتراح أي حل سياسي، بل انتهج الحل العسكري، وقد تفاقم الوضع أكثر مع إدخاله إيران (وميليشياتها وفي مقدمتها “حزب الله” اللبناني)، ثم روسيا، في معركته.
من الجهة الأخرى، وبسبب حرمان السوريين من السياسة، وافتقادهم لقوى سياسية مجربة وقوية، سرعان ما تم تحويل أو أخذ ثورتهم أو انتفاضتهم أو حراكهم الشعبي السلمي إلى العمل المسلح، بحكم الدعم والتشجيع الخارجيين، لمآرب تخدم أطرافا دولية وإقليمية، أكثر مما تخدم مصالح السوريين، مما أضر بالشعب السوري، وبإجماعاته الوطنية، وبسلامة مساره نحو التغيير السياسي المنشود. علما أنه ليس ثمة أي تناسب بين دعم إيران وروسيا اللامحدود للنظام سياسيا واقتصاديا وعسكريا، والدعم المحدود، والمحسوب، الذي تلقته فصائل المعارضة العسكرية من الأطراف الخارجية، التي يمكن تمييز تركيا وقطر من بينها.
في المحصلة، أجهضت ثورة أو انتفاضة السوريين، من خارجها ومن داخلها، مع التنكر لمطالبها المشروعة والعادلة بالتغيير السياسي والمواطنة والديمقراطية، وفوق ذلك تم تشريد نصف السوريين، داخل سوريا (في الشمال)، وخارجها. كما نجم عن ذلك تقسيم سوريا، إلى عدة مناطق نفوذ، فالنظام الذي تناقصت سيادته في أراضيه، بات مع شركائه (ميليشيات إيران والقوات الروسية) يسيطر على المدن الرئيسة في الساحل وفي الداخل، وثمة فصائل المعارضة بكل ألوانها وتبعياتها في الشمال، وشمال غربي سوريا (محافظة إدلب)، وقوات “قسد”، الكردية، المدعومة من الولايات المتحدة في شرق الفرات. هكذا بات السوريون في نكبة، نتيجة الخسائر البشرية المهولة، والتشرد والنزوح وخراب العمران، وفقدان موارد الرزق، وتدهور أحوالهم الاجتماعية والمعيشية وتفرق شملهم داخل سوريا وخارجها.
بيد أن هذا الأمر قد تفاقم على الجهتين، فالنظام لم يبال بانتقاص شرعيته وضعفه، ولا بتدهور أحوال السوريين في المناطق التي يسيطر عليها، ولا بملايين اللاجئين الذين شردوا، وضمنهم أكثر من مليوني نازح في الشمال، وهم يشكلون بمفردهم بيئة قابلة للانفجار في أي وقت، على خلفية أحوالهم التي تبعث على القهر والغضب والتمرد، سيان تم تحريكهم وفقا لخلفيات يسارية أو وطنية أو علمانية أو دينية. في حين تهمشت وتهشمت المعارضة، ولم تستطع بناء كيان سياسي جامع، ولا صوغ رؤية وطنية جامعة، ومستقلة عن الارتهانات الخارجية، كما لم يستطع السوريون في الخارج التعبير عن ذاتهم وتنظيم أوضاعهم، كما افتقدوا لقوى وكيانات سياسية تشكل منبرا أو إطارا لهم.
القصد أن ثمة عطالة سورية يتحمل مسؤوليتها الطرفان، وبخاصة النظام، فهو لم يتقدم بأي مبادرة للإصلاح السياسي تستجيب لمطالب المعارضة، حتى إنه لم يطرح أي مبادرة للسوريين اللاجئين والنازحين، تمكنهم من العودة الآمنة إلى بيوتهم، وممتلكاتهم في سوريا، بل إنه لم يفرج عن ألوف المعتقلين عنده منذ سنوات، ومن دون أية محاكمات.
تلك هي المقدمات الداخلية، التي تكمن وراء الموجة الثانية، أي الحالية، من الصراع السوري، التي تفسر لنا مسألة تداخل العاملين الذاتي/الداخلي، والموضوعي/الخارجي. فمن وجهة نظر الفصائل العسكرية التي جمّدت أو جُمِّدت فعاليتها، وظلت لسنوات تحتفظ بمواقعها في شمال وشمال غربي سوريا، بدا أن ثمة ظروفا تسمح لها بالتحرك للضغط على النظام أو لتحسين مكانتها، ضمنها انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، ومغادرة القوة الأساسية لـ”حزب الله” سوريا إلى لبنان، ووجود قرار دولي وإقليمي وعربي، بتحجيم أو تقليص، نفوذ إيران وميليشياتها في المنطقة، بعد انتهاء الاستثمار الأميركي (والإسرائيلي) بسياساتها في تخريب بلدان المشرق العربي، من العراق إلى سوريا ولبنان، بفعل صدمة “طوفان الأقصى”.
بيد أن العامل الحاسم تمثل في توفر إرادة تركية للتحرك العسكري، ربما بضوء أخضر أميركي، للضغط على النظام الذي لم يتجاوب في السنوات الماضية مع دعوات تركيا للتطبيع، وحل مشكلة اللاجئين السوريين فيها، ومشكلة قوات “قسد”، علما أن النظام لم يتعاط بشكل جدي ومسؤول مع “مفاوضات جنيف”، أو مخرجات مفاوضات “آستانه” أو مؤتمر “سوتشي”، ولا “مباحثات اللجنة الدستورية”. وهو أصلا لم يتجاوب سابقا، مع بيان جنيف 2012، ولا قرارات مجلس الأمن الدولي خاصة 2118 (2013) و2254 (2015)، فقد أجهض المساعي التي بذلت في دمشق في البداية (2011) لإيجاد حل سياسي، في مؤتمر “فندق سميراميس” ومؤتمر “مجمع صحاري” (الذي ترأسه حينها نائب الرئيس فاروق الشرع).
هكذا حصل ما حصل مؤخرا، من اشتعال الصراع العسكري المكلف والمروع والمدمر، لأسباب داخلية وخارجية، وأسهم في ذلك، وهن وعطالة كل من النظام والمعارضة، وهشاشة الجيش، وتعب مجتمع السوريين، في الداخل والخارج، وهيمنة الفاعلين الخارجيين على الصراع السوري (إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة).
مفهوم أن الأمور تجري كما تجري عليه في الواقع، وفقا لإرادة الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، مع ذلك ينبغي قول ما يجب قوله، وهو أن الصراع السوري الذي يتحمل مسؤوليته الأساسية النظام القائم، يحتاج إلى حلول سياسية، تتأسس على وحدة سوريا في دولة مؤسسات، وقانون يحتكم لسيادة مواطنين أحرار ومتساوين في نظام ديمقراطي. أما الحل العسكري، وضمنه وجود قوى عسكرية أجنبية، فهذا طريق لا يؤدي إلا إلى استمرار نكبة السوريين، وتكريس تفكك البلد والدولة والمجتمع، الأمر الذي لا يخدم إلا قوى الاستبداد والتسلط والفساد، والقوى الخارجية بمختلف الجبهات، وهو حل مدمر لسوريا ولكل السوريين.
المجلة
———————————–
طهران: تصدير “الاستقرار” بقوات نظامية إلى سوريا/ سمير صالحة
2024.12.07
النقص الذي تسبب به “حزب الله” على الجبهة السورية لم يعوضه حضور الفيالق والكتائب والعصائب والسرايا، رغم كثافة حشود الفاطميين والزينبيين والنجباء ووعودهم الصادقة. هناك حاجة ملحة لفرق “الحشد الشعبي”، لكن بغداد لا تزال تمتنع عن إشعال الضوء الأخضر الذي تنتظره طهران.
احتمال أن يكون الهدف الحقيقي لإيران هو دفع القوات العراقية النظامية نحو التورط في المستنقع السوري، ضمن استراتيجية الدفاع عن مصالحها الإقليمية وتعميق تعقيدات المشهد السوري، ليس مستبعداً هذه المرة، لكنها قد تُجرِّب خياراً آخر قبل ذلك.
بدأت الأمور تتضح أكثر فأكثر. العملية العسكرية الواسعة التي انطلقت من إدلب تهدف، في جانبها غير المعلن أيضاً، إلى طرق أبواب النظام في أقرب معاقله، لدفعه نحو قبول حل سياسي شامل استناداً إلى القرارات الأممية والتفاهمات الإقليمية الجديدة حول ضرورة إنهاء الأزمة السورية. غير أن العائق الأكبر يتمثل في الحجر الإيراني الضخم الذي يعترض الطريق على محور حمص – دمشق، مما يعرقل أي تقدم في هذا الاتجاه. يبقى السؤال: من أين ستأتي المفاجأة التي ستجبر طهران على الإقرار بحقيقة أن النظام ينهار، ولم يعد بإمكانه الاستمرار مستنداً إلى جرعات الدعم الإيراني التي كانت تمده بإكسير الحياة؟
المسألة في غاية البساطة بعد الآن. بنفس الطريقة التي تم من خلالها تبرير سحب القوات السورية النظامية من حلب وحماه، وإعادة الانتشار، يقنع النظام في دمشق حليفه الإيراني كما فعل في حلب وحماه، أنه “حقناً لدماء آلاف المدنيين” في الأماكن المتبقية تحت سيطرتهما في سوريا، ينبغي التوقف عن القتال في معركة لا يمكنه مواصلتها.
يتخلى جنود النظام السوري عن أربع قواعد جوية ومطار حلب المدني، وتفر عناصره تحت ذريعة إعادة التموقع باتجاه حمص، حيث تتمركز الميليشيات الإيرانية بانتظار المواجهة الحاسمة. لا أحد يعرف عدد مجموعات حزب الله المتبقية، لكن المؤكد هو أنها تبحث عن معركة إعادة اعتبار بعد الضربات التي تلقتها في لبنان، وطالما أن وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، يردد أن بلاده ستدرس إرسال قوات إلى سوريا إذا طلبت دمشق ذلك.
تدعو طهران بشار الأسد لمطالبتها بالتدخل العسكري المباشر بعد فشل زيارة الوزير الإيراني الأخيرة إلى أنقرة، والتي لخصها كبير مستشاري المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي بقوله: “لم نتوقع أن تقع تركيا، التي لديها تاريخ طويل في الإسلام، في الفخ الذي أعدّته لها أميركا والصهاينة”. لكن إيران تقول إنها ليست هي من سيستجيب بل الميليشيات العراقية، بطلب سوري يسبقه اجتماع ثلاثي عراقي-سوري-إيراني. لماذا تجتمع منصة الآستانة إذاً؟ تسعى طهران للعب آخر الأوراق التي تملكها لأخذ ما تريد من أنقرة وموسكو ربما.
هناك، طبعاً، أكثر من طرف إقليمي يحلم مع هذه المجموعات بأن تعيد إيران الفصائل السورية المتقدمة إلى خط البداية. فهل يبرز سيناريو تفاهمات المصالح التي تقرب بين طهران وبغداد وبعض العواصم لتسهيل انتقال قوات برية عراقية يقودها “الحشد الشعبي” باسم هذا الاصطفاف الجديد في مواجهة الفصائل السورية؟
ممكن أيضاً عندما ترى إيران أن تدخلها العسكري المباشر سيكلفها الكثير إقليمياً ودولياً، وتجد أن لا بديل لها سوى تفعيل هذا السيناريو الذي يبقي الأسد فوق كرسيه.
خاطب الجولاني القيادة العراقية مباشرة أن لا تسقط في المصيدة. فهل تصغي لما قاله زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر: “نراقب الوضع بدقة في الجارة العزيزة سوريا، ولا نملك لشعبها الحر الأبي بكل طوائفه إلا الدعاء عسى الله أن يدفع عنهم البلاء والإرهاب والتشدد والظلم والظلام والطائفية والتدخلات الخارجية”. على الحكومة، كما يقول، منع ميليشيات الحشد أو غيرها من التدخل العسكري في سوريا، “ومعاقبة كل من يخرق الأمن السلمي والعقائدي”. الصدر يتحرك باكراً، كما يبدو، كي يقوي موقف الحكومة العراقية في مواجهة الضغوطات الإيرانية التي تتواصل من كل صوب.
أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان عن مفاجأة سياسية جديدة، تضاف إلى سلسلة المفاجآت العسكرية التي شهدناها في الأسبوع الماضي. شدد الرئيس التركي عقب اتصال هاتفي أجراه مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على ضرورة أن ينخرط النظام السوري بشكل عاجل مع شعبه للتوصل إلى حل سياسي شامل. فتركيا تعمل على “تمهيد الطريق أمام مسار سياسي، وستواصل جهودها في هذا الاتجاه، خصوصاً بعد أن دخل النزاع السوري مرحلة جديدة”. لذلك فإن سيناريو أن طهران ستجد نفسها مجبرة على التدخل المباشر لوقف الفصائل مستبعد تماماً في أنقرة، إذا ما كانت الدبلوماسية الإيرانية التقليدية هي التي ستقرر. أما إذا قرر المرشد أن تتقدم القوات الإيرانية باتجاه سوريا عبر العراق لإنقاذ الأسد، فسيكون عليه البحث بعد ذلك عن سبل إخراج إيران من ورطة إقليمية قد تتقدم باتجاه واحد. نهاية الأزمة السورية سيواكبها نهاية المشروع الإيراني الإقليمي وممارسات طهران في المنطقة. وما يبحث عنه البعض ويريده وينتظره هو تحريك إيران لقواتها نحو الأراضي السورية عبر الجسر العراقي.
لن تنسحب إيران من سوريا أو تتراجع عن حماية نفوذها ومصالحها التي قدمها لها النظام في عملية تبادل صفقات معقدة ومتشابكة. خطوة بهذا الاتجاه تعني تدمير كل ما شيدته في مربع لبنان وسوريا والعراق ومنطقة الخليج. لكنها لن ترسل قوات نظامية للقتال ضد الشعب السوري بعد هذه الساعة لأنها تدرك أن خطوة بهذا الاتجاه ستكون بمثابة انتحار إقليمي شامل.
تعبير المبعوث الأممي الخاص غير بيدرسون أمام مجلس الأمن الدولي قبل أيام، عن قلقه إزاء نيران النزاعات ومشاهد العنف المتصاعد التي قد تزداد سوءاً في غزة ولبنان وإمكانية تحسس ذلك في سوريا، يفعل هذه المرة سيناريو اقتراب السفينة السورية التي تبحث منذ سنوات وسط الضباب الكثيف عن ميناء أمان، وليس عن دخولها عاصفة عاتية تقودها نحو المجهول.
تلفزيون سوريا
——————————
=======================
6 كانون الأول 2024
——————————
مشهد سوريا: لماذا يتقلّب قاسم سليماني في قبره؟/ صبحي حديدي
06 ديسمبر 2024
حتى تتضح أكثر سلسلة العناصر التي تصنع المشهد العسكري الراهن في سوريا، بالغ التعقيد ومتسارع المتغيرات في آن معاً، بين قوى المعارضة المسلحة وقوات النظام السوري؛ وإلى أن تتبلور توازنات الأرض ومكوّنات الاشتباك وطبغرافية الأرباح والخسائر لدى الطرفين؛ قد يكون الأسلم منهجياً معالجة طائفة من الأسئلة، بالمقادير المتاحة من القراءة المتكئة على استقراء ملموس، بعيداً ما أمكن عن فرضيات مكبّلة مسبقاً بشتى نظريات المؤامرة. وكما أنّ الكثير من سمات الغموض والالتباس والتهويل تكتنف مناطق الصراع، الرمادية لتوّها أو التي لا تكفّ عن صناعة المزيد من التشويش والاضطراب؛ فإنّ قسطاً غير قليل من المنطق السليم يتوفّر، من جانب آخر موازٍ، ويسمح استطراداً ببلوغ خلاصات الحدّ الأدنى من صواب التحليل والاستنتاج.
السؤال الأوّل يخصّ السهولة المذهلة التي طبعت تقدّم ميليشيات «هيئة تحرير الشام» وكتائب «الجيش الوطني» نحو مدينة حلب في معظم أحيائها، والاستيلاء على مواقع للنظام ذات مكانة عسكرية تاريخية مثل مدرسة المشاة؛ ونحو مدينة حماة وسهل الغاب وبلدات محردة والسقيلبية، ذات الأغلبية السكانية المسيحية؛ فضلاً عن بسط السيطرة على مدن ذات رمزية وجدانية خاصة، مثل سراقب ومعرّة النعمان وكفرنبل… متّفق عليه، بادئ ذي بدء، أنّ قتالاً حقيقياً وفعلياً، فكيف بذاك الضاري أو الشرس أو الدامي، لم يقع عملياً في غالبية ساحقة من مناطق تقدّم قوى المعارضة المسلحة؛ بل بدا جلياً أنّ الانسحاب الكيفي، أو العشوائي غير المنظم، كان خيار جيش النظام وما تبقى من ميليشيات مذهبية وعناصر «الحرس الثوري الإيراني» المتحالفة معه.
الأمر الذي يفضي إلى السؤال الثاني: لماذا هذا الخيار من جانب النظام، إذا صحّ بمعنى تامّ؟ ثمة معطى أوّل، ميدانيّ المضمون والشكل معاً، هو أنّ القوى غير السورية، والإيرانية غالباً، التي كانت تقبض على مدينة حلب بالنيابة عن النظام ودفاعاً عن وجوده في المدينة، تلقت ضربات موجعة خلال الأشهر الأخيرة؛ فانسحبت مفارز «حزب الله» اللبناني إلى القصير أو إلى جنوب لبنان حيث الجبهة مشتعلة مع دولة الاحتلال، وسُحبت مكوّنات إيرانية مختلفة إلى السيدة زينب ومحيط العاصمة دمشق وبعض المناطق في محافظة درعا. المعطى الثاني هو أنّ جيش النظام المنتشر في المدينة، أو في الكليات العسكرية، كان قد سلّم المدينة إلى العهدة ذاتها التي شكّلها، وخلّفها، اللواء قاسم سليماني، خريف 2015. هذا إلى جانب ما يعانيه هذا الجيش، المتمركز في حلب وأريافها تحديداً؛ من ترهّل وتفسّخ، وانحطاط تدريب وتسليح، وهبوط معنويات، وهيمنة ميليشيات غير سورية.
المعطى الثالث، الترجيحي هذه المرّة، هو أنّ رأس النظام السوري بشار الأسد قد تلقى، ورضخ حيال، رسائل مختلفة المصادر، روسية أساساً وتركية وإماراتية وإسرائيلية/ عن طريق وساطات أوروبية، تُلزمه باعتماد مقاربة مختلفة عن ماضي السنوات الخمس الأخيرة؛ حين أنس في نفسه الانتصار، وتعمّد «الغنج» حتى على رعاة إعادة تأهيله في أبو ظبي وعمّان مثلاً، ومضى أبعد في رفض التعاطي مع أيّ من بنود القرار الأممي 2054 لعام 2015، كما بلغ مستويات غير مسبوقة في استخدام سلاح غزو الجوار بالكبتاغون والمخدرات. في صياغة أخرى لهذا المعطى، فُرض على الأسد طراز جديد من الانحناء أمام متغيرات ما بعد «طوفان الأقصى» وإضعاف إيران و«حزب الله» وعربدة بنيامين نتنياهو بصدد «شرق أوسط جديد» وإعادة انتخاب دونالد ترامب… الأمر الذي لا يعني، بصفة أوتوماتيكية، أنّ الرعاة ألزموه بإرخاء ما تبقى له من قبضة أمام قوى المعارضة المسلحة، في إدلب وحلب وحماة وسواها؛ فهذه كانت مفاجِئة للجميع، بمَن فيهم الجولاني و«أبو عمشة» وأضرابهما.
السؤال الثالث يخصّ القوى الخارجية الفاعلة في المشهد العسكري الراهن، حيث في الوسع الافتراض بيُسر كافٍ أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليس محرّك الدينامية السياسية التي تتراكم تباعاً جرّاء عمليتَيْ «ردع العدوان» و«فجر الحرّية» بعواقبها المتعاظمة ساعة بعد أخرى ويوماً بعد آخر، فحسب؛ بل الأرجح أنه سوف يخرج بصفة الرابح الأوّل، وربما الأكبر، حين تسكت المدافع. لقد قرأ جيداً متغيرات المشهد الإقليمية وما تسفر عنه من إضعاف هنا أو تقوية هناك؛ واتكأ على رفض الأسد، ضمن سياق «الغنج» إياه، الحوار والتطبيع وترسيم العلاقة مع «قسد» ومن ورائها جبل قنديل وقيادة الـPKK؛ كما استبق تنصيب ترامب في رئاسة الولايات المتحدة، لجهة نفور الأخير من إبقاء الـ900 مقاتل أمريكي في سوريا وما يعنيه ذلك من انكشاف ظهر القوى الكردية المسلحة.
وضمن السؤال ذاته، لا يصحّ استكشاف موقف الكرملين من تطورات الميدان العسكري الأخيرة بمعزل عن طارئ حاسم: إعادة قسط، غير قليل أبداً، من القوات الروسية المتواجدة على الأرض السورية، إلى ميادين قتال موسكو في أوكرانيا؛ ولعلّ وجود سرب روسي واحد فقط (12 طائرة) في مطار حميميم اليوم، ثمّ سحب البوارج والسفن الحربية من ميناء طرطوس إلى بحار روسيا وأوكرانيا، ثمّ اللغة الدبلوماسية الخجولة التي طبعت تعليقات الكرملين على انهيارات النظام العسكرية في سوريا، وصولاً إلى اكتفاء الطيران الروسي بقصف مواقع مدنية في محافظة إدلب جرياً على نهج قديم غير مستجدّ البتة… كلّ هذه، وسواها، معطيات تقول إنّ موسكو تغضّ معظم النظر عن مشروع أردوغان، إذا لم تكن تُدرجه ضمناً.
السؤال الرابع يظلّ ذاك المتصل بمصير النظام ورأسه، والإجابة هنا يصحّ أن ترتبط بالوقائع المتسارعة خلال الأيام المقبلة، غير القصيرة والطويلة استطراداً، لسبب جوهري أوّل هو أنّ القوى الفاعلة في تحريك المشهد العسكري (تركيا وروسيا أساساً) ليست في وارد إسقاط النظام، وأنقرة تحديداً لم تعتمد هذا الخيار في أيّ يوم. و«تأديب» الأسد، كي ينضبط أكثر في سياقات إقليمية متبدلة وتتبدل سريعاً؛ أو إقطاع تركيا مئات الكيلومترات الإضافية في محيط حلب وإدلب وحماة، لإتاحة الفرصة أما إعادة مئات آلاف اللاجئين السوريين؛ أو تسليم قوى المعارضة المسلحة أوراق تفاوض أعلى تأثيراً في الضغط على النظام، وعلى حواضنه العسكرية والسياسية والمناطقية؛ وتفكيك أقصى ما يمكن تفكيكه من نفوذ إيران المباشر، أو الوسيط عن طريق الميليشيات المذهبية… كلّ هذه العناصر، وسواها، لا تُفضي بالضرورة إلى مآل إسقاط النظام، ولا تعني ذلك أساساً!
يبقى سؤال خامس، حول مستقبل المناطق التي استولت عليها قوى المعارضة المسلحة، وميزان السلبيات والإيجابيات في هيمنة القوى الإسلامية والجهادية داخلها. وهذه سطور تعتبر، من حيث المبدأ، أنّ تخليص أيّ شبر من قبضة نظام الاستبداد والفساد والارتهان الذي يديره آل الأسد منذ 1970 هو في صالح سوريا والسوريين، والأسئلة الخمسة هذه كفيلة بأن يتقلب اللواء قاسم سليماني في قبره، بوصفه الفاتح الذي أشرف على إسقاط حلب في يد النظام السوري، وتجبّر في شوارعها وتبختر. لكنّ هذه السطور ترفض على نحو مطلق، وتتخوّف من، تحويل حلب إلى إمارة إسلاموية وجهادية على غرار ما شهدته إدلب ساعة وقوعها في قبضة «جبهة النصرة»؛ وليس كافياً أن يخلع الجولاني لباس الطالبان ويرتدي الجينز مثلاً، ويخاطب رئيس الحكومة العراقية، كي يمنح السوريين أية درجة من الاطمئنان إلى الحدود المطلوبة العليا، وليس الدنيا وحدها، من مطامح انتفاضة 2011 الشعبية، حول حقوق الإنسان والمواطنة والمساواة والتعددية الدينية والإثنية وحرية التعبير والديمقراطية.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
—————————-
برهان غليون: الحل بتنازل الأسد أو الانقلاب عليه
منير الربيع
6 كانون الأول 2024
على وقع التطورات المتسارعة للأحداث في سوريا، والتي تشير إلى تدهور سريع في البنية العسكرية للنظام السوري، ومع التقدم الذي تحرزه المعارضة المسلّحة، يطرح سؤال البحث عن المعارضة السياسية السورية نفسه، سعياً وراء رموز ومفكري هذه المعارضة. كان لا بد من حمل الكثير من الأسئلة إلى عالم الاجتماع والمفكر السياسي برهان غليون، فهو الرئيس الأول للمجلس الوطني السوري المعارض، وكان الرمز السياسي الأول للثورة السورية، فالتظاهرات المدنية في أسابيعها الأولى ناجته هاتفة باسمه للمطالبة بتدخل دولي لتوفير الحماية الجوية للمتظاهرين من الغارات التي كان ينفذها النظام ضدهم. برهان غليون هو أحد أبرز المفكرين السوريين الذين ساهموا في إنتاج الفكر السياسي العربي ونقده. أستاذ العلوم السياسية في جامعة السوربون، ومن جيل المعارضين الأوائل للنظام السوري وأكثرهم استقلالية، فكان شخصية مقبولة من كل أطياف المجتمع السوري وتنوعاته، يمثل وجهاً تقدمياً عروبياً علمانياً، ومن أبرز رموز ربيع دمشق، ورجل الحوار مع كل الفئات السورية المتنوعة على اختلاف سياساتها وتوجهاتها، وكان أول من نبّه لتبعية الثورة إلى أي دولة.
ويرى غليون أنه “لا مجال للتهدئة والاستقرار النسبي في سوريا اليوم، إلا بتنازل بشار الأسد، أو بانقلاب داخل النظام، أو باستمرار الحرب حتى إسقاطه. ليس هناك سوى هذه الخيارات الثلاث”. ويقول إن إيران ستحاول التمسك بالحكم الراهن وتعطيل التسوية، لكنها ستفشل لأن البلاد لم تعد تتحمل المزيد من الانهيار والتدهور في شروط الحياة”.
ويؤكد أن “ليس هناك أي مجال لتطبيق الحل اللبناني على المجتمع السوري”، مشيراً إلى أن الصراع السوري ليس صراعاً طائفياً، و”جميع الطوائف مجمعة اليوم على تغيير النظام الفاسد والقاتل”.
ويشدد على أنه “ليس هناك سيناريو تقسيم في سوريا حتى الآن”، مضيفاً أن “روسيا كانت تتهم واشنطن بأنها تريد تقسيم سورية بخلق دولة كردية”. ويلفت إلى أن “تركيا تعتبر أن مثل هذا التقسيم يهدد الدولة التركية. فهي ترفض التقسيم، وهذا هو موقف الأمم المتحدة وروسيا والعديد من الدول الأخرى”.
أسئلة كثيرة حملناها إلى غليون في محاولة لتقديم إجابات كثيرة يمكن البناء عليها للمرحلة المقبلة:
بداية ما هي قراءة الدكتور برهان غليون لتوقيت المعركة التي فتحتها فصائل المعارضة في حلب وما بعدها، وما هي أهداف هذه المعركة وما هو المتوقع منها سياسياً؟
ما من شك أن ما شجع على إطلاق المعركة في هذا التوقيت هو حال الضعف العسكري الواضح التي أصبحت عليه طهران وميليشياتها بعد حرب غزة وجنوب لبنان. وكان لاستثمارها من قبل خصومها النتائج السريعة التي حققها المقاتلون من المعارضة السورية لكن لا يقدم التوقيت الزمني رغم أهميته أي تفسير لما يجري وما جرى حتى الآن. فمن الطبيعي أن من يقرر القتال ضد طرف عدوّ أن يختار اللحظة التي يشعر فيها أنه الأقوى وأن الطرف الآخر في حالة ضعف. التوقيت الزمني مسألة عسكرية محض أما التوقيت السياسي فهو الأهم، وهو الذي سمح لهذا الهجوم الكاسح أن يقوم، وأعني به حصول التفاهم بين عديد القوى المشاركة في الصراع الدائر في سوريا منذ عام 2011 والذي سمح للمعارضة أن تحظى بتغطية سياسية وعسكرية معاً مكنتها من تحقيق المكاسب التي نشهدها الآن.
ولم ينجم هذا التفاهم الدولي عن عبث، وإنما بعد تجربة طويلة مع النظام ومع حاميته الرئيسة طهران، فشلت فيها الأطراف الدولية المعنية في دفع النظام إلى التعاون على إنهاء المحنة السورية التي أصبح لها نتائج وخيمة إقليمية ودولية، بالرغم من ما وعد به من دعم وتطمينات على بقائه. وانتهى الأمر بإدراك الجميع أنه لا يوجد حل مع النظام ولا بد من تغييره. مما يعني أيضا تغيير العلاقة مع طهران التي امتلكته وأصبحت تستخدمه ورقة رئيسة في صراعها ضد جميع الأطراف الأخرى بمن في ذلك الحليف الروسي. وهذا التفاهم الدولي الذي أصبح واضحاً اليوم، الأميركي الروسي التركي وربما العربي من الخلف هو الذي أنتج المبادرة العسكرية الجديدة والذي أعطى للمعارضة الدور الحاسم والكبير الذي تقوم به اليوم. وهكذا أصبحت بعد تهميش مديد شريكاً في تكنيس حكم الأسد الذي لا يمكن تحقيقه من دون مشاركتها الحيوية. والحقيقة أننا عندما نقول فشل هذه الأطراف الدولية في إقناع الاسد بتعديل سياساته لاستيعاب نتائج الكارثة التي تسببت بها حربه على الشعب وتشبثه بالسلطة بدل تحميلها للآخرين فنحن نقصد أساس فشلها في إقناع طهران بالحد من طموحاتها المتورمة التي جعلته رهينة لها وتريد استخدامه كورقة “جوكر” لتعظيم منافعها ضد الجميع.
أما هدف المعارضة في هذه الحرب فهو واضح، إجبار النظام على تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 الداعي لتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات تعمل على تحضير البلاد لإنتاج حكومة تمثيلية من خلال انتخابات حرة تحت إشراف دولي وإخراج الشعب من المحنة الطويلة وسوريا من الخراب المستدام. ويلتقي هذا الهدف جزئياً أو كلياً مع الأطراف الدولية والاقليمية الأخرى التي تسعى من خلال تحقيقه الى انتزاع ورقة احتكار مصير النظام من قبل وإلغاء الحظر الذي تفرضه على أي تعديل في الوضع السوري الراهن، حتى تملك كل الوقت اللازم لتفكيك سوريا وابتلاعها على حساب الجميع وأولهم الشعب السوري الذبيح بمعنى الكلمة.
تأتي هذه المعركة مع بروز عنوان مستجد في المنطقة وهو “تقويض النفوذ الإيراني” وهناك وجهات نظر تعتبر أن ما يجري هو محاولة لإخراج إيران من سوريا فهل ذلك ممكن؟ وماذا عن الأدوار والمواقف الأميركية، الروسية والتركية؟
لا أعتقد أن الهدف هو إخراج طهران من سوريا وإنما تغيير خياراتها الاستراتيجية في ما يتعلق باستخدام سوريا وغيرها من بلدان المشرق كساحات لحرب وكالة للدفاع عن مصالح قومية أنانية. وكذلك رفض هذه الدول التي تعتقد أن لها مصالح أيضاً في سوريا والمشرق العربي أن تعمل حسب أجندة وأولويات السياسة الإيرانية الإمبريالية وأن تغطي على سياسة التوسع والتمدد الإستراتيجي والعسكري والأمني الإيراني وتخضع لمتطلباته. وهذا ما جعل إيران تتحدث عن سوريا بعد لبنان وفلسطين وكأنها أملاكاً صافية لها واحتكاراً لا يحق لأحد أن ينازعها فيه حتى شعوبها، وهي صاحبة الحق في أن تولي عليها من يحكمها ويتحكم في وجودها، وليس للسوريين واللبنانيين والعراقيين سوى أن يذعنوا لقرارها، ولا خيار للدول الأخرى التي تريد الحفاظ على مصالحها سوى أن تمر عبر طهران وتدفع الجزية عن مرورها.
هذا هو جوهر ما يحصل اليوم في سوريا. وما كان له أن يحصل لولا هذا التوافق الدولي الإقليمي أيضاً. والذي لا ندري بعد أيضاً ما هي حدوده وما هي المخططات الخاصة بكل طرف للاستفادة منه. ما يهم السورييين هو أن يدافعوا عن مصالحهم فيه، وفي صلبها التحرر من كابوس نظام الانقلاب الدائم والعنف والاستئثار والظلم والتهميش والاعتقال إن لم يكن القتل على الهوية.
أي دور للمعارضة المدنية والمعتدلة في مواكبة هذه التطورات والتحولات السورية ذات الإيقاع الإقليمي والدولي؟
ليس من الخافي أن المعارضة السياسية السورية، وهي أطياف متعددة قصم ظهرها التدخل العسكري الإيراني ثم الروسي ومزق صفوفها لم تكن تملك القدرة على مواجهة النظام وايران وميليشياتها. وما كانت تستطيع أن تعمل بمعزل عن الدول التي تتقاسم اليوم النفوذ في سورية. وهذا هو وضع النظام نفسه الذي تحول إلى لاعب ثانوي او بالوكالة في يد طهران بالدرجة الأولى. فالحرب في سورية اليوم حرب مركبة تتداخل فيها القوى الدولية والإقليمية والداخلية السورية وليس لطرف سوري أن يوجد وأن يشارك في الصراع من خارج هذا التداخل.
وكما ذكرت تلتقي المعارضة مع الفصائل والدول الحليفة على أولوية كسر الحظر الذي تفرضه طهران على أي تعديل في بنية النظام السوري الراهن وتخليد حكم الأسد. ودور المعارضة السورية، المدنية والعسكرية، في هذه العملية العسكرية التي هي القوة الأبرز فيها والتي من دونها لايوجد أي حل لتحقيق مصالح الأطراف الدولية هو أن تضمن للسوريين تحقيق الهدف الأسمى وهو وضع حد للأزمة الطاحنة التي تعيشها البلاد منذ عقود والعمل مع الأطراف الأخرى من أجل تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 للتوصل الى تسوية نهائية ووضع أسس نظام سياسي جديد يضمن حقوق جميع الأفراد في السلام والأمن والعدالة والحرية والمساواة.
هناك مخاوف كبيرة من تجزئة سوريا إلى 3 أقاليم أو أكثر، وهناك حديث عن فرض فيدرالية الأمر الواقع والتخوف من عمليات تهجير طائفي أو عرقي فما هي مخاطر مثل هذا المشروع؟ وهل يمكن أن يتكرس؟
ليس هناك سيناريو تقسيم حتى الآن. روسيا كانت تتهم واشنطن بأنها تريد تقسيم سوريا بخلق دولة كردية. لكن تركيا تعتبر أن مثل هذا التقسيم يهدد الدولة التركية. فهي ترفض التقسيم. وهذا هو موقف الأمم المتحدة وروسيا والعديد من الدول الأخرى. أما طبيعة النظام القادم: هل سيأخذ بنموذج الدولة المركزية أم الدولة الاتحادية فهو موضوع نقاش لم يتحدد مصيره بعد بين قوى دولية بعضها لا تخفي تمسكها بالتقسيم الطائفي والإثني، وقوى أخرى تحرص على الحفاظ على الوحدة السورية ومنها الدول العربية وروسيا والعديد من الدول الأوروبية التي تتطلع اليوم إلى دولة مستقرة في سوريا تخفف من موجات الهجرة وتستوعب اللاجئين السوريين التي تريد أن تعيدهم إلى بلادهم.
كيف يرى الدكتور برهان غليون كل هذا الصراع الذي قد يأخذ أشكالاً إثنية وطائفية على مستقبل سوريا والمنطقة؟
الصراع على سوريا وفي سوريا صراع سياسي واستراتيجي أي يتعلق بخيارات سياسية (شكل الحكم والإدارة وتداول السلطة وتمثيل الشعب وقضايا العدالة القانونية والاجتماعية)، وبخيارات استراتيجية تتعلق بالصراعات الإقليمية والدولية في المنطقة وجر سوريا إلى هذا الخيار أو ذاك. ولا يمكن حسم هذا الصراع والتوصل إلى أي استقرار من دون مواجهة هذين التحديين الكبيرين: تغيير النظام السياسي من نظام احتكاري، طائفياً كان أو سياسياً أو قبلياً أو مناطقياً أو إسلامياً أو أقوامياً لافرق، إلى نظام ينبثق من الشعب ويعبر عن إرادته ومصالحه. هذه قضية لا يمكن تجاوزها اليوم ولا المرور عليها مرور الكرام ولا إخفائها تحت دعوة الصراع الطائفي أو وجود أكثرية وأقليات. هذا ما يسعى إليه النظام وما تحاول استراتيجية إيران على تعميمه بالمراهنة على تهييج المشاعر الطائفية، لتغطي على أساس المشكلة وحقيقتها الاجتماعية العميقة، لكسب الوقت وتسهيل تفكيك المجتمع وتفتيت البلاد واستخدامها أداة في صراعاتها على الهيمنة الاقليمية. ومن دون تغيير النظام ليكون معبراً عن إرادة الشعب ومصالحه، وإزالة الطابع الملكي عن الحكم الذي أصبح يعتبر سوريا مزرعة إقطاعية تنتقل ملكيتها من الأب إلى الإبن والحفيد، لن يكون هناك أي حل لأي مشكلة أو تحقيق أي تطلعات لأي أقلية أو أكثرية أو طائفة أو قومية.
في المقابل لا يمكن التوصل إلى حل ديمقراطي للقضية السورية كما يريده غالبية السوريين ويقاتلون من أجله من دون انتزاع سوريا من فك النزاعات الاقليمية والدولية واستعادتها سيادتها وهامشاً كبيراً من حرية تقرير المصير وتخلي الدول المتنازعة عن استخدامها مسرحاً لحروبها أو أداة من أدواتها وإلحاقها باستراتيجيتها القومية. ولا يمكن لهذا أن يتحقق إلا بإعادة اعتراف هذه الدول وتسليمها بسيادة سوريا واستقلالها وحق شعبها في الحياة في سلام وأمان. وأعتقد أن حصول سوريا على هذا الحق في الاستقلال والسيادة والحرية لا يمكن أن ينفصل عن حصول بقية دول المشرق الصغيرة والضعيفة على حقها في مثل هذا الاعتراف من قبل الدول الأقوى والكبرى، وتكريس ذلك ضمن معاهدات إقليمية ودولية مثبتة في وثائق الأمم المتحدة. وهذه هي الطريقة الوحيدة لوضع حد للحروب الدموية المستمرة منذ عقود في المشرق بأكمله. ولا أمل في التوصل إلى مثل هذا الدعم الدولي للمعاهدات الإقليمية المعززة للسلام في المنطقة ما لم تحل مسألة إسرائيل وفلسطين، بما يسمح بتعميم القاعدة على الجميع. وهذه مسؤولية تقع أولا على القوى الإقليمية القادرة على حمل المسؤولية والطامحة إلى تعميم السلام والرهان على التقدم الاجتماعي والاقتصادي والحضاري لا على التوسع الترابي أو الهيمنة الاستراتيجية، وثانياً وعلى الدول الكبرى العالمية والغربية منها بشكل خاص. ينبغي التوصل إلى تفاهم حول تجنيب المشرق الحروب الدائمة ووضع حد لها. والعقبة الأولى التي ينبغي التغلب عليها في هذا السبيل هي طموح الغرب إلى الاحتفاظ بهيمنة شديدة القسوة والقبضة معا على هذه المنطقة الحيوية. وعلينا أن نعمل جميعاً مثقفين وسياسيين واقتصاديين من أبناء هذه المنطقة على تحقيق هذا الهدف الذي هو مفتاح السلام والتقدم الوحيد للمنطقة ولكل شعب من شعوبها.
في انتظار ذلك لا مجال للتهدئة والاستقرار النسبي في سوريا اليوم إلا بتنازل الأسد أو بانقلاب داخل النظام أو باستمرار الحرب حتى إسقاط الأسد. ليس هناك سوى هذه الخيارات الثلاث. وما منع من القضاء على الأسد وفتح مائدة الحوار بين السوريين لإخراج البلاد من الانهيار هو عدم توافق مصالح الأطراف الدولية على ما بعد بشار أو على النظام الجديد بالرغم من موافقتهم المبدئية على القرار 2254. والمفتاح يظل في يد التفاهم الروسي الأميركي حول سوريا. إذا أرادت واشنطن إغراق روسيا في مستنقع سوري متفاقم ليس هناك حل، وسوف تتفاقم مأساة السوريين. وإذا قررت روسيا العمل ضد أميركا في سوريا سوف نواجه أيضاً تمديداً للأزمة إلى أجل غير مسمى. لكن أعتقد أن البلاد لم تعد تحتمل المزيد من التأجيل والهرب من المسؤولية فالثمن سيكون عالياً جداً بالنسبة لجميع الاطراف. وكما أن تركيا لا تستطيع الانتظار فإن طهران التي ترفض الاستسلام ربما ستلجأ إلى حشد المزيد من الميليشيات لتمديد أمد الحرب وإبراز قدرتها على مقاومة من يريد إضعاف نفوذها في سوريا.
وإذا طبق هذا القرار تكون هناك فائدة للشعب السوري وإلا فإن الأمر يقتصر على تحقيق مصالح الدول الاخرى على حسابه كما حصل حتى الآن. نأمل أن يدفع الصراع الراهن والضغط على النظام للوصول إلى تسوية سياسية سورية تفتح الطريق أمام السلام والحياة السياسية الطبيعية للشعب السوري. وإلا فإن الحرب ستظل مستمرة بين الأطراف.
هل ستقبل إيران بالنزول عند إرادة الدول الأخرى أم تصر على التمسك بالحكم الراهن وتعطيل أي خطة لتحقيق التسوية والخروج من الحرب الدائمة؟
أعتقد أن طهران ستحاول لكنها ستفشل لأن البلاد لم تعد تتحمل المزيد من الانهيار والتدهور في شروط الحياة. حتى الخبز في سوريا الراهنة يباع بالبطاقة الذكية أي أنه مقنن، لكل فرد رغيفين أو ثلاثة فقط في اليوم والكهرباء تأتي ساعتين في اليوم، ولا يزيد متوسط راتب السوري العامل عن 15 دولار والأسعار تكاد تكون دولية. سوريا برميل بارود. هذه آخر محاولة للتوصل إلى حل سياسي قبل انفجار شامل.
القوى الديمقراطية موجودة لكن لا تملك أي قوة سورية هامش مبادرة اليوم. المفروض ان تسمح إعادة الحياة السياسية الطبيعية للبلاد بتكوين هذه القوة الديمقراطية التي ما كان يمكن أن تنمو وتوجد في نظام لا تزال الصحيفة الوحيدة فيه هي الناطقة باسم الحزب والسجون مليئة بآلاف المعتقلين الذين لا يعرف أهلهم عنهم شيئا تماما كما كان الحال في سجون النازية. لكن هنا موزعة بالتساوي على جميع المدن والأحياء.
هل من إمكانية لحوار جدي وفعلي مع النظام ينتهي إلى ما يشبه الطائف السوري على الطريقة اللبنانية أي بقاء النظام برأسه مقابل تعزيز صلاحيات الحكومة؟ وذلك استفادة من التطبيع العربي مع دمشق وتوفر أجواء دولية تشير إلى إمكانية التعاطي مع النظام بحكم الأمر الواقع وافتقاد البديل؟
ليس هناك أي مجال لتطبيق الحل اللبناني على المجتمع السوري. الصراع السوري ليس في الجوهر والأساس صراعاً بين طوائف ولو كان كذلك لحسم خلال أيام. جوهر الصراع في سوريا ليس طائفياً وجميع الطوائف مجمعة اليوم على تغيير النظام الفاسد والقاتل. والحل في بناء دولة وطنية مدنية تساوي بين جميع مواطنيها من دون تمييز وهذا طلب السوريين جميعاً ومن كل الطوائف والمذاهب والقوميات.
هل من إمكانية للنجاح في طرح مشروع سياسي جديد يوائم ما بين قوى النظام وقوى المعارضة المعتدلة والمعارضة المسلحة؟
لم يعد هناك نظام ولا معارضة في حقيقة الأمر. هناك نظام إنقلابي متمرد على إرادة الشعب بما في ذلك القاعدة الاجتماعية التي كانت تقف وراءه في فترة سابقة، لا يعيش ويستمر إلا بدعم الدول الاجنبية التي يتخادم معها وتجارة المخدرات والأعضاء البشرية والعمالة للدول الإقليمية التي تبحث عن إمّعات يغطون على أطماعها التوسعية وشعب موحد من وراء الانتماءات جميعاً ضد نظام أصبح لا يعني بالنسبة إليه، بصرف النظر عن مشاربه الدينية والطائفية والقومية والقبلية والاجتماعية سوى الإدانة بالحرب الدائمة والموت والخراب والدمار.
ماذا تقول في ما أعلنه زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني عن التفكير بحل هيئة تحرير الشام. كيف ترى هذه الخطوة وأبعادها؟
من الملفت أنه في موازاة تقدم مسيرة “فجر الحرية” و”ردع العدوان” يجنح الخطاب السياسي عند السوريين جميعاً من الأفراد، والتشكيلات السياسية وحتى الدينية، إلى تبني قيم إنسانية كونية والتأكيد على المبادىء الوطنية الجامعة والارتفاع فوق ما ساد في السنوات الماضية من نزوع إلى ابراز الاختلاف الايديولوجي والتباين الطائفي والديني. وهذا ما عبر عنه بيان مفتي الجمهورية وكذلك ما صرح به الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام من احتمال حلّ هذه الهيئة ذاتها. والسبب في نظري أن الاقتراب من السلطة، وأعني سلطة الدولة لا الزعامة، يفرض على المرشحين لها إبراز الدليل على قدرتهم على الارتفاع إلى مستوى المسؤولية العمومية ويحثهم على الارتقاء بأفكارهم ومشاعرهم الإنسانية وتجاوز انغلاقهم على عصبياتهم العضوية. وفي المقابل يزداد تقوقع المهددين بالخروج من السلطة وانغلاقهم.
وعلينا بالطبع أن نشجع هذا التوجه بالعمل ضد سياسة الحظر والإقصاء وتهميش الآخرين والتمييز ضدهم، في أي شكل جاء هذا التمييز، ما يدفع بهم إلى تبني مواقف وأفكار سلبية وإلى التمحور حول الذات وتطوير نزعات رفضوية او رافضية إقصائية وتمييزية معادية للاخر، هدفها الأساسي حماية الذات من التشكك والانحلال ومن التسليم بالدونية والإستقالة الاخلاقية.
فلا يوجد حل لمشكلة التطرف والانغلاق على الذات والكفر بالمبادىء الجامعة، دينية كانت أو سياسية، إلا في الاعتراف بالحقوق الواحدة والاحترام المتبادل والمتساوي، وهذا مصدر الاندماج والشعور بالانتماء للجماعة السياسية او الثقافية والمعيار الرئيس للعدالة.
العنف ينتج العنف المضاد والكراهية الكراهية المضادة تماماٍ كما تنتج المودة المودة والإخاء الإخاء.
المدن
——————————-
هم وبديهياتهم الجوفاء/ رشا عمران
06 ديسمبر 2024
يضطرنا بعض الإخوة من المثقّفين العرب، مع كلّ حركة جديدة تحدث في سورية، لإعادة سيرة الثورة وسردياتها منذ البداية، كما لو أنهم لم يسمعوا في حياتهم عنها، وكما لو أنها بمتغيّراتها وأحداثها كلّها، والمأساة المهولة التي تلتها، حدثت سرّاً، ما جعلها مجهولةً تماماً لغير السوريين، إلّا قلّة ما زالت تمتلك ضميراً صاحياً وعامّاً، وقادراً على التفريق بين الخطأ والصواب، وبين الحقّ والباطل. يضطروننا أيضاً لإعادة سرد البديهيات التي يُفترَض أنهم يعرفونها بوصفهم مثقّفين، منها أن المهجّرين تهجّروا بسبب النظام السوري، وأن الدمار تمّ بفعل الطائرات والقذائف التي يملكها الجيش السوري قبل أن تساندها طائرات وصواريخ وقذائف روسيا، وأن إيران وحزب الله (وباقي المليشيات التابعة لإيران) تدخّلا لصالح النظام السوري لا لتحرير فلسطين، وتدخّلا وهما يحملان شعارات طائفية في بلد ينتمي في أغلبيته إلى مذهب مختلف، ما ساهم في تأجيج الحقد الطائفي وتعزيز سردية الحرب الأهلية المذهبية، وأن الثورة السورية (2011) كانت تحمل شعارات المدنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهدفت إلى بناء دولة مواطنة عادلة حديثة، وأن رعيل الثورة الأول لم يحمل أيَّ شعارٍ طائفي، ولم يكن يحمل سلاحاً، ولم يطلق خطاباً فئوياً. كانت بدايات الثورة تطمح لأن تكون ثورةَ شعب كامل ضدّ الظلم والتهميش والقمع من أجل تحقيق حلم التغيير الكامل لسورية، التي رآها الجميع وقتها تستحقّ هذا التغيير، وتستحقّ التضحيةَ لأجله.
يضّطرنا بعض الإخوة من المثقّفين العرب أيضاً إلى القول إنه لا ذنب للثورة بما حدث لاحقاً، ولا ذنب لها بدخول المليشيات والفصائل الجهادية والأسلمة والعسكرة، وإن هذا تمّ بدعم مجتمع دولي كامل، بقصد تكريس ثورة مضادّة تؤدّي إلى الفوضى وتثبّت حُكم نظام الأسد، وإن هذا لا تبتعد إسرائيل عنه كثيراً، بل ربّما هي السبب الأول فيه، إذ لن تجد في سورية خيراً من نظامها الحالي لضمان أمن حدودها، وقد أثبتت الأحداث خلال السنوات الماضية ذلك، فلم تتوقّف الغارات الإسرائيلية على مواقع وأهداف عسكرية سورية وإيرانية ذهب ضحيتها عشرات المدنيين السوريين، من دون أن يقوم نظام الأسد بردّ واحد، أو بردع واحد، لتلك الاعتداءات. ومع ذلك، لا يتوانى بعض الإخوة المثقّفين العرب عن اتّهام الثورة السورية بالتآمر مع العدو الصهيوني للقضاء على نظام المقاومة السوري، الذي لا يريد هؤلاء التذكّر بأنه لم يقم بأيّ دعم لغزّة خلال هذه المدّة كلّها من الإبادة الإسرائيلية في فلسطين، مع أن حركة حماس حليفة له، ويتلقى من قادتها الشكر المتواصل (على ماذا؟)، وأنه تخلّى عن حليفه الأول والأكثر أهميةً، حزب الله، حين بدأت إسرائيل بتصفيته واغتيال قادته ورموزه.
يضطرنا بعض الإخوة من المثقّفين العرب أيضاً إلى إعادة القول، عند أيّ تعليق على حدث سوري، إن الفصائل الجهادية لا تمثّل الثورة السورية، وإنها أصبحت تحصيل حاصل بفعل تبادل توازن القوى بين هذه الدولة أو تلك، وإن الثورة السورية ليست ثورةً إخوانيةً، حتى لو كانت غالبية البيئة الحاضنة لها بيئة إسلامية متزمّتة، لكن لهذا التزمت والتشدّد أسباباً كثيرة تبدأ منذ ما قبل الثورة بكثير، منذ أن عمل النظام على تهميش الريف والبلدات والمدن البعيدة، وتفقير سكّانها، ومنع التنمية عنهم، وتركهم نهبة لرجال الدين الذين فتح لهم النظام الباب على مصراعيه. ثمّ لاحقاً، بعد الثورة، وقع عليهم الظلم الأكبر والتهجير والتنكيل والحصار، واحتلّت مليشيات طائفية تابعة لإيران أماكنهم، وكبر أولادهم في مخيّمات لم يعرفوا فيها غير المزيد من القهر والذلّ.
يضطرنا بعض الإخوة من المثقّفين العرب في كلّ مرّة إلى أن نعيد لهم ما فعله نظام الأسد بالسوريين وبسورية كلّها (وما زال يفعله حتى اللحظة)، نحاول أن نشرح لهم لماذا نفرح بأيّ شيء يمكنه أن يخلخل الثبات الحاصل في الوضع السوري رغم مخاوفنا كلّها، وأن نقرأ لهم سيرة تغريبتنا ذاتها في كلّ مرّة، ومع هذا تراهم يتجاهلون ذلك كلّه، ويردّدون كلاماً لم يملّوا من ترديده: “لو وقعت سورية ستقع العروبة كلّها”، وكأنّ سورية ليست سوى نظامها الذي يخشون عليه من السقوط خشية أن تتخلخل بديهياتهم الجوفاء مثلهم.
العربي الجديد
————————–
التطورات الأخيرة في سورية بين المكاسب العسكرية والتحديات المستقبلية
شهدت الساحة السورية تطوّرات متصاعدة ومتسارعة في الأيام الخمسة الماضية، أدّت إلى تغيير واسع في خرائط السيطرة العسكرية والسياسية، قد يُسهم في كسر الجمود السياسي الذي ظلّ يهيمن على الملف السوري طوال 13 عامًا ونيف، ويعيد الأزمة السورية إلى دائرة الاهتمام الإقليمي والدولي. وتتسم هذه التطورات بطابعها المعقّد، حيث تداخلت المصالح الإقليمية والدولية مع التحركات الميدانية. وبالنظر إلى الأبعاد المختلفة لهذه التطورات، يظهر أن هذه الأحداث تحمل في طياتها فرصًا وتحديات قد تعيد تشكيل المشهد السوري بأسره، غير أنها في الوقت ذاته قد تفتح المجال أمام مزيد من التعقيد والتصعيد، في ظل غياب رؤية واضحة وإرادة للحل السياسي.
المناخ الإقليمي والدولي الذي شكل شرطًا مناسبًا لانطلاقة العملية
بدأت التطورات الأخيرة مفاجئة للبعض، رغم أنها لم تكن كذلك، إذ إن الحديث عنها كان يدور منذ أسابيع وشهور، وقد تجمّعت مجموعة من الظروف والشروط المحلية والدولية التي شكلت بمجموعها مناخًا مناسبًا لانطلاقها، من بعد جمود الوضع السوري المستمرّ على نحو خاص منذ العام 2020، وفشل آستانة وسوتشي واللجنة الدستورية في الوصول إلى أي حل للمسألة السورية، واستمرار قوات النظام وروسيا وميليشيات إيران و(قسد) في استهداف مناطق سيطرة الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام، واستمرار أزمة اللاجئين، ووجود رغبة تركية قوية في توسيع مناطق سيطرة فصائل المعارضة، كي يتمكن عدة مئات آلاف السوريين اللاجئين إلى تركيا من العودة إلى بيوتهم في محافظات حلب وحماة وإدلب. وقد التقت هذه الأمور مع رغبة فصائل الجيش الوطني ورغبة هيئة تحرير الشام في استعادة سيطرتهم على مناطق كانوا يسيطرون عليها قبل أن تطردهم منها قوات النظام المدعومة بقوات إيرانية وطيران روسي قبل بضع سنوات. ويشكل استمرار سيطرة البي واي دي، وهو فرع لحزب البي كي كي التركي المصنف إرهابيًا، على شرق الفرات وإقامة كيان شبه مستقل تعده تركيًا تهديد لأمنها القومي، يشكّل مصلحة لتركيا في استعادة فصائل الجيش الحر وهيئة تحرير الشام السيطرة على مناطق أوسع من الأرض السورية، مما يشكل ضغطًا على الأسد ونظامه، ويدفعه من جهة أخرى إلى تطبيع العلاقات مع تركيا، بعد أن أبدى الأسد على مدى عامين تقريبًا موقفًا متعنتًا من مسألة التطبيع هذه، على الرغم من ضغوط بوتين على الأسد، حيث خلق ذلك حالةً من التوتر بين موسكو والنظام السوري، إذ ترى موسكو أن النظام يعقّد الأوضاع بتحالفه المتزايد مع إيران التي لا يسرّها تطبيع الأسد مع تركيا، وعدم إبداء أي مرونة تجاه أي حل سياسي.
من جهة أخرى، كانت هذه العمليات الأخيرة، على نحو ما، إحدى منتجات عملية طوفان الأقصى وما نتج عنها من تغييرات في المنطقة، من حيث توجّه إسرائيل وأميركا لتحجيم نفوذ إيران في المنطقة وتدمير ميليشيا حزب الله وتوجيه ضربات موجعة لأذرع إيران العسكرية في سورية ولبنان، ما أدى إلى تراجع قدرتها على التأثير في المشهد السوري كما كان في السابق.
أما على الصعيد الدولي، فإن روسيا حليف النظام مشغولة بحربها على أوكرانيا، وثمة شبه فراغ في الرئاسة الأميركية، بين رئيس ذاهب غير قادر على اتخاذ قرارات صعبة، ورئيس قادم لم يتسلّم مقاليد الأمور بعد. وقد اجتمعت كل هذه الظروف لتخلق مناخًا مناسبًا لقيام هذه العملية التي يجري التحضير لها منذ عدة أشهر، وهي فرصة لم تكن لتفوّتها الفصائل المعارضة للنظام، ولا تركيا التي غدَت اللاعب الرئيس في المسألة السورية.
مجرى العمليات العسكرية الخاطف:
انطلقت غرفة عمليات “ردع العدوان”، بقيادة “هيئة تحرير الشام”، وهي تضمّ كلًّا من الجبهة الوطنية للتحرير، وحركة نور الدين زنكي، وجيش العزة، وغيرها، كما انطلقت غرفة عمليات “فجر الحرية” بمشاركة فصائل من الجيش الوطني، مثل فرقة السلطان سليمان شاه، وفرقة السلطان مراد، وجبهة البناء والتحرير وغيرها. وقد تأخّرت عملية “فجر الحرية” لتجنب الاحتكاك مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ولتفادي استفزاز روسيا، على الرغم من أن الجاهزية على جبهتي تل رفعت ومنبج كانت مرتفعة، ولم تبدأ العمليات حتى بادرت (قسد) بالسيطرة على مناطق واسعة، بعد أن أخلتها قوات الأسد في ريف حلب الشرقي وصولًا إلى مطار حلب الدولي، وهذا ما استفزّ تركيا، فأرادت لفصائل الجيش الوطني التقدّم من تادف.
كانت الوجهة الأولى للفصائل مدينة حلب التي سيطروا عليها بسرعة وسهولة، وهو أمرٌ لم يكن أحد يتخيله قبل أسبوع واحد فقط. وقد اتسمت العمليات بالسرعة، فقد انسحبت قوات النظام والميليشيات الإيرانية من مدينة حلب وريفها الغربي والشرقي وريف إدلب الجنوبي، وبدت قواتها فاقدة لإرادة القتال، وتجنبت المواجهة، وتركت خلفها كميات كبيرة من العتاد العسكري. وقد اتضح أن النظام بعد أن أدرك ضعفه في تلك المناطق البعيدة، قرر الانسحاب دون قتال، والتمترس في خطوط الاحتكاك السابقة شمال حماة، وهو يعزز استحكاماته وقواته في تلك المناطق.
واتسمت عمليات الفصائل بتطور نوعي، وأظهرت تحولًا نوعيًا في سير المعارك، وتفوقًا استراتيجيًا وتنظيمًا واضحًا، مقارنة بأدائها قبل سنوات سابقة، في مقابل ارتباك وتراجع كبيرين لقوات النظام. وقد استغلت الفصائل حالة الانهيار التي أصابت قوات النظام لتحقيق تقدّم سريع. وقد أخلت روسيا مواقعها الواقعة في هذه المناطق، ولم تقدّم إسنادًا جويًا كبيرًا لإعاقة تقدّم فصائل المعارضة المهاجمة، رغم أنها شنت بعض الغارات التي لم تؤدِ إلى تعطيل التقدم العسكري للفصائل.
تجنّبت فصائل المعارضة مهاجمة قوات الأسد وميليشيات إيران المنسحبة، ولم تسعَ للاشتباك معها ما دامت تغادر من دون قتال، ملتزمة بقاعدة “أقل قدر من الدماء”، مثلًا أتاحت الفصائل المعارضة لرتل من قوات النظام الانسحاب بسلام من منطقة الشيخ نجار، وسمحت بانسحاب مئات العسكريين الذين كانوا محاصرين في الأكاديمية العسكرية بحلب، وهذا ما جعل أعداد القتلى في الحدّ الأدنى.
أتاحت العمليات لفصائل هيئة تحرير الشام والجيش الوطني تقدّمًا سريعًا، استطاعت بموجبه السيطرة على مساحات شاسعة من محافظات حلب وحماة وإدلب، وهي تشمل نقاطًا عسكرية مهمة ومطارات عدة منها مطار كويريس ومطار حلب ومطار أبو ظهور. وعادت لخطوط التماس التي كانت قبل 2017، وتجاوزتها في بعض المناطق، إضافة إلى السيطرة على كامل حلب، ولم تكن قبل 2017 تسيطر في حلب إلا على الجانب الشرقيّ منها.
شبّه بعض المحللين ما جرى خلال الأيام الخمسة الماضية بأنه أقرب للسيناريو المسبق الصنع، وافتراض وجود تفاهم تركي روسي وموافقة أميركية على ما يجري. وكأن الاتفاق ينصّ على الوصول إلى خطوط التماس السابقة، قبل التدخل العسكري الروسي مع اختفاء تنظيم (داعش)، وذهبت بعض التحليلات إلى أن بوتين المزعوج من ولاء الأسد لإيران أراد أن يوجّه صفعة للأسد علّه يستفيق من الحلم الإيراني ويبدأ حلمًا روسيًا، وكأنه يقول للأسد: “أنت كنت هنا على خطوط التماس هذه، ونحن مكنّاك من مساحات واسعة، والآن نعيدك إلى ما كنت عليه مع سحب مدينة حلب من يديك، كي تعيد حساباتك من جديد”.
المواقف الإقليمية والدولية:
تباينَت مواقف الدول الإقليمية والدولية تجاه التطورات الأخيرة في سورية. فمن جهة تركيا، وقد باتت اللاعب الرئيس في المسألة السورية، بغض النظر عن تحليلات البعض بأن ما يجري هو نتيجة تفاهمات تركية روسية، فإن تركيا تقدّم دعمًا سياسيًا وإعلاميًا كبيرًا، ولها دور مباشر في تدريب فصائل الجيش الوطني وتقديم المشورة لها، وقد وصلت طلائع مؤسسات تابعة للحكومة التركية، مثل منظمة الإغاثة الإنسانية IHH و وقف الديانة التركي، إلى مدينة حلب، لتقديم المساعدات للسكّان، وظهر خبراء أتراك في مدينة حلب مباشرة بعد السيطرة عليها.
أما إيران فقد أقلقتها التطورات الأخيرة، واعتبرتها “جزءًا من مخططٍ إسرائيلي”، وتبذل قصارى جهدها للوصول إلى تهدئة تُوقف الفصائل عن التقدم، وقد سارع وزير خارجيتها إلى زيارة دمشق، ثم انتقل إلى أنقرة، غير أنه قد عاد بخُفّي حُنين، كما يبدو، وقد سعَت إيران لإرسال قوات من العراق لدعم الأسد، ولكن هذا الرتل تعرّض لقصف جوي من طائرات مجهولة يُعتقد أنها تعود للتحالف الدولي. وبالمقابل، كانت ردة فعل رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني (المحسوب على الولايات المتحدة)، على طلب الأسد الدعم من العراق، هي إغلاق حدود العراق مع سورية عسكريًا ومدنيًا بشكل تام.
يشير سلوك روسيا تجاه ما يجري إلى أن هناك حالة من الموافقة على ما يجري، خاصة أنها لم تزد من الدعم الجوي للنظام، وليس هناك موقف روسي قوي وواضح يدين ما يجري، وقد قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن موسكو تعتبر الهجوم انتهاكًا لسيادة سورية، وتريد من السلطات سرعة التحرك لاستعادة السيطرة هناك، ولكن من جهة أخرى يقوم الطيران الروسي بقصف مناطق سيطرة الفصائل المعارضة في حلب وإدلب.
تسعى الولايات المتحدة لتعزيز موقف المعارضة، عبر زيارات دبلوماسية وصحفية لمناطقها، وقد رفضت واشنطن السماح بوصول المساعدات للنظام عبر العراق، حيث قامت بقصف رتل عسكري كان يتجه نحو العمق السوري. أما بيان البيت الأبيض، فقد اعتبر أن نظام الأسد، الذي يرفض المشاركة في العملية السياسية الموضحة في قرار مجلس الأمن رقم 2254، يتحمّل المسؤولية عن التطورات الأخيرة، وفي الوقت ذاته، أشار البيان إلى أن “هيئة تحرير الشام” التي تقود هذا الهجوم هي منظمة مصنفة إرهابية.
قال وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، إنه “لا يوجد طرف جيد” في الصراع المتطور بشكل سريع داخل سورية. وقد عُقد اجتماع للجنة الوزارية الأمنية، وقدّم الشاباك تقريرًا عن الأوضاع في سورية، وعكس قلق إسرائيل من سقوط النظام السوري في هذه المرحلة، بما يعكس قلقها من تسارع هذه التطورات العسكرية على الأرض، وقد حذّرت إسرائيل الأسد من اللعب بالنار، ودعم وجود إيران وأذرعها في سورية.
أعربت معظم التصريحات الأوروبية عن قلق دول الاتحاد من توسّع المعارك الحالية، دون إدانة العمليات، وشددت كالعادة على ضرورة احترام حقوق الإنسان وحماية المدنيين.
وبينما أعرب أحمد أبو الغيط، الأمين العام للجامعة العربية، عن انزعاجه من التطورات المتلاحقة التي تشهدها سورية، اعتبر غير بيدرسون أنّ “ما نراه في سورية اليوم هو دليلٌ على الفشل الجماعي في تحقيق ما كان مطلوبًا بوضوح منذ سنوات عديدة، وهو عملية سياسية حقيقية لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015)، وهناك حاجة إلى انخراط الأطراف السورية والأطراف الدولية الرئيسية بجدية في مفاوضات حقيقية وجوهرية لإيجاد مخرج من الصراع. بدون ذلك، ستكون سورية معرضة لخطر المزيد من الانقسام والتدهور والدمار”.
في كل هذا المعمعة، يغيب الأسد عن المشهد، وكأن ما يجري يحدث في بلد آخر، واكتفى النظام ببيانات تصديه لما يسميه “المجموعات الإرهابية”، وإيقاعه خسائر بهم، وقد نشرت رئاسة الجمهورية في النظام السوري خبرين عن اتصالاتٍ أجراها بشار الأسد مع الرئيس العراقي ومع الرئيس الإماراتي، ولم يكن هناك تصريح واضح من البلدَين عن طبيعة الدعم للنظام في هذا المأزق. ويبدو أن الأسد قد بات يخشى ألاّ يخرج سالمًا من المواجهة الإسرائيلية الإيرانية، وكان يظن أنه نجح، وقد بات يخشى أن يُرغم على قبول تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015، بعد تسع سنوات من صدوره، والقبول بانتقال سياسي، وتتعاظم مخاوفه بعد أن رأى “حزب الله” يستسلم ويقبل تنفيذ ما هو أكثر من القرار 1701 لعام 2006، بعد 18 عامًا من إصداره.
غياب من يمثّل المعارضة السياسية:
تفتقر القوى المعارضة السياسية للأسد إلى ممثل فاعل مسموع الرأي، فالائتلاف مع حكومته المؤقتة قد غدا هامشي التأثير ويفتقر إلى الإمكانات والقدرات، وتفتقر جميع القوى التي تحارب الأسد ونظامه إلى برنامج سياسي يحدد توجههم وهويتهم بعيدًا عن العصبوية المادون وطنية، وفصائل الجيش الوطني متعددة ومشرذمة، وتفتقر إلى القيادة الموحدة والعمل الموحد، وتفتقر إلى البرنامج المعلن لسورية القادمة، والقوى الديمقراطية مشتتة وغائبة، ولا دور ولا كلمة موحدة لها وليس هناك من يمثلها أو ينطق باسمها.
في هذا الواقع، تبرز كل من هيئة تحرير الشام والبي واي دى والنظام، كثلاثة أطراف مركزية لديهم قوى عسكرية وقيادة مركزية موحدة، مما يعني توجه القوى الدولية إلى اعتبار هذه الأطراف هي القادرة على الجلوس على الطاولة لمناقشة مصير سورية وشعبها، في حين تغيب القوى الديمقراطية عن المشهد.
ردة الفعل المجتمعية:
أثارت السيطرة السريعة والمفاجئة لمناطق واسعة في الشمال السوري وصولًا إلى قرب مدينة حماة، ردود فعل مجتمعية واسعة متباينة، فقد نشرت الفرح بين قطاعات واسعة من السوريين، وخاصة أولئك الذين نزحوا عن بيوتهم نحو الشمال، أو لجؤوا إلى دول الجوار، أو إلى دول بعيدة، وجددت الأمل بين النخب السورية بأن مسار الثورة السورية يُستعاد، وأن نهاية النظام باتت قريبة، أو أن الحل السياسي لن يكون بعيدًا، بينما أثارت من جهة أخرى قلقًا أو حذرًا في أوساط أخرى، وخاصة بسبب الخلفيات الأيديولوجية والعصبية، سواء لهيئة تحرير الشام أو حتى لفصائل الجيش الوطني، ولا سيما أن هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ التابعة لها تتصرف كحاكم لمدينة حلب، وتطرح نفسها لتولي إدارتها، بينما ترى هذه الأوساط النموذج المتشدد الذي طُبّق في إدلب أو الفوضى التي اتسمت بها مناطق سيطرة فصائل المعارضة غير صالح للتطبيق في سورية القادمة.
غير أن سلوك فصائل غرفتي العمليات في المناطق التي سيطروا عليها مجددًا، اتسم بالانضباط والحرص على ضبط الأوضاع وتجنب الانتهاكات وحماية المدنيين، والحرص على تأمين الاستقرار والعمل على تأمين الخدمات، وبرز هذا في حلب خاصة، وهي المدينة الثانية في سورية وعاصمتها الاقتصادية، وهي تضم العرب السنة والمسيحيين العرب والكرد والتركمان والأرمن والسريان والشيعة والعلويين، وساعد في ذلك أن العناصر التي دخلت حلب كان معظمهم من أبناء حلب، إذ أسهم ذلك في تعزيز الثقة بين الفصائل والأهالي. وبدا من الواضح أن عناصر الفصائل تلقّت أوامر صارمة بالحرص على سلامة السكان وتأمين خدماتهم. وقدّمت الفصائل تطمينات لمختلف مكونات المجتمع الحلبي، وكذلك لسكّان بلدتي نبل والزهراء.
يشير سلوك الفصائل المنضبط إلى أن جميع الفصائل تعي أن المجتمع الدولي يراقب ويقيم سلوكها في المناطق التي يسيطرون عليها، وأن سلوكها هذا سيُحدد موقف المجتمع الدولي منها، ولا سيما هيئة تحرير الشام، بقيادة أبو محمد الجولاني، الذي تسعى دوائر الغرب منذ بضع سنوات لدفعه نحو تغيير سلوكه ونهجه باتجاه أقل تشددًا، وبات من الواضح أن الجولاني يدرك ذلك جيدًا، وهو يدرك مصير النهج المتشدد، وقد رأى مصير حزب الله والقاعدة وداعش وغيرها. ويريد أن يرسم لنفسه مستقبلًا في سورية القادمة، ويعلم أن هذا لن يكون ما لم يقبله الغرب. غير أن مساعيه للتحوّل نحو الوسطية تصطدم بأساس عقيدته التي بنى عليها تنظيمه، وما زالت العقيدة المتشددة تشكل أساس لحمة تنظميه، وقد اعترضت بعض المجموعات المتحالفة معه وبعض قياداته على مساعيه نحو تخفيف التشدد، واصطدمت معه مما اضطره إلى استبعادها.
تختلف الصورة في المجتمعات الأخرى التي لا تشملها سيطرة الفصائل المعارضة، حيث تسود أجواء بين القبول والأمل بقرب نهاية الأزمة، وبين القلق والحذر، والخوف أحيانًا. وسكان الساحل، على سبيل المثال، يشعرون بالخوف من ضعف قدرة النظام، مما دفع بعضهم إلى تشكيل ميليشيات محلية، وأرسل العديد من الضباط العلويين عائلاتهم من دمشق إلى الساحل. وفي دمشق، تسود حالة من الترقب، حيث يعبّر بعض السكان عن تفاؤل بإمكانية التغيير لتحسين الأوضاع المعيشية المتدهورة، فيما تبدو الأمور طبيعية في الظاهر دون أي تغيير ملموس. ومما يثير خشية أوساط واسعة من السوريين، سيادة لغة الجهاد والمجاهدين في أوساط الفصائل المعارضة، وسيادة الخطب الدينية التي يتم تداولها على نحو واسع على وسائل التواصل.
تحدي بناء نموذج حوكمي:
يترافق توسّع سيطرة الفصائل المعارضة على مناطق جديدة واسعة في سورية، مع فقدان معظم السوريين الثقة بنظام الأسد وقدرته على إبداء أي مرونة للوصول الى حل سياسي، وفشله في تأمين أدنى شروط العيش بكرامة للسوريين الذين بقوا في مناطق سيطرته، ويتطلع معظمهم إلى التغيير، ويأمل أن تفتح الأحداث الأخيرة أبواب التغيير القريب. وهذا يضع تحديًا صعبًا على الفصائل المعارضة، في إقامة حوكمة رشيدة في المناطق التي يسيطرون عليها الآن، وهو ما سيعدّ نموذجًا للحوكمة التي سيقيمونها في مناطق سيطرتهم السابقة واللاحقة. وثمة قلق خفيّ لم يعبّر عنه بعد، فمن جهة لم تقدّم الفصائل المعارضة برنامج عمل وطني واضح ومحدد وشامل يمكن قبوله من معظم السوريين. ومن جهة أخرى، فإن النموذج الذي تقيمه هيئة تحرير الشام في إدلب منذ سنوات لا يعدّ نموذجًا مقبولًا لدى معظم السوريين. كما أن فصائل الجيش الوطني أو الجيش الحر من قبل فشلت في إقامة تجربة إدارة ناجحة، تصلح لأن تكون نموذجًا لإدارة سورية الجديدة.
لذا، تعدّ إدارة مدينة حلب بعد السيطرة عليها تحديًا أمام فصائل المعارضة، واختبارًا في كيفية إدارة المدينة، وسينظر إلى ذلك كنموذج لهويتها الحوكمية القادمة، بالنظر إلى التنوع العرقي والديني الكبير في المدينة، ولا سيما أن هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ التابعة لها تتصرف كحاكم لمدينة حلب، وسيطرت على المرافق الأساسية في المدينة وعلى المدارس العسكرية وعلى المؤسسات العامة، وكأنها الحكومة الواقعية لكافة المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المعارضة، وتصدر حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام القرارات والبيانات، وترسل رسالة إلى الرئيس العراقي، بينما الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف غائبة عن الأحداث.
تتطلب هذه المرحلة الجديدة سياسة وطنية جامعة، وإقامة نموذج حوكمة مدني يقوم على إرادة السكان الحرة بانتخابات حرة دون إكراه بذرائع دينية أو مذهبية أو إثنية أو إيديولوجية، سواء في حلب أو في بقية المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المعارضة، نموذج حوكمة رشيد يقوم على الحريات العامة في التعبير والتنظيم وقيم المواطنية المتساوية، ويسمو على العصبيات المادون وطنية التي نمت خلال العقود السابقة، بسبب سياسات النظام التمييزية منذ 1963، التي تصاعدت بعد 2011 بسبب سياسات النظام وجرائمه، وبسبب ردة فعل عصبوية مشابهة غير واعية، وتغذيته من قبل متطرفين جاؤوا إلى سورية من كل حدب وصوب، مما يجعل مهمة إقامة حوكمة وطنية سورية جامعة أمرًا في غاية الأهمية، رغم أنه سيواجه تحديات كبيرة.
تصلح حلب اليوم لإقامة هذا النموذج الحوكمي، كاختبار يُبنى عليه، ويمكن البدء بتشكيل مجلس يمثل المجتمع الحلبي، مستعينين بممثلين عن النقابات وغرف التجارة والصناعة وممثلين عن كافة مكونات سكان حلب، وأن يكون ذلك المجلس صاحب السلطة الفعلية على الحياة المدنية، مع إشراك موظفي الدولة السابقين في عملية الحوكمة، بدلًا من اعتبارهم خصومًا، وبناء مؤسسات أمنية وقضائية خاضعة للمساءلة، وأن يكون الجميع خاضعًا للمساءلة، وتملك حلب من الكفاءات ما يزيد عن حاجتها لبناء إدارة مدنية تمثل بحق سكان حلب. وأن تتولى الفصائل الجانب العسكري وتحقيق الأمن والاستقرار. ويمكن للجانب التركي تقديم مساعدة ثمينة في إقامة هذه الحوكمة الرشيدة، كما يتطلب هذا تعاونًا استراتيجيًا مع الجهات الدولية الأوروبية والأميركية خاصة.
إن نجاح المعارضة في بناء هذه الهياكل يمكن أن يكون خطوة حاسمة نحو ضمان استقرار المنطقة، وتعزيز شرعية سلطة المعارضة في مناطق سيطرتها، والحصول على اعتراف دولي واقعي بسلطتها، واستبعاد مناطقها من العقوبات الدولية، مما يسهم في تحسين مستويات الحياة في هذه المناطق بشكل كبير.
آفاق تطور الأوضاع في سورية:
ما زالت التطورات جارية الآن على الأرض، ويصعب وضع تصوّر محدد الآن، يبيّن إلى أين تمضي الأمور وكيف ستستقر. وتبدو الملامح الأولى وكأن ثمة توافقًا للعودة إلى خطوط تماس ما قبل 2017، وهو أمر مرجّح، إذا ما توقفت المعارك عند الوضع الحالي، ومن دون أن تدخل الفصائل المعارضة مدينة حماة، وقد يكون هذا بداية لجمود آخر يستمر بضع سنوات أخرى، أو لعلّه يكون حالة جديدة ضمن مناخات الصراع الإقليمية الجديدة، وضعف إيران وانشغال روسيا في أوكرانيا، مما قد يفتح الباب لتوافق إقليمي دولي، يؤدي إلى إنجاز حل سياسي يقوم على انتقال سياسي يعيد وحدة سورية، ويفتح أبواب مستقبل جديد. ويرجح هذا الاحتمال في استمرار الروس في الاعتماد على تركيا في سورية أكثر من إيران التي يبدو أنها لن تستسلم بسهولة.
من جانب آخر، ثمة مخاوف إقليمية ودولية وسورية من انهيار النظام، الذي قد ينجم عن استمرار الضغط العسكري والمعنوي عليه، ما يفتح المجال أمام تطورات سياسية غير متوقعة. وستوضح معارك الأيام القليلة القادمة إلى أين تمضي الأحداث، غير أن السيناريو الممكن لن يتوضح قبل أن يتسنّم ترامب الرئاسة الأميركية.
مركز حرمون
—————————–
“ردع العدوان” والطريق إلى دمشق/ أحمد مظهر سعدو
06 ديسمبر 2024
لم تكن العملية العسكرية التي أطلقتها الفصائل العسكرية السورية المعارضة ردّة فعل على ما يجري من خروقات النظام السوري للهدنة وللتفاهم الموقّع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيّب أردوغان (في الخامس من مارس/ آذار 2020)، فقط، بل كانت عملية ردع العدوان، بالإضافة إلى ذلك بمثابة اشتغال وترتيب وتخطيط عسكري وسياسي عُمِل عليه طويلاً وحثيثاً منذ سنوات متتابعة، وصولاً إلى ساعة وتاريخ بدء العملية، ضمن قراءة موضوعية ومتأنية لظروف دولية وإقليمية مواتية، لعلّ من أهمهما الحرب الإسرائيلية على حزب الله وإيران في سورية، وخروج المليشيات (وكذلك السياسات) الإيرانية مهزومة من تلك الحرب، ثمّ متابعة ذلك قصفاً وتنكيلاً من الطيران الإسرائيلي، وأيضاً طيران التحالف الدولي، وهو ما أدّى إلى ابتعاد مليشيات حزب الله، وكذلك المليشيات العراقية (الحشد الشعبي وفصائله)، عن خطّ المجابهة الميدانية مع المعارضة السورية المسلّحة في كلّ من سراقب وريف حلب الغربي.
كما أن التوجّه الدولي الجديد الذي أضحى محسوماً بإخراج المليشيا الإيرانية وتوابعها، من جلّ الجغرافيا السورية، ومنع أي تهديد أمني لإسرائيل، ساهم في إعادة إنتاج ذلك واستغلاله، في أتون هذه اللحظة، لتكون العملية مستفيدةً واقعياً من أجواء التفتّت والتبعثر لدى حلف “المقاومة والممانعة” المزعوم، بقيادة الإيرانيين، ووجود هذه المليشيات التي تم استجلابها من أفغانستان وباكستان وإيران والعراق لتعيد قيامة النظام السوري، بعدما وصل عام 2013 إلى حافّة السقوط والتلاشي.
يضاف إلى ذلك واقع جيش النظام السوري الذي أضحى مهترئاً، وعلاه الصدأ، وانفضّ عنه كثير من أبناء سورية إبّان الحرب الهمجية الاستبدادية التي قام بها ضدّ الشعب السوري المنتفض بثورته منذ أواسط مارس 2011 جيشُ النظام، الذي لم يعد يجد دعماً لا عسكرياً ولا حتى تموينياً، في ظلّ أجواء ومآلات الدولة الفاشلة في سورية، التي أوصل من خلالها الوضع الاقتصادي والحياتي المعيشي إلى الحضيض، وحوّلها نظام بشّار الأسد نموذجَ دولة فاشلة بامتياز، وجعل نسبة الفقر في سورية تصل لعتبة 90%، فأضحى الإنسان السوري غير قادر على تأمين قوت يومه، ولا حتى دوائه، ولا أدوات التدفئة في ظلّ شتاء قارس، أو أيّ من لوازم الحياة البشرية الضرورية والمفترضة لأيّ إنسان على وجه البسيطة.
ضمن هذه الأجواء وهذه البيئة تحرّك ثوار سورية، المنتمون إلى الفصائل العسكرية المنضوية تحت ما يسمّى “الجيش الوطني”، المدعوم تركياً، وأيضاً من بعض العرب، وبالتوافق والتنسيق والاتفاق مع “هيئة تحرير الشام”، التي بدأت هي الأخرى بتغيير خطابها السياسي والأيديولوجي منذ مدّة، وأرسلت كثيراً من الرسائل المباشرة وغير المباشرة للغرب، والأميركيين خاصّة، لتكون مقبولةً أو متقبَّلةً لديهم من خلال الدور الجديد.
تحرّكت قوات الفصائل بإمكانيات وتدريب جيّد، واكتسحت الساحات، وصولاً إلى مدينة حلب، العاصمة الاقتصادية السورية، ودرّة طريق الحرير، وعمق التاريخ العربي والإقليمي، ففرّ عناصر النظام السوري وأدواته كلّها في ليل مظلم، وتابعت هذه الفصائل تقدّمها مسيطرةً على الطريق “M5″، الشريان الحيوي والاقتصادي الأكثر أهمية، وتمكنت من السيطرة على سراقب ومعرّة النعمان، ثمّ خان شيخون، وصولاً إلى الريف الحموي الشمالي، حيث تشهد بوابات مدينة حماة (وما زالت) أشدّ المعارك. وليس بعيداً من إمكانيات التقدّم والنصر المحقق عملياً، تلك الأجواء الإقليمية التي جعلت روسيا غير راضية عن مسارات نظام الأسد وتصرّفاته ومواقفه، بعدما حاولت روسيا كثيراً فتح بوابة موسكو، للولوج في عملية التطبيع بين تركيا والنظام السوري قبل ذلك بسنة، من دون تلبية الطلب من نظام بشّار الأسد بتحريضٍ من الإيرانيين. هذا الأمر دفع الروس إلى غضّ الطرف في البداية عن هذه الهزائم التي تكبّدتها قوات الأسد، ولم تتدخّل روسيا في الأيّام الأولى إلى أن وصلت دمشق إلى حالة الاستغاثة، ثمّ تحاول إيران الضغط نحو دعم نظام الأسد، أو إنقاذه، فراح الطيران الروسي يشارك في المعركة، ومن ثمّ ضرب المدنيين والعسكريين من المعارضة السورية.
من خلال هذه المعطيات، هل يمكن عبر هذه الأجواء الدولية والإقليمية أن يبقى طريق دمشق مفتوحاً أمام الثوار وصولاً إلى دمشق العاصمة وإزالة نظام بشّار الأسد؟ وهل أصبحت الأجواء الدولية والإقليمية، بعد خسارات إيران الكُبرى مواتيةً للانفضاض كلّياً على نظام الأسد، وتركه لمصيره؟… القراءة الموضوعية تقول إنه لم يحن الوقت بعد لذلك كلّه، وما زال هناك متّسع من الوقت أمام نظام الأسد، ومعه إيران، لإعادة ترتيب الأوضاع، ومن ثمّ القبول بالحلّ السياسي، ومنه إعادة تفعيل مسار اللجنة الدستورية المتوقّفة، أو العودة إلى مسار أستانة المتعثّر. لكنّ الدور الوظيفي لنظام الأسد يبدو أنه لم ينته بعد، وما زالت إسرائيل ومعها أميركا ترى أنه خير نظام يحمي ما يسمّى بالأمن القومي الإسرائيلي، وهو (أي نظام آل الأسد) قام بهذا الدور وما زال منذ عام 1974، عندما وقّع حافظ الأسد اتفاق “فضّ الاشتباك” مع إسرائيل، وحفظ أمن الكيان الصهيوني، ولم تسجّل أيُّ اختراقات بينه وبين إسرائيل أبداً. والنظام السوري (الممانع) رغم الاستهدافات للجغرافيا السورية من إسرائيل، ورغم حالات استمرار العدوان على قطاع غزّة وعلى لبنان، ما زال يتمسّك بصمته الاستراتيجي، ويعضّ على الألم، حفاظاً على بقاء نظامه وسلطته ودوره الوظيفي النفعي المصلحي البراغماتي.
لعلّ الأيام المقبلة ما زالت حُبلى بالكثير، وما زالت المعارك بين المعارضة والسلطة الأسدية حمّالة أوجه، وما زال الوقت مبكّراً لأيّ حالات تهدئة أو تفاهمات جديدة، تقودها مسارات أستانة، حتى لو تمّ الاجتماع الثلاثي المُرتقَب في الدوحة بين تركيا وإيران وروسيا، لكنّ الترتيبات النهائية قد تأخذ كثيراً من الوقت، ويبدو أن طريق دمشق لم يُقفَل بعد، لكنّه ليس مفتوحاً على مصراعيه، بينما ما برحت المعارضة السورية، والسوريون المنتفضون على نظام بشّار الأسد، يعتقدون أنه لا بدّ من دمشق، وإن طال الزمن.
العربي الجديد
——————————-
ثمانية أيام تهز سوريا/ محمد برو
2024.12.06
مرت سنوات عدة والملف السوري يتراجع إلى الخلف في حيز الاهتمام الدولي، بل يجري العمل على تمييعه وتسطيحه. لجعل حلم السوريين بالحرية ضربا من ضروب الحماقة والمغامرة المجنونة، بذات الوقت كانت تجري عملية إعادة إنتاج النظام وإعادة تأهيله، كمكافأة له على قتل أحلام الحرية لدى جيل واسع من الشباب العربي.
صحيح أن الحديث عن الإعداد لمعركة تحرير حلب كان يدور منذ أشهر قريبة، بين مؤكد ومشكك، إلا أن الحدث كان مفاجأة كبيرة للقاصي والداني، في سرعة انهيار قوات النظام التي نعلم أصلا أنها شبه قوات مهلهلة، لا تملك زمام أمرها بحضور الميليشيات الإيرانية والقوات الروسية، التي ضمنت حماية النظام وأعاقت انهياره المحتم. وكذلك في مستوى التنسيق والتنظيم والتدريب الذي أظهرته الفصائل المسلحة، التي استعادت مدينة حلب وريفها وهي الآن على مشارف مدينة حماة، ولا يمكن التكهن الى أين ستفضي الأيام القادمة لكن يمكن الحديث عن إرادة دولية بخروج ميليشيات القتل الإيرانية من المشهد السوري بالكلية، أيضا تغير الدور الروسي وتراجع زخمه في دعم وجود بشار الأسد في السلطة لأسباب ذاتية وموضوعية باتت معلومة لدى معظم المتابعين.
بالرغم من الفرح الغامر الذي يجتاح الأغلبية الساحقة من السوريين، إلا أن التوجس والتخوف مما يمكن أن تؤول إليه الأمور تاليا أمر مشروع وله كثير من المسوغات، ويجمل بنا أن نتذكر نقاطاً عدة من شأنها أن تعقلن تفاعلنا مع المشهد المبهج، وتساعدنا على التكيف مع جملة واسعة من احتمالات مآلاته القادمة.
في البدء لا بد أن نتذكر أن السوريين ومنذ 2011 ثقبوا جدار الصمت والخوف وثاروا، وكان فعلهم هذا أقرب للمستحيل، ولا توجد قوة في الأرض يمكن أن تعيدهم إلى ذلك القمقم الذي حطموه، كذلك تصدعت قلعة الأسد الحصينة التي عمل الأسد الأب طوال ثلاثة عقود على تشييدها وتدعيمها وبناء قوتها الرادعة ومستقبلها، لم يبق للأسد الابن تلك القوة التي كان يمتلكها الأسد الأب، ولم تعد حاضنته تؤمن به وتدافع عنه كما كانت حاضنة أبيه، وجميعنا نعلم كم أرهقها وتسبب بمقتل الآلاف من أبنائها بسبب ولائهم لذلك الصبي الأحمق الذي لم يكترث لآلامهم، وكان حريصا كل الحرص على بقاء وإثراء عصابته القريبة وحسب. وهو اليوم أشبه بزاحف ينتظر من يدهسه، سيما أنه يخشى انقلاب مناصريه عليه قبل خشيته من معارضيه. كل هذا يفسر هشاشة قواته وعدم قدرتهم على الدفاع عن مواقعه، وانسحاباتهم العشوائية بعد أن وجدوا أنفسهم فرادى في الميدان، أمام خصم يتمتع بمعنويات عالية وإيمان بالتحرر وتنظيم وبراعة في الأداء العسكري والمدني أقر به المراقبون الدوليون.
في المقابل لا ينبغي أن نتغافل ونحن في زخم الفرح بانقشاع الكابوس الجاثم على صدورنا لعقود أن مقبلات الأيام حبلى بالعديد من الملفات المعقدة والتي سترهق السوريين لسنوات في حل عقدها، ربما ما يزال الوقت مبكرا على مثل هذا الحديث، لكن غياب الحديث عنها وأخذها بالحسبان سيورثنا خيبة نحن في أمس الحاجة لتلافي عقابيلها.
من الساعات الأولى لتحرير حلب لاحظنا بجلاء كم تجهد معظم الفضائيات العربية التي تتحدث بلسان حكوماتها في نقل المشهد والحدث بطريقة استفزازية ومهينة لهذا التحرك البطولي، الذي نأمل أن يكون فاتحة حقيقية لتحرر الشعب السوري من هذه المقتلة المستمرة، ولا توجد لدى السوريين أوهام تجاه الموقف الدولي وموقف الدول العظمى، تلك القوى تركت يد طاغية دمشق تفتك بدماء السوريين طوال عقد ونصف، واكتفت بالقلق والشجب، وهي اليوم ستقف موقفاً متعاطفاً شكليا مع الشعب السوري الذي شب عن الطوق، لكن سيكونون شديدي الحرص على كبح طوفان التحرر وإسقاط الأسد، سيتدخلون بأشكال مختلفة وعبر وسطائهم في إبقاء المشهد قريبا من صيغة لا غالب ولا مغلوب مع إيقاف للحرب الدائرة والدفع لتسويات بطيئة، يكون فيها انتقال السوريين من نظام قمعي الى نظام ديمقراطي حلما بعيد المنال، سيكون الحال السوري أفضل بما لا يقاس مقارنة بما هو عليه طوال السنوات الماضية، لكنه لن يصل إلى ما أراده السوريون وقدموا في سبيله ملايين الضحايا بين شهيد ومعاق ومهجر.
لن يغيب عنا أن الهيئات السياسية للمعارضة السورية ضعيفة ومقسمة ولا تملك قيادة متينة تحظى بثقة وقبول السوريين، وسيكون هناك من يتمسك ببقائها على ما هي عليه، الأمر الذي سيجعل الوصول الى استقرار مأمول أمراً يضارع المحال. هل سيتكرر النموذج العراقي في سوريا المستقبل، أسئلة برسم الأيام المقبلة، مع الإيمان الكبير بمقدرة السوريين وطاقاتهم المبهرة في صناعة غد أفضل.
تلفزيون سوريا
—————————
بضعة أيام فقط صدمت العالم/ أحمد عيشة
2024.12.06
خلال بضعة أيام فقط بدأ أوّلها، في 27 تشرين الثاني الفائت، تمكّن مقاتلو فصائل المعارضة المسلّحة من تحرير مدينة حلب، ورفعوا علم الثورة في قلب المدينة وفي أكثر من مكان، وهي المدينة التي استغرق النظام، بمشاركة روسية وإيرانية مباشرة، أربعة أعوام -من عام 2012 حتى 2016- لإعادة احتلال القسم الذي سيطر عليه الثوار من مدينة حلب، تلك الاستعادة التي كانت بمنزلة لحظة فاصلة في سيطرة الأسد على البلاد.
ما بين احتلال حلب وتدميرها عام 2016 من قبل النظام، واستعادتها (تحريرها) من قبل قوات المعارضة، حدثت تغيرات مهمة، رغم كل الفظائع التي ارتكبها النظام وداعموه وحالة الضعف والتشرذم والتقاتل التي عاشتها قوى المعارضة، وقد استفادت من تلك التغيرات جيداً (ربما كانت أكثر الخيارات دقة) لتلحق بنظام الأسد وميليشيات إيران هزيمة ساحقة، مشكّلةً لحظة فاصلة في تاريخ سوريا وثورتها، لحظة فتحت الباب نحو تجدد الأمل بسوريا حرة كريمة بعد سنوات من اليأس.
ببساطة، كشفت العملية هذه، أن جيش الأسد هو واجهة لا أكثر، فمن كان يحميه هم عشرات الآلاف من الميليشيات الإيرانية، وفي مقدمتها حزب الله، إضافة إلى الحرس الثوري الإيراني، وفي الجوّ، كانت الطائرات الروسية ترتكب الفظائع.
ولم تعد تلك الميليشيات تخوض المعارك، هذه المرة، فقد تعرّض حزب الله (العصب المركزي) لضربة قاسية موجعة خسر فيها معظم قياداته، وما يقدر بنحو (4000) مقاتل، ناهيك عن حالة الضياع التي يعيشها اليوم والتي نتجت عن تلك الضربات، كما فقدت إيران كثيراً من كبار قادتها في سوريا، بسبب الضربات الجوية الإسرائيلية دافعة إيران نحو موقف دفاعي، حيث فشلت تماماً في الرد على ضربات إسرائيل التي طالت عمق أراضيها، كل هذا مهّد لانهيار خطوط دفاع النظام بسرعةٍ لا مثيل لها، لدرجة لا يمكن لأي أحد أن يتوقع سقوط حلب ضمن تلك فترة الأربعة أيام.
أمّا روسيا، التي تصوّر نفسها كقوة عظمى، فلم تتمكّن خلال ثلاثة أعوام تقريباً (منذ شباط 2022) من تحقيق ما تصبو إليه سوى الدمار والتهجير (بلغ عدد المهجرين الأوكران حوالي 8 مليون في الداخل ومثلهم في الخارج)، ولم تستطع أن تفرض حلاً يقرّ بسيطرتها على المساحة التي احتلتها حتى اليوم، وهي 20% من مساحة أوكرانيا، ولا أن تنجح في فرض ممثليها على العالم، حيث لا تزال تُصنّف دولة محتلة.
ونتيجة لذلك سحبت روسيا آلاف القوات من سوريا، وقد باتت تشعر بالإحباط إزاء رفض الأسد التصالح مع الرئيس التركي، نتيجة للضغوط الإيرانية (القوى البرية + الاقتصاد والتمويل).. هذا التصالح أو التقارب الذي يمثل أولوية روسية، كل هذا دفع روسيا إلى التخلي الجزئي عن هذا النظام، وبدت تصريحاتها الرسمية غير مبالية تقريباً بحيث تجبره على قبول الأوامر.
ثمة عامل مهم وأساسي في هذا التقدّم، فمعظم تركيبة قوات المعارضة العسكرية من الشباب بين العشرينيات حتى الأربعينيات من أعمارهم، وفئة العشرينيات، أي أنهم كانوا لحظة انفجار الثورة في عقدهم الأول بين (10 -15) عاماً، تهجّروا أكثر من مرة من بيوتهم، شباب عانوا الأمرّين في مخيمات التهجير من حيث ظروف القهر على المستويات كلها، فرضعوا البأس بعد اليأس، ومنهم من رأى أشلاء أهله تتطاير في السماء بفعل ثلاثي الوحشية (روسيا وإيران والنظام الأسدي)، وقد تميزوا بصلابتهم وتصميمهم على دحر الأسديين وداعميهم، وخاصة الميليشيات الإيرانية التي كانت السبب في كل معاناتهم، إضافة إلى الشباب الذين شاركوا في الثورة منذ بدايتها، ولا يزال حلم الثورة الأول يسكن في قلوبهم وعقولهم.
والعامل الآخر هو التحوّل الإيجابي في أعداد وجاهزية وانضباط المقاتلين، فرغم حالة التشرذم القائمة، فإنّ تلك الفصائل وخاصة هيئة تحرير الشام، قد تلقّوا تدريباً عسكرياً متنوعاً وعالي المستوى، فقد عملوا على إضفاء الطابع المهني على القوات، وأنشؤوا كليات عسكرية للتدريب من قبل ضباط منشقين، تدريب في مختلف صنوف القتال، ومنها استخدام الطائرات المسيرة التي تلعب اليوم دوراً رائداً في ملاحقة قوات النظام والميليشيات، فلم تعد كما كانت مجموعة من المسلحين المتفرقين كما كانوا من قبل على الأقل في معركة اليوم.
يضاف إلى الحالة العسكرية تجربة الحكم المدني المنفتح نسبياً الذي تقوده هيئة تحرير الشام التي أكسبتها خبرة إدارية تتجاوز حالتها كفصيل مؤدلج، كونها تسعى أو تحلم بحكم البلاد، هذا السعي أو الحلم دفعها إلى تجاوز بعض المحددات العقائدية، وخاصة من أجل التخلص من تصنيفها كفصيل إرهابي.
تبقى أمام الفصائل، وخاصة هيئة تحرير الشام، في عملهم البطولي هذا تحديات كبرى، أهمها على الصعيد العسكري، وهو الضربات الجوية، سواء من روسيا أو النظام، بما تسبب من خسائر كبيرة بين المدنيين بغاية خلق نقمة منهم تجاه الفصائل، إضافة إلى سعي الميليشيات الإيرانية إلى إعادة تجميع نفسها، وشنّ هجوم جديد خاصة بعد توسع المساحة المحررة، إضافة إلى ما يمكن أن تقدّمه، وتشارك به ميليشيا “حزب الاتحاد الديمقراطي”، التي تثبت كل مرة أنها رهينة الاستبداد.
والتحدي الآخر هو التفاهم مع حلب، فحلب ثاني أكبر مدينة في سوريا، وهي “مركز” التجارة والاقتصاد، فضلاً عن دورها الحضاري والثقافي والعلمي، لكنها مدينة ذات مزاج خاص، خاصة بعد الضربة الكبرى التي تلقتها في الثمانينيات على يد قوات النظام الأسدي، الضربة التي طالت معظم البيوت فخلقت أثراً سلبياً، عمق المزاج الباحث عن المصلحة الذاتية والابتعاد عن الهمّ العام، و”شوفة” الحال على ريفها الذي شغل أبناؤه كثيراً من الوظائف العامة، ومنها إدلب التي ينظر إليها كثير من الحلبيين على أنها “منطقة” تابعة لحلب.
كان اقتناص اللحظة التي بدأت فيها فصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام لبدء هجومها على مناطق سيطرة الأسد مهمة جداً كاستثمار وإدراك للحالة السياسية الدولية والعسكرية التي يعيشها نظام الأسد وحلفاؤه، وخاصة زبانية إيران، فقد تلقت تلك الميليشيات ضربات موجعة خلال الأشهر الماضية، ضربات طالت حزب الله طولاً وعرضاً، من أصغر مقاتليه حتى زعيمهم الذي كان يهدد بإصبعه وهو يرسم طريق القدس عبر أشلاء السوريين، فكشفت هشاشة هذا التنظيم واختراقه الأمني، إضافة إلى الضربات التي طالت حتى العمق الإيراني، وقد أصبح رده على “عدوّه” الاستراتيجي سخرية بين أتباعه قبل خصومه، إضافة إلى حالة التشتت الروسي بين سوريا وأوكرانيا، كل هذا أفقد نظام الأسد سنداً أساسياً في معركته ضد السوريين، إن لم نقل القوة الأكبر في مواجهتهم وتهجيرهم.
لقد أصبح جيش النظام هيكلاً بلا رأس ولا روح بسبب سنوات من حربه ضد السوريين، إذ لم يعد لدى الجنود أي دافع للقتال دفاعاً عن نظام مجرم وفاسد، وربما يفسر هذا الانهيار السريع في حلب.
انطلقت معركة الخلاص من نظام الأسد والميليشيات الطائفية اللذين يشكّلان العائق الأساسي لحرية وكرامة السوريين، فكان تحرير حلب بدايتها، هذه البداية التي دفعت نحو مناطق أخرى من سوريا، التي يحلم الجميع بالعيش فيها بحرية وكرامة.
ورغم كل التحديات والمخاطر والتخوف من تجربة الهيئة وخاصة فيما يخص الحريات، لكن نافذة الأمل شرّعت أبوابها، ولا بد من العمل على توسيعها بدلاً من التخوف من احتمالات إغلاقها، إنها معركة تستحق أن تخاض.
تلفزيون سوريا
————————-
لماذا ينهار نظام الأسد بهذه السرعة؟/ تشارلز ليستر
فيما لم يكن أحد يلقي بالا كان النظام السوري ينهار من الداخل
06 ديسمبر 2024
على مدار الأسبوع الماضي، أصبح مستقبل نظام بشار الأسد موضع تساؤل مباشر. فقد شن تحالف من الفصائل المسلحة هجوما في شمال سوريا، واستولى على نحو 250 مدينة وبلدة وقرية وسيطر على أكثر من ضعفي مساحة الأراضي التي كان يسيطر عليها. ومن بين تلك المدن، كانت حلب، ثاني أكبر مدن سوريا، وقد سقطت في غضون 24 ساعة، وانهارت خطوط النظام السوري الأمامية الواحدة تلو الأخرى. وسوف تغير هذه التطورات الدراماتيكية قواعد اللعبة، بعد ما يقرب من خمس سنوات من تجميد خطوط السيطرة على الأراضي في جميع أنحاء البلاد.
ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون في ذلك مفاجأة بالكامل. فالأسد لم يعجز فقط عن تحقيق انتصار في حرب بلاده الأهلية، بل إن حكمه كان يضعف منذ بعض الوقت، وبات موقفه أكثر ضعفا من أي وقت مضى.
فعلى مدى سنوات، كان الاعتقاد السائد في سوريا أن الأزمة هناك قد جُمِّدت، وأن الأعمال العدائية باتت من الماضي، وأن نظام الأسد هو المنتصر الحتمي. ونتيجة لذلك، تراجع الاهتمام الدولي، وتوقفت الدبلوماسية الموجهة نحو سوريا تقريبا، وبدأت الحكومات تدريجيا تحول مواردها بعيدا عن السياسات المتعلقة بسوريا نحو تحديات عالمية أخرى. وفي الوقت نفسه، وبينما كانت الأوضاع في سوريا تزداد سوءا، اتخذت الحكومات العربية خطوة لإعادة التواصل الجماعي مع الأسد اعتبارا من عام 2023، ما أدى فعليا إلى تطبيع وضعه في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
أما صناع القرار في الولايات المتحدة، فوجدوا في تولّي الجهات الإقليمية مسؤولية الملف السوري إشارة مشجعة ومصدر ارتياح لهم. وفي الآونة الأخيرة، وبفعل معارضتهم لسياسة الاتحاد الأوروبي الساعية إلى عزل الأسد، واعتقادهم بانتصاره وترسيخ حكمه، انضمت مجموعة من 10 دول أوروبية بقيادة إيطاليا إلى جهود تهدف إلى إعادة التواصل مع نظام الأسد وتقصي سبل دبلوماسية لإعادة اللاجئين إلى سوريا.
كانت جميع هذه التطورات تستند إلى افتراض مفاده أن الأوضاع في سوريا، على الرغم من سوئها، كانت أزمة مجمدة ويمكن احتواؤها، وأن الأسد لم يكن فقط يحافظ على موقعه، بل كان يرسخه أيضا. سوى أن هذا الافتراض كان في غير محله.
فقد كان الاقتصاد السوري في حالة فوضى منذ سنوات وحين تحقق وقف إطلاق النار الذي اتفقت عليه تركيا وروسيا– أي الداعمين الرئيسين لطرفي النزاع– في أوائل عام 2020، كان الدولار الواحد يساوي نحو 1150 ليرة سورية، ولكنه، مع بدء هجوم المعارضة قبل أسبوع، كان يساوي 14750 ليرة سورية. وفي 4 ديسمبر/كانون الأول، بعد أسبوع من تجدد الأعمال العدائية، انهار إلى 17500.
وبدلا من أن يحقق تجميد القتال الاستقرار في البلاد ويمنح المدنيين السوريين بعض الراحة بعد ما يزيد على عقد من الحرب، تفاقمت الأزمة الإنسانية في سوريا منذ التوصل إلى الاتفاق في عام 2020، حيث أفادت الأمم المتحدة بأن ما لا يقل عن 90 في المئة من السوريين يعيشون الآن تحت خط الفقر. وفي حين أن احتضان النظام للجريمة المنظمة يحقق أرباحا لا تقل عن 2.4 مليار دولار سنوياً من بيع نوع واحد فقط من المنشطات الاصطناعية، فإن أيا من تلك الأرباح لم ينعكس إيجابا على حياة الشعب السوري، بل على العكس، خفضت الحكومة دعم الدولة للوقود والغذاء بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
بيد أن الأسد لم يعد لديه من ينقذه من إفلاس الدولة، فالاقتصاد الروسي تضرر بشدة نتيجة حربه في أوكرانيا، وكذلك حال الاقتصاد الإيراني المتدهور.
لم يكن الأمر ليصل إلى هذا الحد بالضرورة، فلو أن الأسد تفاعل بشكل بناء مع الحكومات الإقليمية التي أعادت تطبيع علاقاتها مع سوريا في عام 2023، ولو استجاب لانفتاح تركيا على التطبيع معه في وقت سابق من هذا العام، لكانت سوريا في وضع مختلف تماما اليوم.
ومع تفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد إلى أسوأ حالاتها على الإطلاق، ومع تدني إرادة العالم وقدرته على تقديم المساعدة إلى أسفل درك، تزداد معاناة الشعب السوري بشدة. وإدراكا من السوريين بأن لا أمل في الأفق، فقد عادوا إلى الشوارع مطالبين بسقوط الأسد.
وقبل بضعة أشهر، بدأ مقاتلون سابقون من المعارضة، كانوا قد “تصالحوا” مع الحكومة بموجب اتفاق قبل ست سنوات، في تحدي قوات النظام مرة أخرى، وحققوا بعض الانتصارات.
وفي تلك الأثناء، وسط الانهيار الاقتصادي في سوريا، كان اقتصاد الجريمة المنظمة وإنتاج المخدرات على مستوى صناعي وتهريبها يتغلغل إلى قلب الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد. ولعل نظام الأسد هو الآن، في حقيقة الأمر، أكبر دولة مخدرات في العالم في إنتاج الأمفيتامين المعروف باسم “الكبتاغون”.
تدار تجارة المخدرات من قبل الفرقة الرابعة النخبوية (التي يقودها ماهر الأسد، شقيق بشار)، ولكن شبكتها امتدت إلى كل زاوية تقريبا من الجيش السوري وشبكات الميليشيات الموالية. ونتيجة لذلك، أدت الجريمة المنظمة وسيطرة أمراء الحرب إلى تقويض ما تبقى من تماسك الدولة الأمنية السورية.
وفي الوقت ذاته، صرفت حرب روسيا في أوكرانيا، إلى جانب التوترات الإقليمية التي دفعت إسرائيل إلى مواجهة إيران وشبكاتها من الوكلاء منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، انتباه روسيا وإيران بعيدا عن محاولة ربط الجهات الأمنية السورية ببعضها. كانت كل من روسيا وإيران، إلى جانب “حزب الله” اللبناني، موجودة على الخطوط الأمامية عندما بدأ هجوم المعارضة في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، وقد تكبد الثلاثة خسائر مبكرة.
ولكن مع تمركز الجهات الخارجية على الخطوط الأمامية، كانت قدرة داعمي النظام السوري على منع قواته من الانزلاق إلى الفوضى محدودة للغاية. وما كان لأحد أن يفاجَأ بالهجوم بحد ذاته، إذ كانت خطط ميليشيا “هيئة تحرير الشام” معروفة منذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول، ولكن تركيا تدخلت في محاولة لوقفها، ما دفع روسيا إلى شن عدة أيام من الغارات الجوية المكثفة ردا على ذلك.
لقد أظهرت الأحداث الأخيرة أن استثمار روسيا على مدى ثماني سنوات في إعادة بناء الجيش التابع لنظام الأسد كان له تأثير ضئيل في قدرته على القتال بفعالية تحت الضغط. وعلى الرغم من أن الجهود الروسية قد عززت بعض الكفاءات داخل وحدات عسكرية مختارة مثل الفرقة 25 للمهام الخاصة، فإن القوات المسلحة السورية ككل لا تزال مشتتة وضعيفة التنسيق. وأصيبت الآلة العسكرية للنظام، في معظم نواحيها، بحالة من الركود في السنوات الأخيرة، حيث راحت تتآكل من الداخل وتتفتت من الخارج. ويمكن القول إن شبكة غير متماسكة من الميليشيات الموالية توفر قدرة عسكرية تفوق قدرة الجيش نفسه. أما الإضافة النوعية الوحيدة التي قدمتها روسيا للجيش السوري في السنوات الأخيرة فكانت استخدام الطائرات المسيرة الانتحارية التي تعطي بثا مباشرا، ومع ذلك، فقد تفوقت عليها بشكل كبير وحدة الطائرات المسيرة التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” (كتائب الشاهين)، التي كشفت مؤخرا عن استخدامها مئات الأجهزة ضد مواقع النظام على الخطوط الأمامية والدبابات وقطع المدفعية والقادة العسكريين البارزين خلال الأسبوع الماضي.
ويسلط ذلك الضوء على التباين الكبير على الجانب الآخر من الجبهة، حيث عملت “هيئة تحرير الشام” وجماعات المعارضة المسلحة الأخرى بشكل مكثف منذ عام 2020 لتعزيز قدراتها. وعلى وجه الخصوص، أنشأت “هيئة تحرير الشام” وحدات جديدة بالكامل استطاعت أن تغير مسار المعارك بشكل لافت في الأيام الأخيرة. وكانت وحدة النخبة الخاصة التابعة لها، والمعروفة باسم “العصائب الحمراء”، رأس الحربة في العمليات النهارية، بينما حققت “سرايا الحراري” مكاسب ملحوظة في القتال الليلي طوال أسبوع، حيث يحمل مقاتلوها البالغ عددهم نحو 500 مقاتل أسلحة مزودة بمناظير للرؤية الليلية، وفقا للمجموعة.
وفي حين تمكنت “كتائب الشاهين” من القضاء على أسلحة النظام الثقيلة على طول الخطوط الأمامية. واستخدمت “الهيئة” أيضا صواريخ كروز محلية الصنع، تعادل قوتها التدميرية قوة شاحنة انتحارية متفجرة. ومع أساطيل الطائرات المسيرة الاستطلاعية التي تعمل على مدار الساعة، تفوقت “هيئة تحرير الشام” وحلفاؤها بشكل كامل على الجيش السوري.
واستشرافا للمستقبل، يواجه نظام الأسد معركة شاقة تهدد وجوده نفسه، مع استمرار الهجوم الذي تقوده “هيئة تحرير الشام” بالتقدم جنوبا على محورين على الأقل في محافظة حماة الوسطى. كما أن الافتقار الحاد للنظام للشعبية في جميع أنحاء سوريا والتقدم الكبير للمعارضة ألهم الفصائل المسلحة في جميع أرجاء البلاد للتعبئة والتحرك. ففي درعا جنوبا، وحمص في الوسط، ودير الزور شرقا، تتعرض بلدات النظام وخطوطه الأمامية للتحدي.
وفي آخر مرة واجه فيها الأسد تحديات متزامنة لسيطرته الإقليمية– في عام 2015– كان نظامه على وشك الانهيار، واضطرت روسيا للتدخل عسكريا لإنقاذه. أما اليوم، فليس ثمّة منقذ مماثل.
Foreign Policy
فورين بوليسي
ينشر بموجب اتفاق مع مجلة “فورين بوليسي”
© 2024 Foreign Policy . All rights reserved
hgl
المجلة
—————————
هل تنجح المعارضة السورية في الاحتفاظ بحلب وحماة؟/ عبد الوهاب المرسي
5/12/2024
فبعد ثماني سنوات عادت حلب لتُمثِّل نقطة التحول في مسار الثورة السورية مرة أخرى، بعد الهجوم الذي شنَّته الفصائل المسلحة في إدلب تجاه مناطق سيطرة قوات الحكومة، الذي أطلقت عليه “عملية ردع العدوان”، صباح الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث وصلت في اليوم الثالث إلى تخوم مدينة حلب وسيطرت على ما يقرب من 400 كيلومتر مربع ضمن 56 بلدة وقرية في حلب وإدلب، وفي اليوم التاسع من المعركة كانت قوات المعارضة داخل مدينة حماة لأول مرة.
في ديسمبر/كانون الأول 2016، انسحبت فصائل المعارضة السورية من آخر مناطق سيطرتها داخل محافظة حلب، أمام تقدم قوات الحكومة السورية مع ميليشيات متعددة الجنسيات حليفة لإيران، مدعومة بغطاء جوي روسي.
كانت تلك اللحظة بمنزلة نقطة التحول الرئيسية والفارقة في مسار الثورة السورية التي اندلعت في مارس/آذار عام 2011، فما أعقب ذلك كان جملة من الانسحابات المتتالية لفصائل المعارضة، سواء بالقتال أو بالمصالحة، انتهاء بتحييد المعارضة السورية المسلحة في حيز ضيق بمحافظة إدلب الحدودية مع تركيا، والواقعة في أقصى شمال غرب سوريا، في منطقة لا تتجاوز مساحتها 3000 كم مربع، وذلك بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا بعد محادثات مطولة في مارس/آذار 2020.
كان هذا الانهيار السريع لقوات الأسد بمنزلة مفاجأة لجميع المراقبين، حيث لم يسبق لمعارك الثورة السورية أن حُسمت بهذه السرعة، مما يطرح أسئلة حول قدرة المعارضة على إحكام السيطرة والاحتفاظ بهذه المساحات الواسعة من الأراضي التي حصلت عليها جملة واحدة.
ليس الأمس كاليوم..
معارك حلب التي حُسمت هذه المرة خلال ساعات كانت قد استغرقت في المرة الأولى قرابة 4 سنوات، من التقدم والانحسار المتبادل، في أرياف حلب وشوارع مدينتها، حتى استطاعت قوات الحكومة السورية حسمها لصالحها في ديسمبر/كانون الأول 2016.
دخلت حلب إلى خريطة الصراع المسلح لأول مرة في يوليو/تموز 2012، عندما بدأت فصائل معارضة الهجوم على المدينة انطلاقا من الأرياف المجاورة، وجرت الاشتباكات الأولى ليلة 19 يوليو/تموز حول حي صلاح الدين، جنوب غرب المدينة، بين قوات الأسد وقوات المعارضة التي كانت تُعرف بالجيش السوري الحر.
وفي 30 يوليو/تموز، كانت فصائل الثورة قد استولت على نقطة تفتيش إستراتيجية في بلدة عندان بشمال حلب، وأمّنت بذلك طريقا مباشرا بين المدينة والحدود التركية، مما جعلها تُمثِّل قاعدة مهمة لإمدادات الثوار عقب ذلك.
وبعد سنوات من المراوحة والاستنزاف المتبادل، وفي يوليو/تموز 2016، تمكنت قوات الحكومة السورية من قطع آخر خطوط الإمداد للمعارضة في حلب بدعم هائل وكثيف من الضربات الجوية الروسية. وكانت روسيا قد ألقت بثقلها في الحرب السورية منذ نهاية سبتمبر/أيلول 2015، حيث كان تدخلها بمنزلة عملية إنقاذ حاسمة لقوات الأسد التي كانت على وشك الانهيار، بحسب تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي قال لاحقا: “قبل تدخلنا كانت دمشق ستسقط خلال أسبوعين أو ثلاثة”.
وخلال سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2016، شنَّت قوات المعارضة الموجودة خارج حلب عدة هجمات استهدفت قوات نظام الأسد المحاصرة لأحياء شرق حلب، غير أنها لم تنجح وفشلت في كسر الحصار. ثم كانت النهاية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، حين أطلقت القوات الحكومية حملة عسكرية شرسة سمّتها “عملية فجر النصر”، أسفرت عن سقوط حلب بالكامل تحت سيطرتها في ديسمبر/كانون الأول.
ثمة أسباب ميدانية عديدة يمكن أن تشرح جانبا من أسباب الانهيار السريع لقوات الحكومة السورية، فبحسب تقرير نشرته صحيفة “فاينانشيال تايمز”، فقد سادت حالة من الشعور بالإحباط واليأس في الأوساط المؤيدة للأسد، بعد 13 عاما من اندلاع الحرب، لا سيما بين صفوف الجيش.
كانت سوريا على حافة الانهيار الاقتصادي والمالي منذ سنوات، مثقلة بأعباء الديون غير المسددة للحلفاء الذين خاضوا معها الحرب. ففي 2023 قال حشمت الله فلاحت بيشه، الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، إن سوريا مدينة لإيران بنحو 30 مليار دولار، وأشارت تقارير عديدة إلى أن إيران استغلت المطالبة بهذه الديون الهائلة للضغط على الحكومة السورية في ملفات متعددة مثل منح الإيرانيين جميع الحقوق المماثلة للمواطنين السوريين داخل سوريا.
كما أنه بعد انحسار العمليات العسكرية منذ 2020، لم تتحسن أوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية، حيث استمر انهيار العملة المحلية وازدياد مؤشرات الفقر، وانتشرت مظاهر السخط العام، بما في ذلك بعض مناطق العلويين الداعمة لنظام الأسد، ففي 2023 انطلقت تظاهرات في مناطق سيطرة النظام احتجاجا على تردي الأوضاع الاقتصادية، بدأت من مدينة السويداء جنوبا، ذات الأغلبية الدرزية، وانطلقت لتشمل 7 محافظات بشكل متسارع.
وفي تصريح لـ”فايننشال تايمز”، قال أحد العلويين السوريين: “نحن مستعدون لحماية قُرانا وبلداتنا، لكنني لا أعلم ما إذا كان العلويون سيقاتلون من أجل مدينة حلب، لقد توقف النظام عن إعطائنا أسبابا للاستمرار في دعمها”.
لقد صارت الخدمة الاحتياطية في الجيش خلال السنوات الأخيرة عبئا على المجندين وعلى النظام في آنٍ واحد، نظرا للإرهاق المادي الهائل الناتج عن تمديد مدة الخدمة، مما دفع الجيش السوري في منتصف العام الجاري إلى الإعلان عن بدء خطة لتسريح قوات الاحتياط، على 3 مراحل، تبدأ من يوليو/تموز 2024 وتنتهي في أكتوبر/تشرين الأول 2025، مع تسهيل دفع “بدل مالي” يبلغ نحو 3000 دولار لمَن يُفضِّل عدم الانخراط في الخدمة العسكرية.
يُضاف إلى ما سبق أن كثيرا من مجندي الخدمة الاحتياطية لا يخدمون في مدنهم ولا قراهم، بل يُنقلون إلى مناطق بعيدة للخدمة فيها، مما يقلل من الشعور بالانتماء للمنطقة التي يجب عليهم الدفاع عنها، وهو ما يفسر، جزئيا، حالة الانسحاب السريع لكثير من قوات الأسد دون قتال.
المعارضة أيضا ليست كما كانت
في الإستراتيجية العسكرية، ثمة مبدأ رئيسي هو “وحدة القيادة”، فكفاءة القتال والاستخدام الأمثل للموارد في مسرح العمليات يتطلب قيادة مركزية تحدد التوجهات، وتضبط التحركات، وتنسق بين الوحدات المختلفة بما يخدم الإستراتيجية العامة للحرب. كانت إحدى الثغرات الرئيسية لقتال المعارضة السورية في سنواتها الأولى هو تعدد القيادات وتعارض الخطط بشكل قد يصل إلى التعارض أحيانا.
على سبيل المثال، في معارك حلب الأولى، وقعت حوادث اقتتال بين الفصائل، أبرزها هجوم فصائل “حركة نور الدين الزنكي” و”كتائب أبو عمارة” في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 على مقاتلي “تجمع فاستقم كما أمرت”، الذي يضم مقاتلين من أبناء مدينة حلب، وتمكنت “الزنكي” و”أبو عمارة” من السيطرة على جميع مقرات التجمع في القسم الشرقي من مدينة حلب، كان هذا يجري داخل أحياء حلب الشرقية المحاصرة بينما تدور معارك ضارية في غرب حلب لمحاولة فك حصار القوات الحكومية المضروب عليها. وفي الأثناء ذاتها، انشغلت فصائل ريف حماة وإدلب بصراعات دامية خاضتها ضد فصيل “جند الأقصى” المقرب من تنظيم الدولة “داعش”.
هذه المرة عادت الفصائل بوجه غير الذي ذهبت به، فدخلت فصائل إدلب الحرب كما لو كانت جيشا نظاميا، حيث بدا الانضباط والتنسيق الواضح في خطوط سير العمليات العسكرية، من خلال قيادة موحدة تخضع لما يسمى “إدارة العمليات العسكرية”.
كانت الفصائل المتبقية في إدلب قد أسست في 2019 “غرفة عمليات الفتح المبين” لتكون مسؤولة عن تنسيق العمليات في شمال سوريا، وفي منتصف عام 2020، اتخذت “هيئة تحرير الشام” قرارا بتوحيد الجهد العسكري، ومنع تشكيل أي فصيل عسكري أو غرفة عمليات أخرى في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وحصرت الأعمال العسكرية في “غرفة عمليات الفتح المبين”. لم تكن عملية توحيد الجهد العسكري سهلة، بل لاقت معارضة من أطراف مختلفة، لكن الهيئة استطاعت حسمها بشكل ملحوظ.
وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ظهرت “إدارة العمليات العسكرية” لتضم كلًّا من هيئة تحرير الشام، وحركة أحرار الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، ومجموعات من الحزب التركستاني، وهي التي دشنت معركة “ردع العدوان”.
كتيبة شاهين السورية منصة اكس – @Levant_24_
كتائب شاهين التابعة لفصائل المعارضة السورية والمعنية بالطيران المسيّر (مواقع التواصل الاجتماعي)
بيد أن التحولات الإيجابية التي جرت في جانب الفصائل المسلحة لم تقتصر على نمط القيادة فقط، بل تطورت أيضا القدرات العسكرية بشكل لافت من حيث مستويات التسليح والأنماط التكتيكية. على وجه الخصوص ظهرت الطائرات المسيرة المصنعة محليا من طراز “شاهين” منذ اليوم الأول لانطلاق المعركة، كما نشرت “إدارة العمليات العسكرية” مقطعا مصورا يُظهر مسيرات أخرى تحمل اسم “سرايا العقاب”.
وأعطت هذا المسيرات فرصة لقوات المعارضة لتنفيذ عدة عمليات نوعية، منها استهداف رئيس فرع الأمن العسكري في مدينة حماة يوم الأحد الأول من ديسمبر/كانون الأول الجاري، واستهداف تجمع كبير لضباط الحكومة السورية في قمة جبل زين العابدين بشمال حماة، بحسب بيانات غرفة العمليات.
فضلا عن ذلك، تمكنت المعارضة من السيطرة على مخازن أسلحة ضخمة تضم أسلحة نوعية مثل الصواريخ المضادة للدروع الموجهة آليا، ومطارات عسكرية، وقذائف صاروخية، وراجمات صواريخ، وما يزيد على 100 دبابة، على إثر السيطرة على مواقع عسكرية مهمة، أبرزها مطار حلب العسكري، ومطار كويرس، والفوج 46، والفوج 80 دفاع جوي.
وشملت المعدات المضبوطة في قاعدة كويرس العسكرية مروحية من طراز “مي-8″، وطائرة تدريب قتالية من طراز “إل-39″، كما أشارت تقارير إلى أن منظومة صواريخ مضادة للطائرات من طراز “إس-200″، إلى جانب أنظمة الدفاع الجوي “ستريلا-10” و”بانتسير-إس1″، أصبحت بحوزة المعارضة.
المعادلة الداخلية وحدها لا تكفي!
منذ 2013، وربما قبل ذلك، لم تعد الثورة السورية شأنا سوريا داخليا خالصا. ولذا فإن تقييم معادلة القدرات والاستعدادات العسكرية والإستراتيجية بين قوات الأسد وقوات المعارضة لا يكفي لاستشراف مستقبل المعارك الجارية.
ورغم أن أطرافا عدة تحمل مصالح متباينة داخل سوريا، وبصفة خاصة إيران التي أطلق مرشدها، علي خامنئي، فتاوى بالجهاد في سوريا، قائلا: “نحن في سوريا نقاتل ضد الكفر”، مما أعطى لبلاده القدرة على التعبئة الأيديولوجية لعشرات الآلاف من المقاتلين الشيعة، من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وغيرها، الذين يقاتلون دعما لقوات الأسد.
كذلك تركيا، التي يسود اعتقاد لدى قادتها السياسيين أن توسيع مساحات سيطرة المعارضة بات هو الطريق الوحيد لضمان العودة الطوعية لمزيد من اللاجئين السوريين، الذي يُشكِّلون عبئا كبيرا على التوازنات السياسية الداخلية في تركيا، بعد تعثر محاولات التطبيع مع بشار الأسد بوساطة روسية.
BLOGS الأسد مع الطيران الروسي
صورة أرشيفية للرئيس السوري بشار الأسد مع جنود روس (رويترز)
لكن خبرة 13 عاما من الثورة في سوريا تكشف أن الدعم الإيراني لم يمنع قوات المعارضة، في أوضاع أصعب مما هي فيه الآن، من أن تصل إلى مشارف دمشق وأن تسيطر على قرابة 80% من مساحة البلاد، غير أن طرفا آخر كان تدخله حاسما، وهو روسيا.
عندما نجحت القوات الجوية الروسية في دعم استعادة حلب في ديسمبر/كانون الأول 2016، أظهرت فعالية حاسمة في سوريا، وعززت دورها باعتبارها الفاعل الخارجي الأكثر قدرة على توجيه موازين القوى والتأثير في مسار الحرب، متغلبة على جهات فاعلة أخرى مثل الولايات المتحدة، التي ركزت بشكل ضيق على مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، وتركيا، التي كانت مشغولة آنذاك باحتواء القوات الكردية بالقرب من حدودها مع سوريا.
وبالتالي، فإن خسارة حلب، بحسب وصف مجلة “فورين بوليسي”، لا تُمثِّل نكسة عسكرية للحكومة السورية فحسب، بل تُمثِّل تحديا رمزيا لادعاء روسيا بأنها قادرة على تشكيل مستقبل سوريا. ففي حين ظل حضور القوات الجوية الروسية في سوريا متسقا نسبيا مع مستوياته في عام 2018، لكن إعادة انتشار بعض القوات البرية في العامين الماضيين لتأمين مواقع إستراتيجية لروسيا مثل طرطوس واللاذقية قلَّلت من مرونتها في التعامل مع التهديدات الجديدة بشكل فعال.
كشف رد روسيا على هجوم المعارضة عن تعثر عملياتي ضخم. فعندما بدأ الهجوم على حلب، لم تترك سرعة ومفاجأة التقدم لموسكو سوى القليل من الوقت لتنظيم الدعم الجوي الفعال، وبحلول الوقت الذي اقتربت فيه فصائل المعارضة من حماة، تمكنت القوات الروسية من شن حملة جوية أكثر تنسيقا، حيث ضربت الطائرات الروسية والسورية مواقع المعارضة في بعض أنحاء حماة وحلب وإدلب.
بيد أن ثمة ما هو أخطر مما جرى في حلب، وهو تحديدا ما يجري الآن من تقدم قوات المعارضة داخل حماة، حيث تُعقِّد سيطرة المعارضة على حماة الموقف الإستراتيجي لروسيا بشكل بالغ، فقد يؤدي ذلك إلى عزل المحافظات الساحلية، حيث تقع مدينة حماة على بُعد نحو 80 كيلومترا، وتعمل تقاطعا رئيسيا يربط الداخل بساحل البحر الأبيض المتوسط.
وفي الوقت نفسه، فإن الدفع نحو مدينة حمص، على بُعد نحو 110 كيلومتر من اللاذقية و80 كيلومترا من طرطوس، من شأنه أن يقطع الرابط البري لقواعد روسيا على البحر الأبيض المتوسط في اللاذقية وطرطوس عن قواتها المحدودة في وسط سوريا وشرقها. وقد يتدهور الوضع أكثر إذا أعادت المعارضة تنظيم صفوفها في جنوب سوريا، حيث تحتفظ روسيا بوجود عسكري هناك، وخاصة في محافظتي القنيطرة ودرعا بالقرب من مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل.
بيد أن تقريرا نشره معهد دراسات الحرب في واشنطن، في 3 ديسمبر/كانون الأول الجاري، قال إن صورا للأقمار الصناعية كشفت أن روسيا قامت بسحب كامل أسطولها البحري الموجود في قاعدة “طرطوس”، وأظهرت الصور إخلاء ثلاث فرقاطات حربية وغواصة وسفينتين مساعدتين من القاعدة البحرية، وهو ما يعادل جميع السفن الروسية التي كانت متمركزة في طرطوس، بحسب التقرير.
وفي حين تتجه بعض التحليلات إلى أن ذلك قد يشير إلى عدم نية موسكو إرسال تعزيزات كبيرة لدعم بشار الأسد، ترى تحليلات أخرى أن هذا التحرك عائد إلى تدريبات عسكرية روسية تم التخطيط لها في وقت مسبق، وأن هذا لا يعني تخلٍّ روسي عن المكتسبات التي حققتها. وعلى كل حال، ستبقى الحرب على أوكرانيا هي أولوية موسكو في الوقت الراهن، إذ تأمل روسيا أن تصل إلى تسوية قريبة لها مع دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب للبيت الأبيض، وتسعى موسكو خلال الشهور القادمة لتعزير وضعيتها في أوكرانيا إلى أقصى أفضلية ممكنة استعدادا لبدء المفاوضات المحتملة.
وإجمالا، تبدو جميع الظروف المحلية والإقليمية في صالح المعارضة السورية أكثر مما كانت عليه من قبل، فحزب الله يلملم جراحه على إثر حرب طويلة استنزفت الكثير من قدراته ووقف إطلاق نار هش ينتظر شرارة عودة القتال مرة أخرى، وإيران أيضا ليست في موقف جيد، حيث تتعرض إستراتيجيتها العسكرية ونفوذها الإقليمي لأصعب اختبار منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية في 1988.
فلم تنتهِ بعد تسويات حرب “طوفان الأقصى”، وليس معروفا على وجه الدقة هل ستسمح الظروف الإستراتيجية لإسرائيل باستهداف البرنامج النووي الإيراني كما هدد نتنياهو، وإلى أي مدى سوف يُصعِّد ترامب ضغوطه على إيران للتنازل عن البرنامج النووي الذي يبدو أنه لم يعد رفاهية لإيران يمكنها التخلي عنه بسهولة، بل قد يكون أداتها الوحيدة لتحسين ميزان الردع مع إسرائيل.
إلى أين يمكن أن تسير المعركة؟
تطوير الهجوم ليس قرارا إيجابيا دوما، فمن الأخطاء الكلاسيكية في الحروب توسيع مسرح العمليات وتصعيد الأهداف العسكرية بما يفوق قدرة القوات المهاجمة على إحكام السيطرة، أو بما يُعقِّد مسار الحرب بحيث لا يسمح للطرفين بالتفاوض، خاصة إذا لم يكن الطرف المهاجم قادرا على الانقضاض على مراكز ثقل الخصم وشل قدراته بشكل كامل. ومع ذلك، ففي حالات أخرى يُعطي تطوير الهجوم ميزة إضافية، حيث يقلل من خيارات الخصم، ويضعف من الروح المعنوية لجنوده وقواته، مما يسرّع من الانهيارات المتتالية.
وسيكون وصول المعارضة إلى حماة وحمص اختبارا جادا لمدى استعداد روسيا لتقديم الدعم لبشار الأسد أو التخلي عنه، وفي حال قررت روسيا إثبات قدرتها على الاحتفاظ بالدور الحاسم في سوريا، فإن أمام المعارضة أوقاتا صعبة ستتعرض فيها لهجمات انتقامية قد تصعب على فصائل المعارضة من التوسع، فضلا عن الحفاظ على بعض المناطق في حال قررت موسكو شن هجمات مثيلة لما قامت به سابقا من الاستهداف الواسع للمدنيين والبنى التحتية.
لكن هذا المعطى رهين استعداد فصائل المعارضة لمثل هذه الهجمات في ظل الخبرات التي راكمتها سابقا، خاصة بعد سيطرتها على عدد من المنظومات الدفاعية الجوية.
أما إذا قررت روسيا من تلقاء نفسها التخلي عن دعم بشار الأسد، أو على الأقل الاكتفاء بضمان سلامة قواعدها العسكرية، أو استطاعت تركيا الوصول معها إلى اتفاق تهدئة جديد على أرضية مختلفة تكون فيها مساحات أراضي المعارضة أكبر من ذي قبل، فستكون ثمة فرصة إستراتيجية هائلة للثورة السورية للاحتفاظ بوضعية إستراتيجية متقدمة.
إذن مرة أخرى، تدور الدائرة وتعود الحرب في سوريا لسيرتها الأولى، حيث تبدو المعادلة الداخلية محسومة لصالح المعارضة حتى وإن طال الوقت، أما العنصر الخارجي فهو بالتأكيد أكثر قدرة من النظام السوري على حسم مسار الحرب، وتحديد وجهتها النهائية.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
————————-
الحرب السورية التي لم تتوقف أبداً/ راغب جابر
الجمعة، ٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤
كأن الحرب السورية تندلع الآن مستعيدة ذكريات بداياتهاعام 2011، وما وصلت إليه البلاد من انهيارات سياسية واقتصادية واجتماعية وتعقيدات هائلة منعت التوصل إلى تسوية سياسية توقف الانحدار الحاد لمستويات الحياة التي وصلت بعض المناطق والشرائح فيها إلى حد الجوع الفعلي، فيما لا تظهر أي بادرة حقيقية تعيد الأمل بنهوضها في وقت قريب.
توقفت الحرب في سوريا بعد عشرة أعوام من القتال شهدت الكثير من العنف والقتل والتدمير والتهجير بعدما استقدمت الكثير من المقاتلين من كل أنحاء العالم، منهم من قاتلوا إلى جانب الجيش السوري ومنهم من قاتلوا في صفوف المعارضة. سنة وشيعة، أتوا من كل البلدان العربية، ومن أوروبا والشيشان وافغانستان وباكستان وداغستان وغيرها الكثير من بلدان العالم. تذابح الجميع عشر سنوات دمرت خلالها مدن وقرى وأحياء ومصانع ومؤسسات وطرق ومستشفيات ومرافق عامة واستهلكت مخازن السلاح، والأخطر من كل ذلك انكشفت البلاد دفاعياً في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية شبه اليومية وأخرجت من الصراع الذي فتح منذ أكثر من سنة على جبهتي غزة ولبنان.
لم يكن السلام على أنقاض الحرب في سوريا سلاماً حقيقياً، كان أشبه بهدنة طويلة منذ 2020، توقفت الحرب لكن خطوط التماس لم تلغَ ولم يعد المهجرون والمهاجرون، ولم تبدأ دورة الحياة فعلياً. تجمع المعارضون في إدلب وأريافها وفي أرياف حلب وفي بعض الحسكة والقامشلي حيث الثقل الكردي المطالب بإدارة ذاتية.
بقيت تركيا متحكمة بمناطق الشمال عبر ميليشيات تابعة مباشرة لها أو مرتبطة بها بشكل أو بآخر، وبقيت أميركا في الشرق وعند مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية وقرب حقول النفط التي يقال إنها تحتوي مخزونات كبيرة، فيما أقامت روسيا قاعدة كبيرة في حميميم في الساحل وتغلغلت إيران في مفاصل كثيرة، مباشرة عبر مستشاريها العسكريين وغير مباشرة عبر الميليشيات التي استقدمتها من بلدان عديدة قريبة وبعيدة.
تتشعب كثيراً أسباب الحرب السورية من سياسية واقتصادية وطائفية، وكل طرف يملك أسبابه، لكن النتيجة الاكيدة هي أن سوريا دُمّرت وخرجت من الصراع العربي الإسرائيلي بالقوة بعدما رفضت الخروج بالسياسة والدبلوماسية والتسويات.
اليوم يدور فصل جديد من فصول الحرب السورية. فصل يشبه مرحلة من مراحل الحرب الأولى عندما وصلت التنظيمات المتطرفة إلى العاصمة دمشق بعدما سيطرت على درعا وحلب وحمص وإدلب والرقة والبادية وعلى الكثير من المدن والبلدات في مختلف المحافظات، حتى الساحلية منها في اللاذقية وطرطوس وكسب. وقتها لم يسمح العالم لهذه التنظيمات التي صنفت إرهابية بعد مجازر عرقية وطائفية ارتكبتها، لا سيما تنظيم “داعش”، بالسيطرة على البلاد، فأوقفت أميركا دعمها بعدما حصل رئيسها أوباما على إزالة الأسلحة الكيماوية السورية المهددة لإسرائيل، وفرمل الغرب اندفاعته ضد النظام السوري، ودخلت روسيا وإيران على خط دعم الرئيس السوري وجيشه الذي أعاد قلب المعادلة دافعاً التنظيمات المتطرفة إلى الحدود التركية لتفرض الوقائع الميدانية خطوط تماس داخل البلد الذي أصبح بلدين: بلد للمعارضة وبلد للنظام.
الحرب الآن هي تكملة للحرب التي اندلعت عام 2011، انتهت الهدنة واستؤنف القتال، لكنه قتال في ظروف دولية وإقليمية مختلفة عما كانت عليه قبل 13 عاماً. سوريا الرسمية تخضع لعقوبات أميركية ودولية ولحصار خانق بموجب “قانون قيصر” الأميركي، وتمنع عنها المساعدات، واقترابها من الدول العربية يراوح مكانه بسبب الوجود الإيراني على أراضيها، وحلفاؤها يعانون: روسيا المنهمكة في حربها على أوكرانيا، وإيران في حربها مع إسرائيل (وحليفتها أميركا)، فيما لم تعد تعوّل كثيراً على “حزب الله” المنهك في حربه الدامية مع إسرائيل.
هل فاجأت الفصائل المتطرفة المسلحة الحكومة السورية ومخابراتها والقوات الروسية في سوريا؟ إذا كان الجواب نعم فالامر يدعو إلى الريبة، وإذا كان لا فالأمر أكثر إثارة للظن.
ما زالت المعركة في أولها، المرحلة الاولى من الحرب استمرت عشر سنوات، والمرحلة الحالية مرشحة لأن تطول أيضاً، فلا أحد من الطرفين قادر على حسمها سريعاً ولا روسيا ستتدخل بقوة ولا إيران قادرة على ذلك بعد الضربات الأخيرة التي تلقتها وتراجع هيبتها ونفوذها، ولا تركيا ستسمح بهزيمة ميليشياتها وهي قد وجدت فرصة جديدة لزيادة مساحة نفوذها في البلد المجاور آملة بأن تطرد نحو 3 ملايين لاجئ سوري إلى الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة المتجددة.
هي حرب داخلية، لكنها في المنظور الأوسع، جزء من حرب أوسع، ليس على سوريا، بل على المنطقة بأسرها من أجل إعادة رسم خرائطها السياسية والاستراتيجية وفي طليعتها إعادة ايران إلى حدودها بعدما تخطت الخطوط التي كان الغرب يعتقد أنها لن تتخطاها. لكن الصورة حتى الآن تبدو غامضة والوقائع على الأرض لم تكن يوماً ثابتة ولن تكون، رمل سوريا دائم الحركة، وإذا خرجت إيران تدخل تركيا، أو تتقاسمان البلاد، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحلّ بسوريا.
هذه الحرب هي مأساة جديدة تضاف إلى مآسي السوريين، من بقي منهم في بلده في ظل أوضاع اقتصادية معقدة وانهيار شبه تام للخدمات الأساسية ومن تشتت في تركيا ولبنان والأردن وفي أربع جهات الأرض، ولن يكون لهم خلاص منها إلا بحل سياسي يقدمون تنازلات متبادلة للوصول إليه ولو بمساعدة خارجية، بدل اللجوء إلى القتال الذي لن ينتصر فيه أحد مهما حقق من إنجازات على الأرض.
النهار العربي
—————————
هل ثمّة مفاجأة في ما جرى في #سوريا؟/ سمير التقي
الجمعة، ٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤
هكذا جاء دورك سوريا. ومرة أخرى، يعتصر التاريخ الزمن في لحظات. ويتراكض العالم لاهثاً وراء أحداثه، كي يتدارك البعض مصالحه، أو يصطاد البعض فرصاً جديدة.
لطالما كانت الرسالة الخالدة من دمشق، أن كل شيء على ما يرام! وما هي إلّا سنوات وتنهض البلاد من جديد. لكن، وكما في “قصة موت معلن” لماركيز، كان احتمال انفجار الوضع ماثلاً يتجوّل بيننا علناً كل لحظة، لكنّ الكثيرين أشاحوا بوجوههم عنه.
الجمود القلق في هذا الإقليم العاصف مستحيل الدوام. والاصطفاف الجديد للنجوم صار ساطعاً، وتحوّلات موازين ومصائر الصراع صارت حاسمة.
وكما في الفيزياء ثمّة قوانين وأحكام للتاريخ! أنّه لا يسمح بالفراغ ولا يرحم الضعف البنيوي.
بعد أوكرانيا انتهى التفويض الأميركي لروسيا، بل تداعى مع الحرب الأوكرانية المشروع الأوراسي الروسي لنقل الطاقة لأوروبا عبر جيهان في تركيا، هذا المشروع الذي كان الجوكر الأهمّ في جعبة روسيا لإغرائها ببديل لعلاقتها بالأطلسي وبأوروبا.
وعندما قرّرت أوروبا أن ترتجف برداً بدلاً من شراء النفط الروسي، مات المشروع الأوراسي في أرضه، و”خربت البيعة”.
لعقود، كان السبب الرئيسي لحضور الميليشيات الإيرانية في سوريا، هو تعزيز دور إيران في محاصصتها مع القوى الإقليمية في الحرب الباردة. لكن عندما تحولت هذه الحرب الباردة لحرب ساخنة وصارت طوفاناً أو بركاناً، تداعى تقسيم العمل الإيراني الإسرائيلي، وتداعى معه قبول الغرب بالدور الإقليمي الوظيفي لإيران، لتصبح هذه الأذرع الخطر الاستراتيجي الماثل أمام الغرب وأميركا وإسرائيل. فبعد انكسار رأس حربتها الاستراتيجية في لبنان تداعى موقفها الاستراتيجي. بل، وبعد انكشاف هشاشة أذرعها، صار مشكوكاً جداً، حتى لدى المتشدّدين في طهران، أن تستمرّ بلادهم في توظيف هذه المقدّرات الهائلة للإنفاق على أذرعها الإقليمية. فالضعف الذي بدا في الموقف الإستراتيجي الإيراني كان مردّه بحسب هذه الأوساط، الاتكال المفرط لا على القدرة الذاتية.
وبعد، في لعبة الكراسي الموسيقية الجارية في الإقليم، قرّرت تركيا دخول التحدّي. فليست إسرائيل وحدها من يجيد تدوير الكراسي.
إذاً، كان استحقاقاً معلناً وساطعاً، ويعرفه الجميع، ولكن أغلبهم فضّل الكسل العقلي! بل ثبت تماماً أن جذور إيران في سوريا، لا تعدو أن تكون جذوراً في الرمال؛ فلا التشيّع يلصق، ولا الفساد والكبتاغون يلصق. وما إن وهن حضورها في شمال سوريا، حتى انكشف وهن البنية الاستراتيجية التي تمسك بالأرض في شمال البلاد.
باقتحام قوات المعارضة محافظة إدلب وحلب ومن بعدها حماة، تنقلب المعادلة. إذ تداعى في ساعات، ما تطلب ستّ سنوات من الحصار والدعم الروسي والإيراني لاحتلال حلب عام 2016. لكن هذه المرة إيران منهكة وروسيا كذلك. بل أجزم أن حلب وإدلب وحماة لا يمكن أن تعود لكنف النظم في أيّ مدى منظور.
والآن، تقترب قوات المعارضة من تخوم اللاذقية والفرات، لتنتصب أمامها الخطوط الحمراء، بل تنتصب الجدران الإستراتيجية الوطنية والإقليمية والدولية! وتتركز على محور حماة الاستحقاقات والتحديات الكبرى… فعندها تصطدم قوات المعارضة بمشارف حشود قوات دمشق واستحكاماتها. بل إنني أرجّح ألّا تتوغّل قوات المعارضة بعيداً في وسط سوريا. أقول ذلك بسبب جملة من الحقائق، أقلّها أهمية، حقيقة أنّ خطوط إمدادها قد تطاولت بشكل خطير، وتبعثرت قدراتها ومقدراتها العسكرية. ثمّ أنّ ثمة حاجة لهذه القوات لأن ترسخ استحكاماتها وتمسك بالأرض. كل هذا يبدو بسيطاً أمام المخاطر المحدقة الكبرى والتي قد تلجم اندفاعة قوات المعارضة وتوقفها دون وسط سوريا.
فمع اقترابها من خطوط التماس الديموغرافي والطائفي، ومع اقترابها من الحواضن المغايرة المختلفة، ستلاقي معارضة المجتمعات الفزعة والمسلحة. وستجد قوات المعارضة نفسها أمام أخطر تحد كارثي ووجودي، سيقلب ظهر المجن ويوغل بسوريا نحو جحيم أعمق وأفظع. ذلك أنّ أيّ حادثة شنيعة، مقصودة أو غير مقصودة أو مصطنعة، ستقلب كل الموازين.
على المحور الشرقي، يتفرد “الجيش الوطني الحر” الذي تدعمه تركيا بالتعاطي مباشرة مع القوات الكردية. وهنا أيضاً لا أتصوّر أن تذهب هذه القوات بعيداً في حملتها، ذلك أنّ كلّاً من تركيا والولايات المتحدة، يسير على خطّ رفيع من الخيارات الصعبة؛ فكلاهما محكوم بحتمية التوفيق الحرج بين خيارات صعبة ودقيقة.
سيكون على الولايات المتحدة التوفيق بين هواجس تركيا على أمنها القومي، وبين تحالفها مع القوات الكردية. بل، رغم ما يجري الحديث عنه من احتمالات انسحاب ترامب من شرق الفرات، ستسعى إدارة ترامب لتجنّب الوقوع في فخّ أفغانستان الذي وقعت فيه القوات الأميركية. وأستطيع الجزم أنّ إدارة ترامب لن تسمح بأن تتّهم بالتخلّي عن حلفائها كما فعلت إدارة بايدن. من جهتها سيترتب على تركيا تمرير طموحاتها بعزل التنظيمات الكردية دون الاحتكاك المباشر بألويات أميركا.
لذلك سيكون على قوات الجيش الوطني أن تسير بدورها على خيط رفيع من الحذر.
وأستطيع في كلّ الأحوال، التنبّؤ أن يتمّ التوافق على خطوط تماس جديدة بين فصائل المعارضة الموالية لتركيا والقوات الكردية.
على محور الساحل الشمالي، تقف قوات المعارضة منذ سنوات على مشارف تمركز القوات الروسية في اللاذقية، لتبعد ما يزيد قليلاً عن 40 كيلومتراً من مطار حميميم. ولسنوات كانت فصائل المعارضة ترسل مسيّرات فوق هذا المطار كلّ بضعة أيام لمجرّد مشاغلة وإرباك القوات الروسية.
وبالنظر إلى ذات الخطوط الحمراء التي أسلفناها، لا أتصور إمكانية أن تنساق قوات المحور، بل أرجّح، أن يبقى تقدّمها محدوداً بمحاور ضيقة. محاور ضيّقة بهدف اكتساب مواقع استراتيجية وليس بهدف الاحتلال.
يبقى السؤال الأهم. وماذا عن الجنوب؟
لو افترضنا أنّ المعارضة أحجمت عن التوغّل بعيداً وسط سوريا، ماذا سيكون مصير الجنوب؟
ثمّة ثلاثة سيناريوهات. أوّلها عودة التدخّلات الأجنبية وانفجار العنف الطائفي ويدعمه مزيد من التورط الإيراني الروسي وتعود البلاد لجولة جديدة تغرقها في هذا الثقب الأسود.
ثانيها أن يستتبّ وقف إطلاق النار على خطوط التماس الجديدة وتبقى حالة التقسيم لفترة وتنتهي بحلّ شبيه بالحلّ في البوسنة.
ثالثاً، أن يترافق التمترس على خطوط التماس بتحوّل في الموقف في دمشق، والتدرّج نحو مخرج سياسي تفاوضي، ليمكن بعد فترة عسيرة، استعادة السلم الأهلي والوطنية السورية.
فهل يفاجِئ السوريّون العالم مرّة ثانية؟
النهار العربي
——————————
هل تصير تركيا مركزا للتفاوض على مستقبل سوريا؟/ بلال التليدي
الجمعة، ٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤
يطرح هجوم المعارضة السورية المفاجئ على النظام السوري أسئلة كثيرة، تتعلق وبالإنجاز الميداني السريع، وبالتهاوي السريع للجيش السوري وحلفائه، وأيضا بالحركية النشطة للفعل الدبلوماسي بين قوى الإقليم.
الخلفية التاريخية تقدم صورة لتداول السيطرة على المناطق السورية، وبخاصة إدلب وحلب، بين الجيش السوري وحلفائه وبين المعارضة السورية، عبر منعطفات متعددة ما بين 2012 و2016، أي إلى أن تم حسم معركة حلب لصالح النظام السوري وحلفائه عام 2016.
تكوين المعارضة السورية، تحضر فيه أبعاد عدة: البعد الوطني، الذي يستحضر قضية الحرية والديمقراطية في مواجهة نظام مستبد لم يبق هامشا ولو محدودا للحرية. والبعد الدولي، وصراع الأجندات الدولية والإقليمية، فهناك ميليشيات تابعة إيران (حزب الله) دفعت بها إيران في سياق رهاناتها الاستراتيجية في المنطقة، في مقابل جماعات جهادية، تم تسفير مجنديها (أكثرهم من الشباب) من مختلف الدول العربية، في سياق أجندة أمريكية، أو تم إطلاق آلاف منهم من سجون العراق وغيرها وتجميعهم في سوريا، وفي هذا السياق، يمكن أن ندرج جبهة النصرة التي كانت امتدادا لتنظيم القاعدة في المنطقة، إلى أن تحول ولاؤها مع قائدها أبو محمد الجولاني إلى داعش، ثم إلى القاعدة مرة أخرى، قبل أن يعلن المسافة عن التنظيمين معا تحت مسمى جديد هو هيئة تحرير الشام. وهناك إلى جانب ذلك، جماعات أخرى، بسبب من واقع الاضطهاد الذي عاشته في المنطقة لما يزيد عن عقد من الزمن، تقاطعت مصالحها مع تركيا، ومن أهمها شباب الأحياء الذين عاشوا ظروف الاضطهاد من قبل النظام السوري بعيد إعادة سيطرته على المناطق التي حررتها المعارضة السورية بعيد الحراك السلمي، ثم جماعة الإخوان المسلمون الفرع السوري، دون أن نغفل جماعات أخرى، تنتمي إلى القوات السورية الديمقراطية ذات الخلفية الكردية التي تتنازع هي الأخرى مناطق النفوذ في عدد من مناطق سوريا، وأيضا ضباط منشقين عن الجيش السوري، شكلوا «الجيش السوري الحر.
البعض يعتقد أن الاستنزاف الذي عرفته قوات حزب الله في لبنان، واسترجاعه لجزء كبير من قواته في سوريا للبنان، وانشغال روسيا بالحرب على أوكرانيا، فسر تهاوي الجيش السوري وحلفائه في منطقة إدلب وحلب وحتى قرى شرق حماة، لكن، هذا التفسير، يغطي جانبا واحدا من الحقيقة، ولا يفسر القوة والجاهزية والاستثمار السياسي الذكي للزمن لمباشرة المعارضة السورية لهذا الهجوم الواسع. فالشكل العسكري الذي ظهرت عليه المعارضة السورية، وتطور التسلح لديها، يشي بأن قوى دولية أو إقليمية غير بعيدة عن الموضوع.
الأجندات الدولية والإقليمية في سوريا جد معقدة، فإيران، أضحت تعتبر سوريا جسرها الاستراتيجي، لبناء مربع جيوستراتيجي، ينطلق من طهران، ويمر عبر بغداد ودمشق، ويصل إلى لبنان، وهي تستغل ضعف النظام السوري، لتوسيع نفوذها في المنطقة، فتحتكر في سوريا أزيد من 800 نقطة عسكرية.
أجندة أمريكا وحليفتها إسرائيل، تتركز في قطع هذا الجسر، وتحويل سوريا إلى دولة مناهضة للأجندة الإيرانية، من خلال التحكم في منطقة التماس السوري مع لبنان لمنع تدفق السلاح الإيراني إلى حزب الله.
الهم الأكبر للأجندة التركية إبعاد قوات سوريا الديمقراطية (حزب الأكراد السوري الذي يعتبر امتدادا للحزب العمالي الكردستاني) عن حدودها، فإذا كانت بالأمس، تبحث عن مجرد إقامة منطقة عازلة في سوريا، فهي الآن، بفعل واقع ضعف النظام السوري وحلفائه، تبحث تشكيل قوى موالية لها على حدودها، أو على الأقل انفتاح النسق السياسي السوري، لجهة دخول قوى تعارض أسلوب النظام في توظيف الأكراد ضد مصالحها.
روسيا من حيث المبدأ، تدعم حليفها الاستراتيجي (النظام السوري) لكنها تستغل نفوذها لتبرير وجودها كفاعل مركزي مؤثر في الشرق الأوسط، وتضع في الاعتبار إمكان التفاوض بهذه الورقة، مع قوى إقليمية (تركيا) أو دولية (واشنطن والناتو) خاصة وهي تريد أن تحصن تقدمها في أوكرانيا، وتنهي الحرب من غير تنازلات تذكر.
إيران تزعم أن هجوم المعارضة السورية، الذي نسف اتفاق الأستانة، لا تفسير له سوى بأجندة أمريكية إسرائيلية، تريد استثمار وقف إطلاق النار في لبنان، والاستنزاف الذي عرفه حزب الله، لتخلق واقعا على الأرض، يقطع لبنان عن محوره الإيراني، ولذلك اتجه حراكها الدبلوماسي إلى روسيا وتركيا.
الفجائية، والجاهزية، والقوة العسكرية التي ظهرت بها المعارضة السورية، لاسيما الجماعات الجهادية، ترجح وجود دور تركي، فتركيا هي صاحبة المصلحة الأولى في تحقيق المعارضة السورية لكل هذه المكتسبات العسكرية، ليس لأنها تدعم الأجندة الأمريكية الإسرائيلية، ولكن لأنها تريد أن تمسك بورقة ضغط، تؤهلها للتفاوض مع القوى الدولية والإقليمية في المنطقة.
من المفارقات في الموضوع، أن دمشق وواشنطن، على الخلاف المفصلي في رهاناتهما، تتوحدان في دعم الأكراد الموالين لحزب العمال الكردستاني، وذلك لإضعاف الموقف التركي، بينما تتوحد واشنطن وتركيا مع الاختلاف في الهدف، في دعم بعض التنظيمات في مواجهة الميليشيات الإيرانية في المنطقة.
روسيا، تحمل رؤية براغماتية في الموضوع، فقضية دعم مشروعية الأسد ليست من الثوابت الاستراتيجية، فيمكن لها الانفتاح أكثر في شكل تعاطيها وتفاوضها مع تركيا، لكنها، على خط نقيض من الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
قبل شهور دعا الرئيس طيب أردوغان الرئيس السوري بشار الأسد للحوار، لتحقيق بعض التفاهمات عقب تسوية وضعه في الجامعة العربية، لكنه رفض الدعوة، ولا شك أن تركيا اليوم، اختارت طريقا آخر للحوار، بممارسة الضغط في الميدان.
البعض يعتقد أن واشنطن وحليفتها إسرائيل تهيمن على قرار الجماعات الجهادية التي تقود المواجهات، وأن خبرتها في الاتصال بهذه التنظيمات عبر قياداتها التي تغير ولاءاتها بسرعة، تمكنها في توجيهها وفق أجندتها ضد إيران وحزب الله، لكن، مثل هذا الدور، يفتقد إلى الأرض واللوجستيك، وهما ما تملكهما إيران وتركيا على حد سواء، مما يرجح أن يكون التحرك قد تم بدعم تركي، مع تطلع أمريكي في توجيه بوصلته بعيدا عن الأهداف التركية.
رهان تركيا الأساسي، أو هكذا ما يوحي به الحراك الدبلوماسي، أن تصير مركز الاستقطاب الدبلوماسي، وأن تكون الفاعل الأساسي الذي يخطب وده في التفاوض لرسم مستقبل سوريا، وذلك في مقابل شيء واحد، هو أن تبعد خطر الحزب العمالي الكردستاني، وفي الآن ذاته أن تخلق واقعا سياسيا في سوريا مواليا لها، أو على الأقل محايدا في مناكفته للمصالح التركية.
إيران وروسيا، تجريان بشكل منفرد محادثات متعددة مع تركيا، والهجوم العسكري للمعارضة لم يتوقف، ويبدو أنه يتجه بكل قوة نحو السيطرة على منطقة حماة برمتها، بينما تدعو تركيا النظام السوري إلى الانفتاح على المعارضة السياسية وفتح النسق السياسي لاندماجها فيه.
إيران التقطت الإشارة، وبدأت تتحدث عن أخطاء النظام السوري، بما يعني استعدادها للضغط عليه لطرح ورقة الانفتاح السياسي، وربما الإقلاع عن مناكفة المصالح التركية الحيوية، لكنها أبقت على خطها الأحمر فيما يخص الجماعات الإرهابية.
التقدير أن أنقرة ستربح على المستوى الدبلوماسي كثيرا من المكاسب العسكرية التي تحققها المعارضة السورية على الأرض، لكن لا شيء يضمن إلى أين تسير بوصلة الجماعات الجهادية، وهل تنجح في الضغط بها على النظام السوري مع الإبقاء على تفاهمات مع إيران وروسيا بسقف أعلى مما حققته في اتفاق الأستانة، أم أن واشنطن، سيكون لها اليد الطولى في توجيه هذه الجماعات بعيدا عن المصالح الوطنية السورية.
كاتب وباحث مغربي
القدس العربي
—————————–
انهيار إمبراطوريّة قاسم #سليماني
الجمعة، ٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤
في جلسة خاصّة عُقدت في البرلمان العراقي، توجّه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الخارج من صفوف كتلة أحزاب “الإطار التنسيقي” المنبثقة من “الحشد الشعبي” وحلفائه، إلى البرلمانيين الذين كانوا يدعون إلى تدخّل عسكري عراقي في الأحداث الدائرة في سوريا، تارة تحت شعار محاربة الإرهاب قبل أن يصل إلى العراق، وطوراً تحت شعار الدفاع عن المراقد والمواقع الدينية للطائفة الشيعية. نُقل حسب مصادر عراقية عن السوداني قوله: “اسمعوها منّي لن آخذ 45 مليون عراقي إلى الحرب من أجل الانفعالات. ولن أزجّ بالعراق في حرب ومتاهة لا نعرف نهايتها”. أضاف: “إن مسؤوليّتي أولاً حماية الشعب، وإذا تمّ زجّ العراق في هذه الحرب سنخسر كلّ شيء، فتقبلوا الأمر الواقع. هناك دولة عظمى واحدة الآن هي أميركا”.
طبعاً كان السوداني -الذي يتحدّث- مسؤولاً، يشكّ المراقبون بقربه من الأحزاب والقوى الشيعية المقرّبة من إيران، وبالخدمات “الجُلَّى” التي قدّمها لإيران، لكنّ المراقبين لا يشكّكون بعقلانيّته وعقله البارد والواقعي لاسيّما أن المنطقة تتعرض لزلزال جيوسياسي تاريخي منذ أن تورطت إيران بعملية “طوفان الأقصى” وفق حسابات يتبين كل يوم أنها كارثية عليها وعلى جناحها “الثوري”. أما الرؤوس الحامية التي كانت تدعو لتوريط العراق بحرب في سوريا فمعلوم انتماؤهم، وأجندتهم الإقليمية. فبعدما دمّر قطاع غزة بأهله كنتيجة لعملية “طوفان الأقصى”، جرى تقويض أهم أذرع إيران في المنطقة أي “حزب الله” في حرب قصمت ظهره، وأدت وستؤدي مستقبلاً إلى نزع سلاحه بالكامل ودفعه إلى تغيير طبيعته ووظيفته الخارجية. ومع سقوط حلب، ثم حماة، واشتداد الخطر العسكري على مدينة حمص الاستراتيجية كونها عقدة الوصل بين العاصمة دمشق ومنطقة الساحل السوري، قد تكون سوريا على موعد مع الزلزال الجيوسياسي الذي نتحدث عنه. وقد تكون هي الساحة التي يتمظهر فيها الزلزال المشار إليه ومحطتها الأخيرة تقويض السياسة التوسعية الإيرانية، أو ما يسمّيه البعض “إمبراطورية قاسم سليماني”. فمشهد تحطيم حركة “حماس” في غزة بعد إغراقها بحمام دم، ثم تحطيم البعد العسكري الاستراتيجي لـ”حزب الله ” في لبنان بعد تدمير قسم كبير من ماكينته العسكرية ودفعه للإذعان لاتفاق وقف إطلاق للنار مذلّ ويتضمن إقراراً بنزع سلاحه ليس في الجنوب اللبناني بل في كل لبنان، وبعدما تركت “هيئة تحرير الشام” تتحرك من إدلب إلى حلب ثم حماة من دون أن تثير معارضة جدية أميركية، أوروبية والأهم إسرائيلية، يمكن القول إن المسألة كبيرة وإيران تتعرض لأكبر ضربة في المنطقة منذ العام 2003.
انهارت “وحدة الساحات” في كل مكان. حتى في العراق أدرك حلفاء طهران أن ثمّة حدوداً لا يمكن تخطيها إذا ما تبين أن واشنطن، التي فتحت سياساتها وحروبها في الشرق الأوسط بعد هجمات 9/11، قررت أخيراً أن تنهي التمدّد الإيراني باعتباره لم يعد مشكلة تهدد الكيانات العربية فحسب، بل أصبح خطراً داهماً على وجود إسرائيل وعلى مصالح الغرب العليا في غربي القارة الآسيوية.
ومن هنا لم نسمع أن المرجع علي السيستاني أصدر فتوى بخصوص التدخل في سوريا. كما لم نرَ أنّ الفصائل العراقية التي حشدت قوات على الحدود متوعدة بالدخول إلى سوريا نفذت وعيدها. فالاشتباك الذي حصل في دير الزور قبل ثلاثة أيام، واستهداف قافلة للفصائل العراقية كانت تحاول العبور نحو مدينة البوكمال من قبل قوات التحالف الدولي (الأميركيين) فُهم منهما أن واشنطن رسمت خطاً أحمرَ عند الحدود العراقية السورية. فالهدف هو طيّ صفحة “وحدة الساحات” وإغلاق “الكوريدور” أو الممر الإيراني الذي يربط بين طهران وبغداد ودمشق وبيروت وصولاً إلى غزة والضفة الغربية. وما نراه الآن هو ربما بداية نهاية التمدّد الإيراني في المشرق العربي. أمّا كيف سينتهي، إن كان القرار الأميركي يقضي بإنهائه بشكل كامل، فغير واضح نظراً لتسارع الأحداث وانهيار الخطوط الحمر في كل مكان.
يبقى أن نراقب الإشارات الإسرائيلية، وقد تحدثت “القناة 12” حرفياً عن “تقرير عن هجوم إسرائيلي كبير غير عادي شمال دمشق في سوريا. ويبدو أنه هجوم على أسلحة لا تريد إسرائيل أن تصل إلى أيدي فصائل المعارضة وألّا تكون بأيدي السوريين”. فهل معنى هذا أنّ تل أبيب وضعت في حساباتها إمكانية انهيار في دمشق؟ وهل الهجوم حصل بسبب الخوف من الفصائل المعارضة وحدها؟ أم أن في الحسابات إمكانية أن تسقط الأسلحة (النوعية) بيد بقايا الفصائل الإيرانية في سوريا؟ أيّاً يكن من أمر فإنّ “إمبراطورية قاسم سليماني” انتهت.
النهار العربي
——————————
حماه ـ غزة وبالعكس: السياسة أم الإبادة؟
06 ديسمبر 2024
بعد أسبوع من اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2023، وفي مقال نشره في صحيفة «نيويورك تايمز» لم يجد الكاتب الأمريكي المعروف، توماس فريدمان، مثالا للفظائع اللاحقة التي ستنفذها إسرائيل في القطاع وأهله سوى ما سماه «قواعد حماة» وهو مصطلح نحته لوصف استراتيجية رئيس النظام السوري الراحل حافظ الأسد عندما حاصر جيشه المدينة مانعا أي أحد من الخروج، ثم دك أحياءها ونفذ مجازر جماعية هائلة قتلت قرابة 40 ألف شخص (وفقد قرابة 15 ألف شخص آخرين) ثم جلب الجرافات فسوتها بالتراب، ثم مشى، حسب وصفه، فوق أنقاضها. حصل ذاك طوال شهر شباط/ فبراير من عام 1982.
لم يكن قد مضى على المجزرة السورية سوى قرابة شهرين حتى بدأت إسرائيل اجتياح لبنان، بهدف تدمير منظمة التحرير الفلسطينية، فحاصر جيشها العاصمة بيروت، وأدت الأعمال العسكرية لمقتل قرابة 17 ألف شخص، ثم وبعد حصول اتفاق، بضمانات دولية، خرجت على أساسه منظمة التحرير، وزعيمها حينها، ياسر عرفات، من لبنان، جرى تطبيق «قواعد حماة» على مخيمي صبرا وشاتيلا، اللذين كان أغلب سكانهما من المدنيين الفلسطينيين، فطوقتهما القوات الإسرائيلية، ومنعت خروج أي شخص منهما، ثم سمحت لميليشيات لبنانية بتنفيذ مجزرة جماعية قتل فيها ما يقارب 3500 من الرجال والأطفال والنساء.
قام النظام السوري بتنفيذ مجازر قبل وبعد مجزرة حماة، مؤسسا لحقبة هائلة من الرعب، لكن استخدامها استعيد بعد الثورة الشعبية التي اندلعت ضده عام 2011 وتم تطوير عناصره الأساسية: الحصار والقتل المعمم ثم التدمير الممنهج، فانتقلت من كونها «وظيفة» خاصة بالدولة، إلى استثمارات خاصة يتم تعهيدها لميليشيات محلية وخارجية، ومع اضطراره لاستدعاء قوى أجنبية، تفسّخت الدولة، وتم تقاطعها، وتقاسمها، والتنافس عليها، بين روسيا، التي أمنت الغطاء الجوي لعمليات النظام، وإيران، التي أمنت الجنود على الأرض، وأدى ذلك إلى تدمير منهجي لمدن سورية أخرى، مثل حمص، ودير الزور، وحلب.
أعاد هجوم المعارضة السورية، التي دخلت مدينةحماة (بعد أن تمكنت من تحرير محافظة إدلب ومدينة حلب) شريط الذكريات السوداء الذي كانت المدينة الشهيدة علامة كبرى فيه على ما ينتظر السوريين، ومنطقة المشرق العربي، لو استمر الطغيان، واشتبك هذا الحدث زمنيا، مع المقتلة الفلسطينية الهائلة التي تحولت بعد عملية «طوفان الأقصى» إلى إبادة جماعية وتطهير عرقي على مرأى العالم.
وضعت المواقع المتعارضة لمآلات المنطقة الإسلامية ـ العربية، وبطريقة معقدة وإشكالية ومثيرة للجدل، أمام قضايا واجتهادات نخب ودول واتجاهات سياسية تحاول أن تضع السوريين والفلسطينيين واللبنانيين في مواقع متعاكسة، مما يؤدي إلى أشكال من تكاره الضحايا، وفقدان البوصلة، والغفلة عن الأولويات.
مثّل المشروع الإسرائيلي حلا للمسألة اليهودية الأوروبية لكنه حلّ يحمل بذور عطبه القائمة على طبيعته الدينية والعنصرية، التي تمثّل الحكومة الإسرائيلية الحالية، بنزوعها الإبادي الصريح ضد الفلسطينيين، إيذانا بانتهاء تلك المرحلة التاريخية، وابتداء عصر التوحّش العام في العالم.
يتلاقى هذا المشروع، بالضرورة، مع مشروع الدولة الأسدية، التي حولت الجمهورية السورية إلى ملك خاص لعائلة تتعاطى مع السوريين، وشعوب المنطقة بمنطق الإبادة أيضا (كما رأينا في مجزرة تل الزعتر ومجزرة صبرا وشاتيلا الثانية ضد الفلسطينيين).
ما يطمح له السوريون، والفلسطينيون (كما اللبنانيون) الآن هو وضع السياسة في مواجهة الإبادة، وأمام هذه الضرورة لا يعود هناك معنى لاجتهادات «نخب» تعمل على تكريس كراهية الضحايا، ووضع القضايا السورية والفلسطينية واللبنانية، وآمال شعوبها بوقف الإبادة وعودة السياسة، بمواجهة بعضها البعض.
يأمل السوريون بحل سياسي يعيد اللاجئين ويسمح بالمشاركة السياسية للجميع، ويأمل الفلسطينيون بحل سياسي يوقف الإبادة ويعيد اللاجئين ويسمح للفلسطينيين بتقرير مصيرهم، ويأمل اللبنانيون بحل سياسي يبدأ من بداهة انتخاب رئيس، يوقف الحرب الإسرائيلية على البلاد، ويعيد تنظيم الحياة السياسية التي قادت الاقتصاد اللبناني للدمار، والأجهزة السياسية والعسكرية والأمنية للشلل.
القدس العربي
————————-
أصدقاء سورية… أصدقاء بشّار/ وائل قنديل
06 ديسمبر 2024
كما في ألعاب “بلاي ستيشن”، يتطاير النظام السوري وتتساقط المدن السورية الكبرى في لمح البصر أمام هجوم قوّات المعارضة السورية المسلّحة، كما تسمّيها وسائل الإعلام، أو طلائع المجاهدين، بحسب بيان قائد العمليات العسكرية أبو محمد الجولاني، وهو يحتفل بما أسماه “فتح حماة” بعد فتح حلب، فيما لا يزال طيفٌ واسعٌ من الناشطين الداعمين يصرّ على “أن الثورة السورية تنتصر أخيراً وتسقط النظام”.
جرى كلّ شيءٍ بسرعةٍ أربكت المحلّلين والمتابعين، وأظهرت نظام بشّار الأسد أوهن من بيت العنكبوت، ولم تكن تكبيرات النصر وتهليلات الفتح كافية لكتم هدير الأسئلة وعلامات الاستفهام والتعجّب، من أين جاء هؤلاء وكيف وصلوا بهذه السهولة، من دون أن يشعر أحدٌ بوجود الجيش السوري، أو بأثر إسناد الحلفاء والداعمين لنظامٍ ينهار، وما كلّ هذه الإمكانات العسكرية بيد خصومه؟… وقبل ذلك كلّه سؤال التوقيت والتحريك، بعد ساعاتٍ من اتفاق الحكومة اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي على وقف العدوان وسكوت المقاومة.
مع سقوط حلب أمام زحف المسلحين، هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) والجيش الوطني، المدعوم تأسيساً وتسليحاً وتدريباً من الحكومة التركية، خطب أبو محمد الجولاني في أهالي حماة “إن إخوانكم المجاهدين الثوار بدأوا بالدخول إلى مدينة حماة لتطهير ذاك الجرح الذي استمر في سورية لمدة 40 عاما… أسال الله عز وجل أن يكون فتحاً لا ثأر فيه بل فتحاً كله رحمة ومودة”.
ثلاثة عشر عاماً تفصل بين مفردتي “المجاهدون والثوار” ومصطلحي المعارضة المسلّحة والثورة السورية، تلك التي تلقفها من يسمّون أنفسهم “أصدقاء سورية”، فتوقفت عن كونها ثورة وتحوّلت إلى صراعٍ مسلح مع نظامٍ كان من المهم، بل ومن الضروري أن يسقط بفعل ثورةٍ شعبيةٍ هائلة ضمّت تنوّعات هائلة من الجماهير العطشى للتحرّر من الاستبداد والفساد.
كانت أغلى هدية قدّمها الذين يطلقون على أنفسهم “أصدقاء سورية” أو “أصدقاء الثورية” إلى النظام الذي قامت ضدّه تلك الثورة، هي دفعها إلى حمل السلاح والتحوّل إلى مجموعاتٍ مسلحة تحارب السلطة وجيشها، الأمر الذي منح النظام الحجج ليقول إنّه يقصف المدن والأحياء دفاعاً عن الوطن ضدّ الإرهاب المسلّح المدعوم خارجيّاً، ولا تزال الذاكرة تحتفظ بالبيانات الصاخبة التي أصدرها أصدقاء سورية، من العرب والعجم، بعد مؤتمرات واجتماعات طافت أرجاء الدنيا من تونس، عروس الثورات، إلى إسطنبول مروراً بلندن وروما وباريس والدوحة، وكلّها بيانات تدفع في اتجاه المعالجة العسكرية لإنجاح الثورة وإسقاط النظام.
في البداية، كان الأصدقاء بصدد الذهاب إلى تشكيل قوات عربية ودولية، بالأحرى أميركية، تتوجّه إلى الأراضي السورية للتصدّي لجرائم النظام ضدّ الشعب الأعزل، إلا من الهتاف والحلم بالحرية. وفي العام 2012، كانت مبادرة جامعة الدول العربية وما تتضمّنه من إرسال قوّات عربية مشتركة وإنشاء مناطق آمنة وتوفير كلّ أشكال الدعم والمساعدة للشعب السوري. غير أنّه في ما بعد انهمرت اجتماعات مجموعة أصدقاء سورية، التي تنتهي بالتشديد على تسليح الثورة/ المعارضة، وفي يوم 19 إبريل/ نيسان 2013 انعقدت في إسطنبول أعمال مؤتمر مجموعة أصدقاء سورية بحضور عديد من وزراء خارجية الدول الكبرى، من أجل تعزيز دعم المعارضة السورية المسلّحة التي تقاتل نظام بشّار الأسد، بعد إعلان واشنطن نيّتها زيادة “المساعدات العسكرية غير القاتلة”.
يومها خرج وزير خارجية السعودية، سعود الفيصل، بدعوته إلى تسليح المعارضة السورية، في مؤتمر صحافي مشترك مع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، ليقول إنّ “تسليح المعارضة واجب .. أعتقد.. لأنها ما تقدر تدافع عن نفسها إلا بالأسلحة للأسف”.
لاحقاً، التقت هيلاري وزراء خارجية الدول الخليجية الخمس الأخرى: الكويت والبحرين وقطر والإمارات وعُمان للدفع في هذا الاتجاه، ثم في منتصف أغسطس/ آب من العام نفسه قالت مصادر في المعارضة السورية والمخابرات ومصادر دبلوماسية إنّ معارضين مسلحين في جنوب سورية بدأوا باستخدام صواريخ مضادة للدبابات، حصلوا عليها أخيراً من السعودية، ما يعطي دفعة جديدة لمعركتهم ضدّ بشار الأسد.
لنصل إلى العام 2015، حيث نشر موقع هافينغتون بوست الأميركي تقريراً بعنوان “تحالف غير متوقع بين السعودية وتركيا لإطاحة الأسد”، تحدّث أنّ السعودية وتركيا تُجريان محادثات عالية المستوى، بهدف تشكيل تحالف عسكري لإطاحة الأسد، بحيث تقدّم تركيا القوات البرّية، فيما ستقوم السعودية بعملية الدعم عن طريق الغارات الجوية، لمساعدة من سمّاهم التقرير “مقاتلي المعارضة السورية المعتدلين”.
لم يمرّ على هذا الاندفاع العربي الدولي نحو إسقاط بشار الأسد بالقوّة المسلحة أكثر من 30 شهراً حتى استدار “أصدقاء سورية”، وقرّروا أن يكونوا أصدقاء بشار الأسد، لتبدأ منذ العام 2018 عملية وصل ما انقطع مع بشار الذي قال له أردوغان ذات يوم “البقاء في الحكم غير ممكن ما دمت تظلم شعبك”. ثم قرّر أن يسعى إلى التصالح معه في ظلِّ تمنّع الأخير، وعاد بشار يُستقبل استقبال الأصدقاء الأعزاء الكبار في عواصم القمم العربية المُتعاقبة، فيما لم يَعد لما كانت تُسمّى “ثورة الشعب السوري” أو الثورة اليتيمة على موائد القساة الغلاظ، من أصدقاء سوى السلاح والمجاهدين الملتحقين بها من مشارب كثيرة، حتى كادت تُنسى، ليستيقظ الجميع بعد 14 شهراً من عدوان صهيوني هو الأعنف على فلسطين ولبنان بجحافل الفصائل السورية المسلحة، أو قوّات المجاهدين بتعبير قائدهم الجولاني، تلتهم المدن السورية واحدةً تلو الأخرى بسرعة مذهلة، حتى باتت على أبواب حمص، محطّتها الأخيرة قبل دمشق، بينما يبدو النظام وكأنّه بلا رأس يحكم وأذرع تحارب، لا بشّار ولا جيشه هنا، وكأنّنا بصدد حالة نظام يتفرّج على أحداث سقوطه على الهواء مباشرة وهو يتناول طبقاً من الفستق، فيما تجد في الخلفية أصدقاء سورية الذين كانوا يصرخون “التسليح الكامل والتدخل العسكري الآن وليس غداً”، يدافعون عن بشّار ضدّ هجوم “المليشيات الإرهابية المدعومة من جهات خارجية”.. هؤلاء الأصدقاء يتحملون المسؤولية قبل غيرهم عن الوصول إلى اللحظة الراهنة الملبّدة بغيوم الأسئلة: سورية إلى أين في دروب المستقبل المظلم؟ هذا هو السؤال الذي يُخيف الجميع، الذين تمنوا نهاية حكم سلطة مستبدّة ارتكبت جرائم بحقِّ شعبها، وأولئك الذين يروْن في وجودها ما يضمن بقاء سورية موحّدة، حتى لو كانت مستبدة وفاشلة، بدلاً من تشظيها وتطايرها داخل مراجل اقتتالٍ أهلي قد يقع.
العربي الجديد
—————————-
عن سورية الغائبة عن تقرير مصيرها/ سوسن جميل حسن
06 ديسمبر 2024
تُظهر لنا الوقائع في الأرض السورية، من دون تخمين (ما دام اللعب على المكشوف منذ سنوات، والأطراف الضالعة لا تخفي ضلوعها بالشأن السوري)، أن هناك صراعاً يدور، والمعارك الحالية تتصاعد نحو العنف المتزايد، وكأنّ الشعب السوري لم ينلْ من القتل والتدمير ما يزيد على قدرة أيّ شعبٍ على احتمال جرعات الموت. وأكثر ما يقتلني ببطء اليوم، هو الصمت، لا أسامح نفسي على صمتها أمام هذه الخسارات الفادحة. نعم، إنها خسارات ما دام مزيدٌ من الدم يتدفّق، ومزيد من التهجير والنزوح، ومزيد من تمكين الأسافين بين مكوّنات الشعب السوري. لن يعجب كلامي غالبية السوريين على مختلف اصطفافاتهم، فالصوت المسموع والمطلوب منذ 13 عاماً هو صوت التجييش وشحذ العواطف العصبية والثأرية.
أقلقني صمتي أمام استحقاق الكتابة، لقد كتبت منذ إرهاصات انتفاضة الشعب السوري في قضايا كنت أظنّها يمكن أن تلامس الوعي العام وتضيء الزوايا المعتمة، حيث تكمن أفاعٍ تخزّن السمَّ لتعضّ بأنيابها جسد الشعب السوري وتنفث سمومها فيه، لكنّني كنت واهمةً مثلي مثل كثيرين غيري، ممّن كانت لهم زاوية رؤية خاصّة تجاه ما يحدث، ورؤيا ترنو نحو مستقبل يدغدغ أحلام السوريين، مستقبل يكونون فيه أحراراً من أشكال الاستبداد كلّها، يمتلكون فيه أدوات بناء دولة حديثة قائمة على المواطنة والديمقراطية، وضمان الحقوق، وقبل كلّ شيء تحترم كرامة الإنسان وتصونها، أدوات تمكّنها من الدخول في العصر والعيش فيه، وتكون قادرةً على القيام بما يمكّنها من الاستمرار في الحياة، دولة قانون ومؤسّسات متحرّرة من حتمية الزعيم، يكون للشعب فيها القول الأول والأخير من طريق انتخاب ممثّليه بطريقة نزيهة وواعية، ويكون للشعب حقّ محاسبتهم عندما يخطئون أو يستخفّون بمكانة البلاد وسيادة الشعب وملكيته دولته. لم أكن واهمةً فحسب، بل كنت في مرمى الأطراف كلّها، الأطراف المتحكّمة بأماكن نفوذها التي لا تقبل صوت العقل، وإن نجوت مع كثيرين، فإنّ كثيرين أيضاً غُيِّبوا بطريقة عنفية أو بأخرى.
ما الذي حصل؟… كانت الخيبة كبيرة، الخيبة من أن انتفاضة الشعب التي كانت ترنو إلى ثورة متكاملة تُقلب فيها الطاولة ويعاد ترتيبها بشكل يليق بحياة الشعب وبكرامته، تحوّلت حرباً أدّت إلى هذا الواقع الذي يخفي خلفه الحقائق التي لا يمكن نكرانها، حقائق كان الأحرى بنا أن نقف في وجهها ونحاربها، حقيقة أن هناك في سورية أيادي عديدة تمسك كلّ واحدة منها بجهة من جسد هذه البلاد، حقيقة أن أميركا هناك، وروسيا هناك، وإيران هناك، وتركيا هناك، وإسرائيل قبل الجميع هناك، وواقع أنّنا انكشفنا باكراً، انكشف تهتك نسيجنا الاجتماعي، وانتهاك مفهوم الوطن إلى حدّ تشظيه، وحقيقة أنّنا لم ننتمِ إلى شعب، ولا إلى مجتمع، ولا إلى أمّة، ولا إلى دولة، كنّا جماعات تعيش بجانب بعضها بعضاً بقوة عُليا هي الجامع الوحيد بيننا، قوة استبداد متمكّن متحالف بعضه مع بعض، استبداد ديني اجتماعي سياسي، وتحت هذا الغطاء المُحكَم كنّا مرجلاً يغلي، وما إن لعلع الرصاص حتى بتنا جماعاتٍ طائفيةً ومذهبيةً وإثنيةً تتقاتل في ما بينها وتستقوي بالخارج، لكلّ جماعة “أمّ حنون” تمدّها بفائض الحنان وفائض الوعظ والتوجيه، وفائض السلاح.
أواجه نفسي دائماً بسؤال: هل كان من المستحيل حقن الدماء وتجنّب هذا القتل والتهجير والنزوح والدمار كلّه، بدلاً من جعله كرة ثلج تزداد ضخامة وفظاعة كلّما تدحرجت إلى الأمام؟ أما كان من الممكن أن يلتقي السوريون عند قواسم مشتركة لها علاقة بالوطن؟… وكان سؤالي يستعصي أمام انغلاق الأفق في وجهه عندما استدعى عقوداً من الماضي القريب، وليس البعيد، عقوداً من الاستبداد والاستنقاع جعلت من الشعب جماعات وفرقاً تخوّن بعضها وتضمر بعضها تجاه بعض شعوراً إقصائياً ازدادت ضراوته مع كلّ يوم من العنف، فيزداد الضجيج في رأسي. لو كانت الأنظمة السياسية تعير الشعب اهتمامهاً، وتقيم له وزناً، وتضعه هدفاً في عملها السياسي وإدارة الشأن العام، لربّما ما كنّا سنرى هذا الانقسام الفظيع القائم على مبدأ أساس؛ الطائفية. ليس اليوم فحسب، بل منذ الشهور الأولى لانطلاقة الانتفاضة الشعبية، الانقسام حول شخص الرئيس، شريحة كبيرة من المؤيدين كان دافعهم طائفياً في الأساس، حتى لو تلطّى خلف بنود عريضة يشهرها، كالوقوف في وجه المؤامرة أو حماية الدولة أو حماية “علمانية” الدولة، وهي لم تكن في الواقع دولةً علمانيةً، وهناك شريحة كبرى ممّن انتفضوا كان دافعهم طائفياً انطلاقاً من أن هذا النظام القمعي غير شرعي لأنه لا يمثّل أغلبية الشعب الواقع تحت الظلم. استعر هذا الصراع في أرض الواقع، بينما لم تكن هناك مؤامرة بالفعل، كنّا نحن المؤامرة عندما تجاهلنا العوامل الأخرى كلّها، وتمسّكنا بعامل وحيد، فازدادت الثأرية، وازداد عمق الأسافين التي تُدقّ في جسد سورية. صودر وعي الشعب وتعرّض لتضليل كبير، وغُذّيت النعرات الطائفية والعرقية والقومية، فانقسم الشعب ولاذت فرقه بالخارج، كلّ فريق اتخذ من طرف خارجي مرجعه وسنده ومموله وضامن مستقبله، وبالتالي راح الوطن، ورفرفت الرايات الملوّنة فوق ترابه.
صمتي كاتبةً لا يمكن أن يتمادى على روحي إنسانةً تنتمي إلى الإنسانية قبل كلّ شيء، أكتب لأنني امرأة تنتمي إلى تلك الأرض التي كانت تسمّى سورية، البلاد التي أبحث عنها فلا أجدها، لا أجد غير جغرافيا منتهكة مقسّمة مسلوبة القرار مجهولة المصير. بقدر ألمي ممّا وقع (ويقع)، لا أستطيع أن أشيح بوجهي أو أصدّ سمعي عن فكرة لم تبرح رأسي منذ سنوات، فكرة أن الاستبداد وحده كفيل بدقّ أكبر إسفين بين الدولة والشعب، وأن انهياره مدوٍّ ومدمّر بحيث لا يغادر، وهناك حجر فوق حجر، وأن بقاء أيّ حال من المحال، لكن يقابل هذا السؤال سؤال آخر عن اليوم التالي، دائماً ما يجري الحديث في حروب مديدة مدمّرة عن اليوم التالي، ما شكل سورية المُقبل؟ من سيدير الدولة فيها؟ هل ستستأثر بالحُكم الأطراف التي قامت بتغيير قواعد اللَّعب وتغيير الواقع، فتفرض شريعتها التي يطمح الشعب السوري، بغالبيته، بمستقبل أكثر إشراقاً لناحية الحرّيات والمواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟ وهل سيستفيد من بقي من السوريين من التجربة ومن دروس التاريخ المشابهة، فيعملوا منذ الساعة الصفر في اليوم التالي وفق قواعد العدالة الاجتماعية التي تضمن للضحية حقوقها، من أيّ شريحة كانت، ويدركوا أن بناء حياة ووطن على ركام الماضي يحتاج إلى هذا الإجراء “الذرائعي” من أجل استمرار الحياة، وأن يعرفوا أن الواقع كان يخفي خلفه حقيقة أن كلّ الأطراف التي كانت تدعم وتساند، لم تكن تدعم الشعب ولا قضاياه ولا حقوقه، كانت تدعم مصالحها فحسب، وتأخذ من الشعب أدوات وحطب احتراق في حروبها، وها هو الدليل الأكبر، الأطراف الضامنة التي تجتمع منذ سنوات من أجل دراسة وتدبير الواقع في سورية، ويجتمع مجلس الأمن ليتبادل الأطرافُ الاتهاماتِ من دون الوصول إلى العتبة الأولى التي ما زالت بعيدةً، الحلّ السياسي. تشتغل بشكل حثيث في مشاريعها، وكلّها تجاهر بشعار كبير “الإصرار على وحدة سورية”، بينما سورية وحدها الغائبة عن واقعها وتقرير مصيرها.
العربي الجديد
—————————-
سوريا: سجناء يهربون غير مصدقين أنهم ولدوا مرة ثانية/ علي سفر
الجمعة 2024/12/06
رغم أن سوريا بذاتها، كبلد، تبدو الآن، وهي تتحرر من سلطة ديكتاتورية غاشمة، حكمتها نصف قرن وأكثر، أشبه بصندوق مليء بالأسرار الكارثية، إلا أن سجونها هي الخلاصة، الأشد وحشية وقهراً. فهنا ستجد الضحايا الذين مازالوا على قيد الحياة والأمل في أن تأتي لحظة الفرج، ليستعيدوا حريتهم، بعدما طوت الجدران والأبواب الحديدية سنوات أعمارهم، في كتاب صفحاته إسمنتية، لا يمكن قلبها، إلا بثورات جامحة.
المَشاهد المتكررة في مدينتين تحررتا من سلطة نظام الأسد، هما حلب وحماة، تكفي لرواية القصة، وتوفر علينا الحاجة إلى الإطناب في شرح ما تفعله المعتقلات بنفوس البشر، إن كانوا داخلها أو خارجها. يقتحم الثائرون المكان فيتوجهون فوراً إلى السجون ليفتحوا أبوابها، كي يخرج من فيها من دون أن يلتفتوا وراءهم، تاركين أوراقهم الشخصية، فهي غير ذات قيمة، طالما أن الدولة بذاتها تنهار وتتفتت سلطتها القهرية، وأن البدايات المقبلة بعد نهايات الأحداث، ستتخذ شكلاً آخر. السجناء يصدمهم باب مفتوح على مصراعيه، يركضون بعيداً تاركين خلفهم جرائم اتهموا بها… بعضهم ارتكب ما نسب إليه، فلا يتوقف ليشكر من حرروه، ويسرع بعيداً، فقد منحه الظرف الاستثنائي والقدر فرصة لبداية ثانية، وربما جريمة ثانية تنتظره، سعياً وراء ثأر قديم، أو رغبة في الانتقام من جلاد متوحش!
وبعضهم ما زال يمتلك القدرة على الاندهاش، مما تعرض له، فيناقش أمام الكاميرا، في الحجم الهائل للعقاب مقابل المخالفات. فيتحدث سجين حموي عن مدة سجن تتجاوز شهراً ونصف الشهر، بتعذيب مستمر لمدة أسبوعين من أجل مخالفة موتوسيكل! بينما تنقل الأخبار البعيدة عن سجناء، باتوا طلقاء، أبلغ النظام أهاليهم في ما مضى، أنهم ماتوا في سجونه، وأزال قيود حياتهم من سجلات النفوس، فصاروا خارج الأعراف، يترنحون، وهم بكامل توقهم وطاقتهم للحرية، بين الموت والحياة، بذكريات مديدة، موزعة على لونين اقتسما جدران الزنازين، هما الأبيض والرمادي!
“أدب السجون”، تصنيف معروف حول العالم لتلك الروايات التي تتحدث عما يجري وراء الاسوار المغلقة، لكن سوريا تكاد تكون أكثر بلد، أنتج روايات، تُدرج تحت هذا النوع من الكتابات “الديستوبية”. وضمن تلافيف القصص التي تصلح للكتابة، تقدم صور المراسلين (نقلها مراسل تلفزيون سوريا) وجهين لمعتقلين لبنانيين، ضاع أثرهما في الغيب الأسدي أكثر من أربعين سنة، من دون أن يتمكن أهلهما من العثور على خيط يدل إلى مصيرهما. وتوضح التقارير المنتشرة، أن ثمة أكثر من مئة لبناني، اكتشف العالم أنهم أحياء في سجن حماة المركزي (أنظر تقرير بتول يزبك في موقع “المدن” “اكتشاف” مئة معتقل لبناني بسجون الأسد كانوا مجهولي المصير).
غير أن ما يتراءى للبعض، عن أنه تكرار للنمط السردي السجني في الأدب، سيتحول هنا إلى الفانتازيا الدموية القاتمة، أو إلى الواقعية غير السحرية، التي تتناسب مع طبيعة مفهوم الأسديين عن العقاب. فإذا نجا المرء من الموت على أيديهم، فإن الحياة “تحت سابع أرض”، أو “ورا الشمس” لا تشبه مطلقاً “لطافة” أن يتم توقيف الشخص في “بيت خالته”! فالمكان المجهول يعني عقاباً من طبيعة مجهولة أيضاً، لا يمكن لأحد أن يشرحها سوى الناجين منها، وقد ينجحون في إيصال التفاصيل لمن يستمعون للقصة، وعلى الأغلب لن يصدق هؤلاء كل ما سيسمعونه. فحين تستمع إلى إنسان قضى عشرات السنين بعيداً من الحياة، ستظن أن ما يقوله هو جزء من عوالم تنتجها الذهانية المرضية التي تجعل المصابين بها ينفصمون عن الواقع، فيتوهمون أشياء غير موجودة.
سوريا التي نراها في مشاهد المدن المحرّرة، هي صانعة الأمراض النفسية الكارثية بجدارة. فكل إنسان أصابه أثر منها، يحدثك عن أن الجميع بات بحاجة إلى تطبيب نفسي. لكن جزءاً غير قليل من الضحايا، يحتاج إلى إعادة خلق ربما، فأي علاج ستمنحهم إياه أفضل مراكز التداوي، لن يكون كافياً من أجل إعادتهم إلى صفوف مجتمع يحاول التعافي بدوره.
هنا، يمكن لنا تَفَهُم أولئك الذين يهربون من المكان، من دون التفكير في أوراقهم الثبوتية. إذ أن التخلّص منها هو أول المحاولات للخلاص، من المرض السوري. وقد ينجحون في الإمساك بهذا الخيط لوقت ما، قبل أن تضطرهم الأمور الإجرائية لأن يولدوا مجدداً على الورق بأسمائهم، أو بأسماء مختلفة، وبما يناسب ضرورات النجاة.
المدن
——————
أن تكره إسرائيل والأسد أيضاً/ يوسف بزي
الجمعة 6 كانون الأول 2024
ما من لبناني عاش حقبة وجود الجيش السوري في لبنان، إلا وحمل ضغينة عميقة تجاهه. كان الإجرام سمته الأولى. ما بين أعوام 1976 و2005، فتك هذا الجيش ونظامه ومخابراته بالمجتمع اللبناني ونظامه السياسي والاقتصادي على نحو إجرامي، مجبول بالدناءة واللصوصية. هذا الاحتلال “الأخوي” تشاطر مع الاحتلال الإسرائيلي وعدوانيته في تدمير الحياة اللبنانية بالتناوب والتواطؤ منذ اتفاق كيسنجر-الأسد.
ومن التجارب المريرة مع هذين الجيشين، تناوبهما على الإمعان بتمزيق أي احتمال لالتئام اللبنانيين، وعلى منع أي تجاوز لانقساماتهم الطائفية، وقتل الحياة السياسية وتقويض الدولة وسيادتها، ووأد أي ديناميكية سلمية تتيح خروج اللبنانيين من الوصاية والاحتلال معاً. وحتى اتفاق الطائف، بوصفه خاتمة الحروب اللبنانية الأهلية برعاية سعودية وأميركية وسورية، سرعان ما شوهه حافظ الأسد ومن ثم ابنه بمعية أجهزته المخابراتية، منذ البداية، مع اغتيال الرئيس المنتخب رينيه معوض وتسليط ضباط المخابرات وأزلامهم من أمراء الحرب وسقط متاع الميليشيات المنحلة على الدولة والإدارة والمجتمع، وتناهب الموارد وإشاعة المافياوية كأسلوب حياة وعمل وسياسة وأخلاق. ومن ثم كان الانقضاض على المقاومة الوطنية اللبنانية، واستحواذ الجهاز الحرسي الإيراني وحزبه المحلي على تلك المقاومة لتكون امتداداً للمشروع الإيراني، وطموحات الأسد الإقليمية.
هذا ولا نغفل عن تناوب الجيشين أيضاً في الفتك بالفلسطينيين وتدمير مخيماتهم في لبنان.
وعندما أفل الاحتلال الإسرائيلي وزال عام 2000، اختلت “شرعية” وجود الجيش السوري، فجنّ نظام الأسد الذي اعتبر الانسحاب الإسرائيلي “مؤامرة”، وراح يمعن أكثر وبشراسة في القمع والتنكيل والترهيب باللبنانيين الذي راحوا يتخيلون استعادة مستحقة لاستقلالهم، ونهاية لحروب الآخرين على أرضهم، بعد انتهاء حروبهم الأهلية أيضاً، وميلهم نحو مصالحات وطنية تُجاري مسار إعادة الإعمار والازدهار الاقتصادي حينذاك.
ولم ننتبه آنذاك، لمدى عمق الشراكة الإيرانية وتغلغلها في لعبة السيطرة على لبنان، بواسطة حزب الله، الذي شاء بعد التحرير (عام 2000)، أن يحوّل المقاومة إلى مشروع أبدي، أو ذريعة كبرى لها حجتها الدامغة: محاربة إسرائيل. وهي بالأحرى، مشروع استيلاء على الكيان وتقييده بمحور إيران-سوريا من دون فكاك ولا سلم، وبكفالة الغلبة والهيمنة المذهبية والسلاح وفرق الاغتيال.
وعليه، بين رغبات الشطر الأعظم من اللبنانيين وإرادات ذاك المحور، وبالتزامن أيضاً مع “ربيع دمشق” الأول، الذي أظهر على نحو لا لبس فيه نفاد صبر السوريين من الاستبداد الأسدي، بدا الصدام محتوماً، والذي سينفجر أطناناً من الـ”تي. أن. تي” بجسد رفيق الحريري اغتيالاً لأحلام اللبنانيين جميعاً ولعاصمتهم.
ثم رداً على “انتفاضة الاستقلال” كان الاستدعاء السوري- الإيراني- الحزب اللهي للحرب الإسرائيلية عام 2006، كرغبة حارة ومحمومة للعودة إلى معادلة الاحتلالين وإبقاء لبنان “ساحة” لا بلداً ووطناً.
وبضراوة الاغتيالات والتلويح بالحرب الأهلية، كان اصطناع التناقض بين إنجاز الاستقلال وإنجاز التحرير.
هذا المحور نفسه، سيكون بعد أعوام قليلة أمام ثورة السوريين، لـ”يبدع” في الإبادة البراميلية والكيماوية والتطهير الطائفي: أكثر من نصف مليون قتيل وما يفوق المليوني جريح، وما يزيد عن 10 ملايين نازح ولاجئ.
وبالنظر إلى نسبة السكان في غزة وسوريا، وبغرابة رقمية لا مفاضلة فيها، نجد أن نظام الأسد ارتكب في سوريا ما ارتكبته إسرائيل في غزة بالتناسب نفسه. فإذا أخذنا عدد سكان غزة فهو يوازي تقريباً عشرة بالمئة من سكان سوريا. وعليه، نجد أن من قتلتهم إسرائيل هم نحو خمسين ألفاً (في سوريا 500 ألف). تناسب مروع.
ومن تجارب عقود مديدة، ذقنا وعلمنا أن أنظمة الاستبداد وإسرائيل معاً، قتلة أحلام الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين.
لذا، لا تناقض أن تكره الأسد وتكره إسرائيل.. وتكره ميليشيات السلاح الظلامي في آن واحد وبانسجام أخلاقي تام.
المدن
———————————–
المعارضة السورية المسلحة تسيطر على حلب… وتعبئة افتراضيّة لـ”البراميل المقدّسة” بالعراق
نسقت حسابات عراقية ويمنية مرتبطة بمجموعات مسلحة مدعومة من إيران حملة تعبئة افتراضية رداً على هجوم واسع لتحالف عسكري من فصائل المتمردين السوريين، تقوده هيئة تحرير الشام، بعد استيلائه على مدينة حلب، وتوسعه في مناطق أخرى شمال البلاد.
أعادت عملية عسكرية، سمّتها هيئة تحرير الشام وفصائل مسلحة متحالفة معها “ردع العدوان”، الحرب الأهلية السورية إلى دائرة الضوء، بعد سنوات من الهدوء النسبي. لا يزال الوضع متقلباً في حلب ومناطق في حماة، فيما اشتدت الضربات الجوية الروسية والسورية لعرقلة تقدّم المعارضة.
في هذه الأثناء، تصاعد نشاط وسوم عدة على الشبكات الاجتماعية تدعو الحكومة السورية إلى استخدام البراميل المتفجرة لوقف هجوم فصائل المعارضة.
وتعد البراميل المتفجرة من أبرز الأسلحة التي استخدمها نظام بشار الأسد مع تحوّل الثورة السلمية في البلاد إلى صراع مسلح منذ عام 2011، إذ ارتبط استخدامها بدمار واسع النطاق وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين.
بعض هذه الوسوم جديدة والأخرى كانت موجودة منذ عقد من الزمن على الأقل؛ مثل: #البراميل_المقدسة #البرميل_المقدس، و#لن_تسبى_زينب_مرتين، و#إدلب_معقل_الارهاب، و#سوريا_تسحق_الارهاب، ونشطت هذه الوسوم بدفعة من 3821 تدوينة، في الفترة بين 27 تشرين الثاني/نوفمبر و3 كانون الأول/ديسمبر 2024، تزامناً مع التحركات العسكرية في شمال سوريا.
شُوهدت التدوينات المنشورة في الوسم 544 ألف مرة على الأقل، وساهمت في توليد 16471 حالة تفاعل (إعجاب، إعادة مشاركة، ردود وتعليقات)، وفقاً لأداة Meltwater الرائدة في تحليل مواقع التواصل الاجتماعي.
وبلغ إجمالي نسبة التدوينات في صورة ردود ومنشورات مُعاد مشاركتها 84.7 في المئة، وهي معدلات قياسية مقارنة بنسبة 11.7 في المئة فقط للتدوينات الصادرة مباشرة من الحسابات.
تحريض ومحتوى مُكرّر ومعلومات مضلّلة
وفقاً لتحليل المشاعر باستخدام منصة Meltwater، أظهرت النتائج أن 76.6 في المئة من إجمالي منشورات الوسوم كانت ذات نبرة سلبية، بما يعادل نحو 2700 تدوينة. هذه النبرة السلبية تجلت بوضوح في محتوى الوسوم، الذي تضمن عبارات تحريضية تدعو صراحة إلى استخدام البراميل المتفجرة.
على مدار الأيام الأخيرة، نفذت طائرات روسية وسورية ضربات جوية على شمال غربي البلاد، بخاصة إدلب، المعقل الرئيسي للمعارضة السورية، حيث نزح ملايين الفارين من الحرب.
حتى 3 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بسقوط 602 قتيل نتيجة المعارك التي اندلعت منذ 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، من بينهم 104 مدنيين.
وكانت منشورات الوسوم تحرض القوات الحكومية السورية على مواصلة استخدام البراميل المتفجرة، وتتفاخر بلقطات مصورة للحظة إسقاط البراميل على مدن سورية أثناء الصراع.
وتوعّد أحد المنشورات بالقول: “ستحرق مدنكم ويقتل أطفالكم ونساؤكم وتهدم منازلكم ويذل رجالكم”، ودعا آخر “لا تنسون #البراميل_المقدسة على رؤوس أبناء البغايا، #البراميل_المقدسة دك حصون أبناء البغايا دكاً دكاً، إرهابيي جبهة النصرة والدواعش في إدلب صاروا كباب”.
وروّجت الحملة لروايات تتهم المتمردين السوريين بأنهم “عملاء ومرتزقة ينفذون المخطط الصهيوني الأمريكي”، و”لإضعاف وإشغال الدول والشعوب عن نصرة أهل فلسطين وغزة”، وأن التطورات في شمال سوريا “محاولة لفتح جبهة أخرى لشّل حركة المقاومة”.
مع تدوينات دعائية للدور الإيراني في سوريا والمنطقة، وترديد التصريحات السورية الرسمية بأن #سوريا_تسحق_الإرهاب وأن #إدلب_معقل_الارهاب.
إلى جانب تكرار نشر صورة تعبيرية تتضمن براميل، مصحوبة بعبارات تقول: “وما أنزلناه إلا رحمة للعالمين”، في اقتباس من الآية القرآنية “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.
واحتوت منشورات على معلومات مضللة قائمة على مقاطع فيديو قديمة باعتبارها من الأحداث الأخيرة من سوريا، مثلما نرى في الصورة أدناه، حيث نشر حساب @bas_irra مقطع فيديو مع تعليق ورموز تعبيرية ساخرة تعبر عن السعادة بانفجارات تظهر في الفيديو.
التحقق من الفيديو يقود إلى أنه نشر في آب/ أغسطس 2024، وكان قد صور في حي المنصورة بمدينة عدن في اليمن. يُظهر الفيديو الانفجارات القوية التي وقعت في محطة وقود هناك، والتي أسفرت حينها عن مقتل خمسة أشخاص وإصابة ستة آخرين.
ونُشرت صورة تم التلاعب فيها لتُظهر جنوداً إسرائيليين وكأنهم يحملون العلم الإسرائيلي مع علم تنظيم داعش. نشرت الصورة في حساب alfars5555555@، الذي يضع إعلام إيران وسوريا ولبنان والعراق واليمن؛ وهي ممارسة شائعة من الحسابات المرتبطة بميليشيات تابعة لإيران.
كان الهدف من الصورة التي ظهرت في وسم #البراميل_المتفجرة، الإسقاط على صلة إسرائيل بتنظيم داعش، الذي استولى على أجزاء كبيرة من شمال العراق وشرق سوريا بين عامي 2014 و2019.
في الماضي، كانت هيئة تحرير الشام (التي كانت تعرف سابقاً بـ”جبهة النصرة”) على علاقة بتنظيم داعش، إذ كانت جزءاً من الجماعات المتشددة التي نشأت في سياق الحرب السورية. ولكن منذ 2017، حاولت الهيئة تغيير صورتها وتقديم نفسها كحركة قومية إسلامية تركز نشاطها على سوريا فقط.
وتعود الصورة التي تم التلاعب بها -في الواقع- إلى مناورات الأسد الأفريقي التي أُقيمت في المغرب في حزيران/ يونيو 2024. هذه المناورات التي شاركت فيها كتيبة إسرائيلية، كانت قد نُشرت في حساب الجيش الإسرائيلي آنذاك.
وزعمت حسابات مشاركة في الحملة مقتل زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، بنشر صورة خضعت للتعديل أيضاً، في حين اتضح أن الصورة لأحد مقاتلي تنظيم داعش (أردني الجنسية)، الذي قتل في ريف حمص في أيلول/ سبتمبر 2015، بحسب صفحة “الحرس الجمهوري السوري الالكتروني اللواء 105″، التي نشرت الصورة الأصلية.
وعلى هامش ذلك، انتشرت صور ومقاطع فيديو قديمة غير واضحة السياق، يزعم ناشروها دخول عشرات الآلاف من مقاتلي الفصائل العراقية الشيعية إلى سوريا، لمساندة القوات الحكومية في صد التحركات العسكرية للمعارضة.
وذكرت تدوينات أن عناصر من ميليشيا الحشد الشعبي بين العناصر التي ستدخل إلى سوريا، وهو ما دفع السلطات العراقية إلى نفي ذلك، ووصف المتحدث باسم وزارة الداخلية العراقية، مقداد ميري، ما يقال إنه “كلام إنشائي” متداول عبر “فيسبوك”، مُعتبراً أنها “محاولات… تشويه الحقائق وإطلاق الشائعات حول تهديد أمن العراق وعدم تأمين الحدود بشكل كامل”.
ونفى رئيس هيئة الحشد الشعبي، فالح الفياض، دخول عناصره إلى سوريا، وقال إن الحشد “قوة رسمية تأتمر بأمرة القائد العام للقوات المسلحة”، و”لا يعمل خارج العراق والخطوط الدفاعية مع سوريا حصينة”.
في حين أوردت وكالة رويترز، نقلاً عن مصادر سورية وعراقية، أن مئات مقاتلي حركتي بدر والنجباء وصلوا سوريا بالفعل، على الرغم من النفي الرسمي العراقي.
من يؤثر في الموجة؟
وفقاً لـ Meltwater، تصدرت العراق واليمن وإيران المراتب الثلاث الأولى في النطاقات الجغرافية التي شهدت أكبر عدد من التدوينات عبر الوسوم النشطة المتعلقة بتطورات هجوم حلب.
في المقابل، رُصدت 2500 تدوينة صادرة من حسابات غير معروف موقعها؛ ما يشكل أكثر من نصف إجمالي التدوينات المنشورة عبر الوسوم المتعلقة بتطورات هجوم حلب، قد يشير ذلك إلى نشاط منسق تشارك فيه حسابات وهمية. فغالباً ما تكون الحسابات الطبيعية تحتوي على مكان محدد في مساحاتها التعريفية.
وبلغ إجمالي الحسابات المشاركة في الموجة 2391 حساباً، سبق أن شارك عدد كبير منها في حملات إلكترونية منسقة. وكان لافتاً أن بعضها يضع في مساحاتها التعريفية صوراً لشخصيات بارزة في المجموعات المسلحة المرتبطة بإيران؛ مثل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، وحسن نصرالله، الأمين العام السابق لحزب الله، وأبو مهدي المهندس، نائب قائد قوات الحشد الشعبي شبه العسكرية – اللذان قتلا في غارة أميركية في بغداد في 3 كانون الثاني/ يناير 2020 – والأمين العام لحركة المقاومة الإسلامية العراقية (عصائب أهل الحق)، فضلاً عن المرشد الإيراني علي خامنئي، وشعارات لحركة النجباء العراقية.
وكان حساب نورس مهاجر @bas_irra من بين الحسابات البارزة في الوسوم، والأكثر نشاطاً عليها بمجموع 62 تدوينة نشرها وحده.
يُظهر غلاف الحساب صورة سليماني وأبو مهدي المهندس، ويعرف نفسه بأنه مؤثر اجتماعي يتابعه أكثر من 40 ألف متابع.
يمكن تعريفه بأنه أحد أنشط الحسابات في الماكينة الدعائية لإيران والفصائل العراقية الموالية لها. وسبق أن علقت منصة إكس حسابات له، بسبب نشاطه المريب، وتورطه في حملات تحريضية ضد قوى عراقية أخرى ودول في المنطقة على خلاف مع طهران.
وتتابعه حسابات إيرانية معروفة بنشاطها الدعائي أيضاً، وتورطها في نشر مواد تحريضية ومعلومات مضللة؛ مثل حساب يعرف نفسه باسم “الدكتورة الإعلامية شهلاء”، @DShhla، التي تتبادل التفاعل مع “النورس”.
العلاقة بين حسابي “نورس المهاجر” و”سهلاء الإيرانية” على منصة إكس
في الوسوم، لاحظنا حضور مقاتلي فصائل عراقية سبق أن شاركوا في القتال منذ الشهور الأولى للحرب الأهلية في سوريا؛ مثل حساب أبو نمر الصافي A313ll@، الذي يعرف نفسه بأنه كان آمر كتيبة، ونشط على وسمي #لبيك_يازينب و#سوريا_تسحق_الإرهاب، بنشره مقطع فيديو له خلال إطلاقه النار.
في 13 كانون الثاني/ يناير 2023، نشر الصافي مقطع فيديو منخفض الجودة، قال إنه يُظهره وهو يقاتل في محيط منطقة السيدة زينب في دمشق في سوريا في عام 2012.
ضمن سياق الحملة نفسها، حضرت حسابات يمنية تعبر منشوراتها عن دعم مواقف جماعة الحوثي، المدعومة من إيران، من بينها حساب عبد الرحمن السلمي mohmd10780@، الذي نشر تدوينات عدة؛ منها صورة لبرميل، في إشارة إلى البراميل المتفجرة. وفي تدوينة أخرى، نشر صورة منتجة عن طريق تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ لتصوّر أحد مقاتلي المعارضة السورية وجندياً إسرائيلياً.
ولاحظنا أن حساب السلمي أعاد مشاركة لتدوينة ظهر فيها هاشتاغ #فرسان_الإعلام، وهو وسم ينشط عليه الحشد الإلكتروني لأنصار الحوثي على منصة “إكس”.
من خلال استخدام الهاشتاغ، كان حساب ansaralah11111@ يكتب في تدويناته هاشتاغات أخرى مثل #التوجيه_المعنوي و #جبهة_الإعلام، وهي وسوم ترتبط بشكل واضح بالقوى اليمنية المؤيدة للحوثيين.
وانتقل زخم الحديث عن التطورات الجارية في سوريا إلى قنوات تلغرام التابعة لقوى عراقية شيعية، سواء التيار الصدري أو المجموعات الموالية لإيران.
عادةً ما تكون هذه القنوات محطة أساسية لأنشطة التعبئة الافتراضية، إذ تنطلق منها الحملات الإلكترونية إلى منصات اجتماعية أخرى. ورغم أن القنوات التي قمنا بمراجعتها لم تحتوِ على وسوم محددة تتعلق بسوريا، إلا أن النقاشات التي أُجريت فيها غالباً ما كانت ذات طابع إخباري يتبنى الرواية الرسمية السورية، ويهاجم المعارضة.
من بين هذه القنوات، قناة “واحد بغداد” التابعة لأنصار التيار الصدري، ويشترك فيها 17332 مشتركاً. وقناة “شهد الياسري”، المرتبطة بالفصائل الشيعية المؤيدة لإيران، وتضم 17492 مشتركاً. تنشر القناة تحديثات يومية بشأن أوضاع الفصائل، وسبق أن شاركت في الحشد لحملات إلكترونية داعمة لمصالح القوى الشيعية.
درج
———————–
هل من استراتيجية أميركية في سوريا؟/ رنا أبتر
مسؤولون سابقون لـ«الشرق الأوسط»: إدارة بايدن أخطأت بإهمال الملف
6 كانون الول 2024
مع تسارع الأحداث في سوريا، تقف الإدارة الأميركية في حيرة من أمرها تجاه التعاطي مع الأمر الواقع الذي فرضته التطورات عليها، فبعد أن تنفست الصعداء إثر التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في لبنان، جاءت المعارك السورية لتزعزع توازنها مجدداً وتفرض عليها سياسة «رد الفعلـ» مجدداً، مع تشديد المسؤولين فيها كماثيو ميلر، المتحدث باسم وزارة الخارجية، على أهمية وجود مسار «يخفف التصعيد».
وينظر السفير السابق إلى العراق وتركيا والمبعوث الخاص السابق إلى سوريا وللتحالف الدولي لهزيمة «داعش» جايمس جيفري، إلى ما يجري في سوريا بوصفه أولاً «انعكاساً على المستوى الإقليمي لانهيار إضافي للتحالف الإقليمي لوكلاء إيران».
وقال جيفري لـ«الشرق الأوسط» إن المستوى الثاني للتطورات في سوريا يشي بـ«ضعف متزايد» لسلطة الرئيس بشار الأسد، مضيفاً أنه (أي الرئيس السوري) لم يعد قادراً «بشكل كامل على المصالحة مع جزء حتى من المعارضة السورية الواسعة، أو التوصل إلى اتفاقات تسوية مع الدول العربية أو تركيا»، وفق تقييمه.
وعلى مستوى قريب، يعتقد كبير المستشارين السابقين للمبعوث الخاص إلى سوريا وكبير الباحثين في معهد الشرق الأدنى، أندرو تابلر، أن «هيئة تحرير الشام» (كبرى الفصائل المسلحة التي بدأت الهجوم من الشمال الغربي السوري باتجاه المدن التي كان يسيطر عليها الجيش السوري)، «استغلت نقاط ضعف» في القوات الحكومية السورية، «ناجمة عن انسحاب حلفاء إيران، وروسيا من سوريا». ويقول تابلر لـ«الشرق الأوسط»: «لقد كان هذا التحرك فعالاً جداً».
أما ناتاشا هال، كبيرة الباحثين في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فترد سبب الأحداث المتسارعة في سوريا إلى ما وصفته بـ«الانهيار الإقليمي في توازن القوى»، وتفسر في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، قائلة: «هذا التوازن كان هشاً إلى حد كبير؛ لأننا نرى لدينا الكثير من الصراعات الطويلة الأمد في المنطقة التي لم تُحل أبداً؛ من فلسطين إلى سوريا إلى اليمن. وبالتالي عندما ترى نوعاً من التراجع في القوة من جانب، تلاحظ فراغاً في جانب آخر يتم استغلاله».
وتشرح أنه في الحالة السورية، كانت الفصائل المسلحة «محاصرة في جزء صغير في شمال غربي سوريا، وانتهزت اللحظة التي كانت تستعد لها منذ أشهر، إن لم يكن سنوات، لشن هذا الهجوم، لاستعادة المناطق التي فقدوها».
«الهيئة»… والموقف الأميركي
ومع غياب موقف أميركي واضح، واستراتيجية مفصلة في المنطقة، يبقى الموقف الأبرز هو ما ورد على لسان جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي، الذي أعرب عن «قلق الولايات المتحدة العميق» من «هيئة تحرير الشام» المصنفة على لوائح الإرهاب.
وقال سوليفان في مقابلة مع شبكة «سي إن إن»: «لدينا مخاوف حقيقية من تصميم المجموعة وأهدافها، لكن في الوقت نفسه طبعاً لا نحزن بأن حكومة الأسد المدعومة من روسيا وإيران و(حزب الله) تواجه أنواعاً معينة من الضغوطات».
تصريح مشبع بإشارات مبطنة، يسلط جيفري الضوء عليها فيقول: «بينما لا تزال الولايات المتحدة والأمم المتحدة تصنفان (هيئة تحرير الشام) ضمن القوائم الإرهابية، لم تتخذ أميركا أي إجراءات ضدها منذ سنوات، حيث لم تقم بما تعدّه واشنطن هجمات إرهابية».
ويستطرد جيفري قائلاً: «بالطبع، هي حركة استبدادية ويجب مراقبتها عن كثب، خاصة أن واشنطن تسعى إلى وقف إطلاق النار لتجميد الصراع مرة أخرى، وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254 (تم التصويت عليه عام 2015، ويدعو إلى وقف إطلاق النار في سوريا وبدء محادثات سلام)».
ويذهب جيفري إلى أن «دعم (هيئة تحرير الشام) لهذا القرار وتجنب جرائم الحرب وقبول وقف إطلاق النار سيكون حاسماً في تقييم الولايات المتحدة للمنظمة».
إهمال الملف
ويستبعد تابلر أن تسيطر «هيئة تحرير الشام» على كل سوريا ويقول: «لندع الهيئة والنظام يحسمان المسألة عبر القتال»، موجهاً انتقادات لاذعة لإدارة بايدن، لافتاً إلى أنها «أخطأت كثيراً عبر إهمال ملف سوريا كلياً ما تسبب بإضاعة تامة للوقت».
وهنا تشير هال إلى أن إدارة بايدن لن تقوم بالكثير في هذه المرحلة الانتقالية من الحكم بانتظار تسلم ترمب للرئاسة في العشرين من يناير (كانون الثاني) المقبل.
لكن هال تلفت إلى بُعد مهم تحتاج إليه واشنطن وهو برأيها، «العمل مع تركيا لضمان بقاء طرق الإمداد مفتوحة ولإيقاف أو حماية المناطق المدنية من القصف المستمر من قبل القوات السورية والروسية لتجنب أزمة إنسانية».
وتشدد هال على أن هذه الأحداث «تفتح المجال للحصول على تنازلات» من الرئيس السوري، لكنها تضيف: «لا أعتقد أن هذه التنازلات ستكون واقعية من ناحية الابتعاد عن إيران، ولكن بالتأكيد يمكن الحصول على تنازلات لتخفيف بعض أسباب الصراع في المقام الأول، وربما للحفاظ على بعض الانتصارات التي حققتها المعارضة، وللحصول على مزيد من التنازلات في المفاوضات التي تعاني من الجمود، سواء بين تركيا وسوريا، أو بين السوريين أنفسهم».
السيناريوهات المحتملة
مع تسارع الأحداث، تصعب قراءة المخرجات المحتملة، لكن جيفري رجّح أنه في حال تمكن الجيش السوري من إظهار «معاندة» اعتماداً على الضربات الجوية المشتركة مع روسيا، فإن ذلك قد «يشجع أنقرة وسكان إدلب على الضغط على (هيئة تحرير الشام) والقوى المعارضة السورية لقبول وقف إطلاق النار».
لكن مع ذلك لا يستبعد جيفري «تدخلاً تركياً مباشراً»؛ إذ أسفرت الهجمات المضادة من الجيش السوري المدعوم من روسيا عن وقف تقدم الفصائل المسلحة، ودفعها للتراجع.
ومع التطورات العسكرية المتلاحقة، تقول هال إنه من «الصعب جداً التنبؤ بما سيجري؛ لأن الأمور تتحرك بسرعة كبيرة، وقد نشهد تصعيداً مستمراً في العنف»، ما يعني في تقديرها «الحاجة إلى الحفاظ على طرق الإمداد مفتوحة لهذه المجتمعات أيضاً».
وتستمر هال عارضة سيناريو آخر وهو التسوية، فتقول: «قد يكون هناك نوع من الصفقة التي تكون بوساطة روسية – تركية»، لكنها الأمر رهن بمخرجات المعارك الحالية، وحجم الأراضي التي سيمكن للفصائل المسلحة الاحتفاظ به، وهو في تقديرها «سيصبح أكثر تعقيداً»، في ظل تشابك حسابات إيران و«حزب الله»، وتضررهما بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، وكذلك تعدد التقديرات الروسية.
«داعش»… و«قيصر»
وفي خضم هذه الأحداث يحذر البعض، كوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، من احتمال عودة تنظيم «داعش» عبر المعارك السورية، وفيما يعرب جيفري الذي كان مسؤولاً عن ملف مكافحة التنظيم في إدارة دونالد ترمب عن تخوفه من هذا السيناريو، فإنه يؤكد في الوقت نفسه أنه «من الممكن احتواء (داعش) ما دامت القوات الأميركية باقية في شمال شرقي سوريا، وما دام الأتراك وقوات سوريا الديمقراطية ملتزمين باتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه عام 2019».
وبانتظار اتضاح الصورة، يتخبط الكونغرس الأميركي بدوره في مساعيه لتجديد عقوبات «قانون قيصر» الموجهة لسلطة الرئيس السوري، ويمتد إلى من يتعامل معها، والتي ستنتهي صلاحياتها في العشرين من الشهر الحالي.
وأشارت مصادر في الكونغرس لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن المفاوضات جارية بشكل مستمر لمحاولة تخطي تحفظات بعض أعضاء مجلس الشيوخ على آلية إقرار المشروع وتمديده.
وبدأ سريان «قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا»، المعروف بـ«قانون قيصر»، عام 2020 تكريماً لمصور سوري اسمه السري «قيصر»، وثّق بعدسته عشرات آلاف الحوادث لمواطنين سوريين. وتم تمرير القانون لأول مرة عام 2019 بأغلبية ساحقة في مجلسي الشيوخ النواب، في عهد ترمب.
الشرق الأوسط
————————-
سوريا بعد حين… المعركة بين الحروب/ إيلي القصيفي
خطوط تماس جديدة وخرائط نفوذ جديدة وربما تسويات جديدة
06 ديسمبر 2024
لم يكن أحد يتوقع أن تعود سوريا خبرا أول في نشرات الأخبار وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 سرقت الحرب في غزة، ومن ثم في لبنان، الأنظار والاهتمامات، حتى بدا أن كل ملفات المنطقة الأخرى أصبحت ثانوية بل ومنسية. لكن الأهم الآن أن الحدث السوري مرشح لأن يظل طويلا في قائمة المتابعة السياسية والإعلامية، في وقت يتراجع فيه الاهتمام بلبنان الذي يشق طريقه نحو ستاتيكو جديد بعد اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وفي وقت يتراجع أيضا وإن بدرجة أقل الاهتمام بقطاع غزة الذي قد يشهد هو الآخر هدنة وصفقة تبادل، وإن كان مستقبل الحرب هناك لا يزال ضبابيا ومبهما.
قيل الكثير حول أن الحروب الأهلية التي اندلعت في المنطقة، وبالأخص في سوريا منذ عام 2011، كانت للإلهاء عن القضية المركزية المتمثلة في الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل. لكن الحدث السوري المستجد والمفاجئ مع سيطرة الفصائل المسلحة على مدينتي حلب وإدلب وحماة، أثبت أن النزاعات في دول المنطقة هي نزاعات “متأصلة” بفعل الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التاريخية في هذه الدول والتي لا تعالجها الهدن واتفاقيات وقف إطلاق النار والمصالحات ولا “تثبيت” خطوط تماس لتقسيم مناطق النفوذ المحلية والخارجية. فهناك دائما دوافع محلية لهذه الصراعات أيا يكن حجم التدخلات الإقليمية والدولية فيها وأيا تكن التوظيفات السياسية لها. ولا شك في أنه لولا هذه الدوافع لما كان من الممكن لأي دولة إقليمية أو دولية أن تقيم أجندتها الخاصة في خريطة النزاع وأن تستثمر في الأطراف المتصارعة لتحقيقها.
والحال فإنه بمقدار ما يستحيل فصل الحدث السوري الراهن عن الأحداث في المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023 باعتباره استكمالا لها وحلقة جديدة من حلقاتها، فإنه يستحيل أيضا مقاربة المشهد السوري الجديد على قاعدة أن ما جرى هو خرق لستاتيكو طبيعي، وكأن الأوضاع في سوريا لم تكن استثنائية حتى مع تراجع حدة المعارك وتوزع القوى المتصارعة على مناطق نفوذها، وكأن النزاع كان في طريقه إلى الحل أو أن حله ليس ضرورة ما دام يمكن التأقلم معه.
وإذا كانت عملية “طوفان الأقصى” قد أعادت التذكير بقضية الفلسطينيين بكلفة هائلة وغير متوقعة حتى من “حماس” نفسها، وبنتائج كارثية أيضا، فإن عملية “رد العدوان” التي نفذتها الفصائل المسلحة في شمال غربي سوريا، أعادت أيضا التذكير بالمسألة السورية وتبعاتها الكارثية على السوريين أنفسهم وعلى المنطقة ككل. وهذا ليس من دون معنى سياسي، على قاعدة أنه لا يمكن مقاربة الأحداث في المنطقة كما لو أن بعضها يلغي بعضها الآخر، وبالتالي فإنه لا يمكن لعودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة أن تلغي حقيقة أن هناك أحداثا كامنة في المنطقة لا بد وأن تعاود الظهور والتطور في “اللحظة المناسبة”.
وهو ما يتطلب مقاربة الملفات الملتهبة في المنطقة مقاربة شاملة بحيث لا يمكن فصل ملف عن الآخر وبحيث لا يمكن فهم ما يحصل في ساحة من ساحات الصراع من دون فهم ما يجري في الساحات الأخرى. ولعل هذا الترابط المتين بين أحداث المنطقة يؤكد أن الصراع الدولي والإقليمي فيها يتعامل مع ساحاتها باعتبارها ساحة واحدة، أي إنه لا فرق هنا بين الساحة الفلسطينية أو الساحة السورية أو الساحة اللبنانية أو الساحة العراقية. كل الساحات مترابطة وكل الساحات تعيش صراعا أكبر وأوسع منها.
وهذا إن عنى شيئا فهو أن الحرب في قطاع غزة وفي لبنان لم تكن وحسب حربا بين إسرائيل من جهة و”حماس” و”حزب الله” من جهة ثانية. بل إن هذه الحرب كانت حربا دولية وإقليمية، بين إسرائيل وأميركا من جهة وإيران وحلفائها الدوليين، روسيا والصين، من جهة ثانية، مع التفاوت الهائل في مدى التدخل الأميركي لدعم إسرائيل، ومدى التدخل الروسي أو الصيني الذي يكاد يكون معدوما في دعم إيران، لكن من الناحية الجيوسياسية لا يمكن تصوير الصراع إلا على هذا النحو بغض النظر عن حجم الدعم الذي تقدمه أي دولة كبرى لحليفتها الإقليمية، إذ يصعب عزل الصراع الإقليمي عما يجري من حروب باردة على الساحة الدولية بين اللاعبين الكبار، وانعكاسات الحرب الروسية على أوكرانيا على مسارات الحرب السورية أبلغ دليل عل ذلك.
وبالتالي فإن الفلسطينيين الذين دفعوا ثمنا هائلا وقد لا يعوض جراء حرب إسرائيل ضدهم بعد السابع من أكتوبر 2023، ينبغي أن يكونوا معنيين بعد هذه التجربة بأن يقيموا نضالهم ضد الاحتلال الإسرائيل من منظار موازين القوى الإقليمية والدولية ومن ضرورة فصل نضالهم عن الأجندات الدولية والإقليمية خصوصا بعد تجربة “حماس” مع إيران خلال الحرب الأخيرة، إذ تبين بما لا يقبل الشك أن تعرض الفلسطينيين للوحشية الإسرائيلية غير المسبوقة لم يدفع طهران إلى بذل أي جهد للدفاع عنهم يمكنه أن يعرضها لمخاطر لا تريد تحملها نيابة عن أحد. كذلك فإن “حزب الله” الذي أضعفته الحرب الأخيرة بعدما كان قد تسلق سلم القوة تدريجيا بعد حرب عام 2006 وتحول إلى قوة إقليمية، خصوصا بعد مشاركته في الحرب السورية، أصبح مضطرا لإعادة صياغة أدبياته في ما يتعلق بـ”وحدة الساحات” وتخطيط “محور الممانعة والمقاومة” لإزالة إسرائيل بقيادة إيران.
وبالعودة إلى المشهد السوري المشتعل والذي لا يتوقع أن ينطفئ اشتعاله قريبا، فإن ما جرى ويجري في توقيته وتفاصيله يضعف نظرية إيران وحلفائها عن أن كل ما يحصل في سوريا منذ عام 2011 هو للإلهاء عن القضية الفلسطينية ولإشغال “محور المقاومة” بعيدا عن سعيه لتحرير فلسطين. فتوقيت انطلاق “ردع العدوان” لا يخدم هذه النظرية إطلاقا إذ إنه أتى في أعقاب الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة وضد لبنان أو في نهاياتها ولم يأت في بداياتها أو خلالها. لكن أيضا فإن واقع الحال يؤكد أن هجوم الفصائل السورية في شمال غربي سوريا والمتمدد جنوبا، جاء في لحظة بلغ فيها ضعف إيران وحلفائها أقصاه بعد الحرب الأخيرة. وهذا الأمر يحيلنا مرة جديدة إلى طبيعة الصراع في المنطقة بما هو صراع على النفوذ الإقليمي والدولي بما يتجاوز القضية الفلسطينية لا بل ويجعل الفلسطينيين، بوصفهم الحلقة الأضعف، يدفعون أكلافه الأعلى.
ولذلك فإن الحدث السوري في مجرياته الحالية وفي مآلاته المنتظرة يأتي كترجمة للمتغيرات التي أحدثتها الحرب الأخيرة في موازين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة. بمعنى أن هذه المتغيرات تلقى ترجماتها الأولية في الخريطة السورية في عودة غير متوقعة بالصراع الإقليمي إلى أكثر ساحاته احتداما، ولكن هذه المرة مع تحولات كبرى يمكن معاينتها بوضوح من خلال مواقف وحركة كل القوى المشاركة في الصراع، وبالأخص روسيا وإيران اللتين أنقذتا حكم الرئيس بشار الأسد من السقوط عام 2015 بينما تبدوان الآن غير قادرتين أو غير مستعدتين لمؤازرته بما يمكنه من صد هجوم الفصائل المسلحة المتقدم جنوبا.
لكن في الوقت نفسه فإن النجاح المستمر لهجوم هذه الفصائل لا يعني أنها ستكون قادرة على الاستمرار في التقدم وكسر “الخطوط الحمراء”، حتى لو كان دعم موسكو وطهران للجيش السوري بطيئا وغير كاف كما يبدو جليا. فهذه الفصائل وبالرغم من تفوقها العسكري حتى الآن، وسعي دول إقليمية ودولية إما لدفعها إلى الأمام وإما للاستثمار في نجاحاتها الآنية، فهي لن تكون قادرة على قلب المشهد السوري رأسا على عقب. فهي وإن كانت مستفيدة من المتغيرات الحاصلة في المنطقة فإنها لن تستطيع أن تحظى بـ”شرعية” دولية وإقليمية لـ”حكمها”، حتى لو أعطت إشارات إلى استعدادها لإجراء تحولات في بنيتها الأيديولوجية وخطابها ولو خاطبت السفارات بمفردات الدولة والحكم المدني. وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن إسرائيل نفسها التي تخوض حربا مفتوحة ضد محور إيران في المنطقة والذي تشكل حكومة دمشق، إلى هذا الحد أو ذاك، جزءا محوريا فيه، أعربت عن خشيتها من الفوضى في سوريا في حال سقطت حكومة الأسد تحت وقع هجوم الفصائل المتواصل، وهي لا تزال تفضل التعامل مع “الشيطان الذي تعرفه”.
وهذه إشارة كافية لإدراك أن إعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة، تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد”، لا تحتمل المخاطرة مع لاعبين جدد لا يمكن التنبؤ بسلوكهم ولا يمكن إلزامهم بالتفاهمات الجديدة، لكن في مطلق الأحوال فإنه يصعب الاعتقاد بأنه من السهل التحكم في الحدث السوري عن بعد وكأن ما بدأ يمكن إيقافه في لحظة وبكبسة زر. ولذلك فإن المشهد السوري يتراوح بين حدين رئيسين، فمن جهة لا يمكن توقع تطبيع عربي ودولي مع تقدم الفصائل المسلحة وحكمها في ظل الانهيار السريع للجيش السوري، ومن جهة ثانية فإن هذه الفصائل فرضت أمرا واقعا على الأرض لا يمكن تجاوزه أو محاولة الالتفاف عليه وكأنه فصل عادي من فصول الحرب السورية الطويلة.
هذا كله يزيد من تعقيدات الحدث السوري ومن صعوبة توقع تطوراته ومآلاته، لكن السيناريو الأكثر ترجيحا أن يتوقف تقدم الفصائل المسلحة عند حدود معينة، يتم بعدها التوصل إلى وقف لإطلاق النار بعد أن تكون الحكومة السورية قد خسرت مزيدا من الأراضي وضعفت أكثر. خصوصا أن قيام الجيش السوري بهجوم مضاد بمؤازرة روسية وإيرانية لا تتوفر له حظوظ كبيرة، في ظل انشغال روسيا في أوكرانيا وحساباتها المعقدة مع إسرائيل ومع أميركا ولاسيما بعد انتخاب دونالد ترمب. كذلك فإن إيران لا يمكنها أن تعيد إرسال مقاتلين إلى سوريا مثلما فعلت في بدايات الحرب، خصوصا أن الحكومة العراقية حذرة في التعامل مع الأحداث وهي نشرت الجيش على الحدود مع سوريا، ما يعني أنها لن تكون متعاونة في إدخال المقاتلين إليها خشية الضغوط الأميركية عليها.
كذلك فإن الحرب الأخيرة أطلقت يد إسرائيل أكثر في استهداف قوافل الأسلحة والمقاتلين، وهو ما يزيد من صعوبة نقل العتاد والعناصر من قبل إيران. هذا فضلا عن أن الحكومة السورية التي حاولت خلال الحرب الأخيرة التمايز عن موقف “محور المقاومة” والاستثمار في القنوات العربية الجديدة، لن تستطيع العودة خطوات إلى الوراء ووضع كل أوراقها في سلة طهران، لاسيما أنها تدرك محدودية الدعم الإيراني هذه المرة، وهو ما أثبتته الأحداث حتى الآن. أما بالنسبة لتركيا فمن غير المتوقع أن تذهب في دعمها للفصائل المسلحة حتى النهاية وأيا تكن النتائج، فهي أيضا تتطلع إلى أهداف محددة من هذه الجولة الاستثنائية من الحرب السورية، وربما بدأت منذ الآن بقطف ثمارها واقتربت من الاكتفاء. وهو ما تدل عليه دعوة الرئيس أردوغان للأسد لإيجاد حل عاجل للأزمة السورية. ومن الممكن أن يتفق ثلاثي آستانية، تركيا وإيران وروسيا، خلال اجتماعه السبت في الدوحة على ترسيم حدود الصراع المستجد ومناطق النفوذ الجديدة. أما واشنطن فتطلع إلى انتهاء هذه الجولة لصالح استراتيجيتها في إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا وإبعاد الأسد عن طهران، كما صرح مسؤول أميركي. لكن لا شك في أنّ الحسابات الأميركية قد تكون معقدة أكثر في لحظة الانتقال بين ولايتين وبين استراتيجيتين.
وفي المحصلة فإن المشهد السوري بعد التطورات الأخيرة لن يعود كما كان قبلها، فقد أصبحت هناك خطوط تماس جديدة وخرائط نفوذ جديدة، وربما تسويات جديدة قد لا تنهي النزاع لكنها تجمده مرة أخرى ولصالح الفصائل المناوئة للحكومة السورية هذه المرة وفي غير مصلحة كل من روسيا وإيران… بانتظار معركة أخرى بين الحروب!
المجلة
————————
حمص تنظر شمالاً/ منى رافع
استنفار أمني وترقّب قلق لما بعد «ردع العدوان»
6 كانون الأول 2024
بينما تتجه العيون إلى ريف حمص الشمالي بعد خروج حماة من سيطرة قوات النظام، هكذا عاشت مدينة حمص الأيام الماضية منذ دخول فصائل عملية «ردع العدوان» إلى مدينة حلب.
*****
«وينو الأفندي؟»، يسأل أحمد عن بشار الأسد بتخوّف. وأحمد عسكري مُسرَّح من الخدمة في بداية الأربعينيات من عمره. جاء ذلك السؤال في الأيام الأولى لخروج حلب عن سيطرة النظام. «الأفندي ليش ساكت؟ ما حرام هالشباب؟»، أصرّ بصوتٍ مرتجف، ليتابع: «المشكلة إنه بين المسلحين في أوزبك وشيشان، هدول دمويين وبيقتلوا الكل».
خروج حلب عن سيطرة النظام بالكامل كان مفاجأة مدوّية للجميع، بمن فيهم أهل حمص. في ليلة الأول من كانون الأول (ديسمبر) لم ننم ونحن نتابع الأخبار. حلب، التي لطالما كانت عصيّة، باتت غير خاضعة للنظام، والعمليات العسكرية ما زالت مستمرة دون أفقٍ واضح.
ابتداءً من أول أيام الشهر بدأ الناس يتموّنون، ليختفي زيت القلي بسرعة من السوق. أحد مؤشرات خوف الناس هو اختفاء زيت القلي ولو لوقت قصير، إذ بات الناس يعرفون سرعة اختفائه في الأزمات لرفع سعره. أيضاً، تَوقَّعَ الناس ارتفاعاً في سعر صرف الدولار، وهو ما حصل. كما أغلق الصاغة محالهم أو قاموا بإخفاء بضاعتهم. يتهافت الناس لشراء الذهب والدولار لتُفاجئهم العملة الأميركية بسعرٍ وصل إلى 20 ألف ل.س مع انتهاء يوم الأربعاء، وهذا إن وجد؛ فيما الذهب مفقودٌ من الأسواق بالكامل.
يرى المتجول في شوارع حمص نهاراً أن الأسواق مزدحمة، فالناس يشترون ما يمكن تخزينه تحسباً لأيام قد تكون عصيبة. لكن، بحلول المساء، يختفي الناس من الأسواق التي تبقى مفتوحة مع ذلك حتى حوالي الساعة التاسعة مساء. تُتداوَل شائعات عن بيان لقيادة الشرطة يمنع إغلاق المحلات، مُحذِّراً من أن عدم الامتثال سيُعامل معاملة العصيان المُستوجِب للعقوبة، ورغم عدم وجود أي أثر لهكذا بيان على صفحات وزارة الداخلية أو قيادة الشرطة إلا أن هذا الكلام منتشر. يشير موظفون حمصيون يعملون في حماة إلى تلقّيهم تعليمات بالدوام في مراكزهم، مع التنبيه إلى عدم قبول أي أعذار للتغيّب. مع ذلك، أكّدَ لنا موظف حمصي في دائرة حموية أنه لن يخاطر بالذهاب شمالاً إلى حماة، حيث تجري معارك على مشارف المدينة وقت الحديث معه.
«بشار كسب التأييد الدولي… مصر والعراق والإمارات والسعودية. بشار كسب التأييد الشعبي كمان، الجيش انسحب من حلب حتى يشوفو شو رح يعملوا المسلحين»؛ قال أحمد مستدركاً بتحليل سياسي بدا وكأنه مواساة للنفس.
يوم الثلاثاء فوجئ الناس بالجيش والأمن وهم ينصبون متاريس وحواجز لفصل بعض الأحياء في حمص عن بعضها، قاطعين الشوارع والحارات الفرعية وتاركين طرقات رئيسية محددة مفتوحة. تهدف هذه الإجراءات لمراقبة الحركة بين الأحياء، وتقسيم المدينة أمنياً. «إنهم يتجهزون»، يقول لنا بائع الخبز الخمسيني الذي بدأنا نشتري من عنده كميات إضافية من الخبز والطحين، مُضيفاً «من يراهم يضعون المتاريس والحواجز يظن أن مشكلتهم مع الناس الموجودين هنا، وليس مع القادمين من مكانٍ آخر».
«أخدوا تلبيسة. الخونة قلّعوا الجيش»، قال أحمد وهو يُصرّ على أنه متماسك، وأنّ لا شيء يخيفه.
للرستن وتلبيسة قصتان طويلتان مع النظام، ابتداءً بثورتهما عليه وليس انتهاء بسقوطهما في يده وتهجير الكثير من أهاليهما بالباصات الخضراء. ما زالت المدينتان تعيشان وضعاً حَذِراً، يبدو أحياناً غير واضح إلا لساكنيهما. ورغم ذلك انتشرت مقاطع فيديو من المدينتين ليلة خروج حلب من سلطة النظام، تُظهر احتجاجات وحرق نقاط عسكرية في مدينة تلبيسة. فَهِم الناس في المدينة الرسالة، وفهمها النظام كذلك.
يوم الثلاثاء أيضاً، شعرنا بنسمات قوية يتم نفثها على الجمر المختبئ تحت رماد المدينة، على ما لا يمكن التغاضي عنه مهما حاولنا: الحساسية الطائفية في حمص.
«بكرا بيجوا لعندي وبقولولي أهلين بأحمد العلوي، كنا ناطرينك»؛ قالها أحمد وهو يفتعل الضحك لا الابتسام فحسب.
مرَّ اليوم وحديثُ «الأوضاع» على كل لسان؛ إن أخذت الفصائل حماة فسيأتي الدور علينا. و«كلُّ لسان» هذه تتضمن ألسنة كل الطوائف، التي يحتكّ أفرادها، بتنوّعهم، مع بعضهم بعضاً في حياتهم اليومية. ما يُوحِّدُ الجميع هو الخوف، فيما تتفرّق أسباب هذا الخوف، إذ لكلٍّ هنا وجعه ومخاوفه المختلفة بالكامل عن أوجاع ومخاوف «الآخر». يخاف المؤيدون من الفصائل، فيما خوف معظم الناس هو من ردِّ فعل النظام، ومن غدره، ومن غضبه ومن جيشه وأمنه. هذه معادلة صعبة تُمزّق الخوفَ إلى قسمين متفارقين. يبدو الحديث عن هذه النقطة مؤلماً وثقيلاً، لكنه الوتر المشدود الذي يفهمه سكان المدينة باختلافهم، ويمشون عليه منذ سنوات.
«إدلب كلها إرهابيين، والأطفال كبروا وصاروا رجال»، تقولها موظفة حكومية في نهاية ثلاثينياتها، وهي ابنة ضابط متقاعد. تمتلئ عيناها خوفاً على ابنتيها اللتين لم تتجاوزا الثلاثة أعوام وهي تتحدث. هل هناك محاججة أو تطمين يستطيع تغيير القناعة بأن معارضي بشار الأسد هم إرهابيون وقتلة، أو مشاريع قتلة؟
«اكتشفنا خلايا نائمة. كان لازم يصير هيك حتى نعرفهم»، قال أحمد بلهجة واثقة ومُنتصِرة.
ما زلنا في الثلاثاء، الثالث من كانون الأول. اليوم طويل ولا ينتهي. أين الذهب؟ أين الدولار؟، أين البضائع؟ ولماذا كل هذا الغلاء؟
مساءً، تصلُ الأخبار تباعاً من حماة؛ «ادعولنا». يختلف الدعاء حسب طالبيه، ويختلف الدعاء أيضاً حسب من يلفظه. الدعاء المُوحَّد الظاهر هو «الله يحميكم»، أما ما يُبطِنهُ هذا الدعاء فيحمل تعقيدات المدينة الكثيرة.
المتاريس والحواجز الأسمنتية عند بعض الأحياء، مثل القرابيص والخالدية والوعر والقصور ودير بعلبة، والدوشكا التي وُضِعت عند مدخل حي بابا عمرو، وسيارات الأمن التي تتجول في الشوارع، وإعلانات التعبئة على صفحات الفيسبوك التي تعرض مبالغ مالية كبيرة، والوجوه الواجمة، والأفواه الصامتة والعيون المُترقبة، والأصابع التي تتحرك بسرعة على شاشات الهواتف لتحديث الأخبار… كل ذلك حاصلٌ الآن. يراقب الجميع مجريات الأحداث بقلق، ويتهامس البعض حول أن قسماً من أهل المدينة؛ «حاضنة النظام»، مُسلّحون، ويتهامس بعضٌ آخر بشائعات عن ازدياد هذا التسلّح هذه الأيام، متسائلين عن كيف سيُستخدم هذا السلاح.
«على فكرة، عندك خبر إنه بحمص كتير ناس ناطرينهم يدخلوا؟»؛ يسأل أحمد بنبرةٍ متألمة بشكل حقيقي ومقنع.
انتهى الثلاثاء الذي بدا عصياً على الانتهاء، ونحن الآن في الأربعاء، الرابع من كانون الأول (ديسمبر). لم يستوعب الناس بعد المنطق الناظم للحواجز الأسمنتية، وفوجئوا اليوم بإزالة حاجز أسمنتي وُضِع بالأمس قرب دوّار «تسعة أربعة». فُسِّرَ رفع الحاجز بالزحمة الخانقة التي سبّبها، أو ربما لأن الأمن والعسكر ارتأوا أن الحواجز المتبقية قادرة على ضبط الأوضاع بما يكفي.
يبدو واضحاً سعي النظام لفرض سيطرته التامة على كل المناطق وتأمينها من أي تدخّل مشبوه، أكان من داخل المدينة أو من خارجها. يذكّر انتشار الحواجز الحالي بتلك التي كانت تُقطِّع المدينة قبل 2018، والتي أتاحت له الإطباق عليها بكمّاشات فولاذية. يرى كثيرون أن النظام يفعل الآن ما فعله حينها، لكن ثمة فارقاً مهماً وكبيراً، وهو أن النظام إذ يسعى لإكمال إطباق قبضته الأمنية والعسكرية على المدينة، يسعى في الوقت ذاته لإقناع الناس بأن لا شيء غير مألوفٍ يحدث، وأن الحياة طبيعية ويجب أن تبقى كذلك. نرى ذلك في التطمينات المتواصلة على صفحات الفيسبوك المحلّية، وفي السعي لعدم حصول تَغيُّرات في عمل مؤسسات الدولة ولا حركة الأسواق. لكن أي حياة طبيعية تحصل وقد سُدَّت كل منافذ حيّ الوعر باستثناء طريق واحد، وأي حياة طبيعية مع تأجيل امتحانات الجامعة إلى الثاني والعشرين من الشهر الجاري؟
بمختلف مخاوفهم وطوائفهم ومواقفهم السياسية، يتحدث الناس عمّا يجري في المدينة والبلد، وعن توقعاتهم، وعمّا لديهم من إشاعات. هناك طرف واحد، مؤيد للنظام، يستطيع أن يعبر عن رأيه بوضوح، بينما الآخرون واجمون. لكن لا صورة متكاملة لدى أحد. الأخبار متخبطة وغير مكتملة نتيجة طبيعة الظرف الصاعق، وما هو ناقص من معلومات يُستكَمَل بالتصوّرات والتمنيات.
«الجولاني مات، شوفي نعوته، هاي من صفحاتهم ما من صفحاتنا» قالها أحمد، العسكري المُسرَّح.
برج الموت، أو برج الغاردينيا، البرج الشهير الذي أذاق القناصةُ أهالي الوعر الويلات من أعلاه، ما زال صامداً. «سيكون هذا البرج منصة لإطلاق شتى أنواع الأسلحة ولا شك»؛ يتهامس البعض متخيلين سيناريوهات مستقبلية إذا وصلت الفصائل إلى حمص فعلاً. هل سينتقم النظام من الأهالي؟ وهل سيعود العنف المنفلت إلى المدينة؟ هل سيصل الدم «للركب»؟ تخيلات كثيرة من هذا النوع تلوح في الأذهان، وبين حين وآخر تلوح تخيلات متأمّلة بِخلاص منشود يبدو مُكلِفاً إذا ما اعتبرنا أن حمص جزءاً من «سوريا المفيدة» التي لن يتركها النظام، حسب التحليلات الشائعة هذه الأيام كالشائعات.
«نحن أكتر شي متبهدلين، يا ريت يصير حل سياسي»، يقول أحمد في نهاية حديثه والقلقُ ظاهرٌ في لهجته.
نحن «متبهدلين»، هذا واقع، نحن «متبهدلين». لعلَّ ذلك بسبب تعقيدات المدينة التي لا تنتهي، أو بسبب أنهار دمٍ سالت في المدينة ولم تجفَّ بعد. وكما أنّ دعاء «الله يحميكم» يبقى مُلغَّزاً بحسب من يقوله، كذلك تبقى البهدلة الواقعة على كل الأطراف في المدينة «مُشفَّرة» بحسب من يعاني منها.
موقع الجمهورية
————————————
السيطرة على حماة.. انكسار لسوريا المفيدة أم بداية لسقوط النظام؟/ عبد الناصر القادري
6 كانون الأول 2024
في لحظة تاريخية عاشها السوريون دخلت فصائل “ردع العدوان” إلى وسط مدينة حماة معلنة السيطرة على المدينة بعد معارك دامية استمرت ثلاثة أيام ضد قوات النظام السوري والمليشيات الرديفة الداعمة لها، معيدة الزمن إلى ما قبل عام 1963، يوم سيطر حزب البعث على سوريا، مروراً بواحدة من أبشع المجازر والاعتقال والتهجير القسري التي ارتكبت بحق السوريين في مدينة أبي الفداء عام 1982، وصولاً إلى عصر يوم الخامس من كانون الأول 2024.
ومع إعلان إدارة العمليات العسكرية التي تقود “ردع العدوان” على كامل مدينة حماة وأجزاء واسعة من ريف المحافظة، بدأ الحديث عن توجه العمليات باتجاه مدينة حمص التي يحدها من الجنوب ريف دمشق في خطوة تقربنا من دمشق العاصمة السياسية والتي تعني سقوط النظام نهائياً.
ماذا تبقى من مشروع سوريا المفيدة؟
ويبدو أن هذا الانهيار الدراماتيكي للنظام السوري في كامل محافظة إدلب ومدينة حلب ثم مدينة حماة قد أنهى العديد من المشاريع التي كانت يخطط لها النظام منذ سنوات ماضية.
في أوائل عام 2016، صاغ رئيس النظام بشار الأسد مصطلح “سوريا المفيدة”، في إشارة إلى ست محافظات تشمل دمشق وريف دمشق وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس. وذكر أنه سيدافع عنهم بكل ما أوتي من قوة، واعتبر المحافظات المتبقية أقل استراتيجية.
وفي تلك الفترة كانت أجزاء واسعة من حلب وريفها وإدلب وريف حمص وريف حماة الشمالي وأجزاء أخرى تحت سيطرة فصائل الجيش السوري الحر، ومع ذلك لم يعر النظام السوري أي اهتمام كبير بها، ثم ساعدته روسيا وإيران على استعادتهما.
اعتمد مشروع “سوريا المفيدة” الذي قاده بشار الأسد بين عامي 2011 و2016، على عمليات تغيير ديمغرافية كبيرة، حيث انخفض عدد السكان في سوريا إلى ما دون النصف.
استخدم النظام السوري أساليب الحصار والتجويع وصفقات التهجير القسري، كما حدث في داريا ومضايا والزبداني والغوطة الشرقية وريف حمص وغيرها، لإحلال سكان موالين محل السكان الأصليين.
اليوم عادت حماة وكسرت على أسوار قلعتها مشروع “سوريا المفيدة”، رغم كل عمليات النظام العسكرية والتدمير والتهجير عبر اقتلاع السكان من مدنهم، مع استبدالهم بتركيبة سكانية أخرى خدمة للمشروع الإيراني في المنطقة.
ما أهمية حماة؟
ومثّلت مدينة حماة نقطة محورية في معركة “ردع العدوان” وكبدت جنود النظام السوري خسائر ضخمة في العتاد والسلاح والأرواح، فقد سيطرت فصائل الثوار على عشرات الدبابات والصواريخ والمدافع ومخازن السلاح واقتحمت مقر قيادة “الفرقة 25” التي يقودها العميد سهيل الحسن (النمر) والذي أرسله النظام لاستعادة حلب وريفها فإذا به يخسر ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي وحماة.
الأهمية الجغرافية
تُعتبر حماة صلة الوصل بين دمشق والساحل السوري، كما تشكل عقدة مواصلات تربط بين الشمال والجنوب، والسيطرة عليها يعني قطع خطوط الإمداد الحيوية للنظام.
الدور الاقتصادي
تضم حماة موارد زراعية وصناعية حيوية لدعم النظام، وخسارتها تعني فقدان شريان اقتصادي مهم.
الرمزية السياسية
حافظ النظام السوري على حماة كواحدة من المدن الاستراتيجية في مشروعه، لكونها تمثل حاجزاً أمام تمدد المعارضة إلى المناطق الساحلية.
الرمزية التاريخية
السيطرة على مدينة حماة يحمل رمزية تاريخية تتعلق بمجزرة 1982، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف على يد النظام السوري بقيادة حافظ الأسد وشقيقه رفعت الأسد.
وتُمثل استعادة للعدالة التاريخية وردّ اعتبار لسكان المدينة بعد عقود من القمع. كما يُنهي إرث الخوف الذي خلفته المجزرة، ويسمح بعودة عشرات آلاف العائلات التي لم تر حماة منذ عقود.
هل تسقط حماة بشار الأسد؟
لا شك أن خسارة حماة بالنسبة لبشار الأسد هي تراجع استراتيجي مزدوج:
الموقع الاستراتيجي: السيطرة على حماة يفتح الطريق أمام فصائل “ردع العدوان” للزحف نحو حمص، ما يعني تهديداً مباشراً لمناطق الساحل السوري، التي تشكل معقل النظام وحلفائه.
تفكيك شبكة الإمداد: السيطرة على حماة تُعطّل خطوط الإمداد بين دمشق والمناطق الشمالية، مما يزيد الضغط على النظام.
انعكاسات ميدانية: المعارضة حققت مكاسب عسكرية كبيرة من خلال الاستيلاء على مستودعات ذخيرة ومواقع استراتيجية مثل مطار حماة العسكري وسجن حماة المركزي. وفقدان حماة يعني تقليص قدرة النظام على استعادة المبادرة الهجومية في الجبهات الأخرى.
أما من الناحية السياسية، فالسيطرة على حماة من قبل “ردع العدوان” تمثل تحولاً استراتيجياً هاماً قد أنهى فعلياً اتفاقي أستانا وسوتشي، اللذين أُبرما لإدارة الصراع وتثبيت خطوط التماس بين النظام والمعارضة برعاية روسيا وإيران وتركيا. السيطرة على حماة يعني انهيار التفاهمات التي أوقفت التصعيد مؤقتاً، ويفتح الباب أمام مشروع أوسع لإسقاط النظام السوري.
فأولويات روسيا في أوكرانيا جعلت دعم النظام في سوريا محدوداً، حيث تراجعت الطلعات الجوية والتدخلات الميدانية، كما هو الحال في 2016، رغم شراسة القتال التي جرت على أطراف المدينة وخصوصاً في قرية قمحانة (مقر الفرقة 25) وفي جبل زين العابدين الاستراتيجي.
أما بما يخص إيران وحزب الله، فالضربات الإسرائيلية المستمرة، وانشغال حزب الله في لبنان، وضعف الدعم الإيراني العسكري، كل ذلك أدى إلى تراجع فعالية هذه القوى على الأرض.
ولا يمكن إغفال خسائر النظام المتراكمة في العتاد والبشر، بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية والأزمات المعيشية، التي ستجعل من الصعب عليه تعويض خسائره في حماة.
من جانب آخر، حققت الفصائل المقاتلة في تنسيقها بغرفة عمليات واحدة وقيادة واحدة، حقق لها مكاسب نوعية كشفت ضعف النظام في حماية مناطقه الاستراتيجية واستعداد الشعب المعارض والموالي لاستقبال القادمين الجدد بالزغاريد، خصوصاً بعدما شهدته مدينة حلب من تسامح وعدم وجود أي حالات اعتداء أو تهجم على المدنيين بما فيهم الموالين للنظام السوري.
الضامن الثالث، وهو تركيا، فهي لا شك سعيدة بهذه التحركات، خصوصاً أنها الحليف الوحيد للفصائل المعارضة في الميدان والاتفاقيات الدولية “أستانا وسوتشي”، وهذا ما دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليخبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أن “مرحلة جديدة تتم إدارتها بهدوء في سوريا”، إلى جانب التصريحات الأخرى التي أبدت السياسة الخارجية التركية أنها غطاء سياسي قوي لمثل هذه التحركات.
الخطوة القادمة
ومع هذه التحولات السياسية، والتحرك نحو حمص خلال الساعات المقبلة كما أعلنت إدارة العمليات العسكرية، أن سكان حمص ينتظرون قدوم الفصائل إليهم، هو مؤشر آخر على اقتراب سقوط النظام السوري.
فالانهيار الكبير وغياب أي ظهور لبشار الأسد لطمأنة مواليه وقواته، سيجعل السيطرة على حمص أسهل من حماة، بما مثلته من صعوبة عسكرية، وقد يفتح الباب أمام تسوية سريعة يخرج بها بشار الأسد ونظامه من المشهد كلياً عبر اتفاق سريع يجنب العاصمة دمشق ومدن الساحل اللاذقية وطرطوس (خزان النظام الاستراتيجي كما يظن) أي معارك طاحنة وخسائر بشرية كبيرة.
والضغوط الميدانية والسياسية قد تُسرّع من انهيار النظام داخلياً، خاصة إذا استمرت فصائل ردع العدوان في تحقيق مكاسب نوعية، فاليوم لدى “الثوار” مطارات عسكرية وكليات جوية ودبابات وجميع أنواع الأسلحة بما في ذلك السلاح الاستراتيجي الذي قلب المعركة لصالحهم، وهي كتائب “شاهين” للطائرات المسيرة، والتي أعادت رسم المشهد العسكري في سوريا، وساهمت في تحقيق انتصارات ضخمة للفصائل ضد قوات النظام التي التقطهم يفرون من عشرات المناطق نجاة بأنفسهم.
تلفزيون سوريا
————————-
ما الأخطاء التي تجنبتها قوات المعارضة في عملية “ردع العدوان”؟/ باسل المحمد
2024.12.06
بعيداً عن التطورات الميدانية المتسارعة التي تشهدها خرائط السيطرة العسكرية في سوريا، بعد إطلاق فصائل المعارضة المسلحة في الـ27 من شهر تشرين الثاني لعملية “ردع العدوان”، والتي استطاعت لحد كتابة هذه المادة من السيطرة على مدن كبرى مثل حلب وحماة والاتجاه نحو حمص بعد إعلانها السيطرة على كامل محافظة إدلب في اليوم الثالث من العملية، وبعيداً أيضا عن الحديث عن التعقيدات السياسية الإقليمية والدولية التي رافقت إطلاق هذه العملية، والتي كان لها دور كبير بحسب المراقبين في تحقيق قوات المعارضة لإنجازات ومفاجآت كبرى لم يكن يتوقعها أشد المتفائلين بقوة المعارضة، ولا أكثر المتشائمين بمستقبل النظام السوري والميليشيات التابعة له.
بعيداً عن كل ما سبق يبدو واضحاً من خلال مراقبة تحركات وسلوكيات قوات المعارضة على جميع المستويات الميدانية والسياسية والإعلامية في المناطق التي سيطرت عليها خلال عملية “ردع العدوان” أن هناك تطوراً كبيراً، وتغييراً لافتاً مقارنة بآدائها في السنوات الأولى للثورة السورية، عندما اضطرت إلى حمل السلاح، ونجحت بالسيطرة على كثير من مدن والبلدات، مثل سيطرتها على الأحياء الشرقية لمدينة حلب صيف 2012، وسيطرتها على مدينة الرقة 2013، وإدلب عام 2015، إلى غير ذلك من البلدات في درعا وحمص وريف دمشق ودير الزور.
بشكل عام يمكننا القول أن أبرز ما يميز عملية “ردع العدوان” هو قدرتها على تجنب الأخطاء التي تكررت في الماضي، وإعادة ترتيب أولوياتها بطريقة أكثر عقلانية وتنظيمًا، هذا إلى جانب التكتيكات العسكرية الاحترافية التي اتبعتها، يضاف إلى ذلك الاستفادة من تجاربها السابقة التي كانت مليئة بالتحديات والانتكاسات، مثل خسارتها لمدينة حلب عام 2016، ودرعا 2018، حين استمر هذه التراجع إلى أن انكفأت المعارضة إلى مساحة لا تزيد على 10 % من مساحة سوريا، بعد أن كانت تسيطر على أكثر 70% من الجغرافيا السورية عام 2015، هذا إلى جانب وصول الملف السوري إلى حالة الجمود والعطالة السياسية في السنوات الأخيرة، حتى باتت “القضية السورية” في أواخر درجات الاهتمام الدولي.
أبرز الدروس التي استفادت منها قوات المعارضة والتي كانت مطلباً شعبياً ملحاً على مدار السنوات السابقة هو توحد كل الفصائل المشاركة في العملية بغرفة عمليات واحدة أُطلق عليها “إدارة العمليات العسكرية” وهي تضم مع “هيئة تحرير الشام” فصائل وقوى متعددة الاتجاهات الأيديولوجية مثل “حركة أحرار الشام” و”جيش العزة” إضافة إلى فصائل تتبع “الجبهة الوطنية للتحرير”، إلى جانب فصائل الجيش الوطني التي قادت عملية “فجر الحرية” ضد قوات سوريا الديمقراطية بريف حلب الشمالي.
هذا التوحد لم يكن مجرد قرار تنظيمي، بل كان خطوة استراتيجية جعلت العمل العسكري أكثر انسجامًا وفعالية، بعيدًا عن التنافس والتشتت الذي أضعفهم سابقًا، إذ أدركت الفصائل أن العمل المنفرد يؤدي دائمًا إلى نتائج كارثية؛ لذا اختارت هذه المرة أن تتوحد تحت مظلة غرفة عمليات واحدة، ألغت كل الرايات الفصائلية، والشعارات الأيديولوجية القديمة التي كانت تنتشر بعد سيطرة فصيل على قرية أو بلدة، واقتصرت “إدارة العمليات العسكرية” على رفع علم الثورة فقط كراية
وحيدة، وعليه أصبح من الصعب تمييز الانتماء الفصائلي للعناصر خلال المعارك، أو عند دخولهم المدن.
ولم يقتصر توحيد الجهود على الشق العسكري والقتالي فقط للفصائل المشاركة في هذه العملية، إذ رافق ذلك تحول جذري في التعامل الإعلامي مع المعارك على الأرض يختلف تماماً عن السنوات السابقة، فبدلاً من فوضى التصريحات المتناقضة، تم اعتماد سياسة الضبط الإعلامي، بحيث تصدر جميع الأخبار والمعلومات من جهة واحدة هي “إدارة العمليات العسكرية”، هذه الخطوة أسهمت في تعزيز الثقة بالمعلومات المتداولة، وقللت من تأثير الإشاعات التي طالما أثرت سلبًا على الحاضنة الشعبية.
أما على الأرض، فقد أظهرت المعارضة نضجًا غير مسبوق من خلال التزامها بحماية الممتلكات العامة والخاصة في المناطق التي حررتها، وتجلى ذلك في البيان الذي أصدرته “إدارة العمليات العسكرية” بعد دخولها إلى مدينة حلب الجمعة 29 تشرين الثاني، والذي تعهدت فيه بالحفاظ على المؤسسات العامة للدولة، وإبقاء كل الموظفين في أماكن عملهم، إلى جانب حماية الممتلكات الخاصة للسكان وتأمين حياتهم على اختلاف طوائفهم وأعراقهم، فقد نشرت غرفة العمليات مقطعًا مصورًا يظهر قائد “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني يتابع سير المعركة، ويوجه توصياته للمقاتلين، والتي تضمنت أن يتعامل المقاتلون “بالرفق واللين بأهلنا في مدينة حلب، وحفظ ممتلكاتهم وأموالهم”
هذه السياسة، التي كانت غائبة بشكل واضح في عمليات التحرير السابقة للمدن، والتي شهدت كثيرًا من التجاوزات وخاصة عند دخول الجيش الحر إلى حلب 2012، عززت الآن العلاقة بينها وبين السكان المحليين، وظهرت وكأنها تحمل مشروعًا وطنيًا وليس مجرد طموحات عسكرية، ومما زاد من تأثير هذه العملية هو الخطاب الوطني الذي تبنته المعارضة، إذ لم يكن خطابًا إقصائيًا أو طائفيًا كما في بعض الأحيان السابقة، بل ركز على الوحدة والتنوع، مما أعطى العملية طابعًا شموليًا يهدف إلى استعادة سوريا لكل أبنائها.
وهذا ما بدا واضحاً في رسائل التطمين التي كانت تبثها “إدارة العمليات العسكرية” للمناطق التي تحوي بعض الأقليات الدينية والعرقية، والذي كان النظام يعمل على إثارة المخاوف لديهم من خلال اللعب على الوتر الطائفي، وتصوير قوات المعارضة بأنهم راديكاليون وأصوليون، إلا أن تعامل هذه القوات مع الأحياء ذات الغالبية المسيحية في حلب مثلاً، وتأمين مستلزماتهم للاحتفال بمناسباتهم الدينية “البربارة”، أو مع أبناء “نبل والزهراء” من الطائفة الشيعية الذين بدأوا بالعودة إلى منازلهم بعد أن تركهم النظام لأيام يبيتون بالعراء في مدينة السفيرة، أثبت كذب النظام في روايته المكررة “حماية الأقليات”، إذ انتقم بقصف حي السليمانية ذي الأغلبية المسيحية بحلب.
وإلى جانب حماية الممتلكات بدأ الاهتمام بالواقع الخدمي والمعيشي المتردي للسكان، كتأمين المياه والكهرباء وشبكات الاتصال، إضافة إلى تعبيد الطرقات، والاهتمام بنظافة الشوارع كما رأينا في مدينة حلب.
ولم تقتصر بيانات “إدارة الشؤون السياسية” التابعة لحكومة “الإنقاذ” على تطمين المكونات والطوائف والأقليات والإثنيات في حلب وبقية المدن السورية، بل وجهت بيانات إلى دول
وحكومات متعددة بلغات مختلفة شملت الإنكليزية والروسية، من ذلك رسائل التطمين التي وجهت إدارة العمليات إلى السفارات العربية والأجنبية بعد تحرير مدينة حماة، وتوجه قواتها نحو حمص، إذ أوضحت الإدارة أن التغيير السياسي المنتظر في سوريا لا يعني بأي حال من الأحوال انهيار الدولة أو مؤسساتها، بل على العكس تمامًا، يشكل فرصة لبناء دولة مدنية قوية قائمة على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
ومن الجوانب التي أظهرت التفكير بعيد المدى لقوات المعارضة، فتح باب تسوية الأوضاع لعناصر النظام، والابتعاد عن فكرة الانتقام، فتحت عنوان “حياتك أهم” بدأت المسيرات التابعة لقوات “ردع العدوان” منذ اليوم الأول للمعارك بإلقاء منشورات تخاطب جنود قوات النظام برسالة واضحة مفادها وخلاصتها الدعوة إلى ترك السلاح، مع التأكيد على أن تأمين انشقاق الجنود ومساعدتهم في الوصول إلى المناطق التي يريدون التوجه إليها، هذا إلى جانب فتح مراكز لتسوية أوضاع الجنود المنشقين وإعطائهم بطاقات شخصية جديدة، كما رأينا في مدينة حلب.
هذا القرار لم يكن فقط بهدف تقليل أعداد الخصوم، بل كان بمنزلة إشارة إلى وجود رؤية سياسية ناضجة، تتعامل مع الواقع بطريقة عقلانية، وتترك الباب مفتوحًا للمصالحة والمحاسبة وفق إطار قانوني.
وفي حين لم تتضح بعد الصورة العامة لإدارة وحكومة المناطق التي سيطرت عليها مؤخرا قوات المعارضة، أوضح الجولاني لمجموعة الأزمات بعد زيارته لمدينة حلب أمس الخميس أن “المدينة ستحكمها هيئة انتقالية، وسيتم توجيه المقاتلين، بما في ذلك من هيئة تحرير الشام، إلى مغادرة المناطق المدنية في الأسابيع المقبلة، وسيتم دعوة البيروقراطيين لاستئناف وظائفهم”، وكان التصريح الأبرز قوله: “حتى أن هيئة تحرير الشام تفكر في حل نفسها لتمكين الدمج الكامل للهياكل المدنية والعسكرية في مؤسسات جديدة تعكس اتساع المجتمع السوري”. مما يشكل بدوره منعطفاً كبيرا باتجاه التنازل عن الولاءات الأيديولوجية والعقائدية في سبيل تغليب المصلحة الوطنية.
أخيرًا، لا يمكن تجاهل التقدم الذي أحرزته المعارضة في تطوير قدراتها العسكرية، من خلال تصنيع الطائرات المسيرة والمعدات المحلية، فقد أظهرت أنها لم تعد تعتمد بالكامل على الدعم الخارجي، بل باتت تعتمد على نفسها، مما عزز استقلاليتها العسكرية. إلى جانب ذلك، كان هناك اهتمام بالإعداد النفسي والعقائدي للمقاتلين، مما أعطاهم دافعًا أقوى للاستمرار رغم الصعوبات.
من خلال هذه الخطوات، يبدو أن المعارضة السورية قدمت نموذجًا مختلفًا عن السابق، يتسم بالتخطيط والاحترافية والانضباط والنضج السياسي، مما يساعدها في فتح أبواب واسعة لها تمهد لقبولها محلياً وهذا ما رأيناه في استقبال أبناء المناطق التي يتم تحريرها من سيطرة النظام كحماة وسلمية، ودولياً من خلال التصريحات التي أكدت أن المدنيين من كل الطوائف لا يشعرون بالخوف من دخول “قوات ردع العدوان” إلى مناطقهم.
تلفزيون سوريا
—————————–
إضاءات على أوضاع حلب الحالية/ د. عبد المنعم حلبي
2024.12.06
لا يمكن أن يُنكرَ أحد حجم الدهشة والمفاجأة التي أُصبنا بها جميعاً بفعل التطورات السريعة والمتلاحقة بخصوص دخول قوات إدارة العمليات العسكرية إلى مدينة حلب في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني الماضي، هذا الشعور الجمعي حركه الخوف المنبعث من الصور العالقة بأذهان وذاكرة أهلها الموجودين فيها أو النازحين واللاجئين عنها داخل وخارج سورية عن تجربة مريرة سابقة، ولاسيما عندما بدأت المدينة تتعرض للقصف الجوي من قبل قوات النظام بعد يوم واحد من تحرير معظمها، وقيام الميليشيات الكردية بقطع مياه الشرب -بحسب روايات بعض الأهالي- بعد تمددها لمنطقة بستان الباشا والشيخ خضر وغيرها مستغلة المعارك في غربي المدينة، كما أن التوجس كان قد اعترى أهل المدينة من عملية إطلاق سراح جميع الموجودين في السجن المركزي من قبل قوات إدارة العمليات العسكرية. الصورة فيما بعد أخذت بالتغير والتحسُّن، وعلى الرغم من وجود كثير من المخاوف والأسئلة، يحاول كثير من الحلبيين التأقلم مع الوضع الجديد، الذي قد يكون طويل الأمد، أكثر من أي توقعات أخرى طفت على السطح خلال الأيام الأولى.
فعلى الرغم من تأخرها ليوم أو يومين بعد السيطرة على معظم مدينة حلب، ما لبثت أن ظهرت الدعوات المحلية والدولية بخصوص حماية المدنيين، ولاسيما بعد المشاهد المروِّعة التي أحدثها القصف العشوائي على المناطق السكنية في مدينة إدلب والتي راح ضحيتها عشرات المدنيين وقد شمل مشافي ومراكز صحية، رداً على تحرير حلب، والتي تلقت بدورها في منطقة الجامعة والمشفى الجامعي ومناطق أخرى قصفاً وحشياً راح ضحيته العشرات من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين العزّل، حيث لفظ بعض الجرحى أنفاسهم الأخيرة بسبب عدم وجود مسعفين.
دعوات أممية وأوروبية وأميركية كانت واضحة بضرورة حماية المدنيين في يوم الإثنين الماضي الثاني من كانون الأول الجاري، وفعلاً تم ملاحظة توقف القصف في اليوم التالي، وربما يكون قد ساعد على ذلك، في إشغال القوات الجوية للنظام وروسيا عن الاستمرار في قصف إدلب وحلب، استئنافُ تقدم العملية العسكرية للمعارضة باتجاه مدينة حماة، والتوسع الجديد الذي تم تحقيقه في ريفها الشمالي والشرقي واشتعال محوري القتال حول المدينة.
ومع عودة مياه الشرب إلى كثير من المناطق السكنية في المدينة بعد انسحاب الميليشيات الكردية، بدأ سكان مدينة حلب يشعرون بالتحسُّن، فقد أصبحت كميات الخبز أكثر توفراً، نتيجة لدخول سيارات نقل الطحين إلى المدينة وتشغيل عدد كبير من الأفران، كما زادت ساعات توفر الكهرباء بشكل فارق عما كانت عليه، ونزل معظم أصحاب المحلات التجارية إلى عملهم، وبدت حركة السيارات والمشاة في كثير من شوارع المدينة أكثر قُرباً من طبيعتها. كما أن نجاح عمليات قوات فجر الحرية في طريق حلب غازي عينتاب، مكنت كثيرا من المنظمات الإنسانية من تسيير سيارات مساعدات الاستجابة الطارئة، ولوحظ وجود نشاط محموم لتعبيد الطرق المتضررة من العمليات العسكرية في الريف الغربي، والذي جعل الحركة من وإلى المدينة متاحة للمدنيين والمنظمات العاملة على الاستجابة الطارئة من محافظ إدلب أيضاً. كما نزلت فرق من منظمة الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) إلى المدينة وشاركت بعمليات استخراج قتلى عمليات قصف سابقة، وببعض الأعمال المتعلقة بغسل شوارع المدينة وغيرها.
ولأن توقيت العملية قبل بداية الشهر، فإن ذلك قد أدى إلى حرمان كثير من الموظفين الحكوميين وغيرهم من رواتبهم، ولمعالجة هذه الحالة على ما يبدو، ووفق المعلومات الواردة من المدينة، فإن تواصلاً مباشراً تم إجراؤه مع الموظفين المسؤولين عن دفع الرواتب في منازلهم مباشرة، ودعوتهم إلى مقار عملهم في بعض فروع بنوك حكومية بحلب، وكذلك مع العديد من المعتمدين الماليين في مديرية التربية، وتم البدء بتسديد الرواتب منذ يوم الأربعاء الرابع من كانون الأول الجاري، وقد شهدت مديرية التربية بحلب اكتظاظاً كبيراً من قبل المعلمين، مع انتظار كثير من الموظفين الحكوميين الآخرين لمعرفة مواعيد تسليمهم رواتبهم، والاستفسار عن وضع الصرافات الآلية.
ومع بدء اكتظاظ الحركة المرورية شوهد عناصر لشرطة مرور، والتي يُعتقد أنهم تابعون لحكومة الإنقاذ التي مقرها في إدلب، في العديد من شوارع المدينة لتنظيمها، كما أن ورود العديد من التجاوزات على العديد من المباني الرسمية دعا على ما يبدو إلى دخول أوسع لوزارة الداخلية في الحكومة المذكورة، والتي أصدرت بياناً بخصوص تشديد الحراسات الأمنية للمباني العامة، إلا أن بعض الأهالي ما زال يتحدث عن وجود عمليات سرقة للبيوت والمنازل، ولا سيما في بعض المناطق الراقية كشارع النيل والفرقان وغيرهما، ويطالبون بوضع حدٍ لها، مع استمرار عمليات القنص من مناطق سيطرة الميليشيات الكردية التي ما زال بعض مسلحيها موجودين في مناطق سيطرتهم الأصلية. وفي الوقت نفسه يتحدث العديد من الأهالي على وسائل التواصل الاجتماعي عن انقطاع التواصل بالعديد من أقاربهم وذويهم، كما يتساءلون عن إمكانية دخول بعض ذويهم ممن كانوا خارج المدينة قبل العمليات العسكرية وفي المدن والمناطق التي ما زالت تحت سيطرة النظام، لاسيما مع انقطاع الإنترنت وشبكة الاتصالات اللاسلكية التي كانت عاملة SYRIATEL وMTN، إذ دخلت على هذا الخط الحساس خدمة محلية لا تكفي لسد الاحتياجات الكبيرة لهذه الخدمة حتى الآن.
وهكذا فإن التحسن الذي بدا واضحاً خلال الأيام الثلاثة الماضية، ما زالت تعكره مشكلات وتحديات حقيقية بخصوص الأمن، وكذلك مباشرة تأدية الخدمات كالماء بالنسبة لبعض المناطق الغربية، واستمرارية وتوسيع نطاق تأدية الخدمات الأخرى ولاسيما فيما يتعلق بالكهرباء وتأمين الوقود، كما أن أسئلة بدأت تُثار بخصوص مصير الموظفين الحكوميين، وفيما إذا كانت حلب ستواجه شغوراً قادماً فيما يتعلق بالحكم المحلي، حيث تشهد أسعار السلع الغذائية ارتفاعاً مهولاً ومستمراً.
هذا وأمام الدعوات التي تشير إلى جعل هذه المدينة الكبيرة مجرد مدينة ملحقة إدارياً بحكومة الإنقاذ في إدلب، يتم الحديث عن إدارة جديدة قادمة لم تتضح معالمها ومكوناتها. ومع استمرار التطمينات المرسلة لأهالي المدينة بخصوص العديد من المخاوف، أفضى التدويل السريع لقضية حلب وسيفضي إلى المزيد من المراقبين الدوليين والإقليميين دولاً ومؤسسات أممية وغير حكومية، بانتظار الأفعال والوقائع على الأرض، وإن بدت بعض المواقف الأوروبية ولاسيما الصادرة عن فرنسا وبريطانيا تشير إلى إعطاء الفرصة للقوة الجديدة المسيطرة على حلب. حلب عاصمة الاقتصاد السوري والمدينة الأكبر حجماً في سورية، وثانيها من حيث عدد السكان بعد العاصمة دمشق، والتي ينتظر أهلها اللاجئون هذه المرة العودة إليها في أكبر استحقاق قادم لأكثر من طرف.
تلفزيون سوريا
————————
الأسد – الجولاني: ثنائي الخراب/ ساطع نورالدين
6 كانون الأول 2024
ظهر أبو محمد الجولاني في قلعة حلب، ولم يظهر بشار الأسد في دمشق او حمص او حتى اللاذقية. الخوف ليس مقياساً وحيداً لسبب هذا الغياب، لكنه مؤشر مهم.. يوحي بأن المواجهة ربما خرجت من حسابات الرجلين وتقديراتهما..مثلها مثل حسابات تركيا، التي كانت ولا تزال الطرف الوحيد الذي يستطيع ان يوقف اطلاق النار خلال ساعات أو أيام.
هذا اللغز مبني على حقيقة أن أحداً في أنقرة أو دمشق أو طهران، يعرف الى أين تتجه المعارك: نحو حماة ثم حمص فدمشق؟ أم نحو الساحل السوري وجباله المحرمة، التي تتمتع بغطاء عسكري وسياسي روسي، يحظى بالمباركة الأميركية والغربية.
لعل الجولاني بالغ في التقدم، وفي الظهور العلني، مثلما أفرط الأسد في الهلع والاختفاء. لم يحقق الجولاني نصراً تاماً، ناجزاً، ولم تكتمل الرؤية لحدود منطقة نفوذه الموسع. ولم يعرف ما اذا كان الأسد قد فكر في حزم حقائب السفر من دمشق، على غرار ما فعل مرتين حتى الان، الأولى إبان الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، والثانية في العام 2015 عندما كانت قوات المعارضة السورية، تخترق أحياء العاصمة السورية.
الأرجح أن الرجلين يتقاسمان اليوم الكثير من الاحلام المستعادة، منها ان الأسد، يتمنى ويترقب بلا شك، زحفاً عسكرياً روسياً-إيرانياً جديداً، يقضي على القوات المعارضة المتقدمة من الشمال ويزيلها من الوجود، بالغارات الجوية والصاروخية المدمرة، كما فعل قبل تسع سنوات، ويعيد وحدات الجيش السوري الى مناطق انتشارها، حتى الحدود مع تركيا، ويحيل المعركة الحالية الى الذاكرة البعيدة.
وليس من المستبعد، أن يكون الجولاني نفسه، الذي ظن ان الحملة العسكرية الحالية الهادفة الى إحياء القضية السورية وتوسيع وجود المعارضة السورية الى محافظة حلب، مما يسمح لتركيا بإبعاد نحو نصف مليون نازح سوري من أراضيه، بات يحلم باليوم الذي سيقف فيه خطيباً، وحاكماً، في إحدى ساحات دمشق التي تنتظم فيها تظاهرة مليونية لم يشهد التاريخ السوري مثيلا لها.
لكن الرجلين اللذين يتقاسمان هذه الاحلام، يتقاتلان بالأوهام أيضا: ولا يحتاج المرء الى الكثير من الحسابات لكي يدرك أن كلفة تحقيق حلم الأسد بمحو الزحف المعارض من الشمال نحو العاصمة، او نحو الساحل، هي أعلى بكثير مما كانت في العام 2015، على الروس والإيرانيين، والاخرين الذين يهبون اليوم لنجدة النظام السوري، بأيادٍ مغلولة، وبوحدات او مليشيات عسكرية مهددة، وأسلحة وذخائر نادرة، وأموال شحيحة.. لا تفي حاجات سوريا الملحة أكثر من أي وقت مضى.
وكذا الامر بالنسبة الى وهم الجولاني بأنه سيكون قادراً على فتح دمشق ودخولها بقوات لا تختزل المعارضة السورية ولا تختصرها، منتصراً على نظام فارغ من المضمون، لكنه ما زال يحظى بشرعية إقليمية ودولية تفوق بما لا يقاس شرعية مختلف أشكال معارضيه، وما زال يمثل ويحمي ثلاث أقليات أو أكثر، ستكون مهددة الزوال، وستصبح خريطة سوريا الحالية مرسومة بالمجازر وملونة بالدماء لسنوات إن لم يكن لعقود مقبلة.
الصراع بين الرجلين وما يراودهما من أحلام وأوهام لم يبلغ ذروته..لأنهما أشبه بأدوات لتركيا وإيران اللتين لم تكشفا خططهما المقبلة، بعد مفاجآت الأسبوع الأول من المعركة السورية الحالية، ولم تقولا حتى الآن كلمتهما الأخيرة، وما اذا كان الهدف هو تفاوض على فك إشتباك ثم تسوية سياسية تتيح للجولاني ان يعلن نصراً لا يهزم بشار.. أو يمضي الصراع حتى النهاية الحتمية، التي تنتج البديل الثالث للرجلين، بعد تعادلهما وتكافؤهما في الهزيمة، وفي قيادة سوريا وشعبها نحو الخراب.
صفحة الكاتب
———————–
احتدام الصراع الروسي-التركي على سوريا يضع نفوذ موسكو في المنطقة على المحك/ سميح صعب
6 كانون الأول 2024
على الأرجح، لن يلقى طلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التحرك “بسرعة” لوضع حد لهجوم المعارضة السورية تجاوباً، في وقت تظهر أنقرة اللاعب الأول على الساحة السورية بعد سقوط حلب وإدلب والوصول إلى مشارف مدينة حماة.
الشرط الذي وضعه أردوغان لوقف الهجوم بات مكرراً أكثر من مرة، ألا وهو قبول الرئيس السوري بشار الأسد بالتفاوض مع المعارضة في سياق عملية سياسية تشمل تنفيذ القرار 2254، ما يلغي مفاعيل “منصة أستانا”، التي لم تعد صالحة منذ إطلاق المعارضة هجومها الواسع في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت.
ما يطالب به أردوغان هو ترجمة سياسية لإنجازات المعارضة السورية على الأرض، وبنسخة منقحة من “الربيع العربي” تقود الإسلام السياسي إلى الواجهة مجدداً، بعدما بدا في السنوات الأخيرة أن حظوظ هذا التيار بالوصول إلى السلطة قد باتت من الماضي، عندما استعادت الحكومة السورية حلب عام 2016، وقادت هجوماً تحت الغطاء الجوي الروسي والدعم البري من حلفاء إيران عام 2020، ما استدعى سفراً سريعاً لأردوغان إلى موسكو للتوقيع على تفاهمات “خفض التصعيد” ووقف النار، في مقابل تعهدات تركية بالحد من نفوذ “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً). لم تنفذ تركيا أياً من هذه التعهدات واستمرت “الهيئة” ببناء قدراتها العسكرية والتنظيمية التي ظهرت في الهجوم الذي تقوده حالياً ضد مواقع الجيش السوري.
يبني أردوغان على الواقع المأزوم لروسيا في أوكرانيا ويراهن على أن موسكو ليس في مقدورها إرسال أي مساعدات عسكرية إلى سوريا، لا عبر البحر الأسود الذي تسيطر عليه المسيّرات الأوكرانية، ولا عبر مضيق البوسفور المغلق في وجه السفن الحربية الروسية بسبب الحرب في أوكرانيا.
والتقرير الذي نشره موقع “نافال نيوز” عن تحرك قطع من البحرية الروسية من قاعدة طرطوس، مقلق جداً في حال صحة المعلومات الواردة فيه، والتي تتحدث عن “تهديد وشيك” للقاعدة بسبب التطورات الميدانية.
في غمرة هذا الاحتدام العسكري والسياسي فوق الأراضي السورية، أعلنت موسكو أنها أجرت تدريبات تضمنت إطلاق صواريخ، من بينها أنواع فرط صوتية في شرق البحر المتوسط. هذه المناورات هي رسالة مؤداها أن روسيا لا تزال تملك ما يكفي من القوة في المنطقة للدفاع عن مصالحها.
ويوم وافق أردوغان على “خفض التصعيد” في الشمال السوري قبل أربعة أعوام، كانت فصائل المعارضة السورية المدعومة من أنقرة في حال تراجع سريعة تشبه الانهيار. الوضع اليوم مختلف. وبوتين هو الذي يبادر إلى الاتصال بأردوغان وليس العكس، ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هو الذي يبادر إلى الاتصال بنظيره التركي حقان فيدان وليس العكس.
والمندوب الروسي لدى الأمم المتحدة السفير فاسيلي نيبينزيا، أخفق في منع مدير منظمة “الخوذ البيض” السورية رائد الصالح من التحدث في جلسة لمجلس الأمن الثلاثاء. المنظمة تعمل في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة السورية. وحمل صالح بعنف على روسيا ليلاقيه في ذلك نائب المندوبة الأميركية روبرت وود.
شكل التدخل الروسي في سوريا عام 2015، “تحرراً” من عقدة أفغانستان قبل 35 عاماً، وأعاد إلى موسكو مكانتها في الشرق الأوسط وفي العالم، وبدت اللاعب الأقوى في سوريا على حساب تركيا وإيران على حد سواء.
اليوم، بوتين موضوع بين خيارات صعبة، ولن يتراجع عن الزحف إلى مدينة بوكروفسك في منطقة دونيتسك في الشرق الأوكراني، مؤمناً بأن تقدمه في أوكرانيا يوفر له “صورة النصر” التي يبحث عنها منذ 24 شباط (فبراير) 2022، ويعيد لروسيا هيبتها العالمية.
وربما أخطأ بوتين عندما استسلم لفكرة أن الجبهة السورية ستبقى خامدة في انتظار انتهاء الموسم الأوكراني. لكن نتائج الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، خلخلت التوازنات القائمة، وأعادت فتح الجرح السوري.
النهار العربي
—————————–
“إدارة العمليات العسكرية” مظلة الجولاني لمواجهة القريب والبعيد/ عبدالله سليمان علي
6 كانون الاول 2024
لم يكن اختيار “هيئة تحرير الشام” مسمَّى “إدارة العمليات العسكرية” ليكون الواجهة التي تتبنّى إدارة معركة “ردع العدوان” والنطق بإسمها اعتباطياً، بل جاء ليكمل مساراً طويلاً حاول من خلاله زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني مأسسة قواته لإضفاء طابع الجيش الحديث عليها. ويأتي ذلك في سياق عمله الدؤوب لإرساء ما يسمّيه “كياناً سنّياً” في المناطق التي يسيطر عليها، ومحاولة منحه طابع الدولة أو الحكم الذاتي المستقل.
وقد لفتت “إدارة العمليات العسكرية” الأنظار إليها بسبب أدائها المغاير وخطابها الجديد، إلى جانب ما حظيت به في الميدان من إنجازات متسارعة فاجأت أنصارها قبل أعدائها.
وورثت “إدارة العمليات العسكرية” تركة سابقتها “غرفة عمليات الفتح المبين” التي أنشأها الجولاني عام 2019 على أنقاض “غرفة عمليات فتح دمشق”، لتكون مظلة تمنحه السيطرة والهيمنة في إدلب ومحيطها، بعدما تمكن من تدجين كل الفصائل الأخرى وإلزامها بالرضوخ لإدارته عبر توقيع اتفاقات واضحة بهذا الخصوص. وقد تخلص الجولاني من كل الفصائل التي رفضت الانضمام إلى “الفتح المبين” وعلى رأسها “حراس الدين” المبايع لتنظيم “القاعدة”.
وعلى مدار السنوات الماضية عمل الجولاني وفريقه على إعادة هيكلة القوات ضمن ألوية ذات اختصاصات عسكرية مختلفة، وتحمل غالبية هذه الألوية أسماء صحابة النبي محمد أو شخصيات إسلامية تاريخية مثل عمر وطلحة وعلي وغيرهم.
وبهدف التخلص من معضلة الفصائلية والمناطقية، سعى الجولاني لإنشاء أكاديمية عسكرية وكليات حربية لتخريج الضباط ومنحهم رتباً عسكرية. ويمكن القول بأن مساعي الجولاني أثمرت أكثر من الجهود التي بذلتها أنقرة من أجل القيام بالأمر نفسه في ما يتعلق بـ”الجيش الوطني السوري” الذي تموله، لكنها عجزت حتى الآن عن القفز فوق معضلة الفصائلية التي طالما حفّزت في منعطفات معينة للدخول في اشتباكات ضمن فصائل تتبع الفيلق نفسه من فيالق الجيش الثلاثة.
عملياً تنتمي إلى “غرفة عمليات الفتح المبين” ثلاثة فصائل هي: “هيئة تحرير الشام”(جبهة النصرة سابقاً) و”الجبهة الوطنية للتحرير”، و”جيش العزة”. لكن “الجبهة الوطنية للتحرير” تتكون من اتحاد أكثر من 15 فصيلاً كانت تعمل في إدلب وشمال حلب بأسماء مختلفة. أما “هيئة تحرير الشام” فتضمّ “جبهة النصرة” بكيانها السابق، و”جيش السنّة”، و”جبهة أنصار الدين”، و”لواء الحق”، ومجموعات من “حركة نور الدين الزنكي”. وانضمّت إليها لاحقاً مجموعات من “حركة أحرار” الشام بقيادة عامر الشيخ.
ورغم تشكيل الجولاني حكومة مدنية لإدارة شؤون إدلب، ظلت الفصائل المختلفة و”غرفة عمليات الفتح المبين” تأتمر بأوامره باعتباره زعيم الفصيل الأقوى والمهيمن، وما زالت “حكومة الإنقاذ” التابعة للجولاني خالية من منصب وزير الدفاع. ويرجح المراقبون أن يكون سبب ذلك هو عدم ثقة الجولاني بأي شخصية مهما كانت مقرّبة منه لإدارة ملف الفصائل.
وخلافاً لفصائل “الجيش الوطني السوري” التي تنتظر كلّ شهر تلقّي رواتبها من خلال الكتلة المالية التي ترسلها أنقرة، وما يشوب ذلك من تأخير وتأجيل في أحيان كثيرة، تتمتع “هيئة تحرير الشام” بمصادر مستقلة للتمويل. وقد ساهمت هيمنتها على إدارة منطقة إدلب في تزويدها بملايين الدولارات كل شهر، لا سيما من خلال السيطرة على معبر باب الهوى، وكذلك احتكار قطاعات معينة مثل الطاقة والاتصالات، علاوة على ما تجنيه من ضرائب ورسوم، وحتى من جباية أموال الزكاة.
ولكن يسود اعتقاد لدى خبراء في الحركات الجهادية بأن الأموال التي يجنيها الجولاني لا تكفي لتغطية نفقات عملية واسعة بحجم عملية “درع العدوان” التي سيطرت على حلب وتقف حالياً عند مشارف مدينة حماة. وبما أن تركيا تعاني من أزمة اقتصادية وبالكاد تتمكن من تأمين نفقات “الجيش الوطني السوري”، فقد اتجهت التوقعات إلى دولة قطر باعتبارها الجهة التي تكفّلت بتغطية احتياجات المعركة عبر قنوات متفق عليها مع الجانب التركي.
وهذا يقود إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي طبيعة العلاقة التي تربط الجولاني بالدول الداعمة له. وقد تكفي مقارنته بـ “الجيش الوطني السوري” لوضع تصور محدد. فـ”الجيش الوطني السوري” ليس مجرد تابع لقيادة الجيش التركي بل إن بعض فصائله، لا سيما “القوة المشتركة” و”السلطان مراد”، تكاد تكون جزءاً منه، وذلك لأن رواتبه تأتي من تركيا، وكذلك فإن كوادر التدريب هم ضباط في الجيش التركي. لكن “هيئة تحرير الشام” ليست كذلك، وهو ما منحها بعض الاستقلالية التي عبّرت عنها أكثر من مرّة، عبر رفضها مسار أستانا، وكذلك وقوفها ضدّ مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق.
غير أن الاستقلالية لا تتنافى مع التخادم المتبادل بين الهيئة وتركيا ومراعاة كل طرف مصالح الطرف الآخر. والهيئة تدرك أنها لا تستطيع الاستغناء عن تركيا لأنها الرئة التي تتنفس منها من أجل مواصلة إدارة شؤون المناطق التي تسيطر عليها. وهذا يمنح أنقرة نفوذاً يجعلها قادرة على التأثير في قرارات الهيئة.
وهو ما تبدّى عملياً قبل حوالى ثلاثة أشهر عندما تجهزت لإطلاق معركة واسعة بالتزامن مع بدء التصعيد الإسرائيلي في لبنان، لكن أنقرة رفضت ذلك وضغطت لإجهاض الموعد. ولكن يبدو أن لحظة وقف إطلاق النار في لبنان شكّلت نقطة التقاء مصالح بين أنقرة والهيئة، فغضّت الأولى النظر وأطلقت الثانية معركة “ردع العدوان”.
ومع ذلك تظل الثقة بين تركيا وقيادة الهيئة قيد الاختبار الدائم. فالجولاني لا ينسى أن القوات التركية هي التي منعته قبل عامين من استكمال سيطرته على مدينة عفرين، وهي التي أجهضت مشروعه لاختراق بعض الفصائل المحسوبة عليها، وذلك عندما هاجمت “القوة المشتركة”، الأقرب إلى تركيا، فصيل “صقور الشمال” في أيلول (سبتمبر) الماضي. وكذلك فإن تركيا تعلم أن الجولاني لعب أدواراً كثيرة لمنع تمرير بعض أجنداتها، فهو الذي دعم منع تسيير الدوريات الروسية- التركية المشتركة في منطقة خفض التصعيد في إدلب، وهو الذي حرّض على مسار تقاربها مع دمشق، كما أنه منذ بداية قيام تركيا بإنشاء مواقع ونقاط في محيط إدلب تنفيذاً لمقررات أستانا، أصرّ على أن تدخل الأرتال التركية تحت مراقبة جهازه الأمني وقواته.
وقد يكون من تجلّيات هذه الثقة المحدودة، مسارعة تركيا إلى الإيعاز إلى فصائل “الجيش الوطني السوري” لإطلاق معركة “فجر الحرية”، لأن هذه الفصائل لا يمكن أن تطلق معركة من دون أمر مباشر من أنقرة. ولدى تركيا أكثر من غاية من وراء إطلاق هذه المعركة، فهي تسعى إلى القضاء على “قوات سوريا الديموقراطية” في منطقة الشهباء في ريف حلب الشمالي، والضغط على الولايات المتحدة من أجل تنفيذ التفاهم الثنائي بينهما بخصوص مدينة منبج. ولكنها أيضاً تريد أن تضع مسافة بينها وبين الجولاني، لأن الأخير مصنّف على قائمة إرهاب الأمم المتحدة. وكذلك تريد ألّا يظهر الجولاني باعتباره القائد الأوحد الذي لا ينازعه أحد السلطة على المناطق التي يُسيطر عليها، فهي تخشى في النهاية أن يكبر الوحش ولا يعود بحاجة إلى دعمها، هذا إذا لم ينقلب عليها لاحقاً لسبب أو لآخر.
وما يؤكّد هذه الفرضية هو أن الجولاني سارع ليلة الثلاثاء-الأربعاء إلى إرسال رتل من 1000 مقاتل إلى مناطق عمليات “فجر الحرية”، وذلك وفق مصادر ميدانية مناهضة لـ”هيئة تحرير الشام”. وذكرت المصادر أن مقاتلي الجولاني أجبروا فصائل “الجيش الوطني” على تسليمه مطار منّغ العسكري ومطار كويرس، كما اقتحموا المحطة الحرارية. وتبدو رسالة الجولاني من خلال محاولة احتكار الانتصار والغنائم واضحة، وهي موجّهة إلى تركيا قبل غيرها.
النهار العربي
————————-
الجولاني يتوجّه لمحاصرة دمشق؟/ ابراهيم ريحان
6 كانون الأول 2024
بعد وقف إطلاق النّار في لبنان، كانت الأنظار تتّجهُ إلى سوريا. توقّع كثيرون أن يكونَ الجنوب السّوريّ من الكسوة في ريف دِمشق إلى محافظة السّويداء هو مسرح الأحداث المُنتظرة على السّاحة السّوريّة. لكنّ ما لم يكُن في الحُسبان هو أن تشتعِل جبهة الشّمال بهذه السّرعة، وأن تسقطَ العاصمة الاقتصاديّة لسوريا مدينة حلب في أقلّ من 24 ساعة، وأن يصل المعارضون إلى حماة. والجديد هو الرسالة التي أطلقها أبو محمد الجولاني أمس مخاطباً “أهالي درعا وحمص ودير الزور”، ما يعني أنّه مصمّمٌ على التوجّه إلى محيط العاصمة السورية دمشق. وبالتالي يبدو أنّ تركيا متّجهة إلى محاصرة الرئيس بشّار الأسد في الشام.
ماذا يحصُل في سوريا؟
يشهدُ النّزاع السّوريّ تحوّلاً نوعيّاً بعدما أطلقَت فصائل المُعارضة في الشّمال بالتّعاون مع “هيئة تحرير الشّام” (“جبهة النّصرة” سابقاً) هجوماً واسعاً من إدلب وصل إلى حلب وحماة تحت مُسمّى “ردع العدوان”. استطاعت المُعارضة ومعها “تحرير الشّام” التي يتزعّمها أحمد الشّرع، الملقّب بـ”أبي محمّد الجولانيّ”، السّيطرة على مدينة حلب ومساحاتٍ واسعة في ريفها الشّماليّ والغربيّ والجنوبيّ وما تحتويه من مراكز ومطارات عسكريّة، وقطع طريق إمداد النّظام المعروف باسم طريق “M5”. فعلت الشيء نفسه في حماة حيث تخوض معارك ضاريةتنتهي بالسيطرة على حماة وريفها.
اغتيال الأمين العامّ لـ”الحزبِ” السّيد حسن نصرالله، والآثار المعنويّة التي ترتّبت على ذلكَ على معنويّات مُقاتلي “الحزبِ” وجميع الفصائل الموالية لإيران
وقد علم “أساس” أنّ هناك محاولات قطرية لعقد اجتماع يوم الاحد المقبل بين قادة فصائل المعارضة السورية، ووزراء خارجية ممثّلين عن دول عربية وأوروبية، لبحث المستجدّات السورية، ولمحاولة رسم أطر المرحلة المقبلة وإمكانية التغيير السياسي في سوريا.
لكنّ مصادر تركية قالت لـ”أساس” إنّ التطوّرات العسكرية، خصوصاً بعد دخول حماه والتوجّه صوب حمص وطريق دمشق، لم تعد تسمح للمعارضة بالقبول بما كانت تطالب به قبل أسابيع وأشهر وسنوات. وأنّ ميزان القوى تغيّر كثيراً.
تركيا تريد مشاركة “الإخوان” في السّلطة
يقول مصدرٌ مسؤول في العاصمة السّوريّة دمشق لـ”أساس” إنّ هجوم المُعارضة جاءَ بطلبٍ تُركيّ للضّغط على النّظام بعدما رفضَ 3 مطالب تُركيّة طوال فترة المُفاوضات التي كانت ترعاها روسيا حتّى لحظة بدء هجوم المُعارضة في حلب.
يُلخّص المصدر “المطالب التّركيّة” بالآتي:
دمج مُسلّحي المُعارضة الموالين لتركيا في قوّات الجيش النّظاميّ.
إفساح المجال أمام جماعة “الإخوان المُسلمين” للدّخول في الحكومة السّوريّة وللترشح إلى مجلس الشّعب.
إعادة 3 ملايين لاجئ سوري من دون أيّ ترتيبات سياسيّة واقتصاديّة في ظلّ ما تعانيه حكومة دمشق بسبب العقوبات الأميركيّة وأبرزها “قانون قيصر”. إذ يعتبر النّظام أنّه لا يُمكن لحكومته أن تستوعب هذا العدد من اللاجئين وتحمّل كلفة معيشتهم من دون أيّ خطوةٍ من شأنها إعادة تعويم وضعه الاقتصاديّ.
تعتبر دمشق أنّ أنقرة تُحاول استغلال 3 عوامل ميدانيّة لفرضِ واقعٍ جديدٍ على السّاحة السّوريّة.
أوّلها: الضّربات الإسرائيلية العسكريّة القاسية التي تعرّضَ لها “الحزبُ” في لبنان.
ثانيها: أنّ “الحزبَ” نقلَ قسماً وازناً من قوّاته التي كانت تتمركَز في مدينة حلب وريفها الغربيّ والجنوبيّ إلى الجبهة اللبنانيّة وأيضاً إلى الجنوب السّوريّ، خصوصاً بعد الأنباء التي تحدّثت عن إمكانيّة أن يقوم الجيش الإسرائيليّ بعمليّة التفافٍ عبر الجولان السّوريّ المُحتلّ نحوَ البقاع الغربيّ.
ثالثها: اغتيال الأمين العامّ لـ”الحزبِ” السّيد حسن نصرالله، والآثار المعنويّة التي ترتّبت على ذلكَ على معنويّات مُقاتلي “الحزبِ” وجميع الفصائل الموالية لإيران.
مصدرٌ مسؤول في العاصمة السّوريّة لـ”أساس”: هجوم المُعارضة جاءَ بطلبٍ تُركيّ للضّغط على النّظام بعدما رفضَ 3 مطالب تُركيّة طوال فترة المُفاوضات
تراجع نفوذ إيران… وتغيّر “المزاج” الرّوسيّ
رابعها: ضعف النّفوذ الإيرانيّ بعد الضّربة التي تعرّضَ لها “الحزبُ” في لبنان ومقتل عدد كبير من المُستشارين الإيرانيين بفعل الاغتيالات الإسرائيليّة في سوريا ولبنان، علاوة على القرار الإسرائيليّ بمنع هبوط طائرات الشّحن الإيرانيّة التي تحمل أسلحةً في مطارات سوريا، وصعوبة نقل المُقاتلين عبر معبر البوكمال الحدوديّ مع العراق بسبب المُتغيّرات الإقليميّة. تُضاف إلى ذلكَ الأزمة الاقتصاديّة الحادّة التي تعصفُ في الدّاخل الإيرانيّ بسبب العقوبات الأميركيّة.
خامسها: الأزمة الاقتصاديّة التي تُعاني منها دِمشق، وهو ما ينعكسُ سلباً على البيئات الحاضنة ومناطق سيطرة النّظام من دمشق إلى حلب مروراً بحماة وحمص والسّويداء ودرعا.
سادسها: نقلت روسيا ثقلها العسكريّ والسّياسيّ نحوَ الجبهة الأوكرانيّة مع الغرب وأوروبا. إذ أدّت أولويّة هذه الجبهة بالنّسبة لموسكو إلى خفضِ التّركيز العسكريّ على الجبهة السّوريّة. في هذا الإطار تشير معلومات “أساس” إلى أنّ قاعدة حميميم الرّوسيّة كانت تعملُ في الآونة الأخيرة بـ10 طائرات حربيّة نشِطة وعددٍ محدود من أنظمة الدّفاع الجوّي. وذلك بعدما نقلت موسكو قسماً وازناً من تجهيزاتها الهجوميّة والدّفاعيّة والخبراء العسكريين لدعم العمليّات على الجبهة الأوكرانيّة.
سابعها: قامت تركيا طوال الفترة الماضية بتنظيم عمل مجموعات المُعارضة، وتكاد تكون المرّة الأولى التي تقوم فيها المُعارضة بشنّ عمليّة تحت إشراف قيادة وغرفة عمليّات موحّدة. كما باتَ واضحاً أنّ المُعارضة باتت تستعمل أسلحةً وتقنيّات جديدة، أبرزها الطّائرات المُسيّرة البعيدة المدى التي اعتمَدَت عليها بشكلٍ أساسيّ لضربِ مواقع أساسيّة واستراتيجيّة ومستودعات إمداد قوّات النّظام.
يُدركُ القائمون على الملفّ السّوريّ في تُركيا أنّ الدّول العربيّة تولي أهميّة قصوى لـ”استقرار وتماسك مؤسّسات الدّولة”
تُركيا تُحاول طمأنة العَرَب؟
يُدركُ القائمون على الملفّ السّوريّ في تُركيا أنّ الدّول العربيّة تولي أهميّة قصوى لـ”استقرار وتماسك مؤسّسات الدّولة”، وأن لا تكونَ سوريا مُجدّداً ملاذاً للمُقاتلين المُتطرّفين من مُختلفِ الجنسيّات، لما لذلكَ من انعكاسٍ مُباشر على الأمن القوميّ العربيّ. وقد كانَ ذلكَ واضحاً في الموقفيْن المصريّ والإماراتيّ، اللذيْن عبّر عنهما اتّصال رئيس دولة الإمارات الشّيخ محمّد بن زايد بالرّئيس السّوريّ بشّار الأسد، والاتّصال الذي جمَع وزيرَيْ خارجيّة مصر وسوريا، ووزيرَيْ خارجيّة مصر والولايات المُتحدة، وزيارة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للإمارات.
أكّدَ بن زايد وقوفَ الإمارات إلى جانب سوريا. كما أكّدَ وزير الخارجيّة المصريّ بدر عبدالعاطي لنظيرَيْه السّوريّ بسّام الصّبّاغ والأميركيّ أنتوني بلينكن “موقف مصرَ الثّابت والدّاعم للدّولة السّوريّة وسيادتها ووحدةَ أراضيها”. وأكّد البيان الإماراتي السعودي المشترك “ضرورة تجنيب المنطقة أزماتٍ جديدة تهدّد أمنها واستقرارها”.
يقول مصدرٌ مسؤولٌ في وزارة الخارجيّة التُركيّة لـ”أساس”، اشترطَ عدم الإفصاح عن هويّته، إنّ أنقرة تواصلَت مع العواصم العربيّة، وخصوصاً الرّياض والقاهرة وأبو ظبي، ونقلَت وجهة نظرها التي تقوم على أنّ الحلّ السّياسيّ هو الحلّ الوحيد للأزمة السّوريّة.
أنقرة تواصلَت مع العواصم العربيّة، وخصوصاً الرّياض والقاهرة وأبو ظبي، ونقلَت وجهة نظرها التي تقوم على أنّ الحلّ السّياسيّ هو الحلّ الوحيد للأزمة السّوريّة
تواصل سعوديّ – تُركيّ: استقرار… ولا أجانب
تحدّث وزير الخارجيّة التُّركيّ حقّان فيدان مع نظيره السّعوديّ الأمير فيصل بن فرحان يومَ الأحد الماضي. وبحسب المصدر، فإنّ بن فرحان نقلَ رسالةً سعوديّةً مُفادها الآتي:
أن لا تكونَ الأراضي السّوريّة والحدود السّوريّة – التّركيّة ملاذاً ومعبراً للمُقاتلين المُتطرّفين.
شدّدَ على ضرورة أن لا تؤدّي عمليّة المُعارضة المُسلّحة إلى زعزعة أسس الدّولة السّوريّة، وأنّ على أنقرة أن تضبطَ دعوات الانشقاق، ومنع أيّ خطوة من شأنها أن تؤدّي إلى انهيار مؤسّسات الدّولة السّوريّة.
تناولَ الجانبان المساعي التي كانت تقوم بها الرّياض وبعض الدّول العربيّة لجهة ترتيب العلاقة بين دمشق وأنقرة، والتي كانَ من الممكن أن تصل إلى نتيجة نظراً للمُتغيّرات الإقليميّة وتراجع نفوذ إيران في المنطقة، وأنّه كانَ من الممكن أن تتأجّل العمليّة العسكريّة.
في المُقابل أكّدَ وزير الخارجيّة التّركيّ لنظيره السّعوديّ الآتي:
تعملُ أنقرة على ضبطِ منطقة الحدود السّوريّة – التّركيّة، وهي مُلتزمة بمنع تدفّق المُقاتلين الأجانب إلى الدّاخل السّوريّ.
حرصَت أنقرة على عدم مُشاركة المُقاتلين الأجانب الموجودين في سوريا في العمليّة العسكريّة، خصوصاً المُقاتلين الأوزبَك والتّركستان.
تخشى أنقرة من أن تُقدِم إيران على استقدام المُقاتلين الأجانب عبر الحدود العراقيّة – السّوريّة والزّجّ بهم في مناطق المُعارضة كما حصلَ في بعض محطّات النّزاع السّوريّ منذ عام 2011.
تُريد أنقرة من دعم عمليّة “ردع العدوان” إضعاف خصومها الإقليميين، وفي مُقدَّمهم النّظام السوري والميليشيات الكُرديّة التي تُقاتل تحت مُسمّى “قوّات سوريا الدّيمقراطيّة”
يُلخّص المصدر دعم تركيا للعمليّة العسكريّة لفصائل المُعارضة بالآتي:
تُريد أنقرة من دعم عمليّة “ردع العدوان” إضعاف خصومها الإقليميين، وفي مُقدَّمهم النّظام السوري والميليشيات الكُرديّة التي تُقاتل تحت مُسمّى “قوّات سوريا الدّيمقراطيّة”، اللذين تعتبرهما القيادة التُّركيّة تهديداً مباشراً لأمنها القوميّ.
تسعى الحكومة التّركيّة إلى معالجة قضيّة اللاجئين السوريين، التي باتت تمثّل تحدّياً داخلياً ضاغطاً، وذلكَ عبر العمل على توسيع نطاق المناطق الآمنة داخل الأراضي السّوريّة.
تسعى أنقرة إلى استغلال فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركيّة لتعزيز نفوذها في الشّمال السّوريّ لضمان حماية مصالحها الجيوسياسية على المدى البعيد. إذ تشير التقديرات السّياسيّة إلى أنّ ترامب قد يُقرّر هذه المرّة سحب قوّات بلاده من سوريا.
تُريد أنقرة أن تضغطَ على النّظام السّوريّ بعد تعثّر مبادرات التطبيع بينهما. وهنا يؤكّد المصدر أنّ تُركيا تدير العمليّة بحذرٍ شديدٍ وتتجنّب قدر الإمكان أيّ توتّر في العلاقة مع روسيا التي ينظرُ إليها الرّئيس التّركيّ رجب طيّب إردوغان كشريكٍ استراتيجيّ على السّاحتيْن الدّوليّة والإقليميّة.
تُريد أنقرة أن تضغطَ على النّظام السّوريّ بعد تعثّر مبادرات التطبيع بينهما. وهنا يؤكّد المصدر أنّ تُركيا تدير العمليّة بحذرٍ شديدٍ
المُعارضة السّوريّة
يقول مدير مركز “جسور” للدّراسات والسّياسيّ السّوريّ محمّد سرميني لـ”أساس” إنّ توقيت المعركة مُرتبط بتجميد العمليّة السّياسيّة التي استمرّت لعدّة سنوات. وهناك قراءة للمعارضة ترتبط بمُتغيّرات إقليميّة بعد “طوفان الأقصى” أوجدَت ظروفاً مناسبة لتحريك العمليّة العسكريّة. ويكشف أنّ المعارضة حضّرت لهذه العمليّة منذ مدّة طويلة.
ماذا عن هدف العمليّة؟ يجيب سرميني أنّ هدف العمليّة العسكريّة هو إعادة التوازن بعدما ظهرَت المُعارضة ضعيفة في السنوات الماضية بعد تقدّم النّظام في عدّة مناطق، ودفع العمليّة السّياسيّة لإيجاد حلّ سياسيّ عادل يُلبّي طموحات الشّعب السّوريّ ويقوّض نفوذ إيران في سوريا الذي بحسب سرميني باتَ يُهدّد الأمن المحلّي والإقليميّ.
تُريد المعارضة أن تبعث رسائل للقوى الإقليميّة والدّوليّة الفاعلة في السّاحة السّوريّة بأنّها تريد دفع العمليّة السّياسيّة بما يتوافق مع قرارات مجلس الأمن الدّوليّ. ويعتبر سرميني أنّ العمليّة سوريّة بامتياز مع ضوء أخضر إقليمي ودعم دولي، وأنّ الجانبيْن التركي والأميركيّ لا يريدان الصّدام، وأنّه باتَ واضحاً أنّ واشنطن لا ترغب بالاصطدام وأبلغت “قسد” والجانب التّركيّ بذلك. لكنّ بعض التطوّرات الميدانيّة قد تفرض تغيير بعض الاتّفاقات. ويؤكّد أن لا اتفاق تركيّاً – أميركيّاً. ويستدلّ على ذلك بسيطرة المعارضة على مدينة تل رفعت التي كان يُسيطر عليها المقاتلون الأكراد.
تُريد المعارضة أن تبعث رسائل للقوى الإقليميّة والدّوليّة الفاعلة في السّاحة السّوريّة بأنّها تريد دفع العمليّة السّياسيّة بما يتوافق مع قرارات مجلس الأمن الدّوليّ
يرى سرميني أنّ النّظام عاجز عن اتّخاذ موقف بالابتعاد عن إيران، وإن كان لديه الرّغبة في ذلك. ولهذا باءت بالفشل كلّ محاولات التطبيع السّابقة لاستيعاب النّظام لإبعاده عن إيران. كما أنّ النّظام هو الذي فتح المجال أمام إيران للتدخّل في كلّ المجالات السّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في سوريا، وإن وجّه رسائل للقوى الفاعلة في الإقليم والسّاحة الدّولية عن رغبته بالابتعاد عنها، إلّا أنّ الواقع أثبت عجزه عن اتّخاذ قرار كهذا.
يقرأ سرميني خطوة أبي محمّد الجولاني بحلّ “هيئة تحرير الشّام” في سياق التّخلّي عن كامل الإرث القديم والارتباط بالمجموعات المُصنّفة “إرهابيّة” مثل القاعدة، ومحاولته إعادة إنتاج نفسه كقائد محلّي سوريّ. حتّى إنّه بدأ بالتّخلّي عن اسم “أبي محمّد الجولانيّ” واستخدام اسمه الحقيقي أحمد الشّرع في مسعى لطيّ حقبة التنظيمات المُتطرّفة غير المنضبطة على حسابِ تقديم صورة سياسيّة معتدلة تكون مقبولة محليّاً وخارجيّاً.
موقع اساس ميديا
————————-
المنطقة تستبق ترامب: خريطة جديدة من إيران إلى غزة/ منير الربيع
ديسمبر 6, 2024
أنتج انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية تحديات كثيرة أمام قوى عديدة. ركز ترامب في مواقفه على إنهاء الحروب، وخصوصاً الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان قبل دخوله إلى البيت الأبيض. ويكاد يكون أحد أهم الأسباب وراء ذلك هو محض داخلي يتصل برفض ترامب مواصلة تقديم الأموال والذخائر الحربية، بالإضافة إلى إعادة إطلاق مسار سياسي مختلف في المنطقة، يستند على الضغط الأقصى سياسياً واقتصادياً بغية تمرير مشروعه. انتخاب ترامب أعطى قوة دفع لمبادرات وقف إطلاق النار في لبنان. وأعاد تحريك ملف التفاوض للوصول إلى اتفاق في غزة. وذلك وضع كل طرف أمام استحقاق السعي إلى تحسين موقعه وظروفه ومكتسباته، وعدم التمركز في موقع صدامي مع الإدارة الأميركية الجديدة.
مبادرات وانقلابات
إسرائيلياً، بدا نتنياهو أكثر تفهماً لشروط وقف إطلاق النار في لبنان، علماً أنه كان يرفضها سابقاً، ويستند على غطاء أميركي لمرحلة ما بعد تطبيق آليات الاتفاق. كذلك أبدى الاستعداد لإبرام صفقة في قطاع غزة، وهو ما أعاد إحياء المفاوضات.
فلسطينياً، تحركت إيجاباً آليات التفاوض بين حركتي فتح وحماس، للوصول إلى تفاهم حول إدارة قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب.
لبنانياً، وافق لبنان على وقف إطلاق النار، وقدّم التنازلات المطلوبة لعدم استمرار الحرب، وكي لا تُستدرج أميركا إليها في عهد ترامب.
سورياً، تحركت المعارضة السورية في توقيت حاسم لتحسين ظروفها الواقعية على الأرض وتوسيع نفوذها وتوجيه ضربات قاسية للنظام السوري.
دمشق، تجد نفسها في موقف حرج بسبب ضغط المعارضة الكبير، وعدم قدرة النظام على صد الهجوم، والوقوف ما بين منزلتين إما العودة إلى الرهان على الإيرانيين، وإما التخلي عنهم بشكل كامل مع تقديم تنازلات جوهرية واستراتيجية من قبل النظام، بالاستناد إلى مفاوضات سابقة حصلت معه من قبل دول عربية، وجهات أميركية، وتركيا.
تركيا، تحركت بفعالية سريعة في شمال سوريا لتوسيع نفوذها وتثبيته، وتريد الاستفادة من تطويق الأكراد وضربهم أكثر، كما عبرّت في مواقفها الرسمية عن استعدادها للدخول إلى شرق الفرات، في حال قرر ترامب سحب الجنود الأميركيين من هناك.
إيران، وجدت نفسها أمام تحديات كثيرة، هدفها إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة وخصوصاً في لبنان وسوريا، فاضطرت إلى تقديم مقاربات واقعية، سواء بوقف إطلاق النار في لبنان والالتزام به، وإقران مسألة التدخل بسوريا بطلب من قبل النظام، وهي تعلم أن دمشق ستكون محرجة جداً في ذلك. كما أن إيران قدمت مواقف أبدت فيها استعدادها للتفاوض مع الأميركيين ومع إدارة ترامب بالتحديد، للوصول إلى تفاهمات. فهي لا تريد أن تكون على صدام معه، لكنها في المقابل لا تزال تسعى للحفاظ على مكتسباتها أو مصالحها في دول المنطقة.
روسيا، تعتبر أن وصول ترامب يمكن أن يشكل فرصة لها لإيجاد حلّ للحرب على أوكرانيا، وهي تجد نفسها أيضاً مضطرة لغض النظر عن بعض التطورات في سوريا، على طريق تقويض النفوذ الإيراني الذي تريده واشنطن.
سباق مع الزمن
كل هذه التطورات، أو الواقع التنافسي بين القوى الإقليمية والدولية، يأتي في سباق مع الزمن قبيل دخول ترامب إلى البيت الأبيض وتشكيل فريق عمله. كما أن كل طرف يحاول تكريس أمر واقع يتمكن من فرضه على الإدارة الأميركية، وفق ما تقتضيه مصلحته. يأتي ذلك في مرحلة انتقالية في الولايات المتحدة الأميركية بين إدارة يعتبرها البعض أنها امتداد لإدارة أوباما، وكانت تسعى إلى إمكانية التفاهم مع إيران، وبين إدارة مارست أقصى أنواع الضغوط على إيران، وبعد الإكثار من الكلام عن تقويض النفوذ الإيراني، والذي ستسعى دول كثيرة إلى الاستفادة منه، مثل بعض الدول العربية التي لديها الكثير من الانشغالات في ملفاتها الداخلية أو في محيطها المجاور القريب أو اللصيق. وتركيا التي تريد أن تستفيد وتراكم مكتسباتها على الساحتين السورية والعراقية، وروسيا التي تريد أن تخفف من وقائع النفوذ الإيراني في سوريا والوصول إلى وقف الدعم الغربي المطلق لأوكرانيا، وإسرائيل التي تريد تحقيق أمنها واستقرارها بالاستناد إلى ضغوط ترامب بعد كل الذي أقدم عليه عسكرياً.
ثمة من ينظر إلى كل هذه التطورات بوصفها محطّة معاكسة لما نجحت إيران في تحقيقه منذ الاجتياح الأميركي للعراق في العام 2003. إذ حينها تمكنت إيران من تعزيز نفوذها وتوسيعه إلى بغداد فدمشق فبيروت، وصولاً إلى ادعاء السيطرة على 4 عواصم عربية. لكن هذه المعادلة هي التي يتم العمل على تغييرها، ولا سيما إثر الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وتصريحات ومواقف الإسرائيليين والأميركيين حول تقويض أو إنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة.
تستشعر إيران خطراً على مشروعها الاستراتيجي والذي يُنظر إليه دولياً بأنه يبدأ من الحدود الإيرانية الأفغانية إلى رأس الناقورة.
مآلات المنطقة
تبقى سوريا هي عقدة الوصل بين كل هذه التقاطعات والتضاربات، لا سيما أن ما يخاض فيها هو معركة فك ارتباطها عن إيران، وما يسميه الإسرائيليون قطع خط الإمداد على حزب الله، وقطع الطريق التي تنطلق من إيران إلى العراق فسوريا فلبنان. وهو مسار تدعمه تركيا وتوافق عليه أميركا وتغض النظر عنه روسيا. هذا المسار سيوصل إلى أكثر من نقطة:
تركيا ستثبت نفوذها واتساعها على الساحة السورية.
النظام السوري، لن يكون بإمكانه مواصلة اللعب على تناقضات كما اعتاد، ولا يمكنه الرهان على الوقت كعنصر في سبيل تحسين فرصه وظروفه.
أما لبنان، فهو أمام مرحلة جديدة لاستعادة التوازن السياسي بين المحاور المتقابلة، بالاستناد إلى ضغوط دولية وإقليمية تترجم سياسياً ما بعد انتهاء الحرب.
والعراق سيشهد الكثير من التغيرات، في سبيل استمرار إرساء التوازن بين القوى المختلفة، بناء على تقاطعات إيرانية أميركية.
وفي فلسطين، هناك اشتداد للضغوط الإسرائيلية في سبيل إبقاء السيطرة الأمنية على قطاع غزة، وقطع أي طرق إمداد بالسلاح إلى الضفة الغربية، في مقابل مساعٍ عربية ودولية لإعادة طرح معادلة حل الدولتين، من خلال فرض هذا العنوان على جدول أعمال إدارة ترامب
المدن
———————————
==================
5 كانون الأول 2024
تم ترتيب المقالات حسب تاريخ نشرها
——————————
ما الذي يجري؟ قراءة أولية عن “ردع العدوان” وتعقيداتها/ حمزة المصطفى
بدأت فصائل معارضة سورية منضوية في غرفة عمليات “إدارة العمليات العسكرية” هجوماً عسكرياً واسعا أُطلق عليه مسمّى “ردع العدوان”، مستهدفة ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي. لم يكن الهجوم مفاجئا، ذلك أن الفصائل دأبت على تكرار نيتها بشنّه خلال الشهرين الأخيرين، كان صادما إقدامها على فعله مخالفة بذلك جلّ التوقعات. تمثلت المفاجأة الأخرى بانهيار قوات النظام بشكل سريع وتباطؤ الطائرات الروسية عن المشاركة الفاعلة حتى الآن وتراجع ملحوظ في انخراط الميليشيات الإيرانية والفصائل اللبنانية والعراقية.
التنظيم المنضبط للقوات المهاجمة ووجود خلايا نائمة مكّنها من دخول أحياء في مدينة حلب بشكل جعل المدينة ساقطة ناريا إلى حد بعيد. ومع أن الأمور لم تتضح بعد، فإن ما جرى يعد إنجازا عسكريا فريدا من نوعه، فخلال يومين نجحت إدارة العمليات العسكرية في استعادة مساحات جغرافية ومدن استغرقت القوات الروسية والإيرانية نحو عام ونصف العام لاحتلالها.
راجت تكهنات وتفسيرات كثيرة لما جرى وتعددت الآراء في توصيفه ما بين الحقيقة والخيال مع حضور قوي للسيناريوهات التآمرية لجهة وجود توافقات دولية عن استلام أو تسليم، أو مسرحيات، وغيرها من المسائل، وهو أمر مفهوم ذلك أن العملية تمثل أول تغيّر وتبدّل في الخرائط العسكرية التي رسمت في اتفاق موسكو 2020 ونجم عنها وقف لإطلاق النار حرصت القوى الدولية جميعها على استدامته والدعوة إلى الالتزام به سرا وعلانية.
من المبكر لأوانه تقديم تحليل موضوعي لما جرى حيث تغيب المعلومة الصحيحة عن غالبية السوريين نظاما ومعارضة وبين بين، لكن المراقب للمشهد عن كثب يهتم بأسئلة محورية عن الموقفين التركي والروسي بالدرجة الأولى، وإمكانية الاحتفاظ بالمناطق المسيطر عليها وتجنب تكرار تجارب الماضي، وهو ما نروم إثارة بعض النقاط بشأنه.
شعرة معاوية بين موسكو وأنقرة
استثمرت أنقرة كثيرا بمسار أستانا بوصفه الناظم لعلاقتها مع موسكو وذهبت في الحفاظ عليه حدا بعيدا تجاهلت فيه نقض القيادة الروسية جميع تفاهمات مناطق خفض التصعيد الأربعة بما فيها قضم مساحات كبيرة من منطقة خفض التصعيد الرابعة التي كانت تمتد من مورك في ريف حماة إلى أقصى الشمال السوري. أكثر من ذلك، غضت أنقرة الطرف رغم انزعاجها الشديد عن الخروقات المختلفة للطيران الروسي وحرصه المستمر على قصف مناطق الشمال ومنع المدنيين من الاستقرار فيها بغية خلق مشاكل تؤدي إلى هجرة دائمة، هجرة ضاقت حكومة العدالة والتنمية ذرعا بها وبتبعاتها الداخلية وخاصة فيما يتعلق بتغير مزاج الناخب والأزمة الاقتصادية.
الحرص على عدم إعلان فشل هذا المسار المتعثر بجلساته الـ22 دفع صانع القرار التركي إلى التوجه المباشر نحو الأسد وحثه على بدء عملية تطبيع تدريجية تبدأ بفتح مسار سياسي لحلحلة الأزمة السورية دون حلها وتفضي في نهايتها إلى انسحاب القوات التركية من سوريا. لكن تعنت النظام ومواربة روسيا وإصرارها على استفزازاتها الميدانية وتعويل قوى دولية أخرى مثل أميركا، والدول العربية، وإسرائيل على تحديد معالم الحل في سوريا أدى إلى تراجع الحساسية التركية، عند بعض الأصوات على الأقل، لاحتمالية حصول سيناريو انفجاري يقلب المعادلات العسكرية الثابتة.
قد تكون أنقرة مهتمة بعملية تحريك ضمن خطوط خفض التصعيد الرابعة لكنها ليس بالضرورة أن تكون مهتمة بعمليات تحريرية على غرار ما جرى سابقا، عمليات قد تكون نتائجها كارثية في حال فشلها إذ قد ينجم عنها موجات جديدة من اللاجئين، خاصة إذا ما قررت موسكو تكرار سيناريو انتقامي كما جرى بعد إسقاط طائرتها عام 2015. وعليه، يمكن القول بحذر إن أنقرة فرحة بما يجري لجهة الانهيار الكبير في قوات النظام واستعادة مناطق قد تعيد مئات الآلاف من اللاجئين فيما لو بقيت تحت سيطرة المعارضة السورية وتمنع الانفجار السكاني الذي يحصل في إدلب مع تكدس القادمين فيها وتراجع الدعم الدولي، في الجانب الإنساني خاصة، وتلبية حاجات الناس هناك.
لكن أنقرة ذاتها تخشى انتقاما روسيا وتصعيدا غير محسوب في دعم النظام، كما تخشى انتقاما غير منضبط من إيران، الدب المخدوش داخليا وخارجيا، وخصوصاً مع اقتراب المعارضة من السيطرة على المدينة التي استثمرت فيها طهران كثيرا، مذهبيا واجتماعيا. باختصار، لن تمارس أنقرة ضغوطا على فصائل المعارضة وستحرص على تفهم التقدم الحاصل دون تبريره أو اتخاذ مواقف حماسية تجاهه طالما حافظت روسيا على موقفها الحالي. والسؤال الذي يطرح هنا: ما هو الموقف الروسي وكيف يمكن أن يتطور؟
لن تمانع موسكو بعملية محدودة تضغط على النظام الذي أرهقها بتقلباته الطفولية ولعبه على وتر التناقضات العديدة بينها وبين طهران في سوريا ووضع العراقيل ضد أي مقترح سياسي بما في ذلك اللجنة الدستورية التي اخترعتها موسكو بديلا عن مسارات الحل الدولية
بداية، تسود تصورات وأراء عن غياب روسيا عن معارك الميدان الحالية وهذا غير دقيق، فالمشاركة حاضرة لكن القدرات لم تعد كما الماضي. تشير متابعتنا ومعلوماتنا إلى أن موسكو سحبت منذ 2022 أكثر من 1500 جندي وجميع الخبراء الميدانيين ومنظومات دفاع جوي مثل “إس 300” وعدد من منظومات بانتسير المخصصة للدفاع الجوي ضد المسيرات، وأبقت روسيا في قاعدة حميميم على 3 طائرات اعتراض جوي من طراز ميغ و4 – 6 طائرات قاذفات جوية من طراز سوخوي، بحسب ما كشفته صور أقمار صناعية التقطت صورا حديثة لقاعدة حميميم، بينما كان عدد الطائرات الروسية عام 2016 أكثر من 20 طائرة. روسيا تستخدم طائراتها الأربعة على مدار الساعة، لكن مساحة المعركة وفقدان الضباط الروس الخبراء والخلل الكبير في صفوف قوات النظام، لا تترك مجالاً ليكون الطيران الروسي أكثر تأثيراً مما يحدث. يضاف إلى ما سبق حسابات روسية دقيقة من سلاح المسيرات الجديد الذي باتت فصائل معارضة تمتلكه وتستخدمه بقوة واحترافية في الميدان حيث تتهم موسكو دولا مثل أوكرانيا بتدريب عناصر سوريين على استخدامها لاستهداف قاعدة حميميم، وعليه تفضل موسكو جمع معلومات ومعطيات عن القدرات الهجومية للفصائل المشاركة لحساب تبعات المشاركة وإمكانية زيادتها.
لن تمانع موسكو بالتأكيد بعملية محدودة تضغط على النظام الذي أرهقها بتقلباته الطفولية ولعبه على وتر التناقضات العديدة بينها وبين طهران في سوريا ووضع العراقيل ضد أي مقترح سياسي بما في ذلك اللجنة الدستورية التي اخترعتها موسكو بديلا عن مسارات الحل الدولية. لكن القادة الروس ورغم انشغالهم الكبير في أوكرانيا ينظرون إلى وجودهم في سوريا من منظور استراتيجي يتجاوز النظام السوري إلى رسم محددات دورها في النظام الدولي ولن يسمحوا بتبدل الموازين أو التخلي عن النظام كما يراهن عدد من المعارضين ضمن منصة موسكو وخارجها. باختصار، سوف يتحدد الانخراط الروسي وفقا لمحددات أههما؛ التقدم الميداني للمعارضة وصمود النظام، رد الفعل الإيراني، احتمالية حصول عمليات مفاجئة في الجنوب، وأخيرا إمكانية الحماس التركي للعملية الذي يمثل شعرة معاوية في علاقات البلدين.
انهيار معنوي للنظام يقابله تنظيم احترافي لخصومه
تشير المعطيات الحسابية إلى أن فصائل المعارضة سيطرت في يوم واحد على مساحة جغرافية تعادل ربع مساحة لبنان على أبعد تقدير. يدلل ذلك على انهيار تنظيمي لقوات النظام يمكن التحدث عنه ببعض التفاصيل قبل الخوض في احترافية خصومه.
مصادر عسكرية من غرفة عمليات الفصائل عرضت لنا في تلفزيون سوريا محادثات ضباط النظام بعد الاستيلاء على هواتفهم المحمولة، وتتطابق المحادثات بين الضباط بأن الخطوط الدفاعية منهارة، والفصائل لا تتوقف عن الهجوم على مدار الساعة، وكان جميع الضباط على يقين تام بأن روسيا قد خذلتهم وأن إيران وحزب الله لن يتدخلوا في المعركة بسبب الضربات التي تلقوها وبسبب خذلان النظام السوري لهم في معارك لبنان الأخيرة، وأن حلب ليست من أولوياتهم حالياً، وأن أردوغان طلب هذه المعركة ليرغم الأسد على التطبيع والجلوس معه. هذه القناعات تركت ضباط النظام في حالة معنوية سيئة للغاية. على مستوى الميدان، لم يستقدم النظام السوري تعزيزات إلى حلب في الأيام الماضية رغم أن المعركة كانت علنية والتجهيز كان واضحاً للجميع أنه أكبر من أن يكون عملية محدودة، كما أن الحديث عن وصول قوات النخبة لدى النظام بقيادة سهيل الحسن الملقب بالنمر عير صحيحة ونشرها إعلاميون مقربون من النظام لرفع المعنويات فقط.
والملاحظ في هذه المعركة أن مروحيات النظام السوري لم تشارك على الإطلاق، حيث جرت العادة أن تنطلق أسراب مروحيات من مطاري حماة والنيرب العسكريين، في حين اقتصرت المشاركة الجوية للنظام على طائرات السوخوي. يمكن تفسير ذلك بأن غرفة العمليات هددت النظام بتدمير جميع الطائرات والمروحيات عبر المسيرات التي يصل مداها إلى مدينة حمص، كما نشرت حسابات مقربة للفصائل صور مقاتلين مجهزين بصواريخ دفاع جوي محمولة على الكتف.
يبدو أن النظام السوري لا يريد الزج بقواته في معركة يبدو أنها خاسرة وتم التخطيط لها بدقة غير مسبوقة، وربما أن النظام مقتنع بنظرية أنه بات هدفاً لإضعافه، وبالتالي ستكون أولويته الحفاظ على قواته في وسط سوريا والعاصمة.
مقابل الانهيار التنظيمي يلاحظ جليا التحضير الاحترافي لخصومه من خلال المعسكرات التدريبية والمناورات، وكذلك التصنيع العسكري الذي نتج عنه صواريخ مجنحة وطائرات مسيرة بمدى كبير وطائرات انتحارية FPV مثل المستخدمة في الحرب الأوكرانية. اعتماد تكتيك عدم التوقف على مدار الساعة، لكن بانضباط شديد، حيث يكون لكل مجموعة قتالية محور محدد لا تتجاوزه إلا بأوامر من غرفة العلميات التي تراقب من طائرات الاستطلاع كامل أرض المعركة، ولديها طائرات استطلاع برؤية ليلية. يضاف إلى ذلك “سرايا” الحراري وهي فرقٌ من مجموعات النخبة المجهزة بأحدث الأسلحة القتالية للمشاة والمجهزة بمناظير رؤية ليلية وكواتم صوت. هذه المجموعات كانت تحرز تقدماً كبيراً في الليل.
المفاجئ أيضا أن الفصائل أرسلت خلايا نائمة إلى داخل مدينة حلب وشنت أول عملية باقتحام اجتماع الخلية الأمنية في حلب الذي كان يحضره جميع قادة الأفرع الأمنية وضباط الجيش، وقتل في العملية قائد إيراني كبير في الحرس الثوري وعدد من الضباط السوريين. تشير المعلومات أن سقوط أحياء حلب الغربية بهذه السهولة يعود أساسا إلى نشاطها الحاسم والمفاجئ.
ما ينطبق علي حلب ينطبق على ريف إدلب الشرقي حيث تمت إعادة السيطرة على سراقب الاستراتيجية التي تشرف على عقدة الطرق M4 وM5 الأمر الذي يفتح الطريق لاستعادة مناطق خفض التصعيد السابقة، وتحديداً معرة النعمان، خان شيخون وصولا إلى مورك في ريف حماة الشمالي، وفتح معركة صعبة ستكون مباشرة ضد إيران وفصائلها في ريف حلب الجنوبي.
بين تحولات الهيئة والمخاوف من ماضيها ومستقبلها
ليس سراً أن هيئة تحرير الشام تمثل العمود الفقري لما بات يعرف سورياً بـ “إدارة العمليات العسكرية” والتي استحوذت على إعجاب السوريين المعارضين بمن فيهم ألد خصوم الهيئة لناحية عملها التنظيمي المحكم على مختلف المستويات والخطاب المقدم من قبل “إدارة الشؤون السياسية”، وهو خطاب مفاجئ لجميع المراقبين في لغته ومضمونه، وجديدٌ على الهيئة نفسها.
مثلت هيئة تحرير الشام نموذجا مغريا للباحثين في حقل تحولات الحركات الإسلامية المسلحة، فقد أنشأت الهيئة بعد 12 عاما على تأسيس بذرتها الأولى “جبهة النصرة” مطلع عام 2012، نموذجاً شبه دولتي على مستوى البنى والمؤسسات في إدلب وحرصت لا سيما في الأعوام الأخيرة على إبراز تحولات هامة سلوكية وتنظيمية للانفضاض عن الجهادية العالمية وإعادة تعريف نفسها كحركة سياسية إسلامية سورية داخليا، وسعت كثيرا لإزالة التصنيف الدولي من قائمة الإرهاب خارجيا دون أن تنجح في ذلك.
واجهت الهيئة تحديات عدة ذلك أن نموذجها التنظيمي الحالي بني على سحق الفصائل المسلحة عسكريا وقمع سياسي وتضييق على الحريات الفردية مع قبضة سلطوية وفّرت استقرارا أمنيا مريحا وسجونا مليئة بالسجناء ما عرضها لانتفاضة شعبية طويلة.
استثمرت الهيئة في الإعداد العسكري والوعد بحماية المناطق المحررة وتغيير الموازين عندما تحين الفرصة لكن هذا الاستثمار لم يكن مقنعا لشرائح مجتمعية ما أجبرها مؤخرا على التنازل بشكل كبير بخلع آخر أثوابها الجهادية والتخلص من كل العناصر القديمة الأكثر تشددا وخاصة الأجنبية، ما أقنع الكثيرين بإمكانية حصول تغيير محتمل.
لا يعرف سكان حلب عن الهيئة سوى نسختها الأولى النصرة، وهي نسخة غير مشجعة، ولديهم كما شرائح كبيرة من السوريين تحفظات كبيرة على مسألة اقتحام المعارضة العسكرية للمدن، حيث جرت عليهم ويلات كبيرة. باختصار، تمثل التطورات الحالية فرصة غير مسبوقة للهيئة لتقيّم تجاربها السابقة وترسّخ تحولات سلوكية وتنظيمية وخطابية لتتماهى مع مفردات وأهداف الثورة السورية وتأسيس نموذج جديد مغاير لنماذجها السابقة.
——————————
سوريا: أفكار أولية حول عملية «ردع العدوان»/ بكر صدقي
5 كانون الأول 2024
مر أسبوع على بداية «عملية ردع العدوان» التي أطلقتها «جبهة تحرير الشام» وفصائل متحالفة معها، حقق خلاله المهاجمون مكاسب كبيرة على الأرض غيّرت توزع القوى على الخارطة الميدانية في سوريا، بعد ثبات استمر سنوات في إطار ما تكرس بضمانة ثلاثي آستانة المؤلف من روسيا وتركيا وإيران. ثمة الكثير من التساؤلات يمكن أن تطرح لفهم حقيقة ما جرى ويجري، ولكن ثمة نقاطا يمكن تثبيتها من الآن كحقائق جديدة لا جدال فيها.
أولها أن المجموعات المهاجمة قد أعدّت لحملتها إعداداً جيداً، وخاضت المعارك بتخطيط جيد مكنها من التقدم بسرعة كبيرة في أرياف محافظة إدلب والريف الغربي لمدينة حلب خلال ساعات قليلة، ثم دخلت عاصمة الشمال وسيطرت عليها بلا قتال تقريباً. وقيل إن «خلايا نائمة» في المدينة تحركت بصورة استباقية وسهلت على القوات المهاجمة اقتحام المدينة.
وثانيها هو الانهيار السريع لقوات النظام والميليشيات «الرديفة» وانسحابها بلا قتال أمام المهاجمين. هذا الانهيار الذي فاجأ الجميع بمن في ذلك المهاجمون أنفسهم، إلى درجة جعلت بعض التحليلات تنحو نحواً تآمرياً بافتراض أن النظام قد نصب فخاً وقع فيه المهاجمون.
ثالثها أن القوات الروسية، سلاح الطيران أساساً، كانت غائبة تقريباً، الأمر الذي دفع إلى تحليلات أخرى تفترض اتفاقاً روسياً ـ تركياً على سيطرة القوات المعارضة على مدينة حلب وريفها، على رغم أن المؤشرات كثرت، في الأسابيع الأخيرة، حول تباعد وبرود بين موسكو وأنقرة، كان أبرزها تصريح أحد المسؤولين الروس، على هامش اجتماع آستانة الأخير في الأول من شهر تشرين الثاني، وصف فيه القوات التركية في سوريا بأنها قوات احتلال.
رابعها تبخر قوات حزب الله والميليشيات متعددة الجنسية التابعة لإيران، وهي التي كانت تكمل النقص الكبير في عديد قوات النظام في السيطرة على المدن والأرياف.
وخامسها تبخر النظام نفسه. فقد ذكرت بعض التقارير الإعلامية أن رأس النظام بشار الأسد قام بزيارة غير معلنة إلى موسكو، وأنه لم يتمكن من اللقاء مع الروسي إلا في اليوم الثاني لزيارته، ثم عاد على عجل إلى سوريا، ولا يعرف أين في سوريا. ثم ظهر اسمه للمرة الأولى بعد بداية «ردع العدوان» بمناسبة ثلاثة اتصالات أجراها مع قادة كل من دولة الإمارات والعراق و… أبخازيا! أما إيران الغائبة عن دبلوماسية الاتصالات التليفونية هذه بصورة غريبة فقد أوفدت وزير خارجيتها عراقجي إلى دمشق في خامس أيام «ردع العدوان».
عراقجي الذي انتقل من دمشق إلى أنقرة للقاء وزير الخارجية التركي لم يلق من شريكه التركي في مسار آستانة الاستجابة التي كان يتمناها، فعاد إلى طهران خائباً ليتولى علي لاريجاني مهمة الكشف عن الخلاف الحاد بين العاصمتين بشأن ما يدور في سوريا.
وهذا ما يقودنا إلى الدور التركي الذي يكتنفه بعض الغموض. فتصريحات وزير الخارجية ورئيس الجمهورية تنصلت من أي مسؤولية عن العملية، لكنها انطوت على رعاية ضمنية أو غض نظر على الأقل، ليبقى التساؤل فقط عن مستوى التطابق والتفارق بين أهداف تركيا و«ردع العدوان». فمن المحتمل في أحد التفسيرات أن التنسيق بين الطرفين بشأن إطلاق الحملة موجود لكن المدى الجغرافي الذي وصلت إليه الحملة ربما فاجأت الأتراك أيضاً. ولن نبتعد عن الحقيقة كثيراً إذا افترضنا أن قيادة الحملة نفسها ربما توسعت في أهدافها بعدما فاجأها انهيار النظام. فليس من المنطقي افتراض أن الحملة عند انطلاقتها كانت قد وضعت ضمن خططها التوسع جنوباً حتى مشارف مدينة حماه، وأن ذلك جاء بلا تخطيط مسبق بزخم السيطرة على كامل حلب وأريافها إضافة إلى المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام في شرق محافظة إدلب، سراقب ومعرة النعمان وخان شيخون.
أما بعد إطلاق فصائل «الجيش الوطني» التابعة لتركيا لعملية موازية بعنوان «فجر الحرية» استهدفت أساساً مواقع قوات سوريا الديمقراطية في تل رفعت ومخيمات سد الشهباء، فقد تأكد الدور التركي على الأقل في هذا الشق من الحراك العسكري، وإن بقي هذا الدور غامضاً نسبياً في حملة «ردع العدوان».
ثمة تصريحات لافتة لرئيس الوزراء العراقي بشأن ما يحدث في شمال سوريا، لم نلحظ ما يماثلها سابقاً طوال سنوات الثورة والصراع في سوريا. ومنها قوله «لن يقف العراق مكتوف اليدين أمام ما يحدث»! في الوقت الذي اكتفى فيه الرئيس الإيراني بازشكيان بالقول: «يمكننا نشر قوات في سوريا لدعم دمشق ضد المجموعات الإرهابية إذا طلبت دمشق ذلك»! فبالنظر إلى الدعم العسكري الذي قدمته طهران وحزب الله اللبناني للنظام طوال 13 عاماً يبدو هذا التصريح غريباً. وهو ما يعزز التحليلات الكثيرة التي شاعت منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة ثم لبنان، وعبرت عن التباعد المستجد بين طهران ونظام الأسد بسبب تقاعس الأخير عن مساندة حزب الله في محنته الكبرى. كما تتحدث تقارير إعلامية عن سحب حزب الله لمعظم قواته من سوريا أثناء اشتداد الهجوم الإسرائيلي عليه في جنوب لبنان، وربما تسارع هذا الانسحاب بعد انطلاق «ردع العدوان» بدلالة تبخر قواته في المناطق التي كان يتمركز فيها في حلب وإدلب.
وفي عودة إلى تصريحات محمد شياع السوداني، فقد تواترت أنباء عن دخول قوات من الحشد الشعبي إلى الأراضي السورية لمؤازرة النظام في محنته الكبرى، مع العلم أن «الحشد» هو جزء من الجيش العراقي. ويصر الناطق باسم هذا الجيش على تكذيب تلك الأخبار مرفقاً مع التأكيد أن «فصائل المقاومة لها الحق في قتال الإرهابيين في سوريا! والمقصود بذلك فصائل شيعية عراقية، مثل «فاطميون وزينبيون» تأتمر بأوامر الحرس الثوري الإيراني وموجودة على الأراضي السورية لدعم النظام منذ سنوات، وربما ما يسمى بـ«المقاومة الإسلامية» التي تتبنى إطلاق صواريخ ومسيّرات في اتجاه إسرائيل ومواقع القوات الأمريكية في شرقي الفرات.
المعارك ما زالت مستمرة، ولا يمكن التنبؤ بمساراتها المستقبلية. ولكن يمكن تثبيت نقطتين منذ الآن: خسارة كبيرة لنظام دمشق ولإيران تضاف إلى خسائر طهران في لبنان، ومكاسب كبيرة لتركيا التي ستكون، بعد الآن، صاحبة اليد الطولى في شمال سوريا.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————————-
حتى لا تضيع فرصة التغيير وانهاء المحنة السورية الطويلة/ برهان غليون
من الواضح ان هناك تفاهما دوليا، ربما تشارك فيه كل الدول المتضررة من سياسات طهران الاقليمية مثل تركيا والولايات المتحدة والخليج وروسيا، على استثمار هزيمة ايران في حرب غزة وفي لبنان لإخراج ميليشياتها من سورية. ويترافق هذا مع فشل الاسد في الاستقلال عن طهران والدخول في مفاوضات سورية تركيا ومفاوضات التسوية للأزمة السورية التي تحولت او تكاد الى محنة وموت بطيء للبلاد مما اضطر المتضررين بالقيام بعملية عسكرية تفرض على ايران الانسحاب وتجبر الاسد على التفاوض من اجل تسوية سياسية تراعي مصالح الدول الأخرى وتريح جزئيا الشعب السوري المنكوب.
لكن في اعتقادي شخصيا ان الأمور يمكن ان تخرج عن السيطرة بسبب المفاجأة الكبيرة وتغير حسابات المشرفين على العملية او الفصائل نفسها. وتتمثل هذه المفاجأة في ظهور شلل النظام وعجزه الكامل عن الحركة مما زاد من تطلعات الفصائل المسلحة ومعها الشعب السوري الذي ينتظر الفرصة للخلاص مهما كان الثمن. فقد بدأ النظام وكانّه مجرد جثة هامدة من دون اي رد فعل لا عسكري ولا حتى سياسي اي في موت سريري.
فالتقدم السريع للفصائل يمكن ان يطرح سريعا مشكلتين حساستين الاولى السيطرة الفعلية على المناطق والمدن المحررة، بل على الفصائل ذاتها. والثانية احتمال انتفاض بقية المدن والمناطق املا بالتحرر وتجدد روح الثورة المغدورة. مما يجعل من الصعب التحكم بالعملية العسكرية وبكامل الوضع بعد ذلك حتى من قبل مطلقيها.
من هنا اعتقد اننا على حدود هذه المخاطر. وليس هناك من اجل تجنب الوقوع فيها سوى خيار وحيد هو ان تظهر في دمشق من داخل النظام حركة تلاقي حركة الفصائل وتعلن الانقلاب على الاسد وتعلن استعدادها للعمل مع الفصائل لقيادة عملية الانتقال السياسي المؤجل في سورية منذ ١٤ عاما بسبب الاسد واطماع طهران، والبدء بالتعاون مع الدول المعنية وتحت مظلة دولية وبرعاية الدول المشاركة على تشكيل هيئة حاكمة انتقالية وتعديل الدستور وتشكيل حكومة انتقالية بانتظار انتخابات خلال فترة سنة او اكثر . هذا في اعتقادي المخرج الافضل للازمة التي فتحها التقدم المذهل للفصائل والتفاعل الكبير للجمهور السوري معها وما اصبح اعلانا مؤكدا عن موت نظام الاسد وحتمية العمل من اجل انتاج بديل ينهي تدخل الفصائل والقوى العسكرية ويحد من مخاطر الفوضى وفقدان السيطرة ويترك العمل للسياسيين والدبلوماسيين في انتظار تسلميه لممثلي الشعب بعد انتخابات سريعة قادمة.
————————————
عملية “ردع العدوان” وانهيار قوات النظام السوري … الأسباب والتداعيات
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
أطلق تحالفٌ من فصائل المعارضة السورية، ضمّ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، وفصائل من الجيش الوطني الذي تدعمه تركيا، يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، عمليةً عسكريةً كبيرةً تحت اسم “ردع العدوان”، ردًاً على استمرار قوات النظام وحلفائها في قصف مناطق سيطرة المعارضة في أرياف إدلب خصوصاً، وفي محاولة لاستعادة مناطق خفض التصعيد التي سيطرت عليها قوات النظام السوري في خرق لاتفاقيات أستانا. لكن الانهيارات السريعة، في صفوف قوات النظام في ريف حلب الغربي، أغرت فصائل المعارضة بتوسيع نطاق عمليتها لتنتهي بالسيطرة على مدنية حلب، باستثناء الأحياء الكردية (الشيخ مقصود والأشرفية) وكامل محافظة إدلب، والوصول إلى مشارف مدينة حماة منتزعة قطاعاً من الأرض مساحته نحو 7400 كيلومتر مربع خلال أربعة أيام.
التحضير للعملية وأهدافها
بدأت قوات المعارضة، منذ نهاية صيف 2024، التحضير لعملية عسكرية، كان يُقدّر لها أن تقتصر على استعادة المناطق التي سيطر عليها النظام في منطقة خفض التصعيد الأخيرة في إدلب، والتي جرى الاتفاق عليها بعد إنشاء مسار أستانا بين روسيا وتركيا مطلع عام 2017. وكان النظام وحلفاؤه خرقوا اتفاق أستانا الخاص بإدلب، وشنّوا هجوماً كبيراً أواخر عام 2019 ومطلع عام 2020، تمكّنوا خلاله من انتزاع أجزاء كبيرة من منطقة خفض التصعيد، شملت السيطرة على مدن خان شيخون ومعرّة النعمان وسراقب، وانتهت بالتوصل إلى اتفاق 5 آذار/ مارس 2020، بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، ورسم خطوط التماسّ بين الطرفين مذاك. وخُطِّط للعملية، على أساس الاستفادة من الظروف الإقليمية والدولية التي أضعفت النظام وحلفاءه نتيجة حرب أوكرانيا، والمواجهة بين حزب الله وإسرائيل في لبنان وإضعاف إيران ومليشياتها في سورية، بفعل تصاعد الاستهداف الإسرائيلي لها بعد عملية طوفان الأقصى. ولم يكن من باب المصادفة أن العملية بدأت في الوقت نفسه الذي دخل فيه حزب الله وإسرائيل في اتفاق على وقف إطلاق النار، والذي أنهى نحو 14 شهراً من المواجهات بينهما.
وتشير مشاركة فصائل من الجيش الوطني القريب من أنقرة إلى دعم تركي للعملية، وإن كان غير معلن. وإذا كان هدف فصائل المعارضة هو إبعاد قوات النظام، ووقف القصف على مناطق سيطرتها، فقد سعت تركيا أيضًا للاستفادة من ضعف خصومها في سورية (روسيا وإيران) وانشغال الولايات المتحدة الأميركية بعملية انتقال السلطة من جو بايدن إلى دونالد ترامب، لتغيير موازين القوى على الأرض لتحقيق جملة أهداف، منها تعزيز مواقعها التفاوضية. وذلك في وقت تحاول فيه جر النظام السوري إلى طاولة المفاوضات للتفاهم على جملة من القضايا الأمنية والسياسية، أهمها عودة اللاجئين وإضعاف وحدات حماية الشعب الكردية (الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني)، وإجهاض أي محاولة لإقامة حكم ذاتي للأكراد في شمال سورية، والتفاهم على مصير مناطق شرق الفرات في حالة انسحاب أميركي منها في مرحلة حكم ترامب الثانية.
وقد حاولت تركيا، على مدى العامين الماضيين بلا جدوى، الدخول في مفاوضات مع النظام، لحل مشكلة اللاجئين الذين يُقدّر عددهم بأكثر من ثلاثة ملايين سوري على أراضيها، وأخذت تتحوّل إلى أزمة سياسية واجتماعية في الداخل التركي، فضلًا عن رغبتها في الوصول إلى تفاهمات مع النظام السوري بخصوص المشكلة الكردية قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض ووجود احتمال بسحب قواته من سورية. لكن النظام داوم على رفض هذه الدعوات، بدعم إيراني، مشترطًا التزاماً تركيّاً مسبقاً بالانسحاب من الأراضي السورية قبل الدخول في أي مفاوضات.
توقيت العملية والانهيار
بحسب مصادر متعددة، كان مقرّراً أن تبدأ العملية في نهاية صيف 2024، للاستفادة من حال الضعف الشديد التي ألمَّت بقوات النظام وحلفائه. وكان التحالف الذي نشأ حول النظام في الفترة 2015-2020 وشمل قوات روسية نظامية وغير نظامية (جماعة فاغنر تحديداً)، إضافة إلى تشكيلات من الحرس الثوري الإيراني، ومجموعة من المليشيات الشيعية (العراقية، والأفغانية، والباكستانية)، فضلًا عن وحدات من حزب الله، قد ساعد في تغيير موازين القوى على الأرض بشدة لصالح النظام السوري، وفي استعادة أجزاء واسعة من الجغرافيا السورية، بما فيها الأحياء الشرقية من حلب التي كانت تحت سيطرة المعارضة حتى كانون الأول/ ديسمبر 2016. لكن ضعفَ هذا التحالف بسبب مجموعة من المتغيرات الإقليمية والدولية، بدءًا بالغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022؛ فقد دفع التورط الروسي في تلك الحرب موسكو إلى سحب جزء كبير من قواتها من سورية، خاصة سلاح الجو الذي أدى دورًا حاسمًا في إخراج المعارضة من أرياف دمشق ودرعا والقنيطرة وحمص وحماة وحلب وإدلب ودير الزور. ويُقدر عدد الطائرات التي تملكها روسيا حاليّاً في قاعدة حميميم بنحو 5-7 طائرات فقط؛ ما يفسّر رد الفعل الروسي الضعيف تجاه التقدم السريع الذي حققته فصائل المعارضة والانهيار السريع لقوات النظام نتيجة غياب الغطاء الجوي الروسي. وغابت عن الساحة أيضًا جماعة فاغنر التي أُعيدت هيكلتها بقرار من بوتين، بعد التمرد الذي قاده زعيمها يفغيني بريغوجين في حزيران/ يونيو 2023. وقد حدد بوتين وجودها في أفريقيا تحت اسم “فيلق أفريقيا” الروسي.
علاوة على ذلك، دفعت المواجهة بين حزب الله وإسرائيل، على خلفية فتح جبهة إسناد غزّة من لبنان بعد عملية طوفان الأقصى، إلى سحب الحزب كثيرين من عناصره الذين كانوا منتشرين في أرياف حلب وإدلب في اتجاه لبنان أو الجنوب السوري قرب الجولان، أو أعاد نشرهم في القلمون على امتداد الحدود السورية – اللبنانية. وقد أدّت الضربات القوية التي تلقّاها الحزب في لبنان إلى تصفية القسم الأعظم من قيادات الصف الأول السياسية والعسكرية، كما جرى تدمير قسم كبير من قدراته العسكرية. ونتيجة لذلك، لم يعد مقاتلو الحزب مقتنعين بوجودهم في مواقعهم في سورية، في وقت كانت قراهم ومناطقهم تستبيحها إسرائيل في مناطق مختلفة من لبنان. أحدث ذلك كله فراغاً كبيراً، لم يستطع النظام أن يملأه. فعلى امتداد العقد الماضي، مثّل حزب الله، مدعوماً بالغطاء الجوي الروسي، العمود الفقري والقوة الضاربة لمعسكر حلفاء النظام.
ولم تقتصر حالة الضعف على روسيا وحزب الله، بل شملت الوجود العسكري الإيراني والمليشيات المرتبطة به. فقد استهدفت الضربات التي وجهتها إسرائيل إلى سورية، منذ عملية طوفان الأقصى، وفاق عددها 155 ضربة، منذ بداية عام 2024 (86 ضربة خلال تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر فقط)، إضافة إلى مواقع لحزب الله، قواعد للحرس الثوري الإيراني والميليشيات الشيعية المتحالفة معه. وكان آخر هذه الهجمات وأعنفها الغارة التي شنتها إسرائيل على تدمر، في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر، على تجمعات لميليشيات عراقية، وأسفرت عن نحو 100 قتيل.
أدت نحو 14 عاماً من الصراع إلى حال إنهاكٍ مطلقة بين قوات النظام، شملت موارده البشرية التي تناقصت كثيرًا بسبب الخسائر والانشقاقات. وتفاقمت أزمة الموارد البشرية في السنة الأخيرة، بعد قيام النظام لأسباب اقتصادية واجتماعية متعددة، بتسريح مجموعات كبيرة من عناصره وضباطه الذين احتفظ بهم لسنوات طويلة في الخدمة. وقد انعكست الظروف الاقتصادية الصعبة التي واجهها، بسبب الحرب والعقوبات الاقتصادية، وتفاقمت مؤخرًا بسبب حرب لبنان والعقوبات الاقتصادية التي سُلِّطت على الحلفاء (إيران، وروسيا)، على وضع عناصر جيش النظام. وحينما أطلقت المعارضة عملية “ردع العدوان”، وجدت في مواجهتها جيشًا مهترئًا تمامًا فاقدًا لإرادة القتال، معنوياته منهارة، خاصة مع غياب الحلفاء على الأرض وسلاح الجو الروسي في السماء؛ فحصل الانهيار سريعًا.
في المقابل، تحسّن أداء المعارضة كثيراً خلال السنوات الماضية، فاكتسبت خبرات واسعة في القتال، وصارت أفضل تنظيمًا وأكثر انضباطاً، خاصة جبهة تحرير الشام التي أنشأت أقرب ما يكون إلى الجيش النظامي، وباتت تتمتع بنظام قيادة وسيطرة مركزي. وبهذا، أضحت المعارضة أفضل تجهيزاً وتسليحًاً نتيجة التصنيع المحلي أو اغتنام أسلحة من مواقع النظام وحلفائه أو نتيجة الحصول عليها من أطراف خارجية. وقد أدّت الطائرات المسيرة، التي صارت المعارضة تبرع في استخدامها، دوراً مهمّاً في اقتحام عديد من جبهات النظام. وأدّى أيضاً التنسيق الناجح بين مختلف فصائل المعارضة دوراً مهمّاً في تحقيق نتائج كبيرة على الأرض.
وبذلك، وفي حين كانت أوضاع حلفاء النظام تسوء بسبب الظروف الإقليمية والدولية (الحرب في أوكرانيا، والمواجهة مع إسرائيل)، كانت مواقف تركيا تتعزّز. وفي وقت كانت قوات النظام وحلفائه في تراجع، كانت قوات المعارضة تزداد قوة وخبرة.
انعكاس التطورات الميدانية على المسار السياسي
منذ تمكّن النظام من استعادة أجزاء واسعة من مدينة حلب بدعم روسي – إيراني أواخر عام 2016، ثم استعادة السيطرة على مساحات واسعة من البلاد عام 2018، خاصة في محيط دمشق وجنوب البلاد ووسطها (مناطق خفض التصعيد الثلاث) وانتهاءً بقضم أجزاء واسعة من منطقة خفض التصعيد الأخيرة في إدلب عامَي 2019 و2020، بات يتصرف بعقلية المنتصر، مع أنه لم يكن كذلك، رافضًا تقديم أيّ تنازلات أو حتى الانخراط في أي مسعىً سياسيٍّ جدّي لحل الأزمة، سواء من خلال مسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة، أو مسار أستانا ومقترح اللجنة الدستورية التي أوجدتها روسيا بديلاً من مسار جنيف الذي ينصّ على انتقال سياسي.
وقد ازدادت ثقة النظام بنفسه واعتقاده عدم الحاجة إلى تقديم تنازلات، بعد أن بدأ الانفتاح العربي عليه أواخر عام 2018، من جانب الإمارات والبحرين أولاً، ثم من خلال مبادرة “خطوة مقابل خطوة” التي طرحها الأردن عام 2021 وبلغت ذروتها بتطبيع السعودية العلاقات مع النظام وإعادته إلى جامعة الدول العربية ودعوته لحضور القمّة العربية في الرياض في أيار/ مايو 2023، منهيةً بذلك 12 عاماً من عزلته عربيًا. دفع ذلك كله النظام إلى الاعتقاد أن في إمكانه استعادة عضويته وشرعيته في مجتمع الدول، والحصول على مساعدات اقتصادية لإعادة الإعمار، من دون الحاجة إلى تقديم أي تنازلات، لا للدول العربية ولا للمعارضة السياسية.
غيّرت التطورات الميدانية الأخيرة كل هذه المعطيات، وبدّدت أوهام النصر التي عاشها النظام وحلفاؤه خلال السنوات الماضية؛ إذ تشكل سيطرة فصائل المعارضة على مدينة حلب الاستراتيجية وكامل محافظة إدلب وأجزاء من محافظة حماة تحولاً كبيراً في موازين القوى على الأرض. ويعني ذلك أيضاً أن المعارضة باتت تسيطر على كامل الشمال السوري، بما فيه عاصمته حلب التي يقطنها نحو خمس السكان، وباتت بذلك الكتلة البشرية في مناطق المعارضة تساوي تقريبًا تلك التي تقع تحت سيطرة النظام. علاوة على ذلك ستمثل حلب، بثقلها الاقتصادي والصناعي والبشري والسياسي، نقطة ارتكاز مهمة لفصائل المعارضة السورية، وسوف يعزّز مواقعها في أي مفاوضات محتملة؛ إذ يسود اعتقاد على نطاق واسع أن التطورات الأخيرة قد تشكل فرصة مهمة لبدء مسار تفاوضي جدي، يأمل كثيرون أن يؤدّي إلى إنهاء الصراع السوري المستمر منذ 14 عاماً.
المواقف العربية والدولية
منذ عام 2012، تحوّلت الثورة السورية إلى حرب وكالة إقليمية ودولية، لذلك تعد مواقف الدول المنخرطة في الصراع مؤشراً مهمّاً دالّا على اتجاهاته خلال المرحلة المقبلة. وكما العادة، تفاوتت المواقف العربية والدولية من التطورات الميدانية الأخيرة في سورية، فحينما حاولت تركيا أن تنأى بنفسها عن العملية العسكرية تفادياً للضغوط الإقليمية والدولية المحتمل ممارستها عليها، خاصة من “شركائها” في مسار أستانا (روسيا وإيران) وحلفائها كذلك (خصوصًا الولايات المتحدة)، وضعت أنقرة العملية في إطار رد الفعل على انتهاكات النظام اتفاق خفض التصعيد، معتبرة أن العمليات العسكرية الأخيرة تُعدّ تطوّراً غير مرغوب فيه، ناتجاً من انتهاك النظام لالتزاماته بموجب اتفاق أستانا. في المقابل، اعتبر وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، هجوم المعارضة “خطة أميركية صهيونية بعد هزيمة النظام الصهيوني في لبنان وفلسطين”، مُعلنًا عن نيته زيارة دمشق وأنقرة، حيث حمل رسالة لرئيس النظام السوري بشار الأسد يؤكد فيها “الدعم الحازم للجيش والحكومة في سورية”. وبحث عراقجي، هاتفيّاً، مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، تطورات الأوضاع في سورية، إضافة إلى ملفّات إقليمية ودولية. وذكر بيان للخارجية الإيرانية أنّ الطرفين شدّدا خلال المباحثات على “ضرورة التنسيق بشأن سورية قدر الإمكان”.
أما الولايات المتحدة، فقد نفت أي علاقة لها بالهجوم، مع العلم أن هيئة تحرير الشام مصنّفة منظمّة إرهابية لدى واشنطن، ودعت في بيان إلى “خفض التصعيد وحماية المدنيين والأقليات، مع التأكيد على ضرورة إطلاق عملية سياسية جدية وقابلة للتطبيق لإنهاء الحرب الأهلية”. وأفاددت بأن رفض النظام السوري المستمر الانخراط في العملية السياسية المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254، واعتماده على دعم روسيا وإيران، هو ما أدّى إلى الانهيارات الحاصلة في خطوط النظام شمال غرب سورية. وأكّدت التزام الولايات المتحدة بـ “الدفاع الكامل عن أفرادها ومواقعها العسكرية في سورية، لضمان عدم عودة تنظيم داعش مجددًا”.
أما مصر، فقد أكدت، على لسان وزير خارجيتها بدر عبد العاطي، موقفها “الداعم للدولة السورية ومؤسّساتها الوطنية وأهمية دورها في تحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب وبسط سيادة الدولة واستقرارها واستقلال ووحدة أراضيها”. وذلك خلال اتصال هاتفي أجراه وزير الخارجية المصري مع وزير الخارجية السوري تناول التطورات الأخيرة في شمال سورية خاصة في إدلب وحلب. وجاء الموقف الأردني قريبًا من الموقف المصري، حيث أكد الملك عبد الله الثاني وقوفه إلى جانب سورية ووحدة أراضيها واستقراراها، وذلك في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء العراقي، وفق بيان رسمي صادر عن الديوان الملكي الأردني.
وسارع رئيس النظام السوري، فور ورود أنباء عن سقوط حلب ومناطق أخرى في الشمال، إلى إجراء اتصالات بهدف حشد الدعم، وكان أول اتصال له مع رئيس الإمارات، الشيخ محمد بن زايد، تعهد خلاله بالاستمرار في الدفاع عن استقرار سورية “ووحدة أراضيها في وجه كل الإرهابيين وداعميهم”. وأضاف أن سورية “قادرة بمساعدة حلفائها وأصدقائها على دحرهم والقضاء عليهم مهما اشتدت هجماتهم”، على حد وصفه. وبحث الأسد في اتصال مماثل التطورات في سورية مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي أكد، بحسب المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي، أن “أمن سورية واستقرارها يرتبطان بالأمن القومي للعراق، ويؤثران في الأمن الإقليمي عمومًا، ومساعي ترسيخ الاستقرار في الشرق الأوسط”. وتزامن ذلك مع إعلان فصيلين مسلحين في العراق، مدعوميْن من طهران، أنهما يستعدّان للتوجه إلى سورية للقتال إلى جانب قوات النظام.
خاتمة
على الرغم من تعهد النظام باستعادة السيطرة على المناطق التي خسرها أخيراً وهزيمة المعارضة، فإن ذلك لا يبدو محتملاً، أخذاً في الاعتبار الظروف التي يجد النظام وحلفاؤه أنفسهم فيها؛ فقدرات النظام العسكرية متهالكة، وحلفاؤه غير قادرين على تقديم مساعدةٍ ذات معنى هذه المرّة خلاف ما كان عليه الحال عام 2016 حينما تمكنوا من استعادة حلب. ولا يبدو أن الأمور سوف تتحسن كثيرًا بالنسبة إلى النظام وحلفائه مع مجيء إدارة ترامب التي تتّخذ مواقف متشدّدة من إيران. ومع أن النظام متمسّك بمواقفه الرافضة أي تسوية، فإن هناك احتمالاً أن تفتح التطورات الميدانية الأخيرة مساراً سياسيّاً أكثر جدية، إذا صار أكثر واقعية وتخلى عن أوهام الانتصار.
————————–
أحذيةٌ في سورية للتدفئة وأخرى تدوسُ الصور/ أيمن الشوفي
05 ديسمبر 2024
يتصدّر الشتاء معاناةَ السوريين، ويضخّمها إلى حدّ لا يُطاق، عنواناً دامغَ الدلالة لا يستطيعون الفرار منه، وليس في هذا أيُّ ادّعاء أو تمادٍ وصفيٍّ يسهل نقضهُ، بل يقينٌ يجاهرُ به بردٌ إضافيّ يجلبه غياب وقود التدفئة، وبلوغ سعره في السوق السوداء مبالغَ تفوق مقدرة الناس على اقتناء الكمّيات المناسبة منه، وهذا هو حال مناطق سيطرة النظام منذ سبع سنوات، بعدما أعلنت الهيئة العامة للإدارة الذاتية في سورية تشكيلَ حكومة إدارةٍ ذاتيةٍ للأكراد شمالي البلاد، في 17 مارس/ آذار عام 2016، وحقولُ النفط تقعُ في ذاك الجانب الذي بات خارج سيطرة نظام دمشق منذ ذاك الوقت، وباتَ محميّاً بفضل قواعدَ عسكرية ملأها الجيش الأميركي، وتمترس بها، بحجّة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ليصير وقود التدفئة مع مرور الزمن شحيحاً، غيرَ مرئيٍّ في باقي المناطق السورية التي يحتلّها بشّار الأسد ونظامه، بحيث لا تتجاوز مخصّصات الأسرة الواحدة منه 50 ليتراً عن كامل فصل الشتاء، وهذه الكميّة توزّع خلال أشهر البرد، لا قبلها، الأمر الذي يضيف حَيْفاً لا لَبسَ فيه، يسم حياة الناس به، قبل أن يلاحقها ويقتلها عن قصد.
واليوم، يبلغُ سعر البرميل الواحد من مادة مازوت التدفئة في السوق السوداء داخل مناطق سيطرة نظام بشّار الأسد نحو 270 دولاراً، وتحتاج الأسرة الواحدة نحو برميلَين من هذه المادة لمقاومة فصل الشتاء، أي ما يقارب 540 دولاراً، وهذا يُعتبَر رقماً فلكيّاً لا تصل إليه المستويات العامّة للأجور والدخول الشهرية المزرية للغاية في سورية، إذ يراوح متوسّطها العام بين 25 و30 دولاراً شهرياً. لكن بفضل التحويلات الخارجية يستطيع قسمٌ من السوريين شراء وقود التدفئة، وإنْ بكميات لا تليقُ بما يتوافدُ عليهم من بردٍ وصقيعٍ اعتباراً منذ شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كلّ عام.
ثم تُضاف مشكلتَا محدوديّة تأمين الكهرباء (تجيء ساعة، ثمّ تغيب خمس ساعات)، ومحدوديّة تأمين الغاز المنزلي (عبوّة واحدة للأسرّة السوريّة مرّةً كلّ ثلاثة أشهر) إلى شتاء السوريين لتضاعفا من آثاره القارسة عليهم، ولأن السلطة القائمة في سورية تجابهُ الناس تارةً، وتُديرُ لهم ظهرها تارةً أخرى، فإنَّ آمال البسطاء حين تُلاحق سلطة بشّار الأسد، وتنتظر منها توفير الحدّ الأدنى من شروط البقاء، تبدو مثل هواجسَ مريضةٍ تحدّق بسراب، فلا السرابُ يعترفُ بها، ولا هي قادرةٌ على إمساكه، وهذه صورةٌ احتكم إليها الفضاء العام في البلاد طوال سنوات احتلال بشّار الأسد مصير سوريّة، فلم نسمعْهُ مرّةً يناشد دول المبادرة العربية، التي تريدُ إجلاسه في حِجْرِها، بأن يزودوا بلاده بما ينقصها من حوامل طاقة، وهذا ليس بسبب عجرفته السياسية التي أذلّته كما لم تُذلّ زعيماً سياسياً من قبل، بل لأن لا علاقة لحساباته السياسية بحسابات المجتمع، وإنّ تحسين حياة الناس وشروطها لا يقع ضمن أولوياته، وهذا يتطابق بالفعل مع سلوك زعيم عصابة، ولا يقترب مطلقاً من سلوك رئيس دولة.
وإذا كان بمقدور مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، غير بيدرسون، أنْ يُظهر قلقه أخيراً على سورية ولبنان من تبعات الحرب الإسرائيلية المتسرّعة، واللاهثة لابتلاع المزيد، التي قد تمتد لتصل إلى دمشق وما بعد دمشق، فهذا لا يعني أنْ يقلق السوريون معه، أو يشاركوه مخاوفَه تلك، فهم منذ زمن باتوا واقفين على ضفّةٍ غير التي يقف عليها بشّار الأسد ونظامه، ومخاوفهم ليست هي مخاوف الأسد ونظامه، وما يريده هو غير الذي يريده السوريون، بمن فيهم جموعُ الموالين المرغمين على موالاة نظامه، والرماديين الواقفين في منتصف المسافة بين المعارضة والنظام السياسي القائم، فلا شيء إذاً سيخسره السوريون إن وصلت حرب إسرائيل إلى ديارهم، ليس لديهم ما يخسرونه على الإطلاق، وكلُّ ما ستفعله إسرائيل، بحربها المحتملة من تدميرٍ وتهجير وقتل، كان النظام قد سبقها إليه حين دمّر وهجّر وقتل واعتقل، فهذا الضرر بالغ الأثر الذي ألحقه الأسد ونظامه بسوريّة يفوق كثيراً ما خلُص إليه الفيلسوف البريطاني برتراند راسل ذات مرّة، حين قال: “أحد أكبر الأضرار التي تلحق بالبشرية هي السلطة المطلقة، وغير المحدودة”، إذ لا يندرج ما ارتكبته السلطة السوريّة بحقّ البلاد تحت مسمّى الضرر، بل يجتازه في الوصف ليبلغ حنكةَ مرتبةِ التدمير الممنهج للبنى العامّة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية داخل الفضاء العام، من خلال تمكين الإفقار المادّي للناس، ونشر المخدّرات والإباحية، وتسميم الحراك السياسي وقتله، ونشر ثقافة التشيّع وجبةً متكاملةً يمكن شراؤها مباشرةً من متاجر النفوذ الإيراني الكثيرة في البلاد.
فالسوريون هنا لم يقتنوا هذا الخراب بملء إرادتهم، بل فرضهُ نظامُ بشّار الأسد عليهم، في مشهديّةٍ تسير إلى جوار تصوّرات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، حين تحيكُ وصفاً للاستبداد، وتراهُ أسوأَ أنواع الظلم لأنه يقتل الروح قبل أن يقتل الجسد، ولعلَّ قتل روح السوريين هو من أبشع الممارسات التي استخرجها الأسد من تجويف عقله المريض بالاستبداد، مواظباً على هذا الفعل المنحرف طوال السنوات الماضية، وكأنها إحدى طرائق حكمه المحبّبة بكلّ ما تحمله من بداهة وتلقائيّة عنده. لذلك نجده لم يعتذر يوماً إلى السوريين على رداءة الحياة التي صاحبتهم خلال حكمه الأرعن للبلاد، ولا سيّما الذين لم يثوروا عليه اعتباراً من عام 2011، أولئك باتوا يقذفون الأحذية القديمة والعبوات البلاستيكية والخِرَقْ إلى جوف مدافئهم كلّ شتاء لاستخراج بعض الدفء، آملين أن تُعيد إيران بشّار الأسد إلى حضنها، وحضن محور مقاومتها، بعد أن زار أخيراً وزير الدفاع الإيراني، عزيز نصير زاده، دمشق، وقبله زارها كبير مستشاري المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، علي لاريجاني، وكلاهما التقى رأس النظام، فلو عادَ الأخير ولبس قناع المقاومة، فهذا يجعل منه هدفاً للتصفية من إسرائيل، وهذه المرّة سَمِعَ التهديد من فم نتنياهو مباشرةً حين نهاهُ عن اللعب بالنار، في كلمةٍ متلفزة ظهر فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي عقب موافقته على الهدنة مع لبنان.
ثمّة نوعان من الأحذية يتجوّلان داخل أفكار بشّار الأسد، الأول تلك التي يحرقها مواطنوه في مناطق سيطرته لأجل تسوّلِ بعض الدفء منها، وهذا النوع من الأحذية لا يقلقه. والثاني أحذية مقاتلي الفصائل المسلّحة في الجيش الوطني تدوس صوره في أثناء زحفها في معاركَ مفاجئة بدأتها أواخر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني لاسترداد ريف حلب الغربي، وربّما محافظة حلب بأكملها، وهي ثاني أكبر معقل للاحتلال الإيراني بعد دمشق، وهذا النوع من الأحذية هو الذي يُقلق رأس بشّار الأسد حقاً.
العربي الجديد
————————–
هل من كسر للبنية الدموية في سوريا؟/ ياسين الحاج صالح
5 كانون الأول 2024
هل تُحوِّل تطورات الأيام الأخيرة بيئة الصراع في سوريا على نحو يفتح الباب لتغيرات سياسية أوسع، تفاوضية أو غير ذلك؟ هل تكسر هذه التطورات نسقاً استقر طوال سنوات، نسق أحداث بلا تغير، أو أحداث عقيمة سياسياً، وإن تكون عنيفة ودموية؟ اتجهت الأوضاع السورية منذ عام 2013، ثم أكثر بعد استعادة النظام السيطرة على حلب في أواخر 2016، إلى عقم سياسي شديد، وإن في إطار من معاناة بشرية هائلة، ومن عنف دموي ومجازر تتكرر في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكذلك من أوضاع فاسدة وخانقة في هذه المناطق الأخيرة. انتهينا إلى أسوأ الأوضاع الممكنة: بنية تستمر بعنف كبير وآلام رهيبة دون تغير. وبينما نميل عموماً إلى افتراض أن البنى الاجتماعية والسياسية تدوم لأنها تنجح بصورة ما في استبعاد العنف، فإن تجربتنا خلال عقد تقول إن هذا الافتراض غير صحيح، وأن عنفا مستمراً قد يتوافق مع استقرار بنية عقيمة وليس مع تفككها وانهيارها. قد نسمي هذه بنى دموية، وهي في واقع الأمر طابع التاريخ السياسي السوري منذ بداية الحقبة الأسدية. ليس أن ما قبلها كانت أوضاع سلم واستقرار، لكن تداول السلطة، الانقلابي غالباً، حال دون استقرار أوضاع كهذه البنية الدموية التي نعرفها طوال أكثر من نصف قرن اليوم. نحو ثلث حقبة الحكم الأسدي هي حقبة عنف سائل شديد داخل سوريا، توزع على جولتين. أولاهما بين أواخر السبعينيات ومجزرة حماه الكبيرة عام 1982، والثاني مستمرة منذ ما يقترب اليوم من 14 عاماً. وهي بنية دم بسبب ضخامة عدد الضحايا والمعاناة الإنسانية، وبفعل ما يميزها من تطرف ومظالم شديدة، ثم لما يبدو من غياب أفق لمخارج سياسية معقولة.
وهذا واقع جرت إعادة إنتاجه بدرجات مختلفة في المناطق التي لا يسيطر عليها النظام، بحيث أن أياً منها لا يقطع مع البنية الدموية. السلطات الإسلامية المختلفة تقع ضمن هذه البنية، أمثلتها الماضية فظيعة القسوة، ليس عبر العنف اليومي وحده، بل والمثال الاجتماعي المفرط القمعية والتجسسي. وهو ما لا يقتصر على داعش، ويشمل سلطة جيش الإسلام في الغوطة الشرقية التي كانت قريبة من المثال الداعشي اجتماعياً. وليس بعيداً عنهما سلطة هيئة تحرير الشام في إدلب، وأكثر ابتذالاً وفساداً سلطة الجيش الوطني تحت الإمرة التركية منذ سنوات. لقد خسرت الثورة السورية لأن هذه هي السلطات التي أخذت تتصدر المشهد بدءاً من عام 2013. حصلنا على أسدية إسلامية، أشد قمعية على مستوى الحريات الاجتماعية، دون أن تعوض عن ذلك بأي شيء آخر، إلى درجة أنها وفرت للحكم الأسدي قضية عامة بعد أن كان بلا قضية. الركن الأساسي في اعتراضها على النظام هو أنه عنيف وطائفي. لكنها هي مثله في ذلك وأكثر: عنيفة مشهدياً وطائفية مبدئياً، ما يجعل منها استمراراً إسلامياً سنياً لبنية الدم الأسدية، أي لذلك المزيج من العنف السائل ومن التطرف والتميز ومن الأفق المغلق.
فإذا عدنا إلى السؤال التمهيدي في صدر هذه العجالة، هل تمثل بضع الأيام الأخيرة كسراً لهذا الدوام المميت؟ بداية ما حدث كبير حجماً: السيطرة على حلب بسرعة خارقة، ودون خسائر بشرية أو مادية كبيرة، والسيطرة كذلك على مناطق أخرى، بعضها كان «محرراً» من قبل، وبعضها ينتزع من النظام وحماته لأول مرة. وهناك في الأيام القليلة المنقضية مؤشرات إيجابية متواترة، بعضها تحرري بكل معنى الكلمة. أولها أنه جرى إطلاق معتقلات ومعتقلين من المسالخ الأمنية للحكم الأسدي، المخابرات الجوية والأمن العسكري. ليس هناك شيء أكثر أولوية من ذلك، تتجسم فيه القصة السورية كلها: خلاص السوريين من التعذيب والإذلال، ومن أجهزة التعذيب والإذلال، بأمل الخلاص القريب من دولة التعذيب والإذلال.
وفي المقام الثاني عودة مهجرين إلى مناطقهم، أو إلى عائلاتهم التي تفرق شملها. هناك سلفاً مشاهد مؤثرة لعائدين إلى دورهم وأهليهم، كم يود المرء أن يكون شاهداً على مثلها، أو أن يكون هو العائد إلى الأحباب والدار، أو أن يكون ممن يعود إليهم أحباب غائبون.
إلى ذلك كان المقاتلون الذين سيطروا على المدينة منضبطين بقدر معقول. سجلت انتهاكات هنا وهناك، لكنها ظلت محدودة، بما قد يدل على مركز قيادة متحكم وعلى انضباط قتالي هو ما افتقد طوال سنوات الصراع المسلح في سوريا. وفي ما أتيح الاطلاع عليه من بلاغات ومخاطبات للأهالي، يجد المرء لغة بسيطة مباشرة، تخلو من الإحالات الدينية عدا البسملة، ولا تبدو معنية أولاً وأساساً بعرض الصفة الدينية المفرطة لأصحابها، مثلما كان الحال في عام 2013 وما بعد، واقترن بمزيج من الأنانية الحزبية والطائفية الفاجرة. نرى لحى سلفية بين المقاتلين، لكننا نرى مقاتلين بمظهر مغاير، لا يثير في النفس ما اقترن بالتنطع السلفي من نفور. نرى مراسلة واحدة على الأقل، محجبة، لكن نرى وجهها ونسمع صوتها بالعربية والإنكليزية، ونعرف اسمها: سارة القاسم، مما كان غير ممكن التصور عند داعش وجيش الإسلام وهيئة تحرير الشام ذاتها.
التفاعل الواسع في المنافي السورية مع تطورات الأيام الأخيرة اتسم بقدر كبير من الإيجابية، ممزوجة بشيء من الخشية والتوجس. فقد أكثرنا الشجاعة على الأمل، لا يجدونها في قلوبهم، وهذا تحت وطأة خيبات لا تحصى تركت في النفوس شعوراً بالمهانة والاحتقار. مع ذلك لا يلتبس أكثر ما يمكن رصده من تفاعلات بالمواقف العدائية أو المتعالية على ما يجري، ويعرض أكثر المتفاعلين قدرة على الجمع بين الدعم والحماس وبين النقد.
ماذا تقول لنا هذه الأيام المذهلة في سرعة إيقاع تطوراتها، فيما نشطته من آمال، وفيما يخشى أن يعقبها من إحباط ويأس؟ بقدر ما تظهر رفضاً جذرياً لـ«سوريا الأسد» واستعداداً متجدداً لمقاومتها بالسلاح، فإنها تسجل اتخاذ مسافة لافتة عن الأسلمة العدوانية، لغة ومظاهر وممارسات. والعبرة البسيطة والحاسمة وراء ذلك هي بكل بساطة أن النضال السوري يحكم على نفسه بالتهافت والفشل بقدر ما يتأسلم، أنه بالعكس يحظى بقاعدة أوسع ودعم أقوى بقدر ما يكون صراعاً من أجل حقوق وحريات، بما فيها حق الناس في دينهم/ أديانهم والحريات الدينية، وأن هذا هو ما يكسر البنية الدموية المنغلقة على السوريين. أسدية إسلامية لا تفشل فقط في الخروج من البنية الدموية، بل هي فوق ذلك مشروع انقسامي، صراعاته الداخلية دموية هي نفسها مثلما رأينا في سنوات سابقة.
أن تجري مقاومة التمييز ضد المسلمين السنيين مما هو مستمر أسدي مديد شيء، وأن يجري التمييز لمصلحة المسلمين السنيين شيء آخر معاكس. ما يحتاجه السوريون هو رفض التمييز، وليس الانتقال من التمييز لمصلحة طرف اجتماعي إلى التمييز لمصلحة طرف آخر. وما تحتاجه سوريا هو القطع مع البنية الدموية وليس تبديل القائمين على إدارتها.
وهذا الدرس يبقى صالحاً أياً تكن مآلات عمليات «ردع العدوان» (الاسم ذاته دال على هدف جمعي، يمكن أن يتعرف فيه أناس متنوعون على ما يريدون، وليس على إحالة إلى الذات عبر تلك الأسماء الإسلامية الإقصائية). وهذا لأنه أهم ما حدث في سوريا منذ عام 2013، واقترن بالفعل بأكثر انفعالات السوريين إيجابية وأكبر تقارب بينهم منذ ذلك العام الوخيم.
ليس هناك ضمانات بأن تبقى الأمور معتدلة ومنضبطة، وبخاصة إن توسع النظام وحماته في استهداف المناطق المدنية مثلما أخذوا يفعلون في حلب. وقد يكون المخرج الأسلم حالياً هو ترتيب دولي يفرض تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 وما يقضي به من هيئة حكم انتقالي متوافق عليها وبسلطات تنفيذية كاملة. فمن أجل استبعاد مخاطر التطرف الإسلاموي، ينبغي حتماً استبعاد التطرف الأسدي وداعميه، الإيرانيين بخاصة.
كاتب سوري
القدس العربي
————————————
هل هناك أفق لحل سياسي في سوريا؟
5 كانون الأول 2024
رأي القدس
شهدت سوريا تطورات عسكرية كبيرة مع تحرير المعارضة السورية المسلحة، ذات الطابع الإسلامي المتشدد، كامل محافظة إدلب وسيطرتها على مدينة حلب، وبدء دخول قواتها إلى مدينة حماه. قامت المعارضة بهذه الهجمات تحت عنوان «ردع العدوان» فيما انتزعت قوات «الجيش الوطني» المدعوم من تركيا مدينة تل رفعت الاستراتيجية، التي كانت تحتلها «الوحدات الكردية» تحت عنوان عملية «فجر الحرية».
تمثّل الرد العسكري على هجوم طرفي المعارضة المفاجئ بتوجيه الطيرانين السوري والروسي ضربات جوية وصاروخية مركزة على ريف إدلب الجنوبي وريف حماه الشمالي، كما قامت قطعات للبحرية الروسية، في هذه الأثناء، بالقيام بـ«مناورات عسكرية» في البحر المتوسط شملت التدريب على إطلاق صواريخ «فرط صوتية».
تناظر ذلك مع هجمات شنتها «قوات سوريا الديمقراطية» (وهي ذراع عسكري لحزب العمال الكردستاني، نظيرة لـ«الوحدات الكردية» ولكنه يضم أيضا عناصر من عشائر عربية) ساندتها ضربتها لـ«التحالف الدولي» الذي تشكل أمريكا القوة الرئيسية فيه، على قرى في شرق محافظة دير الزور يسيطر عليها النظام وميليشيات إيرانية وعراقية، وكان لافتا، في هذا السياق، تأكيد القوات الأمريكية أن هذه الضربات «لا علاقة لها بتقدم المعارضة».
على المستوى السياسي، أعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، والذي كان لبلاده دور كبير في هذه التطورات الجديدة، أن «دمشق يجب أن تشارك في العملية السياسية لتجنب تفاقم الوضع» وتكامل هذا مع مواقف قطرية، مثل إعلان محمد بن عبد العزيز الخليفي، وقوف الدوحة إلى جانب السوريين وتأييد دفع العملية السياسية وفق القرارات الدولية، وكذلك تصريحات عبد الله بن علي بهزاد، سكرتير وفد قطر لدى الأمم المتحدة في جنيف، الذي طالب الأطراف المؤثرة بممارسة الضغوط على النظام السوري للتوصل إلى حل سياسي.
برز، على الجهة المقابلة، موقف إيران، حليف النظام السوري الأكثر تضررا من تقدم المعارضة، فتحدث رئيسها مسعود بزشكيان عن استعداد بلاده لـ«تقديم كل أشكال الدعم لسوريا» كما أعلن متحدث باسم الخارجية عن «بقاء المستشارين العسكريين الإيرانيين» (وهو ما يعني أن إيران مستمرة بدعم النظام السوري عسكريا) فيما أعلن علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد العام للجمهورية الإسلامية، موقفا أكثر تشددا بالهجوم على تركيا، معتبرا أنها «وقعت في فخ أمريكا وإسرائيل» وتناغم ذلك مع تهديد رسمي عراقي، على لسان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، بأن «العراق لن يقف متفرجا على تداعيات الوضع في سوريا».
ظهر شبيه بهذين الخطابين على المستوى الدولي، في جلسة مجلس الأمن التي بحثت تطورات سوريا، ففيما أدان فاسيلي نيبينزيا، مندوب روسيا في مجلس الأمن، عمليات المعارضة العسكرية معتبرا إياه «هجوما إرهابيا منسقا من الخارج» رأى روبرت وود، نائب ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، أن الظروف التي تشهدها سوريا سببها «فشل الامتثال لقرار الأمم المتحدة 2254» مشيرا بدوره إلى دور إيران وروسيا و«حزب الله» في اندلاع الحرب الداخلية بسوريا، ومؤكدا، في الوقت نفسه، أن بلاده لا علاقة لها بالهجوم، وهو ما أكدته أيضا القوات الأمريكية بعد الضربات الأخيرة في دير الزور.
تشير هذه الوقائع كلها إلى وجود أجندتين أساسيتين، الأولى تدرك أن ما يحصل حاليا سببه سد نظام بشار الأسد آفاق العملية السياسية، والثانية، تحاول إلغاء الحل السياسي وإنقاذ نظام فقد أسباب بقائه.
تشكل الحالة العسكرية ـ السياسية المستجدة، في الحقيقة، فرصة كبيرة، يمكن الاستفادة منها، لإقفال ملف الحرب الوحشية الهائلة التي كلفت السوريين، والإقليم، والعالم، أكلافا رهيبة، وهي مناسبة للدول العربية، قبل غيرها، كما للمنظومة الدولية، للضغط في اتجاه تحقيق تسوية سياسية طال انتظارها.
——————————-
هل ينظر سوريون معارضون إلى شؤون منطقتهم بعدسات النظام؟/ ملاذ الزعبي
05.12.2024
غالباً ما يتم الحديث عن سوريا الموحدة المركزية بطريقة تغلب فيها الأيديولوجيا على التفكير بتصورات أخرى لشكل الدولة قد تكون أجدى لتسيير أمور أهل البلد وإدارة حياتهم ومجتمعاتهم المتشظية على أرض الواقع
لم يكد يحدث هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023، الذي نفذته حركة “حماس”، حتى سادت بين كتلة وازنة من المعارضين السوريين مواقف تصبّ كلها في تأييد الهجوم ودعم الحركة والوقوف خلفها، وإن اختلفت حدّة هذا الدعم وشكله. فأتى على صورة كيل المدائح لـ”حماس” حيناً، أو دفاع صريح عنها بل مستميت حيناً آخر، أو على هيئة تبريرٍ وتفهّمٍ خجولين لها في بعض الأحيان، وفي بعض الحالات المغايرة، اكتفى داعمو الحركة السوريون بصمت متواطئ.
كان لافتاً أن الهجوم الذي استهل نكبة فلسطينية جديدة، سرعان ما أعاد إلى مفردات سوريين معارضين عبارات وأفكاراً لطالما رددها النظام السوري، واستخدمها بشكل وظيفي لقمعهم، وروّجتها أدبيات البعث، من شاكلة “مركزية القضية الفلسطينية وأولويتها” و”الصراع الوجودي” و”العدو الأساسي”، وما إلى ذلك.
وقد يكون أكثر لفتاً للنظر من استعادة تلك العبارات والكليشيهات، هو ذلك الاستعداد الواسع النطاق لدى بعض معارضي نظام بشار الأسد لغض النظر عن ارتباطات “حماس” وانضوائها في الحلف الإقليمي بقيادة إيران، رغم الدور الأساسي لطهران في عذاباتهم المباشرة وخراب المنطقة عموماً، ورغم أن أعضاء هذا المحور الآخرين ما زالت قواتهم تنتشر في سوريا وتحتل أجزاء واسعة منها.
أما على مستوى آخر، بدا مخيباً أن يفشل سوريون معارضون كثر في اتخاذ موقف مركّب تجاه المسألة الفلسطينية، لا يقوم على تقديمها على مسألتهم، بل على النظر إليها بشكل متراكب ومتداخل ومتوازٍ، ومتضاد أحياناً، مع أوضاع بلدهم. وكان غريباً بعض الشيء ألا يبدي هؤلاء حساسية تجاه سيطرة فصيل مسلح له أيديولوجيا صارمة، وارتباطات إقليمية تفتقد التوازن والندية، على منطقة جغرافية وعلى مصائر أهلها، وعلى خيارات الحرب والسلم فيها. وبدا أن الدروس البليغة بدمويتها وقسوتها، والتي جسدتها تجارب “حزب الله” وفصائل المعارضة المدعومة من تركيا و”هيئة تحرير الشام”، وكأنها لم تكن.
ومجدداً، لم يُقارب كثر من المعارضين الشأن الفلسطيني من زاوية سورية، بمعنى غياب التفكير بالمسألة الفلسطينية بأولويةٍ سوريةٍ ما، تأخذ في اعتبارها مثلاً أوضاع الفلسطينيين السوريين السياسية والقانونية بدون غض النظر عن حساسياتهم. بل يقول الكثيرَ غيابُ الحديث عن مرتفعات الجولان السورية المحتلة عند الإشارة إلى إسرائيل، إلا من باب مناكفة النظام والمزايدة عليه ومحاولة “تعرية” خطابه الممانع، لا من أبواب أخرى ليس أقلها أهمية التداعيات الإنسانية المستمرة ليومنا هذا لمجتمعات النازحين من الجولان بعد عقود على تهجيرهم.
وإن كانت المزايدة اللفظية في المسألة الفلسطينية واعتبارها القضية المركزية هي التظهير الأبرز والأحدث لتقاطع خطابي النظام وبعض معارضته، فإن مقاربات أخرى لشؤون المنطقة، كانت وما زالت تدل على منهجية التفكير نفسها. ويبدأ هذا من النظرة إلى سوريا نفسها، فغالباً ما يتم الحديث عن سوريا الموحدة المركزية بطريقة تغلب فيها الأيديولوجيا على التفكير بتصورات أخرى لشكل الدولة قد تكون أجدى لتسيير أمور أهل البلد وإدارة حياتهم ومجتمعاتهم المتشظية على أرض الواقع. كما تحضر صورة متوهمة عن مكانة سوريا وأمجادها وعظمتها وأهميتها، سواء في كيانها المتشكل في العصر الحديث، أو بالاتكاء على الإمبراطورية الأموية، رغم أن هذه الأخيرة انهارت عام 750، أي منذ أقل من 13 قرناً بقليل.
وبالانتقال إلى لبنان، وإذا نحّينا جانباً العداء الحديث زمنياً إلى حد ما تجاه “حزب الله”، وكذلك بعضاً من الميول السنّية الهوى تجاه الحريرية، فإن قطاعات واسعة من المعارضة السورية ما زالت تتعامل بكثير من الريبة وعدم الثقة تجاه القوى المسيحية، ولا تزال هناك أفكار رائجة من قبيل “اليمين الانعزالي” لوصف حزبي “الكتائب” و”القوات” وغيرهما.
وإلى ذلك، تسود نظرة تُحمِّل وجود تعددية طائفية في البلد بحد ذاتها مسؤوليةَ اندلاع الحرب الأهلية قبل نحو نصف قرن، وهذا التسامي الأجوف على الطوائف لا يُحيل إلا إلى حظر النقاش العلني في المسألة الطائفية في سوريا البعثية. وفوق هذا وذاك، ثمة موقف ضمني مضمر ليس ودوداً تجاه شكل الديمقراطية التي سادت لبنان قبل الحرب تلك، وكأنها كانت من عوامل تفجّر ذاك الصراع.
أما غياب التفكير بالعراق عن التداول السوري العام وندرة الاشتباك مع شؤونه، رغم محاولات جديرة لجهات إعلامية وثقافية بقيت محدودة الانتشار نسبياً، فيبدوان انعكاساً غير مباشر للقطيعة الطويلة التي دامت بين نظامي حافظ الأسد وصدام حسين، ويتراءى كأن مفاعيلها ما زالت مستمرة جزئياً رغم الكثير من العوامل التي تحرّض على العكس تماماً. ففي سوريا تحديداً، أقام لعقود طويلة معارضون لنظام صدام حسين، عاد بعضهم ليتولى أعلى المناصب في الدولة العراقية إثر الغزو الأميركي. وإلى سوريا كذلك، لجأ مئات الآلاف من العراقيين بعد عام 2003، وكذلك بعد تفاقم الحرب الطائفية عام 2006.
ومن المشتركات الكثيرة الأخرى بين البلدين، إضافة إلى حكمهما من نظامين بعثيين مستبدين استندا إلى قاعدتين عائلية وطائفية، وجود أقلية كردية كبرى ومسألة كردية مزمنة في كليهما (ولكل القوى الكردية الفاعلة في أحد البلدين قوى حليفة في البلد الآخر) وعلى جانبي الحدود المشتركة التي تتجاوز 600 كيلومتر، تعيش قبائل عربية تربطها علاقات دم وقربى. وعبر أراضي البلدين يمر نهرا الفرات ودجلة، وهما من أهم مصادر المياه العذبة فيهما، وازدادت أهميتهما بشكل مضطرد في السنوات الأخيرة مع تكرر هجمات الجفاف وتصاعد وطأة التغير المناخي وتحكّم تركيا بتدفقات المياه عبرهما.
بيد أن ما يجعل التفكير بالعراق أكثر راهنية وضرورة للسوريين، هو السمات المشتركة الأحدث نسبياً والتطورات التي شهدها العقدان الأخيران، فبغداد ودمشق وقعتا تحت نفوذ إيراني مباشر، سياسي واقتصادي وثقافي، وصل في بعض المراحل حد التحكم بقرارات سيادية ومصيرية. وإلى سوريا، وبتوجيهات إيرانية، توجهت ميليشيات عراقية شيعية ساهمت في الجهد العسكري للنظام السوري ضد فصائل المعارضة منذ عام 2012 على أقل تقدير، وبعضها لا يزال منتشراً في مناطق سورية عدة.
وإن كانت المرحلة الأكثر ظهوراً من الانخراط العراقي في الثورات العربية، هي “انتفاضة تشرين” عام 2019، التي حملت طابعاً أكثر علمانية، وعرفت امتداداً أوسع في المدن ذات الغالبية الشيعية، فإن مرحلة أولى من هذا الانخراط، سنية الطابع، شهدها العراق في عام 2013، انتهت بفض عنيف لاعتصامات محافظة الأنبار، وهو الفض الذي شكل تمهيداً نهائياً للطريق المعبّد أساساً باتجاه تحويل المظلومية السنية في المنطقة إلى أحد أكثر الأشكال الجهادية عنفاً وعدمية.
هذه الظاهرة الجهادية المشتركة في البلدين، يكفي للإشارة إلى أهميتها وتقاطعها وتداخلها، التذكير بأن تنظيم “الدولة الإسلامية” حمل بداية اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، ومن هذا الاسم تحديداً أتى الاختصار المعروف بـ”داعش” (هل علينا التذكير بأن الغالبية العظمى من قيادات التنظيم كانت عراقيين لقوا حتفهم في سوريا؟). أما التحالف الواسع لمحاربة تنظيم الدولة، الذي ضم قوى دولية وإقليمية عدة بقيادة واشنطن، فخاض معارك القضاء على التنظيم في الرقة والموصل وصلاح الدين والأنبار ودير الزور وأرياف حلب وغيرها من المناطق الممتدة في البلدين.
وراهناً، بالتزامن مع التطورات العسكرية المتسارعة شمال سوريا، تُعيد ردود الفعل المتعددة والتصريحات الصادرة عن جهات رسمية وغير رسمية في العراق، التذكيرَ بهذا الترابط العميق بين شؤون البلدين، بل إن تحليلات عسكرية تذهب للقول إن فصائل من “الحشد الشعبي” العراقي المدعوم إيرانياً قد تكون الجهة الأقدر على القتال إلى جانب نظام الأسد المتقهقر في وجه فصائل المعارضة المتقدمة.
عام 2010، تساءلت الصحافية والكاتبة الأميركية ديبورا أموس في كتاب لها حمل عنوان Eclipse of the Sunnis; Power, Exile, and Upheaval in the Middle East: ما الذي سيصبح عليه العراق؟ وكيف بإمكان العراقيين التسامح بعد العنف الذي استشرى بينهم؟ كيف يمكنهم محو الفجوة السنية الشيعية بينهم؟ ما هو المستقبل لهذا المجتمع الجريح المتشكك المنبعث من عقود من الكبت تحت حكم صدام حسين؟
في بعض التحويرات البسيطة، تنطبق أسئلة أموس بشكل مذهل على سوريا، ويبدو ضرورياً أن يبحث سوريون وعراقيون معاً عن إجابات لهذه الأسئلة، لكن الخطوة الأولى في هذا البحث الطويل قد تتطلب أولاً نزع نظارات البعث.
وراهناً، بالتزامن مع التطورات العسكرية المتسارعة شمال سوريا، تُعيد ردود الفعل المتعددة والتصريحات الصادرة عن جهات رسمية وغير رسمية في العراق، التذكيرَ بهذا الترابط العميق بين شؤون البلدين، بل إن تحليلات عسكرية تذهب الى القول إن فصائل من “الحشد الشعبي” العراقي المدعوم إيرانياً قد تكون الجهة الأقدر على القتال إلى جانب نظام الأسد المتقهقر في وجه فصائل المعارضة المتقدمة.
ملاحظة: تُرجم كتاب أموس إلى العربية بعنوان: أفول أهل السنة: التهجير الطائفي وميليشيات الموت وحياة المنفى بعد الغزو الأميركي للعراق، وصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر بترجمة محمد فاضل وتقديم رضوان السيد.
درج
————————————————
هل المنطقة على فوهة بركان أم عتبة ترتيبات جديدة؟/ فكتور شلهوب
05 ديسمبر 2024
انفجار الوضع في سورية معطوفا على استفحال الأوضاع في غزة وتعذّر التوصل إلى وقف لإطلاق النار حتى الآن، فضلا عن اهتزاز وقف النار في لبنان، عزز الاعتقاد في واشنطن بأن المنطقة تقترب من فوهة البركان. حالة الحرب المستمرة منذ 14 شهراً على أكثر من جبهة، تثير الخشية من الأدهى والأخطر بعد أن تعذّر إطفاء نارها بصورة حاسمة حتى الآن. ويعزز التخوف من هذا الاحتمال، أن عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب اقتربت إلى البيت الأبيض (46 يوماً) مع ما لوّح به عن عزمه اعتماد سياسات متشددة خاصة في غزة، لو بقيت قضية الأسرى الإسرائيليين من غير حلّ قبل تسلّمه سلطاته.
في المقابل، أوحى صمود وقف النار خلال أسبوعه الأول في لبنان رغم الاختراقات، باحتمال استمرار سريانه لاستكمال مدة الشهرين، بحيث يصبح بعدها مفتوحا على حل لإنهاء الحرب، كما هو مأمول لو بقيت الأمور تحت السيطرة. وفي ذات الوقت انتعش الأمل بالتوصل إلى وقف نار في غزة، بعد أن أعلنت الدوحة استئناف دورها في المفاوضات في هذا الخصوص. والأهم هو ما يتردد عن أن الحلحلة التي بدأ يعيشها لبنان والمحتمل أن تشهدها غزة قريبا فضلاً عن التطورات التي انفجرت مؤخرا في سورية، تنضوي جميعها في خطة أوسع لإعادة ترتيب معادلات المنطقة من جديد، وفق ما فرضته التطورات الميدانية خاصة في لبنان في الأشهر الأخيرة. وما يعزز أجواء التفاؤل في هذا الصدد أن إيران كانت إما طرفا في نسج هذا التوجه وإما أنها التحقت به. وقد انعكس ذلك في المقالة التي نشرتها مجلة “فورين افيرز” المرموقة والتي كتبها نائب الرئيس الإيراني محمد جواد ظريف، مهندس ترميم العلاقات بين إيران والغرب، وأثارت اهتماما ملحوظا في أوساط المعنيين بشؤون السياسة الخارجية.
الخشية من الأخطر في هذه الحروب مشروعة. رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو تمكّن بمناوراته وبسبب تراخي الرئيس جو بايدن، من إطالة وتمديد الحرب، بالرغم من تحذيرات الإدارة الأميركية التي تجاهلها رئيس الليكود وبدون كلفة. وقد يتمادى أكثر في زمن ترامب الذي سبق ودعا نتنياهو أكثر من مرة إلى “استكمال المهمة” في حروبه، مع أنه دأب على نبذ الحروب. ورغم نبرة التشدد والتوعّد في حديث الرئيس المنتخب عن النزاعات، إلا أنه أعطى أكثر من إشارة لتفضيله مباشرة رئاسته الثانية من دون حروب الشرق الأوسط، مع أنها لو انتقلت إليه فلن يتردد في أن يكون مطواعا لنتنياهو أكثر من بايدن.
لكنه قد لا يحتاج إلى الانهماك فيها؛ فوقف النار الذي دخل حيز التنفيذ في لبنان جاء بمواصفات ومقاييس إسرائيل وشروطها التي ضمنت لها الاستمرار في خرق الاتفاق بزعم ممارسة حق الدفاع عن النفس. والمرجح أن تنجح مساعي وقف النار في غزة؛ حيث هدد ترامب باستخدام القوة المفرطة لو فشلت وبقيت مسألة الأسرى الإسرائيليين من غير حل قبل عودته إلى البيت الأبيض. والمعروف أن فريق ترامب كان على تواصل وتوافق مع الإدارة في ما يتعلق بحروب المنطقة ومحاولات التعامل مع المعادلات التي رست عليها. ويبدو من المعطيات والمؤشرات التي بدأت تتبلور ملامحها، أن واشنطن تتطلع إلى شرق أوسط مختلف قد يكون قيد التكوّن وبمساعدة ومشاركة طهران. مقالة ظريف “لو كانت من غير توقيع لبدا كاتبها وكأنه حليف لأميركا”، بتعبير أحد المراقبين. تحدث عن “انفتاح إيران على الحوار مع الآخرين، بمن فيهم واشنطن”. وشدد على تركيز إيران على “التنمية والجانب الاقتصادي والاستقرار في الشرق الأوسط”، مع التوكيد على “التفاوض المتكافئ” بشأن الملف النووي. ويذكر أن طهران كانت قد ربطت العودة إلى طاولة المفاوضات النووية “بوجوب تعويض واشنطن على العقوبات” التي فرضتها على إيران بعد انسحابها من الاتفاقية في 2017. وحفلت مقالته بالكلام عن أهمية “التكامل الاقتصادي” في المنطقة وبما “يخفض اعتماد الخليج على القوى الخارجية”، مشددا على سعي إيران إلى السلام ولو أنها “واثقة من قدراتها على الدفاع عن نفسها”.
توجيه هذا الخطاب عبر هذه المطبوعة المقروءة في أوساط النخب وصناع القرار، وتوقيت نشرها في أعقاب ما يصنفه المراقبون في خانة انكفاء أذرع إيران في المنطقة، بدا وكأنه بمثابة “اعتراف” بهذا الانكفاء مع الاعتزام على سلوك توجه مختلف في الإقليم. تحوّل في التموضع على الأقل بانتظار مرور العاصفة. وثمة من يرى فيه مخاطبة للرئيس المنتخب ترامب، بهدف خفض سخونة الوضع في المنطقة، علّ ذلك يساهم في تنفيس احتمالات توسيع رقعة الحرب في المنطقة. لكنه مسار ما زال في بداياته ويتناسب مع خطاب ترامب عن الحروب. لكن المنطقة مليئة بالألغام ونتنياهو متخصص في استحضار صواعق التفجير اللازمة للاستمرار في الحروب واستدراج الردود لتوظيفها في توفير الذرائع وتكبير الأهداف.
——————————
لبنان وسوريا: عاصفة دولية لتطويع الأسد والجولاني وحزب الله/ منير الربيع
الخميس 2024/12/05
ثلاثة عناوين تتصدّر المشهد اللبناني والذي لا يمكن فصله عن ما يجري في سوريا. أولها، مواكبة مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار وتفعيل عمل لجنة المراقبة، وسط ضمانات دولية وأميركية بالتحديد، وصلت إلى لبنان، لدفع إسرائيل إلى الالتزام بالاتفاق وعدم خرقه. ثانيها، إعادة تحريك ملف الانتخابات الرئاسية وإعادة تشكيل السلطة، بفعالية، وسط محاولات لبنانية لإنجاز الاستحقاق في جلسة 9 كانون الثاني، في مقابل بروز مفاجأة على لسان مسعد بولس، وهو مستشار الرئيس الأميركي المنتخب لشؤون الشرق الأوسط، الذي قال في تصريحين متتاليين، إنه يمكن للبنانيين تأجيل عملية الانتخاب لشهرين. وهو يقصد لما بعد تولي ترامب السلطة وتشكيل فريق عمله كاملاً. أما الثالث، فهو التطورات اللبنانية على الإيقاع الإقليمي وخصوصاً ما يجري في سوريا ودور إيران.
الاتفاق والأهداف الإسرائيلية
بالنسبة إلى العنوان الأول، فإن تحديات كبيرة تنتظر لبنان الرسمي ولجنة مراقبة آليات تطبيق القرار 1701، والتي ستبدأ عملها في وضع خطة تفصيلية لكيفية انتشار الجيش اللبناني في الجنوب، ومعالجة الخروقات الإسرائيلية. إلى جانب أهداف إسرائيل في إظهار يدها العليا في هذا الاتفاق، هناك أهداف أخرى تريد تحقيقها من خلال مراكمة عناصر الضغط على لجنة المراقبة والجيش اللبناني، لإخراج حزب الله من جنوب نهر الليطاني. يترافق ذلك مع تصريحات أميركية واضحة حول ضرورة تطبيق الاتفاق بحذافيره، وأن يتولى الجيش مهمة إخراج حزب الله من تلك المناطق، وسط ضغوط أميركية تتوضح أكثر على لسان مسؤولين في الإدارة الحالية أو في فريق عمل ترامب، بأن مهمة الجيش هي التأكد بنفسه من إخراج الأسلحة وإفراغ المخازن والمواقع، وصولاً إلى كلام مسعد بولس عن شمول الاتفاق لشمال نهر الليطاني وسحب الأسلحة الخارجة عن الدولة على كل الأراضي اللبنانية. وذلك يعطي إشارة إلى المسار الذي ستسلكه إدارة ترامب تجاه لبنان.
موعد مع الرئاسة
بانتظار هذه الترتيبات والوقائع، يتقدّم الاستحقاق الرئاسي، وهو عنوان لا ينفصل عن العنوان الأول. ولذلك هناك إصرار لدى فريق ترامب على تأجيل إنجاز الانتخابات الرئاسية إلى ما بعد تسلّمه السلطة. وتصل إشارات واضحة إلى اللبنانيين بأن لا يتم تمرير الانتخابات الرئاسية قبل العشرين من كانون الثاني، لأن هناك وجهة نظر في واشنطن تستند إلى تجربة العام 2016، عندما تم انتخاب ميشال عون قبل 8 أيام من انتخاب ترامب. من الواضح أن السياق المراد فرضه سياسياً ورئاسياً في لبنان، يسعى إلى تكريس واقع جديد، يتماهى مع رؤية ترامب للبنان والمنطقة، وهو الذي كان قد تحدث سابقاً عن إحلال السلام. على الأرجح، ما يريده ترامب هو محاولة فرض تسوية سياسية تتماهى مع رؤيته للمنطقة، وهو المقصود بكلام بولس عن “عدم الانتخاب عشوائياً”، بغض النظر عن لعبة الأسماء التي بدأ اللبنانيون بالتداول بها والغرق فيما بينها.
معادلات المنطقة
في العنوان الثالث لا بد من العودة إلى الحرب الإسرائيلية وآلياتها، فهدفها كان تغيير الوقائع عسكرياً، بهدف فرض معادلات جديدة سياسياً، ومن ضمن شروطها تكريس استقرار طويل الأمد يوفر لإسرائيل الأمن، وهو ما ينطبق على لبنان وسوريا معاً وفق الاستراتيجية الأميركية. وسط اعتماد سياسة إنهاك لكل هذه الدول التي تعتبر منضوية تحت “النفوذ الإيراني”، وجعلها في موقع غير قادر على الرفض. كما أن الحروب التي تؤدي إلى دمار كبير وانعدام القدرة على إعادة الإعمار هدفها ربط هذه المساعدات أو الاستثمارات في إطار السياق السياسي الجديد الذي يُراد فرضه. فطوال الحرب وعملياتها التي أراد الإسرائيليون فيها تكريس معادلة ضرب حزب الله فقط، لتكريس الشرخ بين الحزب والقوى اللبنانية الأخرى، لا ينفصل هذا عن محاولة فرض وقائع سياسية جديدة بناء على ما أسماه الإسرائيليون “إضعاف” حزب الله. وهو ما يُطلق عليه في المنطقة مصطلح “إضعاف النفوذ الإيراني”. الذي ستشهد بموجبه الساحات اللبنانية، السورية، والعراقية الكثير من التجاذبات وشد الحبال والتوترات، بانتظار ما سينتج عن مسار علاقة ترامب بالإيرانيين، وإذا كانت ستتجه إلى صفقة أم صدام.
إيران وسوريا
لا تزال إيران تبدي استعدادها للوصول إلى تفاهم مع أميركا، وفق وجهات نظر داخل إيران تميل إلى ضرورة التفاهم مع ترامب، وتحويل فترة ولايته إلى فرصة لإبرام صفقة، فيما قفز الملف السوري إلى الواجهة بكل تطوراته وأحداثه، من سيطرة المعارضة على حلب، وفتح معارك حماه، ما أظهر انهياراً كبيراً في بنية النظام السوري وجيشه، ما يجعل إيران تستشعر خطراً جيوسياسياً، يمكن أن يقطع طريقها إلى البحر المتوسط. وقد جاء إعلان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، عبر صحيفة “العربي الجديد”، أن طهران ستتدخل بناء على طلب دمشق. هو مؤشر على رغبة إيران بمطالبة علنية ورسمية من الأسد للتدخل، علماًَ أن الإيرانيين يحاولون تحفيز النظام على تنفيذ عملية عسكرية مضادة، لفرض واقع تفاوضي بين سوريا وتركيا.
لا بد للبنان أن يراقب ويتأثر بمجريات الوقائع السورية. ففي حال تمكنت المعارضة من بسط سيطرتها الكاملة على حلب، وتوفير كل الموارد والاحتياجات الأساسية، فهذا يعني فرض أمر واقع سياسي جديد، يتوزع فيه النفوذ الفعلي بين روسيا وتركيا، لتبقى إيران أمام تحدي الحفاظ على نفوذها. أما في حال تمكنت المعارضة من السيطرة على حماه، والانتقال بعدها إلى فتح معركة حمص، فهو ما سيشكل تهديداً كبيراً لنفوذ إيران. وهو ما سيكون له انعكاسات كثيرة على الوضع في لبنان.
من الجولاني إلى حزب الله
لا شك أن المسارين السياسي والعسكري في سوريا، وما يعلنه المسؤولون الأتراك بالإضافة إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، حول استعصاء الحلّ السياسي ورفض دمشق تقديم أي تنازلات أو مقاربات واقعية، هو الذي أدى إلى انفجار الوضع العسكري، والمطالبة بإنتاج حلّ سياسي، ينطوي على مشروع تتقاطع فيه توازنات إقليمية ودولية، ستشكل ضغوطاً كبيرة على النظام لإجباره على إبرام تسوية وفق الشروط المطلوبة دولياً. وبحال لم يستجب، فإن هذه المعارك ستتواصل وتتوسع مع ما سيتخللها من فرز لمناطق النفوذ، ومع إيقاظ الكثير من المخاوف حول الفرز الديمغرافي أو عمليات التهجير العرقي.
لبنان أيضاً، سيكون في الميزان نفسه سياسياً، إما أن تخضع القوى المختلفة فيه إلى تسويات مبنية على تنازلات تتلاءم مع الضغوط الخارجية، أو أن الاستعصاء سيستمر ويراكم الخسائر والانهيارات، ويدفع القوى المنقسمة على بعضها إلى البحث عن محاولات فرض أمر واقع في مناطق نفوذها.
في هذا السياق يبرز تحول جديد كشف عنه زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، والذي أبدى الاستعداد لحلّ الجبهة، لتمكين الدمج الكامل للهياكل المدنية والعسكرية. علماً أنها ليست المرة الأولى التي يعلن فيها مثل هذا الإجراء. ولكن مثل هذا التنازل الجوهري مطلوب أيضاً من الأسد نفسه، وهو مطلوب من حزب الله في لبنان للتحول إلى حزب سياسي والتخلي عن السلاح.
المدن
—————————
الجولاني منتصراً في حلب: دفن رفات الثورة المدنية/ وليد بركسية
الخميس 2024/12/05
زار زعيم “هيئة تحرير الشام” الجهادية، أبو محمد الجولاني، مدينة حلب وأحاط نفسه بالأنصار والمعجبين ورفع يده أمام قلعة المدينة التاريخية، معلناً نفسه بطل التحرير الذي استطاع تقديم إنجازات خلال أيام لم يستطع كل الثوار والمعارضين من قبله، تحقيقها، طوال سنوات.
والجولاني في صورته التي تبدو ككل جزءاً من حملة علاقات عامة دقيقة تقوم بها “الهيئة” التي فكت ارتباطها شكلياً بتنظيم “القاعدة” العام 2016، يفك في الواقع ارتباطه بالذاكرة الجمعية للثورة السورية كحراك مدني مطالب بالديموقراطية في سنواته الأولى، معلناً دفن الماضي وفتح صفحة جديدة تكون فيها السلطة هي القوة الجهادية التي قاتلت على الأرض، لا الثورة الشعبية التي تحدت نظام الأسد رغم عقود من الخوف والقمع وقوبلت بالرصاص الحي وخطاب التخوين.
يطوي الرجل الذي تقلب من الجهاد العالمي إلى الجهاد المحلي، صفحة تلك الأيام، بوصفها الماضي الفاشل الذي لم يستطع أبطاله تحقيق إنجازات، مثلما استطاع هو شخصياً، مهما كانت الطريقة والأيديولوجيا والظروف التي أدت لذلك الواقع المؤسف، والذي ينقسم فيه قدر السوريين بين الديكتاتورية السياسية والجهادية الثورية من دون بديل آخر.
والطرح الذي يقدمه الجولاني هنا، هو أسوأ انتكاسة لفكرة الثورة الشعبية والمعارضة المدنية والتحرر من نظام الأسد، لأن الثورة في الإطار الذي يقدمه الجولاني لا تعني ثورة من أجل الحرية بقدر ما هي ثورة من أجل التقسيم. ويشمل ذلك، خطاب “الهيئة” نفسه طوال الأسبوع الماضي تجاه حلب، بوصفها “مدينة للتعددية الثقافية”، وتكريس الأقليات الدينية والإثنية فيها على أنها أقليات يتم التكرّم عليها بالبقاء على قيد الحياة وبممارسة نشاطات يومية لا تتعدى المشي في الشوارع والتسوق، من دون تقديم خطاب يتجاوز ذلك الطرح التقسيمي إلى معنى المواطنة.
وطوال سنوات، حاول الجولاني تقديم تنظيمه المتشدد على أنه جزء من الثورة السورية وقائد لها، رغم أن “هيئة تحرير الشام” حتى عندما كانت تسمى “جبهة النصرة” واجهت معارضة من طرف السوريين أنفسهم. ففي بلدة كفرنبل الشهيرة مثلاً حاولت “النصرة” تنظيم مظاهرة مشتركة مع أهالي البلدة بالاستفادة من أسلوب اللافتات الشهيرة هناك بعد سيطرة التنظيم على إدلب العام 2013، لكن أهل المدينة حينها رفضوا أسلمة الثورة والطابع الجهادي الذي مثلته “النصرة”. وعليه خرجت تظاهرتان متمايزتان في البلدة للمرة الأولى، هتف أهل البلدة في الأولى مع الأعلام الملونة: “حرية حرية دولة مدنية”، وهتف الجهاديون في الثانية “بدنا خلافة اسلامية” مع الأعلام السوداء.
كانت تلك اللحظة مفصلية، كونها عكست إقصاء للجهاديين ورفضاً لمشروعهم، من قبل السوريين أنفسهم، خصوصاً أن النظام السوري عمد إلى إطلاق سراح عدد كبير من الجهاديين من معتقلاته العام 2011 في عفو عام أصدره رئيس النظام بشار الأسد حينها، من أجل أسلمة الثورة وإيجاد مبرر للعنف ضد السوريين وخلق سردية أن النظام يقاتل الإرهابيين في سوريا. وتباعاً، تصاعد عنف النظام وعنف الفصائل المعارضة، وكان الناشطون المدنيون والمطالبون بالحرية يقتلون أو يغيبون في المعتقلات أو يتجهون للمنافي.
في كفرنبل، وغيرها في ذلك التوقيت، كان الجولاني وأمثاله يواجهون رفضاً صريحاً من الأهالي. أما اليوم، فإن غياب الأصوات المدنية أصبح السمة الأبرز في المشهد السوري، حيث استحوذت الجماعات المتشددة على المشهد العام، وبات الناشطون المدنيون يعانون خطاب التخوين والتهديد في حال عودتهم إلى سوريا، من قبل مؤيدي الهيئة والمهللين لها.
وصورة الجولاني اليوم تكثف كل ذلك التاريخ وترميه جانباً، لأن الثورة السورية تفسها ماتت قبل سنوات. ويصبح الرثاء لتلك اللحظة النبيلة العام 2011، واجباً مرة أخرى، خصوصاً أن المستقبل الذي تطرحه “هيئة تحرير الشام” يبقى غير واضح، خصوصاً قبل ردّ فعل النظام وحلفائه الذين قد يتجهون إلى فصل آخر من فصول سياسة الأرض المحروقة ضد المدنيين، لا الجهاديين، خصوصاً ضد اللاجئين من ريف حلب وإدلب الذين يعيشون في الخيام ويحلمون بالعودة إلى قراهم المدمرة.
والجولاني، الذي ظهر كأحد أبرز الشخصيات الجهادية في سوريا خلال العقد الماضي، يبرز اليوم كرجل يعيد تشكيل صورته بشكل دائم بما يتناسب مع المتغيرات على الأرض، من دون أن يتخلى عن جوهر أفكاره. وبداية من تأثره بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، إلى ظهوره ضمن التنظيمات الجهادية في العراق، وصولاً إلى تأسيس “جبهة النصرة” في سوريا، كان الجولاني دائماً حاضراً في مشهد تتداخل فيه الأيديولوجيا مع البراغماتية.
ولعل ما يميز الجولاني عن قادة الجهاد التقليديين ليس ولاءه المطلق لأيديولوجيا واحدة، بل قدرته على إعادة ابتكار نفسه في كل مرحلة من مراحل الصراع. هذه المهارة أكسبته مساحة للحركة في عالم السياسة المعقد في سوريا، لكنه استخدمها أيضاً لترسيخ سيطرة تنظيمه من خلال القمع والاعتقالات والاغتيالات، كما في حالة الناشط البارز رائد الفارس، مهندس لافتات كفرنبل.
وعلى عكس الصورة التقليدية للقادة الجهاديين، يمثل الجولاني حالة من التكيف والمرونة، حيث استفاد من تجارب متعددة، من “طالبان” إلى “حزب الله”، لخلق نموذج يهدف إلى كسب دعم محلي ودولي، ولو كان ذلك عبر خطوات تجميلية مثل الادعاء بتخفيف التشدد أو التحدث عن التسامح مع الأقليات. لكن هذه الصورة المثالية تتناقض مع الواقع على الأرض، حيث عاشت إدلب تحت حكمه تجربة قمعية مشحونة بخطاب أيديولوجي صارم، لم تختلف جوهرياً عن النماذج الأكثر تشدداً التي ظهرت في المنطقة.
وما يثير الانتباه حقاً هو كيف حاول الجولاني توظيف هذه المرونة في البحث عن شرعية سياسية، سواء عبر تغيير مظهره أو تبني خطاب مختلف ظاهرياً. ورغم ذلك، فإن هذه التحولات لم تكن إلا تكتيكات مؤقتة لضمان البقاء في الصدارة، وليس لإحداث تغيير حقيقي في نهج التنظيم. فعندما أتيحت له فرصة بناء نموذج حكم جديد في إدلب، أعاد تقديم نسخة مختلفة بالكاد عن حكم “طالبان” التي وعدت العالم بنموذج متسامح العام 2021 مع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وباتت اليوم أسوأ مما كانت عليه إبان حكمها الأول للبلاد في تسعينيات القرن الماضي.
ووفرت حالة “طالبان” وعودتها رغم “الحرب على الإرهاب” لأكثر من عقدين، مدخلاً للجماعات الإسلاموية، العنيفة وغير العنيفة. وهو منبع الخطورة من القراءات الرومانسية الحالمة والرغبوية التي تصدق وعود “هيئة تحرير الشام” اليوم مثلما صدقت وعود “طالبان” قبل ثلاث سنوات، حينما سيطر التنظيم على الوكالات الأمنية مثل الدفاع، والشرطة، والاستخبارات، ولم يعد يبالي أصلاً بتجميل صورته بل فرض تدريجياً حكماً قائماً على تفسير مفرط التشدد للشريعة الإسلامية.
وفيما يتم التركيز في هذا السياق على الأقليات كالمسيحيين والأكراد في حلب، فإن ذلك يعود أصلاً لتركيز دعاية “تحرير الشام” عليهم في الأيام الماضية، لكن ذلك يتجاهل أن السنة أنفسهم الذين تقول “الهيئة” أنها تتحدث باسمهم، يعانون أيضاً تحت حكم هذه النوعية من الجماعات التي تعادي كل ما له علاقة بالحريات الفردية، كما أن ذلك الطرح الأحادي يساهم في نشر صورة نمطية عن السنّة المدينيين أنفسهم كحواضن للإرهاب أو متقبلين للفكر الجهادي، وذلك ليس دقيقاً بالطبع.
ومثلما كانت “طالبان” تُروج نفسها كبديل ديني قابل للحياة في أفغانستان، تحاول “هيئة تحرير الشام” نسج السردية نفسها، لكن الواقع يظهر أن النموذجين قائمان على القمع والاستبداد، ويعيدان المجتمعات إلى دوامة من العنف وعدم الاستقرار. والمستقبل الذي تقدمه “الهيئة” أو نظام الأسد على حد سواء، ليس سوى استمرار للمأساة السورية حيث لا رؤية تضع مصلحة جميع السوريين فوق الانقسامات الدينية والسياسية والطائفية، بخلاف التقسيم أو الفيدرالية.
——————————-
فسحة الأمل في مدينة حلب/ إياد الجعفري
الخميس 2024/12/05
فيما تحتدم النقاشات بين كتّاب ومثقفين سوريين، جلّهم في بلاد اللجوء أو المهجر، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حول جواز التفاؤل بحكم “هيئة تحرير الشام” لمدينة بحجم حلب وتاريخها ودورها الاقتصادي في البلاد، ينشغل سكان المدينة بتحديات وهموم يومية، من قبيل الحصول على المياه والخبز والمواد التموينية الأساسية، والجدل حول خدمات الكهرباء والنت، المتفاوتة باختلاف الأحياء. كما أن أبرز مخاوفهم الآنية هو قصف طيران النظام والروس. أما على صعيد المستقبل القريب والمتوسط، فإن ما يسود حتى اللحظة في أوساط سكان المدينة، بصورة خاصة في شطرها الغربي الذي يضم أبرز أحيائها وعائلاتها الميسورة، هو حالة من الترقب حيال المجهول.
وإن عدنا إلى الوراء قليلاً، قبل دخول فصائل المعارضة إلى حلب، كيف كانت تعيش المدينة، بثقلها الصناعي والتجاري، في ظل النظام؟ تعطينا الإجابة على هذا السؤال فهماً واضحاً للحالة النفسية التي تعبّر عنها تعليقات سكان المدينة على منشورات النشطاء “الفيسبوكية”. فما يسود، هو الترقب، لا الرعب. وما يشغلهم، مجهولية المستقبل لا وضوحه. ذاك أن ما كانوا يعيشونه قبل لحظة دخول الفصائل إلى المدينة، وعلى مدار ثماني سنوات سابقة لها، كان كفيلاً بقطع الأمل بأي تحسّن حقيقي في ظل حكم الأسد.
ونحن هنا لا نفتري جراء انحياز سياسي. إذ تكفي العودة إلى تصريحات وشكاوى صناعيين بارزين من نخبة المدينة، ومن الموالين لنظام الأسد، على مدار السنوات القليلة الفائتة، لنكشف مقدار الخيبة التي شعر بها سكان حلب الغربية بصورة خاصة، بعد استعادة النظام لكامل المدينة نهاية 2016. يومها، كان الرهان بأن يعود الألق لمدينتهم، بعد انتهاء تداعيات غزوة مقاتلي المعارضة لشطرها الشرقي، على الصعيد الأمني. لكن هذا لم يحدث. بل على العكس، شهدت المدينة تداعيات لم تكن أقل حدّة. وإن كانت من طينة مختلفة.
وكي نفهم أكثر كيف عاشت مدينة حلب بعد استعادة النظام لشطرها الشرقي، نحيل إلى تقرير لـ”مجموعة الأزمات الدولية”، نُشر قبل نحو عامين، بعنوان “إدارة دمار حلب”، يتحدث عن أن نظام الأسد فشل في إدارة المدينة بعد أن أوكل هذه المهمة لميليشيات “الدفاع الوطني” المعروفة محلياً بـ”الشبيحة”. وخلال السنوات الثلاث الأخيرة، كان يمكن رصد عدد كبير من التقارير المحلية، التي تتحدث عن أن عدداً من الصناعيين الحلبيين عادوا إلى مدينتهم، وعَمِلوا على إعادة تأهيل منشآتهم، دفعوا الثمن باهظاً، إذ تعرّضوا للاستنزاف بكثافة من جانب الدوائر الضريبية التابعة لحكومة النظام، التي لم تقدم بالمقابل أية خدمات أو دعم للناهضين بالصناعة المُدمّرة، مما أدى إلى موجة هجرة واسعة للصناعيين من المدينة، نهاية صيف العام 2021.
أما أكثر ما ميّز حقبة استعادة الأسد لكامل المدينة، فكان تفاقم النفوذ الإيراني فيها. نفوذٌ حمل ثلاثة أبعاد. الأول، ميداني، تم تدعيمه بإحكام الفرقة الرابعة بقيادة شقيق رأس النظام ماهر الأسد، لفترة طويلة، على مداخل المدينة، وعلى أرزاق أهلها.. بصورة أرهقت الصناعيين بالإتاوات، حتى أن فارس الشهابي، رئيس غرفة صناعة المدينة، اشتكى من ذلك بصورة شبه مباشرة، في برنامج على الإخبارية السورية في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2021. أما البعد الثاني للنفوذ الإيراني، فتمثّل بسعيهم لإحلال طبقة تجار جديدة في المدينة التي عُرفت بخبرة أهلها في الصناعة. وذلك على أمل أن تكون مستقبلاً سوقاً للبضائع الإيرانية على حساب المُنتَج المُصنّع محلياً. وقد أضرّ هذا المسعى بصورة كبيرة بالإنتاج الصناعي المحلي في المدينة. لكنه لم ينجح في تحقيق هدفه النهائي بتصريف كثيف للبضائع الإيرانية، جراء سوء السمعة المزمن الذي يعاني منه المنتج الإيراني في الأسواق السورية، وخصوصاً الحلبية، والتي كانت مُتخمة بالبضائع التركية رغم “التحريم” الرسمي لذلك.
أما البعد الثالث للنفوذ الإيراني، فتعلّق بغاية سياسية- مذهبية، مرتبطة برمزية المدينة التاريخية. وهي غاية لم تُؤتِ أُكلها أيضاً. لكن، كانت الحصيلة أن أصبحت المدينة ساحة نفوذ إيرانية أكثر مما كانت ساحة نفوذ “أسدية”. حتى محطة توليد الكهرباء التي روّج النظام بكثافة لإطلاق مجموعة عمل واحدة منها فقط عام 2022، بصورة تطلبت حضور بشار الأسد شخصياً في حفل إطلاقها، كانت بتمويل وإعادة تأهيل من جانب شركة إيرانية. مع الإشارة إلى أن مجموعة عمل التوليد تلك لم تنجح في التخفيف من حدّة معضلة الكهرباء في المدينة، التي ذاقت ويلات غياب شريان خدمة رئيسي لمنشآتها الصناعية. ناهيك عن أزمات المحروقات المتكررة بصورة مُستدامة.
باختصار، لم ترجع حلب إلى ما كانت عليه قبل العام 2011، بل تحولت إلى صورة مشوّهة عن الحالة التي كانت عليها في زمن الألق الصناعي والتجاري والخدمي ذاك. ولم تستطع نخبتها الاقتصادية النشطة أن تحظى بفرصة مناسبة لإعادة النهوض بالمدينة. وهكذا بات الأفق في ظل نظام الأسد معروفاً وميؤوساً منه، لدى الغالبية العظمى من الحلبيين.
لا يعني ذلك أن المستقبل مطمئن لهم، حتى الآن. لكنه على الأقل يبقى مجهولاً، مما يتيح فسحة من الأمل، تتحرك ضمن هوامش الرهان على تسوية سياسية يمكن أن تنضج على نار انتكاسة النظام الأمنية، أو ربما انفصال عن حكومة دمشق المُترعة بالفساد والفشل الإداري. انفصال أليم، لكنه أكثر جدوى على الصعيد المعيشي، في ظل رعاية تركية يفضّلها كثير من الحلبيين على نظيرتها الإيرانية. وبطبيعة الحال، يقابل فسحة الأمل تلك، مخاوف كبيرة من أن تصبح المدينة مجدداً ساحة لصراع بالأسلحة الثقيلة مدفوعٍ بأجندات إقليمية. إلى جانب المخاوف من طبيعة الإدارة التي ستحكم المدينة في ظل قيادة هيئة “تحرير الشام”. وما بين سيناريوهات مرعبة وأخرى متفائلة، يبقى لفسحة الأمل مكانٌ، بعد ثماني سنوات أرهقت الحلبيين ودفعتهم لليأس من أي رهان إيجابي مرتبط بإدارة نظام الأسد.
المدن
—————————-
تحرير الشام تلعب أوراقها السياسية بوجه أوراق النظام/ فراس فحام
الخميس 2024/12/05
5 أيام فقط هي المدة التي استغرقتها فصائل عملية “ردع العدوان”، المناهضة للنظام السوري، قبل أن تسيطر على غالبية مدينة حلب، وكامل محافظة إدلب، وتصل إلى أطراف مدينة حماة وسط البلاد، لترتفع معها حدة الاشتباكات نظراً لانتشار “الفرقة 25” بقيادة سهيل الحسن، في حماة وريفها الذي يقطنه عشرات الآلاف من الطائفة العلوية، وتعتمد الفرقة عليهم في الغالب لرفد كتائبها بالمقاتلين.
استكملت القوات المهاجمة خلال يومين السيطرة على مناطق متفرقة من ريف حماة الشمالي والغربي، ووصلت صباح اليوم الخميس، إلى جبل زين العابدين الذي يبعد عن مدينة حماة قرابة 6 كيلومترات، وفي قمته ثكنة عسكرية تتبع للفرقة 25، وفي حال السيطرة عليه سيكون الطريق ممهداً بشكل كبير لدخول المدينة.
اتصالات مع السلمية ومحردة
وفق مصادر ميدانية مطلعة، فإن غرفة العمليات التابعة للمعارضة السورية تجري اتصالات مع مدينتي السلمية ومحردة، التي يقطنها منتمون للطائفتين المسيحية والإسماعيلية، من أجل تحييدها عن المواجهات، وإعطاء تطمينات للسكان المحليين.
وفي حال سيطرت الفصائل على مدينة حماة، سيكون الطريق ممهداً بشكل كبير من أجل الوصول إلى ريف حمص الشمالي، والحديث هنا عن منطقتي الرستن وتلبيسة، التي تضم مقاتلين معارضين للنظام السوري، سبق وأن أجروا تسوية لوضعهم عام 2019، لكنهم فيما يبدو يتجهون للعودة إلى السلاح من أجل وصل مناطقهم مع مدينة حماة التي وصلتها فصائل المعارضة من جهة إدلب.
مجهود سياسي للهيئة
مع دخول فصائل المعارضة السورية إلى مدينة حلب، بدى واضحاً أن هيئة تحرير الشام المنخرطة ضمن عملية “ردع العدوان”، تبذل مجهوداً سياسياً لدعم العملية العسكرية، حيث أصدرت عدة بيانات تطمئن من خلالها المسيحيين القاطنين بعض أحياء مدينة حلب مثل العزيزية والسليمانية والسريان، بأنها لن تتدخل في حريتهم الدينية وثقافتهم، كما أكدت مصادر أهلية أن قيادة الهيئة حظرت على عناصرها الاحتكاك مع سكان هذه الأحياء، أو الاقتراب من متاجر بيع المشروبات الكحولية.
أيضاً، أصدرت الإدارة السياسية التابعة لتحرير الشام بيانات ناشدت فيها سكان محردة بريف حماة، الذين يدينون غالباً بالمسيحية، بعدم الإصغاء إلى دعاية النظام السوري، وأكدت أنها لن تتعرض لهم، خاصة مع اقتراب العمليات العسكرية من المنطقة.
المفاجأة الأكبر ما نقلت مجموعة الأزمات الدولية عن زعيم الهيئة الجولاني من تأكيدات حول استعداده لحل التنظيم، وتمكين البنى المدنية والعسكرية.
ونقلت المجموعة عن الجولاني قوله: :سيحكم مدينة حلب هيئة حكم انتقالية، وسيغادر المقاتلين المدينة خلال أسابيع”.
عودة مؤسسات الدولة لحلب
وبحسب ما أكدته مصادر ميدانية، فإن الإدارة المدنية المكلفة بالإشراف على مدينة حلب، طلبت من مؤسسات الدولة وقوات الأمن والشرطة العودة إلى أعمالها في غضون أيام، حيث ستتولى الشرطة المدنية الإشراف على بسط الأمن، بالتوازي مع مغادرة عناصر الفصائل.
الأوساط المقربة من تحرير الشام تتحدث عن ضرورة تبديد المخاوف الدولية، وبالتالي لا تمانع من الذوبان مستقبلاً ضمن تشكيل عسكري يضم باقي فصائل إدارة العمليات المشتركة التي تخوض معركة “ردع العدوان”، وقد كان هذا السيناريو مطروحاً من قبل المواجهات الحالية لكن حالت دونه بعض العقبات التنظيمية.
من الواضح أن تحرير الشام تدرك أهمية الأوراق السياسية في معركتها مع النظام السوري، الذي روج لسنوات طويلة بأنها ضمانة لاستمرار الطوائف المختلفة في سوريا، والمدافع عنهم ضد “المتطرفين والتنظيمات الإرهابية”، ولذا تحاول فيما يبدو أن تقدم سلوكاً مقبولاً لتجنب الضغوطات الدولية، وربما تتأمل أيضاً أن تصل إلى مرحلة رفعها من على قوائم التنظيمات الإرهابية خاصة في الولايات المتحدة.
———————-
انتفاضة أبو العلاء المعرّي في الشمال السوري/ حسام فران
05.12.2024
داس جنود النظام السوري بجزماتهم على ضريح المعرّي، وثقبوا جدران مقام العقل بالرصاص، وكأنهم يقتلونه بعد موته للمرة الثانية بعدما قتله التكفيريون بقطع رأسه قبل أكثر من عشر سنوات.
عُرف عن أبي العلاء المعرّي اعتزاله الناس في حياته، وانكبابه على الشعر والفلسفة. وهو وإن كان حاول أن يبتعد عن الناس، إلا أن مريديه كانوا كثراً، خصوصاً من يجتمعون حوله للنهل من معرفته وعلمه. عاش الرجل ثمانية عقود، أمضاها بمعظمها في معرّة النعمان، البلدة الصغيرة في الشمال السوري، وسُميّ بالمعري نسبة إلى المعرّة، التي ولد فيها ومات ودُفن.
كان المعرّي كفيفاً، لكنه كان ذا بصيرة عظيمة، وقد رأى بعقله ما عجز كثيرون عن رؤيته بأعينهم.
كان يقدّس التفكير وينبذ التكفير، وهو القائل “لا إمام سوى العقل”.
حمل في حياته فلسفة متشائمة، ذهبت به إلى حد أن يوصي بوضع عبارة “هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد” على قبره. ومع أن العبارة في بعدها الفلسفي مفهومة، إلا أنها أيضاً حقيقية في معناها الحرفي. فالمعرّي لم يجن على أحد في حياته، ولم يؤذِ أحداً أو يعتد على أحد. كان شاعراً وفيلسوفاً مسالماً، ينشد الوحدة ليكتب عشرات الكتب التي لم يصل إلينا منها سوى القليل، أشهرها ربما “رسالة الغفران”، وكتابه الذي شرح فيه ديوان المتنبي “معجز أحمد”.
لم تشفع له العبارة المكتوبة على ضريحه، لا عند النظام السوري ولا عند بعض المعارضة السورية.
في العام 2013، قطع مسلحون متشددون وتكفيريون رأس تمثال المعرّي في معرّة النعمان، وشوّهوا قاعدته، وأطلقوا الرصاص عليه. انتقم هؤلاء من فيلسوف بحجم المعرّي، لأنه لم يتردد في انتقاد التعصب الديني بقسوة، وهو القائل: “اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين وآخر ديّن لا عقل له”.
قطع مسلّح ميليشياوي يحمل رأساً بلا عقل، رأس تمثال صاحب العقل، في ترميز يطرح أسئلة عن سلوكيات من ينسبون أنفسهم إلى الثورة السورية، خصوصاً الميليشيات التي تحمل بذوراً سلفية، كجبهة “النصرة” سابقاً، التي بدّلت ملابسها وخطابها حالياً مع زعيمها أبو محمد الجولاني، الذي تربّى على يدي أبو مصعب الزرقاوي وبايع سابقاً أيمن الظواهري وأسامة بن لادن. وانتسب إلى “القاعدة” و”داعش” قبل تأسيس “النصرة”، وتحوّلها إلى “هيئة تحرير الشام”. في 2013، حمّل ناشطون سوريون المسؤولية لـ”جبهة النصرة” واتهموها مباشرة بقطع رأس المعرّي.
واليوم بعد أكثر من 11 عاماً، وفي سياق مواجهته مع “هيئة تحرير الشام”، يهاجم النظام السوري ضريح المعرّي في المعرّة، ويعتدي على صاحب المقام في قبره، وينهب محتوياته، منتقماً من أهل هذه القرية الذين انتفضوا ضده، في تطبيق لمنهج المعرّي الذي اعتمده في حياته والمتلخص بـ”الثورة”، بما تعنيه هذه الكلمة من تحرّر من الظلامية والقهر والكبت وقيود العقل والملازم التي تحدّ التفكير.
يفرغ الطرفان المتطرّفان، خلال صراعهما للاستحواذ على السلطة في سوريا، حقدهما وجهلهما على رجل عاش قبل ما يقارب الألف عام، ومات وهو على يقين أن الكرة الأرضية عبارة عن مقبرة هائلة، فينبّهنا: “خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذي الأجساد”.
لكن النظام السوري وعسكره وميليشياته، لم يخففوا الوطء على ضريح المعرّي. إذ داسوا بجزماتهم على ضريح المعرّي، وثقبوا جدران مقام العقل بالرصاص، وكأنهم يقتلون المعرّي بعد موته للمرة الثانية بعدما قتله التكفيريون بقطع رأسه قبل أكثر من عشر سنوات.
لكن المعرّي، إلى أهمية تمثاله وضريحه، نهج وأفكار وفلسفة حياة. وهو بمجرّد وجود من يحيي ذكره عبر قراءة نتاجه الشعري والفلسفي، ينتفض وينفض عن نفسه الموت كما لو أنه يهتف من باطن قبره مع المتنبي: “كم قد قتلت وكم قد مت عندكم/ ثم انتفضت فزال القبر والكفنُ”.
درجة
————————-
لا تكريس لتقسيم سوريا… ولا إنهاء لحروبها/ غسان حجار
5 كانون الأول 2024
تعود سوريا لتتصدّر واجهة الأحداث في المنطقة بعد وقف النار في لبنان. والوضع السوري أشد خطورة من حرب إسرائيل على لبنان، إذ تتداخل فيه صراعات الدول والمحاور، وهو الصراع المتفجر على رزمة مصالح متداخلة ومتضاربة، إضافة إلى تصفية حسابات إقليمية، وحروب آخرين تخاض على حساب الشعب السوري. الأوضاع في سوريا لم تتبدل منذ عام 2012، بل ازدادت سوءاً، بعدما انهار الوضع الاقتصادي والمالي على نحو غير مسبوق، دفع الرئيس السوري قبل يومين إلى إعطاء زيادات على الرواتب للجنود المتعبين والمهزومين نفسياً واجتماعياً. بعد مرور 12 عاماً على تحذير الرئيس السوري بشار الأسد من أن بلاده تواجه خطر التقسيم، ورغم محاولات الانفتاح على دنيا العرب، وخصوصاً على دول الخليج، والانخراط مجدداً في جامعة الدول العربية، عادت الأمور إلى الوضع المتفجّر الذي ينذر بتداعيات أشد خطورة دفعت روسيا إلى التدخل بقوة، وإيران إلى التأهب وتحريك أذرعها من العراق ولبنان، لإسناد النظام المترجّح في السياسة والأمن، لا إسناد قطاع غزة هذه المرة، بعدما استنفدت حرب الإسناد هدفها، وأدت إلى دمار لبنان، واغتيال أصحابها ومطلقيها ومحركيها. وإذا كان الخطر لا يتهدد النظام السوري فحسب، بل الشعب والدولة، فان التقسيم ليس أمراً عارضاً لسوريا أو لدول الجوار، وللمنطقة كلها، لأن تداعياته ستتوسع إلى كل نتائج اتفاق سايكس – بيكو الذي وزع الإقليم على دول وكيانات عدة لم تنضج ظروف تحولها دولا ديموقراطية حقيقية، بل عانت الانقلابات والحروب الداخلية العبثية، وصراعات في ما بينها. واتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916 هي معاهدة سرية بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا على اقتسام منطقة “الهلال الخصيب”، لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت مسيطرة على المنطقة في الحرب العالمية الأولى، وقد استمرت مفاعيلها منذ ذلك الحين، رغم تبدلات ومتغيرات طرأت تكراراً من دون أن تمسّ أصل الاتفاق. إن أي تلاعب حالي بأي من الخرائط، سيستدعي إعادة النظر في مجملها، ما يعني تقسيماً جديداً لا يمكن قيامه جغرافياً بسبب توزع جديد للقوى، ودخول أطراف جديدة على الخط، وتداعيات لا يمكن أن تقتصر على الجغرافيا السورية. لكن المؤكد أن الحرب لن تتوقف قبل توزع جديد للقوى والنفوذ. وإلى ذلك الحين، ستستمر الحروب، وسيسقط مزيد من الضحايا.
النهار العربي
—————————–
درس حلب/ رستم محمود
الشرخ العمودي يصيب المجتمع السوري
آخر تحديث 05 ديسمبر 2024
في مثل هذه الأيام بالضبط، قبل ثماني سنوات، أُخرجت “الفصائل السورية”، ومثلهم آلاف المدنيين المعارضين من شرق مدينة حلب، بعد ست سنوات من سيطرتها على قرابة النصف الشرقي من المدينة. خلال هذه السنوات الطويلة، حدثت معارك ضارية، وتبادل الطرفان أشكالا من الحصار المديد، حُطمت خلالها أدنى القيم والاعتبارات الإنسانية، فقد بسببه آلاف الأطفال وكبار السن حياتهم، جراء الجوع والبرد، إذ فُقدت أدنى مستلزمات الحياة الضرورية، مثل الوقود والأدوية، ورغم كل التدخلات وأشكال التفاوض، لم يُحسم الملف إلا بحرب شديدة القسوة، بلغ ضحاياها الآلاف.
كانت أحداث شرق حلب وقتئذ درسا قاسيا في الشأن السوري، وخلاصة واضحة عن الكيفية التي صُممت حسبها “المعادلة السورية” كنموذج مشيد على مزيج من العدمية الأخلاقية والصفرية السياسية، وتعبيرا عن جاهزية كل الأطراف لإلغاء أي نزوع للسياسة أو الدبلوماسية.
اليوم، يُستعاد الأمر نفسه، وبمقدمات تؤشر إلى عنف وقسوة منتظرة، وإن مستقبلا، ستتجاوز كل ما حدث من قبل. فأطراف الهيمنة اليوم ستصبح متساوية من حيث القوة والدعم الإقليمي، وربما الشرعية، ودون شك لن تقبل بأية تنازلات متبادلة، وتاليا ستفتتح فصلا جديدا من حرب طويلة، تستعيد فيها هيمنتها على مجتمعاتها المحلية، وتبُسط سلطتها القائمة على عنف مفتوح دون أي أفق سياسي أو اقتصادي أو حياتي.
هجوم الفصائل “الجهادية” و”المعارضة” على مدينة حلب، واندحار الجيش السوري، يعيد تأكيد ثلاث حقائق رئيسة، كانت قد حدثت وتضافرت قبل ست سنوات، وأدت إلى انبلاج “مأساة حلب” وقتئذ، وهي تتكرر راهنا بنفس الآلية والشكل، ما يؤكد طبيعتها “المنطقية”، المستعادة مرة بعد أخرى، وتاليا جدارتها بأن تكون “درسا”. فهزيمة قوات الحكومة السورية عسكريا راهنا هي نتيجة طبيعة لتعنته السياسي طوال سنوات كثيرة، فصلت بين هيمنتها على أغلب المناطق الحيوية من سوريا منذ عام 2016 والراهن. فدمشق تصرفت على أساس أن “ليس من مشكلة سياسية في البلاد”، وأن الأمر مجرد “إشكال أمني”، آملا في عودة سوريا إلى ما كانت عليه في عام 2011، مشيدة كل رؤيتها وسلوكها حسب ذلك.
خلال هذه المرحلة، فشلت كل أنواع الوساطات والمؤتمرات والتحولات الإقليمية والدولية في دمشق لتغيير استراتيجيتها تلك، فوقعت سوريا في مواجهة كل القوى الدولية وأغلب الدول الإقليمية، ومارست أشكالا لا تُعد من الابتزاز بحق المجتمع السوري، حتى إنها صارت تستخدم “حقها” الحصري في إصدار الأوراق الرسمية، تحديدا “وثائق السفر” كـ”ضريبة غلبة” على السوريين الخضوع لفروضها البيروقراطية والسياسية والمالية. وأدى ذلك السلوك النافي لكل سياسة إلى الهزيمة الراهنة، لأنه بني على مجموعة من الأوهام.
وغالبا سيفعل المهيمنون الجدد الكثير من ذلك، لأنهم يمنون النفس بهيمنة مطلقة على سوريا، ومجتمعاتها وخيراتها وشرعيتها، وهو ما لن يسلم من ملاقاة المصير الذي لاقته الحكومة السورية نفسها، ولو بعد حين، لأنها فعليا لم تنتج إلا ذلك طوال مسيرتها منذ ثلاثة عشر عاما.
إلى جانب ذلك، فإن الهزيمة الراهنة هي نتيجة لتبدلات وصفقات ذات طابع إقليمي واضح. فكما كانت الفصائل المسلحة داخل مدينة حلب قبل ست سنوات ضحية التفاهمات الإقليمية الروسية/ الإيرانية مع تركيا، حيث عقدت هذه الأخيرة صفقة على حساب الفصائل من أجل احتلال إقليم عفرين وإخراجه من قبضة “قوات سوريا الديمقراطية” لاحقا. فإن الانهيار الميداني الراهن لقوات الجيش السوري هو نتيجة طبيعية لتقلص نفوذ إيران الإقليمي، وغالبا تفككه، بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على أذرعها.
وبهذا المعنى، يقول “درس حلب” في واحد من فصوله إن الرعاية الإقليمية، وحتى الدولية، لن تكون مفيدة إلا في مرحلة أو سياق واحد فحسب، وكل طرف يبني رؤيته على أساس ديمومة تلك الرعاية الإقليمية وصلاحها الدائم، سيدفع أثمانا باهظة لذلك.
أخيرا، فإن “درس حلب” هو إشارة واضحة إلى الشرخ العمودي الذي يصيب المجتمع السوري، أو المجتمعات السورية بتعبير أدق. فحين كان ناس شرق حلب يواجهون أقسى أشكال الحصار والحرب في شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2016، كان أناس آخرون من سوريا، بما في ذلك سكان ومجتمعات مدينة حلب، يعتبرون الأمر “نصرا سياسيا وعسكريا”، لا يتورعون عن الاحتفال والفرح بـ”خلاصهم” من جهات كانت تقصف المدينة بقذائف عشوائية طوال سنوات.
اليوم يصح الأمر، وإن بصورة معكوسة. لأجل ذلك، فإن كل من يتخيل أن المسألة مجرد “غلبة عسكرية”، وأن المجتمعات في النهاية ستوافقه على رؤيته السياسية، إنما يبني “صرحا من خيال”.
المجلة
—————————-
أيام «ردع العدوان» في دمشق/ هيا علّام
ترقّب وشائعات وتشديد أمني وسط حياة تبدو طبيعية
05-12-2024
مرّ أسبوعٌ كامل على بدء معركة «ردع العدوان»، بَدَت أيامهُ وكأنها يوم واحد طويل لم يستوعبه السوريون بعد. في دمشق، تبدو الحياة اليومية اعتيادية عند النظرة الأولى؛ الطرقات مزدحمة والحياة مستمرة، ولم تحدث بعد أي أعمال عسكرية أو اشتباكات مؤكدة، لكن الشائعات تنتشر كالنيران وسط الخوف والترقُّب الذي يعيشه السكان اليوم.
قبل «ردع العدوان» كان سكان دمشق يترقّبون بخوفٍ الغارات الإسرائيلية التي كانت تطال مناطقَ سكنية في المزة وتنظيم كفرسوسة، لكن هذه المرة، ومباشرةً بعد قرار وقف إطلاق النار في لبنان، نزلت أعينُ الترقّب من السماء إلى الأرض السوريّة.
توالت الشائعات خلال وقت قصير عن عمليات إطلاق نار في دمشق، وعن عبوات ناسفة في ريفها، لتزيدَ من مستوى القلق الذي لم يجد وقتاً كافياً ليهدأ. ومع عدم تصديق السوريون لأي تصريحات أمنية رسمية، يعتمد الناس على بعضهم بعضاً كحلقة لتناقل الأخبار، وصَلَنا منها أن الأخبار عن إطلاق النار في دمشق كانت مجرد شائعة. أما العبوات الناسفة فما زالت حديثاً عابراً، وقد تكون مجرد أخبار مشوّشة باقية من أثر خبر عن انفجار عبوة ناسفة في صحنايا منتصف الشهر الماضي، وهو ما وقع بالفعل دون خسائر.
كما تُسمَع في دمشق شائعات مختلفة خلال اليوم الواحد. مثلاً تعطَّلَ سعيد (51 عاماً) يوم أمس 4 كانون الأول (ديسمبر) عن عمله في بلدة قدسيا بعد سماعه أخباراً متضاربة حول خروج مظاهرات ضد النظام في تلك المنطقة التي يسهل توقُّع انفجارها، كما سَمِعَ شائعات عن إطلاق نارٍ فيها. بعد ساعتين من سماعه تلك الأقاويل عرفَ أن شيئاً لم يحدث في قدسيا، وخسرَ يوم عمله بسبب تلك الشائعات.
لكن النصيب الأكبر من الشائعات خلال اليومين الأخيرَين كان لأخبار سَوق الشبّان إلى الخدمة الإلزامية والتعبئة العشوائية، والتي تتضارب بشأنها الأخبار بين أقاويل وتقارير صحفية ومُشاهدات عيانية.
عودة شبح الخدمة الإلزامية
في الأشهر الأخيرة، أصدرت حكومة النظام السوري تعديلات قانونية شملت المرسوم التشريعي رقم (20) لعام 2024، الذي نصّ على خفض سن الخدمة الاحتياطية من 40 إلى 38 عاماً. كما أُعلنت خطة لتسريح عشرات الآلاف من المكلّفين بالخدمة الاحتياطية، بِدءاً من تموز (يوليو) 2024 وحتى تشرين الأول (أكتوبر) 2025، بحيث تصل مدة الخدمة الاحتياطية إلى عامين فقط بحلول نهاية الخطة. أُتيحَ أيضاً للمكلّفين الذين يعانون من عجز جزئي دفعَ بدل نقدي قدره 3000 دولار، وفق ما أُعلِنَ في حزيران (يونيو) الماضي.
وبالفعل، تسرّحت بعض الدفعات كما هو مُقرَّر، لكن مصدراً مطّلعاً أكّدَ في تصريح خاص للجمهورية.نت أن أوامرَ أُصدرت لإيقاف العمل بالقرار بعد بدء معركة «ردع العدوان»، لكن دون أي بيانات رسمية مُعلَنة، وبذلك تعثّرَ تسريح بعضٍ ممن كانوا ينتظرون تسريحهم قريباً، وقد يُؤجَّلُ تسريحهم إلى عامٍ ونصف أو أكثر في حال لم تصدر أوامر رسمية بالاحتفاظ بهم لمدة أطول.
أحلام التسريح المُتبخّرة ترافقت مع حالة هلع بسبب انتشار شائعات تهويلية، تلقّفتها شبكات الأخبار العربية أيضاً، تُفيد بوجود عمليات سحب وتعبئة للشبان بشكل عشوائي للخدمة الإلزامية في مناطق ريف دمشق، وتحديداً جديدة عرطوز وما حولها. لذا تواصلنا مع شباّن في صحنايا القريبة من جديدة عرطوز، وفي أشرفية صحنايا أيضاً، ليؤكد لنا زامل (25 عاماً) أنه مارس عمله اليوم كالمعتاد في صحنايا والمناطق المجاورة لها، ولم يرَ سوى حاجز طيار في الساعة الثانية ظهراً، وجلَُّ ما فعله عناصر الحاجز هو النظر في هويات المارّة في السيارات، نافياً المعلومات التهويلية الواردة في تقارير صحفية.
مع ذلك، يُخبرنا زامل عن نشاط مكثّف وخاصةً في الليل لدوريات الأمن، لكن دون أن تشتبك بشكل مزعج مع المواطنين، لكنها قد تُعبّئ أي مُتخلّف عن الجيش يقع بين يديها كما يحدث في الأوقات المعتادة، مُضيفاً أن الحواجز مؤخراً تتّصف باللطف، أي أن عناصرها يتعاملون بلطف واحترام بشكل يَعتقد معه زامل أنه نوع من محاولة لتحسين الصورة وعدم نشر الهلع من الدوريات. كما حصلنا على معلومات مشابهة من سيدة تُقيم في جديدة عرطوز، نفت فيها ما أُشيع بشأن السحب العشوائي للشباب إلى الخدمة العسكرية في منطقة سكنها.
وفي جرمانا المكتظّة، أخبرتنا مصادر عدة أن الحواجز الطيارة موجودة بشكل دائم أصلاً، وأنه لا توجد حركة أو إجراءات أكبر من السابق، وما يزال هدف الحواجز الطيارة هو الأفراد المتخلفون عن الخدمة العسكرية، وهي لا تقوم بتعبئة عشوائية لكل من هبَّ ودب كما يُشاع. كما أخبرنا يوشع (31 عاماً) أنه قاد سيارته من جرمانا إلى المزة ذهاباً وإياباً، ولم يشهد أي حركة غير معتادة يوم أمس الأربعاء، لكنه لاحظ وجود حواجز طيارة أول أمس الثلاثاء (3 كانون الأول) في المناطق المركزية في دمشق قرب ساحة الأمويين.
حتى الآن لا توجد أي تأكيدات للتهويل الذي ينتشر حول التعبئة الطارئة للخدمة العسكرية دون تمييز بين مُؤجِّل ووحيد ومُتخلِّف عن الخدمة، لكن الشائعات تتزايد ساعة بعد أخرى بشكل بدأ يدعو الشبان للبقاء في بيوتهم. المؤكد إذن على هذا الصعيد أن أحلام التسريح من الخدمة قد تبخّرت بالنسبة لكثيرين، وأن الشبان عادوا للخوف من الخروج إلى الشوارع قبل إجراء اتصالات تؤكد خلو المنطقة من أي حواجز طيّارة.
عودة الحواجز الأمنية بعد غياب قصير
بعد منتصف عام 2023، أزالت حكومة النظام السوري عدداً من الحواجز الأمنية الرئيسية في دمشق وريفها. على سبيل المثال أُزيل حاجز جسر الرئيس قرب جامعة دمشق، إضافة إلى حواجز أخرى بالقرب من ساحة الأمويين وباب مصلّى، وكذلك حاجز جسر الكبّاس شرق العاصمة.
كانت تلك الخطوة فرجاً أمنياً عاشه سكان دمشق وريفها في حياتهم اليومية، لكن لُوحظت في دمشق عودة بعض الحواجز التي أُزيلت منذ فترة قريبة، ومنها حواجز صحنايا في ريف دمشق؛ وكذلك عودة التواجد العسكري والأمني داخل الغرف الاسمنتية الصغيرة قرب الحواجز، مع عدم وجود أي حركة واضحة أو عمليات تفتيش وتفييش حتى اليوم.
والغرف الأسمنتية هي مكعبات من الأسمنت لا تتجاوز مساحة الواحد منها متراً مربعاً، تكسوها ألوان العلم السوري، ويجلس فيها عناصر الحاجز للاستراحة والانتظار، أي أن وجود عسكري داخلها لا يعني أن هناك إيقافاً وتفتيشاً للسيارات بالضرورة. وكانت المكعبات الأسمنتية في بعض المناطق قد خَلَت تقريباً من الوجود العسكري دون أن تتم إزالتها. اليوم، تعود هذه المكعبات أو الغرف ليجلس داخلها عناصر الجيش بانتظار شيء ما، لكن دون أي حركة حتى الآن بحسب المشاهدات والمصادر.
يُخبرنا مصدر من منطقة جديدة الشيباني في ريف دمشق أن حواجز المنطقة بين ضاحية قدسيا وجديدة الشيباني عادت قبل «ردع العدوان»، أي أن عودتها ليست مرتبطة بالأحداث الجارية حالياً، وأن غيابها لم يستمر سوى بضعة أيام فقط، ويَعتقد المصدر أن الأمر متعلّق بالإجراءات الأمنية خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، فالحواجز التي تفصل بين دمشق وريفها عادةً ما تُدقّق في الهويات الشخصية بشكل جدي مع طرح الأسئلة، باعتبار أن بعض مناطق الريف بعيدة وخالية نسبياً ويمكنها إيواء أي مطلوب أو شخص من «أصحاب المشاكل» كما أسماهم المصدر.
الحياة الجامعية ومواصلاتها
لم تُخفَّف إزالة الحواجز من الازدحام المروري في دمشق، ولم تؤثر عودة بعضها -حتى الآن- على زيادة الأزمة. تعيش دمشق منذ فترة أزمة مواصلات شديدة يضطرُّ معها الموظفون وطلبة الجامعات إلى الوقوف ساعات بانتظار باصات وسرافيس تقلّهم إلى بيوتهم. أما بعد «ردع العدوان»، تقول لمى، وهي طالبة جامعية في جامعة دمشق، إنها استمتعت ليومين بركوبها الباصات بسهولة دون أن تضطر لركوب التكسي، حيث أن الازدحام كان أقل يومي الخميس والسبت الماضيين في بداية المعركة، لكن الازدحام عاد يوم الثلاثاء الماضي بحسب لمى أيضاً، أي بعد نحو أسبوع من بدء المعركة، وكأنَّ شيئاً لم يكن، «فالناس مضطرون لإكمال حياتهم، ولا يشعرون بالأمان اللازم للتعبير عن شعورهم بالخوف»، تقول لمى، وتضيف: «والله بخاف قول لدكتور الجامعة إني خايفة، ويقلي خايفة من مين؟ وتصير سيرة قدام الكل، ومدري مين بيكتب فيني تقرير. داومنا عادي».
انتبهت لمى لنقصٍ في الطلاب المداومين لا يلحظه بسهولة إلا من يذهب إلى الجامعة كل يوم، لتكتشف من مجموعة الدراسة على واتس آب أن زملاءها الذين غادروا قُبيل عطلة نهاية الأسبوع إلى محافظاتهم لم يعودوا خوفاً من أخطار الطريق، وتحدّثت عن زملاء لها من السويداء وسلمية، وقالت إن الطلاب الذين ذهبوا لزيارة ذويهم في محافظتي السويداء وحماة خائفون من العودة. لم تتخذ الجامعة أي إجراء خاص بحسب لمى، واستمر تسجيل أسماء الطلاب الغائبين عن الحضور ليتم فصلهم في حال تجاوز عدد الغيابات المسموح به وكأنَّ شيئاً لا يحدث.
انقطاع في الدواء، وارتفاع أسعار الأساسيات
لاحظ عصام، ربُّ عائلة (33 عاماً)، ارتفاعاً طفيفاً في الأسعار عند ذهابه لشراء مُستلزمات المنزل الغذائية يوم أمس، كما يُخبرنا أن الرفوف غير ممتلئة كما كانت، لذلك شعر بضرورة تموين ما يمكن تموينه اليوم قبل أن ترتفع الأسعار بشكل جنوني، خاصة مع الارتفاع الطفيف في الدولار والذي يتزايد يوماً بعد يوم.
رغم التأثير الواضح لعملية «ردع العدوان» على هذا الارتفاع، والذي جاء بعد استقرار طويل في سعر الصرف، ترى سارة، مُنتِجة محتوى (26 عاماً)، أن الارتفاع في الأسعار والمُسارعة إلى التموين لم يكن يحتاج ليحصل سوى إلى «نفخة هوا صغيرة» على حدّ تعبيرها، وذلك بسبب انقطاع الطُرُق بين سوريا ولبنان. ولبنان هو مصدرُ كثير من المنتجات الأجنبية التي تُساهم في حفاظ المنتج المحلي على سعره لتوفُّر ما هو أفضل منه، إذ ترتفع أسعار المنتجات المحلية كلّما انقطعت المنتجات الأجنبية التي تعتمد عليها طبقات معينة في دمشق رغم منع بعضها.
مع كل هذا، لا يمكن القول إن هناك أزمة سلع في دمشق اليوم، فالأسواق ما زالت على حالها ولا يوجد سوى فقدان طفيف يحتاج إلى انتباه خاص لمُلاحظته، ذلك أن القدرة الشرائية للمواطن السوري لا تُمكِّنه من التموين للطوارئ دون أن يفقد كامل موارده المالية خلال الأيام الأولى من الشهر بحسب رأي عصام.
أما عن الدواء، فمع خروج معامل أدوية حلب ومستودعاتها عن الخدمة، تُرجِّح الدكتورة ليان، العاملة بدوام كامل في إحدى صيدليات المدينة، فقدانَ الأدوية الأساسية للأمراض المزمنة، مثل السكري والضغط وأدوية أمراض الغدد في الفترة المقبلة. كما أن المستودعات في دمشق لم تعد تُزوِّد الصيدليات بالأدوية بالكميات المعتادة، وبدأت باحتكارها تجنُّباً لخسائر هائلة ما لم يتم إصدار نشرة أسعار جديدة، وهو ما لا تتوقعه د.ليان قريباً، نظراً لأن النظام السوري ما زال يتصرف وكأنه صامد، أو «كأن دمشق محمية بسورٍ لا يمكن اختراقه حتى نفسياً» بحسب ما قالته لنا ساخرةً.
الخوف بصمت، وبضعة أمل
لم تكد دمشق تتنفّس بعد الغارات الإسرائيلية المتتالية على المباني التي يقطنها، أو يُشاع أنه يقطنها، أفرادٌ من حزب الله، والتي تسببت بخسائر وضحايا بين المدنيين، ثم الترقب الذي عاشته المدينة انتظاراً لحرب مقبلة وغارات أشدَّ كثافة تفتك بأحياء المزة وكفرسوسة لتصفية عناصر حزب الله والفصائل الإيرانية، حيث يُدرك الدمشقيون جيداً أنهم يعيشون بينهم. لم يكن هناك وقت للشعور المؤقت بالأمان، لكن الحياة تستمر رغماً عن الخوف لعدم وجود خيارات أخرى.
المشي في شوارع دمشق اليوم لا يختلف عن أيامٍ مضت قبل أسبوع؛ الازدحام نفسه، الطبقات الاجتماعية المنفصلة عن بعضها بمسافات كبيرة ما زالت تملأ الرصيف نفسه، وأزمة الكهرباء والخوف الدائم والنظرات المتوجّسة من عناصر الأمن العسكري نفسها. لا أمل، ولكن بعضاً منه، ولا خوف كبير سوى ذاك الذي يُخالطه أملٌ في تغيير ما. تصف مايا (صحفية 24 عاماً) الأمر وكأن السوريين أدركوا فقط أنهم يعيشون داخل حلقة مفرغة، لا تبدأ من الثورة بل من دخول الفصائل المسلحة عليها، ولا تنتهي مع عودتها إلى التحرُّك مترافقة مع الخوف من قصف جوي من الولايات المتحدة أو إسرائيل، يُبيد ما تبقى من حياة قبل أن يشعر السوريون بأي حرية.
تُخبرنا مايا أننا لن نسمع شيئاً في الشارع، وما يريد السوريون قوله يقولونه على منصات التواصل الاجتماعي والمحادثات الخاصة: «لسه رجعنا نحكي بشو هي سوريا ومين هنن السوريين؟ وأنت مؤيد ولا معارض؟ (تضحك) وحياة الله حلقة مفرغة، بدك تعرفي الناس شو عم تحكي؟ ارجعي ع كلشي بـ2012 و2013، عم ينحكى نفسه ونفس الميمز حتى».
في نهاية المقابلة ابتسمت مايا وقالت: «بس يعني قديه حلو لو بلحق عيش سنة وأنا حرّة من تَخيُّلات شو عم يكتب عني جارنا المخابرات، وشو في بملفي الأمني عندهن».
موقع الجمهورية
————————————–
هل تغيّر خطاب هيئة تحرير الشام حقا؟/ يوسف موسى
5/12/2024
عاد الملف السوري إلى الواجهة بعد أكثر من 4 سنوات من الهدوء الذي تخللته عمليات محدودة تضمنت قصف الجيش السوري بالطائرات والمدفعية المناطقَ الخارجة عن سيطرته، إلى أن أطلق تحالف من الفصائل -أكبرها هيئة تحرير الشام– معركة “ردع العدوان”، فسيطر على كامل محافظتي حلب وإدلب، وأجزاء من محافظة حماة.
وكان من اللافت خلال المعركة التغيّر الملحوظ في الخطاب السياسي الذي تبنته غرفة “إدارة العمليات العسكرية” التي تقود المعركة، وأظهرته مجموعة من البيانات السياسية، منها ما هو موجّه داخليا للمجتمع المحلي، ومنها ما عبر الحدود إلى مخاطبة الدول.
وعلى اعتبار أن هيئة تحرير الشام -التي تُعدّ امتدادا لتنظيم “جبهة النصرة”- هي أكبر الفصائل في العملية العسكرية، فقد يساعد فهم التحولات التنظيمية والخطابية التي مرّ بها هذا الفصيل في فهم هذه اللحظة التي أعادت رسم الخريطة في سوريا وخلطت الأوراق من جديد.
فقد رافق التحول التنظيمي للهيئة على مرّ السنوات تغيّر في الخطاب السياسي، أدى بالمحصلة إلى تخليها عن كثير من أدبياتها التقليدية، وتبنيها خطابا وطنيا.
فما أبرز المحطات التي أثرت في الهيئة تنظيما وخطابا، وما مدى تأثير هذه التغيرات على معركة “ردع العدوان” الأخيرة؟
الإعلان عن جبهة النصرة
في أول فيديو منسوب إلى أبي محمد الجولاني، أعلن في يناير/كانون الثاني 2012 عن تأسيس “جبهة النصرة لأهل الشام”، وأشار إلى أنها تتبع لتنظيم القاعدة، كما ظهر في الفيديو مقاتلون من إدلب ودرعا وريف دمشق ودير الزور وحماة ومناطق أخرى وهم يبايعونه.
وذكر الجولاني في كلمته أن الهدف من تأسيس الجبهة هو “إعادة بسط سلطة الله على الأرض”، مستنكرا الدعوات إلى التدخل الخارجي في سوريا، حيث كان رائجًا في ذلك الوقت أن تهتف المظاهرات الثائرة مطالبة بفرض منطقة حظر جوي فوق سوريا لحمايتهم من طيران الجيش، ودعم فصائل الجيش الحرّ بالسلاح.
كان من الواضح أن الجبهة تستمد شرعيتها المحلية من الخطاب الديني، بينما تستمد شرعيتها العابرة للحدود من مبايعة تنظيم القاعدة، وقيل إن اختيار الجولاني آنذاك كان بتكليف من زعيم تنظيم الدولة في العراق أبي بكر البغدادي، بعد أن قدّم الأول مقترحا لاستغلال الثورة السورية التي انطلقت في مارس/آذار 2011، بهدف توسع التنظيم هناك.
ساهم ذلك في حضور جبهة النصرة في الثورة السورية بشكل قوي، بالإضافة إلى تبنيها عمليات تفجير استهدفت مواقع أمنية أبرزتها بشكل أكبر، منها تفجيرات استهدفت مراكز أمنية في دمشق وحلب وإدلب وغيرها، خصوصا التفجيرين اللذين استهدافا فرع فلسطين وفرع الدوريات الأمنيين بدمشق في مايو/أيار 2012.
الهزّة الكبرى
كانت أول صدمة مرّت بها الجبهة هي إعلان زعيم تنظيم الدولة أبي بكر البغدادي في أبريل/نيسان 2013 دمج “جبهة النصرة” مع تنظيمه، وتغيير اسمه إلى “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وهو ما تهكّم عليه الثوار السوريون يومئذ باختصاره في “داعش”، وهو الاسم الذي اشتهر عن التنظيم لاحقا.
أصدر الجولاني على إثر ذلك الإعلان كلمة صوتية، قال فيها: “نحيط الناس علما أن قيادات الجبهة ومجلس شوراها والعبد الفقير المسؤول العام لجبهة النصرة، لم يكونوا على علم بهذا الإعلان”، وأكد على أن بيعة الجبهة لن تكون إلا لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري. وأكد على ذلك دعم الظواهري للجولاني، فقد قرر في رسالة مكتوبة نشرت في يونيو/حزيران 2013، وكلمة صوتية لحقتها بعد عدة أشهر، إلغاء الاندماج بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة.
أدت هذه الهزة إلى خسارة جزء كبير من المقاتلين المنضوين في جبهة النصرة لصالح تنظيم الدولة، خصوصا أن الجولاني استخدم خطابا يمكن وصفه بأنه “غير حازم” في التعامل مع تنظيم الدولة، حيث صرّح في إحدى مقابلاته على قناة الجزيرة بأن الخلاف بينهم وبين التنظيم “هو كالخلاف داخل البيت الواحد”.
ما سبق أضعف الهيكل التنظيمي للجبهة، كما أن المعركة المفصلية التي أطلقتها فصائل الجيش السوري الحر مطلع عام 2014 لطرد تنظيم الدولة من مناطق اللاذقية وإدلب وحلب، وأدت بالمحصلة إلى انسحابه إلى شرق حلب وصولا إلى الحدود مع العراق، أدت إلى خسارة جبهة النصرة كبرى مقدراتها من حقول النفط في المنطقة الشرقية، بالإضافة إلى ما خسرته من مقاتلين ومقرّات ومخازن أسلحة وعتاد وآليات. هذا الضعف، أدى في المحصلة إلى انحسار دور جبهة النصرة نسبيا في المنطقة.
بداية التحول
بعد المعارك التي دفعت تنظيم الدولة إلى الانحسار في مناطق شرق سوريا، اتجهت جبهة النصرة إلى بناء نفسها من جديد، دون أي تغيير على المستوى الهيكلي أو العقائدي، وتمكنت من إعادة قوتها وسيطرتها وبناء قوتها العسكرية عبر الهجوم على فصائل محلية، مثل جبهة ثوار سوريا بقيادة جمال معروف في يوليو/تموز 2014، معتمدة في التحشيد للمعركة على أنها تهاجم مفسدين وقطاع طرق، كما تبعها هجوم على حركة حزم في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بحجة أنها آزرت جبهة ثوار سوريا، واستمرت الاشتباكات بشكل متقطع بين الفصيلين حتى إعلان حزم حلّ نفسها وانضمامها إلى الجبهة الشامية في مطلع مارس/آذار 2015.
وفي منتصف عام 2016، ظهر أبو محمد الجولاني حاسرا اللثام عن وجهه، في مقطع مصور، يعلن فك الارتباط عن تنظيم القاعدة، وتغيير اسم جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام.
كان للسياق أثر كبير على قرار فك الارتباط، فتنظيم الدولة -الذي وصفه الجولاني سابقا بأنه من عائلة جبهة النصرة- قد تشكل تحالف دولي ضده بقيادة الولايات المتحدة يستهدف مناطق سيطرته، كما أن حلب كانت قاب قوسين أو أدنى من حصار تطبق به قوات الحكومة السورية وحليفتيها روسيا وإيران عليها، وبالتالي فإن احتمالية خسارتها واردة، مما يعني خسارة أهم مركز مديني للثورة، وانحسار المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية إلى إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي.
يظهر السياق أن قرار فك الارتباط كان يحمل أهدافا على مستويين: الأول محلي، من خلال توسيع القبول المجتمعي للجبهة لدى المجتمعات والفصائل المحلية باعتبارها فصيلا وطنيا، والثاني دولي، أملا في أن ترفع الدول التي تصنف الجبهة على أنها تنظيم إرهابي تصنيفها.
إلا أن هذه الآمال وُوجهت بصخرة صلبة على أرض الواقع، فالفصائل المحلية استمرت بالتعامل مع الجبهة الناشئة حديثا بناء على خلفيتها القاعدية، كما أن الدول أعلنت -منذ إعلان فك الارتباط- أن جبهة فتح الشام ما تزال على قوائم الإرهاب. كل هذا دفع إلى الخطوة التالية.
زعيم جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) أبو محمد الجولاني
بجهة النصرة غيّرت اسمها إلى جبهة فتح الشام قبل أن تندمج مع فصائل أخرى في “هيئة تحرير الشام” (الجزيرة)
تأسيس هيئة تحرير الشام
أعلن عن تأسيس هيئة تحرير الشام في يناير/كانون الثاني 2017، من اندماج عدة فصائل منها: جبهة فتح الشام، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنة، ولواء الحق، وحركة نور الدين الزنكي، في المناطق التي كانت متبقية خارج سيطرة النظام شمال غرب سوريا، بعد وقوع التهجير القسري من مدينة حلب في نهاية 2016 بأقل من شهر، مما يعني أن المناطق الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة قد انحسرت، بل إنها خسرت أهم نقاطها التفاوضية، وهي مدينة حلب.
يومئذ عملت الهيئة المحدثة مؤخرا بمنطق نفعي براغماتي، إذ بدأت -وبهدف بسط سيطرتها الكاملة على المنطقة- بالهجوم على الفصائل غير المنضوية تحت لوائها. فبعد الإعلان عن تشكيلها بأقل من شهر، هاجمت مواقع جيش المجاهدين في ريف حلب الغربي، وتوسعت إلى الهجوم على صقور الشام في جبل الزاوية جنوب إدلب، وجيش المجاهدين المتمركز قرب بلدة بابسقا القريبة من معبر باب الهوا الحدودي، وتمكنت من تفكيك هذه الفصائل والسيطرة على مناطقها وأسلحتها وذخائرها.
كما بدأت في يوليو/تموز 2017 هجوما ضد حركة أحرار الشام، وأدت الاشتباكات في النهاية إلى توقيع اتفاق وقف إطلاق نار، انسحبت بموجبه أحرار الشام إلى مواقعها في ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي، وسيطرت الهيئة على معبر باب الهوا الحدودي، مما جعل العائد المالي من المعبر يصبّ في خزائنها.
وأخيرا كان هجومها على حركة نور الدين الزنكي التي كانت بالأصل من مكوناتها، لكنها قررت الانشقاق إلى صفوف الجبهة الوطنية للتحرير في أغسطس/آب 2018، حيث بدأ الهجوم مطلع عام 2019 على دارة عزة ليمتد إلى قبتان الجبل، المعقل الرئيس لحركة نور الدين الزنكي، لتنتهي الاشتباكات بتوقيع وقف إطلاق نار قضى بانتقال مقاتلي الزنكي إلى ريف حلب الشمالي، حيث سيطرة الجيش الوطني.
وكانت بقايا كتائب حركة أحرار الشام التي قوتلت سابقا في 2017 قد ساندت حركة نور الدين الزنكي في قتالها مع الهيئة، مما دفع الأخيرة للتوجه إلى قتال الحركة في مواقعها بريف حماة الشمالي بعد الانتهاء من معركتها مع الزنكي، وانتهت المعارك بسيطرة هيئة تحرير الشام على كامل المنطقة في يناير/كانون الثاني 2019.
وفي منتصف عام 2020، وفي سياق التخلي عن منهاجها السابق، صعّدت هيئة تحرير الشام مواجهتها مع تنظيم “حراس الدين” الذي كان قد أعلن تبعيته لتنظيم القاعدة، بعد فترة من تبني سياسة الاحتواء تجاهه. وجاء التصعيد عقب محاولات التنظيم تعزيز تحالفاته مع منشقين عن الهيئة وفصائل أخرى، فشنت الهيئة حملة أمنية واسعة عليه، شملت مداهمة مقاره واعتقال عدد من قادته، وأجبرت “حراس الدين” وحلفاءه على إغلاق قواعدهم وتسليم الأسلحة الثقيلة والانسحاب من خطوط المواجهة.
ويظهر تسلسل الأحداث أن هيئة تحرير الشام عملت بشكل ممنهج على القضاء على أي منافس محتمل لها في المنطقة، لتغدو هي الحاكم الوحيد لها، كما أنهت كل أشكال “التطرف” في صفوفها بسياسة الاحتواء، وفي المنطقة بالهجوم على من يحاول إظهار نفسه كقوة منافسة.
قوات المعارضة تخوض معاركة ضارية مع الجيش السوري على مشارف حماة (الأناضول)
الإدارة المدنية.. نموذج الحوكمة
في أغسطس/آب 2017، أطلق عدد من الأكاديميين مبادرة حملت اسم “الإدارة الذاتية في المناطق المحررة”، بهدف تأسيس حكومة مدنية لإدارة المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، وأسفرت هذه المبادرة عن تنظيم “المؤتمر السوري العام نحو إدارة مدنية في المناطق المحررة”، الذي شكل نقطة انطلاق لتأسيس “حكومة الإنقاذ”.
تولت “حكومة الإنقاذ” -المدعومة من هيئة تحرير الشام- مهام الإدارة المدنية، حيث سلّمت الهيئة جهاز الشرطة إليها مع الاكتفاء بالإشراف عليها. وسعت الحكومة إلى تعزيز وجودها المجتمعي عبر تنفيذ مشاريع إستراتيجية، مثل إنشاء مدينة صناعية، وتنظيم قطاعات الاتصالات والمياه، إلى جانب إصلاح الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي، وتقديم قروض زراعية لدعم المزارعين.
كما عملت الحكومة على تنظيم الشؤون العسكرية من خلال إنشاء ألوية وكلية عسكرية، إلى جانب تنظيم عمل منظمات المجتمع المدني واستخراج التراخيص اللازمة لمزاولة الأنشطة المختلفة. تأتي هذه الجهود في إطار مساعي هذه الحكومة لإثبات قدرتها على إدارة المنطقة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وأظهرت سنوات نشاط حكومة الإنقاذ منذ تشكيلها أنها تمكنت من تأسيس نظام حوكمي ناجح إلى حد كبير في المناطق الخاضعة لنفوذها.
أما على صعيد الخطاب السياسي، فقد شكلت حكومة الإنقاذ إدارة للشؤون السياسية منذ أبريل/نيسان 2022، وكانت مختصة بصياغة ونشر البيانات السياسية التي تمثلها، وكان أول بيان سياسي نشرته في معرّفها على “إكس” تعليقا على مجزرة التضامن التي انتشر مقطع فيديو لها حينها يظهر عددا من جنود الجيش السوري يعدِمون ميدانيا عددا من المعتقلين السوريين والفلسطينيين، ويلقونهم في حفرة بحي التضامن في دمشق. ونشرت بعدها عددا من البيانات السياسية في أحداث وقضايا محلية وإقليمية وعالمية مختلفة.
وأثار هيمنة الإدارة المدنية لهيئة تحرير الشام -المتمثلة في حكومة الإنقاذ- على منطقة شمال غرب سوريا، تخوفا لدى المنظمات غير الحكومية والمجتمع المحلي من انحسار تدفق الدعم الدولي على المنطقة، مما يؤثر بشكل سلبي على حياة ملايين المهجّرين والنازحين فيها، إلى أن أجرى الجولاني مقابلة تلفزيونية مع محطة “بي بي إس” الأميركية، يظهر فيها لأول مرة ببدلة رسمية بدل الزي العسكري المعتاد، ويشير إلى رغبة الهيئة في التخلص من تصنيفها على قائمة الإرهاب.
كان لهذه المقابلة أثرا إيجابيا على نظرة المجتمع المحلي لهيئة تحرير الشام، وقالت مجموعة من المحللين في مجموعة “إدارة الأزمات الدولية” إن الوقت قد حان لإزالة الهيئة من تصنيف الإرهاب وفتح قنوات تواصل معها، لأن الاستمرار بالتصنيف “يفاقم الأزمة الإنسانية”.
بيان #مجزرة_التضامن#إدارة_الشؤون_السياسية#سوريا pic.twitter.com/gp9MJKmDBr
— إدارة الشؤون السياسية – سوريا (@syriadpa) April 30, 2022
“ردع العدوان” والخطاب السياسي
أظهرت غرفة عمليات “إدارة العمليات العسكرية” انضباطا غير مسبوق عبر متحدث رسمي ومنصات موحدة لنقل المعلومات. ركز الخطاب الإعلامي على ربط العملية بالقصف المتكرر من الجيش السوري ومليشياته على مناطق المعارضة، وهو ما أكسبها شرعية محلية بالتصريح بأن هدف المعركة هو “حماية المدنيين وإبعاد نيران النظام”، كما أنه طمأن السكان في المناطق “المحررة حديثا” عبر توجيهات مباشرة من أبي محمد الجولاني لقادة الفصائل بالتعامل “بالرفق واللين” مع المدنيين وحفظ ممتلكاتهم، وتقديم ضمانات أمان للجنود الذين يختارون الانشقاق.
كما حرصت غرفة العمليات على توجيه رسائل إلى الأقليات، حيث أصدرت بيانات موجهة للأكراد دعت فيه لانسحاب العسكريين من مدينة حلب، مع التأكيد على حقوق المدنيين في البقاء ببيوتهم باعتبارهم مكونا أساسيا في المجتمع السوري وتقع مسؤولية حمايتهم على الفصائل العسكرية، كما طالبت -في بيان آخر- سكان بلدتي نبّل والزهراء الشيعيتين بعدم الانخراط في القتال، وتعهّدت بحمايتهم من أي استهداف، وأظهرت صور ومقاطع تداولها ناشطون أن الكنائس شهدت نشاطا دينيا طبيعيا، وأظهرت مقاطع مصورة أخرى مقاتلين يؤمّنون عودة عدد من العائلات الشيعية التي كانت عالقة في منطقة السفيرة بريف حلب الشرقي إلى بلدتهم.
وفي تحول لافت، دعت “إدارة العمليات العسكرية” -في بيان- روسيا إلى “عدم ربط مصالحها بنظام الأسد”، واعتبار الشعب السوري شريكا محتملا. كما توجّهت -في بيان مستقل آخر- إلى العراق، مطالبة “بعدم دعم النظام”، ومؤكدة أن الثورة السورية لا تهدد الاستقرار الإقليمي. كما أنه خصصت أرقام تواصل للبعثات الدبلوماسية في مدينة حلب لحماية موظفيها ومقارّها.
إعلان مهم من الجولاني
مؤخرا، صرّح الجولاني لمجموعة الأزمات بأن مدينة حلب ستخضع لإدارة هيئة انتقالية مع انسحاب المقاتلين، بمن فيهم عناصر هيئة تحرير الشام، خلال الأسابيع المقبلة. كما أشار إلى دعوة الموظفين الحكوميين لاستئناف عملهم، مؤكدا على احترام الأعراف الاجتماعية والثقافية المتنوعة في المدينة، سواء للمسلمين أو المسيحيين.
وأضاف الجولاني في تصريح مثير يحمل العديد من الدلالات، أن هيئة تحرير الشام تدرس خيار حلّ نفسها؛ بهدف تمهيد الطريق لدمج الهياكل المدنية والعسكرية في مؤسسات جديدة تُعبر عن التنوع الواسع للمجتمع السوري.
وكتبت المستشارة في مجموعة الأزمات الدولية دارين خليفة، في تغريدة على حسابها على منصة إكس، أنه بالنظر للتاريخ والجذور الجهادية لهيئة تحرير الشام، فإنهم سيواجهون “تحديا هائلا في معالجة المخاوف المفهومة التي يشعر بها العديد من السوريين، بشأن ما يتصل بتوسع هيمنة هيئة تحرير الشام، وتداعياتها على حرياتهم الشخصية والدينية”.
تزامنت هذه الخطوات مع ظرف سياسي مواتٍ محليا وإقليميا ودوليا، فروسيا -المنشغلة بحرب أوكرانيا- قد سحبت الجزء الأكبر من عتادها العسكري و”خبرائها” من سوريا، وأميركا تعبر الآن بين إدارتين ستسلم القديمة ملفات المنطقة للجديدة التي ستتعامل معها كأمر واقع بحسب ما تتغير الخرائط، أما تركيا فقد أفشل تعنت الرئيس السوري بشار الأسد كل محاولاتها لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، وإيران التي تواجه رفضا دوليا لوجودها في سوريا، حيث صرّحت واشنطن أن خروج المليشيات التي تدعمها إيران من سوريا هو شرط لإعادة الإعمار، كما وضعت السعودية شرط “ضبط العلاقة مع إيران” لدعم ملف إعادة الإعمار في سوريا، وهذا ما كان له تأثير كبير على سياق معركة “ردع العدوان”.
في النهاية، فإن التنظيم الذي تنوعت أسماؤه خلال مراحل نشاطه في الثلاثة عشر عاما الماضية، شهد تحولا من أقصى الطرف بخطاب أممي عابر للحدود إلى أقصى الطرف الآخر بخطاب وطني محلي، مما انعكس على نتائج معركة “ردع العدوان”، ويبدو أن هدف هذا الانتقال هو كسب الشرعية المحلية والدولية، وهو ما يعكس إستراتيجية جديدة تسعى الهيئة من خلالها لإعادة رسم دورها في المشهد السوري. ورغم العقبات، تشير هذه التحولات إلى محاولة جدية لإعادة ترتيب موازين القوى، عبر تغيير الخرائط وتوزع مناطق السيطرة، لفتح أفق جديد أمام مسار الأحداث في سوريا.
———————–
هل لا تزال دعوة أردوغان للقاء الأسد قائمة؟/ اسماعيل درويش
مراقبون: إيران تنظر بعين الشك لأي تقارب بين أنقرة ودمشق قد يهدد نفوذها في سوريا وموسكو تبحث عن تفاهمات جديدة
صحفي تركي
الخميس 5 ديسمبر 2024 16:49
لتركيا هدفان رئيسيان في سوريا، الأول إبعاد الجماعات الكردية المسلحة من حدودها، والثاني وضع أمني في سوريا يسمح بعودة اللاجئين، وإذا كان لقاء أردوغان والأسد سيسهم في معالجة هذين الهدفين فإن الدعوة لهذا اللقاء ستبقى قائمة، أما إذا وجدت أنقرة سبلاً أخرى لتحقيق هدفيها فبلا شك ستختار الطريق الأسهل، أو الأضمن في أقل تقدير.
الممنوع مرغوب كما يقول المثل الشعبي، بيد أن هذا يكمن في العلاقات الاجتماعية والعاطفية ويبتعد كل البعد من السياسة ودهاليزها، ولم يكن غريباً على زعيم طالما وصف بالبراغماتي مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يقول “إن السياسة ليست فيها صداقة دائمة ولا عداوة دائمة”.
جاء هذا التصريح لأردوغان منتصف العام الماضي بعد انتقادات وجهت له إثر إعلانه الرغبة في لقاء رئيس النظام السوري بشار الأسد، وهو نفسه (أردوغان) الذي كان يقول منذ 2011 إن “بشار الأسد ديكتاتور دموي يقتل شعبه ولا مستقبل له في سوريا”، ووصفه بأنه رئيس غير شرعي.
التغيير المفاجئ من أردوغان تجاه الأسد أغضب المعارضة السورية وخرجت تظاهرات في الشمال السوري تندد بالرغبة التركية في تطبيع العلاقات مع دمشق، وبعد مضي أكثر من عام ونصف العام على بدء مسار التطبيع لم يتحقق أي تقدم، كما لم يُعقد اللقاء الذي شغل حيزاً واسعاً من عمل الصحافيين والمهتمين.
اليوم تتغير المعادلة مرة ثانية، وما كان بالأمس القريب متاحاً ربما بات اليوم ممنوعاً. فهل لا تزال دعوة أردوغان للأسد قائمة؟ وهل تستمر روسيا في لعب دور الوسيط بين أنقرة ودمشق؟ وإلى أين تتجه الأمواج بالسفينة السورية؟
الموقف الرسمي: دعوتنا قائمة
القيادية في حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا آليكون تكين تقول لـ”اندبندنت عربية” إن “تركيا دعت بشار الأسد مرات عدة، وأردوغان قال إنه لا مانع لديه من عقد اجتماع معه، وتركيا طلبت أكثر من مرة من النظام الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع المعارضة السورية، وكل هذا ليس بالأمر السري بل أعلنه أردوغان في خطاباته على الملأ، وعلى الصعيد السياسي لم يتغير شيء حتى الآن، لذلك فإن الدعوة بطبيعة الحال لا تزال قائمة وتركيا ليست لديها أية رغبات توسعية بل على العكس تماماً، فنحن حريصون على سلامة ووحدة الأراضي السورية كاملة لكننا لن نقبل أي تهديد قد يواجه تركيا، كما أننا لا نريد موجة جديدة من اللجوء”.
وتضيف تكين أن “كل ما يقال بخصوص أن تركيا تقف وراء الأحداث الأخيرة في سوريا إشاعات بعيدة من الصحة تماماً، ما نريده ليس صراعات جديدة وإنما حل سياسي سلمي للقضية السورية، وقد سبق أن طالب أردوغان بتشكيل حكومة شاملة في سوريا وفتح حوار مباشر مع المعارضة السورية”.
وحول ما إذا كانت تركيا خرقت الاتفاقات المبرمة بخصوص سوريا، سواء مع الولايات المتحدة أو مع اللاعب الأساس بالملف السوري الجانب الروسي، تقول المسؤولة التركية “في الاتفاقات المبرمة التي توصل إليها كان هناك على سبيل المثال مطلبان لتركيا، هما إخراج التنظيمات الإرهابية من مدينتي منبج وتل رفعت لكن لم يتم الوفاء بأي من هذه الوعود، بالنسبة إلينا فإن تأمين الشريط الحدودي بعمق 30 كيلومتراً أولوية والنظام السوري شريك أساس مع التنظيمات الإرهابية مثل حزب العمال الكردستاني، كما شهدنا في بعض المناطق التي انسحب منها النظام وسلمها لعناصر التنظيم الإرهابي”.
محللون: نعم ولا
الصحافي في غرفة أخبار صحيفة “اندبندنت تركية” نوزت شيشك يقول إن “دعوة أردوغان للقاء الأسد لا تزال قائمة حتى اللحظة، وليس هناك مؤشر إلى خلاف ذلك”، فيما يستبعد المحلل السياسي التركي فراس رضوان أوغلو هذا اللقاء موضحاً لـ”اندبندنت عربية” أن “فكرة لقاء الأسد وأردوغان الآن أصبحت من الماضي. واقع الحال اليوم يفرض أموراً مختلفة، عندما مد أردوغان يده للأسد كان رد الأخير خشناً للغاية، وقال إنه سيرد النار بالنار ودعمته إيران بهذا القول، واليوم عدنا بصورة واضحة إلى مربع الاصطدام العسكري”.
ويضيف المحلل التركي “الآن إذا التقى أردوغان والأسد سيُفهم هذا على أنه تنازل من الأسد بعد الضربات التي تلقاها خلال الأيام القليلة الماضية. وفي تصوري أن المستقبل القريب لن يشهد لقاء بينهما وإن حصل فبعد فترة ليست بالقصيرة، وسيكون بعد مراحل سياسية عديدة إثر توقف الحرب ولو لفترة معينة”.
ويختم رضوان أوغلو حديثه بالقول “نحن ننتظر أيضاً التفاهمات الإقليمية والدولية بخصوص الحل السوري، فمن المتوقع أن تحصل تفاهمات خلال الفترة المقبلة بهدف إيجاد صيغة لحل سياسي في سوريا، وإذا تم الدفع باتجاه الحل السياسي والانتقال السلمي للسلطة فإن هذا اللقاء لن يحصل لا بالمدى القريب ولا البعيد”.
روسيا ودور الوساطة
الصحافي والباحث الروسي ديميتري بريكع يقول إن “روسيا وتركيا تعملان حالياً على إعادة صياغة العلاقات بينهما داخل سوريا في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها الشرق الأوسط، فمن جهة تسعى روسيا إلى تحقيق استقرار سياسي طويل الأمد يحمي مصالحها الاستراتيجية، ومن جهة أخرى تحاول تركيا تقليل التهديدات الحدودية وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين الذين يشكلون تحدياً داخلياً متزايداً، ومع ذلك فإن هذا التعاون محفوف بتناقضات عميقة بسبب تداخل المصالح بين الطرفين واللاعبين الآخرين مثل إيران والفصائل المسلحة في الشمال السوري”.
ويوضح بريكع لـ”اندبندنت عربية” أن روسيا “منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015 استطاعت تثبيت النظام السوري عسكرياً من خلال دعم الجيش السوري وتطوير وحدات خاصة مثل الفرقة 25 (قوات النمر) بقيادة سهيل الحسن، وأنشأت قواعد عسكرية رئيسة مثل قاعدة (حميميم) الجوية وقاعدة (طرطوس) البحرية لتعزيز وجودها في المنطقة، وعلى رغم كل هذا فشلت موسكو في تحقيق إصلاحات حقيقية داخل المؤسسات السورية، وهذا الفشل يعود جزئياً إلى تجاهل دمشق نصائح روسيا في شأن تحسين الإدارة وإعادة الإعمار، وجزئياً إلى تقارب النظام السوري مع طهران الذي يعمق النفوذ الإيراني في سوريا على حساب روسيا”.
إيران العائق الأكبر
لكن بريكع يؤكد أن روسيا لا تزال “تحاول لعب دور الوسيط بين تركيا وسوريا لتحقيق تسوية ترضي جميع الأطراف، لكن مصالحها الخاصة تجعل من هذا الدور أكثر تعقيداً، إذ إن موسكو تريد ضمان استقرار النظام السوري وتأمين مصالحها الاقتصادية والعسكرية داخل البلاد، وتأمل في المقابل أن يؤدي تطبيع العلاقات السورية – التركية إلى عودة اللاجئين، مما يعزز شرعية النظام السوري دولياً، لكن نجاح هذا المسعى يعتمد على قدرة روسيا على تحقيق توازن بين المصالح المتعارضة لكل من تركيا وإيران”.
ويوضح الصحافي الروسي أن “إيران تواجه تحديات متزايدة في سوريا نتيجة تراجع نفوذها النسبي بعد مقتل قيادات بارزة في ’الحرس الثوري‘ و’حزب الله‘، ومع ذلك تظل إيران شريكاً قوياً لدمشق وتدعمها مالياً وعسكرياً، وهذا التنافس بين روسيا وإيران يعقد مساعي موسكو لتطبيع العلاقات السورية – التركية، وبخاصة أن إيران تنظر بعين الشك لأي تقارب بين أنقرة ودمشق قد يهدد نفوذها في سوريا”.
مصدر روسي مطلع ومقرب من “الكرملين” قال في حديث خاص لـ”اندبندنت عربية”، إن موسكو “تعمل الآن على صياغة إطار جديد للتفاهمات في سوريا يشمل تركيا وإيران، ونحاول إيجاد صيغة متعددة الأطراف تسعى إلى خفض التصعيد وفتح قنوات دبلوماسية لحل الخلافات، وهذا واحد من أسباب عدة منعت روسيا من التدخل عسكرياً بصورة جدية في المعارك الأخيرة”.
لكن المصدر يرى أن “هذه الجهود معرضة للتعثر بسبب اختلاف الأولويات والتوترات الإقليمية المستمرة”. وتعليقاً على هذه الجزئية يقول الصحافي الروسي ديميتري بريكع “ليس من الواضح ما إذا كانت روسيا تستطيع، في ظل تراجع نفوذها الدولي نتيجة الحرب الأوكرانية، الحفاظ على موقعها كوسيط رئيس في سوريا أم ستفرض عليها تنازلات أكبر”.
“تحرير الشام” تقلق تركيا
يرى بريكع أنه “في الشمال السوري تستفيد الفصائل المسلحة مثل هيئة تحرير الشام من الوضع الراهن لتطوير قدراتها العسكرية والتقنية، وتمكنت هذه الفصائل من تحسين استراتيجياتها الهجومية واستخدام الطائرات المسيرة مما يمنحها نفوذاً أكبر في المنطقة، وهذا التطور يقلق تركيا أيضاً التي تخشى أن يؤدي تصاعد قوة هذه الفصائل إلى تهديد مصالحها الأمنية وإطالة أمد الأزمة. وفي المقابل ترى أنقرة أن تطبيع العلاقات مع دمشق قد يساعد في حل بعض هذه التحديات، وبخاصة في ما يتعلق بعودة اللاجئين السوريين وإضعاف النفوذ الكردي قرب حدودها، إذ إن تركيا تواجه ضغوطاً داخلية متزايدة في شأن وجود اللاجئين السوريين مما دفعها إلى تغيير استراتيجيتها تجاه سوريا، ومن جانب آخر تسعى أنقرة إلى إقامة منطقة آمنة تسمح بعودة اللاجئين، وهذه المنطقة الآمنة ذاتها ستسهم في تقليل النفوذ الكردي شمال سوريا. باختصار، الدعوة للقاء بين أردوغان والأسد تعكس هذا التغيير الاستراتيجي، لكنها تواجه عقبات بسبب الشروط المتبادلة بين الطرفين.
ويختم الباحث الروسي حديثه بالقول إن “الوضع في سوريا اليوم يزداد تعقيداً بسبب تراكم العوامل السياسية والعسكرية والاقتصادية، والأطراف الإقليمية والدولية بما في ذلك روسيا وتركيا وإيران تواجه تحديات كبيرة في تحقيق تسويات دائمة، وعلى رغم الجهود الروسية لتثبيت الحلول السياسية فإن الصراع على النفوذ بين القوى الكبرى في سوريا يزيد من صعوبة تحقيق استقرار شامل”.
بالنسبة إلى تركيا فإن لديها في سوريا هدفين رئيسين، الأول إبعاد الجماعات الكردية المسلحة عن حدودها، والثاني وضع أمني في سوريا يسمح بعودة اللاجئين، وإذا كان لقاء أردوغان والأسد سيسهم في معالجة هذين الهدفين فإن الدعوة لهذا اللقاء ستبقى قائمة، أما إذا وجدت أنقرة سبلاً أخرى لتحقيق هدفيها، فبلا شك ستختار الطريق الأسهل، أو الأضمن في أقل تقدير.
————————–
بقفزةٍ واحدة.. من “سوريا الأسد” نحو “سويسرا الشرق”/ مالك داغستاني
2024.12.05
إن الصورة النمطية الماسيّة (اشتقاقاً من الألماس) عن سوريا القادمة الديمقراطية والحرة والمدنية. سوريا بدستور عصري يراعي كافة المكوّنات، وتحكمها قوانين عادلة ومواطنة متساوية هو حلم مشروع، لكن للأسف ليس له حوامل على الأرض لا سياسياً ولا شعبياً. وعدا عن أنه يتجاهل آراء ومطالب ملحّة لعموم السوريين راهنة وآنية، فإن سوريا تلك لن تصح على الفور، حتى في المختبرات المعقّمة.
فهل نقبل ببقاء الأسد عقود أخرى، حتى تتبدل آراء السوريين وأفكارهم ومعتقداتهم، ونحصل على “سوريا البرلنت” التي نحلم بها؟ وليبقى النازح في خيمته في الشمال السوري، واللاجئ في بلدان الجوار في مخيمات الأردن ولبنان وتركيا، وملايين المهجرين إلى بلاد الله الواسعة في أوطانهم الجديدة، ومئات آلاف المعتقلين في السجون حتى يحين تحقيق الحلم بسوريا المتخيلة، التي ستنتقل بقفزة واحدة من “سوريا الأسد” بكل ما يحمله هذا الوصف من دلالات إجرامية، إلى “سويسرا الشرق”، كما كانت تلقّب لبنان قبل العهدين الأسدي والإيراني.
أقفل الأسد الأب، ومن بعده ابنه، القفل على سوريا ورمى المفتاح في البحر، ويقيناً أن سوريا الحلم لن تأتي قبل كسر هذا القفل، قفل الأبد. وحتى بعد كسره، وسقوط نظام الأسد الذي ما زال يسدّ كل أفق، فإن أمام السوريين دربا عسيرا جداً. راهن نظام الأسد دوماً على تقديم نفسه أمام المجتمع الدولي، أنه الأفضل بين جموع السيئين، فإما هو أو “الإرهابيين”. وبصفته تلك كان يبدو أمام العالم وكأنه يحمي سوريا من الأسوأ. واليوم يتماهى كثيرون، غالباً بنوايا نبيلة، مع ذاك الخطاب الإعلامي بمآلاته، ولو من مواقع مختلفة عن نظام الأسد.
في حين يرى آخرون، أن أي بديل يمتلك بعض العقلانية، ممكن أن يفتتح صيرورة جديدة في التاريخ السوري، بعد اقتلاع تلك الماكينة الإجرامية التي تجذرت (شرّشت) واختطفت سوريا رهينة، وقتلت مئات الآلاف وهجرت الملايين بموافقة دولية. فلا سوريا جديدة ولا حتى سوريا وطناً بحدود كما باقي دول العالم، دون كسر هذا الاستعصاء الذي تأبد لأكثر من نصف قرن مضى.
يتخوف كثيرون، وهم محقّون، من فصائل الإسلام السياسي. فهؤلاء لم يقدموا حتى اليوم أي نموذج مشرّف أينما حلّو. وكانت صورتهم الأكثر وحشية داعش، التي حاولت أن تنافس الأسد في بشاعة الجرائم، ومعه تنافس الإسلام السياسي بصورته الشيعية المستوردة عبر الحدود، الذي ارتكب مثلها الفظائع بحق السوريين، وكان يقاتل في صفوف الأسد ليحميه.
حاولت هيئة تحرير الشام، التي تسيطر على إدلب أن تقدم صورة جهادية مخففة في البدايات، لكن ممارساتها على الأرض لم تكن لتختلف عن ممارسة أي سلطة استبدادية ظلامية، تنتمي إلى عصور سابقة. مع الوقت، بدأت ببعض التغييرات، يعتبرها البعض وأنا منهم شكلية، وحاولت إقامة حكومة مدنية، تتبع لها بالطبع، لتساير القول بأنها يمكن أن تكون نواة دولة مدنية. حتماً لم تفلح بذلك، رغم أنها عاشت تحولات هائلة في السنوات الثلاث الأخيرة، مع إقصاء الرؤوس الإسلامية الحامية من المشهد.
مع بدء معارك السيطرة على ريف حلب الغربي، ثم وصولاً إلى المدينة، وإتمام السيطرة على كامل محافظة إدلب، لتصل لحظة كتابة هذه المادة إلى حدود مدينة حماة، قدمت الهيئة مع حلفائها ما يبدو أنه آخر تحديث، أو لنقل النسخة الأخيرة منها، وهي نسخة ونموذج مغاير تماماً عما كانت عليه، من حيث الشكل والمظهر، والتكتيكات العسكرية وحتى الخطاب المفاجئ عن سوريا القادمة. وحتى اللحظة ما زالت الممارسات بعمومها، خصوصاً في حلب المدينة، تدعو للارتياح، دون أن تخلو من بعض المشاهد المخزية.
ليس بدافع البحث عن أية نقيصة، بهدف المحافظة على ثبات رأيي عن فصائل الإسلام السياسي، ولكن لمنع تفشي ظواهر سيئة، حاولت التدقيق بتلك الممارسات. ما هو مطمئن أنها كانت محدودة جداً، وليس مفاجئاً في المواجهات العسكرية أن تحدث تلك الممارسات، ولو أن عدم حدوثها هي حالة مثالية منشودة، لكن المفروض، عرفاً وحتى في القانون الدولي ألا تكون ممارسات ممنهجة. هل أبدو كمن يدافع عن الخطأ بالقول إنها ممارسات فردية. لا إطلاقاً، فهي مدانة وتسم مرتكبيها وقادتهم بالسوء، وبالجريمة في بعض الحالات.
كثر من أصدقائي الشخصيين، والذين أعرف نبلهم، متخوفون من سيطرة طرف ذا توجه سياسي إسلامي، على سوريا، لتصبح سوريا أفغانستان أخرى محكومة بنسخة أخرى من طالبان، لا مكان فيها للمختلف دينياً وطائفياً، أو حتى فكرياً. وهو تخوّف مشروع ويستند إلى ثلاثة عشر عاماً من الممارسات المخزية لتلك الأطراف. فما الذي تغيَر؟
من الواضح أن حلب كانت أكبر من توجهات الإسلاميين التقليدية، ما جعلهم ينصاعون لها، فاستخدموا خطاباً جديداً ومختلفاً، بدا للبعض، وأنا منهم، صادماً. فإن كانت حلب وحدها قد روضت خطابهم، وانعكس ذلك على السلوك والمممارسات، فما بالكم بما ستفعله بهم كامل سوريا. على أية حال إن كان هذا التغيير حقيقياً، بمعنى أنه سيمثل نهجاً جديداً، أو كان هناك وراءه جهة خارجية تتحكم به وتعقلنه، فإن التراجع عنه سيبدو عسيراً مستقبلاً، ففي السياسة رغم أنها تحتمل التلوّن والتحولات، لكن لا يحدث أن جهة ما تتوجه إلى الجموع بخطابٍ، وبعد أن تنتهي من مهمتها، تمد لهذا الجمهور لسانها لتقول له أنها كانت تخدعه وتضحك عليه.
إسقاط نظام الإجرام الذي أسسه الأسد، والقطع مع الاستبداد، مع الطمأنينة بأنه لن يكون هناك نكوص أو إنتاج استبداد بوجه مختلف هو ما يجب أن يجمع السوريون عليه اليوم. وهذا لا يمكن له أن يقوم من دون مواجهة مع السلطات المرشحة بلا مهادنة، فالمخاوف مشروعة ويجب أن تكون موضوعاً للنقاش، حتى لا يتكرر وقوعنا في ذات الحفر التي وقعنا فيها خلال أربعة عشر عاماً.
ما يطمئن أن الثورة السورية، في أحد وجوهها، هي ناتج وعي اجتماعي تراكمَ لدى السوريين، وأوصلهم للحالة التي لا يمكنهم بعدها الانصياع لأشكال السيطرة التي مارسها الأسد. إن تقدّمَ الوعي عند الأفراد، على اختلاف توجهاتهم، ليصلوا إلى تمثُّل فكرة الحريّة وإعلاء قيمة الكرامة الإنسانية، وأن الانتماء إلى الوطن يتقدم على أي انتماء آخر، هو بالضرورة أحد المفاتيح الأساسية لبناء سوريا.
بالتأكيد أنه من حق أي سوري أن يحلم بتحقيق شكل الدولة أو الحكم الذي يراه مناسباً، ولكن عليه وهو يحلم بما شاء، أن يحتفظ بذهنه بفكرة بالغة الأهمية، وهي ألا يحطّم أحلام باقي السوريين، وهذا بداهة لن يقوم سوى في سوريا ديموقراطية لكل أبنائها.
المؤسف اليوم في كامل الصورة، أن المختلفين بشدّة حول ما يجري، ليسوا من الفاعلين، بمن فيهم المنخرطون في المعارك أيضاً. من الواضح أن هناك توجه جديد، دولي وإقليمي بما يخص سوريا. الأمر الذي حرّك المشهد الثابت منذ سنوات، وزلزلهُ خلال أيام. وإن مصالح السوريين ليست في الميدان كما يجب، ولكن من الممكن لهذا التحول أن ينجز وضعاً أفضل من حالة الاستنقاع الذي عاشته القضية السورية، مع تأجيل حل كافة تبعاتها التي يدفع ثمنها السوريون من الضفتين، إن كانوا موالين أو معارضين.
يردد كثيرون في هذه اللحظات، أنهم خائفون على مستقبل سوريا، وأنا من هؤلاء. ويأمل آخرون، على العكس، أن القادم سيكون أفضل. ولن تستغربوا إن قلت لكم إنني من هؤلاء أيضاً. أجل خائف من استبدادٍ له وجه مختلف، وأحلم بسوريا من دون مافيات الأسد وعتاة مجرميه. هل أبدو رومانسياً حالماً لم أتعلم ألف باء السياسة؟ لن أجيب بنفي قاطع، فقد حدث أن كنت كذلك في أكثر من محطة. كل ما أعرفه عن نفسي أنني لا أزدري مطالب الناس ولا حتى مشاعرهم. لا أتعالى على جراح وخيارات الناس باعتبار أنه ينقصهم الوعي أو الدين، والأهم أنني لا أَسِمُ المختلفين معي، بالجهل وأنهم مجرد رعاع لا يدركون أين تكمن مصلحتهم.
نهايات عام 2012، في آخر صورة للشهيد يوسف الجادر قبل استشهاده، جلس “أبو فرات” بين المقاتلين على الأرض، مكسوّاً بغبار معركة تحرير مدرسة المشاة بحلب، ليقول بأنه مزعوج رغم النصر، لأن “هذه المعدات التي دمرناها لنا، وهؤلاء الذين قتلناهم هم إخوتنا”، ليكمل
بعدها، بأنه لو أقدم “ابن الحرام”، يقصد بشار الأسد، على الاستقالة منذ البداية لكانت سوريا أفضل البلدان. كم تحتاج سوريا الآن، أكثر من أي يوم مضى، إلى أصوات تشبه صوت “أبو فرات”، وهو من انخرط حتى النهاية في تحرير سوريا من الاستبداد، من دون أن يفقد روحه وقلبه وحتى رومانسيته.
تلفزيون سوريا
———————–
ردع العدوان.. انقلاب موازين القوى/ مصطفى إبراهيم المصطفى
2024.12.05
حتى مساء السادس عشر من تشرين الثاني 2024 كانت التحليلات السياسية المبنية على المعطيات الدولية والإقليمية ترجح أن النظام السوري قاب قوسين أو أدنى من تجاوز مأزقه الخطير الذي وضع نفسه فيه منذ أن قرر قتل السوريين بشتى أساليب القتل والتنكيل على مرأى ومسمع العالم، وحتى مساء ذلك اليوم كانت مقولة تحرير حلب مستبعدة وفق رؤية معظم المحللين، بل كانت محط سخرية لدى بعضهم، إلا أنه في صبيحة اليوم التالي انقلبت الأمور رأسا على عقب، وعادت القاعدة التي تقول: إن المستقبل دائما مجهول. لتثبت أنها أصدق ما قيل بشأن المستقبل.
عملية محدودة
استفاق السوريون صبيحة يوم 27 تشرين الثاني ليتفاجؤوا بانطلاق عملية عسكرية تحت مسمى “ردع العدوان” توجهت بأعمالها الهجومية نحو ريف حلب الغربي وسرعان ما توسعت نحو أرياف إدلب الجنوبية لتصل إلى أرياف حماة الشمالية، وكان اللافت في مجرى الأحداث سرعة تساقط المناطق والقطعات العسكرية بيد القوات المهاجمة، لدرجة أن بعضهم اعتقد أن ما يحصل متفق عليه. وأن ما يحصل هو مجرد عملية محدودة تهدف إلى استعادة المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام السوري بمساعدة الميليشيات الإيرانية وسلاح الجو الروسي في العام 2019 حيث تجاوز خطوط التهدئة المتفق عليها وأجبر القوات التركية فيما بعد على التراجع بقواعدها نحو خطوط التماس القائمة والمستقرة منذ ذلك التاريخ حتى يوم انطلاق عملية “ردع العدوان”.
ما الذي يحصل؟ وهل من تفسير؟
لم تكن التخمينات التي ذهبت إلى أن العملية محدودة مصيبة، فخلال يومين تطور الهجوم ليشمل اجتياح مدينة حلب من الجهة الغربية، وهنا كانت أكبر المفاجآت، فالمدينة سقطت بالكامل خلال ساعات بشكل دراماتيكي مذهل. وهنا بدأ الجميع يتساءل، ما الذي يحصل؟ وهل من تفسير؟ في ظل شح المعلومات المتوفرة، وفي ظل المعلومات المحشوة بالدعاية والزيف التي يصدرها النظام السوري؛ كانت معظم الإجابات مستقاة من نظرية المؤامرة التي يتقن الجميع في منطقتنا العربية العزف على أوتارها، إلا أن الإجابة الأكثر إقناعا هي أن حرب غزة وما تلاها من ضرب الميليشيات الإيرانية؛ أضعفت هذه الميليشيات بحيث بقي جيش النظام وحيدا، وجيش النظام هذا أفضل ما لديه، فهو جيش يتقن الفرار الكيفي والاستقواء على العزل واجتياح الأراضي المحروقة و”التعفيش” فقط.
حماة بعد حلب
غادرت قوات النظام مدينة حلب بطريقة هي مزيج من الانسحاب والفرار مخلفة وراءها كميات هائلة من الأسلحة والذخائر. وعلى مستوى النظام ساد جو من الذعر والتخبط جعل بعض حكومات المنطقة تعبر عن تخوفها من السقوط المفاجئ للنظام الذي سرعان ما لجأ إلى آلته الدعائية لبث الشائعات التي تتحدث عن قرب وصول الإمداد من قبل الأصدقاء، والتي سوف تكون ساحقة ماحقة. ولأنه يعلم أن حاضنته لا تثق بجيشه بدأ يبث كثيرا من الإشاعات عن وصول الميليشيات الطائفية ويستعين بتصريحات لبعض قادة الميليشيات الذين مازالوا في سوريا، وعلى المستوى الميداني حاول لملمة بقايا قواته المتهالكة لتشكيل خط دفاع عن محافظة حماة التي انتقل هجوم قوى الثورة إلى تخومها، والتي قد تسقط قبل موعد نشر هذا المقال، ولكن بسيناريو مختلف.
أداء أثار الإعجاب
بين عشية وضحاها سرقت عملية “ردع العدوان” الأضواء وجعلت العالم يقف مشدودا ومذهولا كأنما الجميع يتابع فيلما مشوقا، فمسار الأحداث كان مذهلا بكل تفاصيله، سواء من حيث الخطط العسكرية وسيناريوهات التقدم، أم من خلال الخطاب المتقدم، والمستند إلى المرجعيات الدولية، ومن ثم التنفيذ على الأرض حيث بدت القوات التي دخلت حلب وكأنها قوات حفظ سلام أممية. ولم يكتف القائمون على العملية والمخططين لها بتصدير هذه الصورة البصرية للجهات الدولية التي كانت تراقب باهتمام شديد، بل أردفوها بخطاب دبلوماسي رصين ومتقن لا يخلو من الغزل والطمأنة شمل الجميع حتى روسيا. كل هذا دفع العديد من الجهات الدولية للتعبير عن إعجابها بما تراه، وكان آخرها تصريح للأمم المتحدة جاء فيه: نرحب بتصريحات أطراف سورية تشير إلى نيتها ضمان حماية السكان المدنيين.
خسائر بالجملة
لم يكن الخطاب المتزن والسلوك المنضبط مجرد تكتيك أثار إعجاب القوى الدولية وحسب، بل هو المسمار الأخير الذي دق في نعش الأكذوبة التي لطالما اتكأ النظام عليها بتسويق نفسه كحام للأقليات وضامن للأمن ومحارب للإرهاب. وهكذا بعد أن جعل ثوار السويداء من نظريته عن حماية الأقليات موضع شك، جاءت عملية “ردع العدوان” لتقتلعها من جذورها. ومن جهة أخرى، لم تكن خسارة حلب وأريافها مجرد خسارة لخزان بشري ومورد اقتصادي وحسب، بل كانت خسارة لأهم ورقة ما انفك يبتز بها الدول المستقبلة للاجئين، ويدفعها للضغط على القوى الكبرى من أجل رفع العقوبات عنه، فالمناطق التي خرجت عن سلطته قادرة على استيعاب نصف اللاجئين السوريين كحد أدنى، ولعل هذا ما جعل النظام السوري يفقد صوابه ويرتكب الحماقات بقصفه المدنيين في حلب، أولئك الذين لطالما تفاخر بتأييدهم له. لقد شعر النظام بأنه يخسر كل شيء، فلم يعد يستطع التحكم بسلوكه.
سواء استمرت عملية “ردع العدوان” حتى اقتلاع النظام من جذوره، أم أنها توقفت عند حد معين نتيجة للضغوط الهائلة التي تمارسها بعض القوى الإقليمية؛ فإن العملية نجحت في نقل الملف السوري إلى مكان جديد ووضع جديد، وموازين القوى اختلفت اختلافا جذريا، فبعد أن كانت راجحة لصالح النظام وحلفائه أصبحت لصالح القوى الثورية ومن يدعمها.
تلفزيون سوريا
—————————-
معارك شمال سوريا.. مرحلة جديدة تعيد رسم البلد/ محمد سرميني
5/12/2024
شهد الشمال السوري تطورات ميدانية وسياسية متسارعة تُنبئ بتحولات كبيرة في ميزان القوى المحلية والإقليمية، لتتجاوز هذه الأحداث كونها معارك عسكرية إلى كونها خطوات على طريق إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة بما يتماشى مع مصالح الأطراف الفاعلة.
هذه التحولات تمثل امتدادًا لحراك إقليمي ودولي يهدف لإعادة صياغة المشهد السوري، حيث تلعب المصالح الإستراتيجية دورًا حاسمًا.
المعطيات الأخيرة تكشف سعيًا واضحًا من قوى إقليمية ودولية لإنهاء النفوذ الإيراني في سوريا، بدءًا من الشمال، مع تصعيد مرتقب لاستهداف هذا النفوذ في الجنوب.
بعد سنوات من الاستثمار الإيراني في دعم النظام السوري وتثبيت وجودها العسكري، تواجه طهران اليوم تحديات كبرى في ظل عزلة دولية وضغوط متزايدة تقلص خياراتها الميدانية.
التحركات في حلب تحمل دلالات واضحة؛ حيث انطلقت الهجمات في سياق توقيت مدروس لا يخلو من إشارات سياسية عميقة. جاءت العملية متزامنة مع انتهاء الحرب في لبنان، وهو ما يضعف قدرة حزب الله على دعم حلفائه داخل سوريا.
اللافت أن هذه التطورات بدأت باغتيال الجنرال الإيراني كيومرت بورهاشمي، أحد القادة العسكريين البارزين في سوريا، تبعتها استهداف القنصلية الإيرانية في حلب، مما يرسخ التصور بأن العملية تهدف بالأساس لتقويض نفوذ إيران، إلى جانب مكاسب أخرى.
ومع مرور حوالي أسبوع على انطلاق العملية، إلا أن الموقف الروسي منها ما زال مبهمًا، حيث تجنبت حتى الآن المشاركة في دعم النظام السوري عسكريًا، وحتى سياسيًا، كما كانت تفعل في مثل هذه الحالات سابقًا.
وقد يعكس هذا الأمر تفاهمًا تركيًا روسيًا، فعليًا أو ضمنيًا، أو يعكس رغبة روسية في التريث إلى حين ظهور معطيات جديدة على الأرض.
ويبدو الموقف الأميركي مشابهًا هو الآخر، إذ لم تقم واشنطن بتصريحات حادة في هذا الاتجاه. وسيظهر الموقف الأميركي بشكل واضح في حال تغاضيها عن مرور الفصائل العراقية الموالية لإيران بشكل كبير إلى الأراضي السورية، إذ سيعني ذلك أن واشنطن غير راضية عن هذا التمدد لفصائل المعارضة السنية، أو أنها ترغب في صدام شيعي- سني جديد يؤدي إلى إنهاك الطرفين.
ورغم أن إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا يصب في المصلحة الإسرائيلية، فإن تراجع نفوذ قسد من جهة، وتمدد القوى السنية التي تراها تل أبيب متطرفة قد يمنعان إسرائيل من دعم العملية، وإن كانت لا تُمانع في وضع النظام السوري وحليفه الإيراني تحت الضغط الأقصى.
وحتى الآن تبدو تركيا هي الرابح الأكبر مما حصل في الشمال السوري، فرغم نفيها أي دور في العملية، فإنها الطرف الدولي الذي يملك أكبر تأثير على كل الفصائل المشاركة، وفي حال استمرار سيطرة هذه الفصائل على مكتسباتها الحالية، فإن تركيا سيكون لها دور محوري في أي تسوية مقبلة.
وبالمقابل تُظهر العملية أن أبرز الخاسرين منها حتى الآن هو النظام السوري، والذي عاد خلال أيام إلى حالة الانهيار التي عاشها في عام 2012، ومعها انهارت كل سرديته عن “الانتصار” و”الاستقرار”، وجهوده – بدعم من عدة فاعلين إقليميين – للانتقال إلى مرحلة ما بعد الاستقرار، من إعادة إنتاج النظام إلى مشاريع التعافي المبكر وإعادة الإعمار.
كما أن إيران هي من بين أهم الخاسرين حتى الآن، فقد خسرت هي الأخرى نفوذها في الشمال السوري، والذي استثمرت فيه ماليًا وبشريًا لسنوات طويلة، وهي في وضع حرج سياسيًا وعسكريًا، إذ ما استمر الحياد الروسي عن المعركة، إذ إن إرسال مقاتليها إلى الشمال السوري دون غطاء جوي سيكون مشروعًا لمحرقة مشابهة لتلك التي تعرّضت لها فصائلها في الفترة بين عامي 2014-2015، والتي انتهت بتوجه قائد فيلق القدس آنذاك قاسم سليماني لطلب التدخل الروسي، والذي حصل قبل عدة أسابيع من حتمية سقوط النظام السوري، وفقًا لما صرّح به وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لاحقًا.
تبدو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هي الأخرى من بين الخاسرين حتى الآن، فقدت خسرت تواجدها في مدينة حلب وفي تل رفعت المجاورة، وقد تخسر تواجدها فيما تبقى من ريف حلب.
وحتى لو تغيرت المعطيات الحالية، فإنّ من الصعب توقع عودة سيطرة قسد على هذه المناطق في أي سيناريو مستقبلي، حيث جاءت هذه السيطرة وفق معطيات تاريخية لم تعد قائمة اليوم.
وبالعموم، فإن التطورات الحالية في سوريا تعيد خلط الأوراق في المشهد الذي اتسم بالركود منذ نحو ثماني سنوات، وسوف تكون مخرجاتها الحالية ذات أثر عميق على الحالة السورية أولًا، وربما على المشهد الإقليمي والدولي ثانيًا.
فكل الأطراف الدولية تستعد من الآن للولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي سيسعى لعقد صفقة في أوكرانيا، وأخرى في الشرق الأوسط، وربما يُعيد محاولة تنفيذ رغبته السابقة بسحب قواته من سوريا، بالتوازي مع رغبته في إعادة فرض العقوبات القصوى على إيران، واستكمال المشروع الإسرائيلي بإنهاك الأذرع الإيرانية في المنطقة. ولذا فإنّ التغيرات الحالية على الأرض السورية ستكون معطيات في معادلات الصفقات القادمة.
وعلى المستوى المحلي، فإن استعادة المعارضة السورية مدينة حلب تُعيد تشكيل ديناميكيات الصراع، وتمنح المعارضة دورًا تفاوضيًا أقوى، وتفتح الباب أمام تركيا لتعزيز نفوذها كقوة إقليمية ذات تأثير مباشر في مستقبل سوريا.
الأحداث الجارية تمهد لمرحلة جديدة في سوريا، قائمة على إعادة توزيع مناطق النفوذ بين القوى الكبرى، مع دفع إيران خارج المشهد تدريجيًا. لا تقتصر هذه التطورات على الجانب العسكري، بل تشمل ترتيبات سياسية واقتصادية تُظهر أن اللاعبين الرئيسيين قد بدؤُوا بالفعل رسم خطوط التسوية المقبلة.
ما تشهده سوريا اليوم قد يكون إيذانًا بانتهاء مرحلة طويلة من النفوذ الإيراني، وبدء أخرى تهيمن عليها مصالح تركيا وروسيا. ودخول إدارة أميركية جديدة إلى البيت الأبيض قد يُسرّع من وتيرة الأحداث، حيث تتجه الأنظار إلى مزيد من التصعيد في مواجهة إيران، سواء عبر تشديد العقوبات الاقتصادية، أو تقليص قنواتها المالية في المنطقة.
بهذا الواقع، يبدو أن حلب ليست سوى الخطوة الأولى نحو إعادة تشكيل المشهد السوري، ضمن مسار طويل من التفاوض والمعارك التي ستحدد مستقبل البلاد والمنطقة بأسرها.
الجزيرة نت
——————————-
عن سورية والتطورات الجارية/ راتب شعبو
04 ديسمبر 2024
القاسم المشترك لكل السوريين اليوم حيال ما جرى في شمال غرب سورية، هو الحيرة. حتى الفرحون بما يجري يخالط فرحهم قلق من أن يكون وراء هذه السهولة في السيطرة على مناطق واسعة، خديعة ما. هناك من تخوّف من أن تكون عواقب عملية ردع العدوان نسخة سورية من عملية طوفان الأقصى الفلسطينية. ففي غضون أيام قليلة، تمكّنت هيئة تحرير الشام، بالتحالف مع فصائل سورية أخرى، منها التي تسمّي نفسها “الجيش الوطني السوري”، من السيطرة الكاملة على محافظة إدلب وعلى معظم محافظة حلب، من دون خوض أي معركة حقيقية، وبوتيرة تقدم لافتة (السيطرة على حوالى 800 كم مربع في غضون ثلاثة أيام)، الأمر الذي شبهه بعضهم بعملية تسليم وتسلّم. يبدو أن قوات النظام السوري انهارت بطريقة فاجأت المهاجمين، ويشيع القول إن هذه القوات انسحبت بناءً على أوامر عسكرية. ربما كانت هذه الإشاعات صحيحة. في هذه الحال، إنها تنبئ عن توافق تركي روسي باتجاه معاكس لما جرى في نهاية عام 2016 حين انهارت قوات المعارضة تحت ضربات الطيران الروسي وتقدّم قوات نظام الأسد وداعميه للسيطرة على حلب. إذا صحّ ذلك، تتّجه سورية، على الأغلب، نحو شكل من التقسيم، يكون فيه ما يجمع الأقسام شبيهاً بما يجمع بغداد وأربيل في العراق. وربما كان الغرض من هذه الإشاعات التغطية على الانهيار وتصوير تفكّك قوات النظام وإخلائها مواقعها أنه تكتيك وانضباط عسكريان، في محاولة لطمأنة جمهور النظام، وإخماد التمرّدات التي يمكن أن تحرّضها مشاهد انهيار قوات النظام.
أثارت التطورات المفاجئة التي تسارعت أخيراً مشاعر متعاكسة لدى السوريين، بين ترحيب وفرح من قسم من السوريين، وخوف وإحباط من قسم آخر. في الحالتين، لا يتعلق الأمر بخيارات سياسية يختلف حولها السوريون، أي لا تتعلق هذه المشاعر المتناقضة بانتصار أو هزيمة توجهات سياسية عامة ومجموعة قيم عامة يفضل السوريون أو يكرهون أن تكون المعيار المعتمد لحكم بلدهم، ذلك أن مبدأ الغلبة والقوة بات المعيار الوحيد الذي يحكم هذا الصراع السوري منذ أن اتخذ نظام الأسد قرار “إبادة” الثورة معتمداً على القوة بوصفها الحل الوحيد، دون احترام أي قيمة سياسية أو إنسانية مهما كانت، ودون التورع عن توليد العصبيات الطائفية والعرقية والقومية والاستثمار فيها واستجرار الطاقة منها لتغذية تصلبه ضد أي عدالة ممكنة، فكان أن نجح في إبادة الثورة لصالح توليد صراع قوى تسلطية عارٍ من القيم السياسية والوطنية، وتستند إلى قوى خارجية، وتكنّ العداء، ليس للقوى الأخرى فقط، بل ولمحيطها الاجتماعي أيضاً، المحيط المحدد على أساس طائفي أو قومي.
خطوط تمييز عديدة يمكن تلمّسها بين السوريين حيال التطورات الأخيرة، الخط الأول من طبيعة جغرافية، هناك سوريون تمسّهم هذه التطورات مباشرة بحكم مكان وجودهم، مثل سكان المناطق نفسها الخاضعة لتبدل السيطرة، سواء منهم المقيم داخل هذه المناطق أو النازح عنها إلى مخيمات اللجوء أو أبناء هذه المناطق الذين لجأوا إلى خارج سورية. يتحكم بموقف هؤلاء التأثير المادي المباشر في حياتهم، وهذا يتأثر بموقف القوى المتصارعة منهم. فمقابل عودة أهالٍ إلى مناطقهم وأحيائهم التي عادت السيطرة عليها من قبل الفصائل المدعومة من تركيا، سينزح آخرون خوفاً من الانتقام أو من فرض نمط حياة معين، إلخ. ومقابل فتح أبواب السجون وخروج مظلومين (ما يفرح القلب) ستغلق هذه الأبواب على مظلومين جدد (وهو مما لا يفرح القلب)، ذلك لأن ما تأسّس في سورية إلى اليوم، هو أن القوة تتحكم بالسياسة، وليس العكس، أو بالأصح القوة هي السياسة نفسها دون نقص، لا يختلف في ذلك طرف عن آخر.
الخط الثاني للتمييز هو الخط الطائفي. بعد فترة تحولات ليست طويلة، استقرّ حال القوات التي تواجه نظام الأسد على أنها من تنويعات الإسلام السياسي. ليس لأن جسدها بالكامل هو من المسلمين السُّنة (وهذه حقيقة)، بل لأنها تعي نفسها وغيرها من هذا الموقع الإسلامي السُّني، بدرجات متفاوتة من التمييز السلبي ضد غير السُّنة، تراوح بين التكفير والتسامح. في كلا الحالين، كل من هو غير مسلم سُني، يقع، في منظور هذه القوى، في دائرة خارجية، وإن كان في بلده، أي يُنظر إليه على أنه غريب، وأن سقف ما يطمح إليه هو التسامح. ليست جديدة، على الإسلام السياسي، هذه المفارقة التي يكون فيها المسلم السُّني غير السوري، أحق في سوريا من غير المسلم السوري. على هذا، فإن الأغلبية الغالبة من غير المسلمين السُّنة، ومن العلويين بوجه خاص، لن يكونوا فرحين بالتقدم العسكري الذي تحققه فصائل المعارضة السورية اليوم، على العكس، إنهم يستقبلون هذه الأخبار بكثير من الخوف والقلق.
الخط الثالث للتمييز من طبيعة قومية وعرقية، وهو يخصّ السوريين الكرد أساساً. الإسلام السياسي بطبيعته يتجاوز المسألة القومية، وهو لذلك جهة غير مرغوبة في نظر من يناضلون لنيل حقوقهم القومية. على هذا، لا يصلح الانتماء الإسلامي السُّني لغالبية الكرد السوريين أن يكون رابطاً لهم مع تيارات الإسلام السياسي السُّني. وقد شهد الكرد تجاهلاً لمطالبهم القومية في أولى مؤسّسات المعارضة السورية التي كانت تحت هيمنة إسلامية. هذا فضلاً عما تولد خلال تضاعيف الصراع في سورية من حساسيات وعداوات واتهامات بين تيارات مهمة من الكرد وبين جماعات الإسلام السياسي. على هذا، لم تكن الجماعات الكردية المسيطرة على بعض أحياء حلب متعاطفة مع المهاجمين، وربما كانت أقرب إلى قوات نظام الأسد.
الخط الرابع للتمييز سياسي، وهو الخط الأكثر هشاشة وضعفاً في الحقيقة. لأن أصحاب هذا الخط ممن يتجاوزون الانتماءات القسرية لصالح قيم وطنية وسياسية عامة، يبقون بلا قوة عسكرية تفرض نفسها على الأرض، ويبقون الضحايا الثابتين وطعام السجون الدائم مهما اختلفت قوى السيطرة. على أن هؤلاء هم الضمانة الأساسية لبقاء سورية موحدة ومعافاة، مهما تباعدت واختلفت تصوراتهم السياسية. إن أهم ضمانة لسلامة الحياة السياسية في بلد، إعلاء القيم السياسية والأخلاقية العامة فوق الانتماءات القسرية لأبناء البلد، وجعل هذه القيم مرجعية ثابتة في الوعي العام، من دون ذلك تكون حتى المؤسّسات الديمقراطية قليلة الفائدة. هذا ما يوضح إلى أي حدّ تمزق قوى الأمر الواقع النسيج الوحيد الذي يمكن أن يحمل سورية معافاة. وهذا ما يوضح مدى أهمية حماية الوعي العام من التلوّث بعصبيات هذه القوى ومن استسهال قبول دَوس قيم عامة، مثل حماية حياة الناس وكرامتهم مهما تكن الأسباب.
لكي يكون من شأن التطوّرات الأخيرة أن تفتح الباب لتطورات سياسية مفيدة للسوريين، ينبغي تغليب احترام القيم الإنسانية والوطنية على أي هوى سياسي مهما يكن، ومن دون أي مساومة. وحده تيار سوري واسع يحترم هذه القيم يمكن أن يلجم العصبويين من كل اتجاه، ويحدّ من تمزيقهم للبلاد.
العربي الجديد
—————————
الموس عالحدّين/ عزام اليوسف
«ردع العدوان» في شهادات من الساحل السوري
04-12-2024
«شو صار بأخوكي؟ رَدّ عليكي زوجك؟ تواصلتوا مع إبنك؟»؛ تتردّد هذه العبارات في المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري، وذلك على خلفية معركة «ردع العدوان» التي أطلقتها فصائل مناهضة للنظام منذ أيام. يقول معن (23 عاماً)، وهو طالب في جامعة تشرين في اللاذقية، للجمهورية.نت: «الحرب… لا يمكنك أن تدخل مقهى أو متجر أو دكان، إلا وتسمع أخبار الحرب، الناس في شوارع اللاذقية على أجهزتهم يترقبون الأخبار، أو يتصلون للاطمئنان على ذويهم».
يسود الساحلَ السوري تَرقُّبٌ حذر، ويزداد الخوف في المناطق القريبة من الاشتباكات، وخاصة القريبة من ريف حماة الشمالي الغربي، الذي تجري فيه معارك طاحنة حتى لحظة نشر هذا التقرير. كما يشهد «سوق الإجلاء»، إذا صحّت التسمية، نشاطاً وسط الخوف والفوضى، فكل صاحب سيارة أو أي وسيلة نقل يضع السعر الذي يريده لإجلاء عائلة تسعى للهرب من جحيم الحرب في حلب ومناطق القتال عموماً.
في الساحل السوري، حيث تتركّز أغلبية مؤيدة للنظام، أو «للدولة» حسب مصطلح شائع، ومع الابتعاد قليلاً عن خطوط النار، تظهرُ عند الناس نزعةٌ في إلقاء اللائمة على الجميع، من «حلفاء متخاذلين» وقيادات عسكرية لا توفّر لجنودها أبسط مقوّمات القتال مثل الطعام واللباس، واستغلال الكثير من الضباط للمجنّدين للانتفاع المادي، والسلاح القديم الذي لم يتطور منذ عقود. وحتى بالنسبة للمؤيدين للنظام بشدة، فإن ثمّة ما يبدو مختلفاً اليوم عمّا كان عليه في 2012، إذ كانوا يهاجمون الفارين من المعارك ضد فصائل المعارضة آنذاك، فيما يبرّر كثيرون لأولئك الشباب هربهم هذه المرة، كما قالت نسرين، وهي طالبة في كلية الطب البشري في جامعة تشرين: «لقد رأوا كيف استشهد زملاؤهم في معارك السنوات الماضية، فذهبت دماؤهم سدىً وبقيت عائلاتهم دون سند».
في هذا التقرير رصدٌ لأحاديث ومواقف متنوعة في الساحل السوري اليوم، تتراوح بين تأييد النظام ونقد سلوكه ورفضه والاحتجاج على فشله والخشية من تَقدُّم الفصائل ونتائجه، وفيها شهادات عن بعض وقائع الأيام الماضية في الشمال السوري أيضاً، التي وإن كان يصعب التحقق المستقلّ من دقتها اليوم، إلا أن تداولها في الساحل يقول أشياء كثيرة عن الأجواء السائدة هناك. جميع الأسماء الواردة في هذه التقرير مستعارة.
«سوق الإجلاء»
«رغم أنني من الطائفة السنية، لكنّ عائلتي فيها ضباط في الجيش، ولذلك هربنا من منزلنا في الحمدانية إلى حي الفرقان بعد أن علمنا بسقوط قرية أورم الصغرى بيد ‘المسلحين’. ومع استمرار تقدمهم، اتخذنا القرار بالهرب إلى اللاذقية»؛ تقول بثينة (33 عاماً). وعلى خلاف بثينة التي تملك سيارة مَكَّنتها من الهرب، فقد تعرّضت علا (38 عاماً)، وهي سيدة مسيحية سريانية من حي السليمانية في مدينة حلب، للاستغلال في أصعب الأوقات، كما قالت في حديثها للجمهورية: «غادرنا المدينة ونحن نشعر بالرعب والذعر. لم يرضَ صاحب البولمان أن يقلّنا إلا بعد أن قبض 11 مليون ليرة سورية، وما أجبرنا أنا وزوجي على دفع هذا المبلغ الكبير هو طفلنا الذي لم يكمل عامه الأول». ولدى سؤالنا فيما إذا كان المبلغ يتضمن رشوةً على أحد الحواجز للسماح بالهروب، أجابت بالنفي: «أخبرنا السائقُ أن الكلفة مرتفعة لأنه يخاطر بحياته وبسلامة البولمان!».
تواصلتُ مع عائلتين خضعتا لسيناريو مشابه، إذ أكدتا دفع مبلغ ألف دولار أميركي (أي حوالي 15 مليون ليرة سورية) لباصٍ يقلّهم من حلب إلى اللاذقية ودمشق.
وبالحديث عن الإجلاء يُبدي علي، وهو أستاذ جامعي من طرطوس، استياءه من تواضع الدعم لطلبة وأبناء الساحل الموجودين في حلب مقارنة ببقية المحافظات: «لقد قامت المبادرات الشعبية في السويداء والرقة والعشائر السورية بتأمين باصات مجانية لإجلاء الراغبين من محافظة حلب، فيما تُرك أبناء الساحل من علويين ومسيحيين عُرضةً للاستغلال».
في سياق متصل يأتي كلام باسمة من ريف اللاذقية، وهي سيدةٌ متزوجةٌ من ضابط مهندس في الأكاديمية العسكرية في حلب: «انسحبَ زوجي في رتل عسكري دون سابق إنذار، لذا لم يستطع أن يأخذني وأمه. لجأنا إلى بيت إحدى معارفنا في الحمدانية وهي سيدة من إدلب، أعطتنا ملايات سوداء، وقرَّرنا الذهاب إلى منزلنا لجلب بعض الحاجيات ومن ثم الهرب خارج حلب، رآنا مسلحون على الطريق: ‘لوين طالعين؟ ما بتعرفو أنه ممنوع!’ فأخبرناهم أننا كنا خارج منزلنا والآن نحن عائدون إليه، وأكملنا طريقنا». تتابع باسمة: «على باب بناية منزلنا كان هنالك عنصرٌ يبدو أنه يحرس البناية، فمن المعروف أنها بناية ضباط، ولما طلبنا الدخول، نهرنا وهدَّدنا، فذهبنا، ولم نستطع جلب حاجياتنا».
شهادات من الجبهة
«انسحبنا إلى السفيرة، وكانت نقطة تجمّع للقوات، ولكن حين علمنا بسقوط خان العسل انسحبنا إلى الساحل، وكان ذلك قبل قطع طريق خناصر»، بحسب ما قاله ضابط أربعيني من ريف اللاذقية كان في الأكاديمية العسكرية في حلب. وقد وقعت هذه الأحداث المذكورة في شهادته بعد أن تلقى ضباط الأكاديمية في ساعات الصباح الأولى أمراً بالانسحاب إلى السفيرة، دون توضيح الأسباب.
يُذكَر أنّ السيطرة على السفيرة في ريف حلب لها أهمية خاصة لوجود معامل لتصنيع الذخائر والصواريخ، وكذلك ربما مخازن للذخائر الكيميائية. وقد عبَّرت مصادر أمنية إسرائيلية عن قلقها من سيطرة فصائل المعارضة السورية، خاصة هيئة تحرير الشام، على مواقع استراتيجية في شمال سوريا، بما يشمل مركز الدراسات والبحوث العلمية المعروفة بتطوير أسلحة كيميائية.
يقول أحد عناصر الجيش النظامي، وهو من ريف اللاذقية، إنه توجَّه ضمن قوة قوامها 250 جندياً من الفرقة 25 وفوج من الفرقة الرابعة، نحو السفيرة لاستعادتها، ولكنهم تفاجؤوا بأنّ أعداد المسلحين حوالي 3500 بحسب تقديرات محمد، لذا فضلوا التراجع والانسحاب.
أما يوسف (26 عاماً)، وهو عنصر يؤدي الخدمة الإلزامية، فقد قال: «لقد هربنا من خان السبل في ريف إدلب إلى قمحانة في ريف حماة الشمالي سيراً على الأقدام لمدة 48 ساعة، لا أستطيع وصف الرعب والتعب الذي عشناه»، واستطردَ: «لا يمكن لجندي أن يقاتل وهو لا يتلقى طعاماً يكفي عصفوراً».
وفيما يتعلّق أيضاً بالإمدادات الغذائية للجيش، يقول شابٌ من قرى منطقة مصياف في ريف حماة الغربي إن الأهالي هناك يقفون بمعظمهم إلى جانب الجيش، فأغلبهم ينحدرون من الطائفة العلوية، وجيشُ النظام هو أملهم الوحيد في صد الهجوم الذي يقترب من مناطقهم: «رغم الفقر المدقع في هذه القرى فإن كثيرين فيها يطبخون لإطعام عناصر الجيش، أعرف امرأة لا تملك سوى أربع دجاجات ذبحتها لتُطعم شباب الجيش».
طارق (44 عاماً) هو مهندسٌ من ريف طرطوس، أنهى خدمته الإلزامية منذ ثلاث سنوات، يقول: «المشكلة أنّ هؤلاء الشباب الذي يُقتَلون في أرض المعركة لا حول لهم ولا قوة، لا تسليح ولا تدريب ولا إطعام، وفساد ضباط على أعلى المستويات، ولكنهم في الوقت ذاته الأمل الوحيد لسكان هذه القرى التي أفقرها النظام ذاته، وهم الآن في معضلة، ويختارون السيء بدل الأسوأ».
يضيف طارق: «هؤلاء شبان مجبرون على حمل السلاح، فهي خدمة إجبارية كما يعرف الجميع، والخوف الأساسي من الأفعال الانتقامية التي قد تُقدِم عليها هذه الجماعات بحق شعبٍ فقير لم يَنَل من السلطة سوى الدم والخراب، فيما استأثرت قلة قليلة بالمكاسب. الخوف هو من الانتقام من هؤلاء الفقراء على ما فعله أشخاصٌ لا يمثلونهم أبداً». ويبدي خيبة أمله لأن «الطائفة العلوية كمن ابتلع ‘الموس عالحدّين’ من طرفي النزاع، طبعاً مثلها مثل طوائف أخرى»، ثم يقول مُستغرباً: «ألا يمكن أن يكون موقفنا ضد القتل والترهيب كائناً من كان صاحبه، ألا يمكننا أن نكفَّ عن تبرير إجرامنا بإجرام الطرف الآخر؟».
مشافي حلب
محسن هو طبيب متطوع لدى وزارة الدفاع في مشفى تشرين العسكري في دمشق، يقول: «علمت أثناء التواصل مع الزملاء الأطباء في مشفى حلب العسكري أنّ المسلحين دخلوا المشفى وقاموا بجمع الهويات، وفرزوا العاملين فيه بين مدنيّ أطلقوا سراحه وعسكريّ وضعوه جانباً، ليتم إطلاق النار على العسكريين وإعدامهم جماعياً، لكن لم تتكلم عنهم أي وسيلة إعلامية، لأن المعارضة تريد إسباغ طابع اللطف والمدنيّة على ما يسمى إدارة العمليات العسكرية، فيما الإعلام الحكوميّ لا يريد إظهار خسائره».
يعترضُ محسن بغضب على ما فعلته الفصائل المسلحة في المشفى العسكري: «لقد أعدموا ميدانياً كل من يحمل رتبة عسكرية في المشفى. الممرض تكون رتبته مساعداً، والطبيب يكون ضابطاً، أو ربما عميداً أو عقيداً، ولكنها مجرد رتبة عسكرية تُمنَح له بحكم الأقدمية، إلا أنه لا يُقاتل ولا يُصدر أوامر عسكرية، هو طبيبٌ كان يمكن الاستفادة منه في معالجة جميع السوريين». وأضاف: «أنا حزينٌ على الأطباء، وعلى المستشفى العسكري الذي كان يمكن أن يقدم خدمات طبية وعمليات جراحية نوعية، في ظل هذه الظروف الصعبة».
وبالحديث عن المشافي والقطاع الصحي، خرج مدير مستشفى حلب الجامعي الدكتور أكرم الأسعد عن صمته بشأن الضربة الجوية التي تعرّض لها المستشفى: «أنا إذا ضليت ساكت راح أموت»، قال في تسجيل صوتي مستغرباً؛ «أبوس إيديكم فهموني… هادا مشفى الجامعة يلي درّسنا فيه، يتدمر بهالشكل مو حرام، مو حرام يتدمّر مدرج الجامعة»، وعن المسؤول عن القصف يقول الأسعد: «يعني الطيران معروف يا روسي يا سوري… والله يسلّم يلي بيخططلكم بالطيران».
تعليقاً على قصف الطيران الحربي السوري/ الروسي لمشفى حلب الجامعيّ، يقول طبيبٌ يعمل في اللاذقية: «أنا مع استهداف المسلحين الإرهابيين أينما وُجدوا»، ولكن خلافاً له يقول طبيب آخر من ريف طرطوس: «أنا مع استهداف كل من يقتل سورياً مدنياً مهما كانت توجهاته وانتماءاته، ولكن ليس إن كان في الأمر خطورة على المدنيين، فهذا غير مُبرَّر، تخيلوا مثلاً أن يدخل الإرهابيون إلى مشفى الباسل في طرطوس -لا سمح الله- فيقوم الطيران بقصف المشفى، أين المنطق في هذا؟ إن كنا نريد بناء وطنٍ نعيش فيه جميعاً، يجب ألا نقبل على غيرنا ما لا نقبله على أنفسنا».
تحمل هذه الشهادات طيفاً واسعاً من المشاعر والآراء المتضاربة والمتناقضة أحياناً، ما بين الترقب والخوف ومحاولات التأويل والاستعداد لما هو قادم، مع بقاء المعادلة، إياها معلّقة في خلفية المشهد، وهي أن الناس يشعرون أن عليهم الاختيار بين نظامٍ مستبد وفصائل متشددة.
موقع الجمهورية
——————————–
ما موقع قسد من تغيّرات خارطة النفوذ في سوريا؟/ جلال الحمد
عن الخسارات في الشمال والمكاسب في الشرق
04-12-2024
لم يَعُد سراً أن محور إيران في المنطقة يتركُ فراغاً كبيراً بعد الهزيمة العسكرية والسياسية التي مُني بها، خاصةً انهيار حزب الله في لبنان، أحد أبرز أركان هذا المحور، نتيجة حرب إسرائيلية غير مسبوقة عسكرياً واستخباراتياً. وكنتيجة طبيعية، ستسعى الدول المؤثّرة في المنطقة إلى ملء هذا الفراغ بهدف زيادة النفوذ من جهة، وحفظ «الأمن القومي» لبعض الدول من جهة أخرى.
لا تخرجُ العمليات في شمال غرب سوريا عن هذا السياق، فمن المؤكد أن السلاح وحَمَلَتهُ في مناطق النفوذ التركي لا يتحركان دون تعليمات وقيادة تركية، أو على الأقل دون منح الضوء الأخضر لجماعات المعارضة وغيرها من الجماعات العسكرية لشن هجوم واسع كالذي يحصل الآن.
لا يبدو التفسير الشائع للتحرك في شمال غرب سوريا، والقائل بأن دافِعَي التحرُّك شمال غرب سوريا يتمثّلان بإعادة اللاجئين السوريين من تركيا وإجبار بشار الأسد على التطبيع مع تركيا، كافٍ لشرح العملية العسكرية الكبيرة، خاصةً في ظل الظروف الإقليمية والدولية الجديدة شديدة التعقيد، بل إن قضايا أكبر، مرتبطة بإعادة رسم المشهد السياسي في الشرق الأوسط، خاصةً بعد إضعاف المحور الإيراني وانتخاب رئيس أميركي جديد، قد تكون أكثر منطقية. ما يعني رسماً جديداً لخطوط الفصل ومناطق النفوذ للقوى المتصارعة في سوريا وعليها.
تصدُّع النظام السوري
أعوام الحرب الطويلة كانت كفيلةً بترهّل النظام السوري واستنزافه، وهو ما ظهر واضحاً ابتداءً من العجز عن تقديم الخدمات للسكان محلياً، وانتهاءً بمشهد الانسحاب التاريخي من حلب وأرياف إدلب في الأيام الأخيرة، إذ فاقت سرعة انسحاب قوات النظام والميليشيات الإيرانية كل التوقعات، خاصةً من ناحية سحب الأعداد الكبيرة من العناصر والآليات خلال وقت قياسي. إن سبّب الصدع الرئيسي في بنية النظام هم أيضاً حلفاؤه الذين تغلغلوا في مفاصل الحكم وتنافسوا على استمالة الأجهزة والمؤسسات والشخصيات العامة بوعود النفوذ والأموال، الأمر الذي جعل طيفاً واسعاً من مناصري النظام والمستفيدين منه يبتعدون عنه لمصلحة القوى الجديدة الفاعلة والمتحالفة معه، والتي تبدو أنها مضمونة أكثر من نظام متهالك. لم تقتصر تحالفات روسيا وإيران داخل سوريا على القيادات العسكرية والأمنية، بل تعدّتها لتصل إلى رجال الأعمال وزعماء العشائر، ما وسّع الفجوة بين النظام السوري وحاضنته من جهة، ومناصريه السابقين وحلفائهم الجدد من جهة أُخرى.
يضاف إلى كل ما سبق العقوبات الأميركية والأوروبية التي نخرت جسد النظام، وأجبرته على تقديم تنازلات كبيرة لحلفائه مقابل الحصول على قروض مالية لتمويل عملياته العسكرية وسد الاحتياجات المحلية. بكل تأكيد لم تكن هذه القروض كافية لجسر الهوة بين ما هو متوفّر وما هو مطلوب في ظل استمرار الحرب والعقوبات من جهة، وانتشار الفساد من جهة أُخرى، يضاف إلى ذلك أن النظام وحلفاءه، كلٌّ وفق مصلحته، استخدموا الأموال والمشاريع داخل سوريا لبناء المزيد من التحالفات الداخلية.
يُضاف إلى العوامل السابقة خسارة محور المقاومة تأثيرهُ الإقليمي بعد حرب لبنان، وهو ما ظهرت نتائجه في العملية العسكرية الحالية شمال سوريا، حيث غاب حزب الله عن جهود الدفاع عن مناطق سيطرة النظام، فالحزب مشغول بلملمة جراحه وإعادة بناء نفسه وحساباته الخارجية المتمثّلة بقراءةٍ جديدة لدوره الإقليمي، والداخلية حول استحقاق رئاسة الجمهورية القريب وعلاقته مع بقية الأحزاب السياسية، والأهم إقناع حاضنته الشعبية بمبررات ما حصل خلال الأشهر السابقة.
من جهته، وخلال حربي غزة ولبنان، عبّر العراق الرسمي عن عدم رغبته في الانخراط في حرب إقليمية خشية توسع العمليات باتجاهه بعد لبنان، على أن موقفه تطور في الحالة السورية خلال الأيام الأخيرة خشية تغيُّر خارطة السيطرة بما ينعكس على التوازن في العراق، كما عبّر عن ذلك قائد الحشد الشعبي، نافياً في الوقت نفسه «التدخل خارج الإطار الرسمي». وأكد ذلك رئيس الوزراء العراقي من خلال تصريح قال فيه «إن العراق لن يقف متفرجاً». أمّا إيران، المتعبة اقتصادياً والمكلومة بخسارة حزب الله والضربات العنيفة والمؤثرة على أراضيها من إسرائيل، ورغم وصول حكومة ترى في التركيز على الداخل الغرض الأساسي لها، صعّدت من تصريحاتها حيال المستجدات الميدانية في سوريا، خاصةً بعد زيارة وزير خارجيتها إلى أنقرة. الموقفان العراقي والإيراني يشيران إلى عدم الاتفاق مع أنقرة على إنهاء العمليات، وخشية البلدين من خسارة جديدة ستُضعِفُ موقفهما الإقليمي أكثر، وهو ما سيرتد عاجلاً أم آجلاً على الوضع الداخلي في كلا البلدين الحليفين.
المواقف الدولية ودلالاتها حول العمليات شمال غرب سوريا
إذا ما وُضِعت العمليات في سياق المشاركة في تغيير المشهد، وما شهدته المنطقة خلال أكثر من عام من تغيُّر عسكري واسع ومواقف دولية موافِقة على هذه التغييرات، فإن التحركات العسكرية شمال سوريا غير مفاجئة، على أن مساحة المنطقة التي سيطرت عليها المجموعات المعارضة المدعومة تركياً وهيئة تحرير الشام، والانهيار السريع للنظام السوري، كانا صادمين حتى لقياداتٍ في النظام نفسه فضلاً عن حلفائه.
يبدو أن تركيا هي راعية التحرك، فالفصائل المهاجمة انطلقت من مناطق النفوذ التركية، ومنها فصائل تحظى بالدعم التركي الكامل كالجيش الوطني المعارض، ومصلحة تركيا في ذلك هو حماية أمنها القومي من جهة عبر تعزيز حماية حدودها من أي أخطار مستقبلية، سواء كانت تلك الأخطار متوقعة، خاصة التي تتعلق بقوات سوريا الديمقراطية، أو غير متوقعة كالتي قد تكون من نتائج التغييرات الحاصلة في الشرق الأوسط، ومن جهة أخرى تعزيز نفوذها في سوريا، وبالتالي تعزيز دورها على طاولة الحل السياسي قبل تسلُّم الرئيس الأميركي الجديد منصبه في العشرين من كانون الثاني (يناير) 2025. يضاف إلى ما سبق رغبتها في سد الفراغ الذي تتركه المليشيات المدعومة من إيران، وعلى رأسها حزب الله.
مما لا شك فيه أن المعارضة السورية السياسية ستعمل على الاستفادة من العمليات العسكرية سياسياً للضغط على النظام السوري ومعسكره بخصوص أي رؤية لحلٍّ سياسي في سوريا، إلا أن الاستفادة ستبقى في حدود التوازنات التي ستتّفق عليها القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في سوريا.
من جهتها، فإن لإسرائيل مصلحة في تقييد نفوذ المليشيات الإيرانية في سوريا في إطار جهودها الواسعة لضرب هذا النفوذ في المنطقة، والذي بدأته حتى قبل أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 من خلال قصفٍ متكرر لحلفاء إيران في المنطقة، وخاصةً في سوريا، واستهداف مناطق حساسة داخل إيران نفسها، الأمر الذي استمرّ وبكثافة بعد أحداث السابع من أكتوبر. لا يعني هذا بالضرورة أن لإسرائيل يداً في العملية، ولكنها تحبّذها طالما أنها تخدم رؤيتها لشرق أوسط جديد من دون ما يعرف بـ«محور المقاومة»، وطالما بقيت العملية العسكرية في شمال سوريا ضمن حدود التفاهمات الدولية التي تدير الأزمة السورية منذ سنوات.
أما عن الطرف الروسي، فلم يألف السوريون موقفاً روسياً متباطئاً في دعم الأسد عسكرياً وسياسياً كالذي يحدث منذ بدء العمليات العسكرية شمال غرب سوريا، في ما يبدو أنه غضُّ نظرٍ روسي عن الرغبة التركية في تحقيق أهدافها في سوريا. كما أن مواقف الدول العربية، التي طبّعت مع الأسد مؤخراً، جاءت عمومية وداعية لدعم الدولة السورية وضرورة التوصل إلى حل سياسي دون المغامرة في دعم مباشر للأسد. أما الموقف الأميركي المنشغل بانتقال السلطة، فلم يُبدِ أي تغيُّر، بل حمّل نظام الأسد وحده مسؤولية ما يحدث، في ما يبدو موافقةً ضمنيةً عليه.
موقع الإدارة الذاتية بعد معارك الشمال السوري
من الواضح أن الإدارة الذاتية صُدِمت كغيرها بالعملية العسكرية والتقدم السريع لقوى المعارضة وهيئة تحرير الشام، ولم تُظهِر موقفها حتى تاريخ 2 كانون الأول (ديسمبر) 2024، أي بعد مرور 5 أيام على بدء العمليات العسكرية. بدا الموقف حذراً ومتوازناً وداعياً إلى «تغليب لغة الحوار على لغة السلاح»، محمّلاً النظام السوري وتركيا مسؤولية تصاعد العنف. قبل ذلك، انسحبت قوات سوريا الديمقراطية من منطقة تل رفعت ونقلت مئات العوائل إلى مناطق سيطرتها في الجزيرة السورية. تُظهِر مواقف قسد السياسية والعسكرية أنها تعمل على استيعاب التغيّرات والمشاركة فيها كقوة أمر واقع لديها سيطرة على الأرض وتحظى بقبولٍ من المجتمع الدولي.
تُدرِك الإدارة الذاتية، كغيرها من المجموعات، أنها ستتأثّر بالتغيرات الإقليمية التي تلت 7 أكتوبر، كما تعلم أنها ستعيش سنواتٍ عجاف خلال حكم ترامب، الرئيس المزاجي الذي عانت منه ما عانت بانسحابه المفاجئ من بعض مناطق نفوذها وسماحه للقوات التركية بشنّ عمليةٍ عسكرية واسعة ضدها قبل أعوام.
في ظل التخبُّط الذي عاشته قوات النظام السوري وخسارتها لمواقعها في مناطق واسعة، قد تضطرُّ قسد إلى نقل قواتٍ لها في مواقع مختلفة، منها شرق سوريا، باتجاه ساحات القتال الحالية، وهذا يعطي تنظيم داعش الفرصة للتحرك بحرية من جهة البادية السورية، خاصةً أن التنظيم موجودٌ وينفّذ عملياتٍ عسكرية بين الفينة والأُخرى. إن حدث ذلك فإن الإدارة الذاتية ستتعرض لمزيد من الضغط العسكري من طرف التنظيم، وستزداد الأوضاع الأمنية صعوبة.
من المحتمل لجوء النظام السوري لإحداث تفاهماتٍ جديدة مع قوات سوريا الديمقراطية، ليأمن جانبها وليضمن عدم استغلالها لظرفه الحالي والتقدم عسكرياً، ولتوجيه رسائل مباشرة إلى الطرف التركي الراعي للفصائل في مناطق سيطرته من خلال التفاهم مع خصمه اللدود في سوريا. لكن لن تكون هذه التفاهمات كبيرةً نظراً لموقف النظام الرافض للاستجابة لمطالب قسد الأساسية حول الحكم الذاتي، كما لا يُرجّح أن تقبل قسد بأقل من مطالبها المعتادة، خاصةً في ظل وضع النظام المتدهور حالياً.
تُدرك الإدارة الذاتية أن عليها حماية مناطقها وأنها معنية بملء الشغور الذي قد يتركه جيش النظام السوري والمليشيات الإيرانية، وأنها ملزمة بالاستعداد لمواجهة الأسوأ. من هنا حشدت قوات سوريا الديمقراطية خلال الأيام السابقة للسيطرة على«القرى السبع»، وهي مجموعة من القرى في ريف دير الزور تخضع لسيطرة النظام لكنها تقع جغرافياً شماليّ نهر الفرات، أي في امتداد مناطق سيطرتها، وهي بذلك تحاول توجيه رسالة مفادها أنها هي الأُخرى ستتحرّك ولن تقف متفرّجةً أمام التغيرات الحاصلة، والتي قد تحصل، في المشهد السوري.
خطوات واجبة على الإدارة الذاتية
لا يمكن للإدارة الذاتية أن تضمن استقرار مناطقها ما لم تنفتح على مفاوضاتٍ مع تركيا تتّصف بالجرأة، بمعنى الوعي والقدرة على تقديم تنازلات واضحة، خاصةً في ما يرتبط بأعداد وجنسيات عناصر قسد، وصريحةً من جهةِ طرح كافة المخاوف على الطرف التركي، وتقديم مطالب معقولة له، لا بد أن يكون من ضمنها السماح بعودة المُهجرين الكُرد إلى مناطق السيطرة التركية، وتشكيل أجسام حوكمة ذات مصداقية فيها.
من جهةٍ أُخرى، وبعيداً عن تركيا، على الإدارة الذاتية أن تسعى إلى بناء علاقات قوية مع إقليم كردستان العراق والبدء جدياً بتجنّب الخلافات القائمة على اعتبارات إيديولوجية وسياسية، عادت، وستعود في حال استمرارها، على مناطق الجزيرة السورية بالكثير من التحديات الأمنية والاقتصادية.
أخيراً فإن الإدارة الذاتية معنيةٌ بالمشاركة في الحل السياسي في سوريا، وهذا يتطلب الحصول على الشرعية المحلية التي تؤهّلها لتمثيل المنطقة سياسياً، وهذه الشرعية لا تتشكّل بانتخاباتٍ كالتي حصلت في التاسع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، بل بمشاركة جدية ومستمرة تُمكّن أهالي المنطقة من حكم مناطقهم واختيار ممثليهم بشكلٍ نزيه وشفاف، من خلال فتح المجال كاملاً لحرية العمل السياسي والمدني وإعادة النظر في الخطاب والإستراتيجية السياسية تجاه بقية الأطراف السياسية السورية.
تهدف العمليات العسكرية في سوريا حالياً إلى إعادة رسم خارطة السيطرة في سوريا، وواضحٌ أن كل اللاعبين معنيين بذلك ويحاولون استغلال الظروف الإقليمية والدولية المتغيّرة بسرعة. يبدو أن صيغة أستانا لا تزال تشكل مرجعاً أساسياً للتعامل مع التطورات في سوريا، على الأقل بالنسبة للثلاثي التركي الروسي الإيراني، لكن مع تمدد العمليات العسكرية، وفي حال تثبيت كسر خطوط اتفاق خفض التصعيد لعام 2019، فإن كل الاحتمالات ستكون واردة لتغيير تفاهمات أستانا نفسها.
إن دفع العملية السياسية ليس بالضرورة أن يكون نتيجةً مباشرةً للأعمال العسكرية في سوريا اليوم، لكن ستنعكس نتائج تلك العمليات حكماً على تأثير أطراف العملية السياسية في مستقبل سوريا.
موقع الجمهورية
———————————-
سوريا ولبنان في زمن تجديد الخرائط/ حسام عيتاني
حضور العنصرين العرقي والطائفي يؤشر إلى الخطر الداهم
آخر تحديث 04 ديسمبر 2024
المشترك في الحربين المتجددتين في سوريا ولبنان، أنهما تشيران إلى استعصاء ترميم ما سقط من بنى الدولة في البلدين. فالسلطة في سوريا غير قادرة على العودة إلى ما كانت عليه قبل 2011 فيما الصدوع الفاصلة بين الجماعات اللبنانية لا تني تتسع مع كل جولة قتال خارجي أو توتر داخلي.
أول ما أثار المخاوف في تمدد “هيئة تحرير الشام” وحلفائها نحو ريف إدلب حلب، هو وقوع صدامات مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي يشكل الأكراد أكثريتها وتعرّض المسيحيين في حلب إلى انتهاكات تهدد سلامتهم وأمنهم. وحضور العنصرين العرقي والطائفي يؤشر إلى الخطر الداهم من اشتعال جبهات عدة في آن واحد تتوازى مع القتال بين الجيش السوري و”إدارة العمليات العسكرية” من جهة و”قسد” من جهة ثانية على ما ظهر أخيرا، وتضيف إلى الصورة المعقدة أصلا، المزيد من الإرباك والمخاوف وتستدعي المزيد من التدخلات الخارجية.
في لبنان، عمّق الهجوم الإسرائيلي الأخير النفور السائد بين الطوائف منذ عقود والذي تفاقم بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 2005 وحرب يوليو/تموز 2006 وغزو بيروت في 2008 وصولا إلى إخفاق محاولة الإصلاح من الشارع التي مثلتها انتفاضة اللبنانيين في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
ظهّرت الأحداث هذه، الصعوبات الهائلة التي تحول دون العودة إلى اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية (1975-1990) والذي طُبق وفق تفسيرات عكست موازين القوى في مرحلة ما بعد الحرب تلك. فقد انضوى قسم كبير من الشيعة اللبنانيين في ظل “الثنائي” الذي يضم حركة “أمل” و”حزب الله” فيما باتت أصوات المسيحيين المطالبين بعدم العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر 2023 أعلى وتشمل دعوات إلى اعتماد نظام فيدرالي يحفظ لكل جماعة خصوصيتها ويوفر لها الأمن سواء من التجريف الديموغرافي أو الانجرار كل بضع سنوات إلى حرب مدمرة لا يرى كثر من المواطنين أي مصلحة أو علاقة لهم فيها على غرار 2006 و2024.
الخطاب السائد بين السياسيين اللبنانيين عن أساليب الخروج من الوضع الكارثي الحالي يدور حول ترميم “اتفاق الطائف” والتزام الجميع بمندرجاته. عزز هذا الاتجاه إعلان الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم في خطابه الأخير أن “الحزب” سيعمل “تحت سقف الطائف” الذي يوزع المناصب الرسمية مناصفة بين المسيحيين والمسلمين ويضع سلطات واسعة بتصرف مجلس الوزراء مجتمعا. بيد أن هذا كلام يفتقر إلى المعنى. ذلك أن التجارب المتعاقبة منذ 2005 واتفاق الدوحة في 2008 وتنصل “حزب الله” من إعلان بعبدا المتضمن عدم انخراط لبنان في الصراعات العربية في 2014، وتضخم القوة العسكرية والأمنية لـ”الحزب” وحلفائه إلى مستويات تحول دون أداء الدولة اللبنانية الحد الأدنى من وظائفها ولو على الصعيد الإداري والقضائي مثلما ظهر من إحباط التحقيق في تفجير مرفأ بيروت في 2020، كلها أمور تجعل “القول أسهل من الفعل” وتشجع على طرح مقاربات من نوع الفيدرالية أو حصول المسيحيين على المزيد من الضمانات الدستورية، مقابل استحالة العودة إلى دولة مركزية تحكمها “البيوتات السياسية” التي تطغى على المشهد العام في لبنان منذ عقود.
وفي سوريا ثمة مظاهر مشابهة. فما من عاقل يتصور أن يستأنف حزب “البعث العربي الاشتراكي” حكمه الذي أفلست صيغته القديمة حتى قبل 2011، وجاءت الثورة ثم الحرب الأهلية لتفرز مجموعة من الكيانات شبه المنفصلة عن بعضها أقواها “قسد”، من دون إغفال ما يجري في محافظة السويداء ذات الأكثرية الدرزية منذ عامين ولا حالة الترقب في درعا منذ المصالحات التي أشرفت روسيا عليها.
ولا يزال الحديث عن إعادة النظر في النظام السياسي السوري بمثابة “المحرم” (التابو) حتى بالنسبة إلى أكثر القوى معارضة للرئيس بشار الأسد، فيما يقول الواقع إن أنهرا من الدم ستسيل إذا حاول أي طرف القضاء على مناطق الحكم الذاتي الكردي القائم بقوة الأمر الواقع.
وفي نظرة أبعد قليلا إلى مستقبل سوريا، لا بد من الإشارة إلى أنها تقع بين نموذجين لنظامين سياسيين مختلفين التركي والعراقي. هناك أولا تركيا، الدولة الوطنية المركزية التي تشهد منذ الأعوام الأخيرة للسلطنة العثمانية اضطرابات قومية عميقة. كان مضمونها القضية الأرمنية في العقدين الأول والثاني من القرن الماضي، ثم ظهر الأكراد كمطالبين بالحقوق السياسية والثقافية. ومضى قرن على الدولة المركزية والقومية في تركيا، وانتقلت من العلمانية المتشددة إلى الإسلام السياسي المخفف، ولم يجر التوصل إلى حل للمسألة الكردية.
من ناحية ثانية، حقق أكراد العراق انتصارا تاريخيا بحصولهم على حكم ذاتي يقره الدستور ويحميه بعض عقود من الصراع مع المركز في بغداد. وعلى الرغم من أن العلاقات بين الحكومة العراقية وأربيل ليست شهر عسل متواصلا والخلافات حقيقية وحساسة، فإنه لا خطر وجوديا يحيط بإقليم كردستان العراقي في الوقت الحاضر على الأقل.
وعليه، ربما آن أوان الاعتراف بأن الصدوع عميقة بين مكونات لبنان وسوريا وأن الإصرار على الأدوية القديمة للأمراض المزمنة لم يأت بالشفاء المطلوب، من ناحية. وأن الطريق إلى ابتكار صيغ جديدة للحكم والشراكة والسلطة، لا زال طويلا ويحتاج إلى بعض التواضع والإقرار بحقائق هذه المنطقة من العالم. وأن مقولة “الوحدة” التي تسببت بما لا يحصى من ضحايا وخسائر، قابلة للاستبدال “بالتعدد ضمن الوحدة” أو الفراق بمعروف.
المجلة
—————————
“معركة العودة”: بين أهداف “قسد” وتحديات الواقع!/ محمد حسان
04.12.2024
تحاول “قسد” عبر عملية “معركة العودة” السيطرة على كامل مناطق شرق نهر الفرات في دير الزور، وإبعاد خطر الميلشيات الإيرانيّة الذي يهدد نفوذها، ما يتوافق مع رغبة أميركية غير معلنة في إبعاد تلك الميليشيات وتأمين قاعدتها في حقل غاز كونيكو القريب.
أطلق “مجلس دير الزور العسكري” التابع لقوات “قسد” صباح يوم أمس الثلاثاء 3 كانون الأول/ ديسمبر، عملية عسكرية في ريف محافظة دير الزور الجنوبي الشرقي، بمشاركة أبناء القبائل العربية، بخاصة قبيلة البقارة، بهدف السيطرة على مناطق نفوذ النظام السوري والميليشيات الإيرانية شرق نهر الفرات.
العملية التي حملت اسم “معركة العودة”، بدأت صباحاً عبر محورين، المحور الأول، من جهة بادية بلدة خشام باتجاه الجنوب إلى مركز بلدات خشام ومظلوم. أما المحور الثاني فانطلاقاً من دوار المعامل باتجاه قرى الصالحية والحسينية، التي تُعتبر مدخل مركز مدينة دير الزور الشمالي.
العملية بدأت بتمهيد ناري من القوات المهاجمة على خطوط التماس، ثم دخلت آليات ثقيلة من الجرافات، في محاولة لكسر السواتر الترابية على خطوط الجبهة، للسماح للقوات المهاجمة بالتوغل داخل المناطق المستهدفة.
قوات النظام السوري ردت على الهجوم بقصف مدفعي وصاروخي استهدف مناطق التماس، إضافة الى استهداف قرى الحصان والجنينة ومنطقة المعامل، كما دفعت بتعزيزات كبيرة لصدّ الهجوم، منها مقاتلون من لواء الباقر الذي يقوده نواف البشير، وآخرون يتبعون لقوات “القبائل والعشائر”، التي يتزعمها شيخ قبيلة العقيدات إبراهيم الهفل.
رغم مرور 24 ساعة على الهجوم، لم تتمكن قوات مجلس دير الزور العسكري وأبناء القبائل التي تسانده، من إحراز أي تقدم على طول خطوط المواجهة، بسبب الكثافة النارية لقوات النظام والميليشيات الموالية لها، إضافة الى عدم وجود قوات عسكرية كافية دفع بها المجلس أو قوات “قسد” إلى خطوط الجبهة، بينما اكتفى طيران التحالف الدولي بقصف مواقع للنظام في بلدة مراط بعد ساعة من الهجوم بغارتين فقط.
تهدف قوات “قسد” ومجلس دير الزور العسكري، من “معركة العودة”، إلى مجموعة من الأهداف، منها ما هو عسكري أمني، وآخر يتعلق بتحسين علاقتها مع السكان المحليين في المنطقة، وآخر سياسي للضغط على النظام السوري.
أما الهدف العسكري والأمني، فهو السيطرة على قرى الحسينية، الصالحية، حطلة، مراط، مظلوم، خشام والطابية، التي تقع شرق نهر الفرات، والتي سيطرت عليها قوات النظام والميليشيات الإيرانية عام 2017، بعد انهيار تنظيم “داعش” في المنطقة.
معارك حول “الغاز”؟
تهدف “قسد” من عملية السيطرة على هذه البلدات والقرى السبعة، إلى السيطرة على كامل مناطق شرق نهر الفرات في دير الزور، وإبعاد الخطر الذي يهدد نفوذها انطلاقاً من هذه المناطق، بخاصة بعد محاولة إيران عبر لواء الباقر في دير الزور الذي يقوده نواف البشير، وجيش القبائل والعشائر العربية الذي يقوده إبراهيم الهفل، شنّ هجمات عليها انطلاقاً من تلك المناطق خلال العام الماضي.
يتوافق هدف قوات “قسد” من تأمين مناطق سيطرتها، مع رغبة أميركية غير معلنة في إبعاد تلك الميليشيات وتأمين قاعدتها في حقل غاز كونيكو القريب، الذي لطالما تعرض لاستهدافات مباشرة من الميليشيات الإيرانية والروسية عبر تلك القرى، بما فيها هجوم قوات فاغنر التي حاولت الوصول الى الحقل عام 2018، لكن تدخل طيران التحالف منعها، بالإضافة الى هجوم ميليشيا الباقر العام الماضي، الذي تزامن مع ثورة أبناء القبائل العربية على الإدارة الذاتية على خلفية حل مجلس دير الزور العسكري واعتقال قائده أحمد الخبيل أبو خولة.
طرد قوات النظام والميليشيات الإيرانية من هذه المناطق إلى غرب نهر الفرات، سيؤمن مناطق سيطرة “قسد” شرق النهر، ويجعلها بعيدة من هجمات تهدّد زوالها، كون وجود النهر يشكل حاجزاً طبيعياً يمنع الهجمات الكبيرة، بخاصة في ظل دمار جميع الجسور التي تربط ضفتي النهر. تبقى فقط الهجمات الصغيرة التي يشنها مقاتلون عبر النهر، وهذه يُمكن التعامل معها بتكثيف الحراسة ونقاط المراقبة على طول النهر.
إعادة المهجّرين و”التقرّب من المجتمع العربي”
هدف قوات “قسد” الثاني من المعركة، هو تحسين علاقتها مع المجتمع المحلي العربي في المنطقة، بخاصة أهالي القرى السبع المهجرين منها منذ عام 2017، الذين يعيشون في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وقسم منهم ينضوي تحت مجلس دير الزور العسكري التابع لها، إذ يقود هؤلاء احتجاجات مستمرة تطالب “قسد” بالسيطرة على المنطقة وإعادتهم إليها.
كما تحاول الإدارة الذاتية “التقرب من المجتمع العربي” من خلال هذه العملية، بسبب اتهامها بعدم مهاجمة النظام والميليشيات الإيرانية، بخاصة مع التطورات العسكرية في شمال غربي سوريا وتقدم فصائل المعارضة إلى أطراف مدينة حماة، حيث يعتبر المجتمع المحلي النظام وإيران عدواً حيوياً له، وكان هذا أحد أسباب تمسّكهم بالإدارة الذاتية، لعدم توافر أي خيار آخر أمامهم سوى النظام وحلفائه في مرحلة انهيار “داعش”.
بين الهدفين العسكري وتحسين العلاقة مع المجتمع المحلي، لدى الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا وذراعها العسكري “قسد”، هدف سياسي، يتمثل في الضغط على دمشق للوصول إلى تسوية مرضية بين الطرفين، تحقق مطالب الإدارة الذاتية بخاصة المتعلقة بأكراد سوريا، مع إصرار النظام طوال تلك السنوات على عدم تقديم أي تنازلات ومطالبته لها بالعودة إلى كنف الدولة السورية من دون شروط مسبقة.
تعد معركة العودة محدّدة الأهداف عسكرياً وتندرج ضمن المعارك المحدودة غير المفتوحة، إلا أنها ستكون صعبة عسكرياً لأسباب عدة.
أولها، أن منطقة العمليات العسكرية وساحة المعركة المحيطة بالقرى السبع صعبة على القوات المهاجمة، بسبب وجود مساحات كبيرة مكشوفة بين تلك القرى والبلدات وخط التماس مع قوات “قسد”، ما يُلزم القوات المهاجمة التقدم عبر أراضٍ تساعد على التخفّي أو تأمين الحماية، ما يجعلها تحت مرمى نيران القوات المدافعة التي تستخدم الغطاء الناري الكثيف لمنع التقدّم.
كما أن تمركز قوات النظام السوري على جبل مدينة دير الزور، يمنحها إشرافاً مباشراً على ميدان المعركة وخطوط إمداد القوات المهاجمة، ما يمُكّنها من استهداف التحركات عبر سلاح المدفعية والراجمات والهاون، وهذا ما منع حتى اللحظة إحراز أي تقدم على الأرض لمجلس دير الزور العسكري والقوات القبلية المساندة له.
ثانيها، عدم دفع قوات سوريا الديمقراطية مجموعات عسكرية إلى دير الزور للمساندة في المعركة، بسبب توجه معظم قواتها إلى مناطق ريف حلب الشرقي والجنوبي الشرقي، حيث التقدم مستمراً لقوات الجيش الوطني المدعوم من تركيا إلى مناطق سيطرتها، فتحاول دفع كامل إمكاناتها لصد الهجمات ومنع الجيش الوطني من تهديد مناطق نفوذها الاستراتيجي، بخاصة مدينة منبج وما حولها.
ثالثها، ضعف إمكانات مجلس دير الزور العسكري بالمقارنة مع قوات النظام والميليشيات الموالية لإيران، إذ فقد الكثير من معداته العسكرية، مثل العربات المصفّحة والأسلحة النوعية بعدما تم حله واعتقال قادته عام 2023، وعند إعادة تشكيله لم يتلقَّ التسليح الكافي.
رابعها، عدم وجود دعم واضح من قوات التحالف الدولي للعملية العسكرية، باستثناء غارتين جويتين استهدفتا مواقع النظام وحلفائه. وبحسب قادة عسكريين في المجلس، فإن “الغارة لم تكن بهدف الإسناد إنما جاءت رداً على مصادر نارية استهدفت القوات الأميركية في حقل كونيكو”.
خامسها، وجود القوات الروسية في تلك المناطق، ووجود إيراني مباشر أيضاً، يهدف الى حماية بعض سكان تلك المناطق، بخاصة بلدتي حطلة ومراط (نصف سكانهما من الطائفة الشيعية)، اللتين تعرضتا لهجمات وتهجير خلال السنوات الأولى للثورة، بعد هجوم جبهة النصرة وفصائل محلية عليهما ثم العودة عام 2017 مع سيطرة النظام على تلك المناطق.
سادسها، انضمام مقاتلين من قبيلتَي البقارة والعقيدات إلى جانب النظام في المعركة، وهؤلاء لديهم الخبرة في التصدي لمثل هذه الهجمات، نتيجة انخراطهم بالصراع سابقاً ضد النظام و “داعش” ثم قوات سوريا الديمقراطية لاحقاً، إضافة الى العقيدة القتالية لمقاتلي الطائفة الشيعية في تلك المناطق التي يحاولون الدفاع عنها، إذ ينتمي معظمهم للحرس الثوري الإيراني وميليشيات حزب الله في سوريا.
رهانات “معركة العودة”
بناء على الأسباب المذكورة، قد تكون المعركة صعبة وشاقة على طرفي الصراع، لكنها تحمل في طياتها أمرين مهمين في حال انتصار أي من طرفي الصراع، فانتصار “قسد” سيكون ضربة قاتلة لمشروع إيران شرق سوريا، كونها تستغل أبناء المنطقة من الشيعة لتكوين نموذج عسكري مناطقي مرتبط بها ارتباطاً عضوياً، وهو امتداد لعملها في نبل والزهراء وكفريا والفوعة، مستنسخة تجربة الضاحية الجنوبية في بيروت.
أما فشل الهجوم ونجاح النظام وإيران في صده ومنع أي تقدم، فسيثبت هذا الوجود أكثر في المنطقة وتعود الهجمات منها إلى مناطق الإدارة الذاتية بوتيرة أشد قوة، ما يجعل المنطقة تعود إلى حالة عدم الاستقرار والفوضى في ظل وجود أخطار أخرى عدة كتنظيم “داعش” وغيره.
درج
———————————-
المفاجأة السورية غير العسكرية/ أرنست خوري
04 ديسمبر 2024
كانت مبرَّرة الخشية من تجاوزات وجرائم قد يرتكبها مقاتلو هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، مع زملائهم من فصائل أخرى في المناطق التي راحوا يسيطرون عليها تباعاً في شمال سورية وغربها منذ 27 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني). مبرَّرة بسبب تكوين كثير من هذه الفصائل المسلحة الإسلامية السلفية وماضيها الدموي، الفاقدة لقيادة سياسية وتمثيل شعبي حقيقي، لو وُجدا لنتج عنهما جيش معارض يستحق اسمه. فمنذ إبادة “الجيش الحر” على يد ذلك التحالف العالمي لإرهاب معسكر الأسد، في كل مرة كان يعلن فيها عن ولادة تحالف جديد يحمل اسم “جيش”، تراه يضيف تعريفاً جديداً إلى المليشيات لا الجيوش. مبرّرة نسبةً لما رأيناه من سلوك هذه الفصائل طيلة أكثر من عقد في حكم إدلب وأرياف شاسعة من حلب، بتخلف ورجعية وذكورية وكره للديمقراطية وللحرية ولقيم الثورة السورية، وبلا احترام للمرأة إن خرجت من منزلها وللصحافة وللثقافة والفنون والتحرر والخيارات الشخصية في الملبس ونمط الحياة والتفكير والتعبير، حتى أصبح اسم الجولاني مرادفاً للشتيمة. الخشية كانت مبرّرة لكن ليست حقّاً لأولئك الذين يتعاطون مع المليشيات الإيرانية وحزب الله والشبيحة والحشد الشعبي والقوات الروسية ومرتزقتها في سورية على أنها قوة تحرير وتنوير وتقدم وأمن واستقرار. فإن كانت هناك بالفعل أم للمفاجآت الكثيرة التي نشاهدها في سورية منذ 27 نوفمبر، فهي أن القوات المهاجمة، يتقدمها مقاتلو “هيئة تحرير الشام”، لم يرتكبوا في الأسبوع الأول من حملتهم العسكرية، لسوء حظ معسكر النظام السوري وحلفائه ورعاته، أي جريمة على خلفية طائفية (بحق المسيحيين في حلب مثلاً)، أو قومية (بحق مدنيين أكراد)، أو مجزرة بحق سكان باستثناء مقتل ستة مدنيين في حي البعث داخل مدينة حماة بقذائف أطلقتها فصائل معارِضة، بحسب ما أورد المرصد السوري لحقوق الإنسان (المعارض بالمناسبة)، مساء الاثنين الماضي. ما نعرفه حتى الآن عن الجرائم بحق المدنيين والمنشآت الأهلية يخبرنا عنه وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، مساء الأحد الماضي، وحرفيته أن “مدرسة الأرض المقدسة الفرنسيسكانية في حلب تعرضت لهجوم روسي أدى لأضرار جسيمة”. ما شاهدنا صوره الدامية أيضاً في هذا السياق كان القصف الجوي الذي نفذه النظام السوري وطائرات روسية على المستشفى الجامعي بمدينة حلب والذي قتل مدنيين. ما رأيناه كان انتقام الجبناء بتلك المجزرة التي ارتكبتها طائرة سورية في دوّار باسل الأسد في مدينة حلب بعد دقائق من خلع تمثال صاحب الاسم عن حصانه المعدني.
في هذا الأسبوع السوري، استمعنا إلى سيدات حلبيات مسيحيات يروين لكاميرا آتية مع المسلحين المعارضين داخل أحياء مدينة حلب بعد سيطرة الفصائل عليها، أن أشجار عيد الميلاد منصوبة في منازلهنّ وأنّ أيّ مسلح لم يقتحم بيوتهنّ. ما يصلنا من حلب يفيد بأن المسلحين، حتى الآن مجدداً، يدفعون ثمن حاجياتهم التي يشترونها من الدكاكين، وهذه نكتة سمجة إن حاولت أن تنسبها لمعظم أفراد الجيش السوري النظامي أو المليشيات التي تحارب من أجله منذ 12 عاماً.
تلك مفاجآت سارة تتيح أملاً بأنّ فصائل المعارضة السورية قد ترينا هذه المرة انضباطاً وأخلاقاً إنسانية ووطنية استثنائية في نمط إدارة المناطق التي تسيطر عليها وتحكمها وفي التعاطي مع المجتمعات المحلية. إن نجحت في ذلك، تكون قد اجتازت نصف الطريق إلى برّ الأمل المستدام. النصف الثاني لا يمكن عبوره إلا من خلال كيان سياسي معارض يستحق اسمه، يعطي معنى سياسياً للإنجازات العسكرية ويصرفها في حساب المكاسب الوطنية. كيان سياسي يحدّ من الخسائر في الأرواح وفي تفتت المجتمع السوري، يتفاوض بوطنية وذكاء، يمثل كتلة سورية وازنة ومتنوعة، ديمقراطي حقاً لا بالاسم فحسب، مستقل بقراره عن الخارج لا معادياً لأصدقاء الثورة متى وُجدوا، ليس مطلوباً منه إعلان الحرب على الإسلام السياسي ولا بناء دولة إسلامية. دولة ديمقراطية أسهل طريقة لبنائها أن تكون مناقضة لسورية الأسد ولإيران الخمينية.
العربي الجديد
—————————–
في أسباب هجوم المعارضة المسلحة السورية/ حسين عبد العزيز
04 ديسمبر 2024
لم يكن هجوم هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري المعارض على قوات النظام السوري مفاجئا على المستوى الاستراتيجي، وإن كان مفاجئا على مستوى التوقيت.
على مدار الثورة السورية، ثم الحرب الإقليمية والدولية بين عامي 2012 ـ 2018، كانت سورية عنوانا لمتغيرات عسكرية جذرية، وتحالفات إقليمية ودولية معقدة ومتشابكة، يتداخل فيها الحلفاء بالأعداء.. إنها جغرافية عسكرية ذات كثبان رملية متحركة. لكن ما جرى منذ 28 من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، يطرح تساؤلين استراتيجيين، يتعلق أولهما بحدود الهجوم العسكري. ويتعلق الثاني، وهو الأهم، بالأسباب الخلفية التي أدّت إلى هذا الهجوم. والإجابة عن السؤال الثاني تحدّد بالضرورة إجابة السؤال الأول.
لا يمكن لفصائل المعارضة السورية وهيئة تحرير الشام وغيرهما أن يشنّوا مثل هذا الهجوم من دون ضوء أخضر تركي، وقبله ضوء أخضر روسي، ذلك أن روسيا قادرة بكل سهولة ليس على إحباط أي هجوم فحسب، بل على توجيه ضرباتٍ قاصمة لفصائل المعارضة. وما رأيناه وسمعناه خلال الأيام الماضية ليونة روسية إزاء هذا الهجوم، فالضربات العسكرية الروسية كان خفيفة مقارنة بالضربات الروسية قبل عام 2018. كما أن الخطاب السياسي للكرملين حمل رسالة في غاية الأهمية، حين قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن بلاده لا ترى نفسها مسؤولة عن وقف الهجوم. في موقفٍ شكل مفارقة في مشهد سوري معقد ومتشابك، استكملته تركيا بمفارقةٍ أخرى، حين أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية أن هجوم المعارضة يهدّد روح اتفاقات أستانا ويضر بعملها، في انقلابٍ صارخ للأدوار بين موسكو وأنقرة، راعياً التفاهمات العسكرية في الشمال السوري. … خطابان سياسيان مخالفان للمواقف التقليدية لكل بلد، يشيان بأنهما لا دخل لهما بالعملية العسكرية لفصائل المعارضة.
ما أسباب هذا التحوّل؟ ثمّة أسباب رئيسية عدة: أولا، استياء روسي شديد من النظام السوري وإيران بسبب حرية تحرّك الأخيرة والمليشيات المدعومة منها في سورية خلال العام الماضي، خصوصا عمليات نقل الأسلحة إلى حزب الله اللبناني، وإعادة تقوية ترسانتها العسكرية في سورية، وهو ما دفع إسرائيل إلى شن أكثر من 250 هجوما على إيران وقواعد عسكرية تابعة للنظام السوري. ولم تكن مصادفة أن يتزامن الهجوم مع إعلان وقف القتال بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، أي أن روسيا أرادت استغلال الضعف العسكري الإيراني لإجبار قواتها على الانسحاب من شمال غربي سورية.
ثانياً، استياء روسي من النظام السوري لعرقلة جهود الكرملين في العامين الماضين في إحداث مصالحة بين أنقرة ودمشق، حيث اختار النظام المقاربة الإيرانية بدلاً من الروسية.
ثالثاً، استياء روسي قديم ـ جديد من سياسة النظام الاقتصادية التي أدّت، في أحد جوانبها، إلى انهيار الاقتصاد السوري، وما نجم عنه من استياء في داخل مناطق النظام، تخشى روسيا أن يؤدّي إلى ثورة جديدة تضيع كل ما تم عمله في السنوات الثماني السابقة.
رابعاً، استياء روسي من النظام لعرقلته أي حل سياسي للأزمة، حتى وإن كان حلاً بطيئاً على مدار زمني طويل.
خامساً، حاجة روسيا إلى تركيا في مواجهة الغرب الذي يشنّ هجوماً عسكرياً عليها في أوكرانيا إضافة إلى الحرب الاقتصادية.
سادساً، وصول ترامب إلى رئاسة البيت الأبيض، وكأن روسيا تستبق وصوله بإجراء ترتيبات داخل الجغرافيا السورية، تكون خطوة ضمن تفاهمات مستقبلية متوقعة.
في ضوء هذه المعطيات السياسية، يمكن قراءة الهجوم العسكري لفصائل المعارضة وحدوده. ولكن، لا إجابة وافية بشأن حدوده، وإن كان واضحاً أن الضوء الأخضر الروسي سمح للفصائل بتجاوز حدود منطقة خفض التصعيد الرابعة (محافظة إدلب، أجزاء من أرياف حلب وحماة واللاذقية)، التي جرى التوافق عليها في الجولة السادسة من مسار أستانا في سبتمبر/ أيلول عام 2017، ذلك أن الهجوم وصل إلى مدينة حلب، وهي خارج حدود منطقة خفض التصعيد الرابعة، فضلا عن انسحاب القوات الروسية من تل رفعت في ريف حلب الشمالي، أي أن هجوم الفصائل سيشمل الريف الشمالي لحلب، بحيث يصبح كامل الشمال الغربي من سورية تحت يد المعارضة المسلحة، وبالتالي تحت الإشراف التركي.
ومن المبكّر الحديث عن الأبعاد الاستراتيجية لهذا الهجوم، هل ستكون له تبعات سياسية هامة؟ أم مجرّد تقسيم جديد لجغرافيا عسكرية عوّدتنا الحرب السورية على تغيرها بشكل دائم.
العربي الجديد
————————————-
“ردع العدوان”: “أسرى” الشاورما و”حماية الأقليات”!/ عمّار المأمون
04.12.2024
وزع مسلحو “ردع العدوان” سندويش شاورما على “أسرى” الجيش السوري عوضاً عن بضع حبات بطاطا وبيضة يوزعها النظام، لتصبح سندويش اللحم علامة سياسيّة على اختلاف شروط الحياة بين الطرفين، وكأن “دبلوماسية” سوريا وحروبها تدور حول “الحق بالشاورما” وما تحمله من وعد مريب بالرخاء ورغد العيش!
أصبحت المفاجأة علامة جديدة في “حروب” المنطقة، فمن دون سابق إنذار انطلقت عملية “ردع العدوان”، وسيطرت فصائل المعارضة السورية المسلّحة الإسلامية المدعومة تركياً، على إدلب وريفها وحلب وريفها وتتقدم نحو حماة، بقيادة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً). وترافق الهجوم المسلح مع عودة مدنيين ومسلحين إلى بيوتهم التي هجّرهم منها النظام. هذا التوصيف مقدمة اختزالية للكثير من التعقيدات الخاصة بالشأن السوري بعد 2011.
أكثر ما يثير الاهتمام في الفيديوهات المتداولة هو مشاهد “الأسرى”، أي عناصر النظام الذين تلقي العناصر المسلحة القبض عليهم، إذ بدا واضحاً أن المسلحين ومن يسمون أنفسهم “المجاهدين -الثوار” حاولوا ضبط أدائهم قياساً بتجربة “جبهة النصرة” و”داعش” في العقد الماضي.
لم نشهد حتى الآن أعمال قتل وعنفاً دموياً كالسابق، لكن الفيديوهات الواردة لم تخلُ من عنف جسدي ولفظي ومن ضرب وتحقير، فقد تكرر استخدام عبارات مثل “نصيري نجس” و”علوي خنزير” وغيرهما، واستعراض طوائف “الأسرى” من الجنود، والتأكيد أن “أحفاد عمر” لا يقتلون الأسرى أو يسيئون معاملتهم.
ليس بـ”الشاورما” وحدها يحيا الإنسان !
أبرز الفيديوهات المنتشرة، تلك الخاصة بالشاورما، فكل “أسير” من قوى النظام لدى العناصر المسلّحة المعارضة يُمنح سندويشة شاورما وقنينة “لبن عيران”، في دلالة إلى “المعاملة الحسنة للأسرى”، ولا يضرب ولا ينكل به، بل يستمتع بسندويشة بعد سنوات من الضعف الجسدي وشح الطعام.
الشاورما محل عشق سوري، يبحث عنها المهجرون في المنافي لإيجاد الطعم الذي يعيدهم إلى سوريتهم، ويستخدمها وزير سوري مرة لتثمين راتب موظف بوصفه يكفي بضع سندويشات شاورما فقط، من دون أن ننسى تناول وزير الخارجية الإيراني سندويشة في دمشق حين زار الأسد لمناقشة “ردع العدوان”، الشاورما شأن سلطوي ودبلوماسي، علامة على “الحياة” في سوريا التي تنهار.
الشاورما علامة سياسية للسطوة على الحياة إذاً، من يتناولها ينجو، ويمتلك مقومات الرخاء، وحين تمنح لعسكري جائع، أشبه بعلامة على التفوق لا فقط العسكري بل السياسي أيضاً، تفوق مفاده أننا نؤمن لك الشاورما التي حرمك منها النظام، فطعام الجنود في جيش الأسد، لا يتجاوز بضع حبات بطاطا و”كؤوس متة” كما استعرض أحد ناشطي الفصائل حيز زار ثكنة لجيش النظام، ساخراً من “حياة الكلاب” التي يعيشها المجندون”، وهنا المفارقة، دبلوماسية السوريين وحروبهم تدور حول الحق بالشاورما !.
سندويشة الشاورما علامة على شرط الحياة الذي حُرم منه جنود النظام والخاضعين لإمرته، والذي ستوفره المعارضة المسلّحة، التي في الوقت ذاته تدمر “المشروبات الروحيّة”، لا في البيوت بل في المنطقة الحرة ومنزل المحافظ، وتتعجب من المقاتلات الكرديات كونهن “على الجبهة” و”بدون غطاء رأس”، وتؤكد استعادة مسجد بني أمية في حلب، وفي ما وُصف بـ”ممارسة فردية” يعلّق علم تركيا على أسوار قلعة حلب!
ربما حملة السلاح في سوريا أمام أسلوب يعيد تقسيم الخصوم السياسيين، أسلوب هزلي تراهن فصائل المعارضة المسلحة عليه عبر شرطين للحياة يتنازعان حول الشاورما، وقدرتها على زرع السكينة والاطمئنان، فإما ثوار مجاهدون مع شاورما أو تجنيد إلزامي مع بيضة وحبتي بطاطا!
“حماية الأقليات” بالخبز
لم يوفر المتحمّسون لعملية “رد العدوان” من قادة محليين وإعلاميين مرافقين لهم، فرصةً للحديث عن التمسك بحماية الأقليات، والتأكيد أنهم لن يتعرضوا للعنف أو يُحرموا من حقوقهم، بل وأنتجوا مقابلات وجولات في الأحياء المسيحية مفادها: أنظروا كيف هي الحياة طبيعية، أنظروا كيف “لا يمسسهم سوء”.
هذا الشكل بالذات من “استعراض” سردية “حماية الأقليات” هو الوجه الآخر لتهديدهم، عبر ترسيخ أقلّيتهم وضعفهم، والتأكيد أن الجهة التي تحمل السلاح لن تهددهم، وهي تستطيع، أي بصورة ما، الحفاظ على المنطق الأقلّي، وهذا إن تجرأنا واستثنينا أن تاريخ هيئة تحرير الشام في التعامل مع الأقليات الدينية في إدلب ليس بمشرف.
هذه المعاملة المشابهة بالتعامل مع “السكان الأصليين” لا يوازيها أي كلام عن تمثيل سياسي مثلاً، خصوصاً أن المظاهر العسكرية ستنسحب، وسيتم تسليم “حكومة الإنقاذ” مقاليد الحكم. بصورة ما، ستعود الحياة إلى “الطبيعيّ” اليومي والمبتذل والتبادلي، وسيخضع “الأخوة المسيحيون” لقوانين هذه الحكومة التي أعادت أول العام 20 عائلة مسيحية إلى قراهم في إدلب! علماً أن أكثر من 650 عائلة تركت مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، ولم يسمح لهم إلا لعام 2021 بالاحتفال بعيد الميلاد في كنيسة اليعقوبيّة التي زارها قائد جيش التحرير أبو محمد الجولاني عام 2022، وحالياً تتداول أخبار عن زيارة الجولاني لحلب وتطمينه العائلات المسيحيّة فيها!
اللافت في الخطاب أنه قائم على التطمين والحماية والصون، وكأن المسيحيين من “خارج الأمة” وضيوف على الأرض، هم أقلية بقيت في المنطقة لسوء حظها، ولا بد من مداراتها إكراهاً وتفادياً لـ”الحوادث الفرديّة”. وبالطبع يظهر الموقف المسيحي في البيان الصادر عن متروبوليت حلب وإسكندرون المطران أفرام معلولي بالشكل التالي: “نؤكد لكم يا أبناءنا الأحباء في حلب أننا باقون في حلب إلى جانب رعيتنا وفي كل الظروف، من أقساها إلى أحلاها”.
نحن أمام بلاغتين إذاً، بلاغة “حماية الأقليات” وبلاغة “مواجهة الأكثرية” التي تتمثل بالبقاء في المكان، والتمسك بالأرض، والدفاع عن الشعائري والطقوسي المُدان كفراً، أي بين بلاغة “العهدة العمريّة” وبلاغة “الشك العميق في فرحة الجار” حسب تعبير أحد الألمان الذي “جنّ” في آخر حياته. فلا تطمين الأقوى مطمئن، ولا صمود الأضعف يحرره من الأقليّة نحو الفاعلية السياسيّة، لأن الاتفاق على شكل العلاقة خارج إطار أيديولوجية المقدّس هو ببساطة غير موجود، والتقسيم هنا: الخبز للمسيحي والشاورما للعسكري!.
درج
——————————
في تعقيد المسألة السورية/ بشرى المقطري
04 ديسمبر 2024
في تحول لافت لجغرافية الصراع في منطقة الشرق الأوسط، تصاعدت حدّة المعارك في سورية، بعد وقف القتال في الجبهة اللبنانية، إذ يسعى الفاعلون الدوليون، بمعية حلفائهم، إلى استثمار المتغيرات الإقليمية التي أفرزتها الحرب في لبنان لإعادة ضبط موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، من خلال تقليص النفوذ الإيراني في سورية، في المقابل تتمرّس إيران وحليفها الروسي لثبيت مواقعهم في جغرافية باتت ساحة لصراع دولي متعدد الأقطاب.
تتأصل تعقيدات المسألة السورية لا من حيث مفاعيل التوترات الطائفية التي بنى عليها نظام بشّار الأسد آلته القمعية، وعزّزت من بقائه في السلطة فقط، بل إفرازات الواقع الراهن الذي حوّل سورية إلى جغرافيا تتنازعها قوى دولية وإقليمية متنافسة تتوزع خريطة السيطرة على أراضيها، ما قيّد مفاعيل العامل المحلي في تقرير مصير سورية ومستقبلها، سواء النظام أو القوى المناهضة له، فإلى جانب روسيا، التي تحضر، لا طرفاً متدخّلاً فقط يدعم حليفه النظام السوري، بل لتسييج منطقة نفوذها في الشرق الأوسط، تحتل سورية ثقلاً رئيساً في معادلة الهيمنة الإيرانية في الإقليم، فيما يتجذّر النفوذ التركي في سورية عمقاً استراتيجياً لأمنها القومي، والذي عزّزه دعمها الفصائل الموالية لها ضد النظام، الى جانب الوجود الأميركي الذي فرض سورية موقعاً أمامياً لتثبيت نفوذها الدولي مقابل تطويق نفوذ خصمها الروسي، وأيضاً لتقييد النشاط الإيراني، وتأمين حليفها الإسرائيلي من أي تهديداتٍ تطاولها من الأراضي السورية. يضاف إلى ذلك، وهو الأهم، أن الحرب الأهلية التي فجرها قمع النظام حوّل سورية إلى مسرح عملياتي لإسرائيل التي، إلى جانب احتلالها هضبة الجولان، يشكل إضعاف إيران وحلفائها في سورية ركيزة في استراتيجيتها الأمنية في الإقليم. ومع مشروعية مطالب إسقاط النظام، فإن تباين أجندات قوى المعارضة وتعدّد ولاءاتها وفقدانها قرارها الوطني إلى حد كبير، تماماً كالنظام السوري، أدّى إلى فرض إرادة المتدخّلين في إدارة الأزمة السورية وتوجيهها وضبطها. ولذلك، محاولة تغيير الشرط السوري في الوقت الحالي فرضتها التحوّلات الإقليمية التي أنتجتها حرب الكيان الإسرائيلي في لبنان.
تتشابك وتتعدد نتائج الحرب الإسرائيلية في لبنان على الجبهة السورية، لا ساحة إسناد للمقاومة الإسلامية، بل منطقة نفوذ نشطة لإيران، فإلى جانب ضرب ثقل النفوذ الإيراني في الإقليم، بعد الخسائر العسكرية والبشرية التي مني بها حليفُه حزب الله، فإنها شلت، إلى حد كبير، قدرة حزب الله على إسناد حليفه في سورية، كما أنه، وبموازاة هجمات الكيان الإسرائيلي على حزب الله في لبنان، طوال عام، استهدف قيادته الميدانية في سورية، وقيادات الحرس الثوري الإيراني، أفضى إلى زحزحة موازين القوى التي ظلت مستقرّة في سورية لصالح النظام، وهو ما استثمرته جبهة تحرير الشام في هجومها على مدينة حلب، والسيطرة على منطقة إدلب. إلى ذلك، نجحت إسرائيل، وعبر إدارتها الجبهة اللبنانية، في فرض نتائجها على المعادلة السورية، إذ إنه وبالإضافة إلى أن تصعيد القتال في سورية يعني خفض مستويات المخاطر التي تواجهها عبر انتقال الصراع مع حزب الله وإيران إلى سورية، أي بعيداً عن عمقها، فإن استمرار انزلاق إيران في معركة عسكرية لدعم حليفها السوري يشتت موارده، فضلاً عن استثمار تصعيد القتال في الساحة السورية بتنفيذ هجمات طاولت مواقع حزب الله الحدودية مع لبنان ومن ثم توسيع حالة الإرباك العسكري لخصومها وضرب خطوط الإمدادات، ومن ثم التأثير على موازين القوى في سورية، والبناء عليه لتثبيت اختلال موازين القوى لصالحها، وربما المضي بتفعيل استراتيجية جديدة لاستهداف مناطق أخرى لنفوذ إيران في الإقليم. في المقابل، إضعاف إيران في لبنان يعني إضعافها في سورية، ومن ثم يصب في صالح تركيا، فبعيداً عن مزاعم دعم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزّة، فإن التنافس على الهيمنة في الإقليم، وأيضاً التناقض الإيديولوجي مع إيران ظل يغذّي تدخلاتها العسكرية في سورية لدعم حلفائها المحليين، ومع أن النظام التركي لم يتبن رسمياً دعم معارك الفصائل ضد النظام السوري، فإن أي انتصارات على الأرض تعني تعزيزاً لنفوذه.
الدفاع عن سورية دفاع عن الخط الأمامي لنفوذ إيران الإقليمي، ومن ثم فإن تغيير المعادلة في سورية أو إرباكها يشكّل تهديداً جوهرياً لإيران، إلى جانب الأهمية الاستراتيجية لسورية ساحة ترسم معادلة تحالفها مع روسيا، وتكرس نظام عالمي متعدّد الأقطاب، بمعية الصين مناهض لأميركا وحلفائها الغربيين. وفي حالة إيران أيضاً، فإن سورية الرسمية منضوية في محور الممانعة، أي القوى المناوئة لإسرائيل. ومع أن النظام السوري حيّد نفسه، منذ بدء حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وأعاد تطبيع علاقته مع الدول العربية، فإن هيمنة إيران وحزب الله على المعادلة السورية فرضها طرفاً في معسكر المقاومة الإسلامية، وإسناد الجبهتين اللبنانية والفلسطينية عبر شن هجمات ضد إسرائيل، ومن ثم فإن تحريك الجبهة السورية، وفي هذا التوقيت، يعني استهداف مركز حسّاس للنفوذ الإيراني، كما أن استنزاف مقاتلي حزب الله في لبنان، بعد الحرب الإسرائيلية، يفرض على إيران عبء إسناد نظام الأسد، وإمداده بمقاتلين من الحرس الثوري، وأيضاً من شبكة حلفائها في المنطقة، إلى جانب أن هذه الإكراهات، وفي مرحلة حسّاسة بالنسبة لإيران، فإن التصعيد في سورية، بعد الحرب في لبنان، يضيف فاتورة جديدة مكلفة من الخسائر من استنزافها عسكرياً إلى توجيه مواردها أو موارد حلفائها للدفاع عن نفوذها في سورية. وإذا كان سعيها إلى وقف الحرب في لبنان فرضته حساباتها الإقليمية لخفض التصعيد مع إسرائيل، ومحاولة استقراء المزاج الدولي مع قرب انتقال السلطة في البيت الأبيض، فإن ضرورة التهدئة في سورية لم تنضج بعد، وخاضعة لشروط القوى الدولية ومصالحها في إدارة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم تختلف الحالة السورية عن الحالة اللبنانية، من حيث تعقيداتها، كذلك موقعها في معادلة الصراع مع إسرائيل، ومع أن إيران ستخوض كالعادة معركتها للدفاع عن نظام بشّار الأسد، إلى جانب المراهنة على القوة العسكرية لحليفها الروسي لاستعادة المناطق التي سيطرت عليها فصائل المعارضة، فإن تعدّد القوى الدولية وتناقض مصالحها يجعلان إيران هي الأخرى خاضعة لتقاطعات هذه المصالح وافتراقها في إدارة الملف السوري، والتي تعني، في حال وجود ضوء أخضر دولي للقضاء على نفوذها في سورية، دخولها في تحدٍّ حقيقيٍّ بفقد أهم ساحة نفوذ خارج مجالها الحيوي بعد لبنان.
إلى ذلك، تتضمّن معادلة الدفاع عن نظام بشار الأسد بالنسبة لروسيا حماية مصالحها الاستراتيجية في سورية، وتثبيت هيمنتها قوة دولية في منطقة الشرق الأوسط. لذلك، تغيير موازيين القوى في الساحة السورية، وإسقاط النظام السوري استهداف لمصالحها، كما يضر بتحالفها الاستراتيجي مع إيران التي تدعمها في الجبهة الأوكرانية، عسكرياً وسياسياً. ولذلك تقود روسيا معارك إسناد قوات الأسد واستهداف الفصائل السورية في حلب وإدلب، ومع أن تصعيد القتال في سورية، مع استمرار حربها في أوكرانيا، يشكّل ضغطاً عسكرياً على روسيا، فإن الدفاع عن حليفها في سورية يعزّز من استراتيجية حماية حلفائها التي تراهن عليها، لتعزيز موقعها في نظام عالمي متعدّد الأقطاب، ومن ثم جذب حلفاء جدد. ومن جهة ثانية، الاستمرار في إسناد قوات حليفها شمال غربي سورية، إلى جانب التعويل على قنوات التفاوض مع تركيا، الطرف المؤثر على الفصائل المسلحة الرئيسية لخفض الصراع، ومن ثم تجنّب مخاطر انكشاف حليفها يظل الخيار المثالي لروسيا في الوقت الحالي، إلا أن فرض معادلة جديدة في سورية ضد مصالحها قد يدفعها إلى تبنّي خيارات تصعيدية وتحريك أوراق أخرى.
في الأخير، ما يحدث في سورية لا يبقى في سورية، فإلى جانب استمرار موجات العنف التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، فإن تقاطع مصالح القوى الدولية والإقليمية وافتراقها وتناقضها يضيّق من أي خيار وطني يلبّي مصالح السوريين على المدى البعيد، فضلاً عن استعادة دولتهم واستقلالها، إلى جانب أن نتائج الحرب في سورية، ومع أن من المبكّر التكهن بمساراتها، ستترتب عليها تداعيات جوهرية على الفاعلين الدوليين والإقليميين، وبالطبع على إيران وحلفائها في المنطقة، بما في ذلك جبهات المقاومة. وبعيداً عن الخيارات التي سيلجأ إليها الخصوم والحلفاء لتثبيت نفوذهم في سورية، فالأكيد هنا أن سورية، وقبلها لبنان، وأيضاً في غزّة من يخسر هم المدنيون الذين يواجهون الموت، ومشقّة النزوح، وكلفة حياة غير آمنة.
العربي الجديد
——————————-
ما يحدث في سوريا والمنطقة والعالم: “ديجافو” سياسي/ شادي لويس
الأربعاء 2024/12/04
المشاهد الآتية من سوريا، دخول الفصائل إلى المدن وفتح السجون ولقاءات الأهل المتباعدين منذ زمن، ردود الأفعال على كل هذا، والتكهنات والتلاسنات والشائعات، والحديث عن انشقاقات وترجيحات بلا أساس بخصوص انقلاب قصر في دمشق.. كل هذا يبدو وكأننا عشناه من قبل، وكأننا أمام حالة “ديجافو” سياسي. ليس في سوريا وحدها، بل وفي لبنان أيضاً. ألا تبدو بعض من تفاصيل حرب الشهور الماضية وكأنها استعاده لحرب 2006، وإن كان بنتائج مغايرة. وفي غزة، وفي المنطقة بأكملها، ألا تبدو وكأن بعض المشاهد هي هي. لا يتعلق الأمر بدائرية التاريخ بمعناه الخلدوني، ولا بتكراره لنفسه بحسب ماركس، سواء كانت عودته مأساة أو ملهاة بحسب الترتيب في دوائر التكرار.
بالطبع ما نعاينه اليوم في سوريا وسياقه يختلف جذرياً عن 2011 وعن ما قبل 2016، وذلك بعد الأخذ في الحسبان ما جرى العقد ونيف من الحرب الأهلية الكبرى ومكملاتها من حروب أهلية صغيرة. فيها تم فض التحالفات وعقدها عشرات المرات، وتغيرت الخرائط وتزحزت حدود تقسيم دوائر النفوذ، وتبدلت ولاءات أمراء الحرب على الرقعة السورية، تلك المفتتة مئة قطعة تصغر وتكبر. جبهة النصرة لم تعد جبهة النصرة، وبات مقاتلوها يرتدون زياً مموهاً شبه موحد على شاكلة الجيوش النظامية، اللحى الطويلة أصبحت لحى مشذبة، والنظام في دمشق لم يعد نفسه. في لبنان وفي غزة وفي غيرهما، تتوحش آلة العنف الإسرائيلي كما لم يحدث من قبل وبتواطؤ غربي غير مسبوق. كل تلك المعطيات تخبرنا إننا لسنا أمام الحدث نفسه. لكن ومع هذا، تظل الخيارات محدودة ومتطابقة بين السيئ والأسوأ. وهذا ما يدفعنا للاقتناع بأننا واقعون تحت “وهم سبق الرؤية” (الديجافو)، كل ما يحدث الآن رأيناه من قبل، هو نفسه لا ما يشبهه.
على مستوى فردي، يُعتقد أن الديجافو خلل إدراكي، حيث يتصادم تياران من الوعي، وينتج عن هذا ذاكرة هي بالضرورة زائفة. على مستوى جماعي، يبدو الديجافو السياسي اختلال في تدفق الزمن أو في مفهوم الزمن نفسه وتقسيماته، فتصير الذاكرة تذكراً للحاضر. ثمة تفسير يذهب إلى أن كل ذاكرة هي ذاكرة للحاضر وفي الحاضر، وبالتالي فالديجافو هو عودة بالذاكرة إلى أصلها. بهذا المعنى، هناك حاضران: الحاضر المدرك بالحواس والحاضر الكامن في الذاكرة. وهكذا يكون الديجافو تطابقاً استثنائياً وعرضياً للحاضرين. لا ينطبق هذا التفسير على حالتنا. خرج الأمر من دائرة الاستثناء إلى حكم الرتابة. فواقعنا السياسي صار في جزء منه يشبه ديجافو لديجافو سابق، أو بمعنى آخر سلسلة لا متناهية من الحواضر الزائفة.
في كتابه “الديجافو ونهاية التاريخ”، يخبرنا الفيلسوف الإيطالي باولو فيرنو أن الديجافو أحد العلامات الباثولوجية المميزة لزمننا كله، هو إعلان عن نهاية تاريخ نقدية على الضد من نهاية التاريخ بمفهومها الفوكويامي الانتصاري المغرق في سذاجته.
نرى تلك الظاهرة في كل مكان، حتى في مركز الإمبراطورية، تبدو الانتخابات الأخيرة في واشنطن وكأنها حدثت من قبل، ولكن باستبدال هيلاري كلينتون بكاميلا هاريس. الديجافو السياسي المعاصر يعطي إيحاء بأن المستقبل مغلق، فنحن معلقين في الحاضر، وتحديداً في الحاضر بصفته ماضياً مستمراً أو تورماً للذاكرة. جزء من المعضلة يكمن في الميديا الكثيفة وخلقها حاضراً أبدياً، حيث يقود التعرض المفرط لتزامن الذاكرة والإدراك إلى إدراك زائف للحاضر باعتباره لحظة حدثت بالفعل من قبل. أما أثقل ما يميز الديجافو السياسي كما نختبره اليوم في منطقتنا هو عجزنا أمام الحدث. فبدلاً من التصدي له، تنحصر معايشتنا له على محاولة تذكره والاستسلام الذاهل أمام قدرية ما نظنه تكراراً للماضي بحذافيره.
المدن
—————————-
القدر واسترجاع حلب
لم ازل عند عهدي، ثلاثة ايام/ أحمد نذير أتاسي
معركة حلب التي بدأت عام ٢٠١٥ واستمرت على ما اذكر ثلاث سنين كلفت اهل المدينة وضواحيها وريفها مئات آلاف الضحايا (شهداء، قتلى، ضحايا، اشلاء، رماد، تراب، لا يهم). قصف الروس والايرانيون وحزب الله والنظام المدينة بكافة انواع الاسلحة من القنابل الى البراميل مرورا بالفوسفور الابيض والكيماوي. بنايات بكاملها اكلتها البراميل وحولتها الى عاصفة رملية كنبوءة من التراب والى التراب. اخذها النظام واعوانه وهجروا المقاتلين والاهالي في الباصات الخضر سيئة الصيت الى فوضى ادلب وعنصرية تركيا. اليوم يتم استعادة المدينة والريف دون اي قتال وفي غضون ٢٤ ساعة.
هناك شيء داخلي ينق علي ويقول، طيب ليش كل هالضحايا؟ ما هو التبرير وما هي المقاضية والاثمان المدفوعة؟ هل لو بقيت المدينة لعقدين آخرين في يد النظام لكان دم الضحايا مبررا؟ هل لو عادت الى المعارضة بمعركة كبيرة توازي بالضخامة معركة عودتها الى النظام لكان دم الضحايا مبررا؟ هل لو انفجرت ثورة شعبية اخرى في المدينة ضد فشل النظام الممنهج لكان دم الضحايا مبررا؟ من المسؤول عن هذا الدم والتدمير؟ ومن يجب ان يدفع الثمن؟ اين العدالة؟
هذه اسئلة انسانية يسألها الفرد وحده لانه في علاقاته الاجتماعية معتاد على مبدأ المقايضة والثمن والثواب والعقاب والظلم والعدالة. لكن لو وضعنا انفسنا خارج مجموعة الافراد وعلى مستويات اعلى مثل مستوى الدولة او الاقليم او العالم فان مثل هذه الاسئلة لا معنى لها ولا جواب. مثل هذه الاسئلة تدخل في عداد القضاء والقدر، في حسابات القوى العليا التي تقرر ولا نعرف كيف تقرر لكن نقبل قرارها دون اعتراض لان اي اعتراض يعني سيلا من الاسئلة الانسانية التي لا جواب لها.
لكني هنا اريد تحليل مفهوم القضاء والقدر دون اللجوء الى الالهة )او لنتعرف على طبقات الالهة). الفرد جزء من منظومات اجتماعية اكبر منه مثل الاسرة والحي والمدينة والبلد والاقليم والعالم. على كل مستوى من هذه المستويات هناك لاعبون ليس لهم اية صفات انسانية. انهم مؤسسات ومنظومات ضخمة. نحاول ان نعطيهم اوجها بشرية بأن نقول زعماء الفصائل او بشار الاسد او سليماني (قبل ان يموت) او اردوغان او نتنياهو او بايدن او رئيس المخابرات التركية او رئيس المخابرات الامريكية او غيرهم من الاشخاص الذين يمثلون تلك المنظومات الهائلة والتي تحتوي على آلاف الاشخاص والكثير من الموارد المالية والقوة العسكرية. هؤلاء هم من يرسمون “القدر”.
عندما تكون مراقبا وتضع نفسك على مستوى معين من مستويات المنظومات فيجب ان تعلم ان فهمك قاصر. انك تعتقد ان كل شيء يكون بقرارات افراد على مستواك. وتهمل المنظومات الاكبر والمستويات الاعلى التي تتدخل بعمل اللاعبين على مستواك. القوانين التي تحكم عمل وقرارات تلك المستويات الاعلى تغيب عنك، تصبح غامضة ومحاطة بالاسرار وتعمل تماما عمل القضاء والقدر. منطقك الذي طورته كل حياتك لتفهم ما يدور حولك هو منطق مناسب فقط لمستواك. وكل ما هو فوقك لا معرفة لك به ويبدو عشوائيا كالآلهة القديمة التي ارسلت الطوفان لان الناس يتكلمون بصوت عال ازعجها في مسكنها على قمة جبل الاقرع او جبل الاولمب.
معركة حلب التي كلفت آلاف الضحايا تحكمها قوانين المستويات الاعلى. المستويات التي لا تعرف الضحايا الا باعدادهم، ولا تعرف الارض الا بموقعها الجيوسياسي. تلك المستويات قررت دخول المعارضة الى المدينة ثم قررت خروج المعارضة منها بمعركة طاحنة ثم قررت عودة المعارضة اليها دون قتال. انك لا تعرف منطقها ولا تعرف تبريراتها ولا تعرف لماذا اتخذت كل تلك القرارات. كل ما تعرفه انها كتبت في ألواح الاقدار “فلتعد مدينة حلب الى حضن هؤلاء، وربما نغير رأينا في المستقبل ولن نشرح لك لماذا”. خليك عم تحزن وتفرح وتحزن، خليك عم تحفر قبور هنا وهناك، خليك عم تنصب خيمة هون وتحلم ببيت هناك. خليك عم تعيش على قدك ومستواك. ولا تنسى ان تشكر اللي اعلى منك على الاقدار وان تسألها التلطف في القضاء.
———————–
أن تكون مع لا أحد!؟؟؟/ حازم صاغية
4 ديسمبر 2024 م
في ما خصّ المشرق العربيّ، يصعب على العبارة أن تنطوي على وجهة واحدة أو أن تنمّ عن عاطفة وحيدة. فالارتياح الكبير لإضعافٍ كالذي نزل بـ «حزب الله» اللبنانيّ يولد مقروناً بالغضب الشديد حيال الجرائم التي أنزلتها الحرب الإسرائيليّة باللبنانيّين، وبالشيعة منهم خصوصاً، كما بالقلق ممّا قد تبيّته حيال المنطقة الحدوديّة في الجنوب، ولكنْ خصوصاً بالخوف حيال مستقبل السلم الأهليّ واحتمالات تصدّع ما بقي من مرتكزات لبنان مجتمعاً ودولةً.
وشيءٌ مشابه يمكن قوله عمّا جرى في حلب وغرب سوريّا، في ظلّ تهالك مبكر كشفته الغارات الجوّيّة الإسرائيليّة المتلاحقة، وهذا قبل اعتصام النظام بالصمت المطبق منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. هكذا ننتهي إلى وضع يتجاور فيه شعوران:
من جهةٍ، الابتهاج بالهزّة القويّة التي أصابت الوضع القائم، كما ثبّته التدخّل الجوّيّ الروسيّ والبرّيّ الإيرانيّ قبل سنوات، وبعودة لاجئين ونازحين بمئات آلافهم، سبق أن هجّرهم عنف النظام وحلفائه، وبإطلاق سراح مساجين رأي (لا المساجين بإطلاق)،
ومن جهة ثانية، الذعر حيال القوى الإسلامويّة التي قد «تملأ الفراغ»، والمشهود لها بالبدائيّة والتعصّب والموقف القروسطيّ حيال الأقلّيّات والمرأة والتعليم…
وإذا صحّ أنّ هناك «سيناريو تركيّاً» تتحرّك الأحداث على وقعه، وبموجبه تتواطأ مع أنقرة قوى إقليميّة ودوليّة مؤثّرة، تمدّدَ الذعر نحو ما قد يصيب الأقلّيّة الكرديّة هناك كما في سائر نقاط إقامتها شرقاً، وهو ما انطلق مبكراً وبقوّة، وربّما لاحقاً نحو الأقلّيّات الأخرى، بوصف ذلك نوعاً من الاستطراد المأسويّ.
أمّا في العراق، وعلى افتراض أنّ المنطقة تعيش نزعاً للنفوذ الإيرانيّ، خصوصاً إذا أريدَ إحلال «الحشد الشعبيّ» في العدوان على السوريّين محلّ «حزب الله»، فلسوف يلازمنا الازدواج نفسه في الشعور والموقف: احتفال صارخ بالمصائر التي قد تلقاها ميليشيات الأمر الواقع، وكمدٌ مردّه أنّ ميليشيات مذهبيّة مضادّة لها، يجمعها بها التخلّف والتعصّب، قد تنوب منابها.
وهناك عشرات الأمثلة التي يمكن إيرادها، تلتقي كلّها عند استحضار الازدواج في الموقف والشعور، وذلك تبعاً لانعدام القوى التي يتأدّى عن عملها صون البلدان والجماعات الوطنيّة في ظلّ علاقات مقبولة من الاستقرار وحكم القانون والانفتاح على العالم.
فبعد أكثر من نصف قرن من النظام الأمنيّ المتجبّر، الفئويّ والإباديّ، ومعه تكلّسٌ ثقافيّ وقِيَميّ طال شؤون الحياة والإيمان والتعليم من غير استثناء، ها هو المشرق ينتصب مساحةً مريضة ومرضيّة، تنسحب منها السياسة وتتربّع في صدارتها الولاءات القرابيّة والعصبيّة، الطائفيّة والإثنيّة، التي يجمع بينها شَبَه في المضمون وتنافس على التسلّط.
بيد أنّ الفشل الذي انتهت إليه ثلاثة أحداث – تطوّرات، على رغم التفاوت في أهميّتها وتأثيرها، هو أكثر ما جفّف القوى الحيّة والواعدة، جاعلاً النهاية البائسة أقرب إلى قدر.
ففي 2003 لم يخرج من إطاحة صدّام حسين عراقٌ موحّد تنشأ فيه حياة سياسيّة تمتصّ النزعة الثأريّة وتحدّ من الولاء الطائفيّ والإثنيّ أو تعمل على ترويضه. وكان للنخبة السياسيّة التي اندفعت إلى توسيع حصّة النفوذ الأجنبيّ على حساب السيادة الوطنيّة دور حاسم في تعزيز الوجهة هذه وتكريسها.
وفي 2005 حيلَ دون تحوّل «الاستقلال الثاني» في لبنان مقدّمةً لبناء مجتمع سياسيّ حديث مرشّح لعبور طوائفه. وهو ما تواطأت لإنتاجه ثقافة متخمة بالولاء العصبيّ، وعنف اغتياليّ متسلسل، وافتعال لحرب 2006 بهدف قطع الطريق على أيّ تغيير إصلاحيّ في الداخل.
وكانت الطامة الكبرى مع هزيمة الثورة السوريّة بعد سنة ونيّف على قيامها في 2011، وتناسلها في حرب أهليّة. فالنُوى الحديثة التي قادها السعي إلى تغيير مدنيّ وسلميّ لم تقو على الصمود أمام نظام بالغ الشراسة من جهة، وأمام ميليشيات إسلاميّة ضيّقة الأفق من جهة أخرى. وبسبب موقع سوريّا المركزيّ في منطقتها، فتحتْ هزيمة الثورة الباب واسعاً لتعفّنٍ ضرب أطنابه في سائر المشرق، لا في بلدها وحده، وهذا قبل أن تصاب الأجندة التقدّميّة بنكبة «طوفان الأقصى» وطغيان القضايا البليدة والقديمة إيّاها.
وإذ بُدّدت الفرص الثلاث الكبرى، وسط عالم عربيّ كانت تتلاحق انهياراته في ليبيا واليمن والسودان، غدا المشرق مجرّد مساحة لـ «لعبة الأمم»، دلالةً على قوّة العناصر الخارجيّة وامتدادها في ميليشيات محلّيّة تابعة لها. وإذ تبدو الخرائط كلّها في مهبّ الريح، تتوحّد المشاهد عند جماعة تقصف جماعةً وأعداد من السكّان تهيم على وجهها جائعة خائفة مذعورة.
وهكذا لا يتبقّى لنا سوى القحط والصِفريّة السياسيّين يدعواننا إلى شيء من التواضع والرجوع إلى الأسئلة الأولى: ما الوطن والمواطنة؟ ما الدولة؟ ما السياسة؟ من أين يكون البدء؟. فبأسئلة كهذه نعاود الاتّصال بتاريخ جمّده مزيج الطغيان الأمنيّ والترهّل الفكريّ والثقافيّ. أمّا مع القوى المترسّبة على اختلافها، بالمتصارع منها والمتحالف، فلا ينتصر واحدنا مع مَن ينتصرون ولا ينهزم مع من ينهزمون.
الشرق الأوسط
————————
من يحمل لواء التغيير في سوريا.. الواقع أم الخيال؟/ آلاء عوض
2024.12.04
يمكن التفكير بجماعات خيالية، تقود معركة التحرّر الحقيقية والوطنية في سوريا، تدخل إلى مناطق النظام بعدتها وعتادها، فتهزّ عروشه وأركانه وتطرده من مناطق نفوذه، وتُذهل سواد الشعب بالعقلانية والمنطق والحكمة، تتسلّم مقاليد الحكم وتصعد بسوريا نحو الغيوم، ويمكن انتظار هذه الجماعات الخيالية عقداً آخر أو ربما عقود، يتشرّد فيها كل السوريون ويموتون قهراً، وبرداً، وجوعاً، وخوفاً.
ويمكن أن تكون هذه الجماعات موجودة فقط في مخيلة وعقول بعض النخب السورية التي ما فتئت تتغنّى بـ “الحل السياسي” وتتصيّد في الماء العكر على الرغم من درايتها التامة أن ما أُخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة وأن الحقوق تُنتزع.
ما تتبجح به هذه النخب ناتج إما عن فهم محدود للواقع أو تُحرّكها مصالحها لمقاومة أي حركة تغيير حقيقية قد تؤول في النهاية إلى خسارتها مناصب ومكاسب.
فحالة تصيّد الأخطاء والتخويف اللامنطقي من الفصائل تثير الشكّ في عقول كثير من السوريين، بمن فيهم الأقليات الدينية والعرقية والذين أبدوا موقفهم في الأصل أنهم ضد أيّ حكم ديني. يعلم السوريون أن الحديث العقلاني في سوريا اليوم بات ضرباً من الخيال، وأن الحكمة الرشيد التي ينشدها كل مواطن شريف لا يمكن بلوغها في الوقت الراهن، ويستحيل بلوغها قبل تغيير الأساس، فنحن نريد تغيير الطاغية أولاً وبأيّ ثمن وبعد ذلك يمكننا أن نغيّر ما نريد، ونستشهد بحديث للراحلة مي سكاف التي رددت في مقابلة تلفزيونية “نريد تبديلاً مهما كان، مللنا من آل الأسد”.
نوجّه ذات هذه الرسالة لبعض “النخب” ونقول لهم: كفاكم فلسفة ومواعظ خيالية ودعونا نفند الواقع، لا يوجد في الحالة السورية الآن هذه الكتلة الفائقة التي تتحدثون عنها وتنتظرون منها تغييراً أو تحريراً، ومن الطبيعي أن ترتكب الفصائل بعض الأخطاء والتي ما زالت إلى الآن لا تذكر، وأقل من أن يتم تعظيمها لتبخيس الإنجاز.
عندما كان النظام يتقدم على الأرض ويرفض أي تغيير، بات كثيرون ينادون بـ”الواقعية السياسية” والتي تعني الرضوخ له ولحلفائه، وعندما أحدثت الفصائل تغييرا على أرض الواقع، أصبح الخيال هو المنشود.
لا شيء أسوأ من الاستقرار السلبي الذي كان كامناً في المناطق التي انتزعها النظام بالقوة قبل أعوام، فلا تعليم ولا تنمية ولا اكتفاء ذاتي على أي مستوى، والسكان يصفون أن حياتهم كانت “من قلة الموت”، الركود الذي فرضه النظام بالقوة ليس استقراراً منشوداً وأي حجر يحرك مياهه لمصلحة كل مواطن سوري أولاً.
أما الحديث عن التجاوزات والأخطاء فهو أيضاً مشروع، ومن حق كل سوري أن ينتقد أي تصرّف مستفز ولا أخلاقي يصدر عن أي جهة، لكن وضعه (النقد) في السياق أيضاً واجب ويكون التساؤل وفقاً لمعادلة رياضية بسيطة هل يوجد أسوء وأكثر وحشية من النظام؟ بالطبع سيكون جواب الغالبية العظمى من السوريين لا، أما مقاربة البعض بأنه ما الفائدة من تغيير نظام الأسد بجماعات تكفيرية فهو خروج عن النص وشذوذ عن الهدف الأنبل والأعظم الذي اشتعلت لأجله الثورة السورية.
المُحزن أن هذه النخب قد تكون مؤثرة على بعض مؤيديها وقد تحرف مسارهم وبوصلتهم، لكن البيّن أن معظم السوريين بكل تنوعهم وأطيافهم مجتمعون على فرحة لا مثيل لها ومتفقون على أن ما يجري الآن قد يكون حلّاً مهما تعاظمت المكائد وتآلفت ضدهم التفاهمات السياسية الإقليمية والدولية، ثم ماذا يملك السوريون اليوم إلا التفاؤل؟ وعلى من يراهنون؟
ليس بوسع أي سوري اليوم سواء كان في المهجر أو في سوريا إلا أن يتفاءل بأن القادم قد يكون أفضل، قد يعود لمدينته التي هُجّر منها قسراً أو يرى أهله، ولا هدف أسمى من هذه الأهداف. الحدس العاطفي الجماعي للسوريين الذي برز خلال الأيام القليلة الماضية يؤكد أنهم على الطريق الصحيح، وأن أي نتائج ليست مثالية لما يجري الآن لا تدينهم ولا تدين موقفهم ولا تدين حتى ما يصدر عن الفصائل من أخطاء ويترتب على كل سوري شريف الواقعية ومحاولة تصحيح المسار.. وما أكثرهم.
تلفزيون سوريا
————————-
ارتباك المواقع في الصورة التاريخية/ علي سفر
2024.12.04
في الصور الملتقطة للمشاهير، ضمن الفعاليات الجماهيرية، يمكن أن نلمح دائماً أشخاصاً عابرين، استحوذت العدسة على وجوههم، دون أن يكونوا معنيين بها، أو مهتمين بالشخصيات التي تتصدرها.
وفي أمكنة أخرى، عندما يزور أحد ما مكان عمل، ويقرر أن يوثق زيارته، يطلب من المشتغلين فيه أن يتابعوا عملهم، فهم سيظهرون في المشهد، لكن المُشاهد سيصب اهتمامه على شخصية الزائر، أي أنهم ومن خلال هذا التكنيك سيصبحون هامشيين، يتوزعون حول صاحب اللقطة التذكارية.
لا يمكن أن نحمّل شيئاً عادياً كهذا أحمالاً ثقيلة، كأفكارنا عن المهمشين في المجتمعات، إذ سيبدو الأمر قسرياً، يخالف المنطق الطبيعي للأشياء، لكن حين تصبح ممارساتنا السياسية قائمة على إهمال الهامشيين، وعدم النظر إلى أحوالهم، ورغباتهم، وآمالهم، بعد سنوات طويلة من الشقاء، واعتبار أفكارنا عن الحلول للأوضاع الكارثية التي يعيشونها صحيحة، ترقى إلى مصاف اليقين، فإن ما تلتقطه كاميرا التأريخ اليومي، يصبح وثيقة، تحكي عن أن ثمة شريحة من المشتغلين في أمور السوريين، لا يعطون أوضاع الضحايا أهمية تُذكر، إلا بوصفهم هامشيي المَشاهد، التي يقفون في وسطها.
سوريو المخيمات، النازحون والمهجرون قسراً، صمتوا طويلاً حيال أولئك الذين كانوا يأتون إليهم، ليلتقطوا الصور، ولأنهم لم يعتبروا أن حيواتهم الراهنة، وبكل ما تحتويه من بؤس، مهرجاناً أو احتفالاً، تفاعلوا بإيجابية مع كل الزائرين، لا بل إنهم كانوا يتطوعون لشرح مفردات بؤسهم، وكأنها مصير متوقع.
لكن الأحوال كانت تنتهي دائماً، طيلة سنوات النزوح والتهجير، إلى إهمال مستدام، وكأن الطابعات تعمل، على تكرار صور تهميشهم، إلى ما لا نهاية.
هؤلاء هم مادةُ، وهم جمهورُ، ما نكتبه من مقالات، وما نرسمه من لوحات، وما نسطره من قصائد وقصص وروايات، وهم حيثيات الألم السوري، الذي نحكي عنه في الأفلام، التي ننشرها على يوتيوب، وهم من يقف وراء جدار الاستوديو في البرنامج التلفزيوني، وهم أصحاب الهمهمات والخطوات، في خلفية صوت اللقاء الإذاعي، وهم أساس شخصيات الدراما والأفلام والمسرحيات.
كل شيء يؤدي، إلى تصدرنا في وسط الصورة، هم صلصاله، وألوانه، وأشجاره وجباله، وزهوره بيناعتها وذبولها، وخضرة أعشابه وصفرتها ويباسها.
هذه المقدمة، وعلى كثرة سطورها وكلماتها، هي جوهر المقالة، حين يقرر صاحب هذه السطور، كتابة شيء عما جرى ويجري، منذ أن انطلقت عملية ردع العدوان.
التفاصيل التي يمكن إيرادها -ودائماً هناك تفاصيل يمكن جمعها للحديث عنها في المقالة- من تقدم فصائل إدارة العمليات العسكرية، وسيطرتهم على محافظتي حلب وإدلب، بما تحتويانه من عشرات المدن والنواحي والقرى، وحدوث ما يشبه زلزالا ميدانيا وسياسيا، من جراء المبادرة إلى اغتنام فرصة إقليمية، لا تتاح دائماً، للمضي في خيار، ثبت أنه أفضل الممكن، للتعامل مع نظام مراوغ، بمواصفات غير مسبوقة، لجهة بنيته الإجرامية، وفعاليته التدميرية.
كل هذه التفاصيل، يمكن شرحها، كما يجوز رصد أن التصورات الأولى عن العملية، التي جرى الحديث عنها منذ شهرين، كانت تعني حكماً، أن ثمة ضحايا من المدنيين سيسقطون، من جراء ردود إجرامية للمتحالفين ضد السوريين الثائرين، أي الأسد وميليشيات إيران وطيران روسيا البوتينية، وأن التقييم الأولي عن العملية كاحتمال، يعني أن السوريين مقبلون على مجزرة كبرى، وأن الواجب هو رفضها، طالما أن الجهات الإقليمية والدولية، التي يمكن أن تدعمها، تبدو مشغولة عن هموم أصحاب القضية، بمشاريع بناء علاقة مع سفاح دمشق، طالما أنه مستمر في قصره، يراقب في الصباح قتلى، أطلق عليهم النار في المساء.
كل شرح وقول، ظهر منذ ذلك الوقت، إلى تاريخ انطلاق العملية العسكرية، بهدف وحيد هو السيطرة من أجل إبعاد خطر القصف اليومي ضد المدنيين، قوبل بامتعاض النازحين واللاجئين المتشوقين للعودة إلى منازلهم وأراضيهم، ممن باتوا يفضلون الموت، على الحياة المغمسة بالشقاء.
نستطيع أن نعيد كتابة القضية، بشكل معكوس، فنجعل المادة الرئيسة، هي الحدث العسكري، ونتائجه، وردود الأفعال حوله، وأن نختم الكلام بالإشارة، إلى عودة مئات الآلاف، إلى منازلهم كنتيجة، لكن، أليس من واجب عقولنا، أن ترغمنا على الحصافة والدقة في اختيار كلماتنا، ونحن نتحدث عن ذوات الآخرين، وهم يتألمون؟
فإذا كان الأمر هو هذا، فإن مركزية قضية السوريين، المهملة منذ 14 سنة، تأخذ حقها من مساحات الصور كلها، وتؤدي في النهاية، إلى جعلنا نحن هامشها، بعد أن خُيّل للكثيرين منا، أننا أبطالها.
————————-
فصل جديد في النزاع السوري.. مكاسب المعارضة المسلّحة والتحوّلات الجيوسياسية/ فضل عبدالغني
2024.12.04
يشهد النزاع السوري، المستمر منذ سنوات، تحولاً نوعياً منذ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، فقد شنت فصائل المعارضة المسلّحة بالتعاون مع “هيئة تحرير الشام” (أطلق عليهم اسم “إدارة العمليات العسكرية”)، هجوماً مباغتاً ضد قوات النظام السوري، ضمن عملية أُطلق عليه اسم “رد العدوان”.
وخلال أقل من أسبوع، تمكّنت المعارضة من تحقيق مكاسب إقليمية ملموسة، شملت السيطرة الكاملة على مدينة حلب، بما فيها مطاراتها العسكرية، ومحافظة إدلب بأكملها، كما تقدّمت في ريفي حماة الشمالي والغربي ووصلت إلى مشارف مدينة حماة.
يُعد هذا التطور الإقليمي الأكبر منذ اتفاق موسكو عام 2020، فقد أدى إلى قطع خطوط الإمداد الرئيسية للنظام، وعلى رأسها الطريق الدولي السريع (M5)، ما فتح الباب أمام مزيد من التقدم في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات النظام السوري.
التقدم السريع الذي حقّقته المعارضة السورية يعكس مجموعة من العوامل المشتركة، أبرزها التنظيم المتزايد والتطور الملحوظ في قدراتها العسكرية من جهة، وتراجع دعم النظام السوري من قبل حلفائه التقليديين من جهة أخرى. فرغم أن روسيا وإيران و”حزب الله” اللبناني مثلوا أعمدة أساسية لاستقرار النظام السوري في السنوات السابقة، إلا أنهم باتوا يواجهون تحديات متنامية ناجمة عن أزمات داخلية وخارجية.
موسكو وتحول الأولويات
أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تغيير استراتيجي كبير في أولويات موسكو، فقد أُعيد توجيه الموارد العسكرية والبشرية التي كانت مخصصة لدعم النظام السوري نحو الجبهة الأوروبية، ترك هذا التحول فراغاً واضحاً في سوريا، انعكس على تراجع فعالية القوات الروسية هناك إلى أدنى مستوياتها، منذ العام 2016.
وتشير التقارير إلى أن قاعدة حميميم الجوية تعمل الآن بأقل من عشر طائرات نشطة، مع سحب العديد من أنظمة الدفاع الجوي والخبراء العسكريين لدعم العمليات في أوكرانيا.
طهران وتحدياتها المتصاعدة
تواجه إيران، الحليف الأكثر موثوقية للنظام السوري، أزمات متزايدة على عدة جبهات. داخلياً، تتفاقم التحديات الاقتصادية وسط اضطرابات سياسية متزايدة، في حين تواجه عسكرياً ضغوطاً ناتجة عن الحروب بالوكالة والمواجهات المباشرة مع إسرائيل.
ونتيجة لذلك، أدت الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة على المواقع الإيرانية في سوريا إلى تقليص قدرتها على دعم قوات النظام بشكل فعال، وبالنسبة لـ”حزب الله”، أحد أبرز حلفاء إيران في سوريا، فهو الآخر يعاني أزمة وجودية من جراء تصعيد المواجهة مع إسرائيل، مما أدى إلى تراجع قدرته على التأثير المباشر في ساحة المعركة السورية.
التحولات التكتيكية للمعارضة المسلحة
الهجوم الأخير كشف عن تغير نوعي في قدرات المعارضة المسلحة، التي تحوّلت من جماعات متفرقة وغير منظمة إلى قوة متماسكة قادرة على التخطيط والتنفيذ بكفاءة عالية:
الدور التركي في دعم المعارضة السورية: استراتيجية متعددة الأبعاد
التقدّم الأخير الذي حقّقته المعارضة السورية يلقي الضوء على الدور المحوري الذي تلعبه تركيا في صياغة المشهدين العسكري والسياسي، فقد تبنّت أنقرة استراتيجية متعددة الطبقات لتحقيق أهدافها الأمنية والجيوسياسية، مع الحفاظ على توازن دقيق في تحالفاتها الإقليمية.
وتتمثل هذه الاستراتيجية في تقديم دعم غير مباشر للمعارضة السورية، بهدف تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
أولاً: تعمل تركيا على إضعاف خصومها الإقليميين، وعلى رأسهم النظام السوري والقوى الكردية، اللذان تعتبرهما تهديدًا مباشرًا لنفوذها وأمنها القومي.
ثانياً، تسعى أنقرة إلى تعزيز نفوذها في شمالي سوريا لضمان حماية مصالحها الجيوسياسية على المدى البعيد.
وأخيراً، تسعى تركيا إلى معالجة قضية اللاجئين السوريين، التي تمثل تحدياً داخلياً متزايداً، من خلال العمل على إنشاء مناطق آمنة تمهد لإعادة اللاجئين تدريجياً إلى أراضيهم.
ومع تعثّر مساعي تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، نتيجة لرفض “الأسد” للمبادرات التركية، يبدو أن دعم أنقرة لهجمات المعارضة المسلحة يُستخدم كوسيلة ضغط على النظام السوري. ومع ذلك، تُدير تركيا هذه التحركات بحذر، لتجنب تصعيد التوتر مع روسيا، التي لا تزال شريكًا استراتيجيًا لأنقرة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
خطة نظام الأسد: مواجهة مليئة بالتحديات
في مواجهة الانتكاسات العسكرية الأخيرة، اعتمد النظام السوري سلسلة من التدابير المضادة، من بينها تعزيز القوات وشن ضربات جوية عنيفة، إلا أن هذه الإجراءات تظل محدودة الفعالية، نظراً إلى ضعف الجيش السوري واستنزاف موارده المتاحة، فالتدهور البنيوي العميق للنظام، الذي تفاقم بفعل تراجع الدعم من الحلفاء، جعل “الأسد” أكثر هشاشة أمام التحديات المتصاعدة.
يعاني النظام السوري من تراجع ملحوظ في الدعم الذي يقدمه حلفاؤه التقليديون، فالأزمات الداخلية والخارجية التي تواجهها كل من روسيا وإيران حدّت من قدرتهما على تقديم دعم فعال ومستمر للنظام.
من جهة أخرى، تقارير متعددة كشفت عن حالة من الإحباط تسود بين صفوف الجيش السوري، مع تزايد الانشقاقات وأسر العديد من الجنود، مما يعكس انهيار الروح المعنوية بشكل كبير.
في ظل هذه الظروف، من المتوقع أن يعتمد “الأسد” على نهج الهجمات الانتقامية العنيفة لاستعادة السيطرة النفسية والمعنوية على قواته ومؤيديه، وتعد هذه الاستراتيجية تكراراً لما حدث في فترات سابقة، عندما شنّ النظام ضربات جوية مكثفة على مدن مثل حلب وإدلب.. تهدف هذه الهجمات إلى رفع الروح المعنوية للموالين للنظام من خلال إظهار قوته، مع تثبيت وجوده في المناطق المتبقية عبر إعادة الانتشار في حال خسارته مواقع جديدة.
يتبع “الأسد” سياسة البقاء بأي ثمن، حتى إذا تطلب الأمر القتال داخل دمشق نفسها، وبالتوازي، يرفض تماماً أي شكل من أشكال الانتقال السياسي، مُصراً على أن استمراره في السلطة يمثل الأولوية القصوى، بغض النظر عن الأضرار التي تلحق بالبلاد وشعبها.
الأزمة الإنسانية في سوريا
مع تصاعد وتيرة النزاع السوري وتجدّد هجمات المتمردين، تحمل المدنيون العبء الأكبر من هذا الصراع المستمر، فقد شهدت الأسابيع الأخيرة زيادة كبيرة في الأعمال العدائية، ما فاقم الوضع الإنساني الكارثي الذي تعيشه البلاد.
ووفقاً لتقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، نزح قرابة 48 ألف شخص في ظروف شديدة القسوة، فقد واجهت المنظمات الإغاثية صعوبات جمة في تقديم المساعدات لهم.. وإلى جانب النزوح، فقد ارتفعت حصيلة الضحايا المدنيين بشكل مقلق خلال الفترة الممتدة بين 27 تشرين الثاني/نوفمبر و3 كانون الأول/ديسمبر 2024.
وتشير الإحصائيات التي وثقتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى مقتل 149 مدنياً، بينهم 35 طفلًا و16 سيدة، وتُظهر هذه الحصيلة تبايناً في الجهات المسؤولة عن سقوط الضحايا، فقد كانت قوات النظام السوري مسؤولة عن مقتل 105 أشخاص، من بينهم 33 طفلًا و13 سيدة.
في المقابل، قتلت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) 27 مدنياً، في حين أودت القوات الروسية بحياة 8 مدنيين، بينهم طفلان وسيدتان، ولم تكن فصائل المعارضة المسلحة بمنأى عن الاتهامات، إذ تسببت في مقتل 5 مدنيين، بينهم سيدة واحدة، في حين أشارت التقارير إلى مقتل 4 مدنيين على يد جهات أخرى.
توسعت ساحات القتال بشكل أدى إلى تعقيد وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة، فقد أصبحت الأوضاع الأمنية المتدهورة عقبة رئيسية أمام العمليات الإغاثية، لا سيما مع استمرار الغارات الجوية للنظام السوري وروسيا، التي جعلت إيصال المساعدات إلى السكان محفوفًا بالمخاطر.
تحديات الحوكمة واحترام حقوق الإنسان
رغم التقدم العسكري الذي أحرزته المعارضة السورية مؤخراً، إلا أنّ إدارة المناطق المحررة حديثاً باتت تمثل تحدياً من نوع آخر، فنجاح المعارضة في هذه المرحلة لا يقتصر على الإنجازات العسكرية، بل يعتمد بشكل كبير على قدرتها على توفير حكم عادل ومستدام في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
الهيمنة السياسية والعسكرية لـ”هيئة تحرير الشام” في إدلب، التي تتسم بأصولها الجهادية ونمط قيادتها الاستبدادي، تثير مخاوف كبيرة لدى المدنيين، ورغم المحاولات التي تبذلها الهيئة لتقديم نفسها كقوة منظمة وبراغماتية، إلا أنّ التقارير المتزايدة حول الانتهاكات، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية وقمع المعارضة السياسية، تعزز الشكوك في قدرتها على كسب ثقة السكان وتحقيق حكم رشيد.
إلى جانب المخاوف السياسية، تواجه المعارضة تحديات إدارية هائلة، خاصة في إدارة مدن كبيرة مثل حلب، فغياب الخبرة الإدارية اللازمة قد يؤدي إلى صعوبات في حفظ الأمن، وتوزيع الموارد بشكل عادل، وكسب ولاء السكان المحليين.
كذلك، فإنّ وجود فصائل متنوعة ضمن غرفة العمليات المشتركة للمعارضة يُنذر بصراعات داخلية محتملة، إذ تتعدد الخلفيات والأهداف بين هذه الفصائل، مما قد يشعل نزاعات حول السيطرة على الموارد والمناطق المحررة.
التحديات الإدارية والحقوقية في المناطق الخاضعة للمعارضة تجعل النجاح العسكري عرضة للتآكل، خاصة إذا لم تتم معالجة المشكلات الأساسية.
من دون احترام حقوق الإنسان، ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات، وتعزيز الوحدة بين الفصائل، وإنشاء حكومة مدنية مستقلة قادرة على تقديم الخدمات الأساسية، فإن الإنجازات العسكرية ستظل مجرد انتصارات مؤقتة قد تتحول إلى بؤر جديدة للفوضى وعدم الاستقرار.
جوهر الصراع وأفق الحلول
الأحداث الأخيرة في سوريا تؤكّد أن جوهر الأزمة يكمن في استمرار حكم عائلة “الأسد”، منذ عام 1970، بسياسات قمعية تعتمد على الحديد والنار، فضلًا عن غياب أي عملية انتقال سياسي حقيقية.
إنّ حل الأزمة السورية لا يمكن أن يتحقق من دون تدخل دولي جاد يفرض على جميع الأطراف الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والمجتمع الدولي مطالب بالاضطلاع بدور أكثر فاعلية في إنهاء الصراع وإجبار الأطراف المتحاربة على تقديم تنازلات تفضي إلى تسوية شاملة، إذ من دون هذا التدخل، ستظل سوريا أسيرة دائرة مفرغة من الحروب والصراعات، يدفع ثمنها دائماً المواطن السوري.
تلفزيون سوريا
————————
في التقاط الأنفاس وواجب المجتمع المدني الحلبي/ محمد السكري
2024.12.04
استطاعت المعارضة السورية ضمن عمليتي “ردع العدوان” و”فجر الحرية”، بسط سيطرتها على كامل مدينة حلب، وهذه المرّة الأولى التي تستطيع فيها المعارضة السيطرة على حلب، لا سيما “القسم الغربي” منها، الذي يشهد تنوعاً دينياً متمايزاً عن المناطق التي سبق أن سيطرت عليها المعارضة.
قدَّمت المعارضة عبر غرفة “إدارة العمليات العسكرية” خطاباً أقرب إلى الوطني منه للأيديولوجي، في رغبة جلية في إدارة الانطباع العام أمام الرأيَين العامَّين المحلي والدولي، في محاولة للتدليل على وجود بديل مدني وعسكري جديد عن النظام السوري قادر على فرض السيادة على المنطقة.
مع أنّ “هيئة تحرير الشام” تقود العملية، إلا أن التجاوزات المدنية والانتهاكات تعتبر أقل مما كانت عليه ضمن العمليات العسكرية السابقة، وهذا يدفع بالضرورة لأجل التفاؤل الحذر من مآلات السيطرة المستقبلية وآليات العمل المنتظرة.
تستقدم الهيئة “حكومة الإنقاذ” إلى مدينة حلب من أجل إداراتها، وفي الوقت ذاته تدعو منظمات المجتمع المدني السوري والفرق الإنسانية والصحافة الغربية للدخول إلى حلب والعمل من أجل المدينة؛ لكن انتشار لافتات جهادية في أحياء مسيحية كالميدان جعل المراقب لهذه التطورات حذراً أمام السلوك الذي تنتهجه “الهيئة”.
أرسلت “حكومة الإنقاذ” تطمينات كبيرة لأهالي حلب، ما جعلهم في حالة أفضل لكنها لم تصل بعد إلى الشعور الكامل بالحرية والأمان، لأسباب مختلفة لا شك أن أبرزها الخوف من عودة النظام للمدينة كسيناريو سابق والانتقام من الأهالي، والثاني متعلق بخلفية بعض قوات المعارضة كالهيئة التي ما زالت الشكوك حول ارتباطها بـ”القاعدة” حاضرة رغم تحولات كبيرة في إدارة الجولاني؛ لكنها تبقى من ناحية السلوك مربكة وغير كاملة أو حقيقية، في ظل انتشار عناصر جهادية غير سورية في حلب كما أظهرت إحدى الصور أمام القلعة، عندما رُفعت راية “هيئة تحرير الشام” على قلعة حلب إلى جانب علمي الثورة السورية وفلسطين.
تتطلب المرحلة الجديدة، ضرورة “إدارة التكامل الوطني” من خلال دخول أهالي حلب أنفسهم الذين سبق أن كانوا جزءاً من المشهد المدني والإنساني قبل تهجيرهم، أواخر العام 2016، ويبدو أن هذا يحصل بدخول تلفزيون سوريا، وفريق ملهم، والدفاع المدني السوري، واتحاد طلبة سوريا (SSU)، ونقابة المهندسين السوريين الأحرار للمدينة والعمل ضمن القطاعات المدنية؛ بجانب وجود ناشطين بأعداد كبيرة يجولون في المدينة ويزورون الأهالي، خاصةً في الأحياء التي تشهد تنوعاً ثقافياً ودينياً.
وهذا بالفعل يشي بوجود نية ورغبة لدى “إدارة العمليات العسكرية” بإدارة التنوع في مدينة حلب؛ لكنه يبقى في مراحله الأولية؛ فسؤال السياق هو الأهم بمعنى هل “حكومة الإنقاذ” جادة في إدارة التنوع مع إفساح المجال أمام المجتمع المدني وناشطي حلب للعمل، أم أن ذلك مرتبط فقط بالمرحلة الحالية وضرورتها واستثماراً بها؟
ثمّة نضال ضد الديكتاتورية يتبعه آخر ضد العسكر، فسيادة المجتمع المدني مواجهاً المجتمع العسكري من أصعب استحقاقات الثورة، ولا يمكن اعتبار “حكومة الإنقاذ” و”الجولاني” سوى مجتمع عسكري لن يكون قادراً على فهم ظروف حلب وسياقها وتنوعها من دون التعاون مع أهلها وناشطيها والمجتمع المدني الحقيقي فيها، وعند هذه النقطة سيكون من غير الصائب خلق مجتمع مدني مشوّه، كما فعل “الجولاني” في إدلب، لأنّ ذلك سيعني نهاية الفرصة الذهبية الثانية للمعارضة السورية.
ضمن هذه الظروف، فإن “إدارة العمليات العسكرية” مطالبة بالدعوة الحقيقية إلى تشكيل حكومة “مدنية” ائتلافية تضم الأطراف السورية جميعها، والتفاعل مع قيمة وحجم الحدث والمدينة، فإلحاق حلب بـ”حكومة الإنقاذ” في إدلب غير ممكن، بينما الدعوة السريعة لتشكيل حكومة تضم الجميع وتصدّر أبناء المدينة أمر مهم للغاية وسيفتح المستقبل أمام السوريين والنموذج السوري الحقيقي البديل عن “الأسد”.
“حكومة الإنقاذ” أمام تحد كبير وخيارات عديدة وممكنة إن أرادت التنازل عن الفكر العسكري لصالح المدني، وإدارة التنوع والتكامل الوطني السوري وإفساح المجال أمام الحريات؛ ليس من بوابة الخطاب فقط وإنما في السلوك والنموذج، وهذا ممكن عبر التعاون ومد اليد الوطنية للجميع، لأن الرفض ستكون ضريبته كبيرة وأهم مفرزاتها المواجهة مع المجتمع المدني السوري في حلب ولربما سيكون هو الأهم لخصوصية المدينة وطبيعتها.
ومن هنا، يأتي دور المجتمع المدني السوري، لا تسمحوا لأحد أن يفرض عليكم أجندته مهما كانت، حلب لا يمكن إدارتها إلا بالتنوع والخطاب الوطني المحلي، ومن كبرى الأخطاء رفع أي رايات في حلب سوى علم الثورة السورية، وتتحمل النقابات والمنظمات مسؤولية كبيرة بعدم ترك حلب لمصيرها والتسليم بأي أمر واقع، كما تتحمّل مسؤولية التعلم من التجارب السابقة؛ بمعنى أن تتحول النماذج الحوكمية الوطنية السورية إلى أمر واقع وليس العكس.
ما يعني أنه لا بدّ من دخول المجتمع المدني السوري إلى حلب على وجه السرعة وأخذ الأدوار المناطة به قبل فوات الأوان؛ فإمكانية خلق نموذج وطني ممكنة وهي بيد المجتمع المدني وحده، بقدر أهمية التطمينات، لكنها غير كافية للاسترخاء والتسليم بالانفتاح؛ فالعمل السريع واجب قبل أن يجد المجتمع المدني السوري مهجراً للمرّة الثانية من حلب، فليكن تحرير حلب هو الأخير وليكن النموذج السوري الوطني الذي طال انتظاره.
————————
من إدلب إلى حلب وما بعدها/ موفق نيربية
3 – ديسمبر – 2024
ما جرى في شمال غرب سوريا حافل بالمفاجآت: هجوم هيئة تحرير الشام وحلفائها نفسه، والناس لم تلتقط أنفاسها بعد وتستردّها من لبنان؛ وسرعة اجتياحه وبساطته بين القرى والبلدات، إلى حلب نفسها، المدينة الأكبر في سوريا؛ إلى ذوبان قوى النظام السوري قبل أيّ مواجهة؛ إلى صمت النظام وغياب رئيسه لا يعلم أحد أين؛ إلى وإلى وإلى… ليست المرة الأولى التي تكون القوى الإسلامية المتشدّدة في حلب، وهنا أعني ما كان اسمه جبهة النصرة، وأصبح في ما بعد هيئة تحرير الشام. فقد كان هنالك المئات منها من بين من انسحبوا ضمن الاتفاق الروسي التركي أواخر عام 2016. بقيت أصداء تلك» الصفقة» تتردّد منذ ذلك الوقت وحتى الآن بين السوريين.
فقبل ذلك، في 24 مارس 2015 ، كان أن توحدت سبع مجموعات عسكرية شمال غرب سوريا، هي: «جبهة النصرة»، و»أحرار الشام» و»جند الأقصى»، و»جيش السنة»، و»فيلق الشام»، و»لواء الحق»، و»أجناد الشام»، لتأسيس جيش من حوالي عشرة آلاف مقاتل، سمته «جيش الفتح» تيمّناً بالفتوحات الإسلامية. كان الهدف المباشر لذلك التجمّع هو «فتح إدلب»، وطرد قوات النظام منها. تشكّلت أيضاً «غرفة عمليات» موحّدة لذلك الجيش، استمرّت المعركة أربعة أيّام، سيطرت بعدها تلك التنظيمات الإسلامية المتشدّدة بقيادة جبهة النصرة، التي لم تتأخّر كثيرا في فرض سيطرتها وانفرادها، ولم تهدف إلى دحر النظام وحسب، بل إلى إقامة دولة إسلامية جديدة.. والبعض لا يستبعد حالياً أن تستطيع إثبات هجرانها لهذا الفكر بالتدريج!
يوم «فتح إدلب»، حدث في اجتماع الهيئة العامة للائتلاف المعارض في إسطنبول، أن تمّ الاحتفاء بذلك الانتصار؛ وحين تجرأ أحد الأعضاء (الصديق زكريا الصقال) وطرح إنه يخشى ألّا يكون ذلك الفتح تحريراً، بل احتلالاً؛ وطرح آخرون مخاوفهم من بداية سياسات دخول المدن وتعريض المدنيين للأخطار (أنا مثلاً)، وضرورة الوقوف في وجه تلك الظاهرة. وإن كانت إدلب «مدينة» مهمة إلى ذلك الحدّ، فإنّ حلب تكاد تكون «المدينة» بأل التعريف. لكنّ الزمان قد تغيّر كثيراً منذ ذلك الوقت، وأصبحت حالة السوريين أكثر سوءاً وتعاسة، وهم الآن لا يتردّدون كثيراً، بعضهم على الأقل، بالنشوة لاحتمال عودتهم إلى ديارهم، وبالأمل العائد بهزيمة الاستبداد الجاثم على صدورهم. لا يفكّرون كثيراً الآن بطبيعة «المحرّرين» الجدد، بل يبحثون لهم عن الأعذار والتبريرات ويبنون تحليلات حول أنّ التغيير قد طال هؤلاء أيضاً. لقد وجدوا في هدوء دخول حلب وعدم المساس بالأهالي وحياتهم، جوانب من هذا التغيير، فأطلقوا العنان لأحاسيسهم العطشى. هنا نتحدثّ سياسياً ونترك ذلك جانباً، مؤقّتاً ونسبياً. لقد عكست هذه التطوّرات حتى الآن، درجة تدهور حالة النظام، وافتقاده للكثير من علامات الشرعية والطاقة على الاستمرار، إذ لم يحتمل مفاجأة واحدة حتى ظهرت عليه علائم التداعي والانهيار الفاضحة. واختفى رئيسه عن الساحة يومين وأكثر، تماماً عندما كان هنالك شيء كبير يحدث له ولسلطته. ربّما – ربّما فقط – يثبت ذلك ما قيل من مجلس الأمن القومي الأمريكي من أنّ ذلك من تأثيرات ضعف إيران وروسيا، يعني في ذلك ما حدث في غزّة ولبنان بعد أوكرانيا ومعها. لكنّ الوجه الآخر للمسألة هو معنى ما حدث على الجهة التركية، وأيضاً ما يمكن أن يعنيه لاحقاً أيضاً. فقد كانت ضربة مخططاً لها منذ فترة ليست بالقصيرة، وأُجريت آخر المناورات تمريناً على المعارك التي حدثت قبل شهر فقط، ولم ينتبه أحد إليها في غمرة ضجيج لبنان وغزّة. وفي الأيام الأخيرة قبل الهجوم كان قد تمّ تعزيز مهم جداً للمواقع (النقاط) التركية في محافظة إدلب، تلك التي كانت قائمة على أساس اتفاقات خفض التصعيد. وبالفعل، لم يجر التوقّف أبداً عند نفي الحكومة التركية لعلمها بما كان سيجري.
إن البعض على حذر وقلق ممّا يمكن أن يقوم به الأتراك باتّجاه آخر: هو الكرد وشمال شرق سوريا، حيث هنالك ما تعتبره الحكومة التركية خطراً داهماً على الأمن القومي، يتمثّل في قوات سوريا الديمقراطية، التي تعتبرها غطاءً لحزب العمال الكردستاني الذي يتركّز هدفه في مواجهة النظام التركي ومحاربته. وما شاهدناه في الأيام الخمسة الأولى هو تجنّب كامل من قبل قوات «ردع العدوان» للتحرّش بالطرف الكردي، حتّى في أحيائه في حلب، التي تحميها قوات حماية الشعب الكردية. لكنّ تحرّك «الجيش الوطني» المدعوم من تركيا لاحقاً، باتّجاه السيطرة على شرق حلب وشمالها بجيوبه الكردية وعلى طريق الرقّة في معركة حملت بدورها اسم «فجر الحرية»، قد يعني شيئاً في الأيّام المقبلة. انتبه البيت الأبيض كما يبدو إلى أهمية التأكيد على «حماية الأقلّيات»، لمتابعة تأثيره الغاضب الراضي، وغير المنظور مباشرة على كل العمليّة في مضمونها التركي، كما يبدو حتى كتابة هذه السطور. ظهر ذلك في بيان مجلس أمنه القومي حول هذه التطوّرات، الذي أكّد فيه أيضاً على مسؤولية روسيا وإيران عمّا حدث، وكذلك مسؤولية النظام من خلال رفضه المستمرّ التعامل مع القرار 2254. بذلك تجلّى أيضاً الأثر الكبير لتراجع الدور الإيراني وغياب حزب الله عن الساحة السورية منشغلاً بهمومه الخاصة، ومن ثمّ انكشاف درجة هشاشة النظام، حتى مجيء وزير الخارجية الإيرانية واجتماعه بغرفة العمليات – المشتركة بدورها- التي تضم جيش النظام والحرس الثوري والميليشيات المحسوبة على إيران، لشدّ أزرها وتنظيم شؤونها؛ وانكشاف مدى تراجع الوجود والدور الروسي أيضاً بالتدريج منذ غرقه في الأوحال الأوكرانية.
هنالك تقدّم لتركيا أردوغان على الأرض خصوصاً، ومن ثمّ سياسياً، غير معروف حجمه بعد، لا هو ولا مدى الطموحات لديها لإحراز شيء نوعي على الجبهة الكردية، قد لا يمرّ من دون سيل دماء جديد.. ما يجري على تخوم تل رفعت باتّجاه مخيمات اللاجئين من أهل عفرين، بمواجهة قوات «فجر الحرية»، المخيف أكثر بقليل ممّا يجري على تخوم أحياء الأشرفية والشيخ مقصود بأغلبيتهما الكردية وسكّانهما من الطوائف المتنوّعة في مواجهة قوات «ردع العدوان»، إنذار باحتمال الدخول في مستنقع دم جديد يزيد الوضع سوءاً على سوء. قال البعض إنّ ما جرى عقوبة تركية للأسد على رفضه المتغطرس لليد التركية التي امتدّت للتطبيع معه، وربّما يكون في ذلك جزء من الحقيقة، لكنه صغير أمام حجم ما يجري، الذي لا بدّ أنه كان يجهّز على نار هادئة وفي مطبخ جانبي منذ فترة ليست بالقصيرة. أصبح الموضوع الساخن الآن هو سوريا وقضيّتها، ويمكن أن تتّجه التطورات باتّجاهين رئيسين، واتّجاهات فرعية أخرى: رغبويّاً كما يُقال، بدأت تظهر رؤى ترى في تعنّت النظام السوري أمام الحلول التي تفتح الباب للانتقال السياسي وحلّ المعضلة سبباً عميقاً في أساس ما جرى ويجري الآن ومستقبلاً. كان ذلك التعنّت يصل إلى حدود غطرسة دولة كبرى أو يكاد، مع أن صاحبها يقف على رأس نظام وبلد يكاد يصبح ركاماً بسببه، وطريقة تعامله مع كلّ جلسة منعقدة، أو محتملة للجنة الدستورية مثال واضح على ذلك؛ والتفافه على الشرعية الدولية والقرار 2254 بالتعاون مع روسيا بوتين تفصيل إضافي أيضاً. من نافذة تلك الرؤية قد نرى انفتاحاً لإمكانيات سلمية لحلّ ما، وخصوصاً بعد انكشاف موازين القوى من غزّة إلى بيروت إلى حلب، فما لسنا نعلم بعد.. ويجلس أصحاب المصلحة في الحلّ للحلّ قبل فوات الأوان، ولا يمكن تحقيق ذلك إلّا عن طريق الشرعية الدولية والقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، والإرادة. فلا يمكن الجلوس إلى التسويات إلّا عند انسداد الأفق والشبع من الدماء ورائحتها، أو تهديداتها على الأقل. لأنه، عملياً- ولا سمح الله- قد ينكشف السقف عن صراعات جديدة ومتوزّعة، بوجود سياسات تركية قد ينفخ بها ما تحقّق حتى اليوم، إضافة إلى زيادة دور «معارضة» متشدّدة إسلامياً ومعزولة سابقاً بتصنيفها على أنها إرهابية، وانتعاش «داعش» و»القاعدة» معها؛ وما يمكن أن يضفيه ذلك من تشدّد في الجهات الأخرى كلّها، لتنفجر البلاد وتتعمّق تقسيماتها وتغدو بؤرة توتّر لن يهتمّ العالم إلّا بحجب تمدّدها إلى الخارج.. وهيهات أن يستطيع أحدٌّ ذلك!
فهل يبقى الأمر بوّابة لظهور «ولاية حلب» الإسلامية، أم أنّها تلك العثمانية؟! أم أن شيئاً آخر يمكن أن تجود به الأيام، ويحمل عودة لوعي العالم والمنطقة لأهمية إغلاق ملفّ سوريا المتعبة وشعبها المسكين؟
كاتب سوري
القدس العربي
——————————–
معركة حلب والسيناريوهات المقبلة/ عمر قدور
الثلاثاء 2024/12/03
بكل المقاييس، كان تقدّم الفصائل بقيادة “هيئة تحرير الشام” مفاجئاً جداً. والسيطرة السريعة على مساحات واسعة، من بينها مدينة حلب، ستلقي بآثارها الثقيلة على الأسابيع وربما الشهور المقبلة. وأول ما يمكن قول في هذا السياق، إن زلزال السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر أثبت التردي المهول في قوة الأسد، وأن يحدث هذا وهكذا على رؤوس الأشهاد، بعد كل الدعم الذي ناله، فهو يشير إلى خلخل بنيوي يجعل تعويم الأسد ميؤوساً منه لدى دوائر صنع القرار الدولية.
ومن المؤكد أن معركة حلب على نحو خاص أثبتت أيضاً تراجعاً في القوة الذاتية للميليشيات التابعة لإيران. وكانت هذه الميليشيات خلال سنوات قد لعبت دوراً أساسياً في تحقيق انتصارات لقوات الأسد، عندما كانت مدعومة بالطيران الروسي، الذي يعتمد سياسة الأرض المحروقة. أيضاً، بلا مساندة من الطيران الروسي ظهرت قوة الميليشيات على حقيقتها، وبان معها حال رجل الشرق المريض.
ومع الوصف الأخير، يجدر الانتباه إلى أن جزءاً أساسياً من نجاح الفصائل كامن أصلاً في استغلال الضعف الإيراني، وعلى نحو يمكن القول إن إيران في سوريا ولبنان بمثابة الرجل المريض الذي يُنظر في وراثة تركته. وهذا بالطبع لا ينتقص من أهداف داخلية لمقاتلين يرون معركتهم سوريّةً خالصة، ومنهم مهجَّرون منذ سنوات من حلب وغيرها من المناطق التي سيطرت عليها الفصائل. بل يمكن القول أن المسارعة إلى استغلال الفراغ الذي يخلّفه الرجل المريض هو من طبيعة السياسة والحروب، وهذا ما قد يبرر السيناريوهات المتفائلة لدى بعض المعارضين، أو هو الأجدر بتبريرها من شعارات ثورية لا تُصرف في الميدان.
يبقى من الحصافة الانتباه إلى أن إيران لن تسلّم بهزيمتها بالسهولة التي رأيناها في حلب، بل يصحّ القول أن معركة حلب لم تحدث بعد، وأفضل السيناريوهات ينصّ على أنها لن تحدث. وحتى بموجب الأفضل فإن المواقف الدولية تشير إلى توقف هجوم الفصائل عند مدينة حماة، لترتسم بدءاً منها شمالاً الحدودُ الجديدة لسيطرة الأسد. والأخير (وفق هذا التصور) سيكون ضعيفاً جداً، بعد فقدانه الدعم الإيراني، وعلى ذلك سيكون مستعداً للقبول بشروط التسوية كما لم يقبل بها من قبل. التصريحات التركية العلنية لم تذهب أبعد من هذا المطلب، حتى إذا كانت أنقرة تتمنى للفصائل أن تكمل اجتياحها لمناطق سيطرة الأسد كلها، فهناك خطوط حمراء دولية لا يُسمح بموجبها لأنقرة بالمزيد من التمدد.
لكن هناك العديد من الاحتمالات المغايرة للتصور السابق، فإيران قد لا تسلّم بهزيمتها بسهولة، والأخبار الواردة من العراق تفيد بأنها سارعت إلى تحشيد للميليشيات الإيرانية والعراقية هناك من أجل الزحف إلى حلب. ولم يتأخر وزير خارجيتها في الذهاب للقاء بشار الأسد في دمشق، بعدما عاود الظهور، وقد لا يكون تواري الأسد في موسكو، أو تغييبه عن الأنظار، بلا مغزى، وإن كان من نوع مختلف عن التكهنات التي راجت حول تدبير انقلاب في دمشق.
إذا وصلت الميليشيات الإيرانية، بلا إعاقة لمسيرها، لمواجهة الفصائل، فوصولها يدحض جزئياً فرضية انتهاء النفوذ الإيراني تماماً، أو سريعاً، خصوصاً وأن مسار الميليشيات غير بعيد إطلاقاً عن العيون الأميركية في شرق الفرات. يبقى المحكّ الحقيقي في الدعم الروسي لتلك الميليشيات متى بدأت معركتها. وإذا قدّمت موسكو المساندة الجوية، فهذا يُنذر بتكرار سيناريو الأرض المحروقة الذي أثمر عسكرياً وسياسياً لصالح الأسد وحلفائه قبل ثماني سنوات. وإن كان من محفِّز لبوتين في هذا الخيار فقد لا تكون رغبته في دعم الأسد أو طهران، بقدر ما يكون متلهّفاً لإزعاج الأوربيين (على خلفية دعمهم أوكرانيا) بموجة جديدة من اللاجئين تشبه تلك التي تسبب بها قبل سنوات.
بالطبع يمكن القول إن روسيا غير جاهزة لتكرار التجربة القديمة، بسبب انخراطها التام في الحرب على أوكرانيا، وأولوية التصدي للقوات الأوكرانية التي استولت على أجزاء من روسيا. إلا أن افتراض عدم قدرة روسيا على المساندة الجوية في سوريا يحمل بعض المبالغة، لأن الإمكانية قائمة ولو لم تكن بالزخم القديم ذاته. والسلوك الروسي سيعطي إشارة إلى الوجهة التي ستأخذها الوقائع على الأرض. فالمساندة الروسية الفعّالة على النمط القديم، ولو نسبياً، تشير إلى احتدام الصراع. أما العكس فيشير إلى “تفهّم” موسكو لانقضاء زمن الوجود الإيراني في سوريا، وإلى انخراطها في تفاهمات تنظر إلى اليوم التالي.
بدوره، عدم انخراط روسيا لن يكون بمفرده مؤشراً على استقرار خطوط التماس، ومن ثم على اقتراب موعد التسوية النهائية. فالسيناريو الآخر، الذي لا يجوز استبعاده، هو أن يكون التغاضي عن دخول الميليشيات الشيعية محسوباً ومرغوباً فيه، تحديداً على القاعدة التي تقول أن الاقتتال بينها من جهة وبين هيئة تحرير الشام وفصائل أقل تشدداً من الجهة المقابلة؛ هذا الاقتتال كفيل بإنهاكهما، إن لم يكن بإنهائهما. بالطبع لن تكون المواجهة سهلة على أيّ من الجانبين، وستستغرق وقتاً قد يطول، إلا أن الأذى على المدنيين لن يكون بهول سياسة الأرض المحروقة الروسية، مع أنه سيشمل ضربات جوية مصدرها قوات الأسد، لن تفرّق كالمعتاد بين المدنيين والمقاتلين، لأن غايتها إيقاع الأذى والانتقام بموجب القاعدة القديمة إياها: الأسد أو نحرق البلد.
لقد قيل الكثير في الأيام الأخيرة عن أن الفصائل تعلّمت من دروس الماضي، وأنها صارت أكثر نضجاً وانضباطاً من قبل. وهذا ما يجب تعزيزه والمطالبة بالمزيد منه، إذا تحقق السيناريو الذي يُبقيها في المناطق التي سيطرت عليها مؤخراً، ومن بينها حلب. بخلاف هذا الاحتمال الذي قد لا يكون مرجَّحاً، يقتضي العديد من الاعتبارات أن تبتعد الفصائل عمّا لا يدخل أصلاً في صلب عسكرتها، أي أن تبتعد عن الانشغال بالقضايا المدنية كوسيلة تحكّم وسيطرة، في الوقت الذي تكون فيها مهدَّدة من خارج أماكن سيطرتها.
وإذا كانت هناك استفادة جوهرية من الدرس القديم، فينبغي أن تتحاشى الفصائل قتالَ المدن، وأن تترسّخ القناعة بأن حماية المدنيين، بتجنيبهم أذى الأسد وحلفائه، هي في رأس الأولويات. وربما تكون هذه القناعة ضرورية بالقدر نفسه أو أكثر لجهور واسع، كي لا يُشجَّع مقاتلو الفصائل على تضحيات مجانية، وكي لا يدفع المدنيون ثمن “صمود” محسومة نتائجه سلفاً بتفاهمات دولية. يجب ألا يكون ثقيلَ الوطأة قولُنا إن حلب، بأهلها وناسها، تستحق بشدة أن تُصان، سلماً وحرباً.
المدن
————————
الغرب واشتعال سوريا: حقائق مريرة خلف لغة خشبية
3 – ديسمبر – 2024
رأي القدس
تواصل فصائل المعارضة السورية المسلحة التقدم في مزيد من القرى والبلدات التي كانت تحت سيطرة النظام السوري، وتستولي بالتالي على مواقع عسكرية حساسة انسحبت منها ألوية جيش النظام والميليشيات المذهبية المتحالفة معه وعناصر «الحرس الثوري» وما تصنفه طهران تحت مسمى «المستشارين». وإذ تحقق القوات المعارضة نجاحات مذهلة في اقتحام مطارات أساسية مثل النيرب وأبو الضهور وكويرس ومنغ وحلب الدولي، ومراكز ذات قيمة عسكرية ورمزية نوعية مثل مدرسة المشاة والأكاديمية العسكرية، فإن مظاهر غياب القتال الفعلي والاشتباك المباشر مع قوات النظام وهيمنة الانسحابات الكيفية والعشوائية ظلّت سيدة الموقف حتى الساعة.
وضمن التطورات الأخيرة بدا لافتاً تضافر عنصرين ينطوي كل منهما على مغزى سياسي وعسكري وعقائدي، الأول هو انضمام كتائب «الجيش الوطني» إلى حملة «هيئة تحرير الشام» والفصائل الجهادية الأخرى المنضوية تحت غرفة عمليات «ردع العدوان» في إشارة لعلها الأوضح على مباركة تركية، بالنظر إلى أن هذا الجيش يرتبط على نحو وثيق بالقيادات العسكرية والأمنية التركية منذ سنة 2017 وانطلاق عملية «درع الفرات».
العنصر الثاني هو اقتراب قوى المعارضة المسلحة من محيط مدينة حماة ونطاق القرى المسيحية في محردة والسقيلبية، من دون أن يحدث احتكاك مشحون بين الفصائل الجهادية ذات التوجه الإسلامي عموماً من جهة، وأبناء الأغلبية المسيحية في البلدتين من جهة ثانية، رغم أن النظام كان في الماضي قد سعى إلى زرع الشقاق وتسعير الحساسيات الدينية مع أبناء محافظة حماة ذات الأغلبية المسلمة السنّية.
ولأن التطورات العسكرية الميدانية اتخذت صفة متسارعة تفتح المشهد على احتمالات شتى، لا تُستثنى منها تقارير تشير إلى عزم قوات «الحشد الشعبي» العراقية على التدخل العسكري المباشر لنصرة النظام في شمال سوريا وشرقها، فقد استفاقت قوى غربية كبرى من سبات طويل كانت قد غرقت فيه إزاء الملف السوري، تغافلت خلاله عن نيران كانت تشتعل تحت الرماد طوال الوقت. وكما هي العادة، كانت الاستفاقة متأخرة وشكلية ولفظية من جهة أولى، وكانت من جهة ثانية أقرب إلى اعتماد لغة خشبية تخفي الكثير من الحقائق المريرة.
وهكذا أعلنت الخارجية الأمريكية أن سياسة واشنطن لم تتغير تجاه بشار الأسد وتعتبره دكتاتوراً يده ملطخة بالدماء، وكانت قبلها قد وقّعت مع المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا بياناً هزيلاً يشدد على حماية المدنيين وتنفيذ القرار الأممي 2254. وهذه هي القوى ذاتها التي سكتت عن رفض النظام السوري تنفيذ أي من بنود القرار المشار إليه، كما وقفت متفرجة على التدخل العسكري من جانب طهران وميليشياتها المذهبية المختلفة، قبل تدخل مماثل من جانب موسكو ظلّ الغرب متعامياً عنه.
كذلك شاركت واشنطن مباشرة في لعبة المحاصصة وفرض الأمر الواقع على الأرض السورية من خلال سيطرتها على «قسد» أسوة بقوى أخرى مثل دولة الاحتلال الإسرائيلي وإيران وروسيا وتركيا، وتابع شركاؤها في لندن وباريس وبرلين ترسيخ السكوت على الأسد أو حتى مغازلته علانية أو عن طريق وسطاء. والأرجح أن القلق المبطن داخل البيان المشترك ليس سوى علائم انقلاب السحر على الساحر.
—————————-
قراءة روسية في الحدث السوري: “فيلّا” للأسد في روستوف!/ بسام مقداد
الثلاثاء 2024/12/03
لم يفلح النظام السوري في البقاء بعيداً عن النيران المستعرة في المنطقة. فما كاد يبدأ وقف إطلاق النار الهش بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، حتى وجد نفسه وسط لهيب النيران التي اشتعلت في الشمال، على نحو فاجأه مع حليفيه الرئيسيين، روسيا وإيران. وقيل أنه تم استدعاء الأسد على الفور إلى موسكو، التي رفض الناطق بإسم الكرملين أن يؤكد أو ينفي أمر هذا الاستدعاء. لكن الاستدعاء “السري” هذا لم ينجُ من سخرية الروس، إذ علق أحدهم بقوله “الأسد لم يأت إلى موسكو لطلب المساعدة، بل جاء ليسأل عن فيلا ببدل إيجار منخفض في ضواحي مدينة روستوف” (قيل إن روستوف كانت محطة في رحلة الأسد).
بالطبع، لم يرشح شيء عما دار في لقاء بوتين مع الأسد. لكن ما نشره إعلام الكرملين وركز فيه على تقصير الأسد وعدم تطوير جيشيه، في حين كانت فصائل المعارضة منهمكة في تكوين جيش شبه نظامي، يشير إلى الوجهة التي اتخذها الحديث بين الطرفين، وإلى اللهجة التي استخدمها بوتين مع الأسد.
موقع kasparov الروسي المعارض نشر في 29 الشهر المنصرم نصاً، جمع فيه مدونات عدد من الكتاب السياسيين الروس المعروفين، واقتبس من المدونة الأولى عنوان النص “اشتعلت الأرض تحت أقدامه” (الأسد). قدم الموقع للنص بالإشارة إلى “الهجوم المضاد القوي” الذي شنته “قوات المعارضة السورية” على مدينة حلب “ذات الأهمية الإستراتيجية”. أما “الديكتاتور السوري بشار الأسد” فقد طار إلى موسكو. ويرى المعلقون أن توقيت الهجوم المضاد كان “موفقاً للغاية”، حيث أن روسيا وإيران وحزب الله لا يستطيعون مد نظام الأسد بالمساعدة التي قدموها العام 2015.
البوليتولوغ المتخصص بشؤون آسيا الوسطى Arkady Dubnov، قال في مدونته إن الأرض في سوريا قد اشتعلت تحت أقدام الأسد بالمعنى الحرفي للكلمة تقريباً. وهذا وحده يمكن أن يفسر هبوطه العاجل في موسكو اليوم، حتى قبل عودة بوتين من أستانا، وهو ينتظر مساعدة عاجلة من الكرملين. وإضافة إلى وحدات الحرس الثوري والجيش السوري النظامي التي كانت تدافع عن حلب، يشير المدون إلى وجود مقاتلين من “فاغنر” الروسية، وإلى مقتل الكثيرين من الحرس الثوري والمقاتلين الروس.
يستبعد المدون أن تكون العلاقة بين الحدث السوري واتفاق وقف إطلاق النار في لبنان مجرد صدفة. فمواقع إيران في المنطقة قد ضعفت، وانتقل أعداؤها إلى الهجوم على شركائها.
صحيفة الكرملين vz رأت في الاستيلاء على حلب هو بمثابة فتح جبهة حرب ثانية على روسيا في سوريا. وقالت في 30 الشهر المنصرم أن أوساط الخبراء تؤكد أن الأحداث في حلب لم تكن مفاجئة. فالجيش السوري لم يقم بالإصلاحات اللازمة خلال السنوات لأخيرة، بينما كان المسلحون يجرون مناورات عسكرية منتظمة ويتلقون الدعم، بما فيه من أوكرانيا.
ونقلت الصحيفة عن المستشرق Kirill Semenov قوله بأن الحكومة السورية تكشف عن عجز كامل عن إجراء الإصلاحات والعثور على الحلول. ويشمل ذلك جميع القطاعات، بما فيها الجيش. فمنذ العام 2020 لم يتم القيام بأي شيء لتحسين وضع القوات المسلحة شبه المنهارة. وتفاقم الوضع في الأيام الأخيرة مرتبط أيضاً بالقصف الإسرائيلي العنيف على مواقع في لبنان وسوريا، والذي كان يستهدف القوات الموالية لإيران الأكثر استعداداً للقتال، مما حتم عليها إعادة الانتشار، بما في ذلك في حلب. وفاقم هذا من وضع التشكيلات الموالية لإيران في المدينة، وأصبحت في الواقع عاجزة عن القتال، وفرت من مواقعها في مطلع المواجهة. ويرى أن الفصائل التي سيطرت على حلب لم تكن تتوقع سقوطها بهذه السرعة، ويشكك في قدرتها على تولي إدارة مثل هذه المدينة الكبيرة.
وأضاف المستشرق بالقول إن “المجموعات الإرهابية، بما فيها هيئة تحرير الشام، التي تشارك في الاستيلاء على حلب، أنشأت في إدلب جيشاً نظامياً. وهو يخوض الحرب بأسلحة حديثة، ويستخدم الطائرات المسيّرة وتكتيك الهجوم بمجموعات صغيرة”. ويشير إلى أنه تم في إدلب إنشاء حوالى 30 لواء من القوات الجاهزة للقتال بهيكل قيادة واحد. وكانوا يجرون تدريبات عسكرية، وأنشأوا أيضًا أكاديمية عسكرية.
كما نقلت الصحيفة عن Stanislav Tarasov الذي تصفه بأنه خبير في شؤون الشرق الأوسط قوله بتعاون المخابرات الأوكرانية مع هيئة تحرير الشام. وهذا ما تكرره مواقع أخرى من إعلام الكرملين، وتؤكد على مد مقاتلي مجموعات إدلب بالسلاح الحديث وتدريبهم على استخدامه من قبل خبراء أوكران.
كرر Tarasov ما أشار إليه العديد من الخبراء الروس عن دور الضعف الذي أصاب حزب الله بعد الحرب مع إسرائيل في تفاقم الوضع في سوريا. وقال إن هذا الضعف خلق فراغاً قرر الجهاديون ملأه، خصوصاً وأن الوحدات الروسية في سوريا لا تتضمن وحدات قتالية، بل تقتصر على الطيران العسكري.
وبعد أن يشير إلى الدور التركي في ما يجري في سوريا الآن، يقول بأن لإسرائيل مصلحة أيضاً في هذا التصعيد، وهي التي كان بودها لو تحول سوريا إلى لبنان آخر.
صحيفة القوميين الروس SP استضافت ثلاثة خبراء روس تحدثوا عن الوضع في حلب، واستخلصت عنوان نصها من تحليلاتهم “الوضع في حلب يجب أن يؤدي إلى إستسلام كييف الكامل”. وأرفقت العنوان بآخر ثانوي “كيف يصبح تجميد الصراع توريثاً للحرب للأجيال القادمة، كما نرى على المثال السوري”.
استهلت الصحيفة نصها في الأول من الشهر الجاري بالقول إن استيلاء المسلحين على حلب السورية كان حدثاً غير متوقع أبداً لكل من موسكو ودمشق. وكان اختيار التوقيت مثالياً: روسيا منهمكة بأوكرانيا، حزب الله فاقد القيادة ومنهك إثر الحرب مع إسرائيل، وإيران ليس هذا ما يشغلها الآن.
نقلت الصحيفة عن البوليتولوغ Vladimir Blinov قوله بأن الوضع في حلب، هو سوء تقدير كبير من الجيش السوري، الذي وفرت له روسيا كل شروط الأمن الضرورية، لكن السوريين لم يتمكنوا من إبقاء المجموعات الموالية لتركيا تحت المراقبة. ويلوح خلف هذا الوضع دور تركيا التي لا تريد البقاء مراقباً لكل ما يدور في المنطقة من عمليات، بل تتعجل لفرض إرادتها بواسطة أذرعها.
ويرى أن ما يجري يشير إلى أن كل حرب يجب خوضها حتى نهايتها المنطقية، وإلا فإن الميليشيات المشحونة قد تفرض إرادتها في أي لحظة. ويقول إن روسيا هي ضيف على مسرح العمليات الحربية في سوريا، لكن السؤال الرئيسي هو “لشريكنا الاستراتيجي بشار الأسد”. فما هو شكل العلاقات مع القوات الموالية لتركيا الذي يعتبره متاحاً، لأنه، تحت ضغط الجيران الشماليين، لا يستطيع وضع سوريا على سكة السلام. فمن المهم إما أن يتوصل إلى اتفاقية مع الأتراك، وإما أن يكون مستعداً لسحق نفوذهم العسكري.
الخبير السياسي Vladimir Sapunov، ورداً على سؤال ما إن كانت المفاوضات بشأن تجميد الوضع في أوكرانيا التي يحاول الغرب فرضها “علينا”، ستؤدي إلى الوضع نفسه الذي نشهده الآن في سوريا، والتي تم تجميد الوضع فيها نتيجة المفاوضات بين بوتين وأردوغان العام 2020، قال إن لا مكان للمقارنة بين الوضع في حلب والوضع في أوكرانيا. مع العلم أن ما يجري في حلب الآن يؤكد مقولة أن إنهاء الحرب بالمفاوضات لتجميد القتال حيث وصلت الجبهات، يحمل مخاطر تجددها، وهو ما لن يكون في أوكرانيا.
—————————–
ماذا يجري في سوريا؟/ جلبير الأشقر
3 – ديسمبر – 2024
خلال أيام قليلة، وبعد أن بقيت ساكنة إلى حد ما طيلة أعوام، انقلبت الساحة السورية إلى مسرح حرب متحركة، تبدو كأنها تجديدٌ لآخر تحرك كبير لجبهات القتال، وهو الذي شهده عام 2016، حين استعاد نظام آل الأسد السيطرة على حلب بدعم إيراني وروسي وبتواطؤ تركي. فها أننا أمام هجوم مباغت مصحوب بانتشار مفاجئ لقوات «هيئة تحرير الشام» وهي الجماعة السلفية الجهادية التي سيطرت على منطقة إدلب في الشمال الغربي السوري منذ عام 2017.
وكما هو معلوم، يعود أصل الجماعة إلى «جبهة النصرة» التي تأسست في عام 2012 بوصفها فرع تنظيم «القاعدة» في سوريا، ثم أعلنت انشقاقها عن التنظيم تحت اسم «جبهة فتح الشام» في عام 2016، قبل أن تستوعب جماعات أخرى وتصبح «هيئة تحرير الشام» في العام التالي. أما اجتياح «الهيئة» لحلب في الأيام الأخيرة، فقد جرى على حساب جيش النظام السوري المدعوم من قوات إيران وروسيا. وأما الدور التركي، فقد كان تواطؤاً مرة أخرى، لكن في الاتجاه المعاكس هذه المرة، إذ إن «الهيئة» باتت مرتهنة بتركيا التي تشكّل منفذها الوحيد.
فلنحاول إمعان النظر في هذه المعمعة، ولنبدأ إذاً بالدور التركي. عند بداية الانتفاضة الشعبية في سوريا في عام 2011، طمحت أنقرة إلى الوصاية على المعارضة السورية ومن خلالها على البلاد في حال انتصارها، ثم ما لبثت أن تعاونت مع بعض دول الخليج العربية في دعم الفصائل التي رفعت رايات إسلامية عند عسكرة النزاع وتحوّله من انتفاضة شعبية ضد حكم عائلي طائفي استبدادي إلى صدام بين معسكرين رجعيين، انتهزه معسكرٌ ثالثٌ هو الذي شكّلته قوات الحركة الكُردية. وقد فسحت هذه التطورات المجال أمام خضوع الأراضي السورية لأربع احتلالات انضافت إلى الاحتلال الصهيوني لهضبة الجولان الذي بدأ في عام 1967، وتتألف من الاحتلالين الإيراني (مصحوباً بالقوات الإقليمية التابعة لطهران، وأبرزها «حزب الله» اللبناني) والروسي المؤازرين لنظام آل الأسد، والاحتلال التركي في منطقتين على الحدود الشمالية، والانتشار الأمريكي المؤازر لقوات الحركة الكُردية في الشمال الشرقي في تصدّيها لتنظيم «داعش» وفلوله.
فما الذي جرى خلال الأيام الأخيرة؟ الملاحظة الأولى التي فرضت نفسها هي سرعة انهيار قوات نظام آل الأسد أمام الهجمة، وقد أعاد إلى الذاكرة انهيار القوات النظامية العراقية أمام هجمة تنظيم «داعش» عندما اجتازت الحدود قادمة من سوريا في صيف 2014. أما سرّ هذين الانهيارين، فيكمن في العامل الطائفي بصورة رئيسية، إذ إن السمة المشتركة هي أن الغلبة العلوية في القوات السورية والشيعية في القوات العراقية لم يكن لديها حافزٌ كي تستميت في الدفاع عن المناطق ذات الأغلبية السنّية التي كانت السيطرة عليها منوطة بها والتي قصدها الهجوم. هذا علاوة على الامتعاض من فشل النظام القائم في خلق ظروف معيشية مشجّعة، لاسيما في سوريا التي شهدت انهياراً اقتصادياً وانتشاراً عظيماً للفقر منذ سنوات. فقد نقلت صحيفة «ذي فايننشال تايمس» يوم السبت الماضي كلاماً معبّراً عن أحد العلويين، قال لها: «إننا على استعداد للدفاع عن قرانا ومدننا، لكنني لست أدري أن العلويين سوف يقاتلون من أجل مدينة حلب… وقد توقّف النظام عن منحنا أسبابا للاستمرار في دعمه».
هذا والأمر الجليّ هو أن «هيئة تحرير الشام» برفقة فصائل أخرى واقعة تحت الوصاية التركية، قرّرت انتهاز فرصة إضعاف السند الإيراني لنظام آل الأسد الناجم عن الخسائر العظمى التي مُني بها الذراع المسلّح الرئيسي لإيران في سوريا، ألا وهو «حزب الله» اللبناني، من جرّاء العدوان الإسرائيلي على لبنان. وقد انضاف هذا الإضعاف إلى إضعاف السند الروسي الناجم عن انشغال القوات المسلّحة الروسية في غزو أوكرانيا، بما خلق فرصة استثنائية انتهزتها «الهيئة». ومن الواضح أيضاً أن تركيا باركت هذه الهجمة، ذلك أنها منذ عام 2015 وانعطاف رجب طيب أردوغان نحو اللعب على الوتر القومي التركي، مصحوباً بتحالف مع أقصى اليمين القومي التركي، بات هاجسها الأول هو الصراع ضد الحركة الكُردية. ففي عام 2016، طعنت أنقرة قوات المعارضة السورية في الظهر بفسحها المجال أمام استعادة النظام السوري لحلب بمشاركة إيرانية وروسية لقاء فسح روسيا للمجال أمامها كي تشنّ عملية «درع الفرات» وتنتزع منطقة جرابُلس وجوارها، شمالي محافظة حلب، من القوات الكُردية التي كانت تسود فيها.
وهذه المرة أيضاً، انتهزت أنقرة هجمة «هيئة تحرير الشام» على حلب كي تحرّك القوات السورية التابعة لها ضد القوات الكُردية. وكان أردوغان قد حاول قبل ذلك أن يتصالح مع بشار الأسد، عارضاً عليه دعمه في بسط سيطرة نظامه على المنطقة الواسعة التي تسود فيها الحركة الكُردية في الشمال الشرقي. بيد أن إصرار الأخير على أن تسلّمه تركيا المناطق التي تسيطر عليها هي على الحدود الشمالية، أجهض المسعى. لذا انقلب أردوغان على آل الأسد من جديد ومنح ضوءه الأخضر لهجمة «هيئة تحرير الشام» مثيراً سخط سندي النظام السوري. فإن «اختلاف وجهات النظر» الذي أشار إليه وزير الخارجية الإيراني لدى زيارته لأنقرة إثر بدء الهجمة، يتلخصّ في أن طهران ترى في «الهيئة» الخطر الأكبر بينما تراه أنقرة في القوات الكُردية. فبالرغم من عداء مشترك للحركة الكُردية، كانت كل من طهران وموسكو ودمشق قد عقدت هدنة مديدة معها بانتظار أن تتغيّر الظروف بما يسمح لها بمعاودة الهجوم لاستكمال السيطرة على الأراضي السورية، بينما بقيت علاقة أنقرة بتلك الحركة عدائية للغاية بخلاف تعاونها مع «الهيئة» المسيطرة على منطقة إدلب.
أما إسرائيل وأمريكا، فتترقبان بحذر ما يجري على الأرض، إذ إن الطرفين، نظام آل الأسد و«هيئة تحرير الشام» يكادان يكونان متساويين في السوء في نظرهما (على الرغم من مسعى الإمارات العربية المتحدة لتبييض صفحة النظام ومساعي أنقرة لتبييض صفحة «الهيئة») في حين أن هاجس الدولة الصهيونية الرئيسي هو الحؤول دون انتهاز إيران لفرصة هذه المعركة الجديدة كي تعزّز تواجدها العسكري على الأراضي السورية وتجد سبلاً جديدة لمدّ «حزب الله» بالسلاح من خلال تلك الأراضي.
أخيراً، فإن هذه التطورات، بتأجيجها لنار النزاع الطائفي، إنما تُبعد الأفق الوحيد الذي بدا مشجّعاً في السنوات الأخيرة في سوريا وقد تمثّل في الاحتجاجات الشعبية العارمة على تدهور الشروط المعيشية التي شهدتها سوريا منذ عام 2020. انطلقت تلك الاحتجاجات من منطقة السويداء (ذات الغالبية الدرزية) في الأراضي التي يسيطر عليها النظام، وتحولّت بسرعة إلى المطالبة برحيل بشار الأسد وسقوط النظام، مستعيدة هكذا نهج الانتفاضة الشعبية الديمقراطية غير الطائفية التي شهدتها سوريا في غمرة «الربيع العربي» قبل ثلاثة عشر عاماً. وبقي لنا أن نأمل أن وحدة المصالح الشعبية المعيشية والتحرّرية سوف تؤدّي يوماً ليس بالبعيد إلى إحياء الثورة السورية الأصلية بما يتيح إعادة توحيد البلاد على الأساس الديمقراطي الذي حلم به روّاد ورائدات الانتفاضة التي انطلقت على مشارف الربيع في عام 2011.
كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي
—————————–
سوريا: إما تسوية مرضية أو فلتان كامل/ محمد كريشان
3 – ديسمبر – 2024
إذا كان ما حدث في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي على حدود قطاع غزة زلزالا حقيقيا في المنطقة فإن ما حدث بعده في لبنان هو بالتأكيد من توابعه، وكذلك شأن ما يجري حاليا في سوريا منذ زهاء الأسبوع فهو من توابع التوابع.. وما زالت الصفائح الأرضية المختلفة في حالة حراك دائم ولا أحد يعرف على ماذا ستستقر في النهاية.
ما يجري في سوريا حاليا معقّد ومفتوح على احتمالات شتى، خاصة وأن المتدخلين فيه كثر وحساباتهم متداخلة ومتناقضة في الغالب. من الصعب كذلك التكهّن مسبقا بما ستؤول إليه الأحداث لأنها ترتبط في النهاية بتلك الحسابات لدى كل من تركيا وإيران وروسيا ومدى قدرتها على توجيه كل منها لدفة الميدان في الاتجاه الذي ترغب فيه. ومن وراء كل هؤلاء تقف الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل تراقب عن كثب لأن لديها مصلحة أكيدة هي الأخرى تريد جنيها، فيما قد لا تدري فصائل المعارضة السورية المسلّحة ما إذا كانت قادرة على جني بعض ما كانت تحلم به قبل أكثر من عشر سنوات حين ثارت على حكم بشار الأسد وكادت أن تسقطه.
من الطبيعي جدا أن يرى الرئيس السوري أن ما يجري في بلاده «محاولة لتقسيم المنطقة وتفتيت دولها وإعادة رسم الخرائط من جديد» ومن الطبيعي كذلك أن تعتبر طهران ذلك نتيجة «مخطط صهيوني وأمريكي من أجل صرف الأنظار عن المجازر وأعمال الاحتلال التي تحصل في غزة» لكن الأكيد أن المشهد أكثر تعقيدا من كل ذلك فهو مرتبط بجملة تحوّلات جيوستراتيجية تبدو المنطقة كلها مقبلة عليها مما يجعلنا ننتظر تغييرات كبيرة مختلفة قد لا يكون ما يجري حاليا في سوريا سوى تجلياته الأولى التي لم تتبلور نهاياتها بعد.
حالة الهدوء التي سادت سوريا هناك طوال الأشهر الماضية خدعت الكثيرين ممن ظنوا أن وضعا كهذا يمكن أن يستمر مع أنه يحمل في أحشائه بذور انفجاره مع أول شرارة قادرة على إشعاله من جديد وهذا ما حدث بالضبط.
رأت المعارضة المسلّحة من خلال عمليتيها «ردع العدوان» و«فجر الحرية» اللذين يبدو أنهما اندمجا في أكثر من ساحة ميدانية على الأرض السورية، أن هناك لحظة فارقة يجب التقاطها بسرعة لتغيير ذلك السكون الملغوم الذي كانت عليه البلاد، ولا شك أن ذلك ما كان ليتم دون تهيئة أو إيعاز بشكل أو بآخر من قبل تركيا التي ملّت هي الأخرى من هذا الوضع. طبعا أنقرة مستاءة ومغتاظة من الصد الذي لقيته من بشار الأسد تجاه كل محاولاتها المستميتة للتصالح معه، وهي في نفس الوقت ترغب بقوة في إعادة اللاجئين السوريين لديها إلى وطنهم وفي نفس الوقت التأكد من ضمان أمن حدودها خاصة لجهة إجهاض أي مسعى كردي لتحويلها إلى ملاذ آمن ونقطة انطلاق لعمليات مسلحة ضدها.
أما روسيا، فرغم حرصها على دعم نظام دمشق ومنع سقوطه في يد المعارضة المسلّحة، فإنها تبدو مستاءة هي الأخرى من تكلّس بشار الأسد وعدم تفاعله لا مع المساعي التركية للمصالحة ولا مع ما يفترض أن نصّت عليه محادثات أستانا عاصمة كازاغستان في يناير / كانون الثاني 2017 التي جرت بين ممثلي الدولة السورية وعدد من قادة فصائل المعارضة وكان يؤمل أن تضع قطار التسوية بينهما على السكة لكن هذا القطار لم يغادر محطته بعد. وقد تكون موسكو غير منزعجة كثيرا مما يحدث حاليا في سوريا طالما أنه باق في حدود تقليص النفوذ الإيراني هناك والذي كثيرا ما نافسها أو ضيّق عليها تحركاتها هناك.
إيران هي المتضررة الأولى من أحداث سوريا الحالية فقد رأى مناهضو ما فعلته في سوريا، من إنقاذ لنظام الأسد ومن فتك بمعارضيه وإطلاق يد الميليشيات الشيعية القادمة من العراق وغيرها، في تراجع دورها بعد الضربات الإسرائيلية التي وجّهت لحزب الله في لبنان والتي دفعته هو الآخر لسحب بعض قواته من سوريا، بالتوازي مع إعادة انتشار فصائل شيعية عراقية لقواتها بعيدا عن حلب، فرصة قد لا تتكرر لتغيير موازين القوى في سوريا ومحاولة توجيه ضربة قاسية للنفوذ الإيراني في سوريا وهو شريان الحياة لنفوذها في لبنان من خلال حزب الله. وهذه النقطة تحديدا لا يمكن لواشنطن وتل أبيب سوى أن تكونا مرتاحتين لها بلا شك.
من المبكّر الجزم بأي شيء الآن، لكن الأكيد أن الشعب السوري في معظمه وهو يتابع صراع هؤلاء الكبار على أرضه لا يطمع سوى في استعادة وحدة بلاده واستقرارها وحياة كريمة بعيدا عن القمع والاستبداد وكف أذى الجميع عنه، وهذا كله لا يتأتى إلا بتسوية سياسية تفتح أمل التغيير الديمقراطي السلمي.
هذا لن يتأتى، حاليا على الأقل، سوى بالإسراع في إحياء وإنضاج هذه التسوية، على الأقل كما حدّدتها صيغة أستانا، بحرص جاد من تركيا وروسيا وإيران قبل أن تفلت الأمور من يد الجميع ويصبح التدارك مستحيلا.
كاتب وإعلامي تونسي
القدس العربي
————————–
“ردع العدوان”.. الأبعاد الإقليمية والاستراتيجية/ محمد أبو رمان
03 ديسمبر 2024
بمجرّد إعلان وقف إطلاق النار بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي، في جنوب لبنان، انطلقت هيئة تحرير الشام، ومعها شركاؤها وفصائل محسوبة على المعارضة السياسية المقرّبة من تركيا محافظة حلب وسيطرت على المدينة بسرعة قياسية، والأمر نفسه بالنسبة لأطراف محافظة حماة، ما يجعل من الصعوبة التنبؤ بالأحداث فيما بين كتابة هذه السطور ونشر هذا المقال اليوم الثلاثاء!
بالضرورة، هنالك أبعاد إقليمية واستراتيجية تؤطر التطورات السورية، وهي أقرب ما تكون إلى انعكاسات مباشرة لحالة الفوضى الإقليمية الراهنة، وتداعيات الحرب الإسرائيلية على غزّة وما أدّت إليه من انسحاب لنسبة كبيرة من أنصار حزب الله إلى لبنان للقتال هناك من جهة، والأزمة المستترة بين إيران والرئيس السوري بشار الأسد من جهةٍ ثانية، وانشغال روسيا بالحرب الأوكرانية من جهة ثالثة، فمثل هذه الأحداث بالضرورة تمثّل فرصة سانحة وتاريخية للمعارضة السورية للعمل على استثمار حالة الضعف لدى النظام وتحقيق انتصارات ميدانية، وهو سيناريو كان مبيّتاً لدى هيئة تحرير الشام منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزّة، إذ التقيت حينها أحد الإعلاميين المقرّبين من الهيئة، وأخبرني عن نيات وتوقعات بأن تشنّ الهيئة حملة عسكرية قوية ضد النظام السوري، بما قد يصل إلى محاولة الوصول إلى دمشق وإسقاط النظام!
بالضرورة، لا تزال هنالك محدّدات استراتيجية دولية وإقليمية لترسيم المسارات المتوقّعة للمرحلة المقبلة، فالموقف التركي مهم على هذا الصعيد، لأنّ تركيا طرفٌ مهم ومؤثر في الصراع، ولا تزال تعمل على إحاطة موقفها بحالة من الغموض وصبغه باللون الرمادي، فهي من جهة ترفض التصعيد، ومن جهةٍ أخرى تتحدّث أنّ من رفض المصالحة معها هو النظام السوري، لكن من الواضح أنّ تركيا أعطت الضوء الأخضر للفصائل القريبة منها، لمشاركة هيئة تحرير الشام في العملية، ولم تمانع بذلك، وهو بحدّ ذاته موقف أزعج الروس الذين اعتبروه خرقاً لصيغة أستانة (بين روسيا وتركيا وإيران).
إلى أيّ مدى يمكن أن تضغط تركيا لاحقاً على حلفائها وشركائها للتراجع خطوات إلى الوراء إذا افترضنا أنّ هنالك مخاوف دولية وإقليمية من وصول المعارضة إلى دمشق وانهيار النظام هناك؟! هذا وذاك يعتمدان على الموقفين الأميركي والإسرائيلي، فمن الواضح أنّ إسرائيل بدأت تنظر بصورة مكثفة إلى تطور الأمور في سورية، وبالرغم من أنّ إسرائيل لا ترغب بسيطرة مسلحين إسلاميين على الجغرافيا السورية، وأن يكونوا على الحدود، إلّا أنّها، في الوقت نفسه، تنظر بغضب إلى العلاقة الاستراتيجية بين بشار الأسد والإيرانيين والنفوذ الإيراني في سورية، ما قد يعني أن تكون هنالك خيارات جديدة لإسرائيل، فيما يتعلّق بالوضع في سورية، في ضوء ترسيم خطوط التوتر مع إيران في المرحلة المقبلة، وهي سياسات برسم التفاهمات الأميركية- الروسية.
بالنسبة للأميركيين، انتهت مقاربتهم، قبل أعوام، إلى ما يشبه التقاسم مع الروس للملفّ السوري، أو تفويض الروس بالتعامل مع النظام السوري، مع الاحتفاظ بعلاقات استراتيجية (لدى الأميركيين) مع الأكراد، والاكتفاء بمتابعة حركات “داعش” ومحاصرتها. وتبدو المعضلة بالنسبة للسياسة الأميركية تجاه التطورات الحالية متعلّقة، بدرجة رئيسية، بأنّ هيئة تحرير الشام هي منظمة إرهابية على القوائم الأميركية (بالرغم من محاولات أبي محمد الجولاني، زعيم المنظمة، تقديم ضمانات ورسائل للدول الغربية). وفي الوقت نفسه، ترى أميركا في النظام السوري حليفاً لإيران وحزب الله، بل ومسرحاً لنفوذ المليشيات الإيرانية، ما يعني أنّ الحرب الدائرة الآن بين خصمين، فضلاً عن أنّ النظام السوري يعتبر حليفاً لروسيا، وأميركا تريد إرهاق روسيا وإرباكها وتحجيم نفوذها في أكثر من مكان، بخاصة مع التقارب الروسي- الصيني- الكوري الشمالي- الإيراني في الأعوام الأخيرة.
هل هنالك موقف أميركي أو إسرائيلي حاسم؟ لا يبدو ذلك موجوداً ، بالرغم من أنّ هنالك قلقاً من أن تؤدي انتصارات المعارضة المسلحة وفتح الشهية على الوصول إلى دمشق أو استثارة المناطق الأخرى في حمص ودرعا للقيام بثورة عسكرية جديدة ضد النظام، وبالتالي، العودة إلى مرحلة الحرب الداخلية، لأنّ من الصعب جداً أن يترك النظام الإيراني نظام بشّار للسقوط، فهو سيخسر بذلك ورقة إقليمية استراتيجية، لذلك ستتدخل إيران بكل قوة في المرحلة المقبلة.
ثمة رواية أخرى يتبناها عديد من المحللين السياسيين، وتذكّرنا بالمرحلة الأولى من الحرب الداخلية السورية، عندما استخدم النظام ورقة الإرهاب و”داعش” لعرقلة الأجندة الدولية في إزاحته، وقد نجح بدرجة كبيرة في توظيفها لتخويف العالم، واليوم ترى دولٌ عربية وغربية عديدة هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية، الأمر الذي قد يؤدي إلى إسناد أو دعم مباشر أو غير مباشر لنظام الأسد، وربما تعجيل التطبيع معه في المرحلة المقبلة، ودفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أخذ مسألة مكافحة الإرهاب بالاعتبار في رسم سياساته!
إذا تجاوزنا البعد العملياتي، وحتى الإقليمي، للوضع الحالي في سورية، فإنّ من معالم وإشارات ما يحدث حالياً أنّنا نشهد في المشرق العربي (العراق وسورية وفلسطين ولبنان، بالإضافة إلى اليمن، ويمكن أن نضيف إليها دولاً أخرى مثل السودان وليبيا) حالة من الانهيار الكبير في مفهوم الدولة الوطنية وتفكّك “مخرجات” سايكس بيكو، وبروز الفواعل ما دون الدول (أو أشباه الدول)، التي ترتبط بأيديولوجيات دينية أو عرقية أو طائفية بوصفها اللاعب الرئيس في المنطقة، وانجراف الحدود الجغرافية- السياسية فيما بينها، وهو ما يذكّرنا بنبوءات المستشرق المعروف برنارد لويس، بخاصة نبوءتيه؛ الأولى، انهيار مفاهيم الدولة الوطنية في المشرق وبروز الطائفية والعرقية عبر الجماعات والقوى التي تقوم عليها، والثانية ضعف الدول العربية وصعود القوى الإقليمية؛ إيران وتركيا وإسرائيل لاعبين رئيسيين في المنطقة العربية!
والحال إنّ هذا هو الوضع اليوم، فهل سيتجذّر خلال الفترة المقبلة من خلال تقسيمات جديدة ليست جغرافية، بل عرقية- طائفية- دينية تمثّل “الوجه الجديد” للشرق الأوسط، أم هنالك في جعبة العمّ سام تصوّرات جديدة لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وداخل هذه الدول على أسس جديدة؟ وهل سيمرّ مثل هذا الترتيب عبر بوابة التفاهمات الإقليمية مع إيران وروسيا مثلاً، أم عبر تصعيد وتوتر وتحجيم للدور الإيراني من خلال استخدام الأدوات نفسها التي تستخدمها إيران؟!
العربي الجديد
—————————-
هكذا يرى الأتراك حلب/ أحمد غنّام
03 ديسمبر 2024
الغموض الذي اكتنف الموقف التركي من معركة ردع العدوان في سورية، وعدم تصدّر “الجيش الوطني” المعارض، المدعوم من أنقره، المشهد الميداني، أثار التكهنات بشأن حقيقة الدور التركي في هذه الأحداث.
في اليوم الأول من بدء زحف قوات المعارضة، خرجت تصريحات للمتحدّث باسم وزارة الدفاع التركية، اقتصرت على القول إنهم يتابعون ما يحدث في إدلب، ويتخذون جميع التدابير اللازمة. وقبيل الوصول إلى تخوم مدينة حلب، قالت وزارة الخارجية في بيان لها إنها تولي أهمية للحفاظ على السلام في إدلب والمناطق المجاورة، وإنها التزمت بعهودها باتفاقيات خفض التصعيد. وكأنها تشير إلى عدم التزام الأطراف الأخرى، وهنا اتهام لإيران أو لروسيا أو لكلتيهما، وهما الضامنان للنظام السوري.
على الطرف المقابل للموقف الرسمي، نجد التعاطي الإعلامي التركي مع أحداث المعركة متخبّطاً ومُفاجأً في حصول المعركة في يومها الأول، وكانت تغطية أحداثها وتفاصيلها مشتّتة، على عكس تناوله الملفّ السوري خلال السنوات الماضية. وفي اليوم الثاني من المعركة، بدأت وسائل الإعلام المقرّبة من الحكومة تتساءل عن أهداف المعركة، وتطرح أسئلة تتعلق بوجهتها، هل هي حلب أم الوقوف في محيطها والتوجّه شرقاً. وربما من هنا يمكن قراءة غموض الموقف التركي وعدم وضوحه في غياب التصريحات الرسمية.
لكن ما نعرفه أن المجتمع التركي ينظر إلى حلب امتداداً تاريخياً وقومياً لجغرافيا الأناضول، فهي احتضنت أولى تشكيلات الدولة السلجوقية في المنطقة، أي قبل الأناضول. لهذا يعتقد الأتراك أن المكوّن التركماني يشكل من 50% إلى 60% من سكّانها على مستوى الولاية، وليس المدينة فقط، ضمن ما يُعرف بقانون الإسكان خلال ما تُعرف بفترة التنظيمات العثمانية أواسط القرن التاسع عشر، ومنها توطين العشائر واستحداث مناطق إدارية جديدة، مثل مدينة قهرمان مرعش وكيليس ومدينتي هسة والريحانية التابعتين لولاية هاتاي اليوم، هي مدن مستحدثة. وقد وطّن فيها تركمان حلب، وبقيت إدارياً تتبع ولاية حلب الكبرى.
وكتب الضابط العثماني علي فؤاد، في مذكّراته، إن مصطفى كمال أتاتورك شارك في وضع خريطة الميثاق الوطني للدولة العثمانية عام 1919، وكان ذلك يعني أن الدولة تعهدت بعدم التفريط بحدود هذه الخريطة مهما استلزم منها الأمر من تضحيات، وكان ضمن الخريطة حلب والرقة ودير الزور وكركوك والموصل والسليمانية وباطوم. واستناداً إلى هذه الخريطة، نستذكر كلمات زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 عن أن تركيا لن تتوقف عند حدود 81 ولاية، وأن كركوك تمثل الولاية الثانية والثمانين والموصل هي الثالثة والثمانون وحلب وإدلب هما الرابعة والثمانون والخامسة والثمانون وأنها أراض تركية.
لهذا ينظر الأتراك إلى حلب باعتبارها أراضي ضاعت منهم وتجب استعادتها. وتتحدّث أوساط قريبة من الحكومة عن أن أنقرة اضطرّت إلى تسليم حلب مرة أخرى، وفق اتفاق تركي روسي لخفض التصعيد أواخر عام 2016، من أجل الحفاظ على سلامة الأهالي، حينما كانت محاصرة من مليشيات قاسم سليماني وحزب الله. وانطلاقاً من هذا، نفهم حرص الإدارة التركية الحالية على ضرورة تعديل اتفاقية أضنة مع بشّار الأسد، بحيث يسمح للأتراك بالدخول في عمق الحدود السورية 30 كيلومتراً، أي الوصول إلى حلب، والتخلص من ذنب التفريط بحلب.
لا يمكن البتّ بالموقف التركي من التصريحات الرسمية، فلم يكن مهللاً ومباركاً، كما أنه لم يعترض، فقد اكتفى وزير الخارجية هاكان فيدان بالقول إن بلاده ليست منخرطة في معركة حلب، غير أنه لا يخفى على الجميع ما يمكن أن تحققه تركيا من مصالح ومكاسب في سيطرة المعارضة على حلب، سواء في التفاوض أو على الصعيد الاقتصادي أو في إطار إعادة اللاجئين.
سيتضح الموقف التركي أكثر إذا ما حاولت التنظيمات الكردية المسلحة الاستفادة من انسحاب قوات النظام والسيطرة على مناطق حسّاسة وحيوية كما حصل في مطار حلب، حيث يوجد ادّعاء بأن النظام سلمها لقوات سوريا الديمقراطية (الكردية) قبل انسحابه. وستكون الأيام المقبلة حاسمة في كيفية تعامل تركيا مع مناطق تل رفعت ومنبج وكوباني والتوجه شرقاً باتجاه الرقّة والحسكة والقامشلي، لإنهاء ما تسميه الخطر على أمنها القومي. وربما مهدت أنقرة لذلك دولياً في زيارة الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي إلى تركيا قبل يومين من انطلاق عملية ردع العدوان، لا سيما أن تركيا تقدّم للغرب فرصة للتخلص من خطر موجات اللجوء السوري من خلال استقرار مدينة حلب وتفعيل العجلة الاقتصادية فيها.
ولكن ربما المأزق الصعب الذي ستواجهه تركيا ليس في قدرتها على تأمين الدعم اللوجستي والغطاء الدولي لقوات المعارضة، إنما سيكون حرجها الأصعب في شكل وطريقة إدارة مدينة حلب والمناطق الجديدة، فإن تمكّنت من فرض نفوذها على هيئة تحرير الشام بالشكل الذي تفرضه في ريف حلب الشمالي، فكيف ستدير تلك المناطق، هل بفرض ولاة أتراك يعتمدون على مترجمين، الطريقة التي لم تنجح بها في إدارة الريف الشمالي لحلب، أم أنها ستتعامل مع تلك المناطق عبر ترك الأمر والفصل لصاحب البندقية، كما هو الحال في بعض المناطق؟… هذا كله سيظهر خلال الأيام المقبلة، مع تبلور الموقف التركي حيال أي رد فعل عسكري من روسيا، أو تحرّك كردي جديد.
العربي الجديد
————————–
اكتساح حلب قَلبَ الطَّاولة/ عبد الرحمن الراشد
3 ديسمبر 2024 م
«درونز» ودبابات ومدرعات، وآلافُ المسلحين، وسقوطُ حلب ثانية كبرى المدن السوريةِ في يومين، والاستيلاءُ على أربعين بلدةً وقطعُ الطرقِ السريعة، واحتلالُ المطار والمراكزِ الحكومية، ونهبُ مخازنِ السلاح. المنطقةُ نسيت حربَ غزةَ ولبنانَ لتنشغلَ بحربٍ جديدة.
تداعياتُها الإقليميةُ والدولية لا تقلُّ خطورةً، فالعراقُ أعلنَ الاستنفار وإيرانُ ندَّدت باستهدافِ قواتِها داخلَ سوريا، وإدارةُ بايدن أعلنت من واشنطن أنَّها فوجئت، وروسيا أعلنت عن مشاركتِها العسكريةِ في قصفِ مواقعِ المسلحين.
أهمُّ لاعبين في «أزمة حلب» هما دمشقُ وأنقرة لم يتقدَّما بعد بخطواتٍ لتطويقِ الوضعِ الطارئ حتى لا يخرجَ عن السيطرة. أنقرة المتَّهمة بأنَّ لها إصبعاً فيما يحدث قالت لـ«إندبندنت عربية»: «لم نتدخلْ في العملياتِ العسكرية التي تجري في حلب، وسبقَ أن دعونا حكومةَ بشار الأسد إلى الجلوسِ إلى طاولةِ المفاوضات، للتوصُّلِ إلى تسويةٍ سياسية تؤمّنُ عودةً آمنةً وطوعيةً للملايين من إخوتِنا السوريين، والتعاون على مواجهةِ الإرهاب ومنعِ الكيانات الانفصالية من التَّحكمِ في مستقبل سوريا».
الوضعُ يخرج عن السيطرةِ مع التَّدفقِ الكبير للجماعاتِ المسلحة في منطقةِ المعارك شمالَ غربي سوريا، وإعادةِ تموضع القواتِ والميليشياتِ الإيرانية جنوبَ حلب، والتَّحشيد العسكري العراقِي على الحدود. واللافت للانتباهِ التَّهديد بالزَّجِ بـ«الحشد الشعبي» بحُجَّةِ الدّفاعِ عن العراق وسط تهويلٍ ومبالغةٍ بالخطر، مع أنَّ حلب بعيدةٌ جدّاً عن البوكمال الحدودية العراقية بـ470 كيلومتراً.
وفي حالِ أرسلَ العراقُ «الحشد الشعبي» فإَّن ذلك سيفتحُ جبهاتٍ أخرى جديدة. إسرائيلُ قد تعتبره محاولةً لتعويضِ خسائر «حزب الله» وتهديدها. وسيكون المرة الأولى التي يرسل فيها العراقُ قواتٍ للقتال خارجَ أراضيه منذ سقوط نظامِ صدام حسين الذي سعَى ليكونَ قوةَ تغييرٍ إقليمية.
الأمرُ فتح البابَ لنظريات المؤامرة في تفسيرِ الوضع الغامض والمتسارعةِ أحداثُه. كيفَ استطاعت «هيئةُ تحرير الشام» (سابقاً تُعرف بـ«جبهة النصرة»)، أن تكتسحَ وبهذه السرعةِ وفي نحو يومين وتسيطرَ على مناطقَ واسعةٍ في إدلبَ وحلب المدججةِ بالقواتِ الحكوميةِ السوريةِ والإيرانية. الحالُ يُشَابِهُ كثيراً ما حدثَ في يونيو (حزيران) 2014، عندما سقطتِ الموصلُ، ثانية كبرى المدنِ العراقية، واتُّهم حينَها رئيسُ الوزراءِ نوري المالكي بالتخاذلِ والسَّماحِ لتنظيم داعش باحتلالِها.
النَّظريةُ الأخرى تتَّهمُ تركيا بعد عجزِها عن التفاوضِ مع دمشق، باللجوءِ إلى تحريكِ الفصائلِ المسلحةِ في مناطقِ نفوذها فكان أن سيطروا على حلب وإدلب؟ والثالثةُ أنَّ إيرانَ و«حزب الله»، بعدَ حربِ لبنان، يريدان حمايةَ وجودِهما في سوريا.
عند وضعِ تخمينِ الدوافع جانباً، والتركيزِ على تطويقِ الأزمة فإنَّ العودةَ إلى مخرجاتِ مؤتمر سوتشي منذ ستِ سنواتٍ مهمٌّ للتَّوصُّلِ إلى الحل. المبدأ الأولُ هو التأكيد على سيادةِ سوريا واستقلالها، ويعني ذلك أنَّ على كلّ القوى الأجنبيةِ الخروجَ. حالياً، توجد قواتُ إيرانَ وتركيا والولاياتِ المتحدة والعديدِ من التنظيماتِ المتطرفةِ من جنسيات متعددة.
المبدأ الثاني، ملايين المهجَّرين واللاجئين، سواء في تركيا أو لبنان أو الأردن، الذي يغذي وضعَهم البائسَ التَّوترُ، ومع أخبار سقوطِ حلب وإدلب تدفَّقَ عشراتُ الآلافِ منهم أمس عائدينَ إلى بيوتِهم بعد سنواتِ من التهجير.
من دون توافق الدّول المَعنيةِ ستبقَى الجماعاتُ المسلحةُ المتطرفةُ نشطةً، وهذا يعنِي أنَّ القوات الأجنبية أيضاً لن تخرجَ. تركيا تطالبُ بوقفِ نشاط الانفصاليين الأكراد شمالَ سوريا كونَهم تهديداً لأمنِها. الأميركيون لن يسحبوا قواتِهم من شرقِ الفراتِ لوجود تنظيماتٍ خطرة مثل «داعش». السلطات السورية، التي تستضيف ميليشيات إيران و«حزب الله»، تريدهم، ما دامت هذه الجماعاتُ المشار إليها تعيش على ثلاثينَ في المائة من الأراضي السورية وتهدّد سلطتَها. وقد اتَّسعت مملكةُ الفصائلِ المسلحة مع الاكتساحِ الأخير لمحافظتي إدلب وحلب. وفي حال استمرّت المعارك قد تتمدَّد الفصائلُ وتعيدُ الوضعَ إلى حدودِ عام 2015، عندما كانت تسيطرُ على نحوِ ستين في المائة من البلاد.
الشرق الوسطى
——————————————–
الهجوم على حلب: توسع مناطق المعارضة السورية وتغير بتوازنات المنطقة/ فراس فحام
النتائج المباشرة لهجوم الفصائل العسكرية هو تبدل الواقع الميداني، وتغير خرائط السيطرة التي بقيت ثابتة منذ بداية 2020. فقد استحوذت فصائل المعارضة للمرة الأولى على مدينتي إدلب وحلب، وتتقدم في حماة. ويشير هذا الهجوم إلى أن التوازنات التي شهدتها سوريا والمنطقة في الحقبة السابقة هي في طور التغير.
3 ديسمبر 2024
باغتت فصائل المعارضة السورية “النظام السوري” بهجوم على مناطق ريف حلب الغربي في وقت بدت فيه الأمور وكأنها تسير لمصلحة التطبيع مع الرئيس الأسد (الفرنسية).
باغتت فصائل المعارضة السورية قوات النظام بهجوم بدأته، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، على مناطق ريف حلب الغربي الذي يفصل محافظة إدلب عن مدينة حلب، ويشكِّل بوابة العبور إلى الأخيرة، وجاء الهجوم في وقت بدت فيه الأمور تسير باتجاه إنهاء الصراع كليًّا، في ظل انفتاح عربي ودولي على سوريا، تجلى باستكمال السعودية لتطبيع علاقاتها مع بشار الأسد واستضافته مرارًا في الرياض، والتأكيد التركي المستمر على الرغبة بعقد لقاء بين الرئيس، رجب طيب أردوغان، والأسد(1).
أسفر الهجوم الذي أطلقت عليه فصائل المعارضة اسم “ردع العدوان” عن سيطرة الفصائل على أجزاء واسعة من ريف حلب الغربي بالإضافة إلى غالبية أحياء المدينة خلال أقل من 72 ساعة على اندلاع المواجهات، لتستكمل بعدها عملياتها وتستحوذ على المواقع العسكرية المهمة المنتشرة غرب حلب وجنوبها، وأبرزها الأكاديمية العسكرية، ومطارا النيرب وكويرس العسكريان، والبحوث العلمية ومعامل الدفاع قرب السفيرة.
أيضًا، استعادت فصائل المعارضة مدينتي سراقب ومعرة النعمان بريف إدلب، الواقعتين على الطريق الدولي الذي يربط حلب مع دمشق (M5) بعد أن خسرتهما، مطلع عام 2020، قبل توقيع اتفاق سوتشي بين أنقرة وموسكو، الذي نتج عنه إيقاف المواجهات وتثبيت خطوط التماس.
ومع الاستحواذ على قرابة 90% من محافظة حلب، وكامل محافظة إدلب، وصلت المواجهات إلى أبواب مدينة حماة؛ حيث سيطرت فصائل المعارضة، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2024، على أجزاء واسعة من ريف حماة الشمالي أبرزها مدينة صوران، وأصبحت على مقربة من المدينة.
من جهته، أسس الجيش الوطني السوري المحسوب على المعارضة، والذي يتبع تنظيميًّا لوزارة الدفاع ضمن الحكومة السورية المؤقتة، غرفة عمليات “فجر الحرية”، وهاجم قوات سوريا الديمقراطية (غالبها من المكون الكردي الذي يعمل تحت اسم “وحدات الحماية”) المنتشرة في بعض أحياء مدينة حلب المتصلة مع تل رفعت شمال غرب المدينة، وتمكن المهاجمون من دخول تل رفعت ومنغ، وإطباق الحصار على مواقع الوحدات في حيي الشيخ مقصود والأشرفية(2).
سياقات إقليمية ودولية
شهدت الساحة الدولية والمنطقة العربية سلسلة من التطورات المتتابعة منذ بداية عام 2022 إلى يومنا هذا، أسهمت في تبديل المعطيات التي أفرزت انحسار سيطرة “المعارضة السورية” إلى شمال غرب سوريا، بعد فقدانها أحياء مدينة حلب الشرقية التي كانت تحت سيطرتها أواخر عام 2016، ثم خسارة ريف دمشق والجنوب السوري عام 2018. وقد استفاد النظام السوري في تلك الحقبة من الدعم السياسي والجوي الروسي الكبير، وتراجع الدعم الدولي نظرًا لإيقاف الولايات المتحدة برنامج الدعم المخصص للمعارضة السورية. وتبعًا لهذا غيَّر الكثير من الدول الإقليمية موقفها واتجهت لتطبيع العلاقات مع النظام.
أول المتغيرات التي انعكست على الواقع السوري تدريجيًّا هي اندلاع الحرب الأوكرانية-الروسية، وما نتج عنها من تقليص النشاط العسكري الروسي في سوريا وتركيزه ضد أوكرانيا المدعومة بشكل مباشر من دول حلف شمال الأطلسي(3).
أدت المواجهات المستمرة منذ أكثر من سنتين ونصف بين روسيا وأوكرانيا إلى حالة استنزاف لموسكو على صعيد العتاد الحربي، نظرًا للتسليح النوعي الذي حظيت به كييف من دول الحلف وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، فقد استهلكت الحرب سلاح الجو الروسي بدرجة كبيرة، والأمر ذاته ينطبق على الأسطول البحري وترسانة المدرعات المخصصة للمشاة.
منذ فبراير/شباط 2022، انخفض حجم الغارات الجوية التي يقوم بها سلاح الجو الروسي على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري شمال غرب البلاد إلى حده الأدنى، كما صمتت موسكو ولم تعد تطالب بحسم ملف إدلب على غرار ما كانت تفعل قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، وأيضًا غابت تصريحاتها الرافضة للانتشار العسكري التركي الواسع في إدلب، وهذا بحكم الحاجة للحفاظ على علاقات جيدة مع تركيا التي تمتلك مضيقًا مهمًّا لعبور البحر الأسود، ولأن موسكو اعتمدت تدريجيًّا على أنقرة وسيطًا لاستمرار بيع الطاقة للدول الأوروبية، لاسيما أن هذه الأخيرة قطعت غالبيتها العلاقات التجارية المباشرة مع موسكو بعد الحرب.
لقد كان تقليص حجم القوة الجوية الروسية الموجودة في قاعدة حميميم خلال العامين الماضيين، عاملًا مؤثرًا في اتخاذ فصائل المعارضة السورية قرار إطلاق عمليات عسكرية، نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2024. أشارت تقديرات المعارضة السورية إلى أن روسيا غير قادرة على تنفيذ أكثر من 20 هجومًا يوميًّا كحد أقصى، نظرًا لعدد الطائرات القليل الذي باتت تحتفظ به في قاعدتها الجوية بريف اللاذقية، بالإضافة طبعًا لتوقع عدم رغبة موسكو باستهلاك طاقتها الحربية في أكثر من ميدان، خاصة بعد رفع الدول الغربية حظر استخدام الأسلحة بعيدة المدى عن القوات الأوكرانية؛ حيث بات بإمكان الأخيرة تنفيذ هجمات صاروخية ضمن العمق الروسي(4).
على الصعيد الإقليمي، فإن إطلاق حركة حماس لعملية طوفان الأقصى أواخر عام 2023، وما تبعها من ارتفاع التوتر بين إيران وإسرائيل إلى مستوى غير مسبوق، وامتداد المواجهات مع إسرائيل إلى جنوب لبنان، كانت تطورات بالغة التأثير على الساحة السورية، وربما أكثر من أثر الحرب الروسية-الأوكرانية.
بعد انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، وما تبعها من هجمات صاروخية وجوية متبادلة بين إسرائيل وإيران، ازداد التشدد الأميركي والإسرائيلي حيال نفوذ طهران وحلفائها في المنطقة، وقد كانوا الداعم الرئيسي للنظام السوري، فهم ساعدوه منذ 2015 إلى 2020، بالقوات البرية التي مكَّنته من السيطرة مجددًا على محافظتي حلب وحماة، وأجزاء من محافظة إدلب، وقبلها ريف دمشق.
ازداد منسوب الغارات الإسرائيلية على مواقع تابعة لإيران في سوريا، واستهدفت الغارات بدرجة رئيسية مخازن أسلحة تابعة لحزب الله اللبناني، وقد ذهب الإعلام الإسرائيلي إلى تأكيد تنفيذ إسرائيل، في سبتمبر/أيلول 2024، إنزالًا جويًّا على منشأة البحوث العلمية في مصياف بريف حماة، على أنها مختبر لتطوير الصواريخ لحزب الله اللبناني(5).
من جهتها، صعَّدت الولايات المتحدة وبريطانيا من ضرباتها ضد جماعة أنصار الله الحوثي، والتي أطلقت، منذ نهاية 2023، سلسلة من الهجمات ضد المصالح الغربية في البحر الأحمر، بالإضافة إلى هجمات صاروخية على مواقع إسرائيلية.
التطور الأهم هو الضغوطات التي باتت تمارسها واشنطن على الفصائل العراقية الحليفة لإيران لتقليص نشاطها خارج الحدود، خاصة أن هذه الفصائل كانت تشارك بتقديم الدعم اللوجستي وتسهيل عبور الأسلحة إلى جنوب لبنان عبر الأراضي السورية، ففرضت القوات الأميركية الموجودة في قاعدة عين الأسد على الحدود العراقية-السورية رقابة صارمة على تحرك هذه الفصائل في إطار جهود قطع طريق نقل الأسلحة إلى جنوب لبنان، وقامت الطائرات المسيرة الأميركية باستهداف قوافل عسكرية تابعة للفصائل العراقية مرارًا عند محاولة عبور الحدود باتجاه سوريا(6). وهذه الفصائل عمومًا داعم أساسي لتثبيت سيطرة “النظام السوري” وخاصة في منطقة جنوب حلب؛ حيث تمتلك قاعدة مشتركة مع الحرس الثوري الإيراني هناك(7).
وخلال هجوم فصائل المعارضة على حلب، ظهر بشكل واضح اعتماد “القوات السورية النظامية” على عناصر غير محترفة ومجندة حديثًا، وتجلى الأمر من خلال وقوع المئات من العناصر في الأسر بدون مقاومة تذكر، مما أدى إلى انهيارات غير متوقعة وفي أيام قليلة، على عكس المواجهات التي اشتركت فيها الفصائل العراقية وحزب الله اللبناني بين عامي 2015 و2017، وانتهت باستعادة “النظام السوري” لمدينة حلب، وامتازت تلك المواجهات بطول الأمد والشراسة(8).
التعاطي الأميركي الصارم مع نشاط الفصائل الحليفة لإيران خارج الحدود، من الأسباب التي دفعت كلًّا من الحشد الشعبي، وحزب الله اللبناني لنفي رغبتهما في نقل قوات إلى سوريا بعد خسارة النظام السوري لمدينة حلب، وانتقال المعارك إلى أطراف مدينة حماة(9).
المواقف الدولية
بمجرد عودة التصعيد إلى الساحة السورية اتجهت الأنظار بشكل مباشر إلى مواقف الثلاثي الدولي الضامن لمسار أستانا (تركيا-روسيا-إيران)، فقد بقي هذا المسار هو المعني بنقاش الواقع الميداني شمال غرب سوريا لمدة 7 سنوات كاملة، ونجح في خفض التصعيد إلى أدنى حد، وأحيانًا إلى مستوى قريب من الصفر. ونظرًا للتصريحات الإسرائيلية المتكررة مؤخرًا حول سوريا ونشاطها بالعمليات الجوية، فالإسرائيلي معني بالمراقبة فضلًا عن التدخل هو الآخر.
1-الموقف التركي
طالبت تركيا في أول موقف رسمي لها بمنع أي تصعيد يؤثر سلبيًّا على السكان المحليين، لكن المتحدث باسم الخارجية التركية، أونجو كيتشيلي، ركز على الهجمات على إدلب، واعتبرها تهدد روح اتفاقية أستانا، في إشارة إلى الغارات الجوية التي نفذتها طائرات النظام السوري على مدينة إدلب بالتوازي مع المواجهات في حلب.
أيضًا، تحدث بيان الخارجية التركية عن ازياد هجمات “التنظيمات الإرهابية” على المدنيين في مدينتي تل رفعت ومنبج بريف حلب، في إشارة إلى القصف الذي نفذته قوات سوريا الديمقراطية على مدينة الباب بريف حلب قبل انطلاق المواجهات الأخيرة بعدة أيام(10).
وقد حمَّل وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، “النظام السوري” بشكل مباشر مسؤولية التصعيد الأخير، فقد أكد خلال مؤتمر صحفي جمعه في أنقرة مع وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، مطلع ديسمبر/كانون الأول 2024، أن عدم رغبة النظام السوري بالجلوس مع المعارضة أدى لحدوث التطورات الأخيرة(11).
على الصعيد الميداني، تعتبر تركيا مستفيدًا رئيسيًّا من التطورات الأخيرة، فقد نفذ الجيش الوطني السوري التابع للحكومة السورية المؤقتة المعارضة، والمتحالف مع القوات التركية المنتشرة شمال سوريا، عملية عسكرية أفضت إلى السيطرة على منطقة “الشهباء” شمال غرب مدينة حلب والتي تشمل تل رفعت والشيخ عيسى ومنغ، وبعض أحياء مدينة حلب، وإخراج قوات سوريا الديمقراطية من غالبية هذه المناطق وخاصة تل رفعت القريبة من الشريط الحدود مع تركيا، والتي كان ينطلق منها الكثير من الهجمات على القواعد العسكرية التركية بالمنطقة خلال السنوات الماضية.
تبدو أنقرة مرتاحة لبسط فصائل المعارضة سيطرتها على مدن جديدة، مثل تل رفعت بريف حلب، وسراقب ومعرة النعمان شرق إدلب وجنوبها، لأمرين اثنين على الأقل. أولهما: أنه يمكن تسهيل عودة النازحين واللاجئين إلى هذه المناطق، لاسيما أن تركيا تعتبر مسألة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم من أهم أولوياتها في سوريا، خاصة في السنوات الأخيرة بعد أن أصبح ملف اللاجئين موضع تجاذب داخلي في تركيا. والثاني: لأن هذا التقدم يقوِّض ويقلص من انتشار “المنظمات الإرهابية”، أي القوى الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني.
عمومًا، من المتوقع أن موازين القوى الجديدة التي نتجت عن تقدم فصائل المعارضة ستصب في صالح أنقرة التي حاولت جاهدة مؤخرًا إقناع الرئيس الأسد بالجلوس على طاولة المفاوضات، والتوافق على حل مع المعارضة.
2-الموقف الروسي
بدا واضحًا خلال الأيام الأولى لهجوم فصائل المعارضة وتقدمها إلى مناطق “النظام السوري”، أن مشاركة الطائرات الروسية كانت محدودة إلى جانب القوات السورية النظامية، وربما لم يكن هذا بسبب محدودية القدرة العسكرية الروسية المتوافرة فقط، بل ربما أيضًا كان يتعلق بأسباب سياسية. وهذا ما دفع إلى الاعتقاد بوجود تفاهم تركي-روسي ما سابق على العمليات، مع العلم أن الغارات الروسية ازدادت لاحقًا لمنع تقدم الفصائل باتجاه مدينة حماة(12). وأعلن الجيش الروسي بشكل رسمي أنه سيساند “الجيش العربي السوري” في صد “العدوان الإرهابي” على محافظتي إدلب وحماة، مع التأكيد أن الهجمات الصاروخية الروسية أدت إلى سقوط المئات من أفراد فصائل المعارضة المهاجمة.
أجرت روسيا اتصالات مع الجانب العراقي لاستطلاع مدى قدرة بغداد على الدفع بتشكيلات عسكرية رديفة للقوات الرسمية (الحشد الشعبي) لمساندة النظام السوري لوقف حالة الانهيار وخسارته المساحات الجغرافية، لكن فيما يبدو فإن الضغط الأميركي على القوى الفاعلة في الحكومة العراقية يحول دون هذا الخيار للفترة الراهنة على الأقل(13).
بالمقابل، تُجري موسكو مناقشات مع كل من تركيا وإيران من أجل العمل على احتواء التصعيد الحالي، ويدور الحديث عن احتمالية عقد جلسة جديدة لمسار أستانا قد تكون في العاصمة القطرية، الدوحة.
3-الموقف الإيراني
تعتبر إيران المتضرر الأول من التطورات الأخيرة شمال غرب سوريا، فقد خسرت محافظة حلب التي حرصت طيلة السنوات الماضية على تعزيز الوجود فيها لأسباب دينية تتعلق بوجود المكون الشيعي بمحيط مدينة حلب، في بلدات نبل والزهراء وحي المشهد ضمن المدينة، ولأسباب اقتصادية أيضًا فحلب هي العاصمة الاقتصادية لسوريا.
خسرت إيران قاعدة إستراتيجية في محافظة حلب تتمثل بجبل عزان وصولًا إلى معامل الدفاع قرب السفيرة جنوب المحافظة، وهذا ما دفع وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، للتوجه إلى دمشق، في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2024، أي بعد عدة أيام من انطلاق الهجوم، وبعدها بيومين زار العاصمة التركية، أنقرة، للتباحث مع نظيره التركي، حاقان فيدان، ومن هناك أكد تمسك طهران بدعم بشار الأسد.
قبل زيارة عراقجي إلى دمشق، عمل المستشارون العسكريون الإيرانيون على حشد ما أمكن من المقاتلين العراقيين للتوجه إلى سوريا، ولكن القلق الذي يسود الساحة العراقية من الموقف الأميركي المعارض لنشاط الفصائل العراقية خارج الحدود، أدى إلى محدودية الاستجابة، لذا تتجه طهران للاعتماد أكثر على المقاتلين الأفغان العاملين ضمن لواء “فاطميون”(14).
من الواضح أن طهران قلقة للغاية من التطورات في سوريا، فالتحركات الأخيرة للمعارضة شمال غرب إدلب، قد تفتح شهية المجموعات العسكرية الموجودة في درعا جنوب البلاد للتحرك أيضًا، مع مخاوف من إمكانية تنفيذ عمليات عسكرية من قوات معارضة تعمل تحت اسم “جيش الثورة”، المتمركزة في “قاعدة التنف” على الحدود العراقية-السورية، وبالتالي التضييق بشكل كبير على الطريق البري الممتد من طهران إلى لبنان والبحر المتوسط عبر الأراضي السورية.
4-إسرائيل
لا يمكن نفي وجود تأثير إسرائيلي في الساحة السورية، لاسيما أن غاراتها هناك لا تتوقف في سياق المواجهة مع حزب الله أو التمدد الإيراني في المنطقة، وهي مستاءة من تحالف الأسد مع إيران. وقد قال رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024: “بشار الأسد يلعب بالنار”.
ولكن لا يوجد رابط مباشر بين هجوم المعارضة والموقف الإسرائيلي الذي له حسابات خاصة. في الواقع، إن إطلاق هجوم عسكري واسع يستهدف حلب وإدلب وحماة معًا، يحتاج تحضيرًا مسبقًا لأشهر طويلة، خاصة في ظل إمكانيات فصائل المعارضة المحدودة، والتي تعتمد كثيرًا على العتاد المصنَّع محليًّا مثل الطائرات المسيرة، أو الصواريخ محلية الصنع.
كما أن إسرائيل لا تنظر، على الصعيد السياسي، بإيجابية لفصائل المعارضة السورية شمال غرب البلاد بحكم خلفياتها الإسلامية بالأغلب، وهذا ما أكده وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، الذي شدَّد على أن بلاده لن تنحاز لأي طرف، ولا يوجد خيار جيد بين النظام و”المتمردين الجهاديين”، وأن خيار بلاده هو دعم الأقليات(15).
إلا أن هذا لا ينفي أن إسرائيل مستفيدة من تقويض النفوذ الإيراني، فهذا الأخير لطالما مثَّل تهديدًا لها، ولكن يبدو أن تهديد “المد الإسلامي” داخل المعارضة السورية أصبح بالنسبة لإسرائيل تهديدًا ثانويًّا بعد عملية “طوفان الأقصى”، وأصبح التمدد الإيراني خطرًا داهمًا. كما أن تل أبيب قد تستغل ما يحدث لفرض منطقة أمنية جنوب سوريا ضمن محافظة القنيطرة؛ حيث تقوم منذ مدة باستحداث تحصينات عسكرية هناك.
5-الموقف الأميركي
من حيث الموقف المباشر، سارع البيت الأبيض إلى نفي العلاقة بالهجوم الذي شنته الفصائل في حلب، ودعا إلى إنهاء الحرب بناء على تسوية سياسية وفق قرار مجلس الأمن 2254(16). لم تتخذ واشنطن أي إجراء إستثنائي، ولا تزال تمنع قوات الحشد الشعبي من العبور إلى سوريا وفق المعتاد، ولا يوجد حتى اللحظة ما يشير إلى أي دور أميركي مباشر في تجدد المعارك على الأراضي السورية، خاصة أن هذه الهجمات شملت قوات سوريا الديمقراطية. وإن كان هذا الهجوم تركز فقط على مواقع في غرب نهر الفرات حيث لا يوجد فيها قواعد أميركية (تل رفعت وما حولها)، كما أن فصائل المعارضة المتمركزة في “قاعدة التنف” الخاضعة لسيطرة القوات الأميركية لم تقم بأي تحرك على الحدود السورية-العراقية.
انعكاسات الهجوم
الانعكاس الواضح والمباشر لهجوم الفصائل العسكرية هو تبدل الواقع الميداني، وتغير خرائط السيطرة التي بقيت ثابتة منذ بداية 2020. فقد استحوذت فصائل المعارضة للمرة الأولى على كامل مدينة حلب باستثناء حيي الشيخ مقصود والأشرفية اللذين لا يزال التفاوض مستمرًّا فيهما مع قوات سوريا الديمقراطية لانسحابها منها.
أيضًا، استعادت فصائل المعارضة كامل محافظة إدلب التي كانت بحوزتها قبل مايو/أيار 2019، عندما شنت “القوات السورية النظامية” والفصائل المرتبطة بإيران الداعمة لها، هجومًا على المنطقة بدعم من الطيران الروسي، وقضمت كامل ريف حماة بالإضافة إلى جزء من إدلب.
على الجانب السياسي، ظهرت مؤشرات على أن التطورات الأخيرة قد تكون بوابة لحصول متغيرات سياسية. من هذه المؤشرات الموقف الروسي “الضبابي”، والذي تجلى بإعلان دعم النظام السوري، لكن مع انخراط ميداني حذر على غير المعتاد. بالإضافة إلى توجه إيران إلى أنقرة لمحاولة إقناعها باستخدام نفوذها لوقف الهجوم، وقد يكون على طهران بالمقابل تغيير موقفها وتأييد المساعي التركية لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، على أرضية تسهيل عودة اللاجئين و”مكافحة الإرهاب”. والجدير بالذكر أن وزير الخارجية التركي، فيدان، كان قد كشف قبل أيام من الهجوم، أن إيران غير راغبة بتسهيل عودة العلاقات بين تركيا والرئيس الأسد.
وتحدث وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2024، عن إمكانية عقد اجتماعي رباعي يضم قطر وتركيا وروسيا وإيران وفق صيغة أستانا من أجل نقاش التطورات في سوريا، وهذا من شأنه إدخال تعديلات سياسية على المسار الذي كان يشارك فيه العراق المساند للنظام السوري، والأردن صاحب الموقف الحيادي، وبالتالي إحداث توازن أكبر نظرًا للموقف الذي تتبناه قطر والمتمثل بدعم مطالب الشعب السوري، والمتقارب مع الموقف التركي فيما يتعلق بالملف السوري، ، أي إننا قد نكون مقبلين على فرض معادلات إقليمية جديدة في الملف السوري خاصة إذا ما نتج عن العملية الحالية إضعاف الدور الإيراني لحد كبير(17).
خلاصة
على الرغم من الوعود التي قطعتها كل من إيران وروسيا بمساندة النظام السوري، إلا أن فصائل المعارضة مستمرة في التقدم والسيطرة على المواقع بريف حماة الشمالي، ويبدو أن الدولتين الداعمتين للنظام غير قادرتين على لعب ذات الدور الذي كانتا تقومان به في السنوات السابقة، وهذا يرجع لأسباب مختلفة. بالنسبة لإيران، فقد فقدت دور حزب الله الكبير في سوريا، بعد اغتيال إسرائيل لأمينه العام، حسن نصر الله، ومقتل جميع قيادات الصف الأول للحزب.
بالمقابل، تركز روسيا جهودها على أوكرانيا ولا تريد أن تُستنزف في سوريا، ومن غير المستبعد أن ترسل رسائل سياسية غير مباشرة إلى واشنطن، بأنها لا تريد الدفاع عن مناطق النفوذ الإيراني خاصة مع قرب تولي ترامب السلطة رسميًّا في واشنطن، وهو معروف بنهجه المتشدد تجاه إيران، وبالتالي قد لا ترغب بالتأثير على فرص عقد تفاهم معه في الملف الأوكراني الأكثر تأثيرًا على روسيا.
لا يبدو أن النظام السوري قادر على استعادة جميع ما فقده على المستوى القريب في ظل المعطيات الميدانية والسياسية الراهنة، وبالتالي سيركز جهوده على عدم خسارة محافظة حماة وخاصة المدينة، وقدرته على الدفاع عنها ليست كبيرة في ظل المشاركة الروسية المحدودة بمساندته، وانكفاء القوى المدعومة من إيران عن التدخل الواسع.
من غير المؤكد ما إذا كانت التطورات الميدانية الأخيرة ستمهد الأجواء لتنشيط الحل السياسي، لكن من الواضح وجود رغبة إقليمية ودولية بهذا، فقد توالت التصريحات التركية والأميركية والأوروبية التي تطالب بالحل السياسي.
نبذة عن الكاتب
فراس فحام
فراس فحام، باحث متخصص في الشأن السوري، وهو باحث رئيسي في مركز جسور للدراسات، وباحث متعاون مع مركز أبعاد المتوسط المتخصص في منطقة حوض البحر المتوسط وشمال إفريقيا.
مراجع
1- محمد بن سلمان يلتقي بشار الأسد على هامش قمة الرياض، إرم نيوز، 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 (تاريخ الدخول: 2 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://www.eremnews.com/news/arab-world/kbjttv6
2- أسئلة مركزية لفهم عملية ردع العدوان، الجزيرة نت، 2 ديسمبر/ كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/qaKJV
3- البنتاغون: روسيا تبدأ سحب قواتها من سوريا للقتال في أوكرانيا، سكاي نيوز عربية، 26 مايو/أيار 2024 (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/A5Mit
4- مقابلة مع شخصيات عسكرية ضمن وفد المعارضة السورية إلى أستانا، أكدت أن عدد الطائرات الروسية الموجودة في مطار حميميم حاليًّا هي 6 فقط صالحة للاستخدام، وتم سحب قرابة 35 طائرة حربية ومروحية. 1 ديسمبر/كانون الأول 2024.
5- المزيد من التفاصيل عن عملية الإنزال الإسرائيلية المثيرة بمركز البحوث ببلدة مصياف السورية، يُنظر: الجزيرة نت، كيف يمكن قراءة عملية إسرائيل الخاصة ضد منشأة إيرانية بسوريا؟، 12 سبتمبر/أيلول 2024، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/wMlY9
i24news، المزيد من التفاصيل المثيرة عن عملية الإنزال الإسرائيلية بمركز البحوث ببلدة مصياف في سوريا، 13 سبتمبر/أيلول 2024 (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/bN8Kj
6- الحركة غير الاعتيادية للقوات الأميركية على الحدود السورية العراقية.. ماذا وراءها؟، موقع تليفزيون الحرة، 29 أغسطس/آب 2024 (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/SQ2Tm
7- فوكس نيوز: إيران تبني قاعدة عسكرية سرية في سوريا، صحيفة الشرق الأوسط، 4 سبتمبر/أيلول 2019، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/3GTCC
8- قوات النظام تنسحب من قربة الزربة بريف حلب وتترك خلفها آليات ثقيلة، تليفزيون سوريا التابع للمعارضة، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 (تاريخ الدخول: 2 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://www.youtube.com/watch?v=a9JeK5hiqaI
9- الحشد الشعبي ينفي دخوله إلى سوريا: لا نعمل خارج العراق، جريدة الأخبار، 2 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/p5s2A
10- الخارجية التركية تعلق على تطورات المعارك شمال سوريا، الجزيرة نت، 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 (تاريخ الدخول: 2 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/Nd7fR
11- فيدان: على النظام الجلوس والاستماع إلى المعارضة، الجزيرة نت، 2 ديسمبر/ كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/JhU4U
12- وفقًا لمراصد الطيران العسكرية التي تنشط شمال غرب سوريا، فإن حجم الغارات الروسية طيلة أيام المواجهة لم يتجاوز 150 غارة. مقابلة مع ناشطين في المراصد العسكرية، 2 ديسمبر/كانون الأول 2024.
13- الاتصالات الروسية-العراقية أكدها مستشارون سياسيون من دوائر الحكومة العراقية، والرد العراقي تضمن التأكيد على عدم الرغبة بالتدخل في الشؤون السورية. مقابلات مع مصادر عراقية، 2 ديسمبر/كانون الأول 2024.
14- المصدر نفسه.
15- أول تعليق إسرائيلي على هجمات الفصائل المسلحة، موقع تلفزيون الحرة، 1 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 2 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://tinyurl.com/3663zzz6
16- البيت الأبيض يعلق على الوضع في حلب وعلاقة أميركا بهجمات المعارضة السورية، سي إن إن بالعربية، 1 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://tinyurl.com/y3vhsnps
17- تحركات دولية وإقليمية بشأن سوريا ودعوات لوقف التصعيد، الجزيرة نت، 3 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://tinyurl.com/2suc3sb3
————————————–
عن بشرٍ غيرنا اسمُهم الشعب السوري/ محمد طلبة رضوان
03 ديسمبر 2024
حين اشتعلت في مصر ثورة يناير، لم يكن الانتصار على الدولة في مفاهيم من قاموا بها، على تنوّعهم، هو إسقاطها بالكلية، بل إسقاط حسني مبارك، ثم تغيير المنظومة. كان الانتصار المرجوّ من “شباب يناير”، وما زال، هو انتصار النظام على الفوضى، سلطة القانون على حكم المحاسيب، قيمة التخصّص على أوهام العسكري الذي يصلح لكل شيء، فِكر الاستقلال على التبعية، المواطنة على التغريب السياسي، حبّ الحياة على تجريمها باسم الوطنية، أو تحريمها باسم الدين. هذا هو المعنى من وراء انتصار الثورة في بلدٍ عرف الدولة قبل أن تعرفها أدبيات التاريخ والعلوم السياسية. ولا يمكن لمصريٍّ عاقل أن يتمنّى أو يتخيّل أن تكون الحرب الأهلية أو حمل السلاح على مؤسّسات الدولة إحدى وسائل التغيير.
لهذه الأسباب، لجأت الدولة المصرية، في آخر أيام مبارك، إلى التهديد بغياب الدولة، فسحبت الشرطة، وفتحت السجون، وأطلقت اللصوص في الشوارع، باعتبارها إجراءات عقابية، و”إرهابية” بالمعنى الحرفي، فكانت اللجان الشعبية هي ردّ الثورة والمواطنين على حدّ سواء. هذه هي تجربتنا، وهي ليست بالضرورة تجربة الآخرين، ومحاولة قياس تجارب الآخرين على تجاربنا من دون أدنى معرفة بتجارب الآخرين فعل مستهتر ومضلّل، وأحياناً، وعن عمد، كاذب.
يحتاج المحلل المصري أن يقف على حقائق بديهية، يعرفها أي قارئ، ولو على خفيف، للشأن السوري، فالاتهام بخدمة المصالح الإسرائيلية ثيمة مكرّرة في خطابات النظام السورى يجرى استدعاؤها لأتفه الأسباب، خذ مثلاً: بدأت الثورة السورية بجملة كتبها أطفال على حائط مدرسة “أجاك الدور يا دكتور”. قبض النطام السوري “الوطني” على الأطفال، وحين ذهب أهلهم لاستردادهم باعتبارهم “عيالاً” ومتأثرين بما رأوه على الشاشات في تونس ومصر، ردّ النظام بأن هؤلاء الأطفال متآمرون لصالح إسرائيل. ورغم إبداء محللين إسرائيليين تخوفهم من سقوط الأسد، ووصول إسلاميين متوافقين أيديولوجيا مع “حماس” إلى حكم سورية، ما يمثل تهديداً لأمن إسرائيل، إلا أن المحلل المصري شرب مقلب إسرائيل إلى آخره، واندفع، مجّاناً أو مغازلةً للنظام المصري، يردّده وراء أبواق النظام السوري، إنها المؤامرة، إنه نتنياهو وترامب وأردوغان وهلم جراً…
هل حقّا الحرب في سورية بين الدولة والمليشيات الإرهابية؟ انتشرت تدوينة مهمّة للكاتب المصري محمد نعيم، تحاول أن تشرح هذه الفكرة. وسبب انتشار التدوينة شرحها البديهيات، وهي أكثر ما يحتاجه الداخل المصري في كل حادثٍ وحديث. وخلاصة كلام نعيم أنه لا دولة في سورية أصلاً، فقد أعلنت الدولة السورية الحرب على سورية، وضربت مدنها بالطيران، وبالبراميل المتفجّرة، وأبادتها، وهجّرت سكانها، وحوّلتهم إلى لاجئين وجثث على شواطئ أوروبا. ولم تفعل ذلك كله بمفردها، بل بالاستعانة بجيوش روسيا وإيران وحزب الله وغيرهم من الأجانب. الأمر الذي استدعى بدوره ردّ الفعل الطبيعي والبديهي وفقاً لقوانين الفيزياء قبل الحروب، فحملت الثورة السورية السلاح دفاعاً عن نفسها وعن مدنها وعن بيوتها وعن أطفالها. وما زالت تفعل الشيء نفسه، وهو ما ينفي فكرة مواجهة دولة لمليشيات إرهابية، فقد تجاوزت سلطة بشّار الأسد كل مفاهيم الدولة، واحتكارها العنف، وفق الشرط القانوني، وتحوّلت إلى مليشيا مسلّحة وإجرامية تهدف إلى البقاء في الحكم ولو على جثث المحكومين، فالمليشيا المسلّحة في سورية هي بشّار وحلفاؤه. أما الجيش الوطني، فهو فصائل الثورة السورية التي تدافع عن الأرض السورية، وتحمي المواطنين السوريين، وتحرّرهم من سجون مليشيات الأسد، وتعيد المشرّدين إلى بيوتهم ومدنهم. هذه هي معادلة الواقع هنا في سورية، والآن.
قد يكون وجود فصيل إسلامي جهادي معادٍ للحريات والديمقراطية في معادلة المقاومة المسلحة أمراً مقلقاً على المستقبل، لكن الحاضر، كما يراه السوريون في المدن المحرّرة، أكثر بؤساً من أي متخيّل سياسي قد يحدُث وقد لا يحدُث. والأولوية، وفق أصحاب الهَم، إزاحة مليشيات بشار، وعودة السوريين إلى بلادهم، وتحرير أكثر من 150 ألف معتقل، ثم خوض معركة الحرّيات، فكل المعارك بعد بشّار ممكنة.
العربي الجديد
————————
معركة “ردع العدوان”.. ما تداعياتها السياسية في المشهد السوري؟/ حسن النيفي
2024.12.03
ما إن بدأت العملية العسكرية التي أطلقتها الفصائل العسكرية للمعارضة السورية صبيحة السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني 2024، حتى انطلقت بموازاتها الكثير من الأسئلة ذات الصلة بسيرورة المعارك ومآلاتها من جهة، وبما ستفرزه من تداعيات على المستوى السياسي المحلي والإقليمي من جهة أخرى.
وخاصة أنه منذ اليوم الثاني لانطلاقة عملية (ردع العدوان) باتت تظهر العديد من المؤشرات التي تشي بأن أهداف تلك المعركة لا يمكن اختزالها ببعدها المحلّي (السوري) فحسب، بل ثمة أطراف إقليمية ودولية هي معنية بما يجري سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وربما لهذا السبب كان السؤال الأبرز والأكثر حضوراً: إلى أين ستمضي هذه المعركة، وما هي تخومها؟ ومن ثم: ما هي التداعيات المباشرة لتلك المعركة على المسارات السياسية سواء المُعطّلة منها أو التي ما تزال تحتفظ ببعض أنفاسها؟
استعادة المبادرة الميدانية
فيما يخص السؤال الأول يمكن الذهاب إلى انه من العسير الجزم حول موعدٍ زمني سيُقرعُ فيه ناقوسٌ مُؤذناً بتوقف القتال، ليس لأن ديمومة الحرب بحد ذاتها تخدمُ طرفاً ما، أو تلبي حاجة خفيّة لا يمكن معرفتها، بل لأن الحروب – غالباً – ما يكون من الميسور الإعلان عن انطلاقتها والتحكّم بإيقاد شرارتها الأولى، ولكن حين يتحول الشرر إلى كتل نارية ملتهبة فحينئذٍ يغدو للحرب مسارها الخاص، وتغدو سيرورة المواجهات وما يستجد من أحداث هي التي ترسم مآلات الحرب. إذ ربما من الصحيح أن عملية (ردع العدوان) انطلقت بدافع ردع الاعتداءات المتكررة لقوات الأسد وحلفائه على أرواح المدنيين سواء في إدلب وأريافها أو مدن وبلدات شمال سوريا، ولعله من الصحيح أيضاً أن طرد قوات الأسد من معظم المناطق والبلدات التي استولت عليها في شباط من العام 2020، يتيح المجال لعودة آلاف المواطنين ممن تهجروا وشُرّدوا إلى بيوتهم وديارهم، ولكن حين تكشف طبيعة المواجهة ان ثمة آفاقاً أخرى يمكن من خلالها مقاربة أهداف جديدة أكثر تجذّراً في القضية السورية، فلمَ لا يكون للمعركة – آنئذٍ – وجهتها ومسارها المتجدّد بتجدّد الفرص والأهداف؟
لقد عانى السوريون طيلة أكثر من عقد من عدوان مستمر على أرواحهم وممتلكاتهم، ولم يسلموا من وحشية الطغمة الأسدية حتى وهم في مخيمات النزوح، وقد استقوت قوات الأسد بكل شذّاذ الآفاق التي استمرأت قتل السوريين، فضلاً عن استقوائها بحلفاء دوليين ليسوا بأقلّ توحشاً من الطغيان الأسدي، واليوم إذْ أفضى تضارب المصالح إلى تحوّلات في مواقف الدول، بما فيها المتحالفة مع الأسد، أدّت إلى انزياح جزئي على الأقل، للغطاء الذي استظل به نظام دمشق طيلة سنوات مضت، فلمَ يُطلبُ من السوريين إذن، كفصائل عسكرية مقاتلة وكأشكال أخرى من الحراك الثوري، أن تتوقف حيث تعب أوأُنهِكَ الخصم، ألا يكون توقّفها في هذه الحالة ضرباً من ( الحَرَن) المجاني؟ وخاصة في ظل مناخ دولي تكاد تُجمِع فيه معظم الدول النافذة في العالم على أن مقاومة السوريين للوباء الأسدي باتت جزءًا من مقاومة شعوب المنطقة لمنبع الوباء الإيراني.
من الحرب إلى السياسة
أمّا فيما يخص التداعيات السياسية لمعركة (ردع العدوان) على القضية السورية، فيذهب قسمٌ من أصحاب الرأي إلى أن المتغيّرات الميدانية يمكن أن تتحوّل إلى ورقة رابحة بيد المفاوضين السوريين من روّاد مسار أستانا، كما يمكن أن يكون هذا المنجز الميداني وسيلةً ضاغطة على نظام الأسد بغية دفعه إلى استئناف مشاركته بلقاءات اللجنة الدستورية، ولعل حجّة أصحاب هذا الرأي تتمثل في كون المسارات السياسية سالفة الذكر إنما تستند إلى مرجعيات أممية ولا يجوز التفريط بها، وقد فات أصحاب هذا الاتجاه مسألتان اثنتان، تتمثّل الأولى في أن نظام دمشق، ومنذ صدور أول قرار أممي في حزيران 2012 وحتى الآن، لم يكن مستعدّاً لأي شكل من أشكال الحوار أو التفاوض الجدّي، لا حين كان محافظاً على تماسكه وجبروته ولا حين بات هزيلاً مهلهلاً، بل يمكن التأكيد على أن موافقته الشكلية على المشاركة في مسارات التفاوض إنما كانت وسيلة لمشاغلة الرأي العام الدولي من جهة، ولكسب المزيد من الوقت موازاة مع الاستمرار في حربه على السوريين بهدف الحسم الأمني من جهة أخرى، وقد استطاع الأسد أن يجعل من هذا التفاوض العقيم غطاء شرعياً لبراميله وقاذفاته التي لم تكف عن قتل السوريين طيلة السنوات السابقة. فيما تتمثّل المسألة الثانية بفقدان الكيانات الرسمية للمعارضة السورية – باعتبارها الجهة التي تفاوض باسم السوريين – للقدرة على إيجاد حيّز للمصلحة الوطنية السورية على طاولة المفاوضات، بل ربما أُرغمت – لأسباب عديدة – على أن تكون المصلحة السورية لاحقةً لمصالح إقليمية أو دولية أخرى، وبهذا لم يعد المصير السوري رهناً بأصحابه السوريين، بل مرهوناً بمصالح الآخر الخارجي. علماً أن مفهوم استقلالية المصلحة أو تحرّرها من أي تشابك أو تقاطع مع مصالح الدول الأخرى هو ضربٌ من الوهم والاستحالة، ولكن المسألة ليست في رفض تبادل المصالح أو رفض مفهوم المشاركة الندّية، بقدر ما هي رفض لمفهوم الارتهان والتماهي مع الآخر.
فيما يرى آخرون أن المعطيات الميدانية الجديدة ينبغي أن تكون هي السبيل نحو تجاوز الأطر السابقة للمفاوضات، بل يرى هؤلاء أيضاً أنه من الضروري إعادة النظر بمفهوم التفاوض، وذلك بناء على فهم حقيقي لطبيعة نظام الأسد، كما هو موجود بالفعل، وليس كما يصدّر ذاته للآخرين، أي أن يكون تعاطي السوريين مع نظام الأسد نابعاً من فهمهم ومعرفتهم بسلوكه و ممارساته، فأهل مكة أدرى بشعابها، بل ربما يرى كثيرون أن العودة إلى مسارات التفاوض السابقة، ووفقاً للآليات والمحدّدات ذاتها، إنما هي تفريط كبير بما تحقق على الأرض من منجز ميداني، فضلاً عن أن العودة إلى التفاوض مع الأسد لا تعني سوى إعطائه المزيد من الوقت لالتقاط أنفاسه لممارسة المزيد من الخداع والمماطلة، ولعل الأجدى من ذلك – وفقاً لأصحاب هذا الرأي – هو استمرار السعي – ميدانياً وسياسياً وحقوقياً وإعلامياً – لتضييق الخناق على النظام الذي يزداد تفسّخه يوماً بعد يوم، وحينئذٍ يكون المسعى الحقيقي نحو البرهنة للعالم على عدم صلاحية الطغمة الأسدية لحكم سوريا، وليس استجدائه من أجل التفاوض.
تلفزيون سوريا
———————–
حراك سياسي يرتقي للنجاحات العسكرية/ عدنان علي
2024.12.03
النجاحات المذهلة لفصائل المعارضة السورية في السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي، تفوق ما كان بحوزتها أصلًا خلال أيام معدودة، وضعت معظم المتابعين في حالة من الحيرة والقصور عن تحليل هذه التطورات المفاجئة التي تسير بوتيرة أسرع من القدرة على استيعابها، وهو ما فتح الباب واسعًا لإطلاق الخيال ونظريات المؤامرة لتفسير ما يحدث.
والواقع أن ما جرى لا ينبغي تفسيره بعيدًا عن الحقائق التي تظهر يوميًا على الأرض، والمتمثلة في انهيار قوات النظام في كل المناطق التي تقدمت إليها فصائل المعارضة، وهو ما يعكس انهيارًا أعمق في مجمل بنية النظام العسكرية والاقتصادية والسياسية. وكان لا بد أن تصل الأمور في لحظة ما إلى هذه النقطة، أي الانهيار الشامل، بعد التراجع النسبي في الاحتضان الذي كان يحظى به من جانب حلفائه، روسيا وإيران بشكل خاص، نتيجة الحرب في أوكرانيا والتطورات الأخيرة في المنطقة.
وبعد استفاقتهم من الصدمة التي شلت حركتهم خلال الأيام الثلاثة الأولى، حاول حلفاء النظام تقديم بعض الجرعات المعنوية للنظام، عبر اتصالات تلقاها من بعض دول المنطقة. في حين حضر وزير الخارجية الإيراني إلى دمشق في اليوم الخامس من المعركة، ليقدم وعودًا عمومية بالدعم، بينما قضى جل وقته في زيارة مقام السيدة زينب قرب دمشق، وتناول الطعام في أحد المطاعم الدمشقية، قبل أن ينتقل إلى أنقرة ويكرر من هناك سمفونية الإرهاب والمؤامرة الخارجية. لكنه، وللمفارقة، وجه رسالة استجداء غير مباشرة لإسرائيل للتدخل ضد المعارضة، بدعوى أن ما يحدث يشكل تهديدًا لدول الجوار.
غير أن الكلام الذي سمعه الوزير الإيراني من نظيره التركي هاكان فيدان يلخص جوهر المشكلة في سوريا، حيث قال إنه لا ينبغي تفسير التطورات الأخيرة في سوريا بالتدخل الأجنبي، بل إن المشكلات التي لم تُحل منذ 13 عامًا، وتجاهل نظام الأسد للتحذيرات التركية والدولية بأن سياسة المماطلة التي ينتهجها على المسار السياسي، ستقود في النهاية إلى انفجار الوضع.
وإذا كان الثلاثي: إيران، وتركيا، وروسيا، ما زالوا يتحدثون عن مسار أستانة كطريق للحل السياسي في سوريا، فإن الجميع بات يدرك أن التطورات على الأرض تجاوزت هذا المسار، وباتت تفرض البحث عن طريق جديد يقطع مع أساليب المماطلة والتسويف التي وسمت هذا المسار، وكل المسارات الأخرى خلال السنوات الماضية، وذلك بعد أن يستوعب حلفاء النظام بشكل كامل حقيقة ما يجري، خاصة مع بروز مواقف دولية تحمل نظام الأسد مسؤولية تدهور الوضع بسبب عدم جديته في التعامل مع الحلول السياسية.
ربما من المبكر الحديث عن سيناريوهات الحل في سوريا، لأن هذا الحديث لا بد أن يكون مستندًا إلى التطورات على الأرض، وهي تطورات ما زالت متحركة ولا يمكن البناء عليها. لكن بالقياس إلى النقطة التي بلغتها حتى الآن، وإلى الروح الجديدة التي أشاعتها في المشهد السياسي السوري المجمد منذ سنوات، وفي المشهد الإقليمي، من الواضح أننا نتجه إلى بناء معادلة جديدة تبرز فيها قوة المعارضة وحليفها التركي، مقابل تراجع مكانة النظام وتآكل تأثير حليفيه الإيراني والروسي، اللذين لديهما مشاغل أخرى تتقدم على الاستجابة لطلبات النظام. خاصة أن كل منهما يشعر بالإحباط تجاه هذا النظام: روسيا بسبب عدم إصغاء النظام لنصائحها بالتعامل ببعض الإيجابية مع المبادرات التي كانت تطرحها، وآخرها محاولة جمع رئيس النظام مع الرئيس التركي، وإيران التي باتت تنظر بسلبية إلى النظام بسبب مواقفه إزاء حربي غزة ولبنان، ومحاولاته تحقيق مكاسب خاصة به على حساب انتمائه المفترض لمحور المقاومة.
أما الولايات المتحدة والغرب، اللذان أعلنا أنهما يراقبان ما يجري عن كثب، فمن المرجح أنهما يفحصان الآن السيناريوهات المحتملة، وأداء فصائل المعارضة على الأرض وخطابها السياسي. وربما يحاولان التواصل معها عبر تركيا أو بشكل مباشر عبر الأطر السياسية القائمة للمعارضة. ومن هنا تبرز أهمية السلوك العقلاني بشكل عام للفصائل في المناطق التي دخلتها، لجهة طمأنة السكان، وروح التسامح التي سادت، وانضباط العناصر، وانسحابهم السريع من الشوارع بعد تأمين تلك المناطق، وترك مهمة التنظيم والإدارة للجان متخصصة رافقت القوى العسكرية.
والواقع أن النجاحات المفاجئة للفصائل المسلحة تفرض على أجسام المعارضة التحرك العاجل لتشكيل جسم سياسي جديد يتجاوز التشكيلات الحالية من ائتلاف وطني وهيئة تفاوض. جسم يضم فيما يضم ممثلين عن الجهات العسكرية، إضافة إلى ممثلين سياسيين عن كل فئات الشعب السوري، ويستند إلى قرار مجلس الأمن 2254، الذي ينص على تشكيل مجلس حكم يدير المرحلة الانتقالية. ليكون للحراك العسكري عنوان سياسي يتم عبره التخاطب مع المجتمع الدولي استعدادًا لأي استحقاقات سياسية مقبلة.
وبطبيعة الحال، فإن كسب الموقف الدولي ضروري ليس للاعتراف السياسي بالواقع الجديد وحسب، بل للمساعدة أيضًا على تدفق أوسع للمساعدات الإنسانية والإنمائية للمناطق التي تحت سيطرة المعارضة.
تلفزيون سوريا
—————————
سوريا والحاجة إلى تدخل دولي وعربي/ رمزي عز الدين رمزي
لن يقتصر انهيار الدولة السورية على سوريا وحدها
رويترز
آخر تحديث 03 ديسمبر 2024
قبل أربعة أيام فقط، وحرفيا، بعد ساعات من إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، اندلعت أزمة جديدة في سوريا.
وشهدت البلاد خلال الفترة الماضية انخفاضا ملحوظا في حدة الأعمال العدائية، حيث ظلت خطوط المواجهة بين الأطراف المتصارعة ثابتة منذ عام 2019. وبينما اعتقد معظم المراقبين أن سوريا باتت صراعا مجمدا يمكن التحكم فيه، كان هناك قلة، بمن فيهم كاتب المقال، يرون أن هذا التصور مجرد واجهة خادعة. فالواقع كان دائما يحمل بذور عدم الاستقرار، مع احتمال تجدد الأزمة في أي وقت.
في التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، انتشرت صور لجيش غير منظم، مسلح بالرشاشات، يتحرك عبر دراجات نارية وشاحنات في وسط مدينة حلب، كبرى المدن السورية والعاصمة الاقتصادية للبلاد.
هذا التطور السريع والمفاجئ أثار الكثير من التساؤلات حول الأطراف المتورطة والمستفيدة. لماذا بدا الجيش السوري، المعروف بيقظته، متفاجئا وغير قادر على إبداء مقاومة تُذكر؟ ولماذا تأخرت روسيا وإيران، الحليفتان الرئيستان لدمشق، في تقديم الدعم الفوري؟ وما الأدوار التي لعبتها كل من إسرائيل وتركيا في هذه الأحداث؟ وهل كان للولايات المتحدة أي دور في هذا التصعيد؟
هذه بالكاد بعض الأسئلة الطبيعية التي تثار في مثل هذه الحالات. وفي ظل غياب معلومات موثوقة، ليس من المستغرب في مثل هذه الحالات أن تنتشر روايات متعددة تتراوح بين الواقعي والخرافي.
ومع ذلك، فإن كل أزمة تحمل في طياتها فرصة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن استغلال هذه الأزمة لتحقيق تسوية طال انتظارها في سوريا؟
لاستكشاف هذه الإمكانية، يجب مراعاة عاملين رئيسين:
العامل الأول: الانتقال الوشيك إلى إدارة ترمب
مع اقتراب تولي الرئيس المنتخب دونالد ترمب السلطة خلال أسابيع، يبدو أن فكرة التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا، التي كانت مستبعدة في السابق، باتت قابلة للتحقق. فقد أعرب ترمب عن استعداده للعمل مع موسكو لحل الصراعات الدولية، بما في ذلك الوضع في أوكرانيا. وعلى الجانب الآخر، أظهرت روسيا حماسة واضحة لفوز ترمب في الانتخابات. وخلال السنوات الماضية، تبادل كل من ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبارات الإعجاب، ما زاد من التكهنات حول احتمال حدوث تعاون مشترك في قضايا دولية كبرى، من بينها الصراع السوري.
علاوة على ذلك، فإن قرب تولي الإدارة الجديدة يدفع الكثير من الفاعلين الإقليميين وروسيا إلى محاولة تعزيز مواقفهم التفاوضية مع الولايات المتحدة، في ظل التغيرات المحتملة في السياسة الخارجية الأميركية.
العامل الثاني: تأثير الحروب الأخيرة في غزة ولبنان
دفعت هذه الحروب القوى الإقليمية إلى إعادة تقييم سياساتها الأمنية واستراتيجياتها الإقليمية. فعلى سبيل المثال، تسعى إسرائيل، التي تبدو متحمسة لاستغلال حالة عدم الاستقرار الراهنة، إلى إعادة تشكيل الخريطة الإقليمية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. وفي الوقت ذاته، تعيد الدول العربية حساباتها بشأن علاقاتها مع أطراف متعددة، ليس فقط مع إسرائيل وإيران وتركيا، بل أيضا مع الولايات المتحدة، التي طالما اعتُبرت الضامن الرئيس لأمن الكثير من الدول العربية.
ومن المشروع الإشارة إلى أن الجهة التي تقف وراء التطورات الحالية في سوريا قد تسعى لخلق واقع جديد يؤثر على سياسة الإدارة الأميركية المقبلة برئاسة دونالد ترمب.
ورغم أنه لا يزال من المبكر تحديد الملامح الكاملة لسياسة الإدارة الجديدة تجاه الشرق الأوسط، فإن بعض الاتجاهات الأولية بدأت تتبلور:
أولا: احتمال سحب القوات الأميركية من سوريا
تشير المؤشرات إلى أن إدارة ترمب قد تتبنى استراتيجية أوسع تهدف إلى نقل عبء الأمن الإقليمي إلى الحلفاء. ففي فترة ولايته الأولى، أبدى الرئيس ترمب رغبة واضحة في سحب القوات الأميركية من سوريا، إلا أن هذا التوجه قوبل بمعارضة من البنتاغون. ومع تتابع الإدارات الأميركية، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية، بدا أن هناك إجماعا على تقليص الوجود العسكري في الشرق الأوسط للتركيز على مواجهة التهديدات الناشئة من الصين وروسيا.
لكن هذا التحول يتطلب ترتيبات أمنية بديلة لتحل محل الالتزامات الأميركية التقليدية. ومن بين هذه الترتيبات كان “منتدى النقب”، الذي دعمته الولايات المتحدة وإسرائيل بوصفه تحالفا سياسيا وعسكريا يضم إسرائيل وعددا من الدول العربية لمواجهة إيران. ورغم هذه الجهود، لم يحقق المنتدى تقدما يُذكر. وفي ضوء التطورات الأخيرة، بما في ذلك الحروب في غزة ولبنان، يبدو أن المنتدى قد يُحكم عليه بالفشل، وهو احتمال قد يلقى قبولا لدى بعض الأطراف.
ثانيا: توسيع اتفاقات أبراهام
تسعى الإدارة الأميركية إلى توسيع دائرة اتفاقات أبراهام، مع التركيز على تحقيق تطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. ومع ذلك، أوضحت الرياض أن إقامة دولة فلسطينية تُعد شرطا أساسيا لأي تطبيع محتمل مع إسرائيل. هذا الموقف قد يُجبر واشنطن على إعادة النظر في نهجها تجاه القضية الفلسطينية، خاصة إذا كانت إدارة ترمب تسعى إلى تحقيق اختراق دبلوماسي في هذا الملف.
ثالثا: التعاون المحتمل مع روسيا
يبدو أن هناك توجها نحو تعزيز التعاون بين واشنطن وموسكو، ليس فقط لحل الأزمة الأوكرانية، بل أيضا لمعالجة قضايا أوسع تشمل الشرق الأوسط. وقد تمثل سوريا، على وجه الخصوص، فرصة سانحة لهذا التعاون المشترك، حيث تُعد الأزمة السورية بمثابة “ثمرة يسهل قطفها” لتحقيق تقدم دبلوماسي بين القوتين.
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي خلال مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية السوري بسام الصباغ، طهران في 19 نوفمبر
لطالما نظرت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى سوريا كملف ثانوي لا يشكل أهمية استراتيجية كبيرة. تركّز الاهتمام الأميركي على هدف رئيس واحد: الحد من نفوذ إيران ومنعها من بسط سيطرتها على سوريا، وبالتالي الحد من نفوذ إيران في المنطقة. وهو ما ينسجم مع مصالح معظم القوى الإقليمية، بما في ذلك الدول العربية وروسيا. هذا التقارب في المصالح يتيح فرصة نادرة لجهود تعاونية قد تساهم في معالجة الأزمة السورية.
ورغم ذلك، لم تفلح الأطراف الإقليمية والدولية حتى الآن في تجاوز خلافاتها العميقة بشأن أهدافها في سوريا. ولكن، يظل هناك هدف مشترك واضح، وهو منع انهيار الدولة السورية. فالتطورات الراهنة تهدد بخلق فراغ خطير في السلطة قد يؤدي إلى موجة جديدة من الفوضى تجتاح المنطقة بأكملها، إذا لم يجر التعامل معها بشكل عاجل وصحيح.
لن يقتصر انهيار الدولة السورية على سوريا وحدها؛ فجيرانها المباشرون- الأردن، ولبنان، والعراق- سيكونون أول المتضررين، قبل أن تمتد التداعيات إلى دول الخليج ومصر. في ظل هذه التحديات، لا تستطيع الدول العربية التزام موقف المتفرج، وهي ترى منطقتها تُعاد صياغتها دون مشاركتها.
وقد يخدع البعض نفسه باعتقاد أن الفوضى الناتجة عن هذا الانهيار يمكن احتواؤها، إلا أن التجارب السابقة تؤكد أن هذا الاعتقاد لا أساس له. كما أن تجاهل التهديد السوري هو مخاطرة لا يمكن للدول العربية تحملها.
أمام هذا الواقع، يتعين على الدول العربية أن تتجاوز مرحلة الخطابات والشعارات وتنتقل إلى مرحلة الأفعال الملموسة. فالتصريحات الداعمة لم تعد كافية؛ بل يجب أن تظهر هذه الدول بوضوح لكل الأطراف التي تسعى لإعادة تشكيل المنطقة- سواء كانت إسرائيل أو تركيا أو إيران- أنها لن تقف مكتوفة الأيدي. علاوة على ذلك، ينبغي أن يتجاوز دعمها لسوريا الأقوال لتؤكد استعدادها للتحرك لمنع انهيار الدولة السورية، بما في ذلك الدعم العسكري بالنسبة لبعض الدول القادرة على ذلك.
وفي الوقت نفسه، بات من الضروري أن تتحمل الدول العربية مسؤوليتها السياسية والدبلوماسية. فدعم الدولة السورية يجب أن يكون مرتبطا بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، ويتعين على الدول العربية أن تأخذ زمام المبادرة في هذا الجهد. ورغم أن القرار، الذي اعتمد عام 2015 في ظل ظروف مختلفة، ربما فقد بعض عناصره صلته بالواقع الحالي، فإنه يمثل الإطار الدولي المعترف به لحل الأزمة. والمطلوب الآن هو خطة عملية تتضمن الانتقال السياسي، وإعادة الإعمار، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة.
وعلاوة على ذلك، على الدول العربية أن تسعى لإنهاء التدخلات الأجنبية في سوريا من خلال توفير الظروف الملائمة التي تضمن انسحاب القوى الأجنبية، بما يسهم في استعادة سيادة الدولة السورية على أراضيها. وفي هذا السياق، يُعد الاجتماع الوزاري الطارئ الذي ستعقده جامعة الدول العربية خلال الأيام المقبلة فرصة ذهبية لتوحيد الموقف العربي وإبراز دورها كلاعب رئيس في إعادة تشكيل خريطة المنطقة.
الرسالة يجب أن تكون واضحة وموجهة إلى جميع الأطراف (إسرائيل، إيران، تركيا، بل وحتى المجتمع الدولي بأسره). ويجب أن تظهر الدول العربية تصميمها على استعادة السيطرة على مستقبلها، والتأكيد على أنها لن تقف مكتوفة الأيدي بينما تُعاد صياغة منطقتها. ومن خلال ذلك، يجب عليها العمل بالتعاون مع الجهات الإقليمية والدولية الأخرى.
ونأمل أن يكون ذلك بمثابة الخطوة الأولى نحو صياغة رؤية عربية شاملة لمستقبل الشرق الأوسط.
المجلة
—————————-
الصمت الشعبي في سورية: قبول أم حياد؟/ سميرة المسالمة
02 ديسمبر 2024
بعيداً عن التحليلات العسكرية، وتطوّراتها المرتبطة بكثير من مصالح الدول المنخرطة في الصراع السوري، وتأثيرها في خريطة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، المأمولة، بما يضمن مصالح إسرائيل التي تدعمها الولايات المتحدة والدول الغربية، وتضمن سلاسة تحقيقها في المنطقة الأنظمة العربية وروسيا، وما يعنيه ذلك من تضافر الجهود على تقليص مساحة نشاط إيران وأذرعها في المنطقة، واستثمار ذلك كله في توقيت حيوي يضمن بقاء الأطراف المساندة للنظام السوري على مدرّج المتفرّجين على ما يحدث لقواته العسكرية، سواء لوقت مفتوح، أو لبعض الوقت، بينما يستعيد النظام إدراك حجمه في المعركة الإقليمية، في سياق الأحداث المستجدة في سورية، تجري معركة صامتة أخرى، بطلها “الصمت الشعبي” على الحدث الكبير الذي شهدته حلب وحماه، وربما ستكون حمص اللاحقة، فهل هو قبول أم حياد؟
اللافت للنظر حالة الهدوء التي تسيطر على سكان المناطق التي تدور فيها معارك الحسم للسيطرة عليها، بين فصائل المعارضة بقيادة واضحة لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وجيش النظام الذي تهاوى فجأة وانسحب أنصاره من دون أي مقاومة تذكر، أي إننا أمام مشهد استسلام شعبي لأي قوة حكم واقع تستلم زمام الأمور.
بعد مرور 13 عاماً على بداية الثورة، وما شهدته البلاد خلالها من تغيرات دراماتيكية في مسارات الحرب، أصبح مشهد استسلام الشعب السوري أمام القوى المسيطرة على الأرض أحد أبرز نتائج هذه الصراعات المستمرّة، وكأن ذلك اعترافٌ بفصل مطالب الثورة الشعبية التي انطلقت عام 2011 حراكاً شعبياً للمطالبة بالحرّية والديمقراطية، عن مسارات العسكرة، وما آلت إليه من صراع مسلح على السلطة، بمشاركة أطراف محلية ودولية.
لقد خرجت إرادة الشعب من معادلة “السلطة” في أي طرفٍ منها، ولم تعد إرادته ومطالبه هي الأساس، وهذا ما أدركه الشعب، عندما خضع من جديد لحكم القوى الأمنية التي عادت وتمددت في حلب بعد استعادتها عام 2016، من دون أن يكون هناك تغيير في طبيعة الحكم وآلياته، أي إن النظام، بعد عودته إلى حكم المحافظة، لم يقدّم للشعب ما يجعله يدافع عن وجوده، أي يتشارك مع قواه العسكرية والأمنية الدفاع عن مناطقه، وهو ما يبرّر حالة الاستسلام، وربما الرضا عن أي سلطة بديلة لسلطته، على الرغم من أن تجارب السكّان في مناطق جبهة تحرير الشام والفصائل المسلحة ليست على مستوى طموح ثورتهم ومطالبها.
بعد تحوّل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام إلى “كانتونات” محكومة بقوة السلاح، صار سوريون كثيرون ينظرون إلى كل الجهات المسلحة أمراً واقعاً، بما فيها النظام السوري وداعموه من إيران، وروسيا، ومليشيات طائفية، بالتساوي مع الفصائل المعارضة ومليشيا أبو محمّد الجولاني المسلحة، والدول الداعمة لهم. لهذا اختلطت مفاهيم تحرير المناطق باحتلالها من هذه الجهة أو تلك. ولهذا كنّا نشهد، بين حين وآخر، تظاهراتٍ في مناطق كثيرة ضد القوى الحاكمة، كما حدث في إدلب ومناطق في الشمال، بالزخم نفسه الذي يعيدنا إلى تظاهرات عام 2011 ضد نظام بشار الأسد، ما يعني أن تغيير اسم الجهة الحاكمة للمناطق لا يشير إلى تغيير في نظام حكمها، أو في تقديرها حقوق المواطنة التي يتطلّع إليها سكانها.
لذا يمكن تفسير الهدوء الشعبي بأنه ينبع من إحساسٍ عميق بعدم جدوى المقاومة في ظل موازين القوى العسكرية المسلحة الحالية، فالبقاء على قيد الحياة بأي شكلٍ كان هو الهدف الذي يسعون إليه، حتى لو تطلب ذلك تقبّل واقع جديد، قد لا يتماشى مع تطلّعاتهم في الحرية التي ثاروا من أجلها. ولهذا لا يمكن النظر إلى الصمت على أنه القبول الكامل أو الرضا عن الأوضاع القائمة، لكنه الرغبة في الخروج من دائرة العنف والدمار المستمر، سواء كنّا نتحدّث عن سوريين تحت حكم الأسد، أو حكم غيره، أي الحياد تجاه أي قوّة تحكمهم بالسلاح.
لذلك قد تتساوى وجهات النظر التي تتعارض أو تتوافق مع مجريات الأحداث الحالية، فلا يعني انتقاد المساندة والتهليل لانتصارات جبهة النصرة والفصائل المعارضة على جيش النظام السوري أنه رغبة في بقاء المناطق تحت سيطرة الأسد، أو أنه تفضيل حكمه على أي قوة مسلحة أخرى، فحيث لا أمل يُرتجى في إصلاح منظومة الحكم، قد لا يكون بقاؤه أفضل من ذهابه، وأن أي تغيير يفتح أفق أوسع لعودة الحراك الشعبي من أجل تحقيق أهدافه في الحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة.
لهذا، قد تكون المساندة التي نشهدها من المحسوبين على الديمقراطيين، لهذا التقدم العسكري للمعارضة المسلحة، تحت قيادة جبهة النصرة، منطلقة من أن تحريك الملفّ السوري في أي اتجاه أفضل من ركوده الذي يمكن أن يجعله مجرّد ملفٍّ منسي في أدراج الأمم المتحدة. وفي كل الأحوال، الوضع الحالي، في أسوأ الأحوال، خطوة نحو تحقيق مقولة أنه “لا ثابت في الوضع السوري، في ظل متغيّرات المنطقة، ومصالح دولها”.
ومع كل الملاحظات المسجلة بحق قوى الأمر الواقع، فإن أمام هذه الفصائل فرصة لتجاوز الأخطاء السلطوية، وبخاصة بعد محاولتها تقديم خطابٍ مدروس، بعيد عن الطائفية والعصبية، إلى السوريين والمجتمع الدولي. إذا تمكّنت من تقديم نموذج جديد للحكم، يضمن الحفاظ على أمان (وسلامة) السكان، بمختلف مرجعياتهم القومية والدينية، ويحمي ممتلكاتهم ومراكز أنشطتهم الاقتصادية، بعيداً عن “التعفيش” والتنكيل والانتقام، الذي اعتاد عليه السوريون خلال سنوات الصراع الطويلة.
العربي الجديد
——————————
كيف نفهم ما يحدُث في سورية؟/ غازي دحمان
02 ديسمبر 2024
أربكت التطورات المتسارعة في سورية خبراء السياسة والاستراتيجيا، فما حصل يمكن وصفه بالتغيرات النوعية المخلّة بالتوازنات القائمة منذ سنوات عدّة. والمحيّر إزاءها، أن موازين القوى لم تكن تُنبئ باحتمالاتٍ غير عادية، كما كانت هناك استعدادات متقابلة لدى أطراف الصراع، الأمر الذي فُهم وجود نوع من الردع المتكافئ يمنع أطراف الصراع من اختراق قواعد الاشتباك السارية منذ العام 2020، ومن ثم استمرارُ المعادلة الراهنة مرشّحٌ للبقاء على الأقل في المديين المنظور والمتوسط. ولكن يبدو ان هذه الحسابات النظرية لم تكن ذات أهمية لدى الجهة التي ترسم مسرح العمليات، وتراقب المشهد بصورة تفصيلية، وتستند على معطيات ومؤشّرات واقعية أكثر من التحليلات والافتراضات النظرية. وربما هذا هو سبب الفارق بين دهشة المراقبين من هذا التطور السريع في تحرير المناطق وخطوات المقاتلين الواثقة بأن الطريق سالكة إلى ما بعد حلب وسراقب، وأن المخاطر منعدمة أو شبه ضعيفة.
في غرف العمليات، كانت هناك معطيات جرى بناءً عليها رسم الخطط وتجهيز الموارد اللازمة للمعركة، والمؤكّد أن هناك طرفاً أو أطرافاً خارجية زوّدت هذه الغرف بمعلوماتٍ ربما لا تعرفها سوى استخبارات دولية، ترى المشهد من أكثر من زاوية وبصورة موسّعة. وفي الأغلب، هذه الجهة تركيا، وقد استفادت من المعلومات التي يوفرها حلف شمال الأطلسي (ناتو) ويتداولها مع تركيا بحكم الشراكة.
ربما يكون بعض هذه المعلومات، المعطيات، معلوماً، مثل أن المليشيات الإيرانية مستنزفة إلى حد بعيد، لكن تفاصيل هذا الاستنزاف، مثل سحب إيران جزءاً كبيراً من قياداتها إلى العراق، ومعرفة تأثير ذلك على أداء المليشيات الإيرانية ومعنوياتها، وما هي المفاصل التي تأثرت نتيجة الانسحاب هذه، ربما تحتاج إلى معلومات خاصة.
وفي المعلومات العامة أيضاً أن حزب الله سحب الجزء الأكبر من عناصره من جبهات القتال في سورية، والمؤكد أن الخسائر الكبيرة التي لحقت به على مستوى القيادة والكوادر القتالية أفقدته رفاهية مساندة النظام السوري في هذه المرحلة، حيث لم يتبين بعد أفق الحرب مع إسرائيل، وإلى أين ستتجه الأمور.
بيد أن ثمّة معطىً لم يكن يتنبه إليه أحد، وهو سحب روسيا جزءاً كبيراً من أصولها العسكرية من سورية، خاصة الطائرات الحديثة التي صنعت الفارق في الحرب في الأعوام السابقة، كذلك ضعف إمداد روسيا قواتها بالأسلحة لحاجتها إلى الذخائر والأسلحة في أوكرانيا. أما ما يخص الفصائل، فكان من الصعب اكتشاف هذا الأمر، خاصة أن روسيا لعبت بذكاء عليه طوال الأشهر الماضية، إذ استمرّت طائراتها بالإغارة على مواقع الفصائل، والمؤكّد أن ثمّة طرفاً خارجياً رصد هذا التغير في الوجود الروسي في سورية. وبالإضافة إلى تهالك قوات النظام السوري وضعفها تسليحياً وانعدام الروح المعنوية لديها ولدى السوريين عموماً في مناطق سيطرة النظام.
هذه هي الأسباب التي صنعت المشهد الحالي، من دون إنكار شجاعة فصائل المعارضة وتضحياتها وقدرتها على إدارة المعارك، رغم أنها تعاني مشكلاتٍ لا تقل عن التي تعانيها جبهة نظام الأسد من ضعف في التسليح والإمكانات، بفارق مهم، أن عناصر الفصائل يقاتلون من أجل العودة إلى أرضهم وبيوتهم التي هجّرهم منها النظام، في حين أن الطرف الأخر يقاتل من أجل الحفاظ على طاغية، لا يهتم بهم، على كرسي الحكم.
على هامش الحرب، خرجت نظريات تفسيرية عديدة تسبح في فضاءات نظرية المؤامرة والصراعات الجيوسياسية العالمية وإعادة تشكيل المنطقة، والتي ربما تقاطعت إحداها مع الوقائع الجارية، لكن ليس بالضرورة أن تكون متطابقة مع هذه التصورات والرؤى التي يجري طرحها.
من هذه التفسيرات أن ما يجري هو نتيجة اتصالات الرئيس الأميركي المنتخب ترامب بالرئيس الروسي بوتين، ووعده بإجبار أوكرانيا على الجلوس على طاولة المفاوضات، وعدم مطالبة روسيا بالانسحاب، مقابل مساعدة بوتين على إنهاء الوجود الإيراني في سورية وقطع طرق الإمداد عن حزب الله. ولو افترضنا أن ذلك قد يكون صحيحاً، فهل يدفع بوتين الثمن في سورية قبل أن يقبض من ترامب في أوكرانيا، وهل يثق بوتين بأن “البنتاغون” سينفذ وعود ترامب؟.
وهناك تفسيرات أخرى تذهب الى وجود تعاون تركي خليجي لإقناع بوتين بإخراج إيران من سورية، مع وعد بإعمار سورية والمحافظة على النفوذ الروسي. وتقوم هذه النظرية على أساس أن سورية وصلت إلى جمود لن يتم تفكيكه إلا إذا خرجت إيران. وحتى لو كانت لدى الأسد النيّة الصادقة في إخراج إيران لن يستطيع فعل ذلك، بسبب تغلغل إيران في مفاصل أجهزته الأمنية وجيشه. وقد يكون هو نفسه أبلغهم بذلك، ودول الخليج لن تستطيع المساعدة في إخراج سورية من هذا الواقع إذا لم تنسحب إيران فعلياً، وليس مجرّد كلام. لكن هذه النظرية تُسقط حقيقة أن دول الخليج، وفق توجّهاتها الحالية، لن تدعم قوى إسلامية لتحلّ محلّ بشار الأسد.
من المفترض أن 14 عاماً من الحرب علّمت السوريين كيف يديرون توقعاتهم وطموحاتهم ويسترشدون بآمالهم، ومن الأفضل للمعارضة المسلحة هضم ما استعادت السيطرة عليه، وعدم توسيع رقعة انتشارها وبناء أنساق دفاعية وحماية خطوط الإمداد، وأن ينتظروا التفاعلات التي يسبّبها تقدّمهم الكبير في المعسكر المقابل.
العربي الجديد
—————————
في انتظار سوار الذهب السوري/ معن البياري
02 ديسمبر 2024
وحده التريّث الأنسب لأن نزاوله بشأن بناء تصوّرات (وسيناريوهات) لما ستتدحرج إليه الوقائع المتسارعة في شمال سورية وبعض وسطها، ذلك أن من غير اليسير أن يقبض واحدُنا على الممكنات الأكثر ترجيحاً أن تستجدّ، فبقدر ما قد تطرأ من مفاجآت سارّة (مزيد من اهتزاز النظام)، واردٌ أيضاً أن ينتكس زحف قوى المعارضة السورية (في مقدّمتها هيئة تحرير الشام). على أن هذا التريّث المدعوّ إليه هنا لا يحرم أحداً تفسيرَ ما يحدُث، ويحرّك ملفّ سورية المهمل منذ سنوات، مع انهيارات منظومات النظام، العسكرية والأمنية، في حلب وإدلب وجوارهما ومواضع أخرى، وإنْ مع نوبات شجاعةٍ متقطّعةٍ لديه يواكبها عونٌ روسيٌّ. أما السؤال “لماذا في هذا الوقت بالذات؟” … فبديهيٌّ أن لكل حادثةٍ معطياتٍ تيسّر حدوثها، وما تنقلُه الشاشاتُ من أريافٍ ومدنٍ وبلداتٍ في الشمال السوري يسّرته أضواء تركية خضراء، وبإسنادٍ تسليحيٍّ ولوجستي، لا بدّ، وفّرته أنقرة، لرهاناتٍ لديها تقاطعت مع ظرفٍ إقليمي رأته مؤاتياً.
أخذاً بالتريّث الموصى به أعلاه، ينصرف صاحب هذه الكلمات عن هذه التفاصيل الميدانية، المتدافعة منذ خمسة أيام، ويقول إن سورية، في لحظتها شديدة الحساسية هذه، تحتاج إلى فئةٍ مخلصةٍ، ذات حسّ عالي المسؤولية، في الجيش، يقودُها رجلٌ من قماشة السوداني الراحل عبد الرحمن سوار الذهب الذي كان قائداً للقوات المسلحة في بلاده، لمّا التقط لحظة انتفاضة إبريل (1985) الشعبية على جعفر نميري ودكتاتوريّته، فحرّك قطعاتٍ من الجيش في انقلابٍ عسكري، لا حرج من وصفِه بأنه كان انقلاباً حميداً، وهيّأ السودان نحو عام لسلطةٍ مدنيّةٍ منتخبةٍ نقل إليها السلطة، ثم غادر الحكم إلى العمل الإغاثي والإنساني والدعوي الإسلامي.
ولئن يبقى ثقيلاً على النفس، أن يتبنّى صحافي دعوةً إلى انقلابٍ عسكريٍّ في بلد عربي، سيّما وأن صاحبَها هنا ناهضَ الانقلاب العسكري إيّاه في مصر (2013)، ها هو تأخذُانه، حماستُه للثورة السورية وشعبها وبغضاءُ يكنّها تجاه نظام عائلة الأسد، إلى تحبيذ إعلان ضابطٍ رفيع، في جيش البلاد، على مناقبيّةٍ كالتي كان عليها طيّب الذكر سوار الذهب، تولّيه المسؤولية فترةً انتقالية، تتحرّر فيها سورية من الاحتلالات، وتلتقط أنفاسها، وتتهيّأ لانعطافتها المشتهاة نحو تمرينٍ ديمقراطيٍّ ومسارٍ ينتشلها، ما أمكن، من قيعان الخراب الاجتماعي والاقتصادي التي ارتدّت إليها في 14 عاماً مضت، بفعل النظام وجرائمه، والإرهاب الذي تمادى، فجعلا سورية ملعباً مستباحاً لكل من أراد أن يلعب. … أكرّر، إن الدعوة إلى انقلابٍ عسكريٍّ في دمشق، وإنْ بقيادة سوار ذهبٍ سوري، ثقيلةٌ على النفس، غير أن ما يسوّغها، بل ما يوجب ضرورتها، أن الحديث هنا عن دولةٍ عالمثالثية، تُشابه نظيراتٍ لها عربياتٍ في أن جيوشَها صاحبة أدوار مركزية وحاسمة، في التحوّلات إلى هذه الوجهة أو تلك. ولنتذكّر أن ثورة يناير المصرية ما كان في مقدورها أن تطيح حسني مبارك لولا الفعل المعلوم الذي بادر إليه الجيش. ولسببٍ كهذا وغيره، ليس مستنكراً أنْ يتمنّى واحدُنا من وطنيين في الجيش السوري مبادرةً شجاعةً، محسوبةً لا ريب، تطرُد بشّار الأسد من قصر المهاجرين، وتبشّر الناس بخلاصٍ وإنقاذٍ متدرّجيْن، وتطلب من العالم مساعدتها في غير شأن، وتجمع الكفاءات السورية، الفكرية والقانونية، لإعمار مؤسّسةٍ للحكم في الدولة التي تهتّكت وانتُهكت.
بدا أستاذُنا وصديقُنا برهان غليون حذراً من أن يتبنّى تسمية الانقلاب الذي دعا إليه عسكرياً، في تدوينةٍ اعتبر فيها خياراً وحيداً، لتجنّب الوقوع في المخاطر في اللحظة الراهنة، “أن تظهر في دمشق من داخل النظام حركةٌ تلاقي حركة الفصائل، وتعلن الانقلاب على الأسد، وتعلن استعدادَها للعمل مع الفصائل لقيادة عملية الانتقال السياسي المؤجّل في سورية منذ 14 عاماً، والبدء بالتعاون مع الدول المعنيّة، وتحت مظلّةٍ دوليةٍ، وبرعاية الدول المشاركة، على تشكيل هيئة حاكمة انتقالية وتعديل الدستور وتشكيل حكومةٍ انتقاليةٍ بانتظار انتخاباتٍ خلال فترة سنة أو أكثر”. يرى هذا “المخرَج الأفضل للأزمة التي فتحها التقدّم المذهل للفصائل والتفاعل الكبير للجمهور السوري معها”.
أمّا وأنّ داعية الديمقراطية العتيد، برهان غليون، لم يبُقّ البحصة كلها، فتُختَتم هذه السطور بأن سورية في حاجةٍ إلى انقلابٍ عسكريٍ صريح، يقودُه ضابطٌ زاهدٌ من طينة عبد الرحمن سوار الذهب.
العربي الجديد
————————-
“ردع العدوان”: هل نحن أمام نسخة “جديدة” من المعارضة السورية المسلحة ؟/ أحمد حاج بكري
02.12.2024
خلال ثلاثة أيام من المعركة، تمكنت قوات المعارضة من بسط سيطرتها على ريف حلب الغربي بشكل كامل، والسيطرة على مركز مدينة حلب بشكل شبه كامل، حلب أكبر مدن الشمال السوري وتبلغ مساحتها ما يقارب الـ180 كيلومتراً مربعاً، وثاني أكبر مدينة سورية من حيث عدد السكان بعد العاصمة دمشق، يبلغ عدد سكانها أكثر من خمسة ملايين نسمة.
في فترة زمنية قياسية، بسطت فصائل عسكرية من المعارضة السورية سيطرتها على مركز محافظة حلب ومساحات شاسعة من ريفها، ونقاط عسكرية ومراكز حيوية استراتيجية مثل مطار حلب الدولي، ومطاري منغ وكويرس العسكريين، إضافة إلى الأكاديمية العسكرية ومعامل الدفاع في السفيرة.
كذلك، سيطرت المعارضة على كامل محافظة إدلب بحدودها الجغرافية، ومطار أبو الظهور العسكري، ومساحات من ريف حماة الشمالي، وصولاً إلى حدود مدينة حماة، خلال أربعة أيام عقب إطلاق المعارضة السورية معركة عسكرية ضد قوات نظام الأسد.
ملابس موحدة، تحركات مدروسة، طيران مسيّر للرصد والعمليات القتالية، مهاجمة النقاط العسكرية بشكل مباشر من دون غيرها، ما يؤكد رصدهم لها لأشهر، وامتلاكهم معلومات دقيقة عن أماكنها وقدراتها الدفاعية وحجم القوة التي تتمركز فيها، لا صور أو فيديوات لمحال مسروقة أو بيوت مخلوعة الأبواب، وأوامر علنية بالحفاظ على الأملاك العامة، وعدم التعرض للمدنيين، وتوفير سلامتهم وحفظ أمنهم.
هكذا أظهرت فصائل المعارضة السورية تنظيماً عسكرياً غير مسبوق، بعد إعلانها إطلاق معركة عسكرية شمال سوريا في محافظتي إدلب وحلب، تحت اسم “ردع العدوان”،في معركة، تختلف عن الصورة التي كانت تظهر بها الفصائل العسكرية في سوريا خلال السنوات الماضية، إذ أثارت مفاجئة الجميع، على مستوى التخطيط والتنظيم والتكنولوجيا عسكرية والتنسيق العال بين مختلف الفصائل، والأهم تقديم “صورة” مختلفة عن السابق حيث يطمئن “المجاهدون” سكان المناطق مؤكدين الحفاظ على المصالح الخاصة والعامة وحقوق الأقليات، والأهم تطمين الأقليات الدينية والاثنية.
“الوجه الجديد” والتطور العسكري!
خلال ثلاثة أيام من المعركة، تمكنت قوات المعارضة من بسط سيطرتها على ريف حلب الغربي بشكل كامل، والسيطرة على مركز مدينة حلب بشكل شبه كامل، حلب أكبر مدن الشمال السوري وتبلغ مساحتها ما يقارب الـ180 كيلومتراً مربعاً، وثاني أكبر مدينة سورية من حيث عدد السكان بعد العاصمة دمشق، يبلغ عدد سكانها أكثر من خمسة ملايين نسمة.
بدأت الفصائل العسكرية يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر عملية اقتحام حلب لتتمكن خلال ساعات من بسط نفوذها العسكري على معظم أحيائها، من دون أي صمود يُذكر لقوات نظام الأسد.
وعلى جبهة عسكرية بطول ما يزيد عن 100 كيلومتر من حلب وريفها وصولاً إلى ريف إدلب الشرقي، وتحديداً مدينة سراقب الاستراتيجية التي تطل على طريق m4 حلب- اللاذقية الدولي من جهة، ومن جهة أخرى على طريق m5 حلب- دمشق الدولي، أعلنت إدارة العمليات العسكرية للمعارضة السيطرة عليها أيضاً، بعد ساعات فقط من بدء الهجوم باتجاهها.
على رغم وجود فصائل عسكرية عدة تتبع للمعارضة، لكن من الواضح أن التنسيق بينها اليوم عالي المستوى، من حيث توقيت التحرك والتمهيد المدفعي والعمليات العسكرية على جبهات مختلفة، ولكن بتوقيت واحد. هذه الفصائل التي لطالما حصلت بينها مواجهات عسكرية وصدامات مسلحة خلال السنوات الماضية، يبدو أنها حيدت خلافاتها جانباً، ونسقت في ما بينها لتحقيق تقدّم غير مسبوق على الأرض.
قيادي عسكري، رفض التحدث باسم فصيله، قال إن “الجميع اليوم يتكلم باسم غرفة العمليات الموحدة”، وأكد لموقع “درج” أن “إدارة العمليات العسكرية التي تقود المعركة، لم تستخدم لليوم إلا جزءاً من قدراتها العسكرية، وأن هناك ألوية عسكرية كاملة مدربة، إلى الآن لم تشارك في المعركة لعدم الحاجة إليها، وأنها قد تشارك في الأيام المقبلة حسب الوضع في الميدان”.
وقال القيادي إن “هناك ألاف الشبان الذي يريدون الانضمام إلينا والمشاركة في المعركة، لكن للآن لم نقبل طلبات جديدة في المعركة التي يشارك فيها العناصر المدربة فقط، لتحقيق النتائج المرجوة وتنفيذ الخطط بأفضل شكل، وعدم حدوث انتهاكات في حال مشاركة عناصر غير مدربة وغير منضبطة”.
إدارة العمليات العسكرية نشرت مقاطع مصوّرة معدودة عن سير العمليات، لكنها كانت كافية للتعريف بما سمتها “كتائب شاهين”، التي أُعلن عن وجودها مع بداية المعركة، وهي مجموعة عسكرية متخصصة باستخدام المسيّرات، ومن الواضح أنها مدربة بشكل متقن على استخدام أنواع مختلفة من الطائرات المسيّرة، منها ما يطلقها شخص بدفع أولي، ومنها ما يُطلَق من منصة، والمسيّرات ذات الأربع مراوح، إضافة إلى مسيّرات طُوِّرت محلياً.
فيديوات عمل “كتائب شاهين” واستهدافها نقاط تمركز قوات النظام والميليشيات الداعمة له، وتدميرها الآليات العسكرية، ومهاجمتها عناصر نظام الأسد وإيران، كانت احترافية من حيث الدقة، مثبتة فعالية كبيرة في المعركة، ما دفع البعض الى التعليق على فيديوات المسيّرات بالقول “هذه في سوريا وليست في أوكرانيا”، مشيرين إلى درجة التشابه الكبير بين الفيديوات التي ينشرها الجيش الأوكراني، وبين تلك الواردة من معارك حلب وإدلب.
انضباط وتخطيط
في صور وفيديوات تنشرها الجهات الرسمية، يظهر عناصر بلباس موحد، وسيارات وآليات مطورة محلياً، لتصبح عسكرية مصفحة تنقل المقاتلين، ومع غرفة عمليات تراقب المعارك وتقودها عبر شاشات الرصد، ومن خلال الفيديوات المباشرة التي تصلها من كاميرات الطائرات المسيّرة، تنسق بين الجبهات وتعطي الأوامر للقادة والعناصر.
لم تكن الصور التي نشرتها لجنة الاستجابة الطارئة، وهي تنظف شوارع بلدة أورم الكبرى غرب حلب، بعد يوم من السيطرة عليها، إلا استكمالاً للصورة المنظمة الذي ظهرت بها فصائل المعارضة.
كما أكدت إدارة العمليات العسكرية أوامرها لعناصرها في الميدان مجدداً، بتحذيرهم من ارتكاب أية انتهاكات تحت طائلة المسؤولية، كما دعتهم إلى معاملة “الأسرى” من قوات نظام الأسد، بشكل إنساني وتسليمهم إلى قيادة العمليات.
بعد السيطرة على معظم أحياء حلب خلال ساعات، ومع الانهيار الكبير لقوات نظام الأسد، وبدل أن تعم الفوضى أحياء المدينة، سارع قادة إدارة العمليات العسكرية إلى إرسال التطمينات للمدنيين في حلب، مشيرين إلى أن جهاز الأمن العام في طريقه إلى المحافظة لتأمين الأمان والاستقرار فيها، ما يدل على تخطيط مسبق وتوزيع للمهام بين القوة العسكرية والقوة الأمنية، كما انتشر فيديو لفرع بنك أمامه عناصر قالوا إنهم موجودون هنا، في مهمة للحفاظ على البنك، ومنع أحد من محاولة الدخول إليه.
وفي مقارنة مع الماضي، كانت الفيديوات والصور وعدم التنسيق، عنوان أي عمل عسكري لفصائل المعارضة، رغم أنه اليوم ومع برامج التواصل الاجتماعي المختلفة والهواتف الحديثة، كان المفترض أن تكون الفيديوات أضعاف ما كان يُنشِر في الماضي، لكن مصادر عسكرية أكدت لـ”درج” أن إدارة العمليات العسكرية منعت العناصر المقاتلة من حمل هواتفهم معهم لمنع تعقّبهم، ولكيلا يتم تصوير ونشر المواقع العسكرية ونقاط تمركز القوات المقاتلة بشكل غير مدروس. مع ذلك نرى فيديوهات يصوّرها المقاتلون أنفسهم سواء أثناء “أسر” جنود النظام أو تدمير تماثيل الأسد…
كما أعلنت إدارة العمليات العسكرية، حظر تجول داخل مدينة حلب من الساعة 11:30 مساءً من يوم الجمعة 29 تشرين الثاني/ نوفمبر، ولغاية الثامنة صباحاً من يوم السبت تحت طائلة المساءلة.
بدوره، وجّه أبو محمد الجولاني رسالة إلى المقاتلين والمدنيين بـ”عدم تجاوز تعليمات القيادة العامة، التي تنص على حفظ ممتلكات الناس وصون كرامتهم”، مؤكداً للمدنيين في حلب أنهم من الآن “أصبحوا تحت حماية إدارة العمليات العسكرية”. كما طالب المقاتلين في مدينة حلب “أن يرحموا المدنيين من الطوائف كافة ويهدئوا من روعهم”، مشيراً إلى أن “حلب ملتقى الحضارات والثقافات، فيها تاريخ كل السوريين وحاضرهم”.
روسيا ليست عدواً بعكس إيران
إدارة الشؤون السياسية في حكومة الإنقاذ السورية التي تعمل في منطقة إدلب أصدرت بياناً، استنكرت فيه “القصف الجوي الروسي على مدينتي إدلب وحلب، الذي راح ضحيته عدد من المدنيين”، وأكدت في البيان أن “الثورة السورية ليست ضد أي دولة وشعب، بما في ذلك روسيا”، ودعت روسيا إلى “عدم ربط مصالحها بالنظام وبشار الأسد، بل مع الشعب السوري، الذي يعتبر روسيا شريكاً محتملاً في بناء مستقبل سوريا الحرة”.
مع بداية معركة ردع العدوان، أعلنت وسائل إعلام إيرانية مقتل قائد القوات الاستشارية الإيرانية التابعة للحرس الثوري في مدينة حلب العميد كيومرث بور هاشمي المعروف بالحاج هاشم، لتأتي المعلومات لاحقاً من مصادر عسكرية وتؤكد أن قتل العميد كيومرث تم بعملية خاصة داخل مدينة حلب، أثناء اجتماعه مع قادة الفروع الأمنية في المدينة، قبل سيطرة فصائل المعارضة عليها.
ويشير هذا التطور الأمني إلى الخرق الكبير الذي تمكنت فصائل المعارضة من تحقيقه داخل النظام، والقدرة الاستخباراتية التي وصلت إليها. مقابل تراجع قدرات ميليشيات إيران على الأرض، مقارنة بقوتها في السنوات السابقة، إذ لم تتمكن الميليشيات التابعة لإيران وميليشيا “حزب الله” اللبناني من الصمود في قريتي نبل والزهراء، أكبر معاقل ميليشيات إيران في ريف حلب، وسيطرت قوات المعارضة عليها خلال ساعات، بينما في الماضي صمدت الميليشيات الموالية لإيران في قريتي كفريا والفوعة في إدلب لسنوات، رغم حصارها من فصائل المعارضة.
هل تجبر تركيا الأسد على الحوار؟
في الأشهر الأخيرة، سعت الحكومة التركية إلى بناء حلقات تواصل مع نظام الأسد، بعد قطيعة تامة بينهما منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، هذا التوجه الذي كان رسالة فهمتها المعارضة السورية أن الحكومة لم تعد ترى حلاً في سوريا، من دون الحوار المباشر مع نظام الأسد، وأن المعارضة لم تعد تحظى بالثقة الكاملة من الجانب التركي. وخرجت تظاهرات ضخمة في مناطق سيطرة المعارضة السورية، لحثّ تركيا على إغلاق مسار التقارب مع الأسد، لكن لم يكن لتلك التظاهرات أي تأثير يذكر.
مع الحديث عن معركة عسكرية تعدّ لها فصائل المعارضة في شمال سوريا منذ ثلاثة أشهر، كان التوجه التركي لإقناع الفصائل العسكرية بالعدول على فكرة التصعيد العسكري، محاولة سلوك الطريق السلمي عبر التفاوض السياسي. لكن حتى هذا الخطاب تغيرت نبرته قبل أسبوع، وعلى لسان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، فخلال كلمته في البرلمان يوم 22 من الشهر الماضي قال: “إن تركيا لا يمكنها مناقشة الانسحاب من سوريا إلا بعد قبول دستور جديد وإجراء انتخابات وتأمين الحدود”، مضيفاً أن “موقف إدارة الأسد يجعلنا نتصور أنه لا يريد العودة إلى السلام”.
بعد تصريح فيدان بخمسة أيام، انطلقت معركة “ردع العدوان”، ومع تصريحات تركية دبلوماسية تعليقاً على ما يحدث في شمال سوريا، وتحديداً عن سيطرة المعارضة السورية على مدينة حلب بسرعة قصوى، ارتفع رصيد المعارضة العسكرية السورية على حساب نظام الأسد، الذي لم تتمكن عناصره من الثبات في أي من مواقعها.
كيف ستُحكم حلب؟
سيطرت المعارضة السورية المسلحة على معظم أحياء مدينة حلب خلال ساعات معدودة، وبعد يومين من السيطرة لم تنته العمليات العسكرية بعد، لكن ظهرت فيديوات من المدنية تحمل رسائل عدة، ومقابلات مع سكان مسيحيين يتجولون لتأمين حاجياتهم، كما أُقيم يوم الأحد أول قداس مسيحي في حلب بعد سيطرة إدارة العمليات العسكرية على المدينة، وانتشر أيضاً فيديو لمقاتل لم تُعرف الجهة التابع لها، يحاول تخريب شجرة عيد الميلاد في أحد شوارع حلب، لكن سرعان ما أعيدت الشجرة إلى مكانها.
وتم توزيع الخبز على المدنيين مجاناً، وقالت إدارة العمليات العسكرية إن أفران المدنية ستعمل بأقرب وقت ممكن، ولم تنقطع الكهرباء عن المدينة لمدة يومين متواصلين، وهذا لم يحدث منذ سنوات، إذ كانت الكهرباء تعمل لمدة ساعتين في اليوم. وأُعلن حظر التجول مساء في المدنية، وقالت حكومة الإنقاذ السورية التي تدير المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في إدلب، إن الموظفين المدنيين في حلب سيعودون إلى أعمالهم بعد تأمين المدينة.
من الواضح أن المدينة لم تعد تقبل القسمة على اثنين، بعدما أرسلت إدارة العمليات العسكرية مساء يوم الأحد، رسالة إلى قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، التي تسيطر على حي الشيخ مقصود في المدينة لتسليم الحي، ليتوصل الطرفان إلى اتفاق ينص على خروج قوات “قسد” من حلب باتجاه مدينة منبج، وسيبدأ يوم الاثنين صباحاً خروج مقاتلي “قسد” ومن يريد من المدنيين بغطاء من الطيران الأميركي. وسارعت إدارة العمليات العسكرية لتؤكد للمدنيين أن أمنهم وسلامتهم محفوظان في حال قرروا البقاء في المدينة.
مهما يكن ما قد يحدث غداً، لكنه بالتأكيد لن يغير ما حدث بالأمس، أمس الذي يدل على أن المعارضة العسكرية السورية تعلمت الدرس جيداً، تعلمت من تجربتها الخاصة، التي دفعت لقاءها ثمناً باهظاً موتاً وتهجيراً وتراجعاً في الميدان، سنوات من الانحصار في إدلب شمال سوريا، كانت كفيلة لتعيد المعارضة ترتيب أوراقها، ورص صفوها، وتدفع القضية السورية إلى الواجهة من جديد، كما يجب ألا نغفل دور التكنولوجيا العسكرية في المعركة، التي يبدو أن المعارضة لاحظت أهميتها من خلال الحرب الروسية – الأوكرانية، وسعت الى امتلاكها، والتي أثبتت دورها الحاسم على أرض المعركة.
درج
—————————
من يريد ماذا في سورية؟/ سامح راشد
02 ديسمبر 2024
بينما يدخل اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان حيز التنفيذ، وتدخل حرب غزة مراحلها الأخيرة، إذا بالوضع الميداني في الملف السوري يتحرّك بشكل مفاجئ. حيث تباشر بعض الفصائل السورية المسلحة تحرّكات هجومية ضد قوات النظام السوري، ونجحت بالفعل في الاستيلاء على مناطق واسعة من حلب. وفي حين لا تزال المعارك والهجمات المتبادلة مستمرّة مع القوات الحكومية السورية، تحاول أطراف عدة العمل سريعاً على التأثير في الموقف العسكري، وتغيير المعطيات الميدانية، كل لصالحه.
يرتبط هذا الحراك العسكري المفاجئ في سوريا، عضوياً، بالتحولات الجيواستراتيجية الجارية في الشرق الأوسط ككل. وذلك على خلفية الواقع الجديد الذي تشكّل على مدار أكثر من عام من خلال الحرب في غزّة ثم في لبنان. إضافة إلى المستجدّات العالمية، وأهمها عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وجه الارتباط، أن الساحة السورية هي الأكثر تهيؤاً وقابلية لفرض إرادة أي طرفٍ وإحداث واقع جديد، أو تثبيت الواقع الراهن. بعد أن أصبحت نقطة تمركز سياسي وعسكري لكلّ من تركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة، فضلاً عن الجماعات المسلحة والفصائل المعارضة متعدّدة الاتجاهات والولاءات.
وبما أن النزاعات والتوتّرات الجارية في المنطقة بدأت نتائجها في التبلور؛ لم يكن بدٌّ من محاولة استدراك مفاعيلها بقدر استطاعة كل طرفٍ منخرطٍ أو معني بالوضع في الشرق الأوسط، فبنظرة سريعة على خريطة المنطقة وتفاعلاتها الصراعية، خصوصاً نزاعاتها المسلّحة، يمكن بسهولة إدراك خطورة “اليوم التالي” وأهميته في كل منها، ومردوده المباشر على الأيام المقبلة في المنطقة ككل.
ومن هنا، يمكن فهم دلالة التوقيت وسبب تجدّد الصراع المسلح في سورية؛ فالمنطقة مرشّحة لتغيير شامل وتحولات على الأرجح غير مسبوقة في تاريخها. لذا، ليس من المتصوّر بحال أن تقبل إيران تسييس حزب الله اللبناني، واستبعاده عملياً من معادلة المواجهة مع إسرائيل، بشكل مجاني، ومن دون أن توجد بديلاً يقوم بدوره، وإنْ ليس بالكفاءة نفسها.
من ناحيتها، لدى تركيا حرص ظاهر على تثبيت مكانة “الحليف الاستراتيجي” لدى العقل السياسي لإدارة ترامب. وفي ظل التجارب غير الإيجابية للطرفين خلال ولاية ترامب الأولى 2016 – 2020، يسعى أردوغان إلى فرض تلك المكانة بالأمر الواقع. ولدى تركيا دافع آخر مهم، يتمثل في فشل محاولة التقارب بين سورية وتركيا، للاختلاف بشأن أسس التفاهمات المزمعة وبنودها، وخصوصاً ما يتعلق بصلاحيات أنقرة وقدرتها على الحركة في المناطق ذات الكثافة السكانية الكردية داخل الأراضي السورية. بالتالي، يمكن النظر إلى هجمات هيئة تحرير الشام على مواقع القوات الحكومية السورية، في حلب خصوصاً، على أنها نوع من العقاب للنظام في دمشق، وإضعاف وجود إيران العسكري وتحجيم نفوذها هناك، بعد إصرار النظام الحاكم في سورية على تثبيت التحالف مع طهران وإدامته.
وفي هذا التوجّه الذي يصبّ مباشرة في صالح تركيا، مصلحة أيضاً لكل من إسرائيل والولايات المتحدة. بينما لروسيا استفادة مباشرة من تجدّد الصراع المسلح، إذ تتجدّد بدورها حاجة النظام السوري إلى الدعم العسكري الروسي، ومن ثم الارتباط به سياسياً واستراتيجياً.
لا تقف الخطورة في هذه التحرّكات العسكرية المستجدّة عند تعارض مصالح الأطراف، وبالتالي، تحرّكاتها، وإنما الأخطر تحوّل تلك التعارضات في المصالح والأهداف إلى تقسيمات فعلية للسيطرة على الأرض والنفوذ. ذلك أن رفض التفاهمات والتسويات النسبية يُفضي عادةً في هذه المواقف إلى تثبيت الأمر الواقع، مع بعض التغيّرات المرتبطة بقدرة كل طرفٍ على فرض إرادته حسب حدود قوته ومن ثم مكاسبه الميدانية.
العربي الجديد
———————————–
دمشق وطهران والحرب الجديدة/ عبد الرحمن الراشد
4 ديسمبر 2024 م
تاريخياً دمشقُ توازنُ بغدادَ. لعبتْ هذا الدورَ ضد الرئيسين البكر ثم صدام، ولعبته ضدَّ أميركا عندمَا احتلت بغداد. فقد كانتْ دمشقُ الحاضنَ ومنطلقَ المعارضاتِ المسلَّحة. ولهذا السَّببِ حرصتْ إيرانُ علَى إرضاءِ سوريا حتى تؤمّنَ علَى العراقِ الحليفِ الأولِ لها.
خلالَ الحربِ الأهليةِ في سوريا (2011 – 2018)، كانتْ إيرانُ مع روسيا الوحيدتينِ الواقفتينِ عسكرياً واقتصادياً مع دمشق. هذه السَّنةُ علَا الحديثُ عن الحاجةِ إلى إنهاءِ الوجودِ الإيرانيّ في سوريا بعدَ انتفاءِ الغرضِ منه منذ ستِ سنواتٍ، إلَّا أنَّه في يومِ الجمعةِ الماضيةِ سقطتْ حلبُ بعدَ إدلبَ والآنَ حماة.
انتصاراتُ المجاميعِ المسلَّحةِ المتلاحقةِ والمذهلةِ خَلطتِ الأوراقَ. ولا يُمكنُ أن نغفلَ عن التَّوافقِ الزمني حيث إنَّ حربَ سوريا من تداعياتِ حربِ غزةَ ولبنان. حيث بدأ الهجومُ بعد يومين من اتفاقِ وقفِ إطلاقِ النَّار في لبنانَ الذي خسرَ فيه حليفا دمشقَ، إيرانُ و«حزب الله».
استدراكاً للوضع عرضت طهرانُ على دمشقَ مدَّ يدِ العونِ عسكريّاً لها. وبخلافِ الحرب الماضية، تقريباً معظمُ الحكوماتِ العربيةِ اصطفت مع دمشقَ سياسياً، وكذلك أعلنت موسكو وبكينُ تضامنَهما. باستثناء أنقرةَ وواشنطن اللتين وضعتَا اللَّومَ على الحكومةِ السوريةِ بأنَّها المتسبّبُ وطالبتَا بالتَّفاوضِ لحسمِ القضَايا العالقة.
توقيتُ الهجومِ جاءَ في وقتٍ محرج، حيث حافظتْ سوريا على موقفٍ عسكريّ «محايد» في حربي «حزب الله» و«حماس» مع إسرائيلَ. وكانت قد أنجزت جولات دبلوماسية سعت فيها دمشقُ لإصلاحِ علاقاتِها الإقليميةِ والدوليةِ والخروجِ من تصنيفِها حليفاً لإيرانَ. وظهرت بوادرُ خلافٍ مع الإيرانيين الّذين عبَّروا عن عدمِ رضاهم، وعلَّقتْ صحافتُهم، لن نخرجَ دونَ تعويضِنا بأربعينَ مليار دولار تكلفةَ دفاعِنا عن النّظام خلالَ حربِه الأهلية. طبعاً، لن يمدَّ أحدٌ يدَه إلى جيبِه ليدفعَ الثَّمنَ الخُرافِي.
لابدَّ أن نعترفَ أنَّ تضحياتِ إيرانَ كانت كبيرةً في سوريا. فقد فقدتْ قياداتٍ رفيعةً من «الحرس الثوري»، وجلبتْ وموَّلتْ عشراتِ الآلافِ من ميليشياتِها من لبنانَ وأفغانستانَ وباكستانَ والعراق وغيرِها. ومع عودةِ الحربِ الآنَ هل يعودُ الإيرانيون للقتالِ دفاعاً عن نظامِ دمشق؟
علينا أن ندركَ أنَّ المساندةَ الإيرانية لم تكن مثلَ بيعِ سجادةٍ على السّوريين دفعُ ثمنِها. فالدَّعمُ كانَ من دواعي الاستراتيجيةِ الإيرانيةِ بالدرجة الأولى، ولم يكن عملاً خيرياً. ففي الوقتِ الذي تحاربُ في سوريا كانتْ تدافعُ عن وجودِها وحليفِها الإقليمي. أهميةُ نفوذِها في سوريا دفعَ الرئيسَ الأسبقَ الأميركي أوباما إلى القَبولِ بالجلوسِ مع إيران. وقد حصلتْ على تعويضاتٍ وحقوقٍ مالية إحداها بلغَ مائةً وعشرين مليارَ دولار عن ودائعِ الشاه القديمة. ثم إنَّ انتصارهَا في سوريا جعلَها لاعباً أكثرَ أهمية. ملاحظتي الثانية أنَّ سوريا دفعت في انتفاضة 2011 ثمنَ نشاطِها ضد الاحتلالِ الأميركي في العراق الذي كانَ أيضاً مشروعاً إيرانياً. ولا تزال سوريا تدفعُ ثمنَ حلفِها مع طهران، مثل عقوباتِ «قانون قيصر».
ليس على دمشقَ دَينٌ لطهران، بل مصالحُ متبادلة. فقد تحمَّلتْ ودفعتْ دمشقُ أثماناً كبيرةً وحانَ وقتُ المصالحاتِ وإنهاءِ النّزاعاتِ والابتعادِ عن التَّحالفاتِ الضَّارة. هذه الأزمةُ الصاعقةُ من جراءِ عودةِ الفصائلِ المسلَّحةِ للحياةِ والحربِ صرخةٌ للمصالحات، وإنهاءِ القضايا المعلَّقة. ملايينُ المهجّرين وأطيافٌ من معارضي المنافِي ومطلبُ الجارةِ الكبرى تركيا حوَّلَت المعارضةَ المسلحةَ ضدَّها.
الشرق الأوسط
———————————
مَن جرّبَ المجرَّب في سوريا…!/ وائل السواح
01.12.2024
أربع وعشرون ساعة، استعادت فيها الفصائل المتشددة المناطق التي احتاجت قوات الأسد ومعه الطيران الروسي أربعة أشهر لاستعادتها في عام 2016. كيف تمكنت قوات الأسد من فكّ عدتها وعتادها والانسحاب بهذه السرعة؟، أليس هذا “ديجا فو” آخر يعيد لذاكرة من هو في عمري انسحابا آخر حدث في يوليو/حزيران 1976؟
لا يوجد في العربية مرادف لعبارة “Déjà vu” التي تعبر عن شعورك حين ترى شيئاً وتعتقد أنك رأيته من قبل، أو تجربة مررت بها في زمن سابق. ما يجري في سوريا هو نوع من هذا الـ “ديجا فو”!.
يمكن أن تشعر بـ”Déjà vu” دون أن تدرك تماماً، ستستيقظ لديك ذكريات، بعضها جميل، ومعظمها موجع ومؤلم وكئيب. منذ أكثر من أسبوع، كانت ثمة تقارير تفيد بنوع من التحرك في أوساط الفصائل السورية الإسلامية المسلحة، ورأى أكثر المحللين رجاحة وقتها أن التحرك – إن حدث – سيكون محدودا وسيكون هدفه تحريك الستاتيكو المستنقع الذي عاشته البلاد نحو خمس سنوات في الشمال، هي السنوات عينها التي كانت القوات الإسرائيلية خلالها تستبيح الأجواء السورية فتضرب أهدافا إيرانية أو مرتبطة بإيران، حتى أثخنتها وأنهكتها.
سوى أن ما جرى كان هائلا (بالمعنى الحرفي وليس المجازي للكلمة)، ولا يقلل من هوله مسارعة كثرة من المعلقين إلى اعتباره “متوقعاً” و”طبيعياً”، فقد بتنا معتادين على هذا النموذج من المحللين، الذين كانوا يعرفون من قبل أن شيئا ما سيقع، ولكنهم لسبب ما آثروا ألا يعلمونا به قبيل وقوعه.
خلال ثماني وأربعين ساعة، كانت قوات الفتح المبين وأحرار الشام وحفنة أخرى من فصائل “الجيش الوطني السوري” تجتاح مناطق واسعة كانت تحت سيطرة النظام والإيرانيين. وفي أربع وعشرين ساعة أسقطوا ثاني أكبر مدينة سورية وأحكموا قبضتهم عليها.
أربع وعشرون ساعة، استعادت فيها الفصائل المناطق التي احتاجت قوات الأسد ومعه الطيران الروسي أربعة أشهر لاستعادتها في عام 2016. كيف تمكنت قوات الأسد من فكّ عدتها وعتادها والانسحاب بهذه السرعة؟، أليس هذا أيضا “ديجا فو” آخر يعيد لذاكرة من هو في عمري انسحابا آخر حدث في يوليو/حزيران 1976؟
العيش على إيقاع النشوة
نحن السوريون نعيش على اليوفوريا. ككل المحرومين والمضطهدين والمغلوب على أمرهم، ينتظر السوريون حدثاً ما ليرفع معنوياتهم فيعوضهم عن قهر سنوات وعقود بفرحة صاعقة مفاجئة غامرة تجتاح نفوسهم وترفع الأدرينالين في دمهم.
وفي مثل هذه الحالات نراهم يندفعون إلى الشوارع الحقيقية ليوزعوا الحلوى أو الشوارع الافتراضية لتبادل التهاني والفيديوهات وليوزعوا كميات هائلة من الشتائم، تجعلهم يشعرون بالراحة وقد فرّغوا جزءا من أساهم وحزنهم واكتئابهم عبر التهليل أو التكبير أو الشتيمة. حدث ذلك مرارا.
لا أحب أن أتذكر أن بعض السوريين ابتهج في 11 سبتمبر/أيلول، 2001، ووزع الحلوى، ولا أريد أن أتذكر حين هلّل بعضهم للطاغية صدام حسين حين اجتاح بلدا جارا وذا سيادة، ولا أريد أن أتذكر البهجة المجنونة التي اجتاحت بعضهم في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ولا عيب في اليوفوريا، إلا أنها تنتهي غالباً بهبوط بطيء في المزاج، يمر بمراحل الحزن كلها: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، ثم القبول بالأمر الواقع. وأحيانا نجد أنفسنا نهوي من جديد، بعد كل صعود سريع. حدث ذلك في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، عندما جعلتنا البهجة المفاجئة نصعد إلى أسطحة المنازل لنراقب المعركة الجوية وإسقاط الصواريخ الإسرائيلية، وأيقنا أننا قد استعدنا الجولان فعلا، وربما تجاوزنا ذلك فوصلنا إلى تل أبيب.
سوى أننا في 12 أكتوبر/تشرين الأول ُصعقنا بوقف الهجوم السوري وانعكاسه وتقدُّمِ القوات الإسرائيلية واحتلالها قرى جديدة، رفدت دمشق وريفها بعدد جديد من المهجرين. أنكرنا وغضبنا وساومنا واكتأبنا، ثم قبلنا صاغرين. وخضعنا عقودا للحاكم نفسه الذي خسر الحرب مرتين، ولكنه أعلن نصره مرتين، وكان علينا أن نتبنى نظريته في النصر، ثم وجه سلاحه إلى صدورنا وصدور أشقائنا في لبنان.
عود على بدء
وها نحن أولاء نعيد الكرة من جديد. لا ريب في أن النظام المتهالك في دمشق قد دفع بالبلاد إلى هاوية لا قرار لها من الفقر والجوع واليأس. ولا ريب أيضا في أن من حق ملايين النازحين الأمل في والعمل على عودتهم إلى ديارهم.
وفي الأشهر الأخيرة، خرقت قوات روسيا من جانب والأسد والميليشيات الأجنبية المدعومة إيرانيا اتفاق وقف التصعيد عدة مرات، وعادت إلى استخدام القصف الصاروخي والمدفعي من خلال الطائرات المسيرة، مستهدفة المدنيين والمنشآت المدنية العامة.
وكان قصف مدرسة في مدينة أريحا يوم الثلاثاء الماضي ومقتل عدد من المدنيين بينهم أطفال الحلقة الأخيرة في تلك السلسلة. وطبيعي أن يؤدي ذلك كله إلى ازدياد الضغط الشعبي المطالب بوقف تلك الهجمات العدائية المتصاعدة، التي كانت تنبئ باحتمال تصعيد العدوان للتضييق على مناطق المعارضة وزيادة معاناة السوريين فيها.
غير الطبيعي هو أن يأتي القرار من حكومة أجنبية، محتلة لجزء من الأراضي السورية، وتهدف من خلال التحرك ليس إلى حلّ قضية السوريين وإنما إلى حل قضاياها هي. ويتفق الجميع تقريبا على الدور التركي في التحرك الأخير. ولن يجادل في ذلك إلا من يحاول خداع نفسه أولا. ولكن السوريين – بعد اتفاقهم هذا – يختلفون حول النسب فمن الموافقة الضمنية إلى الأمر بالرد وقيادته طيف واسع من الدرجات.
بالنسبة لي يصعب تصور أن قادة هيئة تحرير الشام وأحرار الشام، وقد أريق الكثير من دماء مقاتليهم، كلّ على يد الطرف الآخر، قد اجتمعا طوعاً وشكلاً غرفة عمليات مشتركة ونظما العمليات خطوة فخطوة، ورسما السيناريوهات المحتملة. ولا ريب عندي في أن الأمر قد جرى بتخطيط وتوجيه وقيادة تركية، جعلت “الأخوة الأعداء” يتصالحون ويتفقون على الهدف وينفذونه بهذه الدقة، ولا ننسَ أن حملة كهذه، بالدقة والتخطيط لا يمكن أن تجري من دون معلومات وتقنيات استخباراتية لا تملكها الفصائل المسلحة المتناحرة.
تركيا “شريك صامت “!؟
على الرغم من وجود جدل كبير حول تورط تركيا المباشر في بدء الهجوم الذي تقوده هيئة تحرير الشام، فإن ما لا جدال فيه هو أن دعمها اللوجستي والاستراتيجي لفصائل مثل الجيش الوطني السوري يبرز تأثير أنقرة غير المباشر في ديناميكيات المعركة. ويبرز هذا الهجوم دور تركيا في الحفاظ على القدرة العملياتية لحلفائها.
يتماشى تورط تركيا في الصراع مع أهدافها الاستراتيجية الأوسع في الحفاظ على نفوذها في شمال سوريا ومواجهة التهديدات التي تشكلها الجماعات الكردية، مثل وحدات حماية الشعب، التي تعتبرها تركيا خطرا وجوديا، ينشط في القرب من حدودها، ما يجعل مشاركة أنقرة ضرورية لاستراتيجيتها الأمنية الوطنية. ويوفر هذا الهجوم فرصة لتركيا لتوطيد نفوذها في حلب والحد من مكاسب نظام الأسد في المناطق القريبة من حدودها.
ولا يغفل من يتابع الأحداث عن كثب ويقرأ التقارير بدقة عن حقيقة أن الهجوم لم يكن بوسعه أن يكون عفوياً، بل جاء تتويجا لتحضيرات طويلة الأمد بإشراف الاستخبارات التركية. ويُعتقد أن تركيا لعبت دورا في توحيد الفصائل المتطرفة في شمال سوريا تحت مظلة الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام، مما سهل العمليات المشتركة والتنسيق التكتيكي. تعكس هذه الاستراتيجية نهج تركيا المتقدم لتحقيق أهدافها العسكرية وأهدافها الجيوسياسية الأوسع.
ليس لسواد عيوننا
المهم في الأمر أن جهود الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ليست لسواد عيوننا كسوريين. لقد حاول إردوغان أن يصل إلى تسوية مع السفاح السوري لأكثر من عام، وتوسّطت في ذلك روسيا نفسها، ولكن جهوده تعثرت وباءت أخيرا بالفشل بسبب مطالب غير قابلة للتوفيق، منها إصرار الأسد على انسحاب كامل للقوات التركية من شمال سوريا.
ويبرز الصراع الحالي رفض تركيا التخلي عن موطئ قدمها الاستراتيجي، تحسبا للنتائج الأمنية والسياسية المحتملة. في الوقت نفسه، يشير تواصل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مع نظيره الروسي إلى نية أنقرة في إدارة الوضع المتطور من خلال الحوار مع الحفاظ على نفوذها الاستراتيجي.
يريد أردوغان تحسين مكاسبه التفاوضية، وهو في حملته الأخيرة سيحقق جملة من الأهداف، أهمها إعادة اللاجئين السوريين، وتحجيم الدور الإيراني، وأخيرا تحجيم الخطر الذي يشكله أكراد سوريا، و – الأفضل – إنهاؤه.
لم يكن باستطاعة إردوغان إعادة الثلاثة ملايين لاجئ سوري في بلاده إلى مناطق سيطرة الأسد أو الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا. ولم يكن يستطيع أيضا إعادتهم إلى الشريط الضيق الذي تحتله أدواته العسكرية السورية تحت يافطة “الجيش الوطني” في منطقتي درع الفرات ونبع السلام. ولكن احتلال مدينة كبيرة كحلب وما حولها من مدن وبلدات أخرى، والامتداد إلى حماة سيسمح له بتهيئة الشروط الممكنة للعودة، وربما تمكن من إعادة عدد قد يصل إلى ثلثي اللاجئين السوريين الحاليين في تركيا.
تعكس مشاركة تركيا في الهجوم الجاري في شمال سوريا جهدا محسوبا لموازنة نفوذ إيران في المنطقة، مستغلة الصراع لإضعاف مكانة طهران الاستراتيجية. ومن خلال العملية العسكريةـ التي تقودها هيئة تحرير الشام، وضعت أنقرة نفسها كقوة مضادة للميليشيات المدعومة من إيران التي لعبت دورا حاسما في دعم نظام الأسد. يوفر الهجوم لتركيا فرصة لتعطيل القدرات العملياتية لإيران في مناطق رئيسية قرب حلب وإدلب، مما يقوض قدرة طهران على استخدام هذه المناطق كمراكز لوجستية واستراتيجية لخدمة أجندتها الإقليمية الأوسع.
كلمة السر: الكرد
ولكن كلمة السر الأساسية هي الكرد، يشكل الكرد شوكة في خاصرة إيران، وبخاصة الحركة المسلحة التي يقودها حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا في كثير من دول العالم. وتتهم أنقرة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وأداتها السياسية مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) وجناحها العسكري، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بأنها مجرد ذراع من أذرع التنظيم الإرهابي. باعتقادي أهم أهداف إردوغان ليس إضعاف الأسد ولا إنقاذه ولا تحقيق تغيير سياسي جذري في سوريا، بقدر ما هو إضعاف أو إنهاء الوجود الكردي في شمال شرق سوريا.
للأسف، يتفق الكثير من السوريين، وخاصة في شمال وشمال شرق سوريا مع أردوغان في مواقفه الشوفينية، وتتداخل المواقف الشوفينية الطورانية بالمواقف الشوفينية العربي في موقف موحد هدفه القضاء على الإدارة الذاتية وقوات قسد.ة
لي الكثير من الانتقادات الجادة على الإدارة الذاتية و”مسد” و”قسد”، ولا أعتبر تجربة شمال شرق سوريا نموذجاً حقيقياً للديمقراطية، ولكن علي أن أعترف أن التنظيم السياسي والمدني والحقوقي هناك أرقى من أي مكان آخر تحت حكم الأسد أو إردوغان. المكون الكردي في الإدارة يمثل مواطنين سوريين أولا وأخيرا، ومعاملتهم كغرباء أو أعداء هو مخالفة لأبسط مبادئ حقوق الإنسان ومبادئ الثورة السورية ذاتها.
أدرك أن جزءا من الكرد يرتبط عاطفيا وأيديولوجيا بفكر أوجلان الإرهابي المتطرف. ولكن جزءا أكبر من العرب السوريين يتماهون بالمقابل مع الترك أو الإيرانيين أو الإسرائيليين، فدعونا لا نتخذ من هذه النقطة مثارا للجدل، فمن الأفضل دوما لمن كان بيته من زجاج ألا يرشق الناس بالحجارة.
باختصار، يُظهر الدور متعدد الأوجه لتركيا في الهجوم شمال سوريا موازنتها الاستراتيجية بين دعم الفصائل المعارضة ومواجهة القوات الكردية والإيرانية، والتنقل عبر الدبلوماسية الإقليمية. ومع تطور الصراع، ستظل تحركات أنقرة حاسمة في تشكيل توازن القوى في سوريا، مما يعكس طموحاتها الأوسع لتعزيز نفوذها وحماية مصالحها الوطنية في مشهد جيوسياسي متغير وغير مستقر.
في سوريا نقول: “من يجرب المجرَّب فعقله مخرّب”، ولقد جربنا بأنفسنا الفصائل الإسلامية المتطرفة، وعاينا كيف يفرضون قوانينهم على المسلمين وغير المسلمين، المتدينين وغير المتدينين، وكيف يعاملون النساء ويفرضون الإتاوات ويتاجرون في المخدرات. ورأينا فسادهم المالي رأي العين، ورأينا كيف تحول قادتهم من أشخاص متواضعين إلى أشخاص فاحشي الثراء. فهل يمكن بعد ذلك كله أن نضع ثقتنا فيهم من جديد؟
ومع ذلك، يبقى لدي سؤال، لعله محض تمنٍ ومجرد محاولة لاستقصاء ضوء ما في الأفق: ألا يمكن لخلط الأوراق الجديد، مع ضعضعة إيران وضعف روسيا وانسحاب حزب الله وهزالة بشار الأسد، الذي تحول إلى شخصية كارتونية، أن يكون مدخلا لحل شامل في سوريا. قرأت أمس بيانا للائتلاف السوري، وجدته على غير العادة متزنا ومتوازنا، ومكتوبا بلغة سياسية، لا بلغة الشعارات والعواطف. ومما ورد فيه:
” لا بدّ من إيصال سورية إلى بر الأمان وحمايتها من المشاريع التقسيمية والانفصالية، نريد عودة سورية دولة مستقلة ذات سيادة غير منقوصة على كامل أراضيها، دولة ذات نظام حكم قائم على أسس الديمقراطية والعدالة والحرية، وسيادة القانون الذي يضمن حقوق المواطنين بمكوناتهم كافة ويكفل حرياتهم.”
فلو وجد من يفكر حقا بهذه العقلية، فمدّ يده لكل لسوريين، فلعله واجد سندا سوريا وآخر دوليا، قد يتضافران فيضعانه على أول الطريق. وقد لا!.
درج
————————————
ردع العدوان وتدوير الزوايا/ عالية منصور
أنصاف الحلول لا تنتج سلاما دائما
آخر تحديث 01 ديسمبر 2024
نامت المنطقة على وقع التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار مؤقت في لبنان بين إسرائيل و”حزب الله”، واستيقظت على خبر التصعيد العسكري المفاجئ في سوريا.
بعد هدوء استمر نحو 5 سنوات، شنت فصائل المعارضة السورية المسلحة هجوماً مفاجئاً على ريف حلب الغربي، وما هي إلا ساعات حتى دخلت الفصائل إلى حلب المدينة، وتستمر في التقدم أثناء كتابة هذا المقال.
قيل الكثير، وسيقال الكثير عن هذا الخبر، الذي وقع كالزلزال على الجميع، فلم يكن في حسبان النظام ولا حلفائه، ولا الدول العربية ولا الغربية أن تسترجع المعارضة السورية حلب وريفها، بعدما خسرتها في عام 2016 بعد معارك دامية، وحصار استمر سنوات.
المعارضة التي تضم “هيئة تحرير الشام” وفصائل من “الجيش الوطني السوري” إضافة إلى عدد من فصائل المعارضة في إدلب، والتي بدأت معركة “ردع العدوان” كما أطلقت عليها، أعلنت عن تشكيل غرفة “إدارة العمليات العسكرية” مع بداية الهجوم، وقالت إن إطلاق العملية العسكرية جاء بعد “رصد تحركات للنظام لإطلاق عملية ضد المناطق الآمنة، كما أن العملية العسكرية ليست خيارا بل واجب”، وفق البيان الذي أضاف: “إن ميليشيات النظام وإيران أعلنت حربا مفتوحة على الشعب السوري”.
يُذكر أن آخر اشتباكات شهدتها هذه المناطق كان في مارس/آذار 2020 بعد توقيع اتفاقية “سوتشي” بين تركيا وروسيا، إلا أنها كانت تشهد خروقات وتصعيدا عسكريا بين الحين والآخر من قِبل النظام السوري وروسيا، ما أدى إلى وقوع مئات الضحايا من المدنيين خلال مرحلة “خفض التصعيد”.
كُتب وقيل وسيُكتب ويُقال الكثير عن “الأسباب الحقيقية” لهذا التحرك المفاجئ للمعارضة، إيران تتهم تل أبيب بعد ما قالت إنه “نتيجة هزيمة إسرائيل في تحقيق أهدافها في لبنان”. والنظام السوري يتهم تركيا بعدما رفضت أنقرة الرضوخ لشروطه بشأن الانسحاب التركي من الأراضي السورية مقابل التطبيع. مخطط أميركي إسرائيلي لإضعاف الميليشيات الإيرانية من سوريا وإخراجها. استغلال انشغال “حزب الله” في حربه مع إسرائيل. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يريد تحسين شروطه قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وخصوصاً في حال قرر ترمب الانسحاب من سوريا، وما يعنيه ذلك لتركيا في معركتها مع “قوات سوريا الديمقراطية”. كل هذه الأسباب وغيرها، قد تكون دقيقة كثيراً أو قليلاً، إلا أنها ليست الأسباب الوحيدة لما حصل.
وبعيداً عن التخوف المشروع من عودة الفوضى إلى مدينة حلب، ثاني أكبر المدن السورية، رغم أن الصور الآتية توحي بأن الفصائل قد تعلمت الدرس، بالإضافة إلى أن اسم “الجولاني” المبايع سابقاً لـ”القاعدة” لا يوحي بالثقة، ولكن إذا ما تذكرنا أن الميليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية والأفغانية لا تقل تطرفاً عن “القاعدة”، يصبح من المفهوم ترحيب الكثير من السوريين بالعملية واحتفالهم بنتائجها.
الأمر الأهم الذي يجب أن يكون قد صار واضحاً بعد هذا الزلزال المفاجئ، هو أن أنصاف الحلول وتدوير الزوايا، لا يمكن أن ينتج عنهما سلام واستقرار دائم. فهذه المنطقة لم تعرف الاستقرار الحقيقي منذ استقلالها، وما ينطبق على سوريا، ينطبق أيضاً على لبنان، وحتى ما عُرف بمرحلة الاستقرار أثناء حكم حافظ الأسد بالحديد والنار للبلدين، أثبتت التجارب أنها كانت مرحلة تراكمت فيها النار تحت الرماد حتى اندفعت وكادت تحرق الجميع.
في انتظار أن يدرك أصحاب القرار في الشرق والغرب، والمعنيون باستقرار حقيقي، وإخماد النيران كي لا تصل حدودهم، أن التسويات على طريقة “عفى الله عما سلف” لن ينتج عنها إلا تكرار الزلازل، وقبل ذلك على السوريين أولاً وقبل أي أحد آخر، أن يدركوا أن المحاسبة والعدالة هما مدماكان أساسيان لبناء سوريا وهويتها الوطنية الجامعة، وقد يكون المدخل لحل جدي وعادل، هو العودة إلى “بيان جنيف واحد” و”القرار الدولي 2254″ بحرفيته، وقبل التشويه الذي لحق به في “آستانه” و”سوتشي”.
المجلة
———————————
الأسد ممزّقاً بين موسكو وطهران/ عمار ديوب
01 ديسمبر 2024
توقفت مجريات الحرب ضد لبنان في فجر الأربعاء الماضي (27 نوفمبر/ تشرين الثاني)، ولكن حرباً أخرى بدأت مع ساعات صباح اليوم نفسه في أرياف حلب، بقيادة الفصائل المناهضة للسلطة في دمشق، وخلال يومين كانت في حلب. … كيف حدث كل هذا التقدم، وروسيا وإيران تساندان النظام وتتشاوران مع تركيا عبر منصة أستانا ومباشرةً في كل صغيرة وكبيرة؟
شكّلت الحرب على غزة ولبنان في الأشهر السابقة امتحاناً كبيراً للسلطة في دمشق، وبدا أنّها تبتعد عن طهران، واستدعى ذلك زيارات وازنة لمسؤولين إيرانيين “لإفهام” النظام، أن مصلحته في البقاء في محور المقاومة، وفعلاً، وبعد زيارة وزير خارجيته طهران، أعاد النظام تصريحات تؤكد تموضعه في محور المقاومة، ولكنه، وكعادته، وهو الضعيف للغاية، ظلَّ يناور وتضيّق سلطاته على الأرض على حزب الله وبقية المليشيات. ما كان يرفضه النظام، وبصورة كاملة، إعادة العلاقات مع تركيا، مدفوعاً من إيران، وقد “استجداه” تقريباً الرئيس أردوغان من أجل ذلك. روسيا، المتخوفة من إعادة الدفء بين أردوغان وترامب، والمزعوجة من موقف سلطة دمشق الرافضة أيِّ علاقة جادة مع تركيا، وقد حاولت الدفع والتوسط نحو ذلك، ومع ندرة الطلعات الجوية الروسية ضد تقدم الفصائل، فإن الاستنتاج المنطقي هنا، أن هناك تفاهمات تركية روسية على هذا التقدم. إن التصريحات التركية بأن التقدم هذا لصالح عودة اللاجئين وبما يتوافق مع اتفاقية خفض التصعيد، واستعادة المناطق التي تقدمت لها قوات النظام، وبالضد من الاتفاقية الأخيرة، ومن ثم، هي شرعنة لعمليات “ردع العدوان” الاسم الذي تتقدم تحت رايته الفصائل.
هناك تنسيق روسي مع دولة الاحتلال في فلسطين، ويتضمن أن تلعب روسيا دوراً في إبعاد مليشيات إيران عن الحدود، وعن سورية بعامة، والسماح لقوات الاحتلال الجوية بقصف أيّة أهداف، تراها، تهدّد أمنها ووجودها، والأمر ذاته تعلنه أميركا ودولة الاحتلال؛ نقصد الإبعاد. إعادة حزب الله إلى جنوب الليطاني وتدمير القسم الأكبر من سلاحه، وتدمير المعابر السرية لحزب الله بين سورية ولبنان، ومراقبة الحدود، وكذلك التضييق على الحدود الدولية بين سورية والعراق؛ كلها عناصر دفعت إيران إلى التخفيف من حضورها في سورية، ولديك ذهاب الكثير من المليشيات إلى لبنان أو على الحدود معه في الأشهر الأخيرة؛ إن كل هذه الحيثيات ساعدت في التقدم السريع للفصائل.
صحيحٌ أنَّ طهران أفهمت النظام أنّه بأمس الحاجة إليها، ولكنها تعي جيداً نأيه بنفسه عن محور المقاومة، وهذا عاملٌ إضافيٌّ لعدم المقاومة ضد قوات الفصائل. المقصد، مما حاولنا توضيحه، أن هناك غضباً تركياً وروسياً، بل إيرانياً من النظام، وأنّه أضاع كل الفرص مع كل هذه الدول، خاصة بعد 7 أكتوبر (2023)، ليجد نفسه وحيداً، ولهذا كانت نتائج معارك الأربعاء والخميس حاسمة لصالح الفصائل.
من الهام التأكيد أن من استطاع إعادة النظام إلى حلب وأرياف دمشق وحمص ودرعا ومناطق كثيرة هي الهمجية الروسية بعد 2015، بينما قوات النظام وإيران راحت تترنح حينذاك. إذاً يعي الأسد، أن من يستطيع حمايته الفعلية هي روسيا، وهي من تعاقبه بالتوافق مع تركيا من أجل تنفيذ ما تراه الدولتان، وبعيداً عن الهيمنة الإيرانية المباشرة عليه، والرافضة التقارب مع تركيا.
الجديد الذي لا يجوز تهميشه، بعد اتفاق الهدنة في لبنان، والضغط الأميركي ومن دولة الاحتلال على إيران أن هذا البلد في طريقه إلى ضغوط أشد في الأشهر المقبلة، وسيجد نفسه معنياً بالدفاع عن نفسه، ومن هنا لم يُظهر دفاعاً حقيقياً في المعارك الجارية. هنا لا يمكننا التسليم برأيٍّ مفاده أن إيران باعت الأسد لتنقذ نفسها، ومن ثم، التقدّم يأتي بالتوافق الروسي التركي الإيراني، وربما الأميركي؛ هذا استنتاج يصعب التسليم به.
الانهيار السريع لقوات السلطة في حلب وجوارها يوضح هشاشتها وضعفها الشديد، وربما ركونها إلى صمت الفصائل عن التمدّد، قبل الاربعاء الفائت، بأن تركيا تتكفل بلجمها. يشير انهيار القوات إلى قوّة الفصائل، وخضوعها لخطة عسكرية متكاملة، وعلى كل الجبهات المفتوحة، وهذا يشير أنّها تمتلك القدرة على الاستيلاء على المدن الثلاث المذكورة أعلاه، وربما سواها. الجدير ذكره أن عملية رد العدوان لاقت قبولاً من فعالياتٍ كثيرة، ومن مختلف المدن السورية. ومن ثم، وعلى أهمية الخطة بخصوص أرياف حلب وإدلب، هي لا تتضمّن مخططاً لبقية المدن، ولا سيما درعا والقنيطرة والسويداء وللضغط على دمشق، وفي الوقت ذاته لم تشهد جبهة الساحل حراكاً عسكرياً في الأيام السابقة. تفيد الملاحظة السابقة بأن العملية ستكون محدودة، وبالتوافق بين تركيا وروسيا خاصة، ومن أجل إعادة اللاجئين، ولكن إمكانية سقوط حلب، وقد وصلت القوات إلى مشارفها، سيعني أن تغييراً سيشمل رسم الخرائط السابقة، وتدخلاً جديداً من كل الدول المتدخلة في سورية.
يفيد الوضع حالياً بأن تركيا تضغط من أجل عودة لاجئين كثيرين، وهم عدّة الملايين، عدا عن سكان المخيمات في الشمال السوري، وهذا سيكون لمصلحة الحكومة التركية، وهو هدف للمعارضين لها، ومن ثم تركيا بأكملها تقف مع تقدّم كهذا وليس من مصلحتها إعادة القيد إلى قوات الفصائل السورية، ولكن هل ستصمت عن وجود قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؟
أصبحت الأمور سائلة الآن، ولم تعد جامدة كما أرادها الروس عبر اتفاقيات خفض التصعيد. لن يمانع الرئيس الأميركي المنتظر ترامب في تمدّد تركيا إلى مناطق “قسد”، كما فعل من قبل، وربما الدفع إلى إيجاد حلٍّ ما للوضع السوري بأكمله، وهذا سيحقّق بدرجة ما شروط دولة الاحتلال في خروج مليشيات إيران من سورية، ولكن هل تسعى روسيا إلى صفقة تخص أوكرانيا وسورية مع ترامب كذلك؟ ومن ثم، قد تكون معارك حلب مقدّمة للتغيير السياسي في سورية، ولحل قضايا إقليمية ودولية.
العربي الجديد
————————
سوريا… أخطار الساحة وضرورة الدولة/ غسان شربل
2 ديسمبر 2024 م
كأنَّما كُتب على هذا الجزءِ الصعب من العالم أن يتعايشَ مع شلالات الدَّم. دول تتصدَّع. وحروب لا تكتمل. وسلام من قماشة الهدنات. شاهدنا أهوال غزة. وبعدها أهوال لبنان. وأظهرت وحشية الهجمات الإسرائيلية أن «طوفان الأقصى» كان أكبرَ من قدرة غزة على احتمال نتائجه. وأن «جبهة الإسناد» كانت أكبرَ من قدرة لبنان على احتمال عواقبها. ثم جاءت مفاجأة حلب لتنذرَ بعودة شلالاتِ الدَّم السوري إلى التدفق. وقد لا تكون كلمة مفاجأة دقيقة في ضوء ما كان يتردد من «أن القوى المسيطرة على إدلب تفضل المبادرة على انتظار هجوم الجيش السوري».
لم يكن مقدراً للهدوء النسبي الذي عاشته سوريا في ضوء مهدئات آستانة وسوتشي أن يستمر إلى الأبد. كان من الصعب على دمشقَ أن تقرَّ بأنَّ خطوط التماس القائمة بين الدويلات والمكونات هي قدرٌ لا يمكن تغييره. وكان واضحاً أن سوريا أسيرة حروب أكبر منها. وأن تغييرَ خطوط التماس يصطدم أيضاً بكبار اللاعبين على الساحة السورية.
في بداية النصف الثاني من العقد الماضي تصدَّعت الدولة السورية. تحوَّلت الدولة ساحةً شهدت أوهاماً وأحلاماً وتدخلات إقليمية ودولية. وإذا تركنا جانباً الأطماعَ الإسرائيلية المعروفة والسياسة الأميركية المتقلبة والمتبدلة يمكن الالتفات إلى أدوار كل من روسيا وإيران وتركيا.
في 2014 وبعدما أخفى نيّاته طويلاً استعاد فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم مؤكداً أنَّها كانت مجرد هديةٍ سوفياتية غير مبررة لأوكرانيا. محدودية ردود الفعل الدولية أغرته بالمزيد. بعد سنةٍ استيقظ العالمُ على التدخل العسكري الروسي في سوريا، الذي قِيل يومها إنَّه حصل بعدما أقنع الجنرال قاسم سليماني، الرئيس الروسي، بخطورةِ سقوط سوريا في يد الأصوليين والمنطقة في يد الأميركيين.
قلب التعاون الروسي – الإيراني مسارَ الأحداث على الساحة السورية، وتحوَّل بقاء النظام السوري أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله في الحديث عن الحلول. لكن الرهان على قيام «سوريا الروسية» على حساب «سوريا الإيرانية» خابَ بعد سنوات قليلة. لم تُظهر روسيا قدرة على قيادة حل سياسي كبير يفتح الباب أمام مصالحة واسعة تمهد لعودة المهجرين وإعادة الإعمار. كان التدخل العسكري الروسي في سوريا مجرد خطوة، ذلك أن بوتين سيحاول تنفيذَ الانقلاب الكبير في العقد التالي عبر التوغل في أوكرانيا وعلى الأرض الأوروبية.
يتكوَّن المثلث الروسي – الإيراني – التركي من دول مجروحة ذات ذاكرة إمبراطورية أعاد انتحار الاتحاد السوفياتي إيقاظَ تبرُّمِها بحدود خرائطها الحالية وحدود أدوارها. ولم يكن سراً أن أنقرة وطهران حلمتا بالفوز بجزء من الإرث الذي تركه الانهيار السوفياتي.
في العقد الماضي حاولت تركيا قيادة انقلاب كبير في المنطقة على حصان «الربيع العربي». اعتبرت أن لديها نموذجاً صالحاً للنسخ أو الاستيحاء أو التصدير. انتقلت من الصداقة الدافئة مع نظام الرئيس بشار الأسد إلى محاولة اقتلاعه. ولم يكن الأمر سراً. قابلت قبل سنوات في سجن عراقي مجموعةً من محاربي «داعش» حكوا ببساطة كيف دخلوا إلى «دولة الخلافة» عبر الحدود التركية – السورية. اصطدمت الطموحات التركية بالتعاون الروسي – الإيراني في سوريا، وانتهى «الربيع العربي» إلى ما انتهى إليه. بعدها صار عنوان السياسة التركية في سوريا تفكيك «الخطر الكردي»، وها هي قواتها ترابط على أرض سورية، فضلاً عن بعض النقاط في العراق.
إيران تبرمتْ هي الأخرى بحدودها وحدود دورها. نفذت انقلاباً كبيراً في المنطقة مكَّنها من الحضور الحاسم في مراكز صناعة القرار في بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء. كانت سوريا بالنسبة إلى إيران مقراً مهماً وممراً حيوياً، خصوصاً بعدما فتحت الطريق من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق بعد اقتلاع نظام صدام حسين. احتلت الساحة السورية موقعاً بالغَ الأهمية في برنامج إيرانَ الكبير، وفي ما تردَّدَ عن «الضربة الكبرى» التي يمكن أن توجه إلى إسرائيل «بمطر من الصواريخ من خرائط عدة». ولعلَّ يحيى السنوار زعيم «حماس» الراحل راهن على انطلاق هذه الضربة حين أطلق «طوفان الأقصى».
نحن الآن أمام واقعٍ جديدٍ في غزةَ ولبنان وسوريا. أدَّت الحرب الإسرائيلية في لبنان والغارات الإسرائيلية في سوريا إلى إضعاف «حزب الله» والميليشيات الموالية لإيران في سوريا. وقد يكون هذا الواقع بين العوامل التي دفعت «هيئة تحرير الشام» إلى إطلاق هجومها في اتجاه حلب وأبعد منها. لا تستطيع السلطات السورية قبول الأمر الواقع الجديد، ولا روسيا تستطيع قبوله. تركيا أيضاً لا تستطيع الذهاب بعيداً في لعبة التحريك والتعديل والتذكير.
سوريا ليست جزيرة. إنها تقيم في قلب المنطقة. استقرارها يعني كلَّ جيرانها بلا استثناء. الاستقرار السوري مطلبٌ عربيٌّ جامع. مطلب عراقيّ وأردنيّ ولبنانيّ ومصريّ وخليجيّ. لا مصلحة لأي عربي في عودة سوريا التي شهدنا أهوالَها. سوريا الخطرة على نفسها وعلى جيرانها. لا تستطيع سوريا احتمالَ الغرق مجدداً في حروبها وحروب الآخرين على أدوارها. حروب الأدوار والأوراق استعداداً للدخول في «توقيت ترمب». توزيع الأرض السورية على القوى الإقليمية والدولية ووكلائها صيغة لا بدَّ أن تعيد إطلاق شلالات الدَّم. لم تعد سوريا الإيرانية ممكنة. وسوريا التركية غير ممكنة أيضاً. سوريا الروسية لا تبدو البند الأول لدى الكرملين المنشغل بالحريق الأوكراني واستقبال دونالد ترمب. لا خيار غير سوريا السورية. سوريا الدولة الطبيعية. ولا بدَّ من حلّ سياسي يعزل «المجموعات الإرهابية» ويعيد الجسور بين المكونات والمناطق. حلّ يفتح نافذة الأمل لعودة اللاجئين الموزعين على أطراف بلادهم ويطلق عمليةَ إعادةِ الإعمار مستفيداً من الاحتضان العربي.
الشرق الأوسط
———————–
خمسة أيام غيّرت الموازين في سوريا/ صادق عبد الرحمن
حقائق وخُلاصات أوليّة عن معركة «ردع العدوان»
02-12-2024
خلال أيام قليلة خسرَ النظام السوري سيطرته على مناطق شاسعة من شمال البلد، فيها عشرات القرى والبلدات والمدن، وفيها مدينة حلب بثقلها العمراني والاقتصادي والبشري والرمزي الكبير. وإذا كان ثمة مجاهيلُ كثيرة في هذه الأحداث، بما يجعلُ تحليلها واستشراف نتائجها أمراً عسيراً اليوم، إلا أن هناك حقائق أساسية من المفيد إبقاؤها في البال عند محاولة التفكير والتحليل وتكوين الآراء والمواقف، ثم يمكن استنتاج خلاصات أساسية من هذه الحقائق، أياً يكن الرأي في الفاعلين الأساسيين في هذه الأحداث وأياً تكن مآلاتها في الأيام القادمة.
لعلّ أبرز الحقائق أن النظام كان قد احتفظ ببعض هذه المناطق طوال سنين الحرب ودافعَ عنها بشراسة، وأنه خاض معارك طويلة ومريرة حتى تمكَّنَ من استعادة مساحات واسعة منها، وأنه في معارك الدفاع والاستعادة تلك ضحى بعشرات الآلاف من مقاتليه السوريين ومقاتلي حلفائه التابعين لإيران، واستعان بآلاف الطلعات الجوية الروسية والسورية ومئات آلاف القذائف والصواريخ والبراميل، فضلاً عن عشرات آلاف القتلى من الفصائل المناهضة لحكمه، وعشرات آلاف الضحايا من المدنيين، ودمار واسع تُقدَّرُ أكلافه بمليارات الدولارات. كانت إنجازاته الميدانية تلك، وخاصة منعطفها الأهم في 2016، عندما استعاد أحياء حلب الشرقية، علامة «انتصاره» الأبرز على خصومه، وقد أمكنَ لكل ذلك أن يتبخّرَ خلال أيام.
هذه الواقعة، التي ما كان يمكن تصديق حصولها في مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي، ستكون واقعة تأسيسية دون ريب في مجريات الأشهر والسنوات القادمة، وأول ما يمكن استنتاجه منها هو ضعف النظام السوري ورثاثته الشديدة، بما يقوّضُ كل خطاب السنوات القليلة الماضية عن «انتصاره». وسواء كان النظام قد فشل في الدفاع عن هذه المناطق، أو أنه لم يُرِد الدفاع عنها بشكل جدي لأسباب تَكثُر التحليلات والتكهنات بشأنها، فإن النتيجة تبقى واحدة على هذا الصعيد، وهي أن ما جرى يطرح أسئلة صعبة على حلفاء النظام الروس والإيرانيين بشأن الحاجة الدائمة لانخراطهم النَشِط في حمايته، ويطرح أسئلة صعبة أيضاً على المتحمّسين للتطبيع معه ودعم استعادته للشرعية والسيطرة الترابية على كامل البلد.
من الحقائق أيضاً أن هذه المعركة لم تبدأ «فجأة في منطقة مستقرة» كما يَشيعُ الاعتقاد عند من لا يتابعون الأخبار المحلية السورية، بعد أن كفّت وسائل الإعلام العربية والأجنبية لسنوات عن تغطية أخبار الحرب «التي انتهت في سوريا». منذ مطلع العام الجاري، وحتى منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قَتل النظام السوري وحلفاؤه 66 مدنياً في الشمال السوري بينهم 18 طفلاً، فضلاً عن التسبب بإصابة المئات ونزوح عشرات الآلاف. كما أن هناك مئات آلاف المُهجَّرين من أبناء المناطق التي خسرها النظام في الأيام الماضية، كانوا مُبعَدين قسراً عن بيوتهم إلى مناطق سيطرة الفصائل وهم يأملون العودة اليوم، وآلافٌ مؤلفة منهم تعيش منذ سنوات في مخيمات على الحدود السورية التركية. وليس هذا كلّه بلا سياق سياسي، بل إن سياقه هو فشل كل المبادرات السياسية التي تهدف إلى إعادة إنتاج شرعية النظام عبر تغييرات وتفاهمات سياسية صغيرة أو كبيرة، من المبادرة العربية العام الماضي إلى المبادرة التركية هذا العام.
الخُلاصة هنا أن الكلام عن استحالة الاستقرار في سوريا دون «حل سياسي» يقدّم فيه النظام تنازلات جدية، وهو الكلام الذي كان كثيرون يعتبرونه مجرد «شعار سياسي»، قد ثبتت صحته تماماً. كانت المبادرتان العربية والتركية تحملان للنظام وعوداً بالتطبيع معه ومساعدته في مواجهة العقوبات الغربية، فضلاً عن مساعدته في طيّ صفحة محاسبته على ما ارتكبه، وكان على النظام بالمقابل أن يخلق أوضاعاً سياسية تكفّ معها سوريا عن أن تكون مصدراً لعدم الاستقرار، ويكفُّ معها السوريون عن الخروج من بلدهم لاجئين في كل طريق ممكن، ويستطيع معها قسمٌ من اللاجئين في دول محيط سوريا أن يعودوا بأمان. فضلاً عن هذه المطالب المشتركة بين المبادرتين، كذلك كانت لدى الدول العربية طلبات ذات صلة بالحد من تدفّق الكبتاغون السوري إليها والحدّ من النفوذ الإيراني في سوريا، ولدى الدولة التركية طلبات تتعلق بتعاون النظام معها في حربها ضد حزب العمال الكردستاني.
باستثناء الطلب التركي المتعلق بالتعاون ضد حزب العمال، الذي يبدو واضحاً أن النظام ما كان ليرفضه لو توفرت الشروط الأخرى للتفاهم مع تركيا، فإن النظام لم يحاول أصلاً أن يُقدّم شيئاً جدياً في أيٍّ من الملفات الأخرى باستثناء الوعود والكلام. وسواء كان لا يستطيع ذلك أم لا يريده، وهو ما تختلف التحليلات بشأنه، فإن النتيجة واحدة، وهي أن ما جرى في الأيام الماضية يُثبتُ أنه لا معنى لتوقُّع الاستقرار في سوريا دون انخراط النظام السوري في عملية سياسية جدية يرفضها بتعنّت وثبات منذ 2011.
كذلك فإن من الحقائق التي يبدو مفيداً تنشيط الذاكرة بشأنها هي تلك المتعلقة بهوية الفصائل التي تُوسِّع سيطرتها في سوريا اليوم، فهذه ليست مجرّد فصائل «جهاديين» كما يحلو لكثيرين أن يقولوا لإراحة أذهانهم من التعقيدات أو لتصليب مواقفهم المُسبَقة، ولا هي فصائل «ثوار الحرية» كما يحلو لآخرين أن يقولو أيضاً للهدف نفسه، أي إراحة أذهانهم من التعقيدات أو تصليب مواقفهم المُسبَقة. تقودُ «هيئةُ تحريرِ الشام» فصائلَ «إدارة العمليات العسكرية»، التي بدأت معركة «ردع العدوان» يوم الأربعاء الماضي في ريفَي إدلب وحلب الغربي، والهيئةُ كما هو معروف هي جبهة النصرة القاعدية سابقاً، أي أنها كانت تنظيماً جهادياً فعلاً، لكنها تُحاول منذ سنين أن تغسل وجهها بقيادة زعيمها الجولاني، فتخلّت عن أغلب خطابها الجهادي وإن لم تتخلَّ عن خطابها الديني المُتشدِّد العام، مع بنائها سلطة مُنظَّمة في إدلب تدير حياة الناس، وتبطش بخصومها وأولهم الجهاديون عندما يعترضون على تحولاتها أو ينازعونها سلطتها، وتمارس التعذيب في السجون، وتقمع المظاهرات ضدها بمزيج العنف الدموي والمناورة كما تفعل الأنظمة الديكتاتورية، وتبذل جهداً ملحوظاً لتسويق نفسها بالابتعاد أكثر عن «الخطاب والسلوك الجهادي» على ما يظهر بوضوح في الأيام الأخيرة. لكنها لا تقاتل وحدها، بل معها آلاف المقاتلين من فصائل أخرى، بعضها ما يزال سلفياً جهادياً فعلاً، لكن أغلبها لم يكن جهادياً في أي يوم، بل هي فصائل محلية متنوعة مُعارِضة للنظام وإسلامية التوجهات في معظمها، وفيها كثيرون ممّن يقاتلون للعودة إلى ديارهم التي هجّرهم النظام منها قسراً، أو دفاعاً عن الحلم برحيل النظام السوري وقيام نظام سياسي جديد أقل طغياناً في البلد.
أما «الجيش الوطني»، الذي أعلن لاحقاً معركة أسماها «فجر الحرية» من ريف حلب الشمالي، فتقوده فصائل تابعة لتركيا. وصحيحٌ أن فصائل «إدارة العمليات العسكرية» مدعومة تركيّاً أيضاً بمستويات متفاوتة، لكن الفارق بينها وبين فصائل «الجيش الوطني» هو أن الأخيرة تابعة تماماً لتركيا، وأن معاركها وجهدها العسكري الأساسي منصبٌّ على محاربة «قسد» خدمةً للأمن القومي التركي ومعاركه ضد الكُرد. وطبعاً لا شكّ أن ثمة بين هذه الفصائل من كانوا سابقاً مقاتلين في «الجيش السوري الحر» ضد النظام السوري، وأن كثيرين منهم يقاتلون دفاعاً عن مناطقهم أو للعودة إليها بعد أن تم تهجيرهم منها، لكن السِمة الغالبة هناك هي التبعية التامة لتركيا، وكذلك الفوضى الشديدة والنزاعات الداخلية والانتهاكات والجرائم المتنوعة، ولعلّ العلامة الأبرز في تاريخ «الجيش الوطني» هي مسؤوليته المشتركة مع الدولة التركية عن جريمة عفرين المستمرة بحق الكُرد، التي تشمل التهجير القسري والقتل والسطو على الأرزاق والممتلكات.
نحتاج التذكير بكل هذه التفاصيل من أجل الوصول إلى خُلاصتين أساسيتين؛ أنه من غير الصائب اختصار كل هذه الفصائل بكلمة «جهاديين» ولا بكلمة «أتباع تركيا»، إذ أنه اختزالٌ لا يخدم في شيء سوى في تعزيز عدم الفهم. كذلك لا يمكن بالمقابل الرهان على «استقرار» و«أمان» و«تغيير» يجلبه هذا المزيج المتفجّر الذي لم تتوقف صراعاته البينية يوماً واحداً منذ 2013، كما لم تتوقف جرائم وانتهاكات معظم مكوناته الأساسية يوماً منذ ذلك الوقت.
ثمة حقيقة أخرى حاسمة قد تكون الأهم عند التفكير في مآلات الأيام القادمة، وهي أن ما جرى كان في بدايته على الأقل نتيجة إذنٍ من تركيا للضغط على النظام السوري الرافض لكل مبادرات التفاهم معها، والاستفادة من الفراغ الذي تركه انسحاب حزب الله وتراجع قوة الميليشيات الإيرانية في المنطقة، وأن هناك تفاهمات تركية روسية إيرانية هي التي أنتجت الوضع السابق على هذه المعركة من خلال مسار أستانا، وأن تفاهمات أخرى هي ما سيُنتِجُ الوضع اللاحق لهذه المعركة، هذا ما لم يتم دفن هذا المسار الثلاثي كلياً، بما يعني ذهاب سوريا في منعطف جديد يصعب التكهن به اليوم. سنعرف في الأيام القادمة ما إذا كانت الفصائل المناهضة للنظام قد تحركت ضمن تفاهمات دولية مُعدَّة سلفاً والتزمت بها، أم أنها تقدّمت خارج خطوط التفاهمات من تلقاء نفسها عندما وجدت الفرصة متاحة. في كلا الحالتين، إذا كانت الفصائل قد توسعت إلى هذا الحدّ دون تفاهمات دولية وترتيبات تضمنُ عدم تدمير المناطق السكنية على رؤوس أهلها، كما حصل مع أحياء حلب الشرقية سابقاً، فإن ما فعلته لن يرجع بالفائدة على أحد حتى عليها هي نفسها، وسيكون سبباً في مذبحة رهيبة جديدة على يد النظام وحلفائه، وحماقة يخرج منها النظام أكثر قوة سياسياً رغم رثاثته الشديدة وفشله الميداني.
بانتظار أن تكتمل الصورة، فإن شيئاً واحداً يمكن أن يدفع سوريا إلى أوضاع أقلَّ سوءاً، وهو أن يحدث تغيير داخلي أو خارجي يفرضُ على النظام الذهابَ إلى تفاوض سياسي حقيقي على مستقبل البلد. ليس هناك مؤشرات في هذا الاتجاه حتى اللحظة، وستكشف الأيام القليلة القادمة كثيراً من أجزاء اللوحة الناقصة.
موقع الجمهورية
—————————–
هل ستكون حلب عاصمة المرحلة الانتقالية؟/ أحمد زكريا
2024.12.02
يمثل تحرير مدينة حلب نقطة تحول تاريخية في مسار الثورة السورية، إذ يعيد الأمل للسوريين برؤية وطن خال من الطغاة والغزاة، فهذه الخطوة ليست فقط إنجازا عسكريا، بل هي بداية لرسم معالم سوريا الجديدة، حيث ستؤسس لمرحلة انتقالية حقيقية تُعيد للسوريين كرامتهم وتمنحهم فرصة تقرير مستقبلهم بأنفسهم.
ويُعد تحرير حلب إنجازا وطنيا كبيرا، أعاد الروح الوطنية للسوريين ووحد آمالهم بعد سنوات من المعاناة في المخيمات والتهجير، فهذه اللحظة الفارقة تُشكل بداية عودة السوريين إلى أرضهم وديارهم بكرامة، بعيدا عن الانتظار العقيم لقرارات دولية أو مبادرات أممية لم تُجدِ نفعا طوال السنوات الماضية.
ويعلم السوريون جميعًا أن حلب كانت خاضعة لهيمنة إيرانية كاملة، حيث لعبت إيران دور المسيطر الفعلي فيها بدلاً من النظام السوري، لذا، فإن تحرير حلب العظيم يُعد ضربة قاصمة لإيران، ونصرًا يُعيد للسوريين الأمل باستعادة سيادتهم على أرضهم.
كما يعلمون أن تحرير حلب لا يقتصر على تغيير خريطة السيطرة الميدانية أو تهديد أركان نظام الأسد فقط، بل من المرجح أن تمتد تداعياته لتشمل المنطقة بأكملها، مؤسسًا لمرحلة جديدة من التوازنات والتحولات السياسية.
وما يمكن أن يُسجل لفصائل معركة “ردع العدوان” هو استغلالهم فرصة أن حلفاء النظام وداعميه وبالأخص الطرف الإيراني ليسوا بأفضل حالاتهم كونهم يمرون بحالة سيئة جدا، ما أتاح الفرصة لفصائل المعركة لتغيير خرائط السيطرة على الأرض، الأمر الذي بدوره سيكسبها قوة ميدانية وسياسية جديدة، وسيعيد ملف القضية السورية إلى طاولة الحلول مجدداً، كما سيسلط الضوء على القضية السورية لتتصدر المشهد العسكري والسياسي والإعلامي بعد طول غياب.
وعلى مدار أعوام، تعرض السوريون لخيبات أمل متتالية مع استمرار القمع وغياب العدالة، ولكن تحرير حلب يعكس إرادة السوريين في تغيير هذا الواقع المرير، ويؤكد أن القرار بيدهم، بعيدًا عن محاولات فرض أمر واقع يُرسخ سيطرة النظام ويدفع باتجاه إعادة تأهيله سياسيا.
ويمكن القول إن من يسيطر على حلب يمتلك مفتاح إعادة تشكيل المشهد السوري، إذ أن هذه السيطرة لا تتعلق فقط بالجغرافيا، بل تتعداها لرسم خرائط جديدة للمنطقة ككل، فمدينة حلب بموقعها الاستراتيجي وأهميتها التاريخية، ستكون مركزًا لإعادة بناء الدولة السورية على أسس جديدة.
وما سيحدث بعد تحرير حلب سيكون بمثابة انطلاق عملية سياسية جادة تبدأ بمرحلة انتقالية تتيح للسوريين صياغة دستور جديد واختيار نظام حكم يعكس تطلعاتهم نحو الديمقراطية والمساواة.
وعلى الأغلب فإن تحرير حلب وتنظيفها من النظام السوري وميليشياته سيعطي ثقلاً سياسياً واقتصادياً للثورة، وربما وقد لا نتفاجئ من ذلك مستقبلاُ، أن تدعو المعارضة السورية بكافة مؤسساتها الأطراف الضالعة بإيجاد حل سياسي للملف السوري، إلى إجراء وعقد اجتماعات اللجنة الدستورية في مدينة حلب.
ومن هنا، يمكننا القول إن تحرير حلب لم يكن مجرد معركة عسكرية، بل هو معركة كرامة ترفض الإذلال المستمر، فبعد سنوات من التهجير القسري والأزمات المتلاحقة، اختار السوريون أن يثبتوا حقهم في العودة إلى بلادهم بقوتهم الذاتية، دون انتظار قرارات الأمم المتحدة التي طالما خذلتهم، فالعدالة الإلهية التي يعوّل عليها السوريون تتجلى اليوم في هذا الإنجاز، الذي يحمل رسالة مفادها أن الظلم لن يدوم وأن سوريا للسوريين مهما حاول النظام أو قوى إقليمية ودولية فرض واقع مخالف.
ومن المهم أن نشير إلى أن تحرير مدينة حلب له أبعاد متعددة، إذ تمثل هذه المعركة نقلة نوعية، خاصة أنها تمت بسرعة وحققت مكاسب استراتيجية تعيد ترتيب موازين القوى، ليس فقط في سوريا بل في المنطقة ككل.
وهنا أقتبس جملة من منشور نشره الباحث الدكتور حمزة المصطفى على حسابه في فيس بوك تزامنا مع تقدم معركة “درع العدوان” في حلب وحماة وأريافها، قال في جزء منه “إذا لم تتدخل قوى دولية لإنقاذ النظام فلا يوجد ما يعيق تقدم عسكري متواصل قد يصل حدودا لا يمكن لأحد تصورها”.
ومن هنا نجد أن تحرير حلب قد يفتح الباب أمام المجتمع الدولي لدعم مسار سياسي حقيقي يقوم على تطبيق القرار الأممي 2254، القاضي بانتقال سياسي شامل، وإقامة دولة ديمقراطية تعددية.
أما من الناحية الاجتماعية، فقد أعاد تحرير المدينة الثقة للسوريين بقدرتهم على تقرير مصيرهم، كما أنه يمثل فرصة لإعادة اللاجئين إلى وطنهم في حال توافر الأمن والاستقرار.
ولكن، رغم هذا الإنجاز الكبير، يبقى التحدي الأكبر هو تحويله إلى مكاسب مستدامة تصب في صالح القضية السورية، ومن هنا يجب على الفصائل الثورية أن تستثمر وعيها السياسي وخطابها المدروس لضمان عدم انحراف مسار الثورة، وأن تسعى لتوحيد الجهود بعيدًا عن الخلافات الداخلية.
ويجب أيضًا التصدي لمحاولات الالتفاف على هذا الإنجاز، سواء من خلال مشاريع التعافي المبكر التي تهدف إلى تثبيت النظام في دمشق، أو عبر خطط توطين النازحين بعيدًا عن أراضيهم الأصلية.
إذن، تحرير حلب ليس مجرد انتصار عسكري بل هو انتصار للكرامة السورية، خطوة نحو استعادة البلاد وتحريرها من الطغاة والغزاة، فهذه اللحظة التاريخية تعيد الثورة السورية إلى الواجهة، لتذكّر العالم بأن السوريين لن يرضخوا للأمر الواقع، وأن العدالة والمساواة والديمقراطية هي طموحاتهم التي لن يتنازلوا عنها.
كما أن تحرير مدينة حلب يمثل لحظة استثنائية تختلط فيها المشاعر بين الفخر والخوف، فهو حدث عظيم يعيد الأمل لكنه يحمل معه تحديات جسيمة، وكما كانت خسارة حلب يومًا ما نكسة موجعة، فإن استعادتها اليوم تحمل وقعا أعظم وأثقل على المشهد السوري.
مما لا شك فيه، فإن عملية “ردع العدوان” كشفت زيف الادعاءات التي يروجها النظام عبر أبواقه وداعميه، وأظهرت حقيقته كنظام ضعيف ومتهالك على وشك الانهيار. ما حدث أكد أنه ليس أكثر من كيان محاصر من قبل شعبه، الذي يسعى لنيل حريته وكرامته من عصابة طائفية مجرمة حكمت سوريا بالحديد والنار بعيدًا عن إرادة شعبها.
وفي ظل هذه الحقائق، أعتقد أن دول المنطقة والعالم، إلى جانب الأطراف الدولية الفاعلة، ستعيد النظر بعمق في توجهاتها السياسية تجاه المشهد السوري والتطورات الجارية.
وفي النهاية، على ما يبدو أنه سوف يتم رسم خرائط جديدة للمنطقة بعد تورط إيران وأذرعها في الحرب القائمة في غزة، وسيتم رسم هذه الخرائط بأقلام تركية وأوراق روسية وبتوقيع أمريكي مما يؤدي ذلك إلى قلب الموازين لصالح المعارضة السورية إلى حين تسلم ترامب السلطة فعلياً بعد نحو شهر، وبذلك يكون تم تمهيد الطريق نحو رسم مناطق نفوذ جديدة وتحجيم لبعض القوى بما يخدم سياسة المصالح الأمريكية بشكل عام”.
وبناء على ما سبق يمكن القول كذلك، إن جميع الرؤى المقدمة بخصوص الملف السوري اليوم ما زالت ضمن نطاق إدارة الصراع ولم تنتقل إلى مرحلة إنهاء الصراع والسبب تعدد وتجاذب المشاريع الدولية داخل الأراضي السورية، لكنّ الموقف التركي واضح من حيث طبيعة تلك التحركات المبنية على تفاهمات دولية إضافة إلى التفاهمات المحلية والإقليمية لما يخص مسألة إدارة تلك المناطق التي ستشهد عمليات عسكرية تركية ربما في قادمات الأيام.
وتبقى المرحلة المقبلة مرحلة مصيرية تتطلب من جميع الأطراف العمل الجاد لضمان انتقال سياسي حقيقي يعيد بناء سوريا على أسس تضمن الحرية والعدالة للجميع، فسوريا الحرة اليوم تُولد من رحم ثورة شعبها، لتكون وطناً جامعاً لكل أبنائها ومن أجل مستقبلهم.
———————
عن اللحظة الإقليمية لهجوم حلب/ محمود علوش
01 ديسمبر 2024
هناك أسباب موضوعية كثيرة تدفع فصائل المعارضة السورية إلى شن الهجوم المفاجئ والجريء على محافظة حلب. لقد صُمّم اتفاق تأسيس منطقة خفض التصعيد الرابعة في عام 2017 لوقف الأعمال القتالية بين النظام والمعارضة برعاية روسيا وتركيا وإيران. لكنّ الاتفاق أضحى منذ تلك الفترة رمزاً لنمط جديد من الصراع، يقوم على استراتيجية القضم التدريجي من النظام للمناطق المشمولة في الاتفاق. ونتيجةً لشعور النظام بأنه انتصر في الحرب، ازدادت جرأته في شنّ الهجمات على المناطق المتبقية للمعارضة. مع ذلك، يتجاوز الهجوم على حلب في أبعاده هدف استعادة حدود منطقة خفض التصعيد أو السيطرة على حلب إلى إعادة تشكيل الصراع السوري.
في السابق، كانت المعارضة عاجزةً عن القيام بردّ فعل عسكري قوي ضد النظام في حلب لاعتبارات مُختلفة، فمن جانبٍ، أظهرت تركيا مراراً حرصها على الحفاظ على التهدئة في منطقة خفض التصعيد الرابعة لتجنّب انهيار الوضع، ولتركيز اهتمامها على صراعها مع الوحدات الكردية. ومن جانب آخر، لم يكن التفوّق العسكري للنظام في المعادلة عاملاً مناسباً للمعارضة للتحرّك. وحتى مع توفر العوامل المحلية الموضوعية لإعادة حلب إلى مركز الصراع، يظهر البُعد الإقليمي عاملاً حاسماً في تغيير حسابات الشمال السوري. منذ اندلاع حرب 7 أكتوبر (2023)، واجه الوجود العسكري الإيراني في سورية عبر المستشارين والجماعات المدعومة من طهران، مثل حزب الله، مزيداً من الضغط الإسرائيلي. كما دفع انزلاق الصراع بين إسرائيل وحزب الله إلى حرب واسعة، في سبتمبر/ أيلول الماضي، بالحزب إلى نقل عديدين من مُسلحيه من حلب إلى الجبهة في جنوب لبنان. وقد لعب الفراغ الذي خلّفه تراجع حضور حزب الله والمليشيات الإيرانية في حلب، في الأشهر الماضية، دوراً رئيسياً في الانهيار السريع لقوات النظام أمام تقدم المعارضة.
علاوة على ذلك، بدت تركيا في الآونة الأخيرة قلقة بشدة من أن تؤدّي الهجمات المتزايدة للنظام على إدلب إلى موجة هجرة جديدة صوبها، ومُحبطة كذلك من عدم استجابة دمشق لتحرّكها من أجل إعادة تطبيع العلاقات. لا مؤشّرات ملموسة على أن تحرّك المعارضة صوب حلب يحظى بمباركة تركية واضحة، لأن الفصيل الرئيسي الذي يُنفذ العملية هو هيئة تحرير الشام. لكنّ مشاركة بعض الفصائل المنضوية في الجيش الوطني السوري في الهجوم قد تشير إلى انخراط تركي فيه. وتبدو أنقرة مُستفيدةً من الهجوم على ثلاثة مسارات: تقويض قدرة النظام على تهديد منطقة خفض التصعيد الرابعة. وتعزيز موقفها في الضغط على النظام وروسيا للدفع باتجاه مشروع تطبيع العلاقات التركية السورية. وتقويض التأثير الإيراني في معادلة الشمال، لأن الحضور الإيراني في المنطقة، علاوة على أنه يُشكل تهديداً لنفوذ تركيا في معادلة الشمال، فإن طهران لعبت دوراً مفسداً لمشروع التقارب بين أنقرة ودمشق.
يظهر جلياً، من خلال توقيته، دور حرب 7 أكتوبر وارتداداتها الإقليمية على صعيد الدور الإيراني في سورية والاستنزاف الكبير الذي واجهه حزب الله وتقاطعه مع هجوم حلب. فمن جهة، سعت المعارضة إلى الاستفادة من تراجع الحضور الإيراني في معادلة الشمال، وتُقدم نفسها اليوم للعالم طرفاً قادراً على الانخراط بفعالية في تقويض الحضور الإيراني في سورية. وقد يُشكل هذا الدور حافزاً للولايات المتحدة للتفكير في مزايا تسليح المعارضة من جديد. ومن جهة أخرى، أثبتت الرهانات الإقليمية والدولية على النظام لتقويض الحضور الإيراني أنها غير واقعية. وفي ضوء ذلك، يُمكن استنتاج أن هجوم حلب قد يكون بداية لنهج إقليمي ودولي جديد في الصراع السوري عموماً.
لقد أظهر الصراع السوري بعد 14 عاماً على اندلاعه حقيقتين راسختين. الأولى، أن مسألة التسوية السياسية للصراع لا يُمكن أن تتحقق طالما أن نظام الأسد يشعُر بأنه انتصر في الحرب. والثانية أن الحضور الإيراني في سورية يستمدّ قوته بدرجة أساسية من استمرار هذا الصراع وغياب أفق الحل السياسي. على الرغم من أن هجوم المعارضة على حلب لن يؤدّي في المستقبل المنظور إلى إعادة تشكيل الصراع السوري والديناميكيات الخارجية الفاعلة فيه على نطاق واسع، إلآّ أنه يُمكن أن يكون بداية لمسارات جديدة في الصراع أكثر قدرةً على إخراجه من حالة الجمود التي يُعانيها منذ سنوات. مع ذلك، يُشكل هجوم حلب اختباراً صعباً لمدى قدرة أنقرة وموسكو على مواصلة التعاون في سورية ومواءمة سياستهما بشكلٍ يجعلها أكثر قدرة على مواصلة إنتاج التسويات، والحدّ من مخاطر إعادة تحويل سورية إلى مصدر ضغط قوي على العلاقات التركية الروسية.
لا تتقاطع حقيقة أن لدى هيئة تحرير الشام حسابات في هجوم حلب بالضرورة، بشكل كامل، مع الحسابات التركية في الصراع، وتُثير شكوكاً في ما إذا كانت أنقرة قادرة على توظيف الهجوم لتعزيز موقفها في مشروع التطبيع مع دمشق وفي العلاقة مع روسيا في سورية.
العربي الجديد
——————————
مباغتة النظام في حلب/ فاطمة ياسين
01 ديسمبر 2024
يعود تاريخ آخر المعارك الكبرى في شمال سورية إلى فبراير/ شباط عام 2020. كانت قوات النظام منتشية، فابتلعت بسرعة مناطق منزوعة السلاح، جرى فيها الاتفاق بين تركيا وروسيا وإيران على وقف القتال في مايو/ أيار 2017 في ما سميت حينها مناطق خفض التصعيد. ونتيجةً للهجوم المتواصل، ولتخفيف هواجس الأتراك من زيادة تقدّم قوات النظام في تلك المناطق، جرى السماح لتركيا بإنشاء نقاط مراقبة، واعتمدت مسافة 15 كيلومتراً من أراضي المعارضة مناطقَ خالية من السلاح الثقيل. ولكن النظام وداعميه تجاهلوا مرة ثانية هذا الاتفاق، وتوغلوا عميقاً حتى الطرق الدولية الواصلة ما بين حلب ودمشق وحلب واللاذقية على التوالي، ثم توقف كل شيء ليتفرغ النظام لحماية هذه الطرق، بعد أن كلفت تلك التجاوزات موجات هجرة كثيفة، زرع النظام ومحالفوه قواتهم على طول خطوط التماسّ الجديدة. ويبدو أن هذه القوات شعرت بأمانٍ مزيّف لتستيقظ فجر الأربعاء الماضي على هجوم المعارضة الواسع، ما جعلها تفر من دون أن تجد وقتاً لتأخذ معها بعض الأمتعة الضرورية، فتركت وراءها تجهيزاتها العسكرية وذخائرها وبعض الضباط الذين لم يتمكنوا من الاستيقاظ، رغم دوي القنابل، فوقعوا في الأسر بسهولة.
لم يبدُ أن القوات المهاجمة في طريقها إلى حلب وجدت إلا المواقع الخالية والأسلحة والذخائر المتروكة وجنوداً تأخّروا أو سهوا عن الانسحاب، فوقعوا مباشرة في يد القوات المتقدّمة، وتابع الرتل الهجومي طريقه حتى وصل إلى مشارف حلب، ولم يتردّد في دخول أحيائها وساحاتها..
اعتمد الهجوم محور أوتستراد دمشق حلب وصولاً إلى الطريق السريع المؤدي إلى قلب مدينة حلب، وفي نهاية اليوم الثالث للهجوم، جرى الاستيلاء على الطريق الدولي من نقطة خروجه من مدينة سراقب وصولاً إلى حلب، ما يعزل حلب تقريباً عن دمشق، وعلى أي قوات نجدة أو إمداد من النظام أن تستخدم طريقاً طويلاً يمرّ من خناصر وسفيرة وتل عرن. وتدلّ الطريقة التي تخلت فيها قوات النظام عن محيط حلب وأحيائها على أن العودة قد لا تكون مبكّرة، حيث فقدت قوات النظام معدّات وذخائر ومواقع كثيرة من الصعب تعويضها بسرعة، بالإضافة إلى خشية النظام من انفتاح جبهات أخرى من ناحية البادية التي تنتظر فرصة، ما يجعل النظام مضطرّاً لأن يتوقف قليلاً ليراجع مع حلفائه الخطوة التالية، وخاصة في وضع إيران المزري بعد خسارتها الواضحة في لبنان، وتكبيل يديها إلى الحد الأقصى، وبعد توجيه ضربات موجعة لها في الداخل السوري، ما يجعل ردود أفعالها دون الفعالية المطلوبة.
يوحي أسلوب تعامل المهاجمين من قوات النظام ومع السكان المحليين بأن للهجوم خطّة واضحة وطريقة جرى التفكير فيها بعمق قبل الإقدام على الهجوم، ويُلاحظ أن التوقيت جاء في لحظة مميّزة، فقد انتظر حتى أُعلن عن وقف إطلاق النار في لبنان، واتجه إلى سورية، مع تراخي قبضة إيران على الداخل السوري، وحتى على الوضع داخل لبنان، بالإضافة إلى استمرار الورطة الروسية في أوكرانيا، مع تغاضٍ تركي، وربما توجيه، جعل القوات المهاجمة تستفيد من الجهود التي قدّمتها المجموعات التي ترعاها تركيا بشكل مباشر، وهذه كلها عوامل لصالح الهجوم، وقد تبقى صالحة للاستفادة منها فترة طويلة.
رغم طبيعة القوى المتشدّدة التي تحكم الشمال السوري، إلا أنها تحظى بقبول لدى سوريين كثيرين، وبعضهم ممن لجأوا إلى دول الجوار، ما قد يشجّع مجموعات منهم على العودة إلى المناطق الجديدة التي سيطرت عليها الفصائل المعارضة في حلب وريفها، وخاصة الذين يشعرون بالإحباط نتيجة قلة الفرص وانعدام إمكانية الوصول إلى البلاد الأوروبية، وإذا تحقّق ذلك، وعاد عدد كبير من السوريين إلى بلادهم، فستكون فاتحة لتغيرات جديدة في بلد يحوي قوى عالمية عظمى وإقليمية كبيرة تتجاوز مساحته بكثير.
العربي الجديد
—————————-
ما هي «كلمة سر» بشار الأسد؟
1 – ديسمبر – 2024
رأي القدس
نشر مقاتلو المعارضة السورية بعد تحريرهم مدينة حلب مؤخرا شريطا مصوّرا يتجوّلون فيه داخل «قصر الضيافة» الذي اعتاد رئيس النظام السوري بشار الأسد الإقامة فيه عند زيارة المدينة، وظهر بعضهم وهو يحاول استخراج كلمة السر التي يستخدمها الأسد من أجهزة إيصال شبكة الإنترنت إلى القصر.
بعد انطلاق هجومها، يوم الأربعاء الماضي، سيطرت المعارضة السورية على كامل محافظة إدلب، وعلى غالبية أحياء حلب، ثاني أكبر مدن البلاد، باستثناء أحياء يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني، المدعوم أمريكيا، ومع اندفاعها باتجاه حماه، وسط البلاد، أعلنت المعارضة سيطرتها على «تل رفعت» وهي أيضا منطقة يسيطر عليها «الكردستاني».
أدى الهجوم إلى خسائر جغرافية وعسكرية كبيرة حيث تمكن المعارضون، حسب تقديرات مصادر عديدة، من الاستيلاء على أكثر مما جهّزوه من ترسانة وذخيرة، كما سيطروا على مطارات حلب (المدني) وكويرس ومنّغ (العسكريين) ومعامل الدفاع في منطقة السفيرة التي تضم معامل تصنيع وتخزين ذخائر وصواريخ ومواقع دفاع جوي.
توقّع موالو رئيس النظام، بعد هذه الانعطافة الخطيرة في الأحداث، أن يخرج عليهم الأسد ليفسّر مكامن الخلل الذي أدى إلى هذه الخسائر الكبرى لنظامه لكنّ الذي جرى أن الأسد سارع للاتصال برئيس الإمارات، محمد بن زايد، وبرئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، وبرئيس إقليم أبخازيا، ليخرج بعد هذه المكالمات مع «الحلفاء والأصدقاء» على حد تعبيره، بالقول إن «الإرهاب لا يفهم غير لغة القوة»!
يمثّل القول الآنف، عمليا، تكرارا مأساويا للخطاب الأول الذي ألقاه الأسد بعد أسابيع قليلة من اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد حكمه والتي وصفها حينها بـ»المؤامرة الكبيرة» وخلص فيه إلى أن إجراء الإصلاحات تحت ضغوط شعبية هو «ضعف» وأن «وأد الفتنة واجب» وأنه «إذا فرضت علينا المعركة اليوم فأهلا وسهلا بها»!
قوبل خطاب احتقار الشعب وإلغاء السياسة ذاك، بتهليل وتصفيق وإلقاء شعر من أعضاء البرلمان السوري (المسمى «مجلس الشعب») ولكنه أخذ بسوريا إلى حرب مدمّرة، هجّرت نصف سكانها، وقتلت مئات الآلاف من أبنائها، واستدعت احتلالات وتدخّلات أجنبية دولية وإقليمية، وقسّمت الجغرافيا بين أربعة مكوّنات عسكرية ـ سياسية حرمت الدولة من سيادتها، وحوّلت جيش النظام إلى قوى مخترقة إيرانيا وروسيا، تعتاش أهم فرقها (الرابعة) التي يقودها ماهر الأسد، على اقتصاد صناعة وتهريب المخدرات، وعلى فرض الأتاوات والتهريب وابتزاز السوريين.
تعاملت طهران مع ما حصل باعتباره هجوما عليها (حسب أنباء المعارضة فإن مناطق النظام في حلب كانت تحت سيطرة «الحرس الثوري» وميليشيات عراقية) فأرسلت وزير خارجيتها عباس عراقجي إلى دمشق، غير أن حديث الأسد عن «حلفاء وأصدقاء» يبدو متهافتا، إذا أخذنا في الاعتبار اقتصار اتصالاته على مسؤولي الإمارات والعراق و«إقليم أبخازيا» (المنشقّ عن جورجيا).
يلفت النظر، ضمن التداخلات المعقّدة للموضوع السوري، هو أن بعض وسائل الإعلام الخليجية، التي تناصب إيران العداء، تبنّت موقف النظام السوري بحذافيره، وهو شيء يبرره العداء للطبيعة الأيديولوجية الإسلامية للمعارضة، والخصومة المعروفة مع تركيا، وقد تماثل ذلك مع المواقف المعادية للفلسطينيين، بمبرر الاختلاف مع «حماس» وبذلك التقت مواقف التطبيع مع إسرائيل، بمحاولة الأطراف الخليجية نفسها إعادة تأهيل النظام عربيا ودوليا، ويندرج في ذلك ما أشيع عن بدء توريد أسلحة للنظام السوري من تلك الأطراف.
يؤدي بنا ذلك، بالضرورة، إلى المواقف الإسرائيلية، التي تراوحت بين إعلان بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة إسرائيل، «متابعة ما يجري في سوريا» وحديث وزير خارجيته، جدعون ساعر، عن أن «لا طرف جيدا في الصراع السوري» معيدا الإشارة إلى ضرورة التحالف مع «الأكراد» وتحليل «الخبير الإسرائيلي» يارون فريدمان، للوضع في صحيفة «معاريف» الذي خلص إلى ما خلصت إليه المنظومة الإسرائيلية، مرارا وتكرارا، من أن «الأسد هو أهون الشرّين» وكانت تلك الخلاصة، إضافة طبعا إلى التدخلين الروسي والإيراني، عتلة كبرى ساهمت في بقاء الأسد على كرسيّه الراشح بالدم، وهذه، على الأغلب، هي «كلمة السرّ» التي يراهن عليها الأسد!
—————————–
الانهيار المفاجئ في سورية والصمت الأميركي/ فكتور شلهوب
01 ديسمبر 2024
الاقتحام المفاجئ والسريع الذي قامت به قوات “هيئة تحرير الشام” وفصائل معارضة لمدينة حلب السورية والتراجع الأسرع للجيش السوري من مواقعه في المدينة، كان يمكن أن يمرّ بدون الضجة التي أثارها لولا تزامنه مع الوضع الملتهب أصلاً في المنطقة. توقيته فرض ربطه بحروب غزة ولبنان ومتفرعاتها كأحد تداعياتها، وإن كانت غير مباشرة، أو ربما فرصة جرى اغتنامها لشنّ الهجوم في لحظة مواتية لاستئناف الحرب في سورية بعد ثماني سنوات من الهدوء. ولاذت الإدارة الأميركية بالصمت حتى أمس السبت، قبل أن تعلن عدم علاقتها بالهجوم، ولكن تعليقها المقتضب والمتأخر ترك علامة استفهام، وربما كان كذلك لأنها تحرص على حفظ خط الرجعة. فالوضع السوري بحسب المداولات في المدة الأخيرة مرشح لتحولات في علاقات دمشق الإقليمية، وهذا مرتبط في أحد جوانبه بنجاح صفقة وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، والتي أشرفت واشنطن على ترتيبها، وتوفير الضمانات لانجاحها بحيث تتحول إلى حل مستديم.
وتجمع القراءات لهذا التطور على الاعتقاد بأن اجتياح مدينة حلب يُشكل “نقلة نوعية من التحدّي الجاد لنظام الأسد”، فهو جاء ليكشف عن “تدهور” ملحوظ في جاهزية قوات النظام السوري التي سارعت إلى الانسحاب، بل أصيبت بـ”الانهيار” وفق بعض التقارير. والأخطر في العملية أنها لم تقتصر على حلب، إذ شملت منطقة إدلب واتجهت نحو مدينة حماة.
وفي تقدير بعض المحللين أن هذا الزحف لا يشكل تحدياً فقط للنظام بل أيضاً لموسكو وطهران المنشغلتين في حروب أوكرانيا ولبنان، وانعكس ذلك في الاتصالات التي أجراها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مع نظيره الإيراني، عباس عراقجي، وزيارة هذا الأخير لدمشق المنتظرة اليوم الأحد. كما جرى التوقف عند الاتصال الذي أجراه لافروف مع نظيره التركي، حقان فيدان، الذي غمزت بعض التقارير من زاوية بلاده بأنها شاركت في الهجوم عبر بعض القوى المعارضة في منطقة إدلب المحسوبة على تركيا. وحملت التحركات الروسية على الاعتقاد بأن موسكو ستعود على الأرجح للزج بقوتها الجوية في حلب، على غرار ما سبق وفعلته في 2015 لاستعادة المدينة وتمكين النظام السوري من السيطرة عليها مرة ثانية، وإلا “فإن القوات التي دخلتها سيكون بإمكانها توسيع دائرة سيطرتها”.
وهنا يطرح سؤال عما إذا كانت الجهة أو الجهات التي شاركت وأشرفت على هندسة اقتحام حلب في هذا التوقيت قد أرادت ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، بحيث تزيد من جهة ضغوطها على نظام بات في حالة أشبه “بحالة انعدام الوزن”، ومن جهة ثانية تزيد من إرباك حلفائه الذين يقال إن أجواء العلاقات بينهم ليس صافية، وفي أحسن الحالات ليسوا في الوضع المناسب لتعويم الأسد وبالأخص إيران، التي يتردد أن روابطها مع دمشق لم تعد كما كانت عليه بعد حرب لبنان التي أدت إلى مطالبة سورية بلعب دور حارس البوابة الحدودية لمنع الإمدادات الإيرانية من الوصول إلى لبنان. ومن هنا القول بأن التحدي في حلب وغيرها أصبح مسألة “جدّية” يواجهها النظام السوري، في ظل ضعف ومحدودية الحصانة الإيرانية والروسية التي كان يتمتع بها، إضافة إلى التهديدات الإسرائيلية التي تطارده لفك العلاقة مع طهران.
عملية الفصائل السورية المباغتة في حلب كانت محسوبة ومفتوحة على إضافات نوعية محتملة. ومع ذلك لم تكن لتحظى بمثل هذا الاهتمام في واشنطن -ولو الفاتر في ظاهره من جانب الإدارة- لولا الظروف التي تحيط بها، وبالتحديد ظروف النظام السوري الذي يبدو أنه دخل مرحلة استحقاقات قد تكون حاسمة وبخيارات محدودة جداً في الداخل والخارج الإقليمي بشكل خاص.
————————————-
تفكيك شيفرات “ردع العدوان”/ سمير صالحة
2024.11.30
بعد تململٍ مصحوبٍ بكثير من الانتقادات حول أسباب هذا التريث في مواجهة الاعتداءات شبه اليومية على سكان إدلب وجوارها من قبل النظام وداعميه، تحركت فصائل المعارضة السورية للرد تحت يافطة واحدة جامعة: “ردع العدوان”.
المُعلن رسميًا حول أهداف العملية هو “كبح جماح النظام الذي يهدد ببدء عمل عسكري على محافظة إدلب، ويصعّد القصف عليها بالمدفعية والصواريخ والطائرات الملغمة”.
هي إذًا عملية ردٍّ استباقيٍّ محدودٍ من خلال القراءة الأولية. لكن التحضيرات العسكرية من خلال إنشاء غرف عمليات عسكرية وسياسية وإعلامية وخدماتية مشتركة، إلى جانب نوعية الأسلحة المستخدمة والجهوزية القتالية العالية ثم التقدم باتجاه حلب وسراقب، تقول أكثر من ذلك.
لافتٌ طبعًا أن يأتي التحرك بعد قرار وقف إطلاق النار على جبهة جنوبي لبنان، وبعد تصريحات لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان يعلن فيها أن أولويات إيران في سوريا لا تشمل تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، وأن “منصة الأستانا لعبت دورًا مهمًا على طريق التهدئة لكنها لم تعد صالحة لتفعيل الحوار السياسي وتسريعه. ولا بد من بدائل أخرى سنلجأ إليها عندما لا نصل إلى نتيجة مع النظام” في إطار البحث عن منصة إقليمية جديدة.
قد يختار بعضهم رمي الكرة بالكامل في الملعب التركي تحت عنوان أن تركيا تردّ على تجاهل الأسد دعوات التطبيع. وقد يتغاضى بعضهم عن حالة الغضب الشديد التي تراود النظام في دمشق وحليفه الإيراني، واتهاماتهما لأنقرة بدعم التحرك العسكري الأخير لفصائل المعارضة السورية على أكثر من جبهة بهدف تغيير التوازنات السياسية والعسكرية في المشهد السوري. لكن أنقرة اكتفت بالرد رسميًا وبعد 3 أيام من انطلاق العملية العسكرية وعلى لسان الناطق باسم الخارجية التركي السفير أونجو كشلي عبر حسابه على تويتر: “حذرنا من أن الهجمات الأخيرة على إدلب وصلت إلى مستوى يقوض روح وتنفيذ اتفاقات أستانا”، مع التأكيد على أهمية منع حدوث المزيد من الاضطرابات الكبيرة وحماية المدنيين بالنسبة لتركيا”.
رسائل هادئة نسبيًا باتجاه دمشق وموسكو وطهران، لكنها غير مقنعة لهذا التحالف الثلاثي الذي يحاول استيعاب الصدمة ومعرفة ما يجري من حوله.
ليس من حق أي طرف تجاهل أسباب الوصول إلى هذا القرار الاستراتيجي الذي كان ينتظره ويعول عليه الملايين من السوريين، والذي كانت أولى ترجماته توحيد صفوف قوى المعارضة السورية وإعلان ساعة الصفر على هذا النحو المفاجئ. هناك انسداد سياسي مزمن في المشهد السوري؛ النظام يناور للبقاء على كرسي الحكم، وتركيا تريد حسم ملفات اللجوء وأمن حدودها الجنوبية.
هناك متغيرات إقليمية متلاحقة كان آخرها تطورات المشهد في لبنان وقبول حزب الله التخلي عن ربط الجبهات وترك غزة وحيدة من جديد. وهناك تفاهمات إقليمية على تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة خصوصًا في لبنان وسوريا. وهناك عامل ترمب الذي يستعد للملف السوري. فكان لا بد لقوى المعارضة السورية أن تقول بعض ما عندها هي الأخرى بعد انتظار طويل.
لو لم يكشف لنا الإعلام الإيراني والمحسوب عليه عربيًا، إلى جانب بعض التحليلات السورية الصادرة عن أصوات مقربة من النظام في دمشق “هذه المعلومة”، لما كنا سنتعرف إلى وجود تنسيق إقليمي يتآمر على طهران في سوريا! خيبة الأمل التي تعيشها طهران والميليشيات المحسوبة عليها في سوريا أكبر بكثير من الحالة النفسية التي سيعاني منها من راهن عليها في دمشق.
المتبقي بيدها بعد التموضع العسكري لمجموعات حزب الله وانتقالها من سوريا إلى جنوبي لبنان هو الميليشيات القادمة من العراق، عديمة الخبرة، والتمسك بورقة وجود اصطفافات ضدها في الإقليم. مع أن موسكو هي التي تتجاهل ما يجري في شمالي سوريا حتى الآن، وهي التي استقبلت وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، قبل أسبوعين، إذ تسعى إسرائيل إلى دور روسي في منع تسليح حزب الله عبر الأراضي السورية، وإلى تعزيز التعاون مع روسيا والولايات المتحدة بهدف الحد من نفوذه هو وإيران في سوريا.
لقد اكتشفت إسرائيل مدى استعداد روسيا للتعاون، خصوصًا أن الوزير ديرمر غادر موسكو باتجاه واشنطن لنقل نتائج محادثاته مع الكرملين.
لا استغراب إذا ما قررت طهران بعد أيام التخلي عن مقولة المؤامرة الإقليمية ضدها والذهاب وراء استهداف حليفها السوري، الذي قد تحمله مسؤولية المشاركة في المؤامرة، بسبب تغاضيه عن الهجمات الإسرائيلية المتكررة ضد أهداف إيرانية في سوريا، والالتزام بالطلب الإسرائيلي قطع خطوط الإمداد عن حزب الله عبر سوريا، وخداعها بالرهان على قوته العسكرية على جبهتي حلب وسراقب.
عندما كانت عناصر حزب الله تروج لصور وفيديوهات تواجدها على مقربة من أبراج المراقبة التركية، في مناطق خفض التصعيد قبل سنوات، لم تكن طهران منزعجة من ذلك، ولم يسألها بعضهم عن طريقة وصول هذه العناصر اللبنانية إلى جبهات القتال بجانب النظام لمحاربة الثوار السوريين. بعد ذلك، وعندما تلقت طهران الضربات الموجعة في سوريا ولبنان، قررت عقد الصفقة مع تل أبيب عبر واشنطن في جنوبي لبنان من دون أن تسأل عن مصير شعار واستراتيجية توحيد الجبهات وقرار تخفيف الضغوطات عن غزة. لكن عندما تحركت قوات الثورة السورية للرد، تنبهت طهران فجأة إلى حجم “المخطط الإمبريالي الصهيوني” ضدها في سوريا!
التفاهمات الإقليمية الجديدة بشقها السوري تطرح بشكل مكثف بين أكثر من عاصمة ومركز قرار إقليمي. الجميع يريد أن ينتهي هذا الملف المكلف سياسياً وأمنياً على الإقليم. وإذا ما كانت المعلومات التي تناقش حول تغيير بنية حزب الله في لبنان، باتجاه تحويله إلى حزب سياسي لبناني من دون سلاح صحيحة، فهذا السيناريو قد يواكبه سيناريوهات إقليمية تناقش موضوع “هيئة تحرير الشام” وتغيير لباسها وشعاراتها وكثير من مواقفها وأيديولوجياتها، خصوصاً بعد دخولها غرفة العمليات العسكرية المشتركة للفصائل السورية.
فهل تصل الأمور بالنسبة للجانب الأميركي مع فريق ترمب باتجاه التحرك لدفع مجموعات “قسد” نحو تغيير جذري في المواقف والشعارات والمطالب التي ترددها، خصوصاً لناحية قطع علاقاتها بحزب العمال واستعدادها للتخلي عن شماعة “داعش”، وإعادة الجغرافيا التي سيطرت عليها إلى أصحابها الحقيقيين وتسليم آبار الطاقة وعن التحكم بمداخيلها؟
إذا ما تقدمت السيناريوهات بهذا الشكل على خط لبنان وسوريا، فهي قد تفتح الطريق أمام تحولات كبيرة في الملفين، وهو ما قد يرضي أكثر من لاعب محلي وإقليمي. موسكو قد لا تعترض إذا ما نفذ ترمب وعوده في عقد الصفقات معها. وأنقرة قد تقبل بحسم موضوع الإرهاب على حدودها الجنوبية بدعم روسي أميركي.
سيناريوهات من هذا النوع لن ترضي طهران حتماً، لأنها ستكون على حسابها، وهنا قد تفكر واشنطن وموسكو بترك التعامل مع هذه المعضلة للجانب الإسرائيلي. العقبة المتبقية هي بشار الأسد وكيف سيكون مستقبله السياسي أمام سيناريوهات بهذا الاتجاه؟ “ردع العدوان” قد تساعده في البحث عن إجابة.
——————–
المجال الحيوي للمقاتل وأخلاق «الجونزي»/ ماهر الوكاع
2024.11.30
نتابع جميعنا عملية «ردع العدوان» التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية وتقودها هيئة تحرير الشام، الفاعل الأساسي في المعركة. وما يثير الدهشة لدينا هو الانهيار السريع لخطوط النظام ومعه المليشيات الإيرانية التي تسيطر على المنطقة منذ ما يزيد عن أربع سنوات.
يحاول أي مراقب إسقاط هذه العملية على أي عمل عسكري سابق لفصائل المعارضة على مدى 13 عاما مضت، حين كانت تُرسم حدود أي معركة مسبقا. نتذكر عشرات المعارك التي كان تأثيرها قاتلا على النظام، ثم يتبعها انهيار مفاجئ للمعارضة لا تفسير له، ويربط في كل مرة بتفاهمات بين «القوى الدولية والإقليمية» المسيطرة على سوريا.
خلال الأيام الماضية، برزت تصريحات تركية تفيد بأن العملية هي رد فعل على اعتداءات النظام وتقع «ضمن اتفاق أستانا 2019». وبدأت استعادة الخرائط لفهم حدود المعركة، متى تتوقف، وعن ماذا ستسفر، وما هي «التوافقات» هذه المرة بين «القوى المسيطرة».
ما يميز هذه المعركة ويثير الاستغراب هو الانسحاب السريع لعناصر النظام. وإذا كانت هناك حالات تقهقر سابقة أعظم من هذه، فيمكن وصف الوضع الحالي بـ«التخلي».
تفيد مصادر ميدانية، استولت على هواتف ضباط وعناصر، بأن المحادثات بينهم تركز على فكرة الخيانة، ليس من السوريين، بل من روسيا وإيران وحزب الله، وأن المعركة «مبيوعة».
يقول العالم كونراد لورنز (Konrad Lorenz) إن العدوانية مرتبطة بعدة عوامل، منها الدفاع عن المجال الحيوي والبحث عن الغذاء والمكانة ضمن الجماعة والتزاوج.
كانت سوريا «مجالا حيويا» لكل السوريين. في بداية الثورة، كان أي مسلح مع أي طرف يتحرك ويقاتل على أي جبهة مدفوعا بزخم متراكم منذ الطفولة. رؤية تم غرسها تقول للمتسلط أو المتماهي معه: حدودك هي حدود البلاد. سمعنا هذا من قيادات النظام في البداية؛ «الأسد أو نحرق البلد» كانت تحدد المجال الحيوي لعناصر النظام بـ«البلد كله».
تغيرت هذه «البديهية» قبل التدخل الروسي بأشهر، وصار مجال المتسلط هو «سوريا المفيدة». ثم توسع بعد «الانتصارات» التي حققها النظام بدعم هائل من حلفائه. وتحدثت لونة الشبل قبل مقتلها عن إدلب كـ «مخفر متقدم» والمعركة الكبرى شرق الفرات، في استعادة نفسية وأيديولوجية للمجال الحيوي القديم.
بعد كل هذه السنوات، تغير بشكل كبير فهم كل سوري لـ«مجاله الحيوي»، بما في ذلك المقاتلون. صار من المستحيل على النظام إعادة تركيب خطاب «مقنع» يتحدث عن السيطرة الشاملة.
فقدان المركز لقوته وتفتتها بفعل الحرب الطويلة، التي لم تفضِ إلى انتصار حقيقي ومكاسب ملموسة، وزّع السيطرة على مراكز واضحة ماثلة في سوريا اليوم. هذا التوزيع السياسي والعسكري والاقتصادي تبعه بفعل الزمن توزيع نفسي، كان له الأثر الكبير على عناصر النظام اليوم. لماذا يقاتل ابن دير الزور، أو الحسكة أو درعا أو اللاذقية على حدود إدلب وحلب؟ ما هو المجال الحيوي له هناك؟ لم يكسب من توسع السيطرة سابقا شيئا يُذكر. لماذا يعيد الكرة؟ إذا لم تقُدْني المعركة إلى مدينتي أو قريتي أو لم أكن أدافع عنها، فما الجدوى؟
تفيد المصادر بأن حزب الله وزّع رسائل مشفرة على مقاتليه في سوريا تطلب منهم الاستعداد للعودة والقتال إلى جانب النظام قريبا لوقف تقدم المعارضة. وهنا أيضا يثار نفس السؤال: ما هو «المجال الحيوي» لمقاتل من «الحزب» في سوريا؟ معركته الأخيرة مع إسرائيل أثبتت أن الرهان على النظام لم يكن مثمرا كما توقعوا، وأن التهديدات الإسرائيلية بإغلاق ما سماه نتنياهو «محور فيلادلفيا الشمالي» مستمرة. قد يذعن النظام مجبرا بخيار البقاء مقدما على الأيديولوجيا.
على الطرف الآخر، هناك خطاب واحد واضح: «أريد منزلي». حتى الحديث عن إسقاط النظام أو الوصول إلى دمشق بات فاتراً. ما يثير الحماس هو رؤية الأطلال أكثر من أي أيديولوجيا. أرضي هي «مجالي الحيوي» وستبقى.
ما ينطبق على المقاتل يعمم على مجتمعه. كانت ظاهرة «التماهي مع المتسلط» في سوريا، إحدى ركائز النظام في تعبئة السوريين ضد بعضهم.
يصفها مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المقهور بـ«آلية دفاعية» يلجأ إليها الفرد في المجتمعات المتخلفة للتكيف مع واقعه. وهي عملية نفسية لا واعية يتقمص فيها الفرد شخصية الآخر، متخذا هويته وخصائصه كوسيلة للتعامل مع القلق والخوف. يتقمص المقهور شخصية المتسلط، معجبا به أو خائفا، بسبب الشعور بالدونية والضعف، ولرغبة في السلطة والنفوذ والخوف من العقاب. فيتبنى قيم المتسلط وسلوكه ويحاكي أسلوب حياته ويبرر أفعاله ويدافع عنه.
صورة المتسلط «بشار الأسد» اليوم مكسورة في أعين ومخيلة مؤيديه. والدليل على ذلك هتافات «بالروح بالدم» الخابية التي رددها عناصره في أثناء قتالهم. وحتى رؤوس «الإعلام الحربي» فقدوا آلية «التماهي»، ويمكن مشاهدة ذلك في فيديوهاتهم التي تتحدث عن معارك اليوم.
يثار أيضا على هامش العملية سؤال آخر عن المقاتل في جانب المعارضة وعن «الأيديولوجيا» وتوقيت المعركة، وهنا يستحضر أخلاق «الجونزي» الصيني.
في عام 638 ق.م، كانت قوات دوق سونغ تستعد لمواجهة جيش تشوو، الذي يفوقهم عددًا وقوة. في أثناء التحضيرات، علم دوق سونغ أن جيش عدوه يعبر نهرا قريبا، واقترح أحد قادة جيشه أن ينتهز الفرصة ويشن هجوما سريعا قبل أن يعبر جيش تشوو النهر بالكامل. رفض دوق سونغ هذه النصيحة بشدة بقوله: «الجونزي الذي يستحق اسمه لا يستغل محنة أعدائه». خسر جيش سونغ المعركة، وتخلت ممالك الصين عن هذه الأخلاق ودخلت في معارك دموية للتوحد لاحقا وتصبح ما نراه اليوم.
————————–
المعارضة السورية المتشددة: من نار السياسة إلى سياسة النار !/ هاني عضاضة
30.11.2024
عملية “ردع العدوان” التي شنتها فصائل المعارضة السورية المتشددة، شكلت نقطة تحوّل تاريخية، وأرجعت عقارب الزمن إلى اتفاقية سوتشي 2018 (المنطقة العازلة الأولى) بقوة النار، ثم تجاوزت حدود الاتفاقية وسيطرت على مدينة حلب، ما يمكن اعتباره، في حال عدم التصعيد من قبل روسيا، ضغطاً حقيقياً للمرة الأولى منذ سنوات على النظام من أجل تنفيذ القرار الدولي الرقم 2254 الصادر عام 2015 لفرض حلٍ سياسي شامل وإنهاء الصراع المسلّح.
بدأ هجوم قوات المعارضة السورية المتشددة في عملية واسعة أطلقت عليها تسمية “ردع العدوان”، وتحت راية “إدارة العمليات العسكرية المشتركة”، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. بررت قوى المعارضة المسلحة إطلاق العملية بتوجيه “ضربة استباقية” لقوات النظام السوري، وعلّلت تسميتها “ردع العدوان” بعد تعرّض مناطق سيطرة المعارضة لقصف مدفعي وجوي يومي عنيف من قبل قوات النظام والقوات الجوية الروسية لفترة أسابيع، على الرغم من أن التجهيز العسكري لعملية بهذا الحجم يتطلب سنوات.
تزامن انطلاق العملية التي تجاوز عدد القتلى من الطرفين فيها 300 شخص حتى الآن، مع بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، ما أثار شكوكاً عديدة، وخرجت إلى العلن عدة نظريات متناقضة حول أسباب الهجوم، وبدأت مجموعات ومواقع التواصل الاجتماعي بتناقل العديد من الإشاعات والمقاطع المفبركة حول المسألة. لكن هذه العملية سرعان ما تحوّلت من اختراقات لخطوط قوات النظام الدفاعية إلى سيلٍ جارف اجتاح عشرات البلدات والمواقع الاستراتيجية والمنشآت والنقاط العسكرية الهامة وصولاً إلى مدينة حلب، التي تحوز أهمية اقتصادية وسياسية كبيرة، في ظرف 48 ساعة. هذا التقدم الكبير والمفاجئ، إذا ما قمنا بحصر مرحلته الأولى ضمن نطاق بلدات المنطقة العازلة بحسب اتفاقية سوتشي، ثم مرحلته الثانية بمدينة حلب، يطرح تساؤلات عدة حول المرحلة، أو المراحل، المقبلة.
بروتوكول سوتشي 2018 و”ازدواجيّة” الإعلام
أثارت عملية “ردع العدوان”، خصوصاً في ساعاتها الأولى، الحديث حول اتفاقية سوتشي، التي عُقدت في سبتمبر/أيلول 2018 بين تركيا وروسيا، وتُعتبر إحدى نقاط التحول في الصراع السوري حيث مكّنت قسماً كبيراً من قوى المعارضة السورية من المحافظة على وجودها العسكري وإعادة التنظيم بدعم وتسليح تركيين، وبتقنيات حديثة وأسلحة نوعية ومتطوّرة.
نصّت الاتفاقية على إقامة منطقة عازلة تركية-روسية منزوعة السلاح حول محافظة إدلب، بهدف خفض التصعيد، وبعمق يصل إلى 20 كم للفصل بين المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة وتلك التي تسيطر عليها قوات النظام. تقريباً، تمتدُّ هذه المنطقة من مثلث حريتان-كفر حمزة-عندان في الشمال الغربي لريف حلب، مروراً بمثلث مورك-كفر زيتا-اللطامنة في ريف حماة الشمالي، وصولاً إلى المنطقة الواقعة بين غابات الفرنلق وكسب في ريف اللاذقية الشمالي.
بلغ عدد الخروقات لهذه الاتفاقية خلال الأشهر الستة الأولى فقط من إعلانها 4594 خرقاً، 4476 منها قامت به قوات النظام السوري، و84 خرقاً من قبل فصائل المعارضة المسلحة، و34 خرقاً روسياً، بحسب تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان في مارس/آذار 2019. فيما نفذت تركيا آنذاك سلسلة خروقات من نوعٍ آخر حيث قامت بإنشاء عدد من نقاط المراقبة غير المتفق عليها، وضمنت بقاء فصائل المعارضة المسلّحة ضمن المنطقة المعزولة قبل أن تسقط تدريجياً في قبضة قوات النظام.
منذ إعلان الاتفاقية، تصاعدت وتيرة الخروقات حتى صارت مجرد حبرٍ على ورق. قامت قوات النظام السوري، مدعومةً بالميليشيات الموالية لإيران والقوات الجوية الروسية، بالسيطرة على الجزء الأكبر من المنطقة المعزولة، ثم على عدد كبير من بلدات محافظة إدلب التي تتجاوز حدود تلك المنطقة، كما سيطرت على مدينة معرة النعمان ثاني أكبر مدن المحافظة في يناير/كانون الثاني 2020، ثم مدينة سراقب وبلدة كفرنبل في فبراير/شباط 2020. في المقابل، قامت قوات المعارضة بالسيطرة على الجزء الغربي من المنطقة المعزولة بدعمٍ تركي.
عملية “ردع العدوان” شكلت نقطة تحوّل تاريخية، وأرجعت في مرحلتها الأولى، بشكل أو بآخر، عقارب الزمن إلى الوراء إلى اتفاقية سوتشي 2018 (المنطقة العازلة الأولى) بقوة النار، وفي مرحلتها الثانية تجاوزت حدود الاتفاقية وسيطرت على مدينة حلب، ما يمكن اعتباره، في حال عدم التصعيد من قبل روسيا، ضغطاً حقيقياً للمرة الأولى منذ سنوات على النظام من أجل دفعه إلى تنفيذ القرار الدولي الرقم 2254 الصادر عام 2015 لفرض حلٍ سياسي شامل وإنهاء الصراع المسلّح وحقن دماء الآلاف.
كان واضحاً رفض النظام للتفاوض وعرقلته لكل مساعي الحل السياسي في كل مراحل وفصول الصراع السوري، قبل وبعد بروتوكول سوتشي. ولا يزال هذا الرفض قائماً حيث تُطلِق وسائل إعلام النظام تسمية “المجموعات الإرهابية” على كل فصائل المعارضة دون أي تمييزٍ بينها، بل حتى على “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا.
ويتشارك عدد من وسائل الإعلام اللبنانية هذا التوجه مع وسائل إعلام النظام، كقناة “الجديد” التي تحاول بسياستها الإعلامية الظهور بمظهر “الاعتدال”، وترفض ليل نهار صبغ حزب الله بصفة “الإرهاب” لأنه حزبٌ يُؤيده أكثر من ربع اللبنانيين ولديه نواب ووزراء من جهة، ويشكل قاعدته التنظيمية عددٌ كبير من أبناء الجنوب والبقاع من جهة أخرى.
سارعت هذه الوسائل الإعلامية لإطلاق صفة “الإرهاب” على آلاف السوريين الذين يقاتلون للعودة إلى مناطقهم، وقاموا حتى الآن بالسيطرة على مساحات واسعة جداً من الأرض في فترة قياسية لهذا السبب بالذات، إلى درجة أن مدينة حلب فتحت أبوابها لهم من دون مقاومة تذكر أو اشتباكات جديّة، وبدأ بعض أهلها يستقبلونهم بالحذر والترقبّ، قبل أن تفرض قوات المعارضة السورية حظراً مؤقتاً للتجول لحين إحكام السيطرة على المدينة.
نازحون مقاتلون
نتج عن هجمات النظام منذ عام 2019 موجات إضافية من النزوح باتجاه مدينة إدلب، التي أصبحت تعاني من كثافة سكانية تزيد أضعاف المرات عن قدرتها الاستيعابية، وتدهور كبير في الوضع الاقتصادي، وظروف حياتية قاسية، خاصة وأن مئات الآلاف من النازحين إليها يعيشون في الخيام التي لا تحميهم من المطر والبرد. يعيش في إدلب اليوم 5 مليون شخص، معظمهم من النازحين الذين قامت قوات النظام السوري أو تنظيم “داعش” (قبل سحقه) بتهجيرهم، وخاصة من مدينة حلب وريفها.
عشرات الآلاف ممن هُجِّروا من تلك المناطق يقاتلون الآن من أجل العودة. الدافع الأساسي لديهم، وما يجعلهم يقاتلون بشراسة منقطعة النظير، والسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي في فترة زمنية قياسية، هو العودة إلى أرضهم، إلى جانب الهرب من جحيم إدلب المكتظّة بالسكان والعاجزة اقتصادياً. ومع غياب العائق المتمثل بالغطاء الجوي الروسي لمصلحة قوات النظام في الساعات الأولى للعملية، أصبح حلم العودة بالنسبة لهم حقيقة ملموسة تشكّل وقوداً لما هو أكبر من إعادة الحدود إلى ما كانت عليه عام 2018، وربما أخطر على المدى البعيد، في ظل وضعٍ شديد الحساسية في منطقة الشرق الأوسط التي تغلي على صفيحٍ ساخن.
الأمر نفسه ينطبق على منطقة تل رفعت والبلدات والقرى المحيطة بها الواقعة تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (الأكراد)، والتي يمكن أن تُفتح جبهتها على مصراعيها في المرحلة التالية بعد السيطرة على مدينة حلب. إذ إن جزءاً كبيراً من أهالي تلك المناطق مهجّرون ويسكنون في مخيمات على الحدود السورية-التركية، ويبلغ عددهم حوالي 250 ألف نسمة، والآلاف منهم قد تجنّدوا في فيالق “الجيش الوطني السوري”، لكن مثل هذا الهجوم المضاد قد يتسبب بموجة نزوح مضادة تتكون من عشرات الآلاف من الأكراد باتجاه شرقي سوريا، خاصة وأن “الجيش السوري الوطني” هو الذراع السوري للقوات المسلحة التركية التي تقوم بتصفية حسابات قومية وأمنية مع الأكراد.
الفخ الطائفي وخطاب مكافحة “الإرهاب”
يشكّل أبناء المناطق المهجّرة بعد فشل اتفاقية سوتشي جزءاً كبيراً من مقاتلي فصائل المعارضة المسلحة المنضوية تحت “إدارة العمليات المشتركة” في عملية “ردع العدوان”. وفي الوقت نفسه، يتم التركيز في وسائل الإعلام الموالية للنظام على عددٍ من المقاتلين الأجانب المنخرطين في القتال مع بعض الفصائل الإسلامية السنية المتشدّدة، لتصوير الأمر وكأنه هجمة “إرهابية داعشية” ضد “المناطق الوطنية السورية”، مع أن قوات النظام تستعين بدورها بعدد كبيرٍ من المقاتلين الأجانب المتشدّدين مذهبياً في حربها “الوطنية” ضد أكثر من نصف الشعب السوري، وما لبث لواء فاطميون الأفغاني الموالي لإيران أن تمركز في ريف حلب في محاولة أولية لصد الهجوم الكاسح، كما بدأت فصائل وميليشيات عراقية بالاحتشاد والتهديد بدخول الأراضي السورية.
بهذه الطريقة نفسها تتعامل السلطات التركية مع أكراد شمال سوريا، حيث تطلق وصف “الإرهاب” على كل تنظيماتهم السياسية والعسكرية، وبالأخص حزب العمال الكردستاني ومتفرعاته. وبهذا الاستخفاف تتعامل أيضاً المعارضة السورية مع مدينتي نبل والزهراء ذات الأغلبية الشيعية في ريف حلب، إذ تقوم بتصوير البلدتين وكأنهما تشكّلان خطراً داهماً لمجرد وجود الميليشيات الموالية لإيران فيهما، رغم أن تجنّب الاحتكاك مع البلدتين وعدم فرض الحصار عليهما في حال السيطرة على محيطهما في ريف حلب الشمالي، أمرٌ ممكن، بل وأيضاً ضروري، تجنباً لجولةٍ جديدة من التوترات الطائفية التي من شأنها أن تُشعِل عدداً من المناطق في الشرق الأوسط، وتتسبّب بسفك دم الأبرياء من السنّة والشيعة الذين لا ناقة لهم ولا جمل، وتفادياً لاستغلال إيران لمثل هذه التوترات لتعميق انخراطها الفتاك في النسيج الاجتماعي من باب “الدفاع عن الوجود الشيعي”.
الخطر السابق نبه منه الديكتاتور العراقي السابق صدام حسين منذ حرب الخليج الأولى، ولم تأخذه الأنظمة القومية والمجتمعات العربية المنفتحة بعض الشيء آنذاك على محمل الجد. فلم تكن الميليشيات الموالية لإيران لتتمركز بكثافة في مدينتي نبل والزهراء لولا حصار كفريا والفوعة من قبل الفصائل السنية المتشدّدة، والذي انتهى باتفاق المدن الأربع القاضي بتهجير آلاف الشيعة من كفريا والفوعة مقابل تهجير الآلاف من السنّة من مدينتي مضايا والزبداني، اللتين حاصرتهما قوات النظام والميليشيات الموالية لإيران في الوقت عينه.
تفشّي نظريات المؤامرة والدور الروسي
بدأت نظريات المؤامرة بالتفشّي في اليوم الثاني على عملية “ردع العدوان”، خاصة في لبنان، حيث بدأ الربط التلقائي بين تزامن العملية في شمال سوريا مع إعلان وقف إطلاق النار (أو الهدنة الهشّة لمدة 60 يوماً) في لبنان، سواء من جهة وصفه بالقرار الإسرائيلي، أو من جهة إعلانه مرحلة من مراحل “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، تلك العبارة التي صارت تتردّد ببغائياً على لسان القاصي والداني، رغم أن القرار ببدء العملية تركي، مع “قبة باط” روسية واضحة لكن مؤقتة.
انسحبت الشرطة العسكرية الروسية من مطار منغ العسكري ومدينتي تل رفعت وحلب، ولم تتعرّض قوات المعارضة السورية لأي تهديدٍ جوي روسي جدي في أول 40 ساعة من العملية يمكن أن يؤخّر تقدمها أو يردعها، باستثناء غارة استهدفت مقراً لقوات “الجيش الوطني السوري” في مدينة مارع في ريف حلب الشمالي، وعدد قليل جداً من الغارات على مناطق في محافظة إدلب لم ينتج عنها ما يستحق الذكر. رغم أن الغارات الروسية قد تزايدت بشكل كبير في الساعات الأخيرة. كما أنه من الواضح أن القوات الروسية قد تفاجأت بحجم الهجوم وسرعته مما سيضطرها إلى البدء بالتدخل بشكل مباشر في مناطق معينة منعاً لتمدده باتجاه محافظة حماة.
هناك قرارٌ دولي مُجمَعٌ عليه شرقاً وغرباً بتحجيم النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عبر إنهاء الميليشيات الموالية، وقد بدأنا في لبنان بدفع الثمن الباهظ لهذا القرار، فبلدنا الذي ارتبط أمنه عضوياً بأمن حزب الله بعد عقودٍ من تراكم القوّة بيد الحزب، أصبح الآن مشرّعاً على كل الاحتمالات الخطيرة ومكشوفاً أمنياً، في الوقت الذي يستمر فيه الانهيار الاقتصادي والمالي والشلل السياسي بالتفاقم. لم يعد القرار بإضعاف نفوذ إيران أميركياً-أوروبياً بحتاً منذ سبتمبر/أيلول الماضي. ولم نعد نرى عبارة “الشرق الأوسط الجديد” تتردّد بوجه المتغيرات الدولية سوى في وسائل الإعلام الخادمة للأجندة الإيرانية فقط.
مع العلم أن العبارة نفسها كان من الممكن استخدامها بوجه الأجندة الإيرانية من قبل الملايين من السوريين قبل غيرهم، فتلك الأجندة، التي اختبرتها شعوب المنطقة على المستوى العملي الملموس، ثبت أنها تتضمّن إحداث تحولات ديموغرافية عميقة وإقامة كانتونات طائفية مغلقة. أي أن الأجندة الإيرانية تصبّ في قلب “مشروع الشرق الأوسط الجديد”.
لم يخرج هذا المشروع المزعوم بشكل حقيقي بعد عن إطار نظرية المؤامرة، رغم رصد بعض المؤشرات غير الجدية. ولا معنى للتلويح بمجابهة هذا المشروع القائم على الفتنة من موقعٍ فتنوي متماثل في الجوهر والمضمون، أو كلما تحرّكت المياه الراكدة تحت أقدام من يموتون برداً في خيام اللجوء ويطمحون للعودة إلى بلداتهم، أو كلما تعالت صرخات من يئنّون تحت سياط الفقر أو أحذية العسكر البعثي. لا معنى لنقد مشاريع تقسيم طائفية من قبل حمَلة مشروع تقسيم طائفي. مثل هذا النقد تقوم به حركاتٌ علمانية ديمقراطية، لا حركات دينية أصولية أو قومية مستبدة تعيش في أوهام الماضي على حساب الواقع في الحاضر والمستقبل.
حتى في المناطق التي تقبع تحت سيطرة النظام، تقلّصت حالة الاحتضان للميليشيات الموالية لإيران إلى أقصى حد، وقد تقاطع هذا المزاج الشعبي الرافض لتزايد النفوذ الإيراني في سوريا مع سياسة روسية ممنهجة تقوم على تقليصه تدريجياً. شهدنا بأم العين تقاطع المصلحة الإسرائيلية مع المصلحة الروسية في جنوب سوريا حيث بدأت قوات النظام، بإيعاز روسي، بالتضييق على الوجود الإيراني المسلّح. ثم تفاقم مفعول هذا التوجه الروسي بعد التفاهم الأخير بين روسيا وتركيا، الذي كان من المفترض أن يتجه نحو خفض التصعيد، لكنه في الواقع يؤكد أن روسيا لم تعد ترضى بتزايد النفوذ الإيراني العسكري ضمن الأراضي السورية من أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال، لدرجة الاستعداد لمقايضة بعض الأراضي الواقعة تحت حكم النظام عبر السماح للقوات المعارضة بالتقدم على حساب التواجد الإيراني، وبما يضمن تعزيز العلاقات التركية-الروسية بعد فترة من التدهور.
لكن في الوقت نفسه، وضع هذا التوجه الاستراتيجي النفوذ الروسي العسكري في موقعٍ حرج أيضاً، إذ إن قوات المعارضة المسلحة قد شعرت بتفوق كبير في الساعات الأولى من هجومها، وقد بدأت فصائل المعارضة في جنوب سوريا بإصدار بيانات التأييد والدعوة إلى التحرك بشكل أكبر ضد قوات النظام في عدد من المناطق، ما يعني أن الأمور آيلة إلى أن تخرج عن السيطرة بالنسبة للروس الذين راهنوا على تحجيم النفوذ الإيراني، بعد الانسحاب من الخطوط الأمامية للمواجهة وترك الميليشيات الموالية لإيران وقوات الأسد لتقاتل وتفرّ من المعارك من دون غطاء جوي حقيقي في وقت حاسم. وإذ بالروس يواجهون تحدياً جدياً وغير متوقع لنفوذهم، فالقوات التي كان ينبغي أن تقضم بلدات وقرى في ريف حلب لم تلبث أن طرقت أبواب مدينة حلب بقوةٍ هادرة.
مراحل “ردع العدوان”
يمكن تقسيم مراحل عملية “ردع العدوان” إلى مرحلتين حتى الآن. المرحلة الأولى اكتملت، وهي سيطرة قوات المعارضة على مناطق خفض التصعيد (اتفاقية سوتشي) التي اقتحمتها قوات النظام السوري منذ عام 2019، وهذه المرحلة قابلها صمتٌ سياسي دولي، وحظت بغطاءٍ تركي مع “تسهيلات” روسية، خاصة بعد فشل مفاوضات التطبيع بين النظام السوري وتركيا، واستمرار فشل جولات محادثات أستانة. وانتهت هذه المرحلة بعد وصول قوات المعارضة إلى غربي مدينة حلب حيث تمركز سلاح المدفعية وجرى التحضير للهجوم الأكبر.
أما المرحلة الثانية، فقد بدأت ملامحها بالتشكل بعد إحكام قوات المعارضة سيطرتها على الجزء الأكبر من مدينة حلب وانسحاب قوات النظام منها، ومن المتوقع أن يترافق معها هجوم من قبل فيالق “الجيش الوطني السوري”، بمشاركة محتملة من الجيش التركي، على مدينة تل رفعت والمناطق المحيطة بها التي لا تزال تقع تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”. وقد بدأ تحشيد القوات المقاتلة بالفعل على أطراف أعزاز ومارع وعفرين تحضيراً للهجوم. لكن اللافت هو أنه بالرغم من عدم وجود غطاء سياسي روسي معلن في منطقة تل رفعت، فإن انسحاب الشرطة العسكرية الروسية من تل رفعت وقاعدة منغ الجوية يشير إلى موافقة روسية مبدئية منذ 27 نوفمبر/تشرين الثاني على حصول الهجوم في الشمال.
وبعد اكتمال السيطرة على مدينة حلب، وهي الرئة الصناعية والتجارية للبلد كله، فإن سوريا برمتها ستتجه نحو أتون حربٍ جديدة طويلة الأمد، ومن الممكن أن تسقط كل الخطوط الحمراء التي يمكن أن تضعها السلطات التركية أو الروسية، ويبدأ خلطٌ جديد للأوراق. وبعد سقوط حلب بيد قوات المعارضة ستبدأ القوات الروسية بالمهاجمة بغارات جوية كثيفة، لأن الموس بدأ بالوصول إلى رقبة نظام الأسد وسيهدد قدرته على البقاء بشكل مباشر وستتخطى المسألة إضعاف الميليشيات الموالية لإيران.
وقبل ساعات أيضاً، أعلن “الجيش الوطني السوري” عن بدء عملية “فجر الحرية”، للسيطرة على ريف حلب الشرقي. ومن المحتمل أيضاً أن يبدأ هجوم مشترك من قبل “الجيش الوطني السوري” والجيش التركي على مدينة منبج الواقعة تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، في محاولة لوصل مناطق السيطرة التركية ببعضها بعضاً ومحاصرة كوباني (عين العرب) والمناطق المحيطة بها.
كل هذه التطورات العسكرية والسياسية في الشمال السوري تدل على وجود تخطيطٍ متقن واستغلال ماكر للحظة السياسية التاريخية المواتية من قبل قوى المعارضة السورية وتركيا، وهي ترتبط بشكل وثيق بتعرض حزب الله لضربات قاسية من جيش الاحتلال الإسرائيلي، لكنها لا ترتبط بقرار إسرائيلي ولا حتى أميركي، بل تركي وموافقة روسية، كما أنها ترتبط بتصاعد السخط الشعبي والعشائري ضد تواجد الميليشيات الموالية لإيران في منطقة البوكمال الاستراتيجية على الحدود السورية-العراقية، وبتفاقم المناخ الشعبي الانفصالي في محافظتي درعا والسويداء، وبإرادة الانتداب الروسي الذي ضاق ذرعاً بتزايد النفوذ الإيراني في سوريا لدرجة المخاطرة بنفوذه بالذات عبر السماح لقوات المعارضة بالتوغل داخل مساحات جغرافية واسعة من دون أي ردة فعلٍ أولية، بالإضافة إلى ترهل نظام الأسد تحت الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية، واستمرار السياسات الاستبدادية والاعتقالات العشوائية والتجنيد القسري، وضبابية السياسات الخارجية للنظام التي تبدو كالسير في حقلٍ من الألغام شديدة الانفجار.
درج
——————————————
كيف سيكون مستقبل سوريا في ظل المتغيرات الحالية؟/ زكي الدروبي
2024.11.30
يشهد العالم تغيرات جيوسياسية متسارعة تؤثر على الشرق الأوسط، وعلى سوريا بشكل مباشر، فبعد وصول إدارة أميركية جديدة معادية لإيران، والتي سبقها حرب مازالت مستمرة منذ عام ونيف على أذرعها، وقبلها الانفتاح العربي على نظام الأسد لإبعاد إيران عن سوريا، تطرح تساؤلات عديدة حول مستقبل سوريا في ظل المتغيرات الحالية.
التحالفات الدولية الإقليمية:
شهد العالم صعود أدوار جديدة لبعض القوى الإقليمية، وتحالفات تكتيكية لا يمكن أن ترقى لتكون تحالفات استراتيجية، بين بعض دول المنطقة وبين دول كبرى، مثل التحالف الإيراني الروسي، والعلاقات الروسية/الصينية مع السعودية.
فبعد ضغوط الإدارة الديمقراطية الراحلة على السعودية، سعت المملكة إلى تنويع علاقاتها مع دول العالم المختلفة، فوقعت اتفاقيات مع الصين للتعاون في المجال الاقتصادي والدفاعي والتكنولوجي، ثم توسطت الصين بين إيران والسعودية، وأعيدت العلاقات الدبلوماسية بينهما بعد سنوات من القطيعة والتوترات. لم تكن العلاقات بين المملكة والصين وليدة اليوم، بل لها تاريخ طويل، لكن الجديد في العلاقة بينهما في الأربع سنوات الماضية من عمر الإدارة الديمقراطية، بعدها العسكري.
وفي الحرب الروسية الأوكرانية، اتخذت السعودية موقفا ديبلوماسيا متوازنا منها، فدعت إلى الحوار والحلول الديبلوماسية السلمية لإنهاء النزاع، مع تأكيدها على أهمية احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وقامت بتقديم مساعدات إنسانية لدعم الشعب الأوكراني.
وعندما قصفت إسرائيل إيران دانت الخارجية السعودية في بيان “الاستهداف العسكري” الإسرائيلي الذي تعرضت له إيران، وقالت إنه “يعد انتهاكا لسيادة إيران، ومخالفة للقوانين والأعراف الدولية”، أي أن السعودية لم تجعل نفسها طرفا بالصراع بين إسرائيل وإيران، ونفس الشيء بالنسبة للحوثي، فقد رفضت المشاركة في حلف “حارس الازدهار” الذي شكلته أميركا لحماية حركة التجارة في البحر الأحمر من الهجمات التي تشنها جماعة الحوثي من اليمن.
كما أعلن وزير الخارجية السعودي خلال اجتماع وزاري في نيويورك (سبتمبر 2024)، عن إطلاق تحالف دولي لدعم إقامة الدولة الفلسطينية، وتنفيذ حل الدولتين واستضافت المملكة العربية السعودية عدة اجتماعات عربية وإسلامية وأوروبية لمناقشة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وتعزيز التعاون الدولي لإيجاد حل دائم ومستدام للقضية الفلسطينية.
استشعرت الإدارة الأميركية الخطر من هذا الحراك الديبلوماسي، والتحالفات التي بدأت تنسجها السعودية، وحاولت أن تلتف عليه بتقديم المغريات، وتغيير خطابها، فنسجت مع دول الخليج مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي أُعلن عنه خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي في أيلول/سبتمبر 2023 للالتفاف على مشروع الحزام والطريق الصيني.
فهل هي علاقات مؤقتة نكاية بالحزب الديمقراطي، أم تأسيس سعودي لتنوع في شراكاتها مع الدول الأخرى، وتحقيق استقلالية أكبر في سياساتها الخارجية، هذا ما سوف يتبين خلال السنوات القليلة القادمة مع الإدارة الجمهورية القادمة لحكم أميركا.
تستمر إيران وروسيا بالدخول إلى العمق الأفريقي عبر السودان، وإثيوبيا، في شرقي أفريقيا، ومن ثم ليبيا، ومن ثم دول وسط أفريقيا (مالي، بوركينا فاسو والنيجر) بعد أن طردت النفوذ الفرنسي والأميركي منها، وصولا إلى الساحل الغربي والتحالف الإيراني مع جبهة البوليساريو الناشطة في الصحراء الغربية في المغرب العربي.
الدعم الإيراني الذي قدم إلى روسيا في حربها على أوكرانيا، ونشاطها في أفريقيا، وتجاوز حدودها في التخادم مع إسرائيل، جعل الدول الأوروبية التي كانت تقف بجانبها ضد قرار ترمب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في أيار/مايو 2018 تغير موقفها، وأسهمت في إصدار قرار عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ينتقد إيران بسبب عدم تعاونها الكافي مع الوكالة فيما يتعلق ببرنامجها النووي.
الانعكاس على الإقليم وسوريا:
كل هذا الحراك الدولي والتنافس الدولي، وخسارة إيران للدعم الأوروبي، واستنزاف مقدراتها في محاولة توسيع نفوذها بالخارج على حساب تقوية الداخل، سهل على القوى المعادية لها الوصول إلى العمق، وتنفيذ ضربات مؤلمة لها، بالإضافة إلى زيادة الاحتقان الداخلي، وتدهور الاقتصاد، مما سيدفعها إلى التفاوض مع أميركا، والعودة إلى داخل حدودها، والمحافظة على نظامها كأولوية قصوى لها، ثم محاولة الحفاظ ما أمكن على ما تبقى من أذرعها بالخارج، وهذا ما نراه في الاتفاقية التي قبل بتنفيذها حزب الله بعد حرب شرسة شنها نتنياهو عليه، مخافة القضاء النهائي على الحزب.
الضغوط الأميركية الاقتصادية المتوقعة على إيران، واستمرار استهداف مصادر تمويل ميليشياتها، وحصارها، خصوصا ميليشيا حزب الله، سينعكس على اقتصاد نظام الأسد بشكل أكبر، فالشبكات الاقتصادية التي أنشأتها إيران وميليشياتها، ورجال الأعمال الذين خلقتهم لدعم نشاطها ووجودها، وخطوط التهريب التي تؤمن للنظام بعض احتياجاته، سواء أكانت منتجات، أو دولارا، سيضعفون بشكل كبير، وسيتأثر النظام بهذا الضعف، لكن الانعكاس الأكبر سيكون على المواطنين الضعفاء، وستزداد النقمة على النظام.
من جهتها، تحاول تركيا الحفاظ على مصالحها وأمنها القومي – حسب وجهة نظر نظامها – ولن تتخلى بالتأكيد عن مكاسبها في الشمال السوري، وتضغط للحصول على ضمانات عند حدودها الجنوبية، وترسل إشارات متناقضة، فتارة تعلن الرغبة بالمصالحة مع نظام الأسد، وتؤكد أنها لا تريد تغييره أو اقتطاع جزء من أراضيه كما صرح وزير الخارجية التركي “فيدان” منذ أيام، وتارة أخرى تهاجم النظام وتهدده.
كذلك يستمر العرب في تقاربهم مع نظام الأسد، لمواجهة النفوذ الإيراني بسوريا، وتقليص التوترات في المنطقة، ومن أجل هذا يضغطون على النظام لحل القضية السورية وفق قرارات الأمم المتحدة، ولإيقاف تهريب المخدرات، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وإيجاد بيئة مناسبة لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، لكن النظام لا يستجيب لمطالبهم.
المسعى التركي/العربي لمنافسة النفوذ الإيراني بسوريا، وملء الفراغ المتوقع إن انسحبت إيران من سوريا، بسبب الضغوط الإسرائيلية الحالية، والضغوط الأميركية المتوقعة مستقبلا مع إدارة ترمب، يلقى ممانعة إيرانية/روسية/أسدية، ولا يتوقع في المدى المنظور أن يحصل هذا الانسحاب الإيراني، فوجودها في سوريا استراتيجي، ولا يمكن أن تتنازل عنه في المدى المنظور، لكنها تحاول التكيف مع الضغوط عبر تغييرات تكتيكية، وإعادة انتشار لقواتها، كما رأينا في الاستهداف الإسرائيلي لموقع إيراني في تدمر، وهو خارج المألوف، فلم يعرف أن لإيران وجودا معروفا في تدمر.
هل يمكن توقع المستقبل؟
بالتأكيد يمكن أن نستشرف، ونضع سيناريوهات مختلفة، لكننا لا نستطيع التوقع بشكل مطلق، وقد يحصل أحد السيناريوهات المتوقعة، أو يحصل سيناريو آخر مختلف خارج عن السياق والمتوقع، لهذا فإن درجة التعقيد في الملف السوري، والتدخلات الإقليمية والدولية، تجعل من العسير التنبؤ بالمستقبل، لكن يمكن أن نضع مؤشرات يمكن البناء عليها، فالضغوط على إيران تدفعها إلى تقليص وجودها، وسينعكس هذا ضعفا على نظام الأسد، وغرق روسيا في الملف الأوكراني، يؤدي إلى نفس النتيجة، لكن قد يتم التوصل في عهد ترمب إلى اتفاقية نووية مع إيران، وقد يستطيع ترمب إيقاف الحرب الأوكرانية الروسية، وبالتالي ستخف التوترات، بالإضافة لتأثير الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعالم، وبهذه الدول المتدخلة بسوريا، على إمكانية استمرار هذه الدول في دعم النظام، وبالتالي يمكن الوصول إلى حلول للملف السوري، ويمكن أن يحدث العكس، وتتعقد الأمور بشكل أكبر.
في جميع السيناريوهات، نحن خارج اللعبة بأيدينا، وقد تنتهي بتحقيق مصالح الجميع على حساب الشعب السوري، وتضحياته، وهذا يتطلب من القوى السورية الوطنية الديمقراطية أن تتعلم من تجاربها، وتبتعد عن تكرار أخطائها، والارتهان للقوى الإقليمية والدولية المختلفة، وأن تنتظم في تحالفات سياسية تجمع بين السوريين، وتوحد كلمتهم على أساس برامج سياسية وطنية ديمقراطية، يستبعد منها من فشل، وكان سببا من أسباب دمار الثورة، كما في حالة بعض القوى التي استثمرت في ما قبل الحالة الوطنية (الدين والمذهب والقومية)، وهذا لا يعتبر إقصاء أو شقا للصف كما قد تروج هذه القوى من أجل المحافظة على مصالحها، بل هو تنظيف للثورة من العلقات التي مصت دمها، وإبعاد الفاشلين عن قيادتها كما في أي نظام ديمقراطي طبيعي.
تلفزيون سوريا
——————————–
سوريا: تعديل موازين القوى لفرض تسوية؟
29 تشرين الثاني 2024
رأي القدس
تحت مسمى «معركة ردع العدوان» فتحت فصائل معارضة سورية، أمس الخميس، جبهة محور عمليات جديد شرقي محافظة إدلب في شمال البلاد، وذلك بعد أن فاجأت النظام وميليشيات مساندة له، خلال اليومين الماضيين، بهجوم ناجح غربي محافظة حلب.
ردّت القوات الروسية الحليفة للنظام بغارات على ريفي حلب وإدلب، كما قامت، مع قوات النظام، بقصف مدفعي وصاروخي، وأدى الهجومان الى استيلاء فصائل المعارضة على عشرات القرى والبلدات، والاقتراب من مدينتي حلب، التي استرجعها النظام عام 2016، وسراقب التي خسرتها المعارضة عام 2019، فيما أكدت مصادر معارضة تمكنها من قطع الطريقين الدوليين الواصلين بين دمشق وحلب واللاذقية.
يسجّل ما حصل تطوّرا مهما على الأحداث التي بدأت عام 2011 بقمع نظام بشار الأسد للمظاهرات السلمية مما أدى إلى انشقاقات داخل الجيش وظهور فصائل مسلّحة وتدخلات إقليمية ودولية كبيرة وحروب أوقعت أكثر من نصف مليون قتيل، وانقسمت البلاد خلالها إلى أربعة أقسام مختلفة تشتبك فيها وتتقاطع قوى أمريكا وروسيا وإيران وتركيا (مع بروز دور جديد لإسرائيل مع دخولها على الحدود الجنوبية مؤخرا).
تسيطر قوات النظام وحليفتاها روسيا وإيران على ثلثي البلاد، فيما تسيطر قوات يهيمن عليها حزب العمال الكردستاني التركي على ربع البلاد، وتدعمها قوات أمريكية، كما تسيطر قوات موالية لتركيا على شريط حدودي ومنطقة حدودية منفصلة، فيما تسيطر «هيئة تحرير الشام» وهي منظمة سلفية مسلحة، على نحو نصف محافظة إدلب وأجزاء من محافظات حلب وحماه واللاذقية، وهناك هوامش تنشط أحيانا لتنظيم «الدولة الإسلامية» في البادية السورية.
يمثّل هجوم الفصائل الأخير أول تغيير يحدث على موازين القوى في شمال البلاد، تحاول فيه استعادة حدود ما يسمى بـ«منطقة خفض التصعيد» التي اتفقت عليها روسيا وإيران وتركيا في 2019، والتي تعدّلت بعد هجمات لروسيا والنظام، بمشاركة من «حزب الله» وميليشيات مدعومة من إيران، عام 2020، وهو ما اعتبرته تركيا انتهاكا للاتفاق.
يمكن اعتبار الهجوم الأخير، ضمن هذا السياق، عملية لتحريك المفاوضات حول ذلك الخلاف، ويجيء بعد مبادرات قام بها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لتسوية مع النظام السوري، الذي رفض المبادرة، وكذلك فعل حليفاه الروسي والإيراني، كما يأتي بعد اتفاق الهدنة بين إسرائيل و«حزب الله» المشغول حاليا بإعادة تنظيم نفسه، مع بروز أولوية ترتيب أوراقه العسكرية والسياسية داخل لبنان، الذي تعيد فيه القوى السياسية تموضعها بناء على المستجدات، ولانتخاب رئيس جديد.
تجري تحرّكات المعارضة السورية في اتجاه يبدو مناسبا لتركيا، وهي تحرّكات تأخذ في الاعتبار أيضا التوتر الملحوظ بين إيران، و«حزب الله» من جهة، والنظام السوري، من جهة أخرى، كما تأخذ في الاعتبار التراجع الملموس في القوتين الروسية، بسبب حرب أوكرانيا، والإيرانية، بسبب الصراع الطويل مع أمريكا وأوروبا كما بسبب النزاعات المشتعلة في المنطقة، والأغلب أن هذه التحرّكات تدخل في حسبانها الاحتمالات العديدة التي يحملها مجيء دونالد ترامب إلى رئاسة أمريكا مجددا.
تمثّل هذه المحاولة الجديدة لتعديل خرائط النفوذ تفصيلا في المشهد التراجيدي السوري الذي يمثّل درسا سياسيا هائلا لنتائج قرار نظام اعتبر البلاد ملكا عائليا، ورفض أي شكل من أشكال التغيير، ذاهبا في قمعه لشعبه مذاهب التوحّش الأقصى، وصولا إلى استخدام السلاح الكيميائي، ومفضّلا التبعيّة الخارجية على التنازل لسكان سوريا، مما فتح البلاد أمام التدخّلات الخارجية، وصعود التيارات الطائفية المسلّحة فتحوّل من دولة فاقدة للسيادة إلى عصابة متورّطة في القتل الجماعي يقوم اقتصادها على صنع المخدرات وتهريبها وبيع أصول البلاد والعباد.
قد يكون الهجوم، بغض النظر عن سياقه، بادرة لفك الحلقة المغلقة وفتح آفاق تسوية، وإعادة تنبيه العالم إلى «الثقب الأسود» السوري، والذي ساهم، بالتأكيد، في دخول العرب هذه المرحلة المظلمة التي تبدو فيها إسرائيل القوة الناشئة العظمى في المنطقة.
————————————
أردوغان يفتح “معركة حلب”… لماذا الآن؟/ إبراهيم حميدي
ما مواقف الأطراف السورية والخارجية
آخر تحديث 29 نوفمبر 2024
شنت “هيئة تحرير الشام” وفصائل مسلحة، مدعومة من تركيا، هجوما مفاجئا شمال غربي سوريا وصولا إلى قلب مدينة حلب ثاني أكبر مدينة في البلاد، ذلك في أول تغيير لخطوط التماس بين “الدويلات الثلاث” في البلاد منذ نحو خمس سنوات. جاء هذا غداة بدء تنفيذ وقف النار في لبنان وتقديم إيران و “حزب الله” تنازلات في نص الاتفاق.
ويبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أراد قبل وصول الرئيس دونالد ترمب، الإفادة من ضعف إيران و”حزب الله” في سوريا وانشغال روسيا في حرب أوكرانيا، لفرض وقائع جديدة كما فعل سابقا في ناغورنو كارباخ وليبيا.
وقال معارضون ان الاعداد للمعركة استمر بضعة أشهر، وشارك فيها حوالى 50 الف عنصر (هناك 80 الف عنصر احتياط) مدربين ويملكون سلاحا متطورا واستولوا على سلاح اضافي من مواقع عسكرية للجيش السوري غرب حلب، بينهما في “الفوج 46” وغيرها، قبل التوغل في ثاني أكبر مدينة سورية.
لماذا فتحت أنقرة هذه المعركة؟ ما مواقف الأطراف السورية والقوى الخارجية؟
1- “ثلاث دويلات”: منذ اتفاق الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين لتثبيت هدنة إدلب في مارس/آذار 2020 بعد أشهر على اتفاقات مشابهة بين أميركا وتركيا وروسيا لرسم الخطوط شرق الفرات، أصبحت سوريا (185 ألف كلم مربع) مقسمة عمليا إلى ثلاث مناطق نفوذ: واحدة تشكل حوالي 65 في المئة وتسيطر عليها الحكومة بدعم روسي وإيراني. ثانية، تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركا وتبلغ حوالي 25 في المئة من سوريا. والثالثة، تقع شمالي سوريا وشمالها الغربي، وتسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” وفصائل تدعمها تركيا.
وقد حصلت مناوشات وغارات، لكن خطوط التماس بقيت ثابتة بين “الدويلات الثلاث”.
2- الدور التركي: أنقرة تقدم الدعم لفصائل سورية و”هيئة تحرير الشام” عسكريا واستخباراتيا، كما أن هناك جنودا من تركيا ونقاطا عسكرية وآليات وبنية تحتية تركية موجودة في الجيوب الجغرافية شمالي البلاد. وهذه العملية التي سميت “ردع العدوان”، لا يمكن أن تتم دون موافقة أنقرة.
ويقول مطلعون على موقف أنقرة، إن أردوغان أراد من دعم العملية العسكرية الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد الذي رفض لقاءه قبل إعلان التزام انسحاب الجيش التركي من سوريا، وتطويق “قسد” والإفادة من الضعف الإيراني وتراجع “حزب الله”. ويشيرون إلى أن أردوغان يريد تحسين موقفه التفاوضي قبل وصول ترمب، مشبهين ما يحصل حاليا بدعم حكومة طرابلس في ليبيا وأذربيجان في إقليم ناغورني كارباخ.
وكان أردوغان قد أنجز صفقة مع بوتين في نهاية 2016 سمحت لقوات الحكومة السورية باستعادة أحياء شرق حلب مقابل تقطيع تركيا أوصال كيان كردي شمالي سوريا. ومذاك، أصبحت حلب تحت سيطرة قوات دمشق.
وقالت الخارجية التركية الجمعة إن الاشتباكات “أدت إلى تصعيد غير مرغوب فيه للتوتر في المنطقة”، مشيرة إلى أن أنقرة حذرت من أن الهجمات الأخيرة على إدلب، وهي منطقة تسيطر عليها المعارضة، تقوض روح اتفاقيات خفض التصعيد وتعرقل تنفيذها.
3- روسيا: تأخر الجيش الروسي في شن غارات على مواقع “هيئة تحرير الشام” والفصائل. واعتبر المتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الجمعة أن الوضع في حلب “انتهاك لسيادة سوريا”. وأعرب عن دعم بلاده “للحكومة السورية في استعادة النظام بالمنطقة وإعادة النظام الدستوري”.
يتأرجح تفسير التأخر الروسي، بين رغبة بوتين ربما في الضغط على الأسد لقبول لقاء أردوغان، أو أن روسيا مشغولة في حرب أوكرانيا وأنها سحبت كثيرا من قوات “فاغنر” إلى حربها الأساسية في خاصرتها المجاورة. وهناك توقعات في دمشق، بأن يبدأ الطيران الروسي، السبت، بشن غارات مكثفة.
4- إيران: هجوم “هيئة تحرير الشام” والفصائل اقتحم مقرات لميليشيات وتنظيمات إيرانية في ريف حلب الغربي، وقتل ضابط كبير من “الحرس الثوري”.
يأتي الهجوم على حلب، وسط قناعة بأن الرئيس الأسد قرر الابتعاد جزئيا عن إيران وكان واضحا أنه اتخذ موقفا محايدا من حرب غزة والحرب بين إسرائيل و”حزب الله”، وبين تل أبيب وطهران. وشدّد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في بيان له “على دعم إيران المستمر لحكومة سوريا وأمتها وجيشها في كفاحها ضد الإرهاب”، بعد اتصال هاتفي أجراه مع نظيره السوري بسام الصباغ. وكان عراقجي قد اعتبر أن التطورات الميدانية في سوريا “مخطط أميركي صهيوني لإرباك الأمن والاستقرار في المنطقة عقب إخفاقات وهزائم (إسرائيل) أمام المقاومة”.
وقد تحدثت أنباء عن نية تنظيمات عراقية وإيرانية بالإعداد للتوجه إلى ريف حلب لصد هجوم الفصائل و”هيئة تحرير الشام”. وقد تأخذ طهران من “معركة حلب”، مدخلا لتأكيد أهمية وجودها العسكري في سوريا.
5- إسرائيل: إسرائيل قصفت مواقع إيران و”حزب الله” في ريف إدلب يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني، في أول قصف من نوعه منذ بدء النزاع في سوريا. وكانت شنت مئات الغارات على مواقع ايران و “حزب الله” في جميع انحاء سوريا في السنوات الاخيرة. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد اتفاق وقف النار مع لبنان: “على الأسد ان يعرف انه يلعب بالنار”. وتطالب تل اببيب دمشق بوقف مرور السلاح الى “حزب الله”.
6- دمشق: وصلت تعزيزات من الجيش السوري إلى مدينة حلب. وتحدث البعض عن حوالى 50 الف عنصر. ويقول موالون لدمشق إن الجيش سيتخذ من الهجوم على حلب مبررا كي يشن هجوما واسعا بدعم جوي لاستعادة المدينة والتقدم في عمق مناطق معارضة شمال غربي سوريا. ويرى مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان” رامي عبد الرحمن، أن الجيش السوري لم يكن مستعدا أبدا لهذا الهجوم. وأعرب عن استغرابه للضربات الكبيرة التي يتلقاها الجيش السوري على الرغم من الغطاء الجوي الروسي. وتساءل: “هل كانوا يعتمدون على (حزب الله) المنهمك حاليا في لبنان؟”.
وظهرت تساؤلات كبيرة في دمشق عن أسباب عدم قتال قوات الحكومة دفاعا عن حلب. وقال موالون انه “اشبه بتسليم ثاني اكبر مدينة في البلاد”.
7- “قسد”: أعرب مسؤولون في “قوات سوريا الديمقراطية” عن قلقهم من عودة ترمب الذي كان قد سحب بعض قواته من مناطقهم نهاية 2019، ما أدى إلى توغل قوات موالية لتركيا. ويتخوفون من تكرار السيناريو ذاته بين ترمب وأردوغان. وظهرت بوادر انسحاب من حي الشبهاء والشيخ مقصود، الموالين لـ “قسد”، في قلب حلب. كما تداولت أنباء عن تقدمهم في منطقتي نبل والزهراء اللتين تضمان ميليشيات إيرانية.
لم تصدر مواقف واضحة من قيادة “قسد” التي تدين بالعداء لـ”هيئة تحرير الشام” وتركيا، علما أن الفصائل طوقت مناطق تحت سيطرة “قسد” في ريف حلب وسط قلق الأخيرة من عمليات تركية عسكرية في شرق الفرات.
لاشك ان هجوم الفصائل كان مباغتا في توقيته وسرعة وصولها الى حلب وتراجع قوات الحكومة السورية، ولاشك ان دمشق ستسعى مع موسكو وطهران لاستعادة ثاني أكبر مدينة سورية وان الكلفة البشرية ستكون هائلة.
هل تعود “خطوط التماس” الى ما كانت عليه قبل 28 نوفمبر عبر تثبت هدنة بوتين-أردوغان؟ أم سوريا اما واقع عسكري جديد بحكم التطورات الأقليمية والدولية؟
————————————-
تفكيك عقدة الأسد أو نحرق البلد/ محمود الوهب
2024.11.29
منذ أن أُعلن عن العملية العسكرية الجارية الآن في ريف حلب الغربي، وريف إدلب الشرقي، المسماة بـ: “ردع العدوان” التي قامت بها فصائل من “الجيش الوطني” بالإضافة إلى “هيئة تحرير الشام” في اليومين الفائتين الأربعاء، والخميس 27 و28 من تشرين الثاني/أكتوبر 2024 وحرّرت نحو أكثر من ثلاثين قرية من ريف حلب الغربي حتى الآن، وربما زادت، وأسئلة السوريين لا تتوقف ما هي القصة؟ وهل ثمة اتفاق بين الدول الكبرى المعنية بالشأن السوري؟ وتتالى الأسئلة من المهتمين بالشأن العام، والمتابعين له، ومن الناس العاديين، وعلى نحو خاص من المتأذين في الخيام والمشردين في أنحاء الكرة الأرضية من الذين أُكرهوا على ترك وطنهم الذي أُغرق بالدم والخراب.. وتترادف الأسئلة وتأتلف، ما الذي يحدث؟ وما هي الغايات؟ وهل سنعود إلى بيوتنا، وننعم بالأمن والسلام؟ وتجيء الأسئلة حذرة بعد أن قيل ما قيل في بعض الأشخاص التابعين لهذا الفصيل أو ذاك.
أعتقد بأنّ هاتين الآيتين “42 و43” من سورة طه في القرآن الكريم: “اذهَبَا إِلَىٰ فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَىٰ”، فَقُولَا لَهُ قَولاً لَّيِّنا لعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَىٰ..” تحلان عقدة التساؤل الحائر التي ارتسمت على ألسنة الأغلبية الساحقة من السوريين.
أنا أعرف تماماً أن فرعون أكبر بكثير من ذلك الذي جاء إلى القصر الجمهوري بعد أن صغَّر أبوه سورية والسوريين كافة، ليظهر فرعوناً، وهو الذي أتى بغفلة من سوء أفعال حزب البعث، بعد هزيمة شنيعة أمام العدو الإسرائيلي، هو وحزبه مسؤولان عنها.. وإذا كان الأب قد امتهن كرامة السوريين وصغَّرهم أمام آلة القمع التي امتلكها وأطلقها ضدَّهم! فالولد مكَّن للإيرانيين، وظلَّ يرفض أيَّ حلّ سياسي حتى بعد أن شكَّل ما يسمى بـ”خلية الأزمة” التي استمعت إلى عيِّنات من الشعب السوري في النصف الأول من العام 2012 عمَّا ارتكب من فظائع بحقهم، وأقرت اللجنة أن مطالبهم عادلة وصحيحة.. ولكن لا أحد يعرف ما جرى بعد ذلك! فقد كان الإيرانيون الأسبق من أي حلٍ، إذ عملوا على تفجير تلك الخلية، بمساعدة تاجر المخدرات ماهر الأسد، وهكذا قادا سوريا إلى ما آلت إليه..
في ذلك الوقت مرَّ الحلُّ الأمني الذي دمَّرها وشرَّد أهلها، وأخذ يتحدَّث عن التجانس، مضمراً الطائفية البغيضة.. وبعد سنوات أي في 30 أيلول/سبتمبر عام 2015 استعان بالروس فأجهز الروس على ما تبقى من المدن السورية وخاصة حلب.. وعلى الرغم من أن بوتين في إحدى زياراته، إلى قاعدة حميميم في سورية أمسك بيد بشار وقاده إلى قاعة اجتمع فيها عدد كبير من الضباط الروس أشار إليهم وهو يقول له: هؤلاء الذين حققوا النصر.. بمعنى أنت مدين لهؤلاء في بقائك، بعدئذ أخذ يتغنى بـ “النصر” والأدق بخراب سورية.
ثمَّ وبعد أن مكَّن له الروس في عمليات خفض التصعيد، وفي لقاءات سوتشي وأستانا، ازداد انتفاخاً، ولم يعد يرى السوريين غير هؤلاء المتبقين، والمرعوبين من بقايا جيشه ومخابراته رغم حالة البؤس التي يعيشونها! انتفخ أكثر فأكثر حتى إنه رفض اللقاء بالرئيس التركي الذي أراد أمرين أولهما حماية حدود بلاده وأمنه القومي وإعادة أربعة ملايين لاجئ إلى بلادهم آمنين! أبى واستكبر كما في الآيتين الكريمتين أعلاه، على الرغم من أن الدعوة التركية تكررت وبلطف أيضاً، كما مرَّ أعلاه “فَقُولَا لَهُ قَولاً لَّيِّنا لعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَىٰ” لكنه في الحقيقة ليس كبيراً! ولا يفهم لغة القوة ولا لغة السياسية، وكأنه لم ير ما حلَّ بحزب الله، ولا بمعظم فصائل المقاومة المرتهنة وأن الإيرانيين لا مكان لهم في بلادنا، ولا في منطقتنا، وأن السوريين قادرون أن يدافعوا عن شرف سوريا الوطنيِّ، وأن سورية أكبر من آل الأسد ومن الطوائف كلها، وأن ذلك الشعار الطائفي البغيض، قد أحرق بالفعل سورية، ولكن من ناحية أخرى ما يجري الآن هو خطوة جادة لاستعادة سورية دولة موحدة لكل مواطنيها.. دولة تسير نحو التنمية والازدهار.. وسوف ينال كل من ارتكب جرائم بحقها جزاءه العادل.. وها هي ذي فصائل المقاومة، تقوم بفعلها الوطني، على قاعدة من لا يفهم بالعقل يفهم بغيره.. وأن المنطق السليم يقول في الشعار البغيض الذي رفعه أتباع بشار الأسد، إنه فقد معناه بعد أن تدمر البلد وما عليه إلا أن يتنازل عن السلطة ويحاسب وأتباعه على ما اقترفته أيديهم!
——————————–
عمليات قسد العسكرية رسالة أميركية أم إثبات وجود؟/ فراس رضوان أوغلو
2024.11.29
في وقت تلوح فيه تهدئة وانتهاء الحرب الإسرائيلية وأخذ الأنفاس في المنطقة التي سيُبنى عليها ترتيبات جديدة، يسعى كل طرف إلى كسب أكبر قدر ممكن من المكاسب القادمة، فما بعد حرب غزة ليس كما قبلها، ويبدو أن الجميع يريد أن يستبق الأحداث مع رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب الذي ينتهج سياسة المقايضة والتي مارسها في فترته الرئاسية السابقة، وعلى الأرجح أنه سوف يستخدمها بعد توليه زمام أمور الرئاسة في واشنطن.
طبعاً من بين هذه الأطراف تنظيم “قسد”، والذي سعى منذ زمن ليس بقليل إلى ضرب الاستقرار في الشمال السوري، ضارباً عدة عصافير في أي عملية يقوم بها (تنظيم يقدم خدماته للجميع).
وفي الآونة الأخيرة شهد الشمال السوري زيادة في المناوشات بين كل الأطراف، وآخرها الهجوم المزدوج الذي جرى على مدينة الباب ضد الجيش الوطني المدعوم من قبل تركيا، في ظل أحاديث ترددت مؤخراً عن استعدادات تركية لملء الفراغ الذي قد يسببه انسحاب القوات الأميركية من سوريا، وأن أنقرة قادرة على القيام بعملية عسكرية ضد “قسد” في أي وقت يسمح لها ذلك، مستفيدة من الأوضاع المتشابكة في المنطقة، مستبقة وصول الرئيس ترمب إلى سدة الحكم في الرئاسة.
ويمكن اعتبار الهجوم الأخير الذي قامت به “قسد” بأنه يأتي في سياق استباق أي تحرك عسكري ضدها، وأنها جاهزة عسكرياً، بل إنها تعطي رسالة مفادها أنها تراقب التحركات العسكرية والسياسية عن كثب.
لكن في نفس الوقت، هذا العمل يفتح أبواباً كثيرة للتساؤل عن مقدار الاختراق من قبل “قسد” ونجاح سياسة التسلل حتى في الداخل التركي، ويطرح أيضاً تساؤلاً آخر عن مدى الفوضى الأمنية التي تضرب الشمال السوري والتي انعكست في فشل فصائل “الجيش الوطني” مراراً في حماية مناطق سيطرتها من هجمات مماثلة، فضلاً عن السيارات المفخخة التي تدخل هذه المناطق بين وقت وآخر ويؤدي انفجارها في المدن الرئيسية في شمالي سوريا إلى مقتل مدنيين.
للأسف، تمتد نقاط التماس بين الطرفين على مساحات واسعة في ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي غرب نهر الفرات، والتي تشهد بين وقت وآخر عمليات تسلل من قبل “قسد” لا تهدف فقط إلى قتل وإصابة عناصر من فصائل المعارضة السورية المتواجدة في تلك النقاط، بل إلى زرع الخوف والتردد في تلك الفصائل وإظهار نفسها على أنها قوة عسكرية لا يمكن الاستغناء عنها سواء للأميركيين أو غيرهم.
فضلاً عن الأجندة الانفصالية لـ”قسد” ومحاولاتها إنشاء منطقة ذات حكم ذاتي، إلا أنها تبقي الأبواب مفتوحة مع روسيا والنظام السوري، ربما تخوفاً من الشريك الأميركي الذي يبدو أنه يريد نوعاً من الاستقرار في المنطقة لأهداف اقتصادية، وربما هذا الاستقرار يأتي على حساب “قسد” نفسها.
لذلك قد تقدم نفسها كأداة يمكن استثمارها من قبل روسيا لمنع تركيا من التقدم عسكرياً، أو كأداة يستفيد منها الأميركيون ضد روسيا وإيران والتنظيمات الإسلامية المتشددة، وبهذا يكون المكسب متعدد الجوانب، علاوة على إفشال الجهود التركية في ترسيخ طريقتها في إنهاء الصراع في الشمال على حساب “قسد”.
إسرائيل، اللاعب الآخذ بالتمدد في المنطقة، قد يدخل في دعم فكرة “قسد” بالحكم الذاتي، فهذه الورقة يمكن اعتبارها الأقسى على تركيا. فالمسألة الكردية ليست بهذه البساطة أو الصغر، بل إنها قادرة على تفتيت أربع دول. فتركيا التي تحارب حزب العمال الكردستاني على مدار أربعين سنة لم تستطع أن تقضي عليه، وحتى الآن ما زال الحزب قادراً على تنفيذ عملياته في الداخل التركي، وإن كانت بصعوبة. والخلاف التركي الإسرائيلي الأخير واحتضان تركيا لقيادات من حماس لن تسكت عنه إسرائيل، وخاصة أن الرئيس القادم حليف قوي لها، وربما سيكون لها دور في إقناعه بعدم الانسحاب من سوريا في حال أراد ذلك. وهذه الحسابات لا أظنها خافية على صناع القرار السياسي والعسكري في “قسد”، ولعل الأنباء عن إسقاط “قسد” لمسيرتين مسلحتين أطلقتهما القوات التركية باتجاه قرية مرعناز التابعة لناحية شرا بريف عفرين شمالي حلب، قبل الوصول إلى أهدافهما، رسالة حملتها “قسد” من قبل الأميركيين بأن هناك ما زالت خطوط حمراء لتركيا من قبل واشنطن.
أخيراً، ورغم كل هذا التوتر العسكري بين “قسد” وقوات الجيش الوطني للمعارضة السورية، إلا أن الطرفين يحتفظان بعلاقة ذات طبيعة اقتصادية، إذ يرتبطان بعدة معابر تجارية، لعل أبرزها معبر الحمران الذي تدخل من خلاله المحروقات من مناطق سيطرة “قسد” إلى شمالي وشمال غربي سوريا، بل حتى نحو دمشق. وبهذا، “قسد” ترسل رسالة اقتصادية وليس فقط عسكرية للأطراف الغربية تحديداً بأنها قادرة على التعامل الاقتصادي والسياسي وحتى العسكري في سوريا، وأنها قادرة على إثبات نفسها رغم كل التعقيدات في الملفين السوري والشرق الأوسط.
تلفزيون سوريا
————————–
شوط إضافي للأسد/ عبد القادر المنلا
2024.11.29
ليست المرة الأولى التي يُمنح فيها الأسد شوطاً إضافياً في مونديال السياسة، رغم أدائه المهترئ وارتكابه كل الأخطاء التي تستوجب ليس فقط طرده من ذلك الملعب ومنعه من الاقتراب منه، بل ومحاسبته أيضاً.
ورغم الجرائم التي أغرق من خلالها أرض الملعب بالدماء، فإن حكم الساحة لم يطلق صافرة النهاية بعد، ولم يتحرك حكام التماس لرفع أية راية اعتراض على عمليات التسلل المتكررة والواضحة التي يرتكبها فريق الأسد على الهواء مباشرة في اللعبة الدموية المفتوحة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً.
ينتظر السوريون، ومعهم أحرار العالم، لحظة العدالة التي تأخرت كثيراً إلى درجة أوحت بأن جرائم الأسد قد طوتها التطورات المتلاحقة في المشهد السياسي العالمي. فقد استطاع الأسد حتى الآن ليس فقط الإفلات من العقاب، بل أيضاً تحويل جرائمه إلى فضائل، بحكم فساد المنظومة الدولية وتراخي الضمير العالمي وتواطئه، وتركيزه على المصالح البحتة بعيداً عن الواجب الأخلاقي والإنساني.
في الواقع، ليست هذه المرة الأولى التي يفلت فيها الأسد من العقاب. فبعد أقل من خمس سنوات على اغتصابه السلطة في سوريا، تعرض الوارث لأول محنة كادت تعصف بوجوده، وذلك بعد مشاركته في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شباط 2005. دفع الأسد بدل العقاب من خلال استجابته لمطلب أميركا حينها بالخروج ذليلاً من لبنان، وكان ذلك بمنزلة عربون عمالة وقعه الأسد على بياض، ليثبت للأميركان جاهزيته لتنفيذ الأوامر ومرونته في الاستجابة لأي مطلب أميركي يبقيه في السلطة. رغم أنه تجاهل مظاهرات اللبنانيين حينها، التي استمرت لفترة طويلة مطالبة بخروج “الاحتلال السوري”. لكن الأسد لا يفهم سوى لغة القوة، ولو أنه استجاب لمطالب اللبنانيين حينها، لكان ذلك نقطة بيضاء في ملفه الأسود. لكنه لا يقدم أي تنازل للشعب مهما كان محقاً، في حين لا يتردد في تقديم كل التنازلات للقوى المؤثرة مهما كانت ثقيلة وموجعة.
أفلت الأسد أيضاً من العقاب مرة أخرى حين بدأ بقمع المظاهرات وقتل السوريين. وأفلت مرة ثالثة بعد المجازر الجماعية المروعة التي ارتكبها في بانياس والحولة وغيرهما من المناطق الثائرة. أفلت أيضاً من العقاب بعد استخدامه البراميل المتفجرة التي استفزت العالم حينها، بحكم بشاعة أداة الجريمة وحجمها وطريقة تنفيذها، وكذلك جريمة قتل المعتقلين تحت التعذيب، التي تم إثباتها من خلال وثائق قيصر، فضلاً عن مئات الجرائم الأخرى التي تكفي واحدة منها لجره إلى المحاكم الدولية.
وربما كان الإفلات من العقاب بعد جريمة استخدام السلاح الكيماوي هو أقسى صفعة تلقتها الإنسانية، لا سيما حين تراجعت أميركا “أوباما” عن وعيدها رغم إعلانها عن نوع العقوبة فيما لو تم ارتكاب تلك الجريمة. وذلك رغم اعتراف الأسد بجريمته من خلال القبول بتسليم السلاح الكيماوي، تماماً كما اعترف بجريمة اغتيال الحريري من خلال موافقته على الخروج من لبنان بسبب اتهامه بارتكاب تلك الجريمة.
أفلت الأسد من العقاب فيما يتعلق بكل جرائم الحرب التي ارتكبها، وأفلت أيضاً من العقاب الجنائي فيما يتعلق بتجارة المخدرات وتصنيع وتهريب الكبتاغون. بل وراح يعلن النصر على أوروبا وأميركا، وعلى شعبه، رغم كل الدمار الذي حدث في سوريا، باعتباره الناجي الوحيد من طوفان الربيع العربي الذي أغرق كل زملائه الطغاة، سواء سلماً (كما حدث في تونس ومصر)، أو حرباً (كما حدث في ليبيا واليمن). وخرج الأسد سالماً بحكم الدعم الذي تلقاه من قبل من استثمروه كعميل شديد الوفاء.
ظن الأسد أنه لاعب مميز يستطيع أن يخدع العالم، وأن يرضي القوى الدولية والإقليمية بالاستجابة الذليلة لكل مطالبهم. ذلك الذل كان البضاعة الوحيدة التي تاجر بها، وكانت بضاعة رائجة في زمن تخلت فيه القوى الكبرى عن القيم والمبادئ، حتى في حدودها الدنيا.
في ضوء التطورات الدراماتيكية والخطيرة التي شهدتها المنطقة، وتحديداً بعد اندلاع الحرب بين إسرائيل وحزب الله، ومقتل كثير من قيادات الحزب بمن فيهم الأمين العام حسن نصر الله ذاته، حوصر الأسد بقوتين لا يقدر على مواجهة إحداهما ولا الهروب منهما. أولاهما الضيف الثقيل الذي استدعاه منذ العام 2011 وطلب مساعدته في قتال السوريين، وهو حزب الله وإيران. وثانيهما إسرائيل.
ربما شكلت الأشهر الأخيرة التهديد الحقيقي للأسد. فهو هنا لا يواجه الشعب السوري، ولا يواجه خصماً ضعيفاً، ولا يمكنه التلاعب مع خصم مزعوم (إسرائيل) يعرف الأسد جيداً أنه لا يحتمل اللعب معه، ولا مع حليف سابق (إيران)، ذلك الحليف الذي تحول إلى مصدر أساسي للخطر، وإلى تهديد يقبع في قصر الرئيس نفسه بحكم سلطته الواسعة ومعرفته بتفاصيل ذلك القصر.
في هذه الفترة، عاد السوريون للحديث بلغة اليقين عن حتمية سقوط الأسد، ولم يكن ذلك الحديث مجرد أمنيات أو أحلام، بل كان مؤسساً على كل تلك الوقائع التي تكفي كل واحدة منها لتكون سبباً لذلك السقوط. فضلاً عن انكشاف الأسد أمام أتباعه بعد تخليه عن حليفيه الأساسيين “حزب الله” و”إيران”، وتخليه عن القضية الفلسطينية التي تعيّش عليها سنوات طوال، وحتى قضية الجولان التي أصبحت مجرد ذكرى عقائدية، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أوصلت سوريي الداخل إلى مشارف الانفجار، بمن فيهم حاضنته التي شهدت تململاً غير مسبوق في الفترة الأخيرة، فضلاً عن الثورة المستمرة في محافظة السويداء التي يتظاهر أهلها منذ أكثر من عام. أسباب لا حصر لها أعادت فكرة رحيل الأسد إلى الواجهة.
وفي الواقع، فإن المباراة السياسية التي دخلها بشار الأسد قسراً وبالقوة كلاعب ضعيف تم فرضه في ميدان السياسة بقوة الوساطة من دون أي مؤهلات خاصة، قد انتهت منذ العام 2011. وبعد اندلاع الاحتجاجات في سوريا، كانت صرخات المحتجين ومطالبتهم بإسقاط الأسد ونظامه بمنزلة صافرة الحكم الأخيرة التي أعلنت نهاية لعبة التوريث فعلياً. إذ لم يكن نظام بشار الأسد لاعباً أساسياً في السياسة الدولية والإقليمية، ولا حتى لاعب احتياط. فقد انتهى فعلياً الدور السياسي لسوريا بمجرد دخول عملية التوريث حيز التنفيذ، لأن كل ما حرص عليه الأسد الابن وحاشيته وأجهزته الأمنية بعد استلامه الحكم في سوريا هو حماية عملية التوريث غير الدستورية وغير الشرعية. ولأن الأسد الابن كان يعي ذلك تماماً، ويعي أن وجوده تجاوز كبير، فقد حدد هدفه منذ استلامه بالحرص على حماية ذلك التجاوز وذلك الاختراق الدستوري وحماية وجوده غير الشرعي. حدد لنفسه تلك المهمة الوحيدة التي لم يفعل شيئاً غيرها خلال أربع وعشرين عاماً من اغتصاب السلطة.
ومن وقتها لا يزال الأسد يلعب في الوقت المستقطع الذي فرضته القوى الداعمة له، وبالتحديد روسيا وإيران، واستطاع أن يمدد الوقت المستقطع لسنوات طويلة، وراح يتابع اللعبة الدموية وهو يقف على أرجل مستعارة، محتفظاً بمخالبه لاستخدامها ضد السوريين فقط.
الخطر الوحيد الذي كاد أن يحكم حبل المشنقة على رقبة الأسد تمثل في الاشتعال الأخير في لهيب المنطقة، والذي خاف الأسد من تطاير شرره إلى داخل قصره. غير أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم توقيعه بالأمس بين إسرائيل وحزب الله أثلج صدر الأسد، ليس تعاطفاً مع الضحايا ورغبة في تجنيب اللبنانيين المزيد من الدماء، بل لأن هدوء المنطقة سيعطي الأسد فرصة جديدة للإفلات من أي خطر طائش قد يودي به. ورغم تهديدات نتنياهو للأسد عقب إعلان الهدنة، إلا أن ذلك التهديد لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجدية، ولا يمكن أن يتم تجاهله في وقت واحد. وربما يمنح الأسد فرصة شوط إضافي جديد قد يكون الفصل النهائي في اللعبة المعقدة، فهل سيبقى الأسد قادراً على تمديد اللعب في الوقت المستقطع؟
منذ أيام، قامت محكمة العدل الدولية في لاهاي بإدانة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بجرائم ضد الإنسانية، وطالبت بالقبض عليه في حال سفره إلى أية دولة أوروبية. وأعلنت تلك الدول استعدادها لتنفيذ ذلك القرار والالتزام به، في خطوة أثارت استغراب السوريين، فقد قام الغرب أخيراً بخطوة شديدة الأهمية على طريق العدالة من خلال إدانة نتنياهو، الصديق المقرب للغرب. فكيف فشل الغرب حتى الآن في اتخاذ قرار بإدانة مجرم حرب آخر هو بشار الأسد، رغم حجم جرائمه الذي لا يقل عن ارتكابات نتنياهو، إذا لم نقل إنه أكثر؟ وهل ستكون نهاية الأسد كمجرم حرب على يد مجرم حرب آخر إن كان نتنياهو جدياً في تهديداته؟
تلفزيون سوريا
————————
“ردع العدوان”… معركة ضمن حدود تفاهمات أستانة أم أبعد من ذلك؟/ محمد حسان
29.11.2024
تستمر الاشتباكات العسكرية بين فصائل المعارضة المتشددة بقيادة “إدارة العمليات العسكرية” وقوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية المساندة لها لليوم الثالث على التوالي ضمن عملية “ردع العدوان” ووصلت الاشتباكات إلى ريف محافظة إدلب الشرقي وريف محافظة حلب الغربي، والسيطرة على تلة خان طومان ذات الموقع الاستراتيجيّ، إلى حد الوصول إلى مشارف مدينة حلب.
تستمر الاشتباكات العسكرية بين فصائل المعارضة المتشددة بقيادة “إدارة العمليات العسكرية” وقوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية المساندة لها لليوم الثالث على التوالي، على جبهات ريف محافظة إدلب الشرقي وريف محافظة حلب الغربي، والسيطرة على تلة خان طومان ذات الموقع الاستراتيجيّ، إلى حد الوصول إلى مشارف مدينة حلب.
العملية التي انطلقت صباح يوم الأربعاء 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، جاءت تحت مسمى عملية “ردع العدوان”، كرّد على هجمات النظام وحلفائه التي تستهدف مناطق سيطرة المعارضة المتشددة، والتي ازدادت خلال الأشهر الأخيرة، بخاصة الهجمات بالطائرات الانتحارية، كما أعلن “أبو زبير الشامي” الناطق باسم “إدارة العمليات العسكرية”.
تفاصيل الهجوم
مع الساعات الأولى لفجر يوم الأربعاء 27 تشرين الثاني، شّن مقاتلو فصائل إدارة العمليات العسكرية في شمال غربي سوريا، هجوماً برياً واسع النطاق، استهدف خطوط الدفاع الأولى لقوات النظام والميليشيات الإيرانية في ريفَي إدلب الشرقي وحلب الغربي.
الهجوم بدأ بتمهيد ناري كثيف لفصائل “إدارة العمليات العسكرية”، التي تشكل غرفة “عمليات الفتح المبين” المناطة بها إدارة مناطق سيطرة “حكومة الإنقاذ”، وتعتبر “هيئة تحرير الشام” و”الجبهة الوطنية للتحرير” و “جيش العزة” أكبر فصائلها، إضافة الى مشاركة حركة نور الدين الزنكي وفصائل تابعة للجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا.
تقدُّم الفصائل المسلحة المتشددة جاء عبر محورَين لحظة انطلاق المعركة، المحور الأول في ريف إدلب الشرقي، انطلاقاً من بلدتي كفر عمة وكفر تعال، باتجاه مناطق أورم الكبرى والصغرى والشيخ علي. أما المحور الثاني فانطلق في ريف حلب الغربي من جهة الشيخ سليمان والفوج 111 باتجاه بلدتي قبتان الجبل والشيخ عقيل، وخان طومان.
وعلى رغم حشدها تعزيزات كثيرة خلال الأشهر الأخيرة على جبهات التماس في إدلب وحلب، إلا أن قوات النظام السوري انهارت بشكل كبير خلال الساعات الأولى للهجوم، إذ تمكنت فصائل المعارضة السورية المتشددة حتى الآن من السيطرة على مساحة تقدّر بـ 220 كم مربع في المناطق المستهدفة، إضافة الى قطع الطريق الدولي M5 من جهة بلدة الزربة وخان العسل.
تعتبر مدن أورم الكبرى، عنجارة، كفرناها، قبتان الجبل، خان العسل، الزربة، وجزء من سراقب، أهم البلدات والمدن التي سيطرت عليها المعارضة السورية، فيما يعتبر الفوج 46 ومدرسة الكيمياء على أطراف سراقب أهم نقطتين عسكريتين سيطرت عليها القوات المهاجمة.
مع استمرار الهجوم العسكري وانهيار قوات النظام، باتت فصائل إدارة العمليات العسكرية داخل ريف حلب الجنوبي على أطراف العيس وأيضاً خان طومان، التي تعتبر أهم القواعد العسكرية للنظام والميليشيات الإيرانية في ريف حلب وعلى بعد أقل من 3 كم من المدينة.
التكتيك العسكري للمعركة
على رغم وجود فصائل مختلفة عسكرياً وعقائدياً ضمن العملية، إلا أن لمسات “هيئة تحرير الشام” وأسلوبها العسكري كانا واضحين، وهذا لا يعود فقط الى أنها أقوى الفصائل المشاركة بل كونها العمود الأساسي للعملية العسكرية.
الهجوم جاء في بعض جوانبه كلاسيكياً ضمن المعتاد، مثل الهجوم فجراً مع ساعات الصباح الأولى، إضافة الى التمهيد المدفعي والصاروخي المكثف على خطوط الدفاع الأولى للنظام، وأيضاً استخدام عمليات التسلل خلف خطوط العدو.
إلا أن الهجوم حمل في جوانب أخرى تطوراً مهماً في القدرات العسكرية للفصائل المعارضة السورية في الشمال غرب سوريا، وهو استخدام الناقلات المدرعة للجنود بكثرة، وهي في غالبيتها مدرعات صُنِّعت وطُوِّرت محلياً، ما ساهم في نقل الجنود بطريقة آمنة، ودخول المناطق التي توجد فيها قوات النظام والميليشيات الموالية لها بكل سهولة، وبالتالي خفّف من الخسائر البشرية في صفوف قوات الاقتحام التابعة لإدارة العمليات العسكرية.
التطور العسكري الثاني لقوات المعارضة المتشدّدة، الذي كشفه الهجوم، هو توافر وتطور آليات القتال الليلي لدى تلك الفصائل، بما فيها معدات الرؤية الليلة والقناصات الحرارية لدى المقاتلين، ما ساهم في استغلال الفترات الليلية للتقدم ورصد تحركات النظام والتعامل معها، وهذا ما يفسر كم المدن والبلدات والقرى التي سقطت خلال أقل من 72 ساعة من الهجوم.
أما أهم التطورات في التكتيك العسكري، التي كشفتها هذه المعركة، هو سلاح الطائرات المسيرة الانتحارية منها أو الخاصة بتصوير أرض المعركة ونقاط تمركز النظام، إذ أطلقت الفصائل ثلاثة أنواع من الطائرات خلال المعركة، أولها الطائرات المسيرة المجنحة الانتحارية، التي تستخدم للمرة الأولى، والتي ضربت نقاط النظام في اليوم الأول للهجوم، وثانيها طائرات مسيرة تحمل قنابل ومتفجرات، وتظهر الفيديوات العشرات منها، استهدفت عناصر النظام وآلياته، أما ثالثها فهو طائرات الاستطلاع والتصوير التي مسحت أرض المعركة للقوات المتقدّمة.
تطور سلاح المسيرات لدى فصائل المعارضة السورية كان له دور بارز في العملية، لكن حتى اللحظة لا يوجد أي تأكيد حول ما إذا كانت هذه الطائرات هي صناعة محلية أم تم الحصول عليها من عمليات شراء أو دعم من جهة ما.
لكن، على رغم تطور القدرات الهجومية لقوات المعارضة السورية ودخول أساليب عسكرية جديدة ضمن المعركة، إلا أن تقدمها الكبير لا يعود الى هذه التكتيكات أو التطور العسكري فقط، إنما الى حدوث خرق عسكري ضمن جبهات ريف حلب الغربية، ساهم في كسر خطوط الدفاع عبر عملية تسلل فاجأت قوات النظام السوري وأربكتها، ما سمح للقوات المهاجمة بالدخول خلف الخطين الأول والثاني الدفاعية، حيث أرسلت الفصائل قرابة الـ1500 مقاتل عبر هذا الخرق، وهذا يفسر سبب تقدم المعارضة بريف حلب الغربي بسرعة، مقابل تقدم بطيء لها في ريف إدلب الشرقي.
خسائر على الطرفين
أعلنت “إدارة العمليات العسكرية ” ليلة أمس الخميس، أن عدد قتلى قوات النظام السوري وصل إلى أكثر من 200 عنصر، إضافة إلى مئات الجرحى وأكثر من 50 أسيراً، نُقلوا إلى مناطق آمنة بعيداً من الاشتباكات.
كما تظهر المقاطع الواردة من أرض المعركة سيطرة فصائل المعارضة السورية على العشرات من الدبابات والمدرعات ومضادات الطائرات من عيار 14,5 و23، ومستودعات أسلحة وذخائر، بينها صواريخ مضادة للمدرعات من نوع كورنيت وكونكورس.
من جانب آخر، أعلنت وسائل إعلام إيرانية مقتل العميد في الحرس الثوري الإيراني کیومرث پورهاشمی (الحاج هاشم) أثناء المعارك الدائرة في ريف حلب الغربي ضمن عملية “ردع العدوان”.
إدارة العمليات العسكرية لم تعلن خلال بياناتها عن عدد القتلى في صفوفها خلال الهجوم، لكن المنطقة شهدت حالات تشييع كثيرة لقتلى قيل إنهم سقطوا نتيجة المعارك في ريفَي حلب وإدلب ضد قوات النظام.
الدفاع المدني السوري أعلن من جانبه، عن مقتل 16 مدنياً بينهم 5 أطفال وامرأتان، وجرح 5 مدنيين بينهم طفلان، يوم الخميس 28 تشرين الثاني، نتيجة قصف طائرات النظام وروسيا مدينة الأتارب في ريف حلب ومناطق متفرّقة من محافظة إدلب.
حدود المعركة وموقف الأطراف
لا يمكن التكهّن حتى الآن بكيفية سير العملية العسكرية ولا حدود المعركة، لكن سيطرة فصائل المعارضة على كل تلك المساحات سيشكّل خرائط جديدة لتوزّع السيطرة في سوريا، بعدما حافظت على توزّعها القديم منذ عام 2020 ضمن خمس مناطق نفوذ رئيسية، 63 في المئة منها بيد النظام بدعم إيراني- روسي، مناطق “قسد” المدعومة أميركياً، مناطق الجيش الوطني المدعوم تركياً، إدلب وريفها المسيطَر عليها من “هيئة تحرير الشام” وحكومة الإنقاذ، ومنطقة التنف، التي يديرها جيش سوريا الجديد بدعم أميركي.
يعتقد البعض أن المعركة مرسومة الحدود، وهذه الحدود تتوقف على استعادة الأراضي التي خسرتها المعارضة ضمن مناطق خفض التصعيد التي اتفقت عليها روسيا وإيران وتركيا في عام 2019، فيما يرى البعض أن العملية مفتوحة ولن تتوقف إلا في حالة وصول الفصائل إلى عجز عسكري يمنعها من التقدم أكثر.
ماجد عبدالنور، صحافي وناشط سوري مقيم في شمال سوريا، قال لـ”درج”: “إن العملية لم تكن لها أهداف محددة سوى الرد على عدوان النظام المستمر على المناطق المحررة، لكن بعد انهيار قوات النظام وحدوث خرق في بعض المناطق، فإن العمل سيستمر حتى تصل الفصائل إلى مرحلة العجز عن التقدم أكثر، حتى لو ساهم هذا التقدم في السيطرة على حلب أو حتى ما بعدها”.
وأضاف عبدالنور: “أن وصول القوات المهاجمة إلى M5 واستمرار التقدم إلى ما بعده وعدم توقف المعركة، سيعني أن المعركة تتجاوز حدود اتفاق خفض التصعيد، لتنطلق إلى إعادة السيطرة على المناطق التي خسرتها المعارضة بموجب اتفاق أستانة 2016، مثل مورك ومعرة النعمان وكفر نبل وغيرها”.
وأشار عبدالنور إلى “أن حالة الانهيار السريع في قوات النظام والميليشيات الموالية لها، فتحت الباب أمام “إدارة العمليات العسكرية”، حيث الحديث عن أن التقدم سيستمر من دون توقف طالما أن النظام ينهار، والعامل الوحيد لتوقف المعركة الهجومية هو العجز العسكري عن إحراز أي تقدم جديد”.
غياب أهداف معلنة للعملية العسكرية أو حدودها، لم يمنع تأييد أطراف عدة لها، في مقدمها تركيا، إذ نقلت وكالة “رويترز” عن مصادر أمنية تركية، قولها “إن عملية المعارضة السورية باتجاه حلب وريف إدلب تقع ضمن حدود مناطق خفض التصعيد التي تم التوافق عليها بين روسيا إيران وتركيا عام 2019، وإن هدف المعركة هو العودة إلى تلك الحدود”.
دعم تركيا العملية رغم كونه غير مباشر، تهدف من خلاله إلى أمرين، الأول الضغط على النظام السوري، الذي رفض مبادرات التطبيع التي طرحتها أنقرة خلال العام الماضي، ودعوات أردوغان المتكررة لبشار الأسد، إضافة الى تهديد وجود إيران الاستراتيجي في مناطق ريف إدلب وريف حلب، بسبب ضغط إيران على النظام لرفض التطبيع مع تركيا، وهذا بدا جلياً من خلال الاستهداف المتكرر من ميليشياتها لمناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا، وما يحمله من إحراج لتركيا كونها الضامن لها.
الهدف التركي الثاني هو قطع الطريق على أي مكاسب لقوات سوريا الديمقراطية في حال انسحاب إيران من سوريا والمنطقة، إضافة الى أن التقدم في حال استمراره في ريف حلب، وخاصة إذا وصل الريف الشرقي، سيعزل جيب “قسد” و “قوات تحرير عفرين” الموجودة في تل رفعت، والتي تعتبر منطلقاً لهجمات تستهدف مناطق الجيش الوطني، حليف تركيا.
الائتلاف الوطني السوري أعلن في بيان رسمي، تأييده للعملية العسكرية التي أطلقتها فصائل المعارضة، وقال “إن العملية تهدف إلى حماية المدنيين وردع اعتداءات النظام والميليشيات الإيرانية”.
المجلس الإسلامي السوري أعلن أيضاً عن تأييده العملية ومباركتها، وشدد في بيان، على ضرورة التمسك بالقيم الإسلامية والتكاتف في مواجهة عدوان النظام وحلفائه”.
أما وزارة الدفاع السورية فقالت في بيان رسمي صادر عنها، “إن تنظيمات إرهابية مسلحة منضوية تحت ما يسمى “جبهة النصرة” في ريفي حلب وإدلب، شنت هجوماً كبيراً على مناطق سيطرة الحكومة السورية”، وذكرت أنها لا تزال تتصدى للهجوم وكبّدت المجموعات المهاجمة خسائر كبيرة بالمعدات والأرواح”. فيما لم يصدر أي بيان رسمي من القوات الروسية في سوريا حول الهجوم، كما أن المشاركة العسكرية الروسية، وبخاصة سلاح الجو، جاءت خجولة بقصف أهداف مدنية في إدلب وحلب، على عكس سابق الهجمات حيث كان الطيران الروسي يقوم بعمليات إسناد عسكري للقوات على الأرض، إضافة الى قصف المدن والبلدات بمئات الغارات والطلعات الجوية.
إيران وحزب الله خاسران
خلال الأشهر الأخيرة ومع الضربات التي تلقاها حزب الله في لبنان، والضربات التي استهدفت الميليشيات الإيرانية في سوريا على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، عمل الطرفان على إيجاد مناطق تمركز مؤقتة تحمي ما تبقى من عناصر الحزب وأسلحته، بخاصة التي كانت في سوريا، إذ بدأ الطرفان بإعادة تموضع ضمن البلدات والقرى الواقعة في ريف حلب وإدلب.
اختيار الحزب وإيران تلك المناطق جاء لأسباب عدة، أولها، بعدها النظري عن الأراضي الفلسطينية، ما يخفف من احتمالية استهدافها المتكرر من سلاح الجو الإسرائيلي. كذلك، تشكّل تلك المناطق الخالية من السكان مكاناً آمناً لنقل مقاتلي الحزب وعائلاتهم للعيش داخلها كونها فارغة من السكان.
الهجوم العسكري لفصائل المعارضة والتقدم السريع داخل تلك المناطق، هدما خطة إيران في إعادة تموضع حزب الله وبعض ميليشياته في سوريا داخل تلك المناطق، ما قد يدفع مقاتلي الحزب للانتقال إلى مناطق أخرى في سوريا، أو العودة إلى لبنان، بخاصة في ظل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع الجانب الإسرائيلي.
إن منع إعادة تموضع الحزب والقوات الإيرانية في تلك المناطق وتمدّدهما، من شأنه إضعاف القوى العسكرية الحامية لمدينة حلب، ما يفتح المجال لفصائل المعارضة خلال هذه المعركة أو مستقبلاً، للسيطرة على مدينة حلب، ما سيُعتبر أهم إنجاز عسكري للثورة السورية منذ عام 2016.
تشكّل محافظة حلب وريفها، أهمية رمزية واقتصادية وجغرافية، كونها أكبر كتلة سكانية في سوريا مع العاصمة دمشق، وسيطرة أي طرف عليها كلياً أو جزئياً، ستكون ورقة تفاوض قوية ضمن عملية الانتقال السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 مستقبلاً.
درج
———————————
“فايننشال تايمز”: تَقدُّم المعارضة السورية نكساتٌ تكتيكية لروسيا في الشرق الأوسط.. وآخر سلسلة من تداعيات حرب غزة
إبراهيم درويش
لندن- “القدس العربي”: نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” مقال رأي لحنا نوت، مديرة برنامج الحد من انتشار السلاح النووي في أوراسيا بمركز جيمس مارتن ببرلين، قالت فيه إن تقدم قوات المعارضة السورية المسلحة يمثّل تهديداً خطيراً لطموحات روسيا في الشرق الأوسط.
وقالت إن القوات الروسية تواصل تقدمها في الأراضي الأوكرانية، في وقت تعرضت فيه لنكسة تكتيكية في الشرق الأوسط. ولم يكن سقوط حلب بأيدي المقاتلين السوريين إلا أحدث حلقة في سلسلة من التطورات، التي بدأت منذ أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، والتي تسبّبت في مشاكل للكرملين.
الغارات الجوية الإسرائيلية ضد إيران ربما تركت أثرها على قدرة طهران على تسليم الصواريخ وغيرها من المعدات إلى روسيا
وفي وسط الحرب المستمرة في غزة، استهدفت إسرائيل إيران، شريكة روسيا والجماعات المرتبطة بها في محور المقاومة، في حرب متبادلة بسوريا أدّت فيها الغارات الإسرائيلية المكثفة إلى القضاء على عشرات المقاتلين، وتدمير مخازن الأسلحة التابعة لإيران.
وزادت إسرائيل من الرهان، في أيلول/سبتمبر، عندما استهدفت “حزب الله” ومقاتليه في عملية تفجير البيجر وأجهزة الووكي-توكي، وبلغت ذروتها بقتل قياداته.
وفي نهاية تشرين الأول/أكتوبر، قصفت إسرائيل برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، ومواقع صناعية دفاعية أخرى. وفي الوقت الذي كشفت فيه العمليات الإسرائيلية أنها جادة في التعامل مع إيران، لم يكن لدى موسكو، التي تضع الحرب في أوكرانيا على رأس أولوياتها، القدرة، أو حتى الرغبة، في الظهور كفارسٍ بدرعٍ لامع دفاعاً عن إيران.
وتشير الكاتبة إلى أن الغارات الجوية الإسرائيلية ضد إيران، ربما تركت أثرها على قدرة طهران على تسليم الصواريخ وغيرها من المعدات إلى روسيا، على الأقل في الأمد القريب.
وفي إطار آخر، ربما كان تَزامنُ القتال في أوكرانيا والشرق الأوسط سبباً في تعزيز رغبة روسيا وإيران في التعاون، مع أنه يحدّ في الوقت نفسه من الدعم الذي يمكن أن يقدمه كلٌّ منهما للآخر. وقد زاد الهجوم الخاطف لقوات المعارضة من مشاكل وآلام روسيا.
فقد ظلت سوريا بمثابة قصة نجاح لروسيا، فمن خلال التدخل في الحرب السورية عام 2015، أنقذ الرئيس فلاديمير بوتين، بشار الأسد، حيث قدم صورة عن الحليف الذي يوثق به، خلافاً للصورة المعروفة عن الدول الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة.
وكانت سيطرة القوات السورية، بدعم روسي، على الجزء الشرقي من حلب، عام 2016، نقطة محورية دفعت موسكو للإعلان عن عملية أستانة بالتعاون مع إيران وتركيا. ومنذ عام 2017، قامت هذه العملية بتحديد مسار النزاع، وفتحت المجال أمام ظهور توازن هش بين الجماعات الداخلية والخارجية التي تتقاسم البلاد.
وبعد الغزو الشامل لأوكرانيا، عام 2022، اعتقدت موسكو أنها قادرة على التحكّم بالوضع السوري، وبأقل جهد. ولهذا قامت بإعادة ضبط وجودها العسكري، ودفعت باتجاه إعادة تأهيل الأسد إقليمياً ودولياً، لكنها اصطدمت بحائط بسبب رفض الزعيم السوري التنازل قيد أنملة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وفي الوقت نفسه، توقف التقدم نحو حلّ سياسي حقيقي للصراع تماماً، مع عرقلة روسيا لانعقاد اللجنة الدستورية السورية.
وفي الأسبوع الماضي، تعلمت روسيا الدرس الصعب، وهو أن النزاعات المجمدة تظل متجمدة حتى تنضج. وكانت موسكو خائفة لأشهر من أن تجرف الهزات الارتدادية لهجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر سوريا، ولهذا فوجئت على ما يبدو من الهجوم الخاطف على حلب.
ظلت سوريا بمثابة قصة نجاح لروسيا، بعد أن أنقذ بوتين الأسد، حيث قدم صورة عن الحليف الذي يوثق به، خلافاً للصورة المعروفة عن الدول الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة
وتعلق الكاتبة أن هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر غيّرت الديناميات، وقدّمت منافع لروسيا، من خلال حرف انتباه الغرب عن أوكرانيا إلى الشرق الأوسط. ولكن الهجمات خلقت الكثير من المخاطر لروسيا التي توسّعت في القتال على عدة جبهات. وأصبحت إيران ضعيفة، وأضعف مما كانت عليه في العام الماضي. وساهمت الحملة الإسرائيلية ضد “حزب الله” في خلق الظروف الملائمة للعملية ضد حلب. كما شعرت تركيا، شريكة روسيا في عملية أستانة، بوجود فرصة لإنهاء العمل غير الناجز في سوريا.
وتعتقد نوت أن النكسات الروسية الإقليمية تظل حتى الآن تكتيكية، وذات آثار محدودة على حملتها في أوكرانيا. ولكن هل تتحول الأحداث الأخيرة إلى صداع إستراتيجي لموسكو؟ تجيب نوت أن هذا يعتمد على ساحة المعركة في سوريا والديناميات الجديدة، وكذلك شهية إسرائيل لضرب إيران، وعلى الرئيس الأمريكي المقبل دونالد ترامب.
وفي الوقت الحالي، تسعى روسيا جاهدة لوقف تقدم المتمردين دون الحاجة إلى إرسال تعزيزات إلى سوريا. وربما تنجح في حماية نفوذها. ولكن إذا صعدت إسرائيل، أو الولايات المتحدة، الضغوط على إيران، فإن قدرة روسيا على حماية شريكتها سوف تكون محدودة.
—————————–
بوليتيكو: رهان أردوغان الخطير في سوريا.. بين إجبار الأسد على التفاوض واحتمال فقدان السيطرة
إبراهيم درويش
لندن- “القدس العربي”: نشرت مجلة “بوليتيكو” مقالاً للمعلق جيمي ديتمر قال فيه إن الهجوم المفاجئ والمخطط له منذ فترة طويلة من قبل تحالف من المعارضة السورية المسلحة، والذي أدى إلى فرار قوات النظام السوري من حلب، ترك وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي غاضباً يبحث عن تفسير.
إن سقوط ثاني أكبر مدينة في سوريا في أيدي التحالف الذي تقوده “هيئة تحرير الشام” – وهي جماعة منشقة عن تنظيم “القاعدة” – ليس مجرد إذلال للأسد، بل إنه أيضاً إذلال لحلفائه؛ إيران، وإلى حد ما روسيا.
ففي عام 2016، ساعدت الميليشيات الشيعية التي تقودها إيران، مع حملة قصف روسية لا تميز، النظامَ السوري على استعادة حلب من الثوار، الذين سيطروا على حوالي نصف المدينة لمدة أربع سنوات. بعد ذلك، كان من المفترض أن تكون آمنة في أيدي الأسد.
ولكن، في الأسبوع الماضي، استغرق الأمر 72 ساعة فقط للسيطرة على حلب، ما أدى إلى إعادة إشعال الحرب الأهلية السورية الطويلة الأمد، والتي اندلعت، في البداية، بسبب القمع الوحشي للأسد للاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية.
عند وصوله إلى دمشق لإجراء محادثات عاجلة، قدم عراقجي التفسير الأكثر إدانة الذي يمكن أن يفكر فيه، كان الأمر كلّه “مؤامرة من قبل النظام الإسرائيلي لزعزعة استقرار المنطقة”.
ويعلق الكاتب أنه من الملائم لطهران أحياناً أن تلقي باللوم على الصهاينة، وربما ساعدت الصواريخ والغارات الجوية الإسرائيلية المعارضة بشكل طفيف، فإن سقوط حلب لا علاقة له بتطلعات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، بل له علاقة أكبر بحالة القوات المسلحة للأسد.
كما أن له علاقة كبيرة بالمناورات الجيوسياسية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتصميمه على الحد من أي تهديدات حقيقية أو متخيلة من الأكراد السوريين المدعومين من الولايات المتحدة، فضلاً عن انزعاجه من الأسد لرفضه عرضاً قديماً للمصالحة.
أولاً، وقبل كل شيء: سقطت حلب بسهولة بسبب انهيار قوات الأسد. فقد تبين أنها كانت محبطة وضعيفة وغير متحفزة، مثل القوات الأفغانية التي أنفقت الولايات المتحدة سنوات في تدريبها وتمويلها، ولكنها فشلت في خوض أي قتال حقيقي ضد طالبان.
قال الدبلوماسي الأمريكي السابق ألبرتو فرنانديز: “إن الجيش العربي السوري عبارة عن هيكل مجوف، أضعف كثيراً مما تشير إليه أعداده وأسلحته المزعومة.. سوريا في حالة اقتصادية حرجة. يكمل الضباط رواتبهم الضئيلة بأخذ الرشاوى حتى يحصل الجنود على إجازات طويلة، ويعملوا في وظائف أخرى في مدنهم. ويبدو أن بعض الوحدات انهارت وهربت بعد أن فقدت ضباطها”.
لا شك أن طهران لا ترغب في الإعلان عن ضعف حليف آخر، بعد أن نجحت إسرائيل في قطع رأس “حزب الله” اللبناني بسرعة، الشريك الإقليمي الأكثر أهمية لإيران.
لكنها لا تستطيع أيضاً تسليط الضوء على الدور الحقيقي للرجل الخبيث وراء ما يحدث في شمال سوريا، حيث من المرجح أن تحتاج إلى التوصل إلى نوع من الاتفاق مع أردوغان الماكر لضمان توقف الهجوم الذي يتجه الآن نحو حماة، على بعد 90 ميلاً جنوب حلب، هناك.
ولكن بعد إضعاف إيران و”حزب الله” من قبل إسرائيل، فإنهما غير قادرين على تقديم القوة البشرية والدعم العسكري للأسد، كما ساعدوه على تحويل مسار الحرب الأهلية السورية في عام 2015.
ووفقاً لمصادر لبنانية تحدثت إلى وكالة أنباء “رويترز”، فإن “حزب الله” ليس لديه خطط لإرسال مفارز للانضمام إلى مئات المقاتلين العراقيين الذين ترعاهم إيران، والذين عبروا إلى سوريا، هذا الأسبوع، لدعم جيش الأسد.
ومن جانبه، سعى أردوغان إلى إبعاد نفسه عمّا يحدث عبر الحدود، وقدم نفسه كمتفرج يراقب تطورات لا يستطيع السيطرة عليها.
وقال، يوم الإثنين: “نحن نتابع الأحداث عن كثب. لقد حذرنا لفترة طويلة من أن دوامة العنف في الشرق الأوسط قد تؤثر أيضاً على سوريا. وقد أكدت الأحداث الأخيرة أن تركيا كانت على حق”.
ولكن قلة من المراقبين يعتقدون أن الهجوم لم يكن ليحدث دون علم أنقرة وتأييدها. فوفقاً لهادي البحرة، رئيس جماعة سورية معارضة معترف بها من قبل المجتمع الدولي، كانت الاستعدادات للهجوم على حلب قيد الإعداد منذ العام الماضي، الاستعدادات التي شملت “هيئة تحرير الشام”، فضلاً عن أكثر من 12 فصيلاً في “الجيش الوطني السوري” الذي ترعاه تركيا، والذي يستهدف إلى حد كبير الأكراد السوريين.
وبالتالي، فمن السذاجة الاعتقاد بأن المسؤولين الأتراك لم يكونوا على علم بهذا التخطيط.
ووفقاً لإحاطة استخباراتية أصدرها مركز صوفان، وهي مجموعة بحثية أسسها ضباط ودبلوماسيون سابقون في الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، فإن “هجوم حلب… تأخر عندما تدخلت تركيا، ما أدى إلى تغيير التوقيت”.
وبشكل عام، كانت الخطوط الأمامية للحرب الأهلية السورية راكدة منذ عام 2020، على الرغم من وقوع اشتباكات عرضية شرسة. وعلى مدى السنوات الأربع الماضية، سيطر الأسد على جزء كبير من البلاد وأكبر مدنها.
لقد ظلت “هيئة تحرير الشام”، التي تتسامح معها تركيا، والتي يقودها تحالف من المقاتلين الإسلاميين في الغالب، محاصرة في إدلب وأجزاء من الريف غرب حلب، في حين كانت القوات التركية والفصائل التي ترعاها تركيا تشرف على شريط من الأراضي الكردية على طول الحدود شمال حلب. وفي شمال شرق سوريا، ظلت “قوات سوريا الديمقراطية”، التي يهيمن عليها الأكراد، وهي حليفة للولايات المتحدة ضد تنظيم “الدولة”، لشأنها إلى حد كبير.
لقد أدى الهجوم إلى تحول كبير في كل ذلك، ولكن من الصعب التنبؤ بالعواقب.
يمتلك أردوغان الآن العديد من الأوراق، ولكن ما إذا كانت تفلت من يديه هي مسألة أخرى.
من المؤكد أنه لا يريد أن تخرج الأمور عن السيطرة وأن يسقط الأسد، ولكن هذا قد يعتمد جزئياً على ما إذا كانت “هيئة تحرير الشام” تلتزم بالنص،
وتعزز وجودها في حلب، وتركز على إنشاء حكومة على الطراز الإسلامي هناك، تماماً كما فعلت في إدلب. إذا هاجمت ودفعت جنوب حماة لأن دفاعات الأسد انهارت، فقد يجد أردوغان أنه أشعل أكثر مما كان يتوقع.
الواقع أن الزعيم التركي كان يضغط على الأسد للموافقة على المصالحة، على مدى الأشهر القليلة الماضية، لكن الزعيم السوري تجنّب العرض، وأصر على أن تسحب تركيا أولاً آلاف قواتها والجماعات التي ترعاها من الأراضي السورية.
وعلى هذا، فإن بعض المراقبين يرون في الهجوم جزءاً من جهود أنقرة للضغط على الأسد لتطبيع العلاقات والتفاوض على حل سياسي للحرب الأهلية، وهو ما من شأنه أن يمنح أردوغان الفرصة لإعادة 4.7 مليون لاجئ سوري يعيشون في تركيا.
ومن المرجح أن تأتي المصالحة بتكلفة كبيرة للأكراد، وتتضمن تقليص شبه استقلالهم في الشمال الشرقي أيضاً. وتعمل تركيا ووكلاؤها بالفعل على توسيع سيطرتهم على البلدات والقرى الخاضعة لسيطرة الأكراد والمتاخمة للحدود.
وخلال عطلة نهاية الأسبوع، استولى “الجيش الوطني السوري”، الذي ترعاه تركيا، على معقل الأكراد في تل رفعت، إلى جانب بلدات وقرى أخرى تابعة لـ “قوات سوريا الديمقراطية” شرق حلب.
والسؤال، أين يترك هذا روسيا؟
مثل حلفاء الأسد الرئيسيين الآخرين “إيران” و”حزب الله”، تركّز موسكو على أولويات أخرى، وهي أوكرانيا. وحتى الآن، لم تحلّق الطائرات الحربية الروسية، إلا في طلعات قصف محدودة لدعم قوات الأسد، ما أضاف إلى التكهنات بأن الكرملين كان على علم بالهجوم القادم، وليس منزعجاً لرؤية الضغوط تتزايد على الأسد.
كما كانت موسكو تدفع الأسد إلى المصالحة مع أردوغان، واستكشاف الحلول السياسية لإنهاء الحرب الأهلية، الأمر الذي من شأنه أن يفتح سوريا للتجارة المربحة للشركات الروسية، ويفترض أن يضمن عدم وجود مخاطر على قواعدها الجوية والبحرية الإستراتيجية في سوريا. وعلى مدار الصيف، سعى الكرملين مراراً وتكراراً إلى ترتيب اجتماعات وجهاً لوجه بين الزعيمين السوري والتركي دون جدوى.
ولكن هذا المسعى قد يؤتي ثماره الآن. فبالرغم من كل الحديث عن مؤامرة إسرائيلية، توجّه عراقجي بسرعة إلى أنقرة هذا الأسبوع للقاء نظيره التركي هاكان فيدان. واتفق الرجلان على أن تركيا وإيران وروسيا يجب أن يعقدوا مفاوضات ثلاثية جديدة لمعالجة الصراع. وقال عراقجي: “لقد قررنا إجراء مشاورات وحوارات أوثق، وبإذن الله سنتعاون لتحسين الوضع بشكل أكبر نحو السلام والاستقرار في منطقتنا”.
وفي الوقت نفسه، ألقى فيدان باللوم بشكل واضح على رفض دمشق التحدث مع قوى المعارضة. وقال: “إن التطورات الأخيرة تظهر، مرة أخرى، أن دمشق يجب أن تتصالح مع شعبها والمعارضة الشرعية”.
وما تُرك دون ذكر هو أهمية المصالحة مع أردوغان.
——————————-
الأسد المُحاصَر بين تضارب المصالح الإقليمية/ حسن النيفي
2024.11.19
مع وصول على لاريجاني – كبير مستشاري الخامنئي وعضو مجمع تشخيص النظام في إيران – إلى دمشق في الرابع عشر من الشهر الجاري، واجتماعه برأس النظام، يُخيّل للكثير من متابعي الشأن السوري أن بشار الأسد لن يتردّد بينه وبين نفسه في استحضار عبارة الملك الضلّيل في ساحق الأيام: (اليوم خمر وغداً أمر)، إذ من الراجح أن لاريجاني لا يبغي من وراء زيارته تجديد الدعم المعنوي لنظام دمشق، كما ولن يهدف إلى تقديم الدعم للمقاومة في فلسطين ولبنان كما ينضح من تصريحاته، فتلك أمور لا تستوجب زيارةً من مسؤول رفيع إلى كائن لا يرى فيه الزائر سوى مأمور وضيع.
ولكن ربما السيرورة المنطقية للأحداث تؤكّد أن الحضن الإيراني، الذي وفّر معظم أسباب البقاء والحصانة لديمومة نظام دمشق منذ عام 2011 وحتى الآن، يوجب عليه اليوم أن يكون أميناً ووفيّاً لكل دفقة دفء حظي بها من بركات الولي الفقيه. ولئن أبدتْ طهران تفهّمها لنأي الأسد بنفسه عن كل تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة وعلى حزب الله، إلّا أن تفهّمها لهذا النأي لا يذهب إلى درجة مغادرة الأسد لتخوم محورها وتنصّله التدريجي من مواجهة العديد من الاستحقاقات التي توجبها المواجهة الراهنة بين إسرائيل وإيران.
بين العقوق وردّ الجميل، الخيار المؤلم
واقع الحال يؤكّد أن الأسد لا تكمن مشكلته في عدم قدرته على ردّ الجميل لطهران، فهو قد سبق وأتاح لهم البلاد السورية من درعا وحتى البوكمال لتكون ميداناً للميليشيات الطائفية التي باتت تتحكّم بمصائر السوريين وأرزاقهم وأمنهم، فضلاً عن استحكام الإيراني بمعظم المفاصل الاقتصادية والأمنية في البلاد. ولكن المأزق الذي يواجهه هو أنه بات مُطالَباً بردّ الجميل لأكثر من طرف، وفي وقت واحدٍ، ذلك أن الذين أسهموا بالحفاظ على نظام الأسد وحالت مواقفهم دون زواله هم كثر، بدءًا من إسرائيل وواشنطن وروسيا وإيران. فهؤلاء جميعاً اقتضت مصالحهم في ظرف تاريخي محدد على أن يبقى الأسد في السلطة، وذلك على الرغم من التبعات الكارثية لبقائه والتي أسست لمأساة السوريين الممتدة منذ ثلاث عشرة سنة. ولكن التقاء المصالح الذي جمع في يوم ما، بين الأطراف التي ربما بدت متناقضة الأهداف، يوشك اليوم على الانتهاء.
لقد كانت الأمور بخير – بالنسبة إلى الأسد – حين كانت إسرائيل تكتفي باستهداف أذرع إيران في سوريا عندما تتجاوز ما هو متفق عليه فحسب، فضلاً عن أن الاستهداف الإسرائيلي كان يجري بتنسيق مع روسيا صاحبة القوة المهيمنة على الأجواء السورية. ولكن تلاشي مفهوم (تخادم المصالح) بين إيران وإسرائيل قد أفضى إلى نشوء استراتيجيات جديدة للمواجهة بين الأطراف المتنازعة، الأمر الذي يجعل من استراتيجية الأسد القديمة، القائمة على مراعاة التوازنات بين الأطراف الدولية والإقليمية والاستجابة لتلبية المصالح المتنوعة، خاليةً من أي جدوى. بل ربما بات مطالباً أن يكون أكثر حسماً، إن لم يكن بأفعاله، فعلى الأقل بأقواله، في تحديد مواقفه، ذلك أن المواجهات بين طهران وتل أبيب دخلت في مرحلة جديدة قد يصعب التكهّن بنهاياتها في ظل المعطيات الراهنة.
وهذا ما يجعل الأسد يقف مذعوراً بين خيارين: الوفاء للوصيّ الإيراني – وهو الخيار الذي يجعله أكثر انسجاماً مع ذاته – إلّا أنّه – في الوقت ذاته – يجعله في حالة من (العقوق) حيال إسرائيل التي شاطرت إيران الرأي فيما سبق حول ضرورة بقائه في السلطة. وكلاهما خيارٌ شديد المرارة، كونه في الحالتين يوجب على الأسد الاستعداد للمواجهة التي لا يملك مقوّماتها، فإلى أيّ جانبيه يميل؟
في المخرجات المُتاحة
يمكن الذهاب إلى أن الحيّز الحَرِج للأسد يجعله يقف أمام ثلاث أجندات إقليمية: تتمثل الأولى بالمشروع الإيراني الذي وصل – مع انتهاء مفهوم التخادم بينه وبين إسرائيل – إلى مفترق طرق، أو إلى عقدة بالغة الصعوبة. ووفقاً للعلاقة التاريخية لنظام دمشق مع طهران، والتي تحولت إلى علاقة عضوية في عهد الأسد الوريث، فإن معظم القرائن تحيل إلى استمرار الأسد بالتماهي مع سياسات إيران على الرغم من إدراكه بأنها باتت عبئاً عليه.
وبالتالي، فإن استمرار انضوائه تحت المظلة الإيرانية هو خيار لا ينبثق عن قناعات ذات صلة بمصلحة سوريا كدولة مع طهران، بل بمصالح ضيّقة ربما تخص أمنه الشخصي وأمن حاشيته المقربين، وذلك نظراً للقبضة الإيرانية التي باتت تسيطر على العديد من مفاصل الجيش والاقتصاد والجغرافيا. ومن هنا يبدو أن انفكاك الأسد عن إيران ربما لم يعد يقلّ خطورةً – وفقاً لحسابات الأسد نفسه – عن استمراره بالتبعية لها.
أمّا الأجندة الثانية (الإسرائيلية) المحميّة أميركياً فلا تحوز على ثقة الأسد على الرغم من إدراكه لقوتها ونفوذها الكبير. ولعل العقوبات الأميركية المفروضة على نظامه، والتي اتخذت طابعاً قانونياً، تجعله يعدّها قنابل موقوتة، أو أوراق ضغط يمكن استخدامها في أي وقت. فضلاً عن العديد من الملفات القضائية التي تطالب بمحاسبته كمرتكب لجرائم إبادة بحق الإنسانية. أمّا من جهة إسرائيل، فلا يبدو أن بشار الأسد بات عائقاً أمام سياساتها في المنطقة، فما أرادته، وتريده، قد حصلت عليه دون تقديم تنازلات ذات أهمية. وبالتالي، لن يكون الأسد في جميع الحالات موضع اهتمام من إسرائيل، لا على المستوى الأمني ولا السياسي.
ويبقى الحديث عن الأجندة الإقليمية الثالثة متجدّداً مرةً تلو الأخرى، ولكن من طرف واحد. ونعني بذلك المبادرة التركية التي ما تزال منذ شهر آب من العام 2022 تتردّد أصداؤها دون تفاعل جدّي من نظام دمشق. إلّا أن طرحها مجدّداً بإلحاح تركي، يتداخل فيه الترغيب والترهيب معاً، فإنما يحيل إلى قناعة تركية بأن الوباء الذي ربما يحلّ بسوريا نتيجة اجتياح إسرائيلي محتمل لن يدع أنقرة بعيدة عن شواظّه. فحديث وزير خارجية إسرائيل (جدعون ساعر) مؤخراً عن مظلوميات كردية ودرزية قد لا يخفي امتداداً لمظلوميات عرقية وطائفية أخرى ربما تجد لها مُتّسعاً من الطرح أو الاشتعال سواء في سوريا أو تركيا أو بلدان مجاورة أخرى. ومن هنا يمكن النظر إلى الإلحاح التركي على التطبيع مع الأسد على أنه خطوة إستباقية تهدف إلى الإجهاز على كيان (الإدارة الذاتية) لحزب الاتحاد الديمقراطي في شرقي سوريا، وكذلك إلى إغلاق أي ثغرة يمكن أن تغذّي طروحات أقلوية، سواء أكانت عرقية أم مذهبية. ولكن على الرغم من التلهّف التركي لهذه المبادرة، إلّا أنها لا تحظى بالتلهّف ذاته لدى الأسد، ليقينه بأن المبادرة التركية لا تجسّد أولوية بالنسبة إليه. إذ إن التطبيع مع تركيا في الوقت الراهن ربما ينعشه اقتصادياً ويعزّز كيانه أمنياً، ولكن لن يقيه الخطر الإسرائيلي ولن يكون بمقدوره انتشاله الآمن من القيد الإيراني. فهواجس الأسد تكاد تكون أمنية بالدرجة الأولى، تنبثق من حرصه على استمرار سلطته وبقائه في الحكم قبل أي شيء. وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن مشروع الدولة الأسدية بشطريها (الأب – الإبن) هو ضمان السلطة واستمرار بقائها قبل أي شيء آخر. ولعل هذا ما أوجد قابلية كبيرة لدى نظام الحكم لإقامة توازنات مع دول متناقضة الأهداف، فضلاً عن قدرته على تلبية مصالح أكثر من طرف في الوقت ذاته.
على أية حال، فإن تعدد الأجندات الإقليمية التي يواجهها نظام الأسد، سواء ما هو واقعي منها أو ما هو مفترض، تبقى محكومة جميعها بما ستفضي إليه التفاهمات الروسية الأميركية. وهذا لن يحدث قبل تولّي الرئيس الجديد ترمب لمهامه الرئاسية في العشرين من كانون الثاني المقبل
تلفزيون سوريا
—————————-
المشهد السوري في زوبعة الحرب/ محمد برو
2024.11.23
منذ السابع من أكتوبر، اجتاحت المنطقة زوبعة يصعب التنبؤ باتجاهاتها، في الوقت الذي بقي فيه نظام الأسد صامتًا مترقبًا، لا يبدي حراكًا. ذلك لعلمه التام بمدى هشاشة موقعه في هذه الأزمات الدائرة.
ومن المعلوم أن نظام الأسد، ومنذ ما يزيد عن أربع عشرة سنة، يعيش على الدعم الإيراني والحماية الروسية، مع صمت غربي “أوروبي أميركي” يبقي على نظام الأسد أو يحميه من السقوط، تارة بذريعة محاربة الإرهاب وداعش، وتارة بهشاشة المعارضة وغياب البديل والخوف من الفوضى. واليوم، بعد انشغال العالم الغربي بالحرب الروسية على أوكرانيا واشتعال منطقتنا العربية بحرب غزة ولبنان، ودخول إيران بشكل مباشر في دائرة الحرب والاستهداف الإسرائيلي، بات من غير المقبول أن يستمر نظام الأسد بالصمت ومراقبة الحدث بعين النعامة. وسيُطلب منه عاجلًا أم آجلًا التخلي عن حليفه الإيراني كصفقة وثمن لبقائه في كرسي الحكم.
هل ستقبل إيران أن تخرج من المشهد السوري بدون ثمن؟ وهل سيكون هذا الطلاق بين بشار الأسد ونظام الملالي سببًا في اغتياله والتخلص منه؟ وهل ستقبل إسرائيل، التي طالما حرصت على بقاء الأسد، بالتخلي عن ربيبها وهو أفضل من يحرس حدودها ويلتزم بمصالحها؟ أسئلة صعبة لا يسهل الإجابة عنها في هذا الغبار الثائر، لا سيما أن القادم إلى البيت الأبيض يحمل في جعبته الأسوأ، ولا يمكن التكهن بخطوته التالية.
ولكن بالنظر إلى سياسات الولايات المتحدة، فإن وصول رئيسين متشابهين إلى حد كبير، هما جورج بوش الابن ودونالد ترامب، ينذر كالعادة بأسوأ السيناريوهات التي يمكن للإدارة الأميركية مستقبلًا التبرؤ منها بتحميل جريرتها للأحمق الذي فاز بالانتخابات.
من الواضح أن هناك ضغطًا إسرائيليًا وأميركيًا كبيرًا لإخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا. وإذا نظرنا إلى موازين القوى بعد خروج تلك الميليشيات، فسنجد أن ما يتبقى من بنية نظام الأسد مجرد بقايا كيانات مهلهلة من الجيش والأمن، لا تكفي لحماية مدينة دمشق وحدها، فما بالنا إذا تحدثنا عن بسط سلطة الدولة على معظم الأراضي السورية؟
هل سيكون بمقدور الأسد أن يسارع إلى اجتراح حل وسطي ويقبل بمصالحة وطنية يمنح من خلالها المعارضة السورية بعض المطالب ليعزز جبهته الداخلية ويكون أقدر على البقاء وسط هذه الزوبعة؟ في الوقت الذي لن تتمكن فيه القوات الروسية المحدودة من حمايته، ولن يصعب على بشار الأسد تغيير تحالفاته للبقاء ممسكًا بزمام الأمور. ولكن، لن يستطيع أحد أن يحميه من غضب إيراني إن هو خذلهم وكان عاملًا مساعدًا في تدهور مشروعهم.
هذا السيناريو المتخيل لن يفي بالغرض ولن يكون منقذًا لنظام الأسد، الذي يعلم الجميع أنه بدون الحماية المباشرة من إيران وروسيا ليس بمقدوره البقاء أو الصمود لعشرة أيام.
أربع قوى رئيسية ستحدد بقاء الأسد أو سقوطه:
الدور الإيراني
إيران تبذل أقصى ما تستطيع لإبقاء سوريا معبرًا للسلاح والإمداد الذي يغذي حزب الله، ومن جهة أخرى عمقًا استراتيجيًا تُدار الحرب بينه وبين إسرائيل ضمنه. وربما تتلاقى المصالح الإيرانية والإسرائيلية في هذه النقطة، فمن الواضح أن كلا الفريقين لا يسعى لتوسيع دائرة الحرب المباشرة.
الدور الروسي
روسيا متمسكة إلى أقصى الحدود ببقائها ممسكة بتلابيب النظام السوري وإبقائه واجهة لنفوذها الأخير على شاطئ المتوسط، بالرغم من انشغالها المربك بالحرب الأوكرانية التي تستنزفها بشكل كبير.
الدور الإسرائيلي
إسرائيل، وإن بدت غاضبة ومحذرة من الدور السوري في تعزيز دفاعات حزب الله والسماح لإمداداته بالعبور عبر أراضيه، إلا أنها تدرك أن النظام السوري عند الضغط عليه لن يملك إلا خيار التناغم والانصياع للأقوى. وهي إسرائيل التي تملك الضوء الأخضر الغربي لاجتياح المنطقة وإعادة تشكيلها على نحو يكفل أمنها ومصالح الولايات المتحدة الأميركية.
الدور الأميركي
الدور الأميركي هو من أكثر الأدوار التباسًا اليوم، لا سيما بعد صعود ترامب. فهو، من جهة، يرغب بانتصار إسرائيل وبسط هيمنتها في الشرق الأوسط، كما يرغب بإنهاء عهد الميليشيات التي أشاعت الفوضى في السنوات العشر الأخيرة. ومن جهة أخرى، لا يملك رؤية جادة في إسقاط نظام الأسد لأنه يمنح بوجوده مبررات منطقية للتدخل وإدارة الفوضى.
بين تلك المجاهيل والمعاليم، يبقى الملف السوري بعيدًا عن جدية الحل أو الحسم في الوقت الراهن. ولا تملك القوى الوطنية “إن هي وجدت أصلًا” أي رؤية أو قدرة لتكون جزءًا من حل مأمول.
ولذات السبب، قد نشهد ميلًا أميركيًا لعدم القضاء بشكل نهائي على حزب الله، وإنما الإبقاء عليه كصمام أزمات منزوع السلاح قد تحتاجه أميركا في وقت ما لإشاعة الفوضى. ويجب تذكر أن الملف السوري لم يعد يشغل الساسة الأميركان كما كان سابقًا، وربما يمكن الزعم بأن الأميركان، على وجه العموم، لا يملكون رؤية محددة تجاه الملف السوري إلا بالقدر الذي يساهم فيه بتشكيل الخرائط المستقبلية على النحو الذي تعمل عليه إسرائيل.
بين تلك المجاهيل والمعاليم، يبقى الملف السوري بعيدًا عن جدية الحل أو الحسم في الوقت الراهن. ولا تملك القوى الوطنية “إن هي وجدت أصلًا” أي رؤية أو قدرة لتكون جزءًا من حل مأمول. وبالنظر إلى هشاشة الحالة العربية عمومًا، والميل إلى التطبيع مع إسرائيل، فإن الدفع باتجاه حل للأزمة السورية المستعصية لا يشكل ضرورة ملحة لأحد. وربما يرى البعض أن إبقاء الساحة السورية في احتراق ونزيف مستمر يشكل إنذارًا طويل الأمد لكل من تسوّل له نفسه الخروج عن النص أو المطالبة بالحرية.
تلفزيون سوريا
—————————-
=====================