جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات
تحديث 13 كانون الأول 2024
أنظر تغطيتنا في الأيام السابقة:
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
————————————
الاحتلال وسوريا الجديدة: ذهبت اللاحرب وجاءت «الأيدي الخطأ»/ صبحي حديدي
13 كانون الأول 2024
350 غارة إسرائيلية شُنّت خلال 48 ساعة ضدّ «أهداف ستراتيجية» في سوريا، حسب تعبير جيش الاحتلال، بينها طائرات مقاتلة وزوارق حربية وصواريخ بعيدة المدى ودفاعات جوية ومخازن أسلحة مختلفة، في محيط العاصمة دمشق ومحافظات حمص وطرطوس واللاذقية، ومنطقة تدمر؛ ضمن «حملة تاريخية» لم تستهدف هذه المرّة النفوذ العسكري والميليشياتي الإيراني (فهذه خلت منها سوريا الراهنة، أو تكاد) بل هدفها «منع وقوع أسلحة متقدمة في أيدي عناصر معادية». وبالفعل، أفلحت عمليات القصف المكثفة عن تدمير نحو 70 ـ 80٪ من القدرات العسكرية لما بات اليوم جيش سوريا الجديدة، التي طوت صفحة نظام استبداد وفساد ونهب وتخريب وارتهان وتبعية، أداره آل الأسد وشبكات الولاء السياسية والاقتصادية والطائفية المختلفة، طيلة 54 سنة.
الأرجح أن هذه الغارات، وربما أضعاف أضعافها، ليست كفيلة بإقناع «ممانع» واحد، في بيروت أو عمّان أو رام الله أو القاهرة أو تونس، بأنّ هذه الحملة لم تُنفّذ في الماضي لسبب واضح جلي، أعلنته بيانات الاحتلال ذاتها، مفاده أنّ تلك القدرات الستراتيجية «لم تكن في الايدي الخطأ»؛ وأنّ أحد أبطال «الممانعة» لم يكن، كما حال أبيه من قبله، إلا صاحب الأيدي الآمنة الأمينة المؤمّنة، التي خبرتها دولة الاحتلال. وتلك خبرة تعود إلى أيام حافظ الأسد/ وزير دفاع تسليم هضبة الجولان من دون قتال عملياً، مروراً باتفاقية خيمة سعسع 1974، حين باتت خطوط التماس مع الاحتلال الإسرائيلي محرّمة حتى على الشاة الضالة؛ وليس انتهاءً بالصمت على الاجتياح الإسرائيلي في لبنان 1982، ومجازر طرابلس والمخيمات بحقّ الفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية، والانخراط في «درع الصحراء» تحت رايات أمريكية وأطلسية، وخيار الصمّ البكم العمي إزاء حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة ولبنان…
ليست أقلّ انطواءً على تفضيح شائن، للبيت الأبيض أوّلاً ولجمهرة من الديمقراطيات الغربية تالياً، ثمّ الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، قبل أمثال بنيامين نتنياهو؛ نبرةُ الارتياح التي سادت سريعاً إزاء أخبار الاستهداف الإسرائيلي لترسانة الأسلحة الكيميائية، التي سبق لجيش النظام أن استخدمها مراراً وتكراراً ضدّ أبناء الشعب السوري. وكانت الصفقة السافلة التي رتّبتها موسكو مع واشنطن، سنة 2013، بصدد مخزون الأسلحة الكيميائية لدى قوات الأسد، قد حفظت ماء وجه الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إزاء «الخطّ الأحمر» الشهير في وجه استخدام تلك الأسلحة؛ وساد بعدها تعاقد صامت، مخفيّ من حيث الشكل ولكنّ رائحته ظلت تزكم الأنوف من حيث المضمون، جمع بين الولايات المتحدة وروسيا ودولة الاحتلال والنظام السوري، فحواه إطلاق يد الأسد في القصف الكيميائي والجرثومي، ما دامت الأهداف تُسمى غوطة دمشق وخان العسل وسراقب وجوبر وأشرفية صحنايا وسرمين…
في جانب آخر، لعله أشدّ إفصاحاً عن المطامع الإسرائيلية التاريخية في أرض سوريا، لم يتردد نتنياهو في إطراء تقدّم الجيش الإسرائيلي إلى داخل المنطقة العازلة التي أنشأتها اتفاقية سعسع لسنة 1974، ليس لاعتبارات وقوع المنطقة في «الأيدي الخطأ» هذه المرّة، بل لأنّ «مرتفعات الجولان ستظل إلى الأبد جزءاً لا يتجزأ» من دولة الاحتلال.
ومنذ أن ضمّها الكنيست الإسرائيلي وحكومة مناحيم بيغن في سنة 1981، لاح أنّ القرار الأممي 497 شدّد على انتماء الهضبة إلى السيادة السورية وخضوعها لاتفاقية جنيف الرابعة، أكثر من تشديد النظام السوري بقيادة الأسد الأب يومذاك؛ حيث اكتفت السلطة بتنظيم الزيارات إلى مدينة القنيطرة المدمّرة، والتسوّل المالي على مشاهد الدمار والخراب في بطاح الجولان. وتفصيل الجولان هذا اقتضى من نتنياهو تجديد الشكر للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي سبق أن شهدت رئاسته الأولى اعترافاً أمريكياً رسمياً بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السوري المحتل. والترابط، الثنائي حتى الساعة بين واشنطن وتل أبيب، قد يشهد محطات ثلاثية ورباعية وخماسية شتى بعد تنصيب ترامب في الرئاسة الثانية، وانضمام أطراف أوروبية وأطلسية، وربما عربية هنا وهناك أيضاً.
وكما استشعر نتنياهو أخطار انبثاق فجر جديد في سوريا ما بعد آل الأسد، كذلك أخذت تهتزّ تباعاً تلك المقولة الشهيرة حول سلام الأمر الواقع مع نظام «الحركة التصحيحية» في عهد الأسد الأب ثمّ وريثه، حيث سادت في جبهة الجولان المحتل حال اللاحرب التي لا تستتبع أيّ تنازلات إسرائيلية ذات معنى، وذلك منذ حرب 1973 وما أعقبها من اتفاقيات فصل القوات. واهتزاز هذا المعطى بات يتجلى، بوضوح غير مفاجئ بالنظر إلى المتغيرات المتسارعة في سوريا، في دوائر صهيونية سلّمت سابقاً بأنّ النظام الذي أداره الأسد الأب ووريثه من بعده هو الأفضل لدولة الاحتلال، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً واقتصادياً؛ وبديله (أياً كان، خاصة ذاك الذي تبدّت ملامحه خلال الأشهر الأولى بعد انطلاق انتفاضة 2011، وقوامه نظام وطني ديمقراطي تعددي، ذو قاعدة شعبية متينة، وجيش وطني يُعنى بمسائل الدفاع عن البلد وليس حماية الاستبداد والفساد…)؛ سوف يكون كابوس «الربيع العربي» الأكثر ضرراً على الكيان الصهيوني.
يوشك على الانطواء، أيضاً، سجلّ الخدمات التي قدّمتها «الحركة التصحيحية» على نحو مباشر وصريح وغير مستتر في أحيان كثيرة، إلى سياسات دولة الاحتلال، في مضامين ستراتيجية وليست تكتيكية فقط؛ لا تقتصر على الإقليم والمنطقة، بل تخدم السياسات الأمريكية والأطلسية، سواء بسواء. وإذا ابتدأت اللائحة من لبنان، والغزو الأمريكي للعراق، فإنها تمرّ بدور وسيط استطاب الأسد الأب أداءه، وسعى إلى نقله لوريثه: علاقة النظام مع إيران و«حزب الله» بما ترفعه من فزّاعة «ممانعة» زائفة، لكنها تمكّن تل أبيب من استدراج المزيد من المساعدات المالية والأسلحة المتطوّرة الأمريكية؛ ولقد توفّرت مظاهر هذه الخدمة تباعاً أيضاً، في أعقاب «طوفان الأقصى» وحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، وما انتهى إليه إرث حسن نصر الله، وانحسار النفوذ الإيراني. وعلى سبيل المثال فقط، السذّج وحدهم كانوا في حاجة إلى تصريحات 2011 التي أطلقها رامي مخلوف، ابن خال الأسد وكبير تماسيح الفساد في سوريا، حول ارتباط المصير بين النظام وإسرائيل، كي يدركوا أنّ بعض «الممانعة» يخدم إسرائيل أوّلاً، وثانياً، وعاشراً!
من جانبه كان الأسد، في أوّل حديث له مع صحافي غربي منذ انطلاق انتفاضة 2011، يتابع إيصال رسائل مشابهة لتلك التي أرسلها ابن خالته مخلوف، ولكن على نحو أكثر استهدافاً لهواجس الغرب، حكومات وشعوباً في الواقع، وأعلى نبرة من حيث توصيف المخاوف والهواجس، فضلاً عن نصب الفزّاعات: 1) التذكير بأنّ نظامه يقاتل «القاعدة» والإسلاميين، وبالتالي من مصلحة الغرب أن يقف على الحياد، هذا إذا لم ينخرط في المعركة مع النظام؛ و2) التدخّل في شؤون النظام «سوف يحرق المنطقة بأسرها» لأنّ سوريا هي «محور المنطقة، فإذا شئتم العبث بالأرض فسوف تتسببون في هزّة أرضية»؛ و3) سوريا «مختلفة، في كلّ اعتبار، عن مصر وتونس واليمن. التاريخ مختلف. والسياسة مختلفة».
واللائذ اليوم في موسكو، صحبة المليارات المنهوبة من خبز السوريين، ذاق طعم سوريا المختلفة، والأرجح أنّ نتنياهو أدرك أنّ حال اللاحرب مع آل الأسد دخلت منعطفاً نوعياً حاسماً، وخانة «الأيدي الخطأ» أوسع نطاقاً من الجولاني وصحبه، لأنها إنما بدأت من، وسوف تسير حثيثاً نحو، سوريا الجديدة؛ العريقة العتيقة، الأقدم ولادة، بما لا يُقاس، من سنوات آل الأسد الـ54، أو سنوات الكيان الصهيوني الـ76…
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
————————-
سورية ما بعد الأسد/ عمار ديوب
13 ديسمبر 2024
انتهت حقبة الذل والإفقار وفقدان الكرامة وغياب الحريات مع هروب بشّار الأسد إلى روسيا، سارقاً معه مليارات الدولارات، كما نشرت تقارير صحافية. هرب كلصٍ عديم الأخلاق، وكان كذلك طوال حكمه وحياته، وكناهبٍ الاقتصاد وثروات البلاد، وعبر شخصيات كانت بمثابة واجهات له ولعائلته وحتى لزوجته.
ولأنّه مجرد لصٍّ، فقد ترك البلاد من دون تسليمٍ ديمقراطيٍّ للقوّة الأكثر تنظيماً، ونقصد هيئة تحرير الشام، أو للمعارضة المكرّسة، الائتلاف الوطني للثورة وقوى المعارضة. كان مقصده بذلك إدخال البلاد بحالةٍ من الفوضى والنهب والاقتتال بين الفصائل والتدخل الخارجي، وإذ لم تتأخر الدولة الصهيونية عن ذلك، فقامت بتدمير أغلبية البنية التحتية العسكرية، فإن هيئة تحرير الشام ارتبكت من سرعة انهيار النظام، وبدأت بالتعثر في قرارات سيادية، سنشير إليها، وهذا بالضبط ما كان يريده النظام البائد، ولكن قضية الفوضى أو الاقتتال لم تتحقق، وهذا مهم، غير أن النهب حصل.
إذاً بدأت المرحلة الانتقالية، وهي تتطلب إعادة تشكيل الدولة؛ تحديد شكل النظام السياسي، وشكل الاقتصاد، وإعادة تشكيل الجيش والشرطة، والعلاقات بين السلطات، وإقرار الدستور. بدأت هيئة تحرير الشام بضبط الفوضى، وإيقافها، وعبر كوادرها، وفي مختلف المدن، وهم ملتزمون بالقرارات التي تُصدرها الهيئة عبر هيئات تابعة لها، عسكرية وسياسية. إضافة إلى ما ذكرنا، عَيّنَ حكومة مؤقتة، وحدّدت لنفسها ثلاثة أشهر، لتدبير شؤون الدولة والموطنين، وريثما تنتظم أعمال مؤسسات الدولة، وربما كان خياراً صائباً، ولكن الخطأ هنا، أن يأتي بالشخصيات نفسها لحكومة الإنقاذ في إدلب، وتجاهل شخصيات كرياض حجاب أو فاروق الشرع مثلاً، وشخصيات كثيرة، كانوا وزراء وانشقوا عن النظام البائد. هذا ليس صائباً، ولكن يمكن تفسيره بما هو ارتباك كبير، وبسبب سرعة انهيار النظام، وضرورة ملء الفراغ وتأمين حاجات الناس الأساسية، الاقتصادية، خصوصاً الكهرباء، الوقود، الخبز، السلع، تفعيل القضاء، تحقيق الأمن، الصحة، التعليم. كان يمكن الاستعانة الفورية بالضباط المنشقين، لإعادة تفعيل مؤسّسة الشرطة أو الجيش مثلاً، ولكن هذه الحكومة لم تفعل ذلك، وظلَّ الاعتماد على كوادر الهيئة بشكل رئيسي.
دخلت سورية في مرحلة انتقالية شديدة الخطورة، فالجهة الرئيسية المسيطرة مصنّفة إرهابية، وهناك عشرة ملايين موضوعة لرأس أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني). ولم تعد الهيئة تحكم إدلب وبعض الأرياف، بل سورية بأكملها. وبالتالي، هناك تعقيدات ترتبط بالعلاقة مع الدول الإقليمية والعظمى؛ فمثلاً لم تستطع مواجهة تدمير العدوان الصهيوني البنية التحتية العسكرية، فكيف ستدير العلاقات مع الدول الإقليمية. هيئة تحرير الشام وزعيمها بأمس الحاجة لشخصيات وطنية، وهذا يتطلب انفتاحاً كبيراً عليها، والدعوة الفورية إلى عقد مؤتمر وطني لنقاش الوضع الراهن، وكيفية تحقيق المرحلة الانتقالية، والنهوض بسورية وتحقيق مصالح كافة السوريين.
تأييد بعض الدول للتغيير في سورية يقابله ترقبٌ كبير من دول أخرى، ورفضٌ من دول ثالثة. تمسّك أحمد الشرع وهيئته بالوزارة ذاتها في إدلب، وشعوره بالقوة والهيبة أمر خاطئ، سيما أن النظام عَقّدَ الخطوات الأولى للبدء بالمرحلة الانتقالية. هناك فصائل مسلحة، وهناك “قسد” قوة عسكرية محمية من الأميركان، وهناك فئات كثيرة معادية بالأصل لهيئة تحرير الشام، وبينهم اقتتال في السنوات السابقة، وهناك فصائل قد تتضارب مصالحها مع المرحلة الجديدة، وهناك التجاهل للشخصيات السياسية المعارضة، وهذا سيدفعها إلى مواقع المعارضة من جديد وقد بدأت بالانتقادات الشديدة ضد الهيئة.
وتُشكِّل صعوبة النهوض بالاقتصاد المنهوب من النظام السابق مشكلة كبيرة. لهذا، هناك حاجة كبيرة، لتفادي التعقيدات الكبيرة للدعوة إلى مؤتمرٍ وطنيٍّ للشخصيات والقوى السياسية، وتخفيف الاستعانة بكوادر هيئة تحرير الشام والتوقف عن العقلية الإقصائية مع الفصائل أو المعارضين أو الشخصيات الخبيرة بشؤون إدارة الدولة والمؤسسات والجيش.
سيتعاظم التدخل الخارجي بشكل كبير، وأميركا وروسيا موجودتان في سورية، وهناك تركيا، ولكن تحييد مصالح الدول هذه، وغيرها، يتطلب الكثير من الدقة، والعقل السياسي والدولتي الراجح، سيّما أن تلك الدول ستسعى إلى تحقيق مصالحها في سورية. وجود توافق دولي وإقليمي بدرجة ما على إنهاء النظام لم يرافقه ضبط عملية الانهاء، وبالتالي، ليس النظام القديم وحده من أراد إدخال سورية بالفوضى والاقتتال بل والدول التي توافقت؛ هذا استنتاج منطقي من سياق الوقائع، وبالتالي، ستمارس تلك الدول الضغوط على المؤسسات الجديدة وعلى أحمد الشرع والهيئة للخضوع لسياساتها في سورية. ومواجهة الضغوط الخارجية غير ممكن من دون توسيع دائرة القوى المشاركة بالسلطة السياسية، وتنظيم مؤسسات الدولة، ولهذا، وعلى أهمية تعيين حكومة مؤقتة وهي ضرورية، ولكن يجب ألّا تعطى الحق بقرارات تشريعية، أو سيادية، والاكتفاء بتدبر شؤون المواطنين. الخطأ الأن، أنّها، بدأت بفرض قرارات سيادية في القضاء والاقتصاد، وغاب عن توجهاتها إعلان الحريات العامة أو دعوة القوى السياسية للنشاط.
هناك فرحٌ كبيرٌ بالتغيير، وهناك موقفٌ شعبيٌّ مؤيدٌ توجهات الهيئة لما أبدته من انضباط في العلاقة مع الشعب وعدم الانجرار إلى التصفيات المجانية أو الثأر من شخصيات مارست الإجرام، وتفهم الاختلاف الديني والقومي، وإن شابت بعض الأخطاء المشهد بتقييد حريات المرأة، وهذا رفضته فئات واسعة. هناك رضى كبير عن البيانات التي صدرت مع معركة تحرير حلب؛ هذا النهج هو ما يجب التوسّع فيه، والانطلاق منه، ورفض مختلف أشكال الاستئثار بالحكم، ولصالح هيئة تحرير الشام، وزعيمها؛ فالاستئثار هو المدخل نحو الفوضى وللاقتتال وللتدخل الخارجي وانفضاض التأييد وتسييس الانقسامات الأهلية. روسيا وأميركا موجودتان في سورية، والدولة الصهيونية على مداخل دمشق. أيضاً، لا تزال شخصيات النظام الأساسية القديمة حرّة، ويمكن أن تعيد ترتيب قوتها، وانطلاقاً من لبنان أو العراق أو إيران وحتى روسيا.
الآن، هناك حكومة مؤقتة، ويُفترض، وغير دورها الخدمي وتدبير شؤون المواطنين، العمل من أجل تحقيق قضايا الانتقال السياسي، ونحو نظام ديمقراطي، وموقف وطني من قضية الجولان وإعادته لسورية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإيقاف توجهات النظام الراحل نحو تفكيك مؤسسات الدولة والتراجع عن كل القرارات الليبرالية منذ استلامه الحكم. يحقّق الانطلاق من القضايا أعلاه مصلحة الأكثرية السورية. وللبدء بذلك لا بد من عقد المؤتمر الوطني، والدعوة إلى جمعية تأسيسية ولعودة المعارضات من الخارج، وصياغة دستور يحقق مصالح كل السوريين، بوصفهم مواطنين متساوين، لا مكونات طائفية أو قومية أو عشائرية.
المرحلة الانتقالية التي دخلت سورية فيها مسؤولية عامة، يتحملها كل السوريين، وكل من موقعه، فهل تتّجه سورية نحو النهوض الوطني أم نحو التفكك المجتمعي؟ الأمر متعلق بالسياسات التي ستعتمدها كل القوى، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام، وانطلاقاً من النهوض الوطني.
———————–
سوريا ما بعد عائلة الأسد… آمال مفتوحة ومخاطر عديدة/ عبد الحميد صيام
13 كانون الأول 2024
التطورات الأخيرة في سوريا استحوذت على اهتمام العالم بأجمعه وهمشت المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة صباح مساء. لقد تنوعت الآراء والتحليلات لما جرى في الأحد عشر يوما، التي أطاحت بأعتى نظام قمعي في العصر الحديث حيث قبض على خناق سوريا الأسد الوالد والأسد الإبن لمدة 54 سنة. غالبية الشعب السوري اليوم لا يعرف غير الرئيسين اللذين رفعا شعارا والتزما به «الأسد قائدنا إلى الأبد»، وأضيف إليه مقطع مع انفجار الاحتجاجات الشعبية عام 2011 «الأسد أو نحرق البلد».
وأود أن أدلو بدلوي أسوة بالغالبية الساحقة من الكتاب والمعلقين والمحللين والذين انقسموا إلى قسمين، كما فعلوا عام 2011، فمنهم من رقص فرحا لسقوط النظام، ومنهم من اعتبر أن آخر قلعة من قلاع محور المقاومة والممانعة، سقط وأن الشرق الأوسط الجديد تحت الهيمنة الإسرائيلية قد تحقق الآن. وأنا أميل إلى رأي يجمع بين الموقفين كما فعلت عام 2011 عندما أعلنت أنني مع سوريا لا مع النظام. ففي الوقت الذي سعدت بسقوط النظام الذي لا أجد شبيها له في القمع إلا نظام عائلة كيم الجد والإبن والحفيد في كوريا الشمالية. ولكنني في الوقت نفسه أريد أن أنبه لمجموعة من المخاطر والمطبات والألغام التي قد تتكشف في الأيام المقبلة.
– لا احد يستطيع أن يزايد على الشعب السوري في حبه لوطنه. وهذه الملايين التي تدفقت إلى الشوارع تحتفل بسقوط النظام لا أحد يحركها إلا الآلام التي عاشوها، والحسرة على الأحباب الذين فقدوهم في حماة والغوطة ومضايا وداريا والزبداني وحمص وحماه وحلب وغيرها. من حق ملايين اللاجئين أن يفرحوا بعودتهم إلى ديارهم، حتى لو وجدوها مهدمة، وملايين المشردين الذين بدأوا يعودون ومشاعر حب الوطن والبيت والضيعة والحارة تغمرهم. من حق عشرات الألوف الذين التقوا بأحبتهم بعد أن خرجوا من السجون أن يرقصوا في الشوارع، بعد أن فقدوا الأمل في استنشاق نسائم الحرية يوما، بمن فيهم أكثر من 900 فلسطيني ضحايا شعبة فلسطين في المخابرات، عدا آلاف اللبنانيين والأردنيين. ما كشف إلى الآن من جرائم النظام وفساده، لا يتعدى مقدمة لمجلدات، خاصة ما كان يجري في السجون، وسيتم توثيقها للأجيال القادمة، لتقرأ عن هذه الحقبة السوداء في تاريخ سوريا.
الشيء اللافت أن كثيرا من الذين كانوا مع النظام بدأوا يعلنون براءتهم منه، وكان أولهم سفير النظام في موسكو بشار الجعفري، أول من رفع علم سوريا الجديد القديم (الذي اعتمد عام 1932). كما أن بعثة سوريا في الأمم المتحدة رحبت بممثلة الثورة الجديدة وتسلموا العلم الجديد منها، وكانت الابتسامات على وجوههم جميعا. يجب ألا نكون أنانيين، بالسكوت على جرائم النظام ضد شعبه، حتى لو كان يؤيد فلسطين (وذلك موضوع تساؤلات ليس الآن وقت بحثها).
– لغاية الآن لم نر مجازر ترتكب، ولا عمليات انتقام ولا اقتحامات ولا استهداف للطوائف أو الأقليات. وكان نداء العفو العام على كل من يرمي سلاحه من الجيش والأجهزة الأمنية خطوة صحيحة يجب أن تليها خطوات أخرى سديدة، وأهمها حماية الأملاك العامة والمؤسسات. إن التأكيد على حماية الأقليات والسماح بنصب أشجار عيد الميلاد وممارسة الطقوس الدينية بكل حرية، أمور تبشر بالخير ونأمل ألا تنحرف البوصلة إلى اضطهاد الأقليات الدينية والعرقية، وأن لا نرى تجربة طالبان بعد كل التعهدات التي قطعتها.
– لم نر ولم نسمع ولم نقرأ عن أقليات من خارج الوطن السوري شارك في عمليات السيطرة على المدن الواحدة بعد الأخرى، لا شيشان ولا طاجيك ولا أوزبيك ولا تركمان. الواضح أن هيئة تحرير الشام والجيش السوري الحر في السنوات الأربع الأخيرة منذ اتفاقية عام 2020 عملوا على إنهاء المجموعات الصغيرة وطرد الأجانب وتوحيد المجموعات السورية طوعا أو كرها، حتى كادت الحركة الأخيرة تكون موحدة تماما، وهو ما قتل الحراك الأول بعد أن فاضت البلاد بكل أنواع الإرهابيين والمتطرفين والانتهازيين الذين عوموا البلاد بألف فصيل وفصيل. يبدو أن هؤلاء تعلموا (أو لقنوا) بعض الدروس من أخطاء الماضي وقدموا أنفسهم بعيدا عن التطرف والتعصب- نأمل أن يستمر ذلك التوجه لقيادة سفينة البلاد إلى بر الأمان.
– ما من شك، أن النظام ما كان يسقط بهذه السهولة لولا أن الجيش تخلى عن النظام ورفض أن يدخل في معارك دموية مثل السابق، كما فعل جيش مبارك في مصر، وجيش بن علي في تونس. فمعنويات الجيش كانت منهارة، حيث لا يزيد راتب الجندي عن عشرة دولارات والضابط عن 25 دولارا. وقد حاول الأسد أن يغريهم في أول يوم للحراك 27 نوفمبر، بمضاعفة رواتبهم لكنها خطوة جاءت متأخرة جدا ولم تقنع أحدا.
– لا نشك أيضا أن تركيا لعبت دورا محوريا في ترتيب أمور الجماعات المسلحة وتدريبهم وتسليحهم. لقد أحس أردوغان بالإهانة عندما مد يده لبشار وقبل الاقتراح الروسي للقاء الأسد ثلاث مرات، وكان الأخير يرفض اللقاء. لقد نجحت روسيا بترتيب لقاءات بين وزيري الدفاع التركي والسوري، وبين رئيسي جهازي المخابرات، رفض بشار لقاء أردوغان، دفع الرئيس التركي للتدخل بشكل أوسع في ترتيبات الوضع للجماعات المسلحة في محافظة إدلب، خاصة بعد ارتفاع حدة هجمات حزب العمال الكردستاني، وبعد عملية أنقرة على مقر شركة صناعات الطائرات والفضاء يوم 23 أكتوبر الماضي. كما أن أردوغان كان يتعرض لضغوطات داخلية كبيرة، أحس بها في الانتخابات السابقة عندما فشل في الحصول على 51 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى. الوجود السوري كان ورقة انتخابية أضرت بأردوغان، سواء اللاجئين السوريين داخل البلاد الذين يصل عددهم لنحو أربعة ملايين، أو الملايين الثلاثة في إدلب الذين يعتمدون أساسا على المساعدات التركية، ما أرهق الأوضاع الاقتصادية في تركيا وهبط بقيمة الليرة إلى مستوى غير مسبوق.
– روسيا أيضا تخلت عن الأسد ولم تعد قادرة على التورط في حرب مدمرة على طريقة عام 2015 بسبب حرب أوكرانيا وقرار الولايات المتحدة السماح لكييف باستخدام أسلحة بعيدة المدى تطال التجمعات السكانية داخل روسيا. كما أنهم غير راضين عن أداء الأسد بعد أن سلموه حلب عام 2016 ومنذ ذلك اليوم لم يقم بخطوة واحدة لتحسين البلاد وتوسيع نسبة المشاركة والمصالحة الشاملة. فبدل إعادة بناء البلاد تخصص ماهر وفرقته الرابعة في انتاج حبوب الهلوسة «كبتاغون» بكميات كبيرة يصدرها للعالم، خاصة منطقة الخليج عن طريق الأردن ما دفع القوات الجوية الأردنية لشن عدد من الغارات على الحدود مع سوريا.
– يجب ألا نغفل عن أن العلاقات بين النظام وإيران أيضا كانت متوترة بسبب الاختراقات الأمنية واستهداف كل المواقع الإيرانية في سوريا، وعدم دعمه حزب الله خلال مشاركته في إسناد جبهة غزة. ولا نشك في أن حزب الله كان أيضا منزعجا من مواقف النظام بسبب هذا الابتعاد لدرجة أن الأسد لم يعز في استشهاد حسن نصر الله إلا بعد ثلاثة أيام موجها رسالة للمقاومة اللبنانية وليس للحزب. إذن كان الأسد معزولا وعلاقته ليست جيدة لا مع روسيا ولا مع إيران ولا حزب الله. وبعد الهدنة بين لبنان وإسرائيل يبدو أن قيادة هيئة تحرير الشام رأت أن الوقت قد حان للتحرك.
وأخيرا أود أن أؤكد أن التحديات التي تواجهها القيادات الجديدة كبيرة، خاصة أن إسرائيل استغلت الفراغ الأمني والعسكري وتقوم بتدمير كل إمكانيات سوريا الدولة. نتفق أن الأولوية للبناء وعودة اللاجئين والمهجرين وبناء المؤسسات وتنظيم البلاد. لكننا سنحكم على المرحلة الجديدة من خلال الممارسة لا من خلال الشعارات. نريد أن نرى بناء سوريا الحديثة على أسس الحرية والديمقراطية والتعددية وحماية الأقليات والحرية الدينية واحترام حقوق الإنسان وإنصاف المرأة، وقبل هذا وبعده نريد أن نرى دولة القانون والدستور الشامل الذي يتوافق عليه أبناء وبنات الشعب السوري العظيم.
كاتب فلسطيني
القدس العربي
————————–
خراب سوريا مسؤولية عالمية: ما العمل؟
رأي القدس
13 كانون الأول 2024
بيّن السقوط السريع لرئيس سوريا المخلوع بشار الأسد، حالة موت سياسي بالسكتة القلبية لنظامه، وانتهاء لتاريخ صلاحيته فاجأ السوريين أنفسهم، كما فاجأ العالم.
تبخّر الجيش الذي كان يعتبر في المرتبة السادسة عربيا والمرتبة 47 عالميا، وسقطت الفيالق والفرق الجرارة، وانهارت أجهزة المخابرات المرعبة، وهرب الأسد في طائرة حربية روسيّة، فيما اختفى باقي القادة الكبار المطلوب بعضهم في تهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتشتت الأنصار المتورّطون في الدم، أو الخائفون من الانتقام والعدالة.
أظهر الانهيار أن التغوّل الشديد للنظام في حربه ضد السوريين، والدعم الهائل الذي تلقّاه من روسيا وإيران، كانا عنصرين كبيرين، ولكن غير حاسمين، في تأخير سقوطه، وأن الأسباب الأخرى التي أعاقت وصول السوريين، رغم تضحياتهم الهائلة، وشجاعتهم، كانت تتعلّق بـ«أصدقائهم» المفترضين، الذين تجمّع ممثلو دولهم، في الفترة الأولى للاحتجاجات، بدعوى حماية المدنيين، وتحقيق آمالهم في انتقال سياسيّ إلى نظام مدني ديمقراطي يخلف نظام العائلة الحاكمة الطاغية.
تبدّدت الآمال شيئا فشيئا، وانفضّت الدول الكبرى عن القضية السورية، وبعد انكسار «الخط الأحمر» الذي أعلنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والذي يحظر على النظام استخدام الأسلحة الكيميائية لقصف السوريين، قامت المنظومة العالمية بالتطبيع التدريجي مع النظام، وهو ما شجّع «الجامعة العربية» على إعادة نظام الأسد إليها، وبدء بعض الدول الأوروبية، مثل إيطاليا، عملية مشابهة للتطبيع معه.
مع وصول الثوار المفاجئ إلى دمشق، وإعلانهم حكومة مؤقتة، انكشفت للعيان الأوضاع الصعبة جدا للسوريين، والملفّات المهولة التي يجب على العالم التعاطي معها، من ملف اللاجئين السوريين الذي يؤرق الدول المجاورة لسوريا، والدول الأوروبية التي أوقف أغلبها، مؤخرا، بحث طلبات لجوئهم، وملف الاقتصاد المنهار الذي جعل 70 في المئة من سكان البلاد، حسب أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، بحاجة لمساعدات إنسانية (9 من 10 سوريين يعيشون تحت خط الفقر) وملف الوجود العسكري الأجنبي، من قبل أمريكا وروسيا وإيران وتركيا، وكذلك التحديات الأمنية، ممثلة، أولا بإسرائيل التي دمّرت الجزء الأكبر من بنى الجيش السوري، واحتلت مناطق جديدة من سوريا، وثانيا، بحزب العمال الكردستاني التركي، الذي يسيطر على الثلث الأكثر غنى بالموارد في سوريا، وملف تهريب المخدّرات الذي يؤرق الأردن وباقي الدول العربية.
لقد أظهر استلام محمد البشير، رئيس الحكومة المؤقتة المعيّن من قبل «إدارة العمليات العسكرية» للمعارضة التي أسقطت النظام، الضعف الشديد للحكومة السابقة التي اعترف رئيسها، محمد غازي الجلالي، أن نظام الأسد كان قد حوّلها إلى أداة فارغة تُدار من القصر الجمهوري، وضباط فروع الأمن الكبار.
تظهر هذه المعطيات، بوضوح، أن «دم سوريا» توزّع بين الجميع، وأن المنظومة الدولية، على اختلافاتها السياسية، شاركت، بشكل مباشر، أو عبر التواطؤ الضمني والتراجع عن الفعل المجدي، في تحوّل النظام السوري المخلوع إلى «فضيحة عالمية» لم يسبق لها مثيل، وأن هذا يوجب على الجميع الاعتذار من السوريين، والعمل الحثيث على مساعدتهم، أولا عبر رفع العقوبات الاقتصادية والسياسية عن سوريا، وثانيا، عبر المساعدة في انتقال سياسي نحو نظام ديمقراطي تعددي.
يمثّل وصول وفد تركي، يضم وزير الخارجية هاكان فيدان، ورئيس جهاز المخابرات إبراهيم قالن، رفقة وفد قطري، وترافقه مع إعلان 8 دول أخرى رغبتها في إعادة فتح سفاراتها في دمشق، مبادرة مهمة في هذا الاتجاه، وهو يتناظر أيضا مع التحرّكات التي يقوم بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في المنطقة، والتصريحات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي، و«مجموعة السبع» وحتى الاتصالات التي تجريها روسيا مع «القيادة الجديدة» والتصريحات التي أعلنتها إيران عن ضرورة التأقلم مع التطوّرات في سوريا.
وباستثناء إسرائيل، التي استغلّت أوضاع النكبة السورية للإغارة المتواصلة على البلاد، والتهديدات المستمرة للنظام الجديد، فإن ما يجري في ساحات العالم مؤشّرات إيجابية لكنّها غير كافية، ولا تتناسب مع حجم المسؤولية الكبيرة التي يتحملها العالم تجاه السوريين.
القدس العربي
———————————–
هل تغيّرت “هيئة تحرير الشام”؟/ حسام جزماتي
2024.12.13
على وقع الانتصارات السريعة التي حققتها الفصائل السورية المعارِضة، وتصدّر «هيئة تحرير الشام»، وقائدها أبي محمد الجولاني، المشهد؛ كثر التساؤل، ربما في خارج البلاد أكثر من داخلها، عن مدى جدية تخلي هذا التنظيم عن السلفية الجهادية التي اعتنقها منذ نشأته باسم «جبهة النصرة».
يعرف كثير من المراقبين أن تحولات قيادة «الهيئة» قديمة وتراكمية. ونعني هنا الجولاني نفسه وما يسمى «إدارة الشؤون السياسية» التي تعبّر عن توجهاته ويرأسها زيد العطار، أحد رجاله الموثوقين.
وقد تولت هذه الإدارة إرسال بيانات التطمين لجهات متعددة في الداخل والخارج أثناء المعارك الأخيرة لتؤمّن لها غطاء سياسياً وتحول دون اجتماع الأعداء والمتخوفين في حلف لمحاربة «الإرهاب» ولإعاقة تقدمها.
أبرز ما تقدّمه قيادة «الهيئة» للخارج هو أن سجلها، حتى خلال تبعية «النصرة» لداعش ثم للقاعدة، يخلو من عمليات عابرة للحدود، وهو ما يعدّه الغرب إرهاباً. فضلاً عن تعهدها، في طبعتها الجديدة منذ سنوات، بضبط الجهاديين في الشمال السوري؛ سواء بضمهم إلى قواتها وتحريكهم وفق إيقاعها، أو بشل قدراتهم على الإعداد لعمليات في الخارج.
في الدرجة الثانية من هرم «الهيئة» عدد من الشرعيين والعسكريين والمدنيين الذين يشكلون مجلس شورى التنظيم وأشهر وجوهه.
ويسير هؤلاء في ركب القيادة بحجج مختلفة من «السياسة الشرعية» التي تقتضي الحكمة بعدم استعداء العالم والمحافظة، في الوقت نفسه، على توجه إسلامي داخلي متشدد لكنه لا يصل إلى السلفية الجهادية.
أما من لم يقبلوا بهذه التحولات فقد وجدوا أنفسهم خارج الجماعة وتنادوا لإنشاء مجموعاتهم الصغرى التي كان أبرزها «حراس الدين»، الفرع السوري الرسمي للقاعدة، لكن المعاق عن أي فعل. وسوى ذلك في «الهيئة» أمشاج من مجموعات مهاجرين، ولا سيما التركستان والأوزبك، لكنهم ليسوا فاعلين في القرار السياسي. وأيضاً بقايا من الجهاديين العرب، المصريين والأردنيين والتونسيين وسواهم. وقد اندرج هؤلاء، بدرجات مختلفة من الرضى، في مشروع قيادة الجماعة الجديد وتعايشوا مع تحولاتها، خاصة مع التشديد الدولي على رصد حركتهم وانسداد آفاق الانتقال إلى «ساحات» جهادية أخرى أو العودة الآمنة إلى بلدانهم الأصلية. وهناك أغلبية من السوريين ممن انتسبوا إلى «الهيئة» في مراحل مختلفة من تاريخها الآيديولوجي، وشبان تطوعوا فيها كفصيل متميز. يراوح هؤلاء بين مستويات عديدة من التسليم لمسار القيادة وسياساتها، ويتلقون تبريراتها عبر جهازها الشرعي المنظم من الأعلى لتحت. ليست «الهيئة» جسماً صلباً على قلب رجل واحد إذاً. لكنها لا تحوي كتلاً متماسكة وشخصيات ذات شعبية فئوية منافسة. خاصة بعد الصعود الصاروخي للإيمان بنجاح قيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في تقوية الجماعة وصولاً إلى المعارك الظافرة الحالية، فضلاً عما يرى الكثيرون أنه براعة للجناح السياسي في «اللعب» بالأوراق مؤخراً.
لم تقتصر تحولات قيادة «الهيئة»، بعد سنوات من بدئها، على التصريحات والبيانات. بل تُرجمت إلى تغييرات هيكلية ومناصبية تهندس هذه المسيرة لتنتقل من كونها تغيراً في أفكار الجولاني إلى أن تصبح تحولات شاملة في الجماعة. تلك مهمة عسيرة لم تنته بعد وقد لا تنتهي أبداً. لكن إمساك قائد «الهيئة» بخيوط اللعبة داخل تنظيمه يبدو قوياً ومستمراً وغير قابل للانقلاب عليه في المدى المنظور. ويبقى أن هذه مخاوف غربية أساساً، لا تكفي تهدئتها لطمأنة السوريين. فخلال سعي الجولاني الحثيث للحصول على الاعتراف من الخارج، وصولاً إلى الشطب من التصنيف بالإرهاب كما يأمل دون معطى جدي يدعم ذلك، ظن أن تعامله مع الداخل أمر ليس تحت المجهر. فأنشأ جهازاً أمنياً متزايد القسوة والرقابة على المجتمع، وإن لم يصل إلى وحشية مخابرات الأسد. وسيطر على واجهة صورية مدنية هي «حكومة الإنقاذ» التي يختار رئيسها ووزراءها بعد دراسة أمنية وشخصية، كما في حكم الأسد. ومثله أيضاً أسس ما يشبه «جبهة وطنية تقدمية» ضم إليها فلول الفصائل التي هزمها باقتتالات داخلية خاضها كثيراً لتوسيع سيطرته. وأمسك بموارد المنطقة عبر الإشراف المباشر أو من خلال محسوبيات. فضلاً عن تفاصيل أخرى. ليست «الهيئة» خطراً على الغرب، لا لأنها تغيرت جماعياً بل لأن زعيمها الأوحد والمزمن قد تغير. قد ينفع هذا التحول في ملفات الإرهاب والتعامل مع الأقليات، التي أُتخمت بالتطمينات خلال الأيام الأخيرة، لكنه ليس أمل السوريين بالخلاص من الاستبداد والفساد وحكم الأمنيين وتعيين ذوي القربى والدُمى.
يستفيد الجولاني اليوم من أن معظم خصومه والمشككين فيه يسددون رصاصاتهم إلى ملابسه القديمة المعلقة على العصيّ دون غسيل حتى. وهو جاهز لأن يقدّم ما يكفي من تعهدات أو ضمانات تؤكد أنه غادر ماضيه السلفي الجهادي إلى الأبد لكنه ليس مستعداً للتنازل عن وضعه الحالي مثل أي سلطوي يسعى لترسيخ سيطرته، وجّه إعلامه نحو تسليط الضوء على تعامله مع مسيحيي حلب، متجاهلاً القضايا المتعلقة بسكان إدلب الذين خضعوا لحكمه سابقاً. وفي خطوة مثيرة للجدل، فتحت قواته أبواب سجني حلب وحماة، وأطلقت سراح جميع المحتجزين دون تمييز واضح بين السجناء السياسيين والجنائيين، في حين بقيت السجون في إدلب مغلقة على معتقلي الرأي ومنظمي المظاهرات السلمية التي طالبت بتغيير سياسي.
تلفزيون سوريا
——————————-
سقط الأبد إلى الأبد/ رشا عمران
13 ديسمبر 2024
أخيراً، تخلصت سورية من حكم أقذر عصابةٍ يمكن أن تمرّ في التاريخ. مهما تحدّثنا عن ارتكابات أفرادها ومنظومتها، ومهما شاهدنا من حقائق تفغر الأفواه أمامها. هناك دائماً في تاريخها القذر ما هو أشدّ هولاً بكثيرٍ مما رأينا، وأظن أنه لن يطول الزمن قبل أن يقرّر أحد ما كشف كامل ملفّات هذا النظام وارتباطاته بكل مافيات العالم الأسود والمظلم. تحرّرت سورية أخيراً، وسقط هذا الجدار المهول الذي حوّلها طويلاً إلى سجنٍ متوحش بطبقاتٍ عديدة، لن يكون التخلّص منها سهلاً ويسيراً، وستمرّ سورية بطريق طويل ووعر، قبل أن يتم شفاؤها بالكامل.
لستُ من المتحمّسين لمن وصل اليوم إلى قيادتها، لا أستطيع نسيان مرجعياتهم ولا تاريخ بداياتهم في سورية. لا أحكي عن عقيدتهم، فلكل شخص مطلق الحرية في اعتناق ما يشاء من العقائد، شرط عدم فرضها على آخرين لا تناسبهم. ولكن هذا حصل من دون أن يستشار أحدٌ من السوريين في ذلك. وهو ربما ما يجب أن يكون الأساس في تنظيم الحياة السورية لاحقاً: أن يُستشار السوريون في كل ما يتعلق بشؤونهم، لكن ليس على طريقة البعث والاستفتاءات التي كانت تُقام تحت رعاية أمنية محكمة بنتائج محسومة سلفا، ولا على طريقة الشورى التي تناسب من هم في القيادة اليوم. وإنما عبر آلياتٍ ديمقراطية وصيغ حديثة تتناسب مع تطلعات السوريين بكل أطيافهم واتجاهاتهم وطبقاتهم وهوياتهم، وتتناسب مع ثورة الحرية والكرامة التي دفع ملايين السوريين أثماناً باهظة لها. كان مطلب السوريين منذ البداية الحرية والديمقراطية والدولة المدنية، وهو ما ينبغي أن يبقى الشعار الدائم حتى إنجازه.
الشعوب هي من تصنع طغاتها. تتماهى مع جلاديها أيضاً، وهو ما يعرف بمتلازمة استوكهولم. هذا كان واضحا جداً في سورية، التعلق المرضي إلى درجة الموت فداء ظالم وفاسد هو متلازمة مرضية حولت سورية إلى بلد الموت حرفياً، وهو أيضاً ما يجعل المتماهين مع الزعيم الفائت يعاودون التماهي مع أي زعيمٍ قادمٍ بسرعة شديدة، فالفجوة التي يخلفها رحيله في أرواحهم تحتاج أن تمتلئ كي يكتمل توازنهم، هذه اضطرابات نفسية معقدة لكنها تفسّر لماذا يحوّل بعضهم الحاكم إلى طاغية. هو ما يفسر أيضا سرعة محاولات الالتصاق بقائد هيئة تحرير الشام وتعظيمه، واعتباره فاتحاً وزعيماً، وإلى آخر هذه الألقاب التي اعتادت شعوبنا على إطلاقها على الحكّام. لكن هذا، رغم سهولة فهمه، شديد الخطورة، ذلك أنه يؤسّس لاستبداد جديد ويؤسّس لحكم فردي يسهل تكريسه في الحالة السورية التي تسيطر عليها هيئةٌ تنتمي إلى أيديولوجية تميز نفسها عن العالمين أساسا، من دون أن تكون قد أنجزت أي شيء، فكيف وهي تبدو أنها المحرّرة لبلد مثل سورية من نظام مثل نظام الأسد؟
لم تنته الثورة، هذا ما يجب أن نعيه جميعاً نحن السوريين، الثورة الحقيقية بدأت الآن، وهو ما يستدعي عودة جماعية إلى سورية مهما كانت الظروف، عودة النخب السياسية والثقافية والفكرية، عودة الصناعيين والتجار ورجال الأعمال والمستثمرين، عودة الكوادر الثورية الشابة التي لعبت دوراً كبيراً في الضغط على المجتمع الدولي لإجباره على التخلي عن الأسد. علينا جميعا أن نعود إن كنا نخاف على سورية كما ندّعي. علينا أن نعقد موتمراً وطنياً في داخل سورية، أن تفتح الملفّات كلها، وأن تتحقّق العدالة الانتقالية لمحاكمة كل المجرمين لأي جهةٍ انتموا (لم تكن جبهة النصرة بريئة من الارتكابات بالمناسبة). لن يتحقق الأمان في سورية من دون عدالة انتقالية، هذا ما يجب الانتباه له جيداً، وإلا فستعود لتغرق في الدم. علينا أن نتفق على المبادئ التي سيحدّد بها الدستور السوري القادم، وعلى شكل الدولة وهويتها. سيقول بعضهم إن هذا كله سابق لأوانه، وإن البلد يحتاج زمناً ليتعافى. لكن هل الزمن في صالح سورية، وهي تنتقل من حكم البعث المستبد لتقع في سيطرة حركة أيديولوجية أخرى لن تقلّ استبداداً إذا ما طالت فترة بقائها في القيادة. يحتاج السوريون اليوم لصياغة عقد اجتماعي جديد لبناء دولة حديثة، مدنية أو علمانية، هذا متروكٌ للشعب لتحديده.
العربي الجديد
——————————
سوريا الجديدة على المحك في مواجهة 11 تحديا
الجزيرة نت- خاص
12/12/2024
طوت عملية “ردع العدوان” التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية ممثلة بإدارة العمليات العسكرية صفحة حكم عائلة الأسد، وفتحت أبوابا مشرعة على مستقبل يحمل آمالا عريضة للسوريين، وفي الوقت نفسه يضع السلطات الجديدة للبلاد أمام تحديات جديدة.
ورغم التصريحات التي صدرت عن دبلوماسيين وسياسيين بشأن فرصة تاريخية لإعادة بناء البلاد وتحقيق الاستقرار، والتأسيس لمرحلة جديدة تدخلها سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، فإن الواقع يشير إلى تحديات ضخمة تواجهها البلاد في ظل واقع معقد محليا وإقليميا ودوليا.
في هذا التقرير سنلقي الضوء على أبرز هذه التحديات، ونستعرض بعض المواقف والآراء بشأن كيفية تعاطي صانع القرار السوري القادم مع هذه الملفات الشائكة.
تأسيس الدولة وشكل النظام السياسي
يختلف وضع سوريا الآن عن باقي الدول التي تتضح فيها أسس الدولة من دستور وشكل محدد للسيادة والنظام السياسي، والحدود الجغرافية، حيث أصبحت بحكم الثورة بلا دستور معتمد أو نظام سياسي وحدود واضحة، ويشكل هذا تحديا كبيرا للسلطات الجديدة.
ومن ناحية أخرى، فإن المعارضة السورية الحالية تتسم بتعدد الأطياف بين الفصائل المسلحة ذات المرجعيات الإسلامية والأيديولوجية إلى جانب القوى السياسية الليبرالية، وهذا التنوع يمثل تحديا للوصول إلى توافق حول شكل الدولة المقبلة.
ويرى محللون أن نجاح مسار الدولة المأمول يعتمد بشكل كبير على قدرتها على تجاوز خلافاتها، وإيجاد حلول للقضايا الشائكة، وطريقة التعامل مع بقية العقبات والملفات والسياسات الخارجية.
تحقيق العدالة الانتقالية
وإلى جانب تأسيس مجلس انتقالي يأتي تحقيق العدالة الانتقالية التي كما تعهد القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع بأنها ستأخذ مجراها، وتوعّد بعدم التواني في محاسبة المجرمين والقتلة وضباط الأمن والجيش المتورطين في تعذيب الشعب السوري، مؤكدا أنه ستتم ملاحقتهم وطلبهم من الدول التي فرّوا إليها لتتم محاسبتهم.
وقال إن “دماء وحقوق” القتلى والمعتقلين الأبرياء “لن تُهدر أو تنسى”، لكنه في الوقت ذاته أكد التزامه “بالتسامح مع من لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب السوري”، وتعكس تلك الخطوة الإدراك بأن الانتقام العشوائي ليس مناسبا أيضا وقد يخلف مشاكل عدة، وأن التطمينات من شأنها أن تلعب دورا مهما في تلك المرحلة.
ومن جهتها، أكدت إدارة الشؤون السياسية التابعة للمعارضة السورية أن المرحلة القادمة تتطلب مصالحة مجتمعية شاملة، يتم خلالها بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع السوري، على أن تكون مبنية على مبادئ العدالة واحترام حقوق الإنسان.
وقالت إن سوريا الجديدة ستكون دولة قانون ومؤسسات، تضمن الكرامة والعدالة لجميع مواطنيها، مشيرة إلى أن هذه الرؤية تمثل حجر الأساس لإعادة بناء البلاد وتحقيق الاستقرار على المدى الطويل.
الدولة العميقة
تدرك السلطات الجديدة للبلاد أبعاد وجود الدولة العميقة وبقايا الأجهزة الأمنية والمخابرات التي كانت تحكم سوريا، مما يأتي على رأس المخاطر في المرحلة القادمة.
ومما يزيد من خطورة هذا الملف أن ما يمكن أن يوصف بالدولة العميقة في سوريا يختلف عن غيرها من الدول، نظرا لهروب أو اختفاء جزء كبير من قادة ومسؤولي النظام السابق، وحالة السيولة التي كانت تدار بها البلاد، في ظل غياب مؤسسات الدولة.
ملف اللاجئين
في ظل العودة المتوقعة لأكثر من 6 ملايين لاجئ سوري، يعرض ملف اللاجئين ليس على طاولة التحديات الاقتصادية فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ملفات أخرى لها ارتباطات وثيقة بالاقتصاد والسياسية الخارجية، وقد بدا ذلك واضحا في التحركات الأوروبية والتصريحات الخاصة بقوانين اللجوء والنصائح الموجهة للاجئين.
ملف الاقتصاد
بحسب ما أشار إليه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، فإن 70% من سكان سوريا المقدر عددهم الآن بنحو 15 مليونا يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية، وإن 9 من كل 10 سوريين يعيشون تحت خط الفقر؛ فقد ترك نظام الأسد خلفه تحديات اقتصادية كبيرة، مع انهيار شبه كامل للبنية الاقتصادية نتيجة السياسات التي نفذها هذا النظام على مدى أعوام طويلة لا سيما مع بدء الحرب عام 2011.
ووفق بيانات من البنك الدولي والأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، فإن الناتج المحلي الإجمالي لسوريا انكمش بأكثر من 85% منذ 2011 إلى 2023، لينخفض إلى 9 مليارات دولار، في حين من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد السوري 1.5% أخرى هذا العام، هذا بالإضافة إلى قطاع الطاقة الذي أصابه الشلل.
ومع ذلك كان الشرع قد شدد على ضرورة عودة المهجرين والنازحين لبناء سوريا جديدة، مضيفا “معركتنا نجحت في إعادة لحمة السوريين”.
وفي حديث للجزيرة، قال رئيس الحكومة السورية المؤقتة محمد البشير إن حكومته ورثت من نظام الأسد تركة إدارية ضخمة فاسدة “ونحن في وضع سيئ للغاية ماليا، لا توجد لدينا سوى الليرة السورية التي لا تساوي شيئا، ولا عملة أجنبية لدينا”.
تحديات أمنية
يكشف تحذير وزير الخارجية التركي هاكان فيدان من استغلال الوضع الحالي من قبل “التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني”، عن ملف آخر، وتحديا أمنيا للسلطات الجديدة في البلاد.
كما برز من تصريحات رئيس الوزراء الجديد محمد البشير أن “الأولوية في المرحلة الحالية هي ضبط الأمن بكافة المدن وعودة الاستقرار، وسيتم الإعلان خلال أيام عن التشكيلة الكاملة للحكومة المؤقتة”.
ومن جهة أخرى، تبرز تجارة “تهريب المخدرات” -الذي كشف تورط آل الأسد في تجارة الكبتاغون- كملف خطير تعاني منه سوريا، بالإضافة إلى ما ينتج من جرائم ومخاطر كنتيجة حتمية للفقر وسوء الأحوال الاقتصادية.
المواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)
مع وجود أكثر من 30% من الأراضي شرق سوريا تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المدعومة من الولايات المتحدة، فإن المشهد السوري المتفائل قد يهتز قليلا، ويطرح معه التساؤلات أيضا، خاصة مع التحركات المستمرة للمعارضة نحو تحرير المزيد من المناطق في سوريا.
لكن في المقابل، أكد قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي أن هناك فرصة لبداية سياسية جديدة، وأن هذا التغيير يوفر فرصة لبناء سوريا جديدة قائمة على الديمقراطية والعدالة، بما يضمن حقوق جميع السوريين.
ولا يبتعد هذا الملف من خطوات واشنطن القادمة تجاه الملف السوري، التي بدأتها بتصريحات حول دعمها للحكومة القادمة وتواصلها معها، ومن جهة ثانية أكدت استمرار وجودها في سوريا.
الوجود العسكري الأجنبي داخل سوريا
بالإضافة إلى الاتفاقيات السياسية الدولية التي منها ما قد يمنح بلد حق استخدام قاعدة عسكرية إلى مدى الحياة، فإن سوريا كانت تحوي على أرضها عددا كبيرا من القوات الأجنبية، من الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران بالإضافة إلى وكلاء إيرانيين، وتتعدد القواعد العسكرية في مناطق عدة.
وتتمركز القوات الأميركية في قاعدة التنف الحدودية، ولها بالمجمل 17 قاعدة و13 نقطة عسكرية منها 6 قواعد بارزة، كما تتمركز روسيا في سوريا بقاعدتين رئيسيتين هما حميميم وطرطوس، ولها بالمجمل 114 منشأة عسكرية، منها 21 قاعدة و93 موقعا عسكريا، كما تمتلك تركيا في سوريا 126 موقعا عسكريا، بينما كانت تتمركز القوات التابعة لإيران في 52 قاعدة، بالإضافة لمواقع قوات حزب الله اللبناني والقوات المحلية التابعة.
وكان الشرع قد أعرب في حديثه لشبكة “سي إن إن” العربية عن رغبته في خروج القوات الأجنبية من سوريا، وأضاف “أعتقد أنه بمجرد سقوط هذا النظام، سيتم حل المشكلة، ولن تكون هناك حاجة لبقاء أي قوات أجنبية في سوريا”.
ومن جهته، أوضح وزير الخارجية التركي فيدان أن تركيا ملتزمة بالعمل مع كافة الأطراف الفاعلة، سواء في المنطقة أو على المستوى الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، لضمان تحقيق الاستقرار ومواجهة أي تهديدات محتملة لدول الجوار.
وفي حين قال مصدر في الكرملين، الأحد 9 ديسمبر/كانون الأول، إن الفصائل السورية المعارضة قدمت لموسكو ضمانات أمنية للقواعد العسكرية الروسية في سوريا، يبقى هذا العدد الكبير من القواعد العسكرية والتدخل الأجنبي العسكري يشكل تحديا كبيرا أمام الحكومة السورية الجديدة ويعرب عن الحاجة إلى التمكن من لعب سياسات بما يخدم مصالح البلد.
المجتمع الدولي وحالة القبول والاعتراف
توالت ردود الفعل الخارجية على سقوط نظام الأسد وبرزت تصريحات دولية تشير إلى إمكانية رفع اسم هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، وهو ما يفتح للسلطات الجديدة بابا الحصول على اعتراف وقبول دوليين، ويمكّن الحكومة الحالية من شغل مقعد سوريا في المنظمات الدولية والإقليمية.
وقد ظهرت علامات تشير إلى زخم الدعم الدولي لعمليات فصائل المعارضة تتمثل في فتور حلفاء نظام الأسد في مساعدته، كما تحدّث محللون أن الولايات المتحدة والدول العربية بحاجة إلى رؤية مشتركة لدعم السلطات الجديدة في سوريا.
وتحدثت المتحدثة السابقة باسم قوى الثورة والمعارضة فرح الأتاسي عن ضرورة رفع العقوبات عن سوريا، وأشارت إلى أنه سيكون خطوة حاسمة لدعم الشعب السوري وتحقيق الاستقرار.
المواجهة مع إسرائيل
مع انهيار نظام الأسد، سارعت إسرائيل إلى تكثيف عملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية وتعزيز وجودها في الجولان المحتل، حيث توغلت في المنطقة العازلة المقرة وفق اتفاقية عام 1974.
ومع هروب الرئيس المخلوع بشار الأسد من دمشق، بدأ الجيش الإسرائيلي توغلا بريا اجتاز على إثره خط فض الاشتباك مع سوريا، وسيطر على عدد من النقاط، بعضها يقع على مرتفعات في جبل الشيخ.
على مدى السنوات الماضية، نفذت إسرائيل عشرات الضربات الجوية ضد أهداف في سوريا، مؤكدة أنها تابعة لإيران ومليشيات حزب الله.
الدور الإسرائيلي في سوريا لم يكن فقط عسكريا بل سياسيا أيضا، حيث أشارت تصريحات مسؤولين إسرائيليين مثل وزير الخارجية غدعون ساعر إلى أن وجود القوات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية يهدف إلى “ضمان أمن إسرائيل خلال فترة الارتباك بعد سقوط الأسد”.
ولهذا، فإن شكل العلاقة مع إسرائيل يمثل تحديا شاملا للحكومة السورية المقبلة عبر الأبعاد العسكرية، السياسية والدبلوماسية.
من جانبها، تنظر الولايات المتحدة إلى سوريا من زاوية أوسع تتعلق بمصالحها الإقليمية والعالمية، فالسياسة الأميركية تجاه سوريا ارتبطت بـ3 محاور رئيسية:
محاربة الإرهاب.
احتواء النفوذ الإيراني.
ضمان استقرار مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة.
في تصريحات سابقة لجيمس جيفري، المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، أشار إلى أن “الولايات المتحدة تدعم أي حل سياسي يعكس إرادة الشعب السوري، لكن يجب أن يضمن قطع علاقات سوريا مع إيران”. هذا الموقف يعكس رغبة واشنطن في التأثير على هوية أي حكومة سورية قادمة، من خلال فرض شروطها.
إضافة إلى ذلك، فإن العقوبات الأميركية، مثل قانون “قيصر” تمثل تحديا كبيرا لأي حكومة سورية جديدة. فهذه العقوبات لا تستهدف فقط النظام الحالي، بل تمتد إلى أي كيان يتعامل مع الحكومة السورية، مما يضع المعارضة أمام خيار صعب بين تأمين دعم دولي لإعادة الإعمار أو مواجهة قيود اقتصادية خانقة.
وفي هذا الإطار يقول جون فاينر نائب مستشار الأمن القومي الأميركي إن بلاده لا تزال تدرس كيفية التعامل مع قوى المعارضة، ورأى أنه من الأفضل التريث باتخاذ قرار بشأنها لحين معرفة ما ستفعله هذه التنظيمات، لأن القرارات بشأن هذه التنظيمات لا بد أن تستند إلى الحقائق.
المعارضة السورية بين المطرقة والسندان
في ظل هذه التحديات، تجد المعارضة السورية نفسها في وضع لا تحسد عليه. فمن جهة، تحتاج إلى بناء علاقات مع الولايات المتحدة لضمان الاعتراف الدولي والدعم السياسي. ومن جهة أخرى، تواجه ضغوطًا داخلية من قبل الشعب السوري والمكونات الوطنية الأخرى، التي ترفض أي تنازلات تتعلق بالسيادة الوطنية أو القبول بشروط قد تؤثر على الاستقلال السياسي للبلاد.
وفي أثناء سعي المعارضة السورية في التقدم سياسيا وعسكريا لتحرير باقي المناطق والمضي نحو وضع الأسس لبناء الدولة الجديدة، يشير الشرع إلى أن “الناس منهكون من الحرب وبالتالي فإن البلاد غير مستعدة للدخول في حرب أخرى، الخوف كان من وجود نظام الأسد وهو الآن سقط، والبلاد تتجه نحو التنمية وإعادة الإعمار والاستقرار”.
المصدر : الجزيرة
—————————-
عملية الانتقال سوريا والدرس العراقي!/ يحيى الكبيسي
13 كانون الأول 2024
حدث ما لم يكن متوقعا، وسقط نظام بشار الأسد بطريقة لم يتخيلها أحد، فلم تكن هيئة تحرير الشام تنتظر من هجومها الذي بدأته يوم 27 تشرين الأول 2024، سوى التقدم في ريف حلب الشرقي، وربما الوصول إلى تخوم حلب، وهذا واضح جدا من العنوان الذي أطلقته على عمليتها تلك، وهو «ردع العدوان». لكن تحلل قوات النظام السوري، جيشا وقوات أمنية وميليشيات، فتح الطريق واسعا أمام وصولها إلى دمشق، والسيطرة عليها، بعد 10 أيام فقط من بدء العملية.
وهذا التحلل للجيش السوري، الشبيه تماما بالتحلل الذي حصل للقوات العراقية عام 2003، يعود إلى عوامل عديدة بينها الاستنزاف الطويل، والوضع الاقتصادي، وفقدان الرغبة في القتال؛ أي أنه تحلل ذاتي بالدرجة الأولى، وليس نتيجة هزيمة في المواجهة العسكرية، أو أوامر بالانسحاب، أو خيانات، الأمر الذي يعطل إمكانية إعادة ترتيب الأوضاع عسكريا. وهذا وحده ما يفسر «اختفاء» وليس انسحاب، الوحدات التي كانت ترابط على الحدود الفاصلة بين الجيشين السوري والإسرائيلي في الجولان، مثلا، دون أن يكون هناك أي هجوم عليها، او احتمال الهجوم من الأصل، وهو ما أتاح للقوات الإسرائيلية التمدد داخل المنطقة (العازلة بموجب اتفاقية فك الاشتباك الموقعة عام 1974) والسيطرة على مناطق خارجها، مثل جبل الشيخ الاستراتيجي.
لم يتعلم السوريون من درس العراق الأول وهو أن الجيوش التي يتم «تطويع» عقيدتها لحماية الأنظمة، وليس الأوطان، تسقط مع سقوط النظام نفسه. وسيدفعون ثمنا أكبر إذا لم يتعلموا من درس العراق الثاني وهو الفشل في بناء النظام السياسي، وبناء الدولة، وبناء القوات العسكرية والأمنية.
إن مراجعة الوقائع على الأرض في سوريا – وليس في دمشق وحدها ـ يكشف خرائط متعددة يمكن لها أن تتحول إلى أمر واقع، جغرافيا وسياسيا، ما لم تكن هناك خطة واضحة للملمة هذا التشظي بسرعة، عبر سياسات وممارسات حقيقية، وليس مجرد خطابات إنشائية.
وإذا كانت هيئة تحرير الشام قد نجحت إلى حد كبير في تجربتها في الإدارة في إدلب، عندما شكلت «حكومة الإنقاذ» بين تشرين الثاني 2017، ولحظة سيطرتها على دمشق، فإن النجاح في إدارة سوريا جميعها، مسألة أخرى تماما.
تتوزع سوريا اليوم بين عدة مجموعات وفصائل قائمة بالفعل، مع إمكانية ظهور فصائل أخرى في مناطق محددة. فلدينا قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي، وقد نجحت في التمدد في مناطق واسعة بعيدا عن الجغرافية والديمغرافيا الكردية، وإذا كانت قد خسرت منبج في ريف حلب الشرقي، وانسحبت من دير الزور، وربما ستنسحب من الطبقة أيضا، وبالتالي تخلي مناطق نفوذها تماما غرب الفرات، فإنها ما زالت تسيطر على أجزاء من محافظتي حلب ودير الزور الواقعة شرق الفرات، وليس واضحا ما إذا كانت ستتخلى عنها، او أنها ستتخلى عن الرقة بالسهولة نفسها، وأن تكتفي بمنطقة إدارة ذاتية في محافظة الحسكة وحدها، ويبقى الموقف الأمريكي حاسما هنا، فهو الداعم الأساسي لهذه القوات، وهذا يرتبط بالموقف الأمريكي من الحالة في سوريا عموما.
وما زال الموقف من قسد في حاجة إلى مراجعة، فعلى سبيل المثال لا الحصر فان الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية، الذي لا يزال يصف قوات سوريا الديمقراطية بأنها»ميليشيات PYD الإرهابية» (تصريحات نائب رئيس الائتلاف في 11 كانون الأول 2024) وهو يشير في خطاباته إلى «تحرير الحسكة والقامشلي» نفسها، وليس الرقة فقط!
هناك أيضا جيش سوريا الحرة، في منطقة التنف جنوب شرق سوريا، والذي كان ويزال مدعوما من القوات الأمريكية التي أقامت قاعدة لها هناك عام 2014 في سياق الحرب على داعش؛ فهذه القوات جميعها تقدمت
إلى تدمر، ولا أحد يعرف حتى اللحظة المناطق التي تسيطر عليها في البادية الشامية، ولا طبيعة علاقتها مع هيئة تحرير الشام، وهل ستقبل بالتطورات التي تحدث في دمشق. ومرة أخرى فإن موقف الولايات المتحدة حاسم هنا!
شمالا يتحرك الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً، والذي أطلق هو الآخر عملية «فجر الحرية» في 30 تشرين الثاني 2024 للسيطرة على مناطق شمال حلب وشرقها، بعد أن أيقن أن الطرق بات مفتوحا بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على حلب، من دون التنسيق معها بالضرورة، وهو حاول الوصول إلى دير الزور أيضا، قبل أن تسبقه هيئة تحرير الشام للسيطرة عليها. ولا يمكن التوهم بأن الدعم التركي للطرفين، لا يجعل لكل منهما أجندته الخاصة به.
ولدينا في الجنوب، وفي محافظة درعا تحديدا، ما سمي بـ «غرفة عمليات الجنوب» التي أعلنت بشكل ارتجالي قبيل السيطرة على دمشق، وهي التي تقدمت في ريف دمشق الجنوبي، واستطاعت الدخول إلى دمشق نفسها قبل وصول قوات هيئة تحرير الشام اليها، وتضم بالأساس المسلحين الذين انخرطوا في مصالحة مع النظام، برعاية روسية، في تموز 2018، قبل أن ينقلب النظام السوري عليهم، وصولا إلى اتفاق المصالحة الثاني عام 2021.
في الوقت نفسه، هناك إمكانية لتشكل فصائل مسلحة في كل من مناطق الساحل ذات الأغلبية العلوية، والسويداء ذات الغالبية الدرزية، والسلمية ذات الغالبية الإسماعيلية، كل ذلك وارد الحدوث إذا لم تتمكن دمشق من صياغة منظومة حكم يكون فيها لهذه الجماعات تمثيل سياسي حقيقي، وليس تمثيلا شكليا.
يحسب للشعب السوري أنه قد أسقط نظامه الديكتاتوري بنفسه، وبتضحيات جسيمة، وهذا يفرض عليهم أن يتعلموا من درس فشل المعارضة العراقية، وأن لا يقعوا في الخطايا التي حكمت بناء الدولة العراقية. فلا يمكن لهيئة تحرير الشام أن تحتكر حكم سوريا، وهي لا تملك القوة الذاتية أصلا لكي تفرض ذلك حتى لو أرادت. فالدول لا تبنى بمنطق القوة، ولا بمنطق الغلبة، بل تبنى فقط بالتوافق بين أبنائها، وشعورهم بأنهم مواطنون لديهم الحقوق نفسها. وعليهم أن يتعلموا أنه في الدول ذات المجتمعات التعددية أثنيا ودينيا ومذهبيا، مثل سوريا، لا يمكن لأي جهة أن تحتكر السلطة، وأن تفرض هوية أحادية (أو أيديولوجية) عليها؛ فسوريا لا يمكن أن تحكم إلا عندما يشعر الجميع أنهم شركاء حقيقيون في السلطة، وليسوا مجرد ديكور يستخدم لتسويق شراكة زائفة. وأن القوة العسكرية والأمنية، وتسييس القضاء، ومصادرة الحريات، وصناعة جمهورية خوف، والاعتماد على تمثيل مزيف لمكونات المجتمع السوري في البرلمان وفي السلطة التنفيذية، وصناعة جمهور زبائني بالمال العام، وتصدير إعلام غير مهني مهمته تلميع صورة الحاكم وتخوين المعارضين، كل هذا وهم لا يمكنه أن يخلق استقرارا، أو أمنا، أو تنمية، أو ازدهارا. فالدول لا يمكن لها أن تبنى، أو أن تستقر، إلا إذا حظيت باعتراف مواطنيها جميعا بسلطتهم عليها.
كاتب عراقي
العربي الجديد،
—————————
هذا الانهيار السوري/ حسام كنفاني
13 ديسمبر 2024
حمل الانهيار السريع والمفاجئ لدفاعات نظام بشّار الأسد دلالات سياسية كثيرة أشارت إلى أن سقوط النظام لم يكن نتيجة هجوم وتكاتف لقوات المعارضة فقط، بل جاء بقرار دولي يحمل الكثير من الأبعاد المرتبطة بالخريطة المستقبلية المرسومة للمنطقة العربية في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر (2023)، أي عملية طوفان الأقصى، وما تلاها من حروب صغيرة وكبيرة في المنطقة.
من هذه الزاوية، يمكن النظر إلى القرار الدولي الذي اتُخذ نهائياً بإسقاط نظام الأسد. وهو قرار تتشارك فيه كل من الولايات المتحدة وتركيا وروسيا، والتي من المؤكد أنها انضمّت على مضض، ووفق اعتبارات وتفاهمات لم تتّضح بعد، لكنها ستتضح مع وصول الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، وبدء عمله على إنهاء الحرب في أوكرانيا، وهو ما سيؤدّي إلى تقديم بعض التنازلات إلى روسيا. قد تفسّر هذه التنازلات لاحقاً القرار الروسي بالخروج من سورية والسماح بسقوط بشّار الأسد.
الأهم في هذا الأمر أن نظام الأسد لم يكن الهدف الأساس من التفاهمات، بل العنوان الأبرز لها هو إخراج إيران من المنطقة، ومن سورية تحديداً، في إطار رسم الخريطة الجديدة، ومنع صعود قوى عسكرية تهدد إسرائيل، كما هو الحال بالنسبة إلى حزب الله وحركة حماس وغيرهما من فصائل المقاومة.
يمكن اعتبار ما حدث في سورية استكمالاً للاتفاق الذي أوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، فالاتفاق كان ينصّ أساساً على تشكيل لجان أجنبية لضمان عدم إدخال السلاح مجدّداً من سورية إلى لبنان. وبالتالي، منع حزب الله من إعادة تشكيل قوته العسكرية. هذا الاتفاق، حتى بوجود اللجان ومع الغارات الإسرائيلية الدائمة على خطوط الإمداد، ما كان يمكن أن يتحقق في ظل بقاء السيطرة الإيرانية السياسية والعسكرية على الوضع في سورية. وبالتالي، استخدام كل موانئ الدولة السورية لتحقيق غايات دعم أذرع إيران العسكرية في المنطقة، وافق النظام على ذلك أو رفض.
ولا يمكن تجاهل أن محاولات حثيثة جرت سابقاً لفصل نظام الأسد عن طهران، وهي محاولاتٌ كانت موسكو شريكة فيها، خصوصاً مع مبادرة المصالحة التي عرضت قيامها بين الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وهي مبادرة بقيت قائمة حتى اللحظات الأخيرة قبل سقوط النظام السوري، غير أنها لم تصل إلى نتيجة، بداية من تعنّت نظام الأسد وعجرفته، وصولاً إلى عدم قدرة هذا النظام على فك ارتباطه بإيران حتى لو أراد ذلك.
على هذا الأساس، ما كان بالإمكان تحقيق غاية فك الارتباط من دون إسقاط النظام بشكل كامل، بغضّ النظر عن المشهد السوري الذي سيكون في اليوم التالي. وهو مشهد سيبقى غامضاً فترة، قبل أن تستقر الأمور وتدخل الأطراف الإقليمية والدولية لرسم خريطة تشاركية تضم كل الأطراف السورية، وتبعد العسكر عن الحياة السياسية السورية المستقبلية.
هذا التفاهم على إسقاط النظام رأته إيران منذ اللحظة الأولى موجهاً ضدّها، غير أنها لم تكن تمتلك إمكانية مواجهته، سواء من الداخل السوري أو من خارجها، فالغطاء الذي كانت تؤمنه القوات الروسية لعمل المليشيات التابعة لطهران على الأرض لم يعد موجوداً بعد الخروج الروسي من الساحة، والدعم الذي كان يقدّمه حزب الله من لبنان تضاءل مع الضربات التي تلقّاها الحزب.
اليوم يمكن اعتبار أن إيران كانت الهدف الأساس من إسقاط النظام في سورية، عبر إبعادها عن حدود فلسطين المحتلة والاستفراد بأذرعها العسكرية واحدةً تلو الأخرى، إما عبر الاستهداف أو عبر التفكيك. حزب الله، وهو الذراع الأقوى، كان البداية، وهو ما يمكن أن يتكرّر في العراق ولاحقاً اليمن.
العربي الجديد
——————————
الإستراتيجية الأميركية في سوريا وسقوط نظام الأسد/ د. الخير عمر أحمد سليمان
13/12/2024
لا يمكن قراءة ما جرى في سوريا من أحداث لم يستغرق فيها سقوط نظام بأكمله أكثر من عشرة، أيام خارج سياق التحولات الجيوستراتيجية التي شهدتها، وما تزال تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ سقوط بغداد في العام 2003، مرورًا بإسقاط ليبيا الدولة، وليس معمر القذافي وحده، بجانب ما يجري في السودان من تدمير ممنهج للدولة وبنيتها الاجتماعية، ثم عبورًا بطوفان الأقصى الذي جرى فيه تدمير قطاع غزة بإنسانه وعمرانه بالكامل.
يضاف إلى ذلك العدوان على لبنان تحت دعوى محاربة حزب الله، بيدَ أن الآلة العسكرية التي استخدمت لم تميز بين المقاتلين والمدنيين الأبرياء في عمل أشبه بالعقاب الجماعي لدولة بأكملها وليس للضاحية الجنوبية فقط، فضلًا عن اليمن وما يدور فيه من أحداث منذ أمد بعيد.
فالترابط بين هذه الوقائع المختلفة، مكانًا وزمانًا، يبدو حاضرًا في ذهن كل محلل سياسي يستخدم قدرًا من النظرة النقدية القائمة على التعاطي مع الصورة الكلية وليس التفاصيل الصغيرة التي من بينها سقوط بشار الأسد بهذه الطريقة الدراماتيكية.
فالمقال معني هنا في إطار مقاربته لهذا الكل المركب بمخاطبة جزئية محددة تتصل بالإستراتيجية الأميركية في سوريا، إن وجدت، ودورها فيما جرى من خلال الإجابة عن جملة من التساؤلات يأتي في مقدمتها، ما هي الإستراتيجية الأميركية في سوريا، وكيف تغيرت مع تطور الأزمة وتعاقب الرؤساء؟ وما هو حجم وطبيعة الدور الذي لعبته واشنطن في سقوط بشار الأسد؟ وما هو تأثير هذه الإستراتيجية على توازن القوى الإقليمي، وعلى الأمن في المنطقة على المدى الطويل؟
الإستراتيجية الأميركية في سوريا
تاريخيًا تشكل التصور الأميركي عن سوريا بتأثير عدد من المتغيرات:
المتغير الأول كان أمنيًا يتعلق بالصراع بين القوتين العظميين فيما عرف في أدبيات السياسة الدولية بالحرب الباردة، فقد طرحت واشنطن مشروع حلف بغداد كواحد من المصدات الأمنية للوقوف في وجه النفوذ السوفياتي المتمدد وقتها، وكما هو معلوم أن سوريا لم تكن جزءًا من ذلك الحلف، وبالتالي عندما تعمقت العلاقة بين دمشق وموسكو ظهر ما عُرف بمبدأ أيزنهاور في العام 1957؛ لتعزيز الجهود الرامية لمحاصرة النفوذ الشيوعي في المنطقة، وذاك يعني أن واشنطن منذ ذلك الوقت كانت، وما تزال، تنظر لسوريا (قبل سقوط بشار) كأحد محاور الممانعة التي تحول دون إنفاذ المشروعات الغربية، وتحديدًا الأميركية منها.
المتغير الثاني في سياق الرؤية الأميركية لسوريا، يتعلق بالخطر الذي تُشكله دمشق لأمن حلفاء واشنطن في المنطقة، ويأتي على رأسهم إسرائيل. فوجود نظام سياسي بتوجهات معادية لا تربطه علاقات ودية مع الغرب، ويتمتع بميزة القرب الجغرافي من تل أبيب، يُمثلُ خطرًا من المنظور الإستراتيجي لأمن إسرائيل، ويتعاظم هذا الخطر من وجهة نظر الولايات المتحدة إذا اقترن بشبكة تحالفات عسكرية وأمنية مع دول عظمى سابقًا وكُبرى حاليًا كروسيا، والتي أُضيفت لها إيران في فترات متأخرة. فمتغير أمن إسرائيل تعززه التجربة التاريخية لمجمل الحروب والمواجهات التي تم خوضها ضد تل أبيب، والتي تمت بجبهتين؛ إحداهما جنوبية من مصر، وأخرى شمالية من سوريا.
المتغير الثالث في إطار تصور أميركا لسوريا، ارتبط بعامل محاربة الإرهاب ممثلًا في تنظيم الدولة الإسلامية، حيث بدأ هذا التنظيم عملية الاستيلاء على الأراضي في وسط وشمال شرق سوريا في عام 2013. وكما هو معلوم أن التنظيم نجح في تنظيم سلسلة من الهجمات الموجهة ضد عدد من الدول الأوروبية في العام 2015، الأمر الذي حدا بواشنطن وحلفائها الأوروبيين والعرب بجانب تركيا لتشكيل تحالف لمحاربة التنظيم في العراق وسوريا، وقد تم تنفيذ أكثر من أحد عشر ألف ضربة جوية ضد أهداف تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا وحدها، بينما واصل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة دعمه للعمليات البرية التي تقوم بها قوات سوريا الديمقراطية في الجزء الشمالي الشرقي من سوريا.
ومن المنظور التحليلي يمكن القول إن مرتكزات إستراتيجية واشنطن الحالية تجاه سوريا تعتمد على أربعة عناصر رئيسية، هي:
إبعاد النفوذ الروسي من سوريا كخطوة ضرورية لإضعاف محور المقاومة الذي تُعد دمشق حلقة الوصل الرئيسية فيه
إخراج إيران من المسرح السوري الذي تتخذه كواحد من أهم ركائز أمنها القومي في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة.
إضعاف النظام السوري كقوة مناوئة لإسرائيل عبر القضاء على شبكة علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية ممثلة في طهران وموسكو
محاربة الإرهاب المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية وتفرعاته، عبر دعم بعض القوى المقاتلة السورية، ممثلة في قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد.
وقد استخدمت واشنطن مختلف الآليات العسكرية وغير العسكرية لتحقيق إستراتيجيتها في سوريا.
أدوات واشنطن في إنفاذ إستراتيجيتها
لقد سعت الولايات المتحدة منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011 لفرض عقوبات اقتصادية على النظام السوري؛ بهدف حرمانه من الموارد اللازمة التي تمكنه من إلحاق الضرر بالمدنيين، ومحاولة الضغط عليه للسماح بانتقال ديمقراطي. واستخدمت الإدارات الأميركية المختلفة بدءًا من الرئيس أوباما، دونالد ترامب وجو بايدن عقب تفجر الثورة السورية، أوامر تنفيذية متنوعة، ولكنها تتفق في مضمونها من حيث تجميد أصول المسؤولين المتورطين بانتهاكات حقوق الإنسان، بمن فيهم الرئيس المخلوع بشار الأسد. وقد شمل نطاق العقوبات حظر الاستثمارات الأجنبية من قبل المواطنين الأميركيين، وتصدير الخدمات، واستيراد النفط السوري، والمعاملات المتعلقة به.
وقد شملت العقوبات المؤسسات الأمنية والعسكرية، قطاع الطاقة، قطاع المصارف، المؤسسات المالية، ومؤسسات وأصحاب أعمال دوليين لديهم علاقات مع الحكومة السورية. ويلاحظ من العقوبات التي فرضتها واشنطن أنها تستهدف المقومات الأساسية للاقتصاد السوري.
وشهدت هذه المرحلة محاولة أميركا الحد من أنشطة شبكات الأعمال الدولية المرتبطة بأنشطة مع الحكومة السورية، باستخدام تدابير عقابية، مثل قانون قيصر، وغيرها من الأوامر التنفيذية. ولعل اللافت للنظر في نطاق تأثير العقوبات الاقتصادية كإحدى الأدوات التي استخدمتها واشنطن، أنها نجحت في الحد من الموارد المالية للنظام، وإضعاف قدرته في إجراء المعاملات التجارية والنقدية الخارجية.
ولم تكتفِ واشنطن باستخدام الأدوات الاقتصادية وحدها، بل استخدمت وسيلة أخرى أكثر تأثيرًا لجهة إضعاف النظام، وهي المساعداتُ العسكرية غير المحدودة لإسرائيل، وإعطاؤها الضوء الأخضر في المضي قدمًا في محاصرة النظام السوري، وذلك بضرب شبكة تحالفاته العسكرية ممثلة في الأطراف المقاومة كحركة حماس في غزة، وحزب الله في لبنان.
فتدمير القوة الصلبة لحزب الله من خلال تدمير بنيته القيادية التي كان على رأس ضحاياها الأمين العام السابق للحزب حسن نصر الله، وقائمة من القيادات الميدانية المحيطة به، قد كان لذلك الأثر الأكبر في جعل ظهر النظام مكشوفًا في الأيام الأخيرة قبل سقوطه، وبالتالي عدم قدرته على صد تحرك المعارضة المسلحة التي دخلت دمشق بلا عناء. الأمر الذي يثير تساؤلًا مشروعًا حول علاقة الإستراتيجية الأميركية بسقوط النظام السوري، مقرونًا بتقاطعات البيئة الإقليمية والدولية التي أنتجتها تحركات واشنطن على الصعيدين: الإقليمي والدولي.
علاقة سقوط النظام بإستراتيجية واشنطن
مُخطئ من يظن أن النظام سقط خلال تحرك عسكري لم يتجاوز العشرة أيام، والصواب من وجهة نظر تحليلية هو أن النظام سقط بهذه السهولة، لأن النظام قد تمت محاربته من مختلف الكيانات المدنية والعسكرية السورية التي استفادت بشكل مباشر من الضغط الإقليمي والدولي لمدة تقرب من الأربعة عشر عامًا. وهذا المنطق التحليلي لا يسلب الشعب السوري وقواه الحية شرف إسقاط بشار الأسد، لأنهم أصحاب القضية الأساسية، وبدونهم لا يمكن أن يتحقق مشهد دخولهم دمشق منتصرين على نظام عقائدي جثم على صدر الشعب السوري لأكثر من خمسة عقود.
بيدَ أن ما يجب أن يؤخذ في الاعتبار في هذا الجانب هو علاقة الإستراتيجية الأميركية التي تم تنفيذها وسقوط نظام الأسد، دون أن يعني ذلك إغفال الأدوار التي قامت بها كل من تركيا، وبعض دول المنطقة، ولكن كما هو معلوم فإن المقال معني بالتركيز على الإستراتيجية الأميركية.
فالنظرة الفاحصة تقتضي أن يؤخذ بعين الاعتبار دور الإنهاك الاقتصادي والعسكري الذي تم لروسيا – كأحد الحلفاء الإستراتيجيين لدمشق – في أوكرانيا لمدة تقرب من ثلاث سنوات منذ الرابع والعشرين من فبراير/ شباط 2022. وقد أسهم هذا الاستنزاف لروسيا بشكل رئيسي في جعلها غير قادرة على تقديم الدعم اللازم لبشار، رغم وجود منظور تحليلي يرجح وجود صفقة ما جعلت الروس يحجمون عن مساعدة الأسد، هذا فضلًا عن بعض تحفظاتهم عليه، ولكن الراجح هو أن موسكو منهكة، وإن كانت هناك تفاهمات بينها وبين واشنطن.
الأمر الآخر في إطار علاقة إستراتيجية واشنطن بسقوط نظام الأسد بهذه الطريقة، هو التضييق الذي تم تنفيذه على إيران وحلفائها في المنطقة، والذي يشمل حركة المقاومة الإسلامية حماس، وحزب الله، بجانب بعض الجماعات الإيرانية المقاتلة داخل سوريا، والتي كانت هدفًا لعديد من الغارات الجوية الإسرائيلية.
والإشارة لتل أبيب في أي تحرك يعني واشنطن، وذلك من واقع أن إسرائيل لا تستطيع التحرك بمعزل عن مباركة الولايات المتحدة كضامن لأمنها الإستراتيجي. فتحركات نتنياهو وحكومته اليمينية ارتكزت على قطع الطريق أمام طهران في سياق مساعيها لإنجاز ما يسمى بالهلال الشيعي الممتد من العراق، مرورًا بسوريا وانتهاءً بلبنان. وتعرض هذا المشروع للبتر الكامل، خاصة بعد سقوط الأسد. فحزب الله لم يكن قادرًا على تقديم المساعدة؛ بسبب تداعيات حربه مع إسرائيل، وبالتالي لم يكن قادرًا على المساعدة كما كان في السابق، لتقود كل هذه العوامل لفتح سوريا على تحديات غير مألوفة.
الخلاصة:
تُعد إستراتيجية واشنطن التي تمت الإشارة إليها ضمن أهم المتغيرات المفسرة لسقوط نظام الأسد بالطريقة التي تمت الإشارة إليها، وبالتالي فإن تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب التي قال فيها “إن الولايات المتحدة يجب ألا تتدخل في الصراع في سوريا” تُعد لا قيمة لها من المنظور الإستراتيجي، ولا تعدو كونها ذرًا للرماد في العيون، فالتحرك الأميركي المباشر المقرون بتحرك عسكري إسرائيلي، تم بتناغم كامل وتنسيق مسبق لتحقيق هدف واحد يتمثل في إعادة رسم شرق أوسط جديد، تكون فيه الغلبة لإسرائيل، ولا مجال فيه لنفوذ أي قوة إقليمية أو دولية خارج التصور الأميركي للشرق الأوسط الجديد.
ولعل أكبر المخاوف القادمة ستأتي من إسرائيل واستهدافها الممنهج للبنية الدفاعية والأمنية للدولة السورية، والخشية تكمن في أن يجد السوريون بعد إكمال فرحتهم بسقوط الأسد، أن تل أبيب قد قضت على الأخضر واليابس الذي كان سيقيهم حر وصيف المؤامرات الإقليمية والدولية.
وفي جانب آخر، يُمثل سقوط نظام بشار الأسد في الوقت الراهن تحديًا كبيرًا للشعب السوري بكل قواه الحية، وبغض النظر عن الطريقة التي تم بها التغيير سواء كان بدعم دولي أو إقليمي، فإن قدرة سوريا الجديدة على تجاوز الانقسام الطائفي، المذهبي، الإثني والديني، ستحدد وبشكل كبير قدرتها على بناء تجربة مستقلة تتجاوز بها سنوات الظلم والقهر، فضلًا عن حماية السيادة الوطنية من تدخلات جيش عريض من القوى الإقليمية والدولية التي أسهمت في الإطاحة بالأسد.
الجزيرة.
————————–
سقوط النظام… أين المثقّف؟/ نجم الدين خلف الله
13 ديسمبر 2024
انهار نظام الطاغية في غضون أيام قليلة، وهو ما سرّع تفاهمات القوى المؤثّرة. كان السقوط مدويّاً. ما لم يكن متوقّعاً سرعته المفرطة. عاش العالم حالة ارتباك أعقبها ارتياحٌ كبير في أغلبية أوساط الشعب السوري وصدمةً لدى “المناصرين”. لكنّ هذا المشهد المعقّد يكاد يخلو من دورٍ للمثقّف ومن صوته الذي كان من المفترض أن يوجّه حركة التاريخ هذه ليعطيها معنىً معقولاً. فلماذا غاب هذا التوجيه ولِحساب من؟
ليست هذه هي المرّة الأُولى التي تسبق فيها انعطافات التاريخ تنظيرَ المثقّفين ولا تتوقّف عليها؛ فقد استعرت الثورة التونسية بعيداً عن توجيهاتهم، وكذلك كان الشأن في “ربيع” مصر واليمن ولبنان. والسرّ في ذلك أنّ التدمير الذي لحق بسورية وآلة القمع التي عملت في هذا البلد لعدّة عقود، أفرغت الثقافة النقدية من كلّ مضمون وهمّشت دور المثقّفين إلى درجة الصفر. لم يُبقِ منهم النظام البائد إلا من وظّفهم لتبرير سياساته وحتى جرائمه.
أمّا البقية الباقية، فقد هاجرت إلى بلدان الجوار أو إلى أوروبا، وأصبحت هنالك بلا “شرعية”، ينقصهم الدافع “العضوي” الذي تحدّث عنه غرامشي، وهو الالتحام بمعاناة الشعب في الداخل من أجل التعبير عنها وامتلاك جدارة الريادة الفكرية لها.
حقّقت الفصائل المعارضة التحرّر المباشر من أثقال القهر، وهذا التحرّر هو جوهر الثقافة وغايتها الأوّلية. إذ ليس من الوارد أن يخوض الدارسون والمفكّرون في قضايا الذهن ومنظومات القيم والوجود من دون تحقّق الشرط الأوّل، الحرّية، وعلى الأقلّ الحدّ الأدنى منها الذي يتيح معالجة قضايا الفكر.
فرغم اختلاف مشاربها، تحقّق تحرير البلد بصمود المعارضة، ثمّ بنظرات ذكاء سياسي نأمل أن يتواصل خلال قيادة المرحلة اللاحقة، مع ضرورة فسح المجال للعقول السورية – وهي كثيرة – لتُسهم في رسم مسارات التاريخ المقبلة، وحتى يكون لهم دور يؤدّونه مع رفاقهم من الساسة والعسكريّين ونشطاء المجتمع المدني في إضفاء معنىً عقلي، عادل وإنساني على هذا المنعطف. فبعد أن تقدّم الدم على القلم، طيلة السنين الماضية، حان الوقت لإعادة الاعتبار للعقل النظري حتى يصوغ خطاب التحرير ويرسم مسارات الحركة التاريخية لهذا البلد، مع مراعاة خصوصياته الطائفية والسياسية، وهي ليست بالهيّنة.
المعارضة التي قادت هذا التغيير الجذري مَرجعها ديني، وهذه صورةٌ تُثبت مدى تهافت التهم الاستشراقية التي سادت من قرون، والتي ترمي هذا المرجع بالتعارض مع الحرّية، كما تؤكّد أنّ التشوّف إلى كسر القيود – وهو جوهر الثقافة كما أسلفنا – قيمة رئيسية في الفكر الإسلامي ولا تتنافى مع مبادئه، شريطة أن يكون هذا التحرّر في سياقه التلقائي لممارسة الفكر الحرّ والتعبير عن الاختلاف، الذي طالما وُصف بأنّه “رحمة”، ما دام يجري في إطار ديمقراطي ويخضع لقواعده الكونية.
فالمأمول أن تسمح سلطات سورية الفتيّة بإدماج المفكّرين السوريّين – وهم كُثر – في مسار إعادة بناء هذا البلد، وأن تكون نقاشاتهم وأنظارهم مستنداً رئيساً في استشراف معالم مستقبل المنطقة بتنوّعها الكبير، والذي يجمع بين مكوّناته تراث إنساني متعدّد تغذّيه روح فنّية وحضارية تليدة.
ولا بد أن يُعوَّض غياب المثقّفين في أطوار الثورة الماضية بإشراكهم اليوم وبكثافة في صياغة رؤى المستقبل، حتى يسهم المثقّف في صنع العهد الجديد بعيداً عن حماسيات الانتصار أو حمّى الانتقام. فدور المثقّف، كما كان دائماً، هو ربط الماضي بالحاضر من أجل استشراف المستقبل، حيث تعمل قواعد العقل جنباً إلى جنب مع متطلّبات السياسة الراهنة. فالمثقّف الذي نقصده هنا عقلٌ كبير لا يسقط في حمأة الأحداث، بل يتعالى عليها، يراقب جرَيانها ينتقد تلاعبات الخطاب عنها ويفضح تضليلها، يستفيد من تراكم المعارف والأخلاق و”تجارب الأمم”، ينتقي منها ما يصلح لقيادة المرحلة واستشراف ما يليها.
لذلك، سيكون إبعاد المثقّفين والجامعيّين من دائرة القرار، في هذه المرحلة الحرجة، نذير فشل لهذا التحرّر، يُعزّز مخاوف الداخل والخارج، وقد يدفع البعض إلى الحنين إلى حقبة الديكتاتورية كما حصل في العراق وتونس وليبيا. وعلى المثقّفين، الذين انزووا بسبب القمع، وجلُّهم معذور، ألّا يسرقوا هذا النصر، بل أن يُسهموا في تعزيزه لإعطائه الوجهة التي تكلّل تضحيات ثلاث عشرة سنة من المعارك والدمار، والتي راح ضحيتها نصف مليون شهيد.
فحتّى لا تذهب هذه التضحيات سدىً، لا بدّ أن تكون للمثقّف كلمته، التي يرفع بها الساسة والعسكريّين عن زَبَد الأحداث المتسارعة، والتي إن لم يُحكم توجيهها قد تأخذ البلد إلى مصير مجهول وتوقّعه بين براثن الاستبداد، التي من أجل كسرها بُذلت تلك التضحيات.
عملياً، يجدر التفكير في إنشاء هيئة من كبار الأساتذة والمفكّرين السوريّين، للبدء دون تأخير في مناقشة وجهات العمل السياسي والتحرّكات المجتمعية والقانونية وصياغة توصيات جليّة يستأنس بها أصحاب القرار قبل أن تُفسد “لعبة الأمم” هذا النصر وتسرقه فتُعيد تحويله إلى أداة لتحقيق أغراضها الجيوسياسية. التحرُّر جوهر الثقافة وهي أداته وبوصلته. ولن يُفضي إقصاء أحدهما عن الآخر إلّا إلى ضياع.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
العربي الجديد
——————————–
في حُبّ سورية/ ممدوح عزام
13 ديسمبر 2024
بين سورية وسوريا نشب خلافٌ أخير، كانت وراءه سياسة نظام لم يكن يرغب مُطلقاً في أن يتّفق سوريّان حتى على كتابة اسم بلادهم. خاض صحافيون مأجورون، ورعاة تاريخ ملغوم، المعركة نيابةً عن النظام، لحشد التأييد لنفسهم ضدّ السوري الآخر. وبسبب ذلك التحشيد الرخيص خُيّل لكثيرين أنّ انتماءهم إلى سورية، بالتاء المربوطة، أمرٌ مختلف جدّاً عن انتماء الآخر؛ الآخر الذي صار خصماً وعدوّاً، إلى سوريا.
كان موقف الآخر موازياً أيضاً، فسوريا غير سورية. هكذا أُريد لهذا البلد المنكوب الذي يستيقظ اليوم على خبر رحيل الطاغية الصغير، معلّم البلاغة، أن يحارب أهله بعضهم بعضاً في كلّ شيء، بما في ذلك اسم البلاد، وإعلان الحُبّ للبلاد.
فحُبّ سورية لم يكن ظاهراً في العلن لدى أحد، بل لم يشجّع أحد نفسه، أو يشجّع أولاده، أو يشجّع أحد معارفه وأصدقائه على إعلانه خوفاً من أن يأتي الطاغية، أو ممثّلو الطاغية على الأرض وينتزعوا اللسان الذي ينطق به. فأيّ إعلان كان يسحب، ويجير، ويُحسب لصالح الحاكم الذي أبّد نفسه، وأبد البلد، بمساعدة عصابة من المنتفعين الجبناء كي يتّجه سهم الحُبّ نحوه.
ولهذا قلّما كنتَ تجد من يُعلن هذا من بين المحبّين، حين يرون المنافقين الانتهازيّين الوصولييّن (الذين سمّاهم الشعب السوري “الشبّيحة” ردّاً على سرقة قاموسه الأليف النظيف) يسرقون هذه العاطفة الإنسانية البديعة من أعطافهم، ومن قلوبهم، ويضعونها في خدمة الطاغية الأب السفّاح، ثمّ ينشرونها على مساحة سورية كلّها، كي تكون في خدمة الابن التافه المتحذلق رفيق الموت والسجون.
قلّما كنتَ تجدُ أحدنا يردّد عبارة في حُبّ سورية، وهو يُحبّ بلاده كما يحبّ الآخرون في كلّ أنحاء الأرض بلدانهم، لا لأنّها سورية العظيمة، أو المسكينة المبتلاة بالطغاة، بل لأنّها المكان الذي منحهم اسم السوري. المواطن السوري والشاعر السوري والكاتب والمسرحي والطبيب والمحامي والتاجر والصناعي… السوري. حتى أنّ كاتباً سورياً راحلاً هو جميل حتمل نشر مجموعة قصصية أطلق عليها اسم “حين لا بلاد”.
هكذا سرقوا منّا اللغة، أخذوا مفرداتها اللطيفة والخفيفة والناعمة والمعبّرة والأثيرة والصاخبة والعظيمة والغنية والممتلئة بالوجدان ومنحوها للطاغية، أو لأحد أولاده. أخذوا الغابة والمكتبة والحديقة والمصنع والأكاديمية والمسرح والمركز الثقافي وأعطوها للطاغية. حرموا سورية من أن تمنح أحداً من أبنائها الذين قدّموا لها وللعالم الكلمة، والفكر، والنقد، والابتكارات والمشاريع الصناعية والزراعية والاجتماعية، أيّ كلمة من تلك الكلمات التي يمكن أن تكون لهم، أو يكونوا لها.
حتى كلمة “الأمن” التي يلجأ إليها البشر في ساعات الشدّة صارت في سورية رمزاً للخوف والذعر والجدران التي لها آذان؛ “الأمن” في سورية يعني أكثر أشكال الترويع وسفك الدماء وإهدار الكرامة. وجعلوا “الحرية” مُلكاً لشعارهم في حزبهم، وفي المرّة التي ابتدأ فيها الشعب السوري يطالب بالحرية، داس الطاغيةُ الابن الصغير على الكلمة، مزّق المعجم، ورمى بالصفحة بعيداً عن الأنظار، واتّهم الشعب بالإرهاب. هذا هو ديدن الطاغية، فقد سيطر على البلاد، وعلى معجم البلاد، وحشا أفواهنا بالصمت، أو بالكلام المبطن بتنك صدئ، أو بلاستيك مُقوّى.
لهذا سوف يبدو إظهار الحُبّ لسورية، أو لسوريا، اليوم نوعاً من الاعتذار للبلاد. ولعلّها تعذرنا.
* روائي من سورية
العربي الجديد
—————————–
سوريا: من القهر إلى الحرية/ هيفاء بيطار
13 كانون الأول 2024
تعم الفرحة في قلوب كل السوريين الذين عانوا الهول في زمن حافظ الأسد وابنه بشار، الذي فر هارباً. كثيرون كتبوا (كأننا في حلم) ذلك أن مصطلح (إلى الأبد) ترسخ في عقول الكثير من السوريين. القائد الخالد، القائد المُفدى. كثيرون كانوا صامتين لكن أتتهم الفرصة الآن بعد تحرير سوريا من استبداد عائلة الأسد أن يُعبروا عن فرحهم، عن معجزة طالما انتظروها، حتى بعض الموالين المُنتفعين الذين كانوا يقولون (ما البديل لبشار الأسد؟) وأن الدولة السورية ستدخل في فوضى، فبشار الأسد يحمي البلد من الإرهابيين السلفيين المتشددين.
الآن كل السوريين ينظرون إلى حياتهم في ظل حكم قاتل شعبه بشار الأسد وقبله والده، يؤلمهم كم أهدروا حياتهم في الخوف والفساد، نظام الأسد يكره الشعب والأرض.. عاث خراباً في بيوت أثرية عظيمة في اللاذقية، وغيرها من المدن، شوه مصايف ساحرة ككسب وصلنفة بقطع الأشجار والغابات، وإقامة مبانٍ عملاقة من الإسمنت. جريمة تبليط البحر لا تزال جرحاً لا يلتئم في نفوس السوريين. وكي يبدأ السوريون صفحة جديدة من حياة الكرامة والحرية والفرح، لا بد أن لا ينسوا الهول والكذب الذي كانوا يعيشون فيه. ولأنني ابنه اللاذقية التي كان يعتبرها النظام موالية بالمطلق له، الجميع كانوا يمرون من أمام التمثال العملاق لحافظ الأسد في ساحة الشيخ ضاهر، وعلى الجدار المقابل للتمثال نعوات شباب سوريين بعمر الورود ماتوا تحت التعذيب في فروع الأمن، لمجرد أنهم كتبوا على صفحاتهم على فيسبوك كلمات تدعو للحرية والكرامة، وغالباً لم يكن الأهل يعرفون أين أولادهم، وكان النظام يساوم الأهل حول تسليم جثث أبنائهم، رغم علامات التعذيب المُروعة التي تعرض لها شباب الحرية (لدرجة أن بعض الأهالي لم يتعرفوا على أولادهم من شدة التعذيب) كان النظام يُخير الأهل أن يوقعوا على ورقة بأن ابنهم مات بسكتة قلبية، وإن لم يوقعوا فلا تسليم للجثة.
نظام الفساد الذي اعتمد عليه الأسد الأب والابن، كانوا يبتزون الناس والتجار، ولا يُمكن أن تسير معاملة في دوائر الدولة دون رشاوى. لكنني أحب أن أنوه إلى دور بعض المثقفين السوريين، سواء في الداخل أو الخارج، إحدى الكاتبات قالت صراحة: إنها رأت حافظ الأسد في منامها يقول لها: اكتبي، قالت هذا الكلام أمام وفد من الكتاب الأردنيين الذين كانوا في زيارة إلى اللاذقية، وثمة شاعرة كتبت قصيدة تمجيد بأسماء الأسد، وكل المحاضرات في اتحاد الكتاب العرب كانت من نوع (كيف نقول لا لأمريكا) أو (الغزو والتطبيع الثقافي) وكل من يكتب عن معاناة الشعب السوري يعتبره الموالون خائنا وعميلا، لكن أي صمت مهين ومخز حين تمشي في شوارع اللاذقية (مثلاً) وتقرأ لافتات عديدة (إنه الأسد أيها الحمقى!!!).
هؤلاء الحمقى اضطروا خوفاً لانتخابك كي يأمنوا أذاك وأذى شبيحتك، أو عبارة (حين تصل رؤوس القادة إلى نعل حذائك فهو شرف لهم). المحاضرة التي ألقيت في اللاذقية في زمن حافظ الأسد كان عنوانها (المرأة في فكر حافظ الأسد) وتجند مثقفون مدللون للكلام عن عبقرية القائد المُفدى وتقديره للمرأة. كانت أقوال حافظ الأسد مُقدسة وفي إحدى السنوات الدراسية وفي فحص الشهادة الإعدادية (البروفيه) كان أحد الأسئلة: ما أقوال حافظ الأسد في التدخين! وله قول عبقري (إنني أرى في الرياضة حياة). وكانت صور الأب ثم الابن في كل الأماكن من مدارس إلى جامعات إلى مشافٍ، حتى في غرف العمليات في المشفى الوطني كانت صور بشار الأسد تحدق بالطبيب الجراح، الحمد لله أن الجراح كان يتمكن من إجراء العملية.
بلغت الوقاحة في الكذب والاستهتار بالناس منذ بداية الثورة السورية، وكنت ما أزال أعمل طبيبة عيون في المشفى الوطني حيث أمر مدير الصحة، ومدير المشفى كل العاملين في المشفى الوطني من ممرضات وأطباء إلى التجمع في ساحة المشفى الوطني، وتوقف الجميع عن العمل وتجمعوا في ساحة المشفى الوطني، وكان هناك كيس كبير جداً مكتوب عليه بالأحمر العريض (قناة الجزيرة) وطلب المدير من الآذن أن يمزق الكيس فتدفقت منه أطنان من (حبوب الهلوسة) التي أرسلتها «قناة الجزيرة» إلى المشفى الوطني في اللاذقية، ثم أمروا الأذنة بصب البنزين على حبوب الهلوسة وحرقها. تمثيلية لا تخطر ببال غارسيا ماركيز. ومن يجرؤ أن يسأل: ما غاية قناة الجزيرة أن تُرسل حبوب هلوسة للمشفى الوطني، ومن استلم هذه الحبوب؟ وفي كل مناسبة كالحركة التصحيحية وغيرها كنا ننطلق في مسيرات مؤيدة، وكان كتبة التقارير جاهزون ليكتبوا اسم أي طبيب أو ممرضة يهربان، وذات مرة اضطررنا لإعادة المسيرة، لأن الطقس في اللاذقية كان سيئا، ولم ينجح التلفزيون في التصوير. كانت الاحتفالات بالحركة التصحيحية في ساحة المشفى الوطني (الذي تحول إلى مشفى من رخام بعد سرقة الخشب الممتاز للأبواب والنواف ) كان حشد من العاملين في المشفى الوطني يتجمعون في الساحة، وكان هناك طبل عملاق يضرب عليه بجنون شاب وكان الممرضات والأطباء والمديرون وقائد الشرطة يشاركون في الدبكة ( رقصات الولاء الإلزامية ) كما سماها ماوتسي تونغ، ولتكتمل المهزلة كان بعض المرضى (منهم مرضى القلب) ونساء حديثات الولادة يُشاركون في الدبكة بالبجامات المهترئة، من حظهم أن المصابين بأمراض القلب لم يموتوا بالسكتة، وأن النساء حديثات الولادة لم تهبط أرحامهن.
وكم هو مؤسف ومُخز أن بعض المسيحيين الموالين (خوفاً على الأغلب) كانوا يقولون: الحمد لله الرئيس بشار الأسد يسمح لنا بالصلاة في الكنائس، وبممارسة شعائرنا الدينية! كأن هذه هي مأساة سوريا، لأن النظام نجح إلى حد كبير في تخويف كل الطوائف من الإسلاميين السلفيين، وأن سوريا إذا حكمها المسلمون ستصير قندهار أو أفغانستان.
عانى السوريون الويلات في زمن حكم الأسد (الأب والابن) السجون امتلأت بسجناء الرأي كانوا شباباً جامعيين متحمسين للحرية ويؤمنون بالعدالة، بعضهم سُجن من 14 إلى 20 سنة، والكثير منهم تم إعدامهم، وكان أسرة المُعتقل تدفع رشاوى باهظة لضباط فاسدين كي يؤمنون لهم زيارة الأحبة. الخوف هو الموت الحقيقي، هو عدو الحياة، لأن الموت الفيزيولوجي مصير كل كائن حي.
المجد لسوريا، المجد للحرية والعدالة. وأتمنى أن تتحقق العدالة ويُحاسب بشار الأسد وكل الفاسدين.
كاتبة سورية
القدس العربي
—————————
هل لنا حق؟/ د. ابتهال الخطيب
13 كانون الأول 2024
لي أيام أكتب وأمسح في هذه السطور، ساعة تأخذني مشاعر فرح عارمة بتحرر الشعب السوري من أسرة طاغية امتد حكمها ثلاثة وخمسين سنة، منذ تولي حافظ الأسد الحكم في 1971، وساعة يأخذني تأنيب ضمير الاحتفاء بما أضعف المقاومة الفلسطينية وخوف عارم بتشجيع ما يمكن أن يتحول إلى حكم إسلامي متطرف سيأخذ سوريا في اتجاه طالباني على أحسن تقدير. ساعة أقول لنفسي ألا تستحين التفكير فيما هو قادم والتحليل لما هو آت من علياء مكانك المرتاح الآمن الذي يمكنك من هذا التفكير والتحليل كما الأكاديمي المتعالي المنقطع عن الأرض والحدث، وساعة ألوم نفسي أن ألا تعقلي بدل الانجرار خلف مشاعر الفرح الآني فتلعبي الدور المفترض، مهما كان صغيراً، بقرع جرس إنذار تجاه ما يبدو أنه استبدال نظام ديكتاتوري بآخر، تجاه استبدال حليف لإيران بحليف لأمريكا، وكله على حساب الشعب السوري ومن ثم المقاومة الفلسطينية؟ لا أستطيع كبح مشاعر الفرح المعصور بالوجع في صباحات هذه الأيام وأنا أشاهد فيديوهات ضحايا النظام الحقير، وهم يخرجون من السجون ليرون النور بعد عقود وقد تبدلت بهم الحال بكل ما للكلمة من معنى متوحش وحارق، لتدخل صبيّة صغيرة السجن مثلاً وتخرج بعدها بثلاثة عقود وهي تحمل ثلاثة أطفال على كتفها دون أن تعرف مَن مِن مغتصبيها حملوها هؤلاء الأطفال، أو ليدخل شاب مثل مازن حمادة السجن مثلاً ليعذَّب عذاباً يفوق قدرة العقل على تصوره ثم لينجو بنفسه ويهاجر خارج سوريا ثم ليجتذبه النظام مرة أخرى للعودة ابتزازاً بأسرته، ليتم اعتقاله في المطار في رابع وآخر اعتقال له، والعثور عليه الآن جثة هامدة بعد سقوط نظام الفحش والقمع؛ أن نشهد فيديوهات خروج النساء المعتقلات من السجون لا يعرفن أين يولين وجوههن، وقد حل بهن رعب عدم الفهم أو التصديق والاسترابة بكل ما حولهن؛ أن نواجه تسجيلاً لهذا الشاب محوطاً بمن يحاولون معرفة اسمه بالكامل ومحل إقامته ليعيدوه لأهله، لكنه غير قادر على التعبير أو الكلام فيما يذكر تماماً بحالة أسير الاحتلال الصهيوني بدر، الذي بدا تائهاً غير قادر حتى على الرمش بعينيه؛ أن نرى كل هذه المشاهد المفجعة المسفرة عن أشخاص طحنهم النظام الفاحش السابق وتركهم حطاماً بفتات أرواحهم… ألا يحق لنا أن نفرح بحزن ونحزن بفرح على إنقاذ ما أمكن إنقاذه من هؤلاء الأبرياء؟
ثم يأتي الليل، فلا أستطيع كبح مشاعر الخوف وتأنيب الضمير، أقرأ التحليلات وأشاهد المقابلات وأُعمل المنطق الذي يتخدر بمشاعر الفرح طوال اليوم، فأرى مستقبلاً تتحول فيه سوريا إلى “طالبان” أخرى، بما أن أبو محمد الجولاني أقرب لهذا القالب منه لقالبي “القاعدة” و”داعش” المنشق هو عنهما، وقد تقسمت أرضها التاريخية وتشرذمت بقاعها الحضارية وحوصر أهلها الأحرار بحكم إسلامي قمعي يمسك زمامه من يجد نفسه مع الوقت وقد “اضطر” لفتح السجون والضرب بيد من حديد طبقاً لحجة كل ديكتاتور عبر تاريخنا البشري. يأتي الليل فأرى المقاومة الفلسطينية وقد تمزقت وتحولت إلى “أحزاب اجتماعية سلمية” بدءاً من “حزب الله” الذي سينضم تحت لواء الدولة اللبنانية (وهي بحد ذاتها خطوة ممتازة لولا ضعف الدولة اللبنانية غير القادرة على الصد عن نفسها، ولولا أن ذلك يعني إنهاء دور الحزب كذراع للمقاومة الفلسطينية وكشف الجنوب اللبناني)؛ إلى حماس التي قد تنطوي قسراً تحت مظلة فتح المتخاذلة؛ إلى الحكومة الإيرانية التي كانت تمد السلاح والعتاد للحزبين، “حزب الله” وحماس، والتي -أولاً- رفعت يدها بعد تنحي الموالي الروسي، وثانياً فقدت ممرها إلى “حزب الله” ومن ثم حماس، بعد مجيء سلطة جديدة لسوريا تبدو من خلال كل المؤشرات، بل ومن خلال متضمنات واضحة في السلوكيات والتصريحات، أنها موالية لأمريكا مؤتمرة بأمرها. يأتي الليل فتذهب السكرة وتأتي الفكرة، وبكل أنانية وكأن المشهد يعنيني وحدي، أحاسب نفسي: ماذا فعلت؟ هل وقفت الموقف الصحيح، أم أنني احتفيت بما سيعصر مجدداً الشعب السوري ويقضي على المقاومة الفلسطينية؟
الوقت ليس لصالح امتداد الفرح، ولكن لمَ؟ لم دوماً أفراحنا قصيرة، لم لا يحق لنا الاحتفاء بسقوط طاغية وتحرر الأبرياء من طغيان لربما هو الأفظع في منطقة الشرق الأوسط إبان القرن العشرين، لم يضاهه في بشاعته لربما سوى النظام العراقي الصدامي السابق؟
ثمن سقوط الطاغية كبير لا يحتمل احتفاء، ولكن لم؟ لم دوماً لا يتاح لنا سوى الاختيار بين السيئ والأسوأ، الاختيار بين طاغية سياسي أو متطرف إسلامي؟ وإذا كان هذان هما الخيارين الممكنين، فلم لا يحتفي الشعب حين يسقط أحدهما؟ هل كان من الممكن إسقاط نظام الأسد بأي يد أخرى غير يد الجماعات الإسلامية المتطرفة تلك؟ ألم تدر الشعوب العربية ظهورها للثورة السورية في 2011 وتركوها فريسة التدخلات الخارجية لتنهار ويدفع ثمنها الشعب السوري الضعف ضعفين؟ اليوم نأتي فنلوح أمام وجوههم المتعبة الشاحبة بعصي المنطق، بتحليلاته ومخاوفه القادمة، مش عيب سوي؟
ستنهار أذرع المقاومة الفلسطينية بانهيار نظام الأسد المفترس، وتلك النتيجة لربما هي حالياً أوجع مخرجات التحرر السوري من طاغيته. ولكن، لم يتحمل الشعب السوري وحده هذا الثمن؟ أين دور بقية الشعوب العربية؟ هل من العدالة تقييم المعاناة السورية ومدى “استحقاق” انتهائها من منظور القضية الفلسطينية؟ بلا شك، الاحتلال الصهيوني هو عدونا الأول وهو ما تتجه إليه أعيننا كل يوم، ولكن هل يصح أن يبقى كل في عقر داره آمناً محملاً الشعب السوري طاغية فوق رأسه ثمناً لاستمرار المقاومة؟ لربما نستطيع أن نحكم من مواقعنا المريحة على المشهد بعقلانية وتروّ، يمكننا أن نشاهد الخطة الأمريكية التركية وهي تحيك خيوطها على الأراضي السورية امتداداً للأراضي الفلسطينية، فتزرع حلفاء في سوريا، وتقضي على المقاومة الفلسطينية، ولكن هل يستطيع سوري الداخل الذي قضى عقوداً تحت التعذيب في سجون الطاغية رؤية ذلك؟ هل يحق لنا أن نطالبه بهذه الرؤية والعقلانية والمنطقية؟ وماذا عن الضرب الإسرائيلي لسوريا الآن؟ وماذا عن القصف المتوحش المستمر على غزة، الذي طرفت أعيننا عنه مع الأحداث السورية الأخيرة؟ من سيصد عن غزة بعد اليوم، بعد وقف المداد لحماس وانتهاء دور “حزب الله”؟ من سيصد عن سوريا بعد أن وقع جيشها الوطني (رغم أن الأخبار تقول إنه “لا كان يصد ولا يرد”) وبعد أن خرجت قوات “حزب الله” التي كانت تصد عن حدوده، وبعد القطع مع حليفه الإيراني الذي كان يمده بالسلاح؟ أي نموذج طالباني سيدفع به الجولاني في سوريا الآن، وإلى أي مدى سيذهب هو في تحالفه مع أمريكا وفي محاولته لتقديم نفسه منفصلاً عن ماضيه مع القاعدة، وعلى أنه مشروع مدني جديد قابل للوجود في المجتمع الدولي؟
تتوالى مشاهد قصف غزة فتنكمش الروح على فكرة أن لا قضية تسبق وقف هذه المجزرة الوحشية، تتوالى شهادات المعذبين على يد نظام الأسد فتنطوي أضلع الصدر على فكرة أن لا مخاوف تسبق أهمية إنقاذ هذا الشعب، تتوالى مشاهد مرعبة لممارسات فصائل المقاومة الإسلامية في “نشاطها” سابقاً فتفرغ الرئتين من الهواء لتنكمشا على فكرة أن لا تحرير يمكن أن يستقر بأياد مغمسة هكذا بالدماء. وهكذا تدور الأفكار، فكرة تلاحق أختها، ليأخذني نوم متوحش تنقلني كوابيسه لمشاهد تعذيب ومواقع تفجير وأطفال تلتحف بياض الأكفان، ومسلحين يلتحفون سواد بزات الحرب، ودنيا لا عدالة ولا سلام ولا منطق ولا إنسانية ولا معنى فيها ولها.
هل لنا حق في الفرح؟ هل لنا حق في التوجس والاسترابة والتخوف؟ هل لنا حق في النقد؟ هل لنا حق ربط مأساتَي سوريا وفلسطين؟ هل لنا حق في هذه الأسئلة؟
القدس العربي
———————-
تحديات في وجه الدولة السورية الجديدة/ بلال التليدي
13 كانون الأول 2024
من الواضح جدا، أن تجربة إسقاط بشار الأسد، وشكل التعامل مع النظام القائم وداعميه، ستدخل إلى دائرة الدراسات التي تعنى بتفسير موجات الانتقال الديمقراطي، فقد لاحظ الجميع، أن عملية الدخول للمدن، خاصة حمص ودمشق، كانت بسلاسة كبيرة، وأن المعارضة المسلحة اختارت، أن تفصل الرأس عن الجسد، وتتعامل بكل إيجابية مع حكومة النظام السابق، وأجهزته الإدارية، ورفعت شعار لا للثأر والانتقام، وهي عناوين مهمة لإجراء انتقال سلس، يجنب سوريا ما حصل في الحالة الليبية من صراع الأطراف، وصراع الأجندات الدولية والإقليمية.
ليس ثمة أدنى شك أن اجتماع الدوحة الرئيسي بين مكونات أستانا، واجتماع بعض وزراء الخارجية العرب على هامشه، قد سوى الطريق، ورسم مفتاح الحل ما بعد إسقاط بشار الأسد، فعلى الأقل، لم نر مقاومة إيرانية أو روسية، دون أن ندري على وجه التحديد الثمن الذي تم قبضه، أو كيف أضحت موسكو وطهران عاجزتين عن إيقاف مسار محكم، تضبط إيقاعه من جهة معارضة مسلحة قوية ومندفعة بقوة نحو دمشق، ومن جهة مقابلة نظام مهترئ، وجيش فقد الحافزية على الدفاع عن النظام، وقوى إقليمية، لم تعد قادرة على الاستثمار أكثر في دعم نظام لم يعد أحد في الداخل يريد استمراره، وتأكدت أن تركيا أتقنت قواعد اللعبة، وتحركت في الوقت الصحيح، الوقت الذي تراجع فيه نفوذ حزب الله وإيران في سوريا، والوقت الذي لم تعد موسكو قادرة على المواجهة على جبهتين، ووقت الفراغ الاستراتيجي في واشنطن، بعد سقوط جو بايدن الانتخابي، وانتظار تنصيب دونالد ترامب.
من السابق لأوانه اليوم التكهن بشيء حول مستقبل سوريا، وإن كانت العناوين الكبرى للانتقال للعملية السياسية الطبيعية تبدو جد مبشرة، فتنصيب حكومة مؤقتة أفقها شهر مارس، وتجسير عملية الانتقال من حكومة نظام الأسد إلى حكومة محمد البشير، فضلا عن إعلان أفكار عن طريقة التعامل مع الأجهزة الأمنية والعسكرية، كل ذلك يندرج في سياق الانتقال السلس الذي يجنب سوريا الوقوع في حرب أهلية جديدة.
في الواقع، ظهرت ثلاثة مؤشرات مقلقة، كلها تتعلق بالعامل الخارجي، أولا، الهجوم الإسرائيلي على مطار المزة، ومناطق عسكرية وأمنية في دمشق ودرعا والقنيطرة وغيرها، فضلا عن احتلال المنطقة العازلة في الجولان السوري. والثاني، وقد حدث قبيل السيطرة على دمشق، وهو سيطرة قوات قسد على دير الزور، وما يرمز إليه ذلك من استمرار أجندة إقليمية تسعى إلى استدامة سياسة ابتزاز تركيا من خلال الأراضي السورية، والثالث، هو رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في التحرك السريع، ليس فقط لحماية مصالحها في سوريا، ولكن، لفرض أجندتها في انتقال السلطة، إذ يعزم وزير الخارجية الأمريكي للقيام بجولة للمنطقة تضم الأردن وتركيا، لإجراء محادثات حول دعم الانتقال في سوريا، فضلا عن الإدلاء بتصريحات تصب كلها في رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في المشاركة في صناعة مستقبل سوريا، بما في ذلك إعلان أنتوني بلينكن عن الشروط الأربعة للاعتراف بحكومة جديدة في سوريا.
في التعاطي مع هذه التحديات، كان الجواب مختلفا: مواجهة عسكرية في دير الزور حتى السيطرة عليها وطرد قوات سوريا الديمقراطية منها، وعدم الرد على الهجمات الإسرائيلية، وترك المنتظم الدولي أمام مسؤولياته، وإصدار مواقف جد معتدلة، تخص علاقة سوريا الجديدة بالدول الأجنبية وبمحيطها الإقليمي.
من الواضح جدا أن هناك بوصلة واضحة تؤطر نظرة المعارضة السورية المسلحة، فتجارب الانتقال في الدول العربية المختلفة، تركت خلفها عناوين هدامة ينبغي الالتفات إلى خطورتها حتى ولو كانت في عمقها تمتلك سندا من الحق والمعقولية، منها فكرة العدالة الانتقالية، والاقتصاص من المتورطين في جرائم وانتهاكات حقوقية ضد السوريين، ومنها القضية الطائفية وما ترمز له من ثأر من المكون الشيعي أو العلوي باعتبارهما كانا يمثلان قاعدة الحكم السابق وسنده، ومنها، أيضا الارتباطات الإقليمية، وما ترمز له من استخدام قوات قسد لسوريا كمنصة هجوم على تركيا، ومنها قضية التعاطي مع النظام السابق، احتواء رموزه أو تفكيكه، إذ تطرح الصيغتان تحديات من عودة الثورة المضادة، أو عودة الأجندات الإقليمية، ومنها قضية أخرى مرتبطة، باستكمال المهمة، فهناك من يعتقد داخل مكونات المعارضة المسلحة، أن الخطر الإيراني على سوريا، لا يمكن أن يؤمن إلا بحراك في العراق، ينتهي إلى نفس ما انتهت إليه سوريا من تحرير بلاد الرافدين من المحور الشيعي، ومنها قضية مرجعية الحكم، ومخاطر التركيز على فكرة إسلامية الدولة وتحكيم الشريعة.
لحد الآن، تبدو هذه التحديات كامنة، وتبدو بعض التصريحات مبشرة وتكشف عن فهم عميق لبعض هذه التحديات، لكن ينبغي التخوف من مخاطر الطرق الإعلامي الكثيف على سجن صيدنايا، وما ارتكب فيه من جرائم وانتهاكات حقوقية، فالصور الكثيفة التي تتحدث عن عذابات المظلومين، ومأساة كثير من المسجونين لا تخدم فقط هدف إدانة النظام السابق، وملاحقته جنائيا حتى في موسكو، مقر ملجئه، وإنما تخدم أيضا فكرة العدالة الانتقالية، وتحويل لحظة إسقاط النظام المبشرة، إلى عامل تأليب داخلي، يصعب معه الوصول إلى هدف سوريا موحدة، وذلك في ظل وجود إحباطات دولية وإقليمية، فواشنطن، وطهران، وحتى بعض الدول الخليجية، تبدو جد محبطة مما حصل، وهي تبحث عن أي ثغرة في الداخل حتى تعيد الدخول منها لتبرير نفوذها أو توسيعه أو استعادة المبادرة.
من المهم أن نفهم أن المطالبة بقميص عثمان هدم دولة الخلافة الراشدة، وفكرة العدالة الانتقالية، بعثرت أوراق الثورة في تونس ومصر وحتى في ليبيا، ومع أنها تتمتع بأعلى درجة من المعقولية والحق، إلا أنها في سياق بناء الدول، وبالأخص عند لحظة إحباط الأجندات الدولية والإقليمية، تصير ورقة مربحة لكل من يعتقد أن سوريا الجديدة، ستكون مناهضة للمشروع الصهيوني برداء سني (واشنطن وتل أبيب) أو من يعتقد أن سوريا الجديدة، هي مخطط صهيوني أمريكي (طهران) أو من يعتقد أن سوريا الجديدة هي أجندة تركيا الإخوان في المنطقة.
كاتب وباحث مغربي
القدس العربي
—————————-
لمَ سمحت إيران بسقوط بشار الأسد؟/ نيكول غرايفسكي
افترضت طهران ربما أن حالة انعدام الاستقرار التي يُحتمَل أن تشهدها سورية في المستقبل قد تتيح فرصًا يمكن استغلالها.
13 ديسمبر 2024
في غضون أسبوعٍ ونيّف فقط، شهد بشار الأسد سقوط حكمه الوحشي إثر هجومٍ شنّته فصائل المعارضة من الشمال الغربي، وأعقبه هجومٌ موازٍ من الجبهة الجنوبية. وانهارت مظاهر القوة العسكرية عندما عمَد الجيش السوري، الذي قصف المدنيين بلا رحمة بالبراميل المتفجّرة واستخدم غاز السارين ضدّ الأطفال، إلى التخلّي عن مواقعه تاركًا خلفه ترسانةً من العتاد، في انسحابٍ فضح الأُسُسَ الجوفاء التي قام عليها النظام.
وبينما تداعت قوات الأسد من حوله، وقف يتفرّج عاجزًا على انسحاب كلٍّ من روسيا إلى معقلَيه الساحليَّين، اللاذقية وطرطوس، والقوات الإيرانية شرقًا إلى العراق، بعد أن ساندته طهران وموسكو لفترة طويلة. هكذا تُرِك طبيب العيون الذي تحوّل إلى طاغية ليتأمّل أنقاض نظامه الاستبدادي الذي بُنيَ على معاناةٍ إنسانيةٍ يستحيل استيعابها.
والواقع أن جذور هذه اللحظة تعود إلى العام 2012، حينما التزمت إيران للمرة الأولى بالحفاظ على حكم الأسد. آنذاك أجرى اللواء قاسم سليماني، القائد الراحل لفيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، سلسلةً من الزيارات إلى سورية لتقييم مدى استقرار نظام الأسد. وأفادت التقارير بأن هذه الزيارات أثارت قلقه بشأن قدرة النظام على الصمود في وجه المدّ الثوري وضغط المتمرّدين. كذلك سافر سليماني إلى لبنان حيث التقى الأمين العام الراحل لحزب الله، حسن نصر الله، لتدعيم دفاعات الأسد.
ساهمت الضغوط التي مارسها نصر الله وسليماني في تشكيل قرار إيران بالتدخّل عسكريًا في سورية، وخاصةً في إقناع المرشد الأعلى علي خامنئي والمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بالتغلّب على تردّدهما الأوّلي. وكان خامنئي أعرب عن هواجس كبيرة بشأن الالتزامات المالية والعملياتية الضخمة التي يتطلّبها تنفيذ تدخّل برّي واسع النطاق. لكن نصر الله وسليماني قدّما مبرّرات أطَّرَت التدخّلَ على أنه ضروري للحفاظ على مستقبل حزب الله ونفوذ إيران الإقليمي الأوسع. وارتكزت حجّتهما على التهديد الوجودي الذي قد يشكّله سقوط الأسد على مصالحهما الاستراتيجية، وعلى ما يُسَمّى بمحور المقاومة.
واليوم، بعد مرور أكثر من عقدٍ من الزمن، ثمّة مفارقة بالغة في النتيجة. فسليماني ونصر الله لم يعيشا ليشهدا انهيار رؤيتهما الاستراتيجية الكبرى، بل أصبح تدخّلهما، الذي كان يُفترَض أن يرسّخ دور محور المقاومة في المنطقة، إيذانًا بتقهقره. إن الاستراتيجية نفسها التي صُمّمَت لتقسيم سورية والسيطرة عليها سقطت تحت وطأة ثقلها، مؤشّرةً لا إلى نهاية حكم الأسد فحسب، بل أيضًا إلى انحسارٍ محتملٍ للمحور لا يمكن تداركه.
لقد استثمرت إيران على مدى الأعوام الثلاث عشرة الماضية نحو 30 إلى 50 مليار دولار في سورية، ما عبّر عن التزامها الراسخ بضمان بقاء نظام بشار الأسد. واضطلع المستشارون الإيرانيون، ولا سيما أولئك التابعون لفيلق القدس، بدورٍ حاسمٍ في حماية حكومة الأسد خلال الحرب الأهلية. وتشير التقارير الرسمية إلى مقتل ما يزيد عن 2000 عنصر من “المدافعين عن الحرم”، وهو مصطلح ملطّف تستخدمه إيران للدلالة إلى قواتها في سورية. يُعتقَد أن معظم هؤلاء الضحايا مواطنون أفغان جُنّدوا ضمن لواء فاطميون، مع أن إيران خسرت أيضًا أعدادًا كبيرةً من عناصر الحرس الثوري، خصوصًا خلال معركة خان طومان في العام 2016.
فضلًا عن ذلك، تغلغلت إيران في هياكل عسكرية وشبه عسكرية أساسية في سورية، منها على سبيل المثال قوات الدفاع الوطني، وهي شبكة ميليشيات موالية للنظام ساعدت إيران في تنظيمها وتسليحها وتدريبها. شُكّلَت هذه القوات في العام 2013 تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني، وأصبحت قوةً مساعِدةً أساسيةً تدمج المقاتلين المحليين في استراتيجية الأسد العسكرية، وتكمّل الجيش السوري المنهك. كذلك نسجت إيران علاقات وثيقة ببعض أقسام الجيش السوري، ولا سيما الفرقة الرابعة المدرّعة والحرس الجمهوري. فقد حظيت الفرقة الرابعة، بقيادة ماهر الأسد، شقيق بشار، بالتدريب والأسلحة والمساعدات المالية من إيران بسبب موثوقيتها وفعاليتها في الهجمات الكبرى. وعلى نحو مماثل، استفاد الحرس الجمهوري، المُكلَّف بحماية الدائرة الداخلية للنظام وبنيته التحتية الأساسية، من الدعم اللوجستي والعملياتي الإيراني، ما ضمن استمرار ولائه للأسد.
لكن إيران شهدت في العام الماضي وحده تفكّك قيادتها وسيطرتها في سورية. ففي كانون الأول/ديسمبر 2023، أدّت الهجمات الإسرائيلية على دمشق إلى اغتيال سيد رضا موسوي، أحد كبار مستشاري الحرس الثوري الإيراني، الذي كان بمثابة القناة الرئيسة للمصالح الإيرانية في سورية. وقد تبعت هذه الضربة ضربةٌ أكثر أهمية في 1 نيسان/أبريل 2024، عندما استهدفت مقاتلات إسرائيلية من طراز “إف-35” القسم القنصلي في السفارة الإيرانية في دمشق، ما أسفر عن مقتل الجنرال محمد زاهدي، القائد السابق للقوات البرية في الحرس الثوري الإيراني. في غضون ذلك، كان محور المقاومة التابع لإيران في دائرة الخطر. هذه الخسائر، إلى جانب التدهور الشديد في هيكل قيادة حزب الله في لبنان، بما في ذلك قيادته في ظلّ نصر الله، قلّصت بشكل كبير نفوذ إيران الإقليمي.
حين شنّت القوات التابعة لفصائل المعارضة هجومها في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، كانت إيران نفسها في موقع ضعيف لا يسمح لها بالتدخّل على نحو فعّال لدعم الأسد. فعلى خلاف العام 2016، عندما استكملت القوات البرية الإيرانية الدعم الجوّي الروسي في حصار حلب، لم تبدُ موسكو وطهران مستعدّتَين أو قادرتَين على شنّ هجوم مضادّ مشابه، ذلك أنهما ازدادتا إحباطًا من تعنّت الأسد. وهكذا، بقي الأسد رجلَهما إلى أن لم يَعُد كذلك.
بحلول أوائل العام 2024، كان موقف كلٍّ من إيران وروسيا قد تغيّر تجاه الرئيس السوري. فروسيا كانت غاضبة بصورة خاصة من انتهاكاته المتكرّرة لاتفاق خفض التصعيد في إدلب، ومقاومته العنيدة لأيّ شكلٍ من أشكال التسوية عن طريق التفاوض. في موازاة ذلك، رأت إيران أن نفوذها الذي كان كبيرًا على دمشق يتراجع باطّراد، إذ بدأ الأسد يشقّ بشكل متزايد مسارًا مستقلًّا تَعارَض في الكثير من الأحيان مع أهداف طهران الإقليمية. وتنامت شكوك إيران حيال الأسد عقب سلسلةٍ من التسريبات التي كشفت عن تحرّكات مسؤولين في الحرس الثوري الإيراني، وبلغت ذروتها في الغارات الإسرائيلية التي استهدفت هؤلاء المسؤولين في سورية. ولاحظ فيلق القدس، الذي كان يتمتّع نسبيًا بالحرية في سورية، أن السلطات السورية أصبحت تقيّد تحرّكاته أكثر فأكثر، إذ رفض الأسد مثلًا مطالبات بفتح جبهة الجولان ضدّ إسرائيل. وربما كان الأمر الأكثر استفزازًا لإيران بدء دمشق بفرض قيود على الأنشطة الدينية الشيعية في أنحاء سورية، ما شكّل تحدّيًا مباشرًا لجهود طهران الرامية إلى توسيع نفوذها الإيديولوجي والثقافي في المنطقة.
وبحلول الوقت الذي شنّ فيه الثوّار هجومهم، لم ترَ إيران ولا روسيا جدوى كافية في إنفاق المزيد من الموارد لدعم نظامٍ أصبح عبئًا أكثر منه مكسبًا. فقد قوّض استقلالُ الأسد المتنامي الشراكات التي أدامت فعليًا حكمَه لما يزيد عن عقد من الزمن. وفي نهاية المطاف، عرضت روسيا على الأسد اللجوء لدواعٍ إنسانية، وإن بدا ازدراء موسكو للأسد واضحًا في تعليقات سيرغي لافروف في منتدى الدوحة، حيث وبّخ محاورَه لأنه أراد “إغراقه” في الأسئلة عن سورية.
والحال أن الضعف الأساسي للجيش السوري أصبح جليًّا بشكل صارخ حتى قبل استيلاء فصائل المعارضة على حلب. فالنقاشات التي دارت على منصّات التواصل الاجتماعي الإيرانية، خصوصًا القنوات الموالية للحرس الثوري الإيراني على منصّة تلغرام، عكست هذه الحقيقة، إذ بدأ المواطنون الإيرانيون العاديون في هذه المنصّات ينتقدون علنًا الأسد وعدم كفاءة جيشه. وقد يكون الأمر الأكثر دلالةً التحوّل في مشاعر أشدّ مناصري الحرس الثوري التقليديين، الذين أخذوا يعبّرون عن استيائهم من فساد الأسد وعدم فعالية الجيش السوري.
استجابت إيران في البداية وفقًا لنهجها المعتاد، من خلال حشد الميليشيات العراقية بهدف تعزيز دفاعات الأسد. لكن الحكومة العراقية رفضت السماح لهذه القوات بعبور الحدود إلى سورية. وبدلًا من الاعتراض على هذا القرار، رضخت إيران للأمر بسهولة مفاجئة. أمّا التطوّر المذهل، فكان انسحاب القوات المدعومة إيرانيًا، من دون مقاومة، من المعبر الحدودي بين سورية والعراق الذي يُعدّ أكثر المواقع استراتيجيةً بالنسبة إليها. كذلك، انسحبت قوات الحرس الثوري الإيراني والمقاتلون العراقيون الموالون لطهران من دير الزور قبل وصول القوات الكردية، ليسقط معبر القائم-البوكمال الحدودي سريعًا في أيدي قوات سورية الديمقراطية.
كانت محافظة دير الزور ومعبرها الحدودي الواقع في مدينة البوكمال بمثابة جوهرة تاج إيران في سورية، إذ شكّلت رابطًا حيويًا في طموحات طهران الإقليمية. فبعد أن انتزعت إيران السيطرة على دير الزور من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2017، حوّلت هذه المنطقة الواقعة في شرق سورية إلى ممرٍّ أساسي لاستعراض قوّتها في منطقة المشرق العربي. وأضحى معبر القائم-البوكمال ركيزةً مهمة للجسر البرّي بين إيران ولبنان، ولا سيما أنه سهّل نقل الأسلحة والمقاتلين والعتاد إلى وكلاء طهران في جميع أنحاء المنطقة.
لم تقتصر أهمية دير الزور على المستوى اللوجستي. فإيران استثمرت بشكل كبير أيضًا في تأمين هذه المنطقة وأنشأت شبكة من القواعد العسكرية ونسجت علاقات وطيدة مع مشايخ العشائر المحلية. واستغلّت إيران تظلّمات السكان العرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية ولاحقًا قوات سورية الديمقراطية، واستخدمت في الوقت نفسه المنطقة للضغط على القوات الأميركية المتمركزة في قاعدة التنف وبالقرب من حقل كونيكو للغاز. يُشار إلى أن الميليشيات المدعومة من إيران شنّت هجمات متكرّرة على المواقع الأميركية من هذه المنطقة، فتحوّلت إلى ساحة للتنافس الإقليمي الأوسع بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية. لكن حين بدأ نظام الأسد بالانهيار، اتّخذت طهران قرارًا مفاجئًا بالتخلّي عن هذه المنطقة الحيوية لصالح قوات سورية الديمقراطية. ربما عكس هذا الانسحاب استراتيجيةً أكثر مكرًا على المدى الطويل، تستند إلى رهان إيران على أن تولّد التوتّرات المستمرة بين القوات الكردية والسكان المحليين العرب وفصائل المعارضة المدعومة من تركيا، فرصًا جديدةً تتيح عودة النفوذ الإيراني إلى هذه المنطقة في نهاية المطاف.
لكن انسحاب إيران من سورية كان أكبر بكثير من مجرّد التخلّي عن دير الزور، إذ شكّل انعطافةً كاملة لانخراطها العسكري في البلاد. وفي الليلة التي سبقت هروب الأسد من دمشق، كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن إيران بدأت بإجلاء قادتها العسكريين وموظفيها من سورية. أما الحقيقة الصارخة الكامنة وراء انسحاب إيران فجاءت على لسان محلّل مقرّب من النظام الإيراني، قال للصحيفة إن “إيران بدأت بإجلاء قوّاتها وعناصرها العسكريين لأننا لا نستطيع القتال كقوّة استشارية داعمة إذا كان الجيش السوري نفسه لا يريد القتال… خلاصة الأمر أن إيران أدركت أنها لا تستطيع إدارة الوضع في سورية في الوقت الراهن بالعمليات العسكرية، وبالتالي لم يعد هذا الخيار مطروحًا”.
واقع الحال أن انهيار نظام الأسد قوّض الاستثمارات التي قامت بها إيران في سورية على مدى أكثر من عقدٍ من الزمن، وفكّك شبكة النفوذ المعقّدة التي حاكها قاسم سليماني. فقد بلور، بصفته قائد فيلق القدس، استراتيجيةً لزعزعة الاستقرار الإقليمي، ألحقت أضرارًا جسيمةً بالشعوب والدول في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. اعتمد مقاربةً منهجيةً شملت الخطوات التالية: تحديد الدول الهشّة، واستغلال مكامن ضعفها، وملء الفراغ القائم في السلطة بميليشيات مدعومة إيرانيًا باتت تُعرف بوحشيّتها واستغلالها للسكان المحليين. كان المنطق الكامن وراء هذا النهج ينبع من اعتقاد سليماني بأن ضعف الحكومات هو أرضٌ خصبة لتجذّر النفوذ الإيراني وازدهاره. بلغت هذه الاستراتيجية ذروتها في سورية، حيث ساعد سليماني على تحويل انتفاضةٍ شعبيةٍ إلى حربٍ أهليةٍ كارثية.
ما بدأ كتدخّلٍ في سورية لإنقاذ محور المقاومة، أضحى بدلًا من ذلك إيذانًا بانحداره. كان من المفترض أن تشكّل هذه الشبكة من الوكلاء والأنظمة الحليفة، الممتدّة من طهران إلى بيروت وصنعاء، حلًّا لعزلة إيران الإقليمية والضغوط الغربية التي تواجهها. وانهار النموذج الذي بدا فعّالًا للغاية في لبنان مؤخرًا بعد أن أنهكت إسرائيل حزب الله خلال حرب استنزاف بلغت ذروتها بحملة قصف مدّمرة وغزو برّي لجنوب لبنان، بدأ في 1 تشرين الأول/أكتوبر. في نهاية المطاف، اتّضح أن هذا النموذج غير مستدامٍ في سورية.
لا يزال الكثير من الغموض يكتنف القرارات الإيرانية التي اتُّخذت في الأيام الأخيرة من حكم الأسد. صحيحٌ أن طهران لا يمكنها أن تأمل واقعيًا في استعادة مستوى النفوذ الذي كانت تتمتّع به خلال عهد الأسد، إلّا أن حساباتها تتجاوز على الأرجح الأزمة الراهنة. ونظرًا إلى أن إيران أثبتت مرارًا وتكرارًا مهارتها في استغلال الفوضى الإقليمية لصالحها، قد تكون تراهن على أن العملية الانتقالية في سورية ما بعد الأسد ستتيح لها فرصًا جديدة لبسط نفوذها، ولا سيما في ظلّ تنافس مختلف الفصائل على السلطة والموارد. على سبيل المثال، يمكن أن تشكّل معاداة الأكراد السوريين للنفوذ التركي في سورية فرصةً مماثلة. كذلك، قد تؤدّي قدرة إيران على العمل مع المجموعات السنّية إلى تشكيل تحالفات براغماتية مُعارِضة لإسرائيل، ولا سيما بعد احتلالها المنطقة العازلة المنزوعة السلاح التي أُنشئت في العام 1974 بموجب اتفاقية فضّ الاشتباك في جنوب سورية.
يندرج كلّ ما سبق إلى حدٍّ كبير في إطار التكهّنات. لكن الأكيد أن سقوط الأسد المُهين كشف حجم الأضرار الجسيمة التي لحقت بسورية من جرّاء حكمه والقوى الخارجية التي ساندته. سوف تكشف لنا الأشهر المقبلة ما إذا ستنجح إيران في التكيّف مع الواقع السوري الجديد، أم أن سقوط الأسد سيضع بالفعل حدًّا لطموحاتها في سورية.
مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
——————————-
سوريا الجديدة وحسابات اللاعبين/ لطفي العبيدي
13 كانون الأول 2024
تواجه المنطقة العربية تهديدات متعددة من دول إقليمية طامعة، إلى جانب القوى الدولية المتدخلة منذ فترة ليست بالقصيرة. وأصبح مكشوفا محاولاتهم فرض مشروعات بديلة، وخطط تقسيم تقوم على تفكيك الدول العربية، وإثارة الصدامات العرقية، والاستقطاب السياسي، ونشر حالة من عدم الاستقرار، التي تعزز فرص القوى الخارجية لاختراق المجتمعات ومؤسسات الدولة، وتدميرها من الداخل والتحكم في مقدّراتها ومصادرة قرارها الوطني السيادي.
ماذا عن سوريا التي تم فيها إسقاط نظام وننتظر البدائل؟ لقد تضاربت فيها مصالح كثير من اللاعبين بشكل واضح وجلي. المحتلّ الإسرائيلي يرغب في تمتين احتلاله للجولان وربما مساحات أخرى. ونراه كيف تقدّم عشرات الكيلومترات بمجرد تراجع الجيش السوري وتخلّيه عن مواقعه، أمريكا التي تحتل شرق الفرات، تواصل نهب النفط منذ سنوات، أما تركيا فتتمسّك بدعم فصائل مسلحة بعينها على حساب الأكراد الذين تعتبرهم إرهابيين.
المحتل الصهيوني استغل عدم الاستقرار والاضطراب في سوريا ومتغيراتها الداخلية لتوسيع وجوده العسكري بمرتفعات الجولان، وقصف أكثر من 100 هدف معظمها مستودعات أسلحة استراتيجية بين صواريخ وطائرات، وأمريكا أيضا دمرت حوالي 75 هدفا في سوريا. ماذا بعد؟ هل يريدونها دولة أقليات تطبيقا لتنظيرات بريجنسكي صاحب نظرية رقعة الشطرنج الكبرى، وهنري كيسنجر الذي تحدث منذ عقود عن مشاريع التقسيم في المنطقة إلى دويلات وكانتونات صغيرة متشرذمة؟ عندما يكون البديل بعد إسقاط نظام أوتوقراطي مطلق هو بدوره مرتهن بالأجندة الخارجية التركية أو الأمريكية، فهل سيحمل مشروعا وطنيا ديمقراطيا جامعا وهو لا يملك استقلاليته؟ الانتصار العسكري والسياسي ستنتهي نشوته، وسيجد من يُقدّم نفسه محررا لسوريا، مطالب المواطن السوري المنهك اجتماعيا واقتصاديا في انتظاره. ناهيك من العبء الديمغرافي المتمثل في اللاجئين السوريين، الذين ترغب تركيا في ترحيل ملايين منهم ليعودوا إلى بلدهم. هناك خياران بعد سقوط النظام الحاكم: إما بناء سوريا جديدة تستوعب الجميع، أو العودة بها إلى القرون الوسطى، فتصبح دولة فاشلة، كما هو حال نماذج أخرى في المنطقة تم فيها إسقاط الأنظمة لكن الدولة إمّا أنّها انهارت وانتشرت فيها مظاهر الفوضى والاقتتال، وإمّا زادت متاعب الشعب، ولم يحظ بأي ثمار اجتماعية أو اقتصادية ولا سياسية. المهم بالنسبة لسوريا ألا يدفع الشعب من جديد أثمانا أخرى، ويجد نفسه قد استبدل نظاما شموليا بنظام آخر أكثر شمولية وربما قروسطي. من الواضح أنه لن يُترك للسوريين وحدهم حق تقرير المصير بناء على تداخل مصالح الكثير من الدول في هذا القطر العربي، كنا نتمنّى لو أنّ المشهد الفصائلي أكثر وضوحا، وأقل اختلاطا مما هو عليه. على الأقل نفهم ما هي القوة الفعلية التي ستقود المرحلة المقبلة. فلا ننسى أنّ تنظيم الدولة المصنف إرهابيا موجود ومشارك في الأحداث: فهل بمثل هؤلاء ستُبنى الدولة؟ أنْ تُغيّر اسمك أو اسم تنظيمك تقرّبا من أمريكا لعلّها ترفعك من قائمة الإرهاب، ولكنك في الوقت ذاته تخلط بين دولة المواطنة والدولة السلطانية. وتتحدث عن أهل ذمة وعن غزو وفتح وغنائم لا عن مواطنين، ولا عن فعل وطني تحرري. بمثل هذا الفكر السياسي يصبح النظام الوطني الديمقراطي بعيد المنال، ما بالك عندما تتقاطع هذه المفاهيم مع تصريح وزير الخارجية الصهيوني عن الأقليات، وحقها في أن يكون لها وجود مستقل، في تلميح لتقسيم سوريا إلى فيدراليات معادية لبعضها، بين كرد وسنة ودروز وشيعة علويين. وهذا متأصل في الفكر الصهيوني، وإسرائيل تحبّذ أن تتعامل مع طوائف وأقليات بدل دولة أمةّ.
أشكال الانبطاح والتخاذل أمام الأمريكي الذي لعب بالمنطقة كما أراد لم تعد تطاق. وعلى صناع القرار السياسي أن يفهموا، في زمن النظام العالمي الجديد، الذي يبحث عن ملامحه، أنه خارج إطار المصالح الاقتصادية والتجارية، لا يوجد أصدقاء أو أعداء دائمين بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها. الجميع يبحث عن تحقيق مصالحه الخاصّة، لذلك يتم تجاهل ما يسمى المجتمع الدولي وهياكله في أكثر المناسبات، ومن أجل النفط لا تعبأ أمريكا بكيان مستقلّ، ولا بطموحات الشّعوب وحقّها في العيش بسلام أو تقرير مصيرها. لم يتراجعوا عن مخطط إعادة صياغة الأنظمة السياسية من خلال إضعاف مؤسسات الحكم المركزي، ودعم المجموعات الإثنية والمذهبية، المشروع الذي تزامن مع تبنّي الولايات المتحدة مفهوم إعادة رسم خريطة المشرق العربي وفق قاعدة التجزئة ضمن الحدود. إشكالية الهوية السياسية لدى الجمهوريات العربية بدأت منذ مطلع القرن العشرين، بفعل الاستعمار الغربي ومشاريع تقسيمه للمنطقة وفق صفقات مشبوهة. ومنذ ذلك الحين، تواجه الدول العربية مشاكل كبيرة في ترسيخ مفهوم المواطنة ضمن إطار الدولة، مقابل انتشار الأطروحات الأممية والطائفية والإثنية. ولم تحسم حتى الآن معضلة تشكل الدولة الوطنية الحديثة وفق مقومات سليمة من شأنها أن تخلّصها من مشكلة تدهور العلاقة بينها وبين مختلف فئات المجتمع، خاصة مع ارتكاز السلطة على قواعد ضيقة من الفئات القليلة المستفيدة، وذلك منذ خروج الاستعمار الغربي، وتركه الجمهوريات العربية تعاني النزاعات الحدودية، وخضوع شعوبها في الأغلب للأنظمة العسكرية الشمولية.
بلد مثل سوريا، نراه اليوم قد انقسم على نفسه سياسيا وطائفيا وإثنيا، لا نعلم أي آلية ستقود المرحلة المقبلة وتعيد اللحمة الوطنية. وماذا عن السياسة الخارجية أو الدفاعية التي ستعتمدها السلطة الجديدة لبلد على درجة كبيرة من الحساسية، من ناحية موقعه الاستراتيجي والمعادلات الإقليمية. تترصّده إسرائيل وتعتبره من دول الطوق، ومحوري ضمن أهداف مشروع الشرق الأوسط الجديد المخطط له أمريكيا وإسرائيليا. لا يهم الآن إن كان ما حدث هو صفقة بين ترامب وبوتين، أو غير ذلك، المهم هو سوريا والشعب السوري. لا نريد واقعا شبيها بما حدث بعد أن غزُوا العراق وأسقطوا نظامه ودمّروا الدولة، وكذلك فعلوا في ليبيا المقسمة حتى الآن. وحدة الأراضي السورية وسلامتها واستقلالها كلام نسمعه يتردد لدى قادة الاتحاد الأوروبي نرجو أن يدفعوا نحو تحقيقه فعليا، مع أنهم لم يدينوا ما تقوم به إسرائيل من انتهاك للسيادة السورية، ناهيك من حسابات بقية اللاعبين الذين يبحثون عما يناسبهم في سوريا الجديدة، اتركوا سوريا وشأنها ودعوا الشعوب تقرر مصيرها..
كاتب تونسي
القدس العربي
————————-
سيناريوهات سورية/ عائشة بلحاج
13 ديسمبر 2024
“شعرتُ أنّ روحي غادرت جسدي، وأن جسدي انفصم عن فكري، كلّ بمكان”. هذه الجملة لإحدى النّساء ضحايا جنود الأسد، تُعبّر عن معاناة السّوريين خلال 12 سنة منذ الثورة. ولعل جملة “ما أكثر الاحتمالات وما أقلّ الحقائق” تعبّر عن سياق “الثورة الاسترجاعية” الحالية.
واجهت الثورة السورية، منذ انطلاقتها، قمعاً من أحد أكثر مجرمي الحرب دموية في التّاريخ الحديث، ولا يتفوّق عليه إلّا نتنياهو وعصابته. وجاء سقوطه متأخراً عقداً، وفي ظروف غير واضحة. لكن، أيّاً كانت الأطراف التي حرّكت البيادق على السّاحة السورية، فإنّ الحدث يستحق الاحتفال، خاصة بعد أن أصبح نصف السّوريين خارج البلاد، واضطرّ البقية للصّمت، وبعد أن خرجت الثورة من أيدي الشعب.
قد يبدو سقوط الأسد كأنّه لعبة شطرنج تلعبها قوى خارجية. ولكن لولا ثورة 2011 لما حدث هذا السّقوط. ولولا دعم الجهات الأجنبية لما بقي الأسد في الأصل. فكما سقط معمّر القذافي، رغم تمتعه بمليارات النفط وآلاف المرتزقة، في وقت قياسي، كان من المستحيل أن يصمد الأسد أكثر منه.
بعد التغريبة السورية، جاء سقوط الطاغية برداً وسلاماً على السّوريين. لكن ما العمل مع كثيرين من العرب؟ منذ اللّحظة الأولى لاقتراب سقوط الأسد، دبّ الهلع في قلوب بعض “المتابعين”، وكأنّ الأسد كان عامل استقرار وحماية لسورية. كم هي مضحكة هذه الرّواية! ما الحل إذاً؟ بقاؤه؟ هل يعرف هؤلاء ماذا فعل الأسد في سورية؟ أم نسوا؟ لكن السّوريين لم ينسوا الإبادة الجماعية بالأسلحة الكيميائية، وتدمير مظاهر الحياة في مناطق بأكملها.
أتذكر أنني كتبتُ قبل ثماني سنوات مقالاً عن “سورية بلاد الأشياء الأخيرة”، يواكب جرائم الأسد في ذروتها، حيث دُمّرت البيوت وأُبيدت مناطق، في مشاهد أفظع مما قد يقدّم فيلم هوليوودي عن نهاية العالم. لقد صنع الأسد وعصابته من الداخل والخارج ديستوبيا رهيبة. ربما أغرى بعضهم “الاستقرار الحالي”، لكنه استقرار مبنيٌّ على أنقاض؛ هرب نصف السّوريين إلى خارج البلاد، مخاطرين بحياتهم لعبور حدود مجهولة لبلاد عديدة، فقط ليجدوا بلدا يقبلهم.
من لم يذق الموت أو يرى رائحته يمكنه التّحليل كما يشاء طالما أن حياته ليست على المحكّ. ولكن بقدر ما يحب بعضهم موت الآخرين من أجل قضاياهم، فهذا ليس منطق الوطن. كيف يُطلب من الناس أن يبقوا تحت حكم دموي “تجنّباً للأسوأ”؟ وما هو الأسوأ بالنّسبة للنساء اللواتي اغتُصبن وأُجبرن على إنجاب أبناء من تحت العبودية الجنسية؟ أو للمعتقلين الذين قضوا سنوات طويلة في ظروف لاإنسانية أدّت إلى جنون بعضهم وموت آخرين؟
عام 2016، عُرض فيلم وثائقي بعنوان “سوريا الصّرخة المكتومة”، يروي شهادات نساء شهدن قتل رجال عائلاتهن أمام أعينهن، ثم تعرّضن للاغتصاب الجماعي. كانت القصص مفزعة إلى درجة أن الجمهور خرج من قاعة السينما قبل نهاية الفيلم. مع العلم أن اللواتي تحدثن في الفيلم “ناجيات”، ومنهن صاحبة الجملة السابقة. أما من بقين تحت الأسر، فالله وحده يعلم ما عشنه.
لا توجد حلول مثالية لسيناريوهات ما بعد الأسد. ولكن يمكن تلمس الظلام من خلال العودة إلى ذاكرة الضّوء. لقد بدأت الثورة السّورية أهلية خالصة، والنظام هو الذي أدخل المرتزقة وفتح الباب للخطر الخارجي. ثم قبلت بعض فصائل الثورة السلاح، واختلطت الأمور وسُرقت الثورة. هذا كان هدف الأسد، رغم أنه، بشخصه، عديم القيمة؛ صنعته مجموعة من المنتفعين الذين استغلوا وجوده لنهب خيرات البلاد.
إذا غُفرت للأسد وعائلته جرائمهم، فلن يُغفر لهم تحويل سورية إلى ساحة حرب بالوكالة، فالدمار الذي حصل ليس ذنب الشعوب أو الثورات، بل الأنظمة الساقطة. وسقوط الأسد في سياق الترتيبات الدولية يعني أن هذه القوى ستواصل تدخّلها، بوجوده أو غيابه.
في النهاية، يمكننا الاتفاق على قياس الأمور بين السيئ والأسوأ، والأسد هو الأسوأ بلا منازع. يريد بعضهم أن يبقى من تبقى من السوريين تحت رحمة الأسد، خوفاً على “سورية”. لكن ما سورية من دون السّوريين؟ في أيّ سيناريو، لا تعني وحدة الأرض شيئاً بدون أهلها.
العربي الجديد
——————————
سورية بين الاعتداءات الإسرائيلية والابتزاز الأميركي/ أسامة أبو ارشيد
13 ديسمبر 2024
تثبت الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، والتي زادت وتيرتها منذ انهيار نظام الرئيس المخلوع بشّار الأسد، وكذلك الابتزاز الأميركي للثوار السوريين، أن الدولتين ليستا في وارد التسليم بحق الشعب السوري في تقرير مصيره ضمن حدود دولته المستقلة كاملة السيادة. كلا الدولتين تعملان في سورية ضمن نسق إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهو هدفٌ معلنٌ لهما في الأشهر الأخيرة، بما يخدم مصالحهما وبما يبقي المنطقة خاضعة لنفوذهما عقوداً قادمة. إنه استمرار لمنطق سايكس – بيكو الذي لم يفارق المنطقة منذ أكثر من مائة عام، حتى وإن تغيّرت العناوين واللافتات والترسيمات الحدودية. ومن ثمَّ، يخطئ العرب إن ظنّوا أن إسرائيل مشكلة فلسطينية فحسب، وأنهم إن طلبوا ودّها وحصلوا عليه، فإن في ذلك تجنيباً لهم من استدعاء السخط الأميركي عليهم. أبداً، إسرائيل تحدٍ للعرب ككل، وأحد مبرّرات إنشائها في القلب من المنطقة إبقاءها ضعيفة ومجزأة ومستنزفة، وفقدان الدولة العبرية لهذا الدور سيعني بداية تفكيكها ونهايتها. وبهذا المعنى، فإن العدوان الإسرائيلي الراهن المدعوم أميركياً وغربياً على فلسطين وسورية ولبنان ما هو إلا مجرد محطات جديدة في عدوان أوسع تتغير معطياته وتتقاطع ساحات عديدة فيه في مراحل مختلفة.
مع سيطرة الثوار السوريين على دمشق وهروب بشار الأسد وانهيار نظامه وجيشه، شنَّت إسرائيل مئات الغارات الجوية الكثيفة، وصفت بأنها الأوسع في تاريخ سلاح الجو الإسرائيلي، على الأراضي السورية، واستهدفت المنشآت العلمية والقواعد العسكرية والطائرات المقاتلة وأنظمة الدفاع الصاروخية، ومواقع إنتاج الأسلحة ومستودعاتها، بما فيها الكيميائية، بالإضافة إلى الأسطول البحري السوري في طرطوس. الذريعة الإسرائيلية أنها تريد أن تمنع وقوع القدرات العسكرية السورية “الاستراتيجية” (بالمناسبة هي متهالكة وقديمة ولم تسلم من الضربات الإسرائيلية طوال سنوات) بأيدي الثوار الذين تعدّهم متطرّفين إسلاميين، بما يشكل تهديداً عليها. وحسب التصريحات الإسرائيلية، فقد دمرت عمليات سلاح الجو ما بين 70% إلى 80% من القدرات العسكرية التي كان يمتلكها نظام الأسد. لم تكتف إسرائيل بذلك، إذ عمدت إلى استغلال انهيار نظام الأسد لتوسيع رقعة الأراضي التي تحتلها في مرتفعات هضبة الجولان (جنوب). كما أنها توغلت في المنطقة الحدودية العازلة، والذي وصل إلى نحو 25 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من العاصمة دمشق. ولم يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إخفاء وقاحته المعهودة، فأعلن “انهيار اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974” مع سورية، بعدما “تخلى الجيش السوري عن مواقعه”، مؤكداً أنه أصدر “الأوامر للجيش بالاستيلاء على هذه المواقع، لضمان عدم تمركز أي قوة معادية بالقرب من حدود إسرائيل”. ورغم تأكيد نتنياهو أن هذا الاحتلال الجديد “موقف دفاعي مؤقت حتى التوصل إلى ترتيب مناسب”، فإن تاريخ كيانه يثبت أن ما يستولي عليه لا يعود، أو أنه يعود ضمن عقود غَرَرٍ باهظة الثمن على الضحية العربي، وعظيمة الفوائد لإسرائيل، كما رأينا في اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، وأوسلو مع الفلسطينيين، ووادي عربة مع الأردن.
غير بعيد عن السلوك الإسرائيلي العدواني ذلك الابتزاز الأميركي للثوار السوريين، والذي هو منسّق مع إسرائيل ويهدف لخدمة مصالحها. ما أن انهار نظام الأسد ودخلت قوات الثوار إلى دمشق حتى بدأت واشنطن تقايض رفع العقوبات الاقتصادية عن سورية وإزالة هيئة تحرير الشام، أكبر الفصائل السورية المقاتلة، عن قوائم الإرهاب، بتدمير الأسلحة الكيميائية وتقديم ضمانات لمكافحة الإرهاب. ورغم أن الهيئة وبقية فصائل الثوار تعهدوا باحترام حقوق الأقليات في سورية، والعمل على قيام حكم مدني يمثل جميع السوريين، إلا أن واشنطن تريد سورية تدور في فلكها وتخضع لها وتقبل باحتلال إسرائيل أراضيها واعتدائها على مقدّراتها. وفوق هذا وذاك، تسالمها وتصالحها. ليس هذا فحسب، فالولايات المتحدة تحتل، بالتعاون مع مليشيات قوات سوريا الديمقراطية (الكردية) مناطق واسعة في شرق سورية، وهي تسيطر على آبار النفط والغاز، ولا يبدو أنها في وارد الانسحاب من الأراضي السورية واحترام وحدة البلاد واستقلالها. ولأن الأميركيين بارعون، كما الإسرائيليين، في ابتداع “مسامير جحا” لتبرير سطوتهم واعتداءاتهم على سيادة الدول المستقلة، فإنهم تذكّروا فجأة أنَّ ثمَّة بقايا لتنظيم الدولة الإسلامية، فكان أن وجهت لهم ضربات جوية، مهدّدة بأن “المنظمّات في سورية ستحاسَب إذا انضمت لتنظيم الدولة”.
للأسف، على الأرجح، ستعمل واشنطن وتل أبيب، وعواصم عربية من معسكر الثورات المضادّة، على تعويق قدرة سورية الجديدة على خطِّ مسار مستقبلي يقوم على أسس من مصالحها الوطنية واستقلالها وسيادتها وأمن شعبها وسلامته وازدهاره. ولا تنحصر قائمة أعداء سورية في هؤلاء، بل هناك روسيا التي تريد الحفاظ على امتيازاتها وقواعدها العسكرية التي منحها إياها الأسد، وهناك إيران التي لن تسلم بسهولة لانحسار نفوذها في الشام، كما أن هناك بقايا النظام وفلوله والعصابات التي كانت مرتبطة به، وخطر الفتن الطائفية والعرقية التي قد تسعّرها قوى خارجية. الكارثة أن ثمَّة أنظمة عربية لا تريد أن تستوعب أو أن تعترف بأن مباضع التشريح الأميركية والإسرائيلية، وهم أنفسهم جزء منها، ستتحول إلى تمزيق دولهم في مراحل مقبلة إذا قدّر لواشنطن وتل أبيب أن تنهيا مهمتهما الخبيثة في فلسطين وسورية ولبنان. كل المنطقة على “المفرمة” لمصلحة إسرائيل، لا يفرق هنا من كان متواطئاً معها ومع الولايات المتحدة، أو من كان مهادناً أو خصماً لهما.
العربي الجديد
————————–
“درب آلام” سورية الغد/ ناصر السهلي
13 ديسمبر 2024
ليس بالضرورة أن يكون المرء سورياً ليفهم شيفرة تضرّع أمهات وجدات في الصباحات الكئيبة قبل الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، بقولهن: “الله يبعد عنك أولاد الحرام”. والكشف عمن يقصدن بذلك القول ليس محصوراً باكتشافات ما بعد هروب المخلوع بشار الأسد، ولا حتى بقهقهته في حضرة المصفقين والهاتفين بالدم والروح فداء له بمجلس الشعب في أواخر مارس/ آذار 2011. للملايين حكاياتهم مع “درب الآلام” نحو الحرية. بيوت فسيحة وأخرى بأسقف صفيحية كان لها نصيبها من طقوس دعوات أن يبعد الله أولاد الحرام عن أحبتهم. ولم يستثن الاستبداد في دمشق، “قلب العروبة النابض”، اللبناني والفلسطيني والأردني والعراقي والمصري، وغيرهم الكثير، حيث غصات التغييب القسري لأبناء وأحفاد.
لعل تفاصيل “أولاد حرام” القمع الدامي تصيب غير السوريين بذهول عن حرفة صناعة الطغاة. يمكن للمرء مثلاً تخيّل شعور رفاق الشاب الراحل غياث مطر من داريا. أُعدم الشاب الذي حمل زهوراً لقوات أمن الديكتاتور، حالِماً بتمدد الوطن إلى خارج أبواب الدار. رُقص على جثث داريا وكفرسوسة والزبداني ومخيم اليرموك والحجر الأسود والصنمين وإزرع والحولة والبيضا، وغيرها الكثير. وبُررت وحشية مجزرة “حفرة التضامن” (أُعدم فيها فلسطينيون وسوريون عام 2013) باعتبارها “مجزرة غبية” ما كان يجب اكتشافها لو طُبقت بذكاء. كل ذلك وغيره على مدار عقود عار تأسيس وطن الخوف والرعب، يقدّم للحالمين بوطن حر دروساً كثيرة. فلا يجب استعارة تفاهة وصف الآخرين بالجراثيم والمندسين والعملاء، ولا يجب أن يكون ثمة طقوس صباحية ومسائية عن “أولاد الحرام”. ولعل التفكير قليلاً بالراحلين قبل تحقيق الشعب مراده في هتافه “الشعب يريد…” سيعين على المرور بما مرت به أمم أخرى في الانتقال من الديكتاتورية إلى الحرية.
درس آخر تقدمه سورية التي اجتازت بعض آلامها، في أن “الحرام” هو الفرجة على محاولات صناعة طغاة جدد، أو اختزال الوطن في حزب وحركة وراية وصور وتماثيل “القائد” الأبدي. لدى سوريي 2024 ما يكفيهم من تجربة ودروس وندوب وكوابيس جماعية ليحموا اتساع وطنهم نحو مواطنتهم الكريمة، والتعافي من أمراض أكثر من نصف قرن. والثورات المضادة لا تعرقل فقط طرق الحرية، بل يمكنها أن تعيد هيمنة طقوس “أولاد الحرام” و”ثقافة” البصم بالدم والهتاف لمحتل محلي يستلب العقول والإرادات، بأطنان شعارات براقة تستبدل شعار “وحدة حرية اشتراكية”. فشعب سورية يستحق عن جدارة الغد الأفضل.
العربي الجديد
————————–
الصين وسورية: لا يهم لون القط/ رزان شوامرة
13 ديسمبر 2024
ساد الأسد، فكانت المعارضة مجموعة من “متمرّدين” وفرعا “لتنظيم القاعدة.” سقط الأسد، فصارت المعارضة نفسها مجموعة “محاربين” و”قوات معارضة مسلحة”، و”أطرافا معنية”، تماماً كما صارت في الخطاب الغربي. هكذا هو الخطاب الصيني يتبدّل، بين ليلة وضحاها، وكما هي السياسة في هذا الكوكب: لا فرق بين خطاب أميركي أو صيني. ظاهريّاً، تقوم دبلوماسية الصين تجاه قضايا الإقليم على ادّعاء تمويهي، الحيادية وعدم التدخل. واقعياً، انحازت الصين للدكتاتوريات العربية ولإسرائيل، وهذا لا يختلف كثيراً عن نهج الولايات المتحدة في الجوهر، وان تباين في الدرجة.
في أثناء الصعود، لا تمارس الدول الحياد، بل البراغماتية الانتهازية، مستغلّة كل ما هو متاح أمامها لتحقيق تفوق نسبي، مقارنة مع نفسها أو مع الدول الأخرى في النظام الدولي. لم تمارس الصين، وهي دولة صاعدة، الحياد تجاه الصراعات ذات الأبعاد الدولية في إقليم الشرق الأوسط، وخاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والأزمة السورية. القاعدة هنا وجود علاقة طردية بين قوة الدولة وطبيعة دبلوماسيتها، فكلما زادت قوة الدولة صعوداً صارت سياستها الخارجية تجاه الصراعات الدولية أعمق في الاعتماد على المصلحة القومية، وأقلّ في الالتزام بالقيم الأخلاقية.
اتسمت الدبلوماسية الصينية تجاه الأزمة السورية في بدايتها بالحذر، حيث كان لديها مستوى معين من الشكوك بشأن بقاء نظام بشار الأسد. قدّمت الصين ثلاثة مقترحات لحل الأزمة السورية، في 2012، 2014، و2021، وجميعها تشترك في ثلاث نقاط رئيسية: حل النزاع بالوسائل السلمية، تحقيق وحدة سورية، وتقديم المساعدات الإنسانية. ولكن الاختلاف بين المقترحات كان جوهرياً، ففي أول مقترحين لعام 2012 و2014 دعت الصين إلى “الانتقال السلمي للسلطة”، الأمر الذي يشير إلى شكوك صينية آنذاك بمدى قدرة الأسد على البقاء. ففي عام 2012، طالبت الصين المجتمع الدولي بدعم “الانتقال السلمي للسلطة في سورية”، ودعت الأطراف السورية إلى “الالتزام بالقانون الدولي والإنساني، والامتناع عن العنف، والتأكيد على حق الشعب السوري في اختيار ممثليه بحرية ومن دون تدخل خارجي، واحترام قرارات الشعب السوري”. أوصلتها شكوكها إلى دعوة نائب المنسق العام والمتحدث باسم اللجنة التنسيقية الوطنية السورية لقوى التغيير الديمقراطي في الخارج هيثم منّاع لزيارة الصين ولقاء نائب وزير خارجيتها آنذاك تشاي جيون.
كرّرت الصين ذلك في اقتراح عام 2014، الأمر الذي يؤكد أنها، إلى ذلك الوقت، كانت لديها شكوك حول قدرة النظام على الاستمرار، وقالت “إن عملية الانتقال السياسي في سورية يجب أن تكون بقيادة سورية، ويجب أن يُقرّر مستقبل سورية في نهاية المطاف الشعب السوري نفسه”.
أما الاقتراح الأخير لعام 2021، أزالت الصين شكوكها، وأكدت فيه على مبدأ “قيادة سورية، وملكية سورية”. جاء هذا الاقتراح ليمثل تحوّلاً في السياسة الخارجية الصينية تجاه الأزمة، بحيث أصبحت الصين أكثر ثقة بأن النظام باق. بناء على ذلك، انتقدت السياسات الغربية، وحملتها مسؤولية الأزمة الإنسانية في سورية، مبرّئة بشار الأسد من المسؤولية عن الوضع الكارثي في البلد. وقد ورد في الاقتراح بشكل صريح: “تعتقد الصين أن السبيل الأساسي لحل الأزمة الإنسانية في سورية يكمن في الرفع الفوري لجميع العقوبات الأحادية والحصار الاقتصادي المفروض على سورية”.
بالإضافة إلى ذلك، روّجت الصين لنظام الأسد ودعمته دبلوماسيّاً، عبر التأكيد على دوره في مكافحة الإرهاب وتصوير الثورة السورية مجرد نشاطات إرهابية. وجاء في الاقتراح: “يجب احترام الدور القيادي للحكومة السورية في مكافحة الإرهاب على أراضيها… ويجب الاعتراف بتضحيات سورية ومساهمتها في مكافحة الإرهاب”. يصبح التباين مع المقترحات السابقة واضحاً، فقد تراجعت عن الدعوة إلى “انتقال سياسي سلمي”، معتبرة ذلك وهماً، حيث قالت “تدعو إلى احترام خيار الشعب السوري والتخلي عن وهم تغيير النظام”.
وفي عام 2023، نشرت بكين وثيقة “الهيمنة الأميركية ومخاطرها” متهمة واشنطن بشكل صريح بأنها “نظّمت الربيع العربي” Orchestrated the Arab Spring، وجلبت الفوضى والكوارث إلى بلدانٍ عديدة. ورأت الوثيقة أن ما يحدُث في سورية ليس ثورة، بل “حروب وكالة” أميركية. وبسبب “حرب الوكالة الأميركية على سورية” كما تصفها الصين، قالت إنه “منذ 2012، زاد عدد اللاجئين السوريين وحدهم عشرة أضعاف. بين عامي 2016 و2019، تم توثيق مقتل 33584 مدنياً في المعارك السورية، بما في ذلك 3833 قتيلاً بقصف التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، نصفهم من النساء والأطفال. وفي التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 أدت الضربات الجوية التي شنتها القوات الأميركية على الرقة وحدها إلى مقتل 1600 مدني سوري”. وفي 2024، نشرت وثيقة أخرى بعنوان “النفاق وحقائق المساعدات الأميركية” اتهمت فيها واشنطن ليس فقط بتنظيم الربيع العربي، بل وبرعاية الإرهابيين، ودفعهم إلى الإطاحة بالأنظمة العربية في ليبيا وسورية. وقالت الوثيقة: “قدمت [واشنطن] مساعدات مختلفة لتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية من أجل الإطاحة بنظام القذافي في ليبيا وحكومة سورية، وحرضت الجماعات الإرهابية على تنفيذ عمليات عسكرية لإطاحة الحكومة السورية”.
هذا التصعيد تجاه واشنطن، وترويج نظام الأسد، كانا دليلا على أن الصين أزالت الشك، وأصبحت متأكدة من أن هذا النظام لن ينهار. لكن، بعيداً عن المبالغة في تصوير التأييد، لم يتجاوز موقف الصين ودعمها النظام السوري في الصراع التصويت بـ”الفيتو” في الأمم المتحدة، وليس في كل الحالات من ناحية دبلوماسية، وعمليا وماديا مشاركة النظام في بعض المشاريع المتواضعة التي لا تساعد دولة تعاني من حربٍ 14 عاماً.
رأت الصين أن مسؤولية سلامة الأراضي السورية بقيادة نظام الأسد تقع على المجتمع الدولي الذي “يجب أن يحترم ميثاق الأمم المتحدة والقواعد الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية، وأن يلتزم بالحفاظ على سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها، واتّباع نهج عادل ومتوازن وحيادي في التعامل مع جميع الأطراف في سورية، وتجنّب فرض حلول سياسية خارجية على سورية”. وفي مجال الدبلوماسية، لا تمارس الصين هذا الدور، فهو مُكلف، وينطوي على تحمّل مسؤوليات وتكاليف لا تريد الصين دفعها، ولذلك التزمت بخطاب واحد بشأن المسؤول عن حل الأزمة، وهو “الحفاظ على دور الأمم المتحدة قناةً رئيسية للوساطة”.
في السابع من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أي قبل يوم من سقوط الأسد، ذكرت وكالة شينخوا للأنباء (المملوكة للدولة)، أن فرع “القاعدة” في سورية هو المسؤول عن شن الهجمات خلال الأسبوع الماضي. وبالنص: “جاء التوتر بعد أسبوع من النكسات التي تعرّضت لها الحكومة بعدما شنت هيئة تحرير الشام المرتبطة بتنظيم القاعدة هجمات كبرى في 27 نوفمبر في محافظة حلب الشمالية”. وفي يوم سقوط الأسد، عادت الصين الى خطابها الحذر لعام 2014، حيث عقبت باقتضاب “الصين تتابع الوضع في سورية عن كثب، وتأمل أن يعود الاستقرار في أقرب وقت ممكن”. في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول، طُرح سؤال على الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ، في المؤتمر الصحافي الدوري، مفاده: “انتهت حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، وحكومة جديدة على وشك التشكيل. ما هو تعليق الصين على الوضع الحالي في سورية؟ وهل ستجري الصين اتصالات مع الحكومة الجديدة؟”. أجابت: “تتابع الصين الوضع في سورية عن كثب، وتأمل أن تأخذ الأطراف المعنية بالاعتبار المصالح الأساسية للشعب السوري، وأن يتم التوصل في أقرب وقت ممكن إلى تسوية سياسية تعيد الاستقرار إلى سورية”.
لا تختلف الصين عن الغرب في سياساتها تجاه القضايا الأكثر حساسية في الإقليم، تدعم الديكتاتوريات، تتبنّى الرواية الصهيونية عن”يهودية” الكيان الإسرائيلي، “تقف مع الواقف”، وتصطف مع النظام الذي يسود بغض النظر عن سلوكه وطبيعته. وببراعة براغماتية انتهازية، سوف تجد بكين أول فرصة لتطبيع علاقاتها مع النظام السوري الجديد، حتى لو كان “فرع تنظيم القاعدة،” فكما قال مهندسها قبل أربعة عقود دنغ شياو بينغ: “لا يهم لون القط، أصفر أو أحمر، المهم أن يقبض على الفأر”.
العربي الجديد
————————–
انهيار النظام السوري.. آثار هائلة على المنطقة كلها/ ماجد عزام
الجمعة 2024/12/13
تكتونية وزلزالية، هكذا يمكن وصف التحولات والتطورات الأخيرة في سوريا، والتقدم المذهل للمعارضة المسلحة في عملية “ردع العدوان”، وصولاً إلى تحرير دمشق وإسقاط نظام آل الأسد، الذي استمر بالسلطة قرابة نصف قرن. تحمل تلك التحولات في طياتها دلالات كبرى وستترك تداعيات وآثار هائلة على المنطقة كلها، بما فيها فلسطين بشكل عام، وحرب غزة بشكل خاص، ما يفرض بالضرورة على الطبقة السياسية الفلسطينية القراءة العميقة واستخلاص العبر الصحيحة، وعلى قاعدة أن ما جرى ويجري يصب أساساً واستراتيجياً في صالح فلسطين وقضيتها وشعبها.
بداية، لا بد من شرح التطورات الأخيرة في سوريا والمعطيات المتعلقة بالتداعي المفاجىء لدفاعات وجيش نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، واجتياح قوات المعارضة السهل لحلب وحماة وحمص وصولاً الى دمشق، وخلق وقائع ميدانية وسياسية تشي باستحالة العودة إلى الوراء، وبالسياق تأكيد تراجع وحتى انهيار دور إيران وروسيا وحضورهم بالقضية السورية، وتقادم إطار وعملية أستانة التي باتت الآن وبالتأكيد من الماضي، مع العودة الصحيحة أخلاقياً وقانونياً وسياسياً لإطار وعملية جنيف بما في ذلك القرار الأممي 2254، المستند إليها.
إذن، تسارعت سيطرة المعارضة على المدن السورية وخلال أيام معدودة ودون معارك حقيقية وجدية في حلب وحماة وحمص ودمشق، مع تداعى النظام الذي يعود لغياب العوامل الثلاثة التي منعت انهياره خلال السنوات الـ13 الأخيرة، مع التذكير بحقيقة أنه سقط نظرياً أو إكلينيكياً منذ كسر الشعب السوري حاجز الخوف وحطّم جدار الصمت، في 18 آذار/مارس 2011، وحتى قبل ذلك في 15 آذار، عندما خطَّ أطفال درعا بأناملهم الرقيقة على جدران مدرستهم عبارة يسقط الديكتاتور.
وبتفصيل أكثر، كان الشعب السوري قد أسقط النظام منذ نزل منتفضاً وثائراً إلى الشارع، ورغم اتباع الحلّ الأمني وارتكاب الفظائع والمجازر وجرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية حسب لجان تحقيق تابعة للأمم المتحدة، بما في ذلك استخدام الصواريخ الثقيلة “سكود” وحتى السلاح الكيماوي ضد الشعب الثائر.
بعد فشل الأجهزة الأمنية وآلة القتل الأسدية، تدخلت وإيران وميليشياتها من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان عام 2012، وفشلت هي الأخرى في حماية النظام، فتمت الاستعانة بروسيا عام 2015، ما ساعد على بقاء النظام في السلطة إلى حين انهياره تماماً قبل أيام لأسباب ذاتية وموضوعية تتعلق بطبيعة وخواء النظام نفسه، كما بالقوى التي دعمته وأبقته في السلطة عنوة ورغماً عن ارادة الشعب السوري.
على المستوى الشخصي أو القيادي، يمكن الحديث كذلك عن غياب ثلاث شخصيات أساسية ومؤثرة ساهمت في حماية النظام خلال السنوات الأخيرة، وهي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤول فيلق القدس قاسم سليماني، وأمين عام حزب الله السابق حسن نصر الله.
غير أن بوتين رفض التدخل بمواجهة عملية ردع العدوان لانشغاله واستنزافه في أوكرانيا، خصوصاً مع سحب معظم القوات الروسية من سوريا، وهو لم يقاتل طالما أن جيش النظام نفسه لا يقاتل.
كما غاب سليماني ولم ينجح خليفته إسماعيل قآاني في ملء مكانه، بينما تحوم حوله شبهات العمالة واختراق مكتبه من قبل إسرائيل وربما أجهزة مخابرات أخرى، إضافة إلى أن إيران نفسها باتت في وضع الدفاع بعد نجاح إسرائيل في نقل المعركة الى قلب طهران.
بينما أدى اغتيال حسن نصر الله في الحرب الأخيرة، إلى غياب الضلع المتبقي في مثلث حماية بشار الأسد، وهي الحرب التي تركت الحزب محطّماً، مع نقمة من قبل مناصريه على تركه وحيداً تحت رحمة الضربات الإسرائيلية، سواء من نظام الأسد أو حتى من إيران نفسها.
خلال الفترة العشرية السابقة، كانت تركيا قد تدخلت لمحاربة التنظيمات الإرهابية لمنع المشاريع الانفصالية والتقسيمية في سوريا، كما حفاظاً على مصالحها المتماهية مع مصالح الشعب والمعارضة والسورية، ونفذت ثلاث عمليات عسكرية ضد الحركات والتنظيمات الإرهابية، أولاً ضد داعش في عملية درع الفرات، ثم وحدات حماية الشعب الكردية، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، عبر عمليتي غصن الزيتون ونبع السلام.
وخلال المرحلة نفسها وتحديداً أواخر حقبة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وتفضيله الانكفاء عن المنطقة شرقاً نحو آسيا، وعزوف الغرب عموماً عن الانخراط بالقضية السورية، بادرت تركيا إلى التفاهم مع روسيا وإيران، ضمن عملية أو إطار أستانة لخفض التصعيد وإبقاء الأفق مفتوحاً أمام الحل الساسي، وجرى التوافق على أربعة مناطق لخفض التصعيد حيث سيطر النظام تماماً على ثلاث منها، دمشق ودرعا وحمص، ثم قضم أجزاء مهمة ومعتبرة من الرابعة في أرياف إدلب وحلب وحماة.
ثم تغيرت الأمور كلياً في السنوات الخمس الأخيرة في تركيا، خصوصاً المستوى الاقتصادي، إثر جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، كما وضعت المعارضة التركية ورقة اللاجئين السوريين والمطالبة بعودتهم إلى بلادهم، في صلب جدول الأعمال السياسي والإعلامي الداخلي، وعليه مدّت القيادة التركية المنتخبة كما في أي دولة ديمقراطية، اليد إلى نظام الأسد الذي ظن أنه انتصر، خصوصاً مع الانفتاح العربي والتطبيع معه، فبادر إلى رفض اليد التركية الممدودة حتى مع النصائح الروسية والعربية بالانفتاح إيجاباً على أنقرة.
وبالعودة إلى عملية ردع العدوان، فقد جرى التخطيط والإعداد لها لسنوات من أجل استعادة الأراضي التي قضمها الأسد من مناطق خفض التصعيد، كما لإجباره على العودة إلى المسار السياسي، وهي كانت مقررة منذ سنة تقريباً غير أن تزامنها مع حرب غزة أدى إلى تأجيلها لإعطاء النظام السابق فرصة لدعم غزة والتصدي للخطط الإسرائيلية في الجولان وسوريا، وهو ما لم يفعله بشار الأسد.
تجاوزت العملية التي انطلقت بضوء أخضر أو على الأقل برتقالي من أنقرة، ومنذ ساعاتها الأولى منطقة خفض التصعيد وأستانة، وأعادت الاعتبار إلى القرار 2254، وإعلان جنيف، حيث البدايات الأولى للثورة السورية، وبعد ذلك نجاحها في إسقاط النظام الهش الذى تخلى عنه حلفاؤه للأسباب السابقة الذكر، طارحة بالسياق خارطة طريق جديدة، تشمل الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية ومنع التقسيم والخطط الانفصالية ومنع الحرب الأهلية والفوضى وانهيار الدولة، وشق مسار انتقالي نحو سوريا الحرة التعددية والمدنية والديمقراطية لكل مواطنيها دون إقصاء.
في الأخير، وإضافة إلى المعطيات والاستنتاجات السابقة، سيتواصل الاهتمام العربي والعالمي بسوريا خلال الأسابيع والشهور المقبلة، ضمن التداعيات والآثار الهائلة للتحولات السورية على المنطقة وحتى العالم. وفلسطينياً، نحن مدعوون بالتأكيد للقراءة واستخلاص العبر والسعي الجاد لإنهاء حرب غزة والتوصل إلى تفاهم بروح وفلسفة اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، مع صفقة تبادل أسرى جادة وعادلة، وصولاً إلى اتفاق وقف إطلاق نار دائم وسلطة وطنية” فعلاً”، تنهي الانقسام مع الضفة، وتعيد توحيد المؤسسات و‘عمار غزة، مع “يونيفيل” اقتصادي وآخر سياسي وأمني، لمساعدة السلطة على القيام بمهامها الوطنية، وببساطة لابد من القراءة الضرورية للتطورات السورية والإقليمية والدولية واستخلاص العبر المناسبة والدقيقة منها.
المدن
————————–
مصرف سوريا المركزي… من هنا تنطلق ورشة التعافي/ مهدي الحسيني
الجمعة 2024/12/13
مع اندلاع الحرب في سوريا عام 2011 وما رافق ذلك من تدهور اقتصادي وفقدان الليرة السورية أكثر من 90 في المئة من قيمتها، أتت العقوبات الدولية لتضع المصرف المركزي السوري في عزلة عن النظام المالي العالمي، ما قوّض قدرته على إدارة الاحتياطيات الأجنبية.
من هنا لا بد من انطلاق قطار الإصلاحات في سوريا من البنك المركزي السوري وتحديداً من خلال ترسيخ استقلاليته عن التدخل السياسي وتحديث إطاره القانوني لتمكينه من رسم سياسيات نقدية سليمة من شأنها تحقيق الاستقرار للعملة الوطنية ومكافحة التضخم واستعادة الإنخراط في النظام المالي العالمي والامتثال للمعايير الدولية.
تاريخ مصرف سوريا المركزي
يُعد مصرف سوريا المركزي (CBS) أحد الأعمدة الرئيسية للنظام النقدي السوري، حيث تأسس عام 1953 بموجب المرسوم التشريعي رقم 87، وبدأ عملياته رسميًا في عام 1956. على مدار العقود، لعب المصرف دورًا حاسمًا في إدارة السياسة النقدية وتنظيم القطاع المصرفي. ومع ذلك، واجه المصرف تحديات كبيرة نتيجة الصراعات الداخلية والعقوبات الدولية، مما قوض فعاليته. ومع انهيار النظام الحالي، يظهر الأمل في إعادة بناء المصرف ليكون محور التعافي الاقتصادي لسوريا.
بدأ مصرف سوريا المركزي كمؤسسة تُشرف على السياسة النقدية وإصدار العملة الوطنية. تطورت أدواره بشكل كبير مع إصدار قانون النقد الأساسي رقم 23 لعام 2002، الذي مثّل نقطة تحول في تحديث الأطر التنظيمية والإدارية. شملت هذه التحسينات إدخال تقنيات مصرفية حديثة وتحسين الكفاءة والشفافية، مما عزز دور المصرف في دعم الاقتصاد السوري.
مع اندلاع النزاع في سوريا عام 2011، تدهور الاقتصاد السوري بشكل كبير. أصبح مصرف سوريا المركزي أداة في يد النظام لدعم بقائه، مما قوض استقلاليته ومصداقيته. أدى هذا التغيير إلى تفاقم التضخم المفرط وانهيار العملة السورية، حيث فقدت الليرة أكثر من 90 في المئة من قيمتها مقابل الدولار بحلول عام 2024، وتعثرت محاولات توحيد أسعار الصرف وتصنيف الحسابات الراكدة (التعميم 4385/16/ص) التي لم تكن فعالة إلى حد كبير. كذلك، فشلت المراسيم التشريعية رقم 5 و6 لعام 2024، التي شددت الرقابة على استخدام العملات الأجنبية، في معالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار النقدي، مما أدى إلى تآكل الثقة العامة.
بالتزامن، ساهمت العقوبات الدولية في عزلة المصرف، مما زاد من صعوبة الوصول إلى الأسواق المالية العالمية. فقد فرضت وزارة الخزانة الأمريكية في عام 2020 عقوبات على مصرف سوريا المركزي، مما جعله معزولاً عن النظام المالي العالمي. أثرت هذه العقوبات بشكل كبير على قدرة المصرف على إدارة الاحتياطيات الأجنبية وتنظيم التدفقات النقدية.
وفي ظل هذه الظروف، ومع انهيار الاقتصاد، أصبحت الحوالات من المغتربين السوريين مصدر دخل حيويًا، وشريان حياة للأسر السورية، رغم ارتفاع تكاليف تحويلها واعتماد الكثيرين على قنوات غير رسمية مثل شبكات الحوالة. في عام 2024، شهدت ممرات الحوالات مثل الأردن-سوريا، والسعودية-سوريا نشاطًا ملحوظًا رغم ارتفاع تكاليف المعاملات، بحيث بلغت تكلفة إرسال 200 دولار من الأردن إلى سوريا في المتوسط 9.75 في المئة، بينما بلغت من السعودية 16.16 في المئة.
إعادة بناء سوريا
مع خروج سوريا من ظل النظام المنهار، يقف مصرف سوريا المركزي في صميم احتمالات الانتعاش الاقتصادي للبلاد. يمكن لمصرف سوريا المركزي، إذا أعيد تأهيله وإصلاحه بشكل جذري، أن يكون حجر الزاوية للاستقرار النقدي والمالي والمصرفي، وإعادة الاندماج المالي العالمي.
استقلالية مصرف سوريا المركزي
يبدأ إحياء مصرف سوريا المركزي بضمان استقلاليته عن التدخلات السياسية، ليتمكن من صياغة وتنفيذ سياسات نقدية فعّالة. تشمل الخطوات الرئيسية:
– الإصلاحات القانونية من خلال تحديث الإطار القانوني لضمان استقلالية مصرف سوريا المركزي، وحماية قراراته من الضغوط السياسية، وتشكيل لجنة سياسة نقدية مكوّنة من خبراء مستقلين لتوجيه عملية صنع القرار.
– التعاون مع المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي (IMF)، والبنك الدولي، وبنك التسويات الدولية (BIS) لتعزيز المساءلة والامتثال لأفضل الممارسات العالمية.
استعادة الإستقرار النقدي
بعد انهيار النظام السوري، يصبح من الضروري التحضير لاعتماد نظام صرف يحقق الاستقرار النقدي والاقتصادي، وذلك من خلال دراسة معمقة لتحديد التوجه الأنسب. ويجب أن يكون هذا القرار من اختصاص المصرف السوري المركزي حصراً، باعتباره كياناً مستقلاً وسيادياً، لضمان اتخاذ التوجه الأمثل بما يخدم المصلحة الوطنية بعيداً عن أي تدخلات خارجية.
مع الإشارة الى ان تحقيق الاستقرار النقدي يتطلب ممارسة سياسات تقليدية وغير تقليدية بهدف تحقيق استقرار الليرة السورية (SYP)، وكبح التضخم من خلال اعتماد سياسات مالية منضبطة واستخدام أدوات نقدية للتحكم في التضخم، الذي يُعد محركًا رئيسيًا لعدم الاستقرار الاقتصادي، وإعادة بناء احتياطيات العملات الأجنبية من خلال تنويع مصادر الإيرادات، بما في ذلك الحوالات والمساعدات الدولية والاحتياطيات الأجنبية.
إعادة الاندماج في النظام المالي العالمي
إعادة ربط النظام المالي السوري بالنظام المالي العالمي أمر حيوي للتعافي المستدام، وطلب رفع العقوبات بعد زوال سببها. يتطلب ذلك الامتثال للمعايير الدولية واستعادة الثقة:
– الامتثال لمعايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب (AML/CFT) من خلال وضع أطار قانوني متكامل لتنفيذ تدابير صارمة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب تماشيًا مع المعايير العالمية.
– استعادة العلاقات مع المصارف المراسلة لتسهيل المعاملات الدولية.
– الحصول على دعم أقليمي ودولي فني ومالي من المؤسسات متعددة الأطراف لإعادة بناء البنية التحتية للأنظمة المالية والمصرفية وتفعيلها والاستفادة من قدرات المغتربين السوريين.
تحسين إدارة الحوالات: شريان الحياة للتعافي
تُعد الحوالات المالية من المغتربين السوريين مصدرًا حيويًا للنقد الأجنبي، وبالامكان تعزيزها من خلال:
– خفض التكاليف وتشجيع المنافسة بين مشغلي تحويل الأموال لخفض رسوم المعاملات.
– تعزيز القنوات الرسمية وتقديم حوافز لاستخدام القنوات المصرفية الرسمية لزيادة الشفافية والأمان.
– الاستفادة من المنصات الرقمية وتطوير أنظمة دفع رقمية سهلة الاستخدام لزيادرة تدفقات الحوالات.
تبني التحول الرقمي
يتطلب تحديث القطاع المالي السوري الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية، ووضع مصرف سوريا المركزي في طليعة الابتكار:
– العملة الرقمية للبنك المركزي(CBDC) : دراسة جدوى إطلاق عملة رقمية لتحسين تنفيذ السياسات النقدية وتعزيز الشمول المالي في سوريا، لاسيما أمام الواقع الحالي والتوزيع الجغرافي.
– الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول: توسيع خدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول لزيادة الوصول إلى المواطنين المحرومين.
– تطوير البنية التحتية: الاستثمار في أنظمة تقنية آمنة وفعّالة وقابلة للتوسع لدعم الخدمات المصرفية والحلول الدفعية الرقمية.
استعادة الثقة والشفافية
إعادة بناء الثقة في مصرف سوريا المركزي أمر ضروري لثقة الجمهور والمستثمرين. بحيث يجب أن تكون هذه الشفافية والمساءلة أساس لجميع الإصلاحات، من خلال تقديم:
– نشر تقارير دورية عن السياسات النقدية، والاحتياطيات، والرؤية المستقبلية Forward Guidance.
– تعزيز نظام تأمين الودائع لحماية المدخرات واستعادة الثقة في النظام المصرفي.
– إجراء عمليات تدقيق خارجية منتظمة ومستقلة لضمان الالتزام بالمعايير والممارسات الدولية.
رؤية لتعافٍ مستدام
تتركز الآمال بأن يؤسس مصرف سوريا المركزي دورًا محوريًا في نهضة الأمة السورية والعربية بعد سنوات من المعاناة والتحديات. وكما ناضل الشعب السوري من أجل حريته واستعادة سيادته، فإن هذا النضال يجب أن ينعكس على جميع مؤسسات الدولة، وعلى رأسها مصرف سوريا المركزي، ليكون رمزًا للسيادة والاستقلال، وقادرًا على اتخاذ قراراته بمعزل عن أي ضغوط داخلية أو خارجية، ملتزمًا بسياسات نقدية شفافة وفعالة تخدم الشعب وتلبي تطلعاته.
إن الاستقلال المؤسسي، وضمان الاستقرار النقدي، إلى جانب الشراكات الدولية والإصلاحات الشاملة في التحول الرقمي وإدارة الحوالات، تشكل ركائز أساسية لاستعادة الثقة في الاقتصاد الوطني. هذه الركائز يمكن أن تعيد سوريا إلى النظام المالي العالمي، وتُمهد الطريق لمرونة اقتصادية تجعل الشعب السوري شريكًا في بناء مستقبل وطنه.
في مسيرة إعادة الإعمار، يمكن لتحول مصرف سوريا المركزي أن يكون رمزًا للأمل ودليلًا على قوة المؤسسات في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز التعاون الدولي. قد يكون الطريق مليئًا بالتحديات، لكن برؤية واضحة والتزام راسخ، يمكن لسوريا أن تؤسس لاقتصاد مستدام يلبي احتياجات أبنائها ويعكس طموحاتهم في حياة كريمة ومستقبل مشرق.
المدن
———————————————–
هل يكون أحمد الشرع الرئيس المقبل للجمهورية السورية؟/ منير الربيع
الجمعة 2024/12/13
القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، هل يكون هو رئيس الجمهورية السورية المقبل؟ أصبح السؤال يُطرح بقوة في الكواليس السورية اجتماعياً وسياسياً، وبالنظر إلى الوقائع العسكرية وموازين القوى. تدرّج الشرع في خطابه وفي ألقابه، من قائد جهادي، إلى رئيس جبهة النصرة، وبعدها قائد هيئة تحرير الشام وحالياً قائد الإدارة الجديدة، ولاحقاً سيكون مرشحاً للرئاسة في الانتخابات المقبلة التي يفترض أن تجري خلال أشهر قليلة بعد إنجاز التعديلات الدستورية اللازمة. المواقف التي يتخذها تشير إلى أن الرجل قد أعدّ نفسه إعداداً جيداً للتعاطي بواقعية والانفتاح على الدول. مجموعات هيئة تحرير الشام وحلفائها المنتشرين في دمشق وغيرها من المناطق، يشيرون إلى انضباط كبير، والتزام مطلق بتوجيهاته.
لوائح العقوبات
سارع الشرع والمعروف أكثر باسم “الجولاني” إلى فتح علاقات وصلات إقليمية ودولية. قدّم خطاباً يتلاءم مع الدول الغربية ما دفع بالولايات المتحدة الأميركية إلى تسريب خبر عن احتمال رفع الهيئة عن لوائح العقوبات، فيما أقر هو باستعداده لحلّ الهيئة. في الشوارع وعلى بعض السيارات تُرفع صوره. تنتظر دمشق، زيارات سياسية من بينها لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان برفقة رئيس المخابرات ابراهيم كالين لعقد لقاءات مع الشرع، كما أن قطر أعلنت عن فتح سفارتها، وهناك استعداد لتقديم مساعدات إنسانية كثيرة، وسط معطيات تشير في دمشق إلى زيارات متتالية لمسؤولين قطريين.
فصائل الجنوب
المنهج الواقعي الذي اعتمده الجولاني في الأيام الأولى، كان سيفضي إلى الإبقاء على الحكومة السورية برئاسة محمد غازي الجلالي لإدارة مرحلة تصريف الأعمال خلال ثلاثة أشهر، وهي الحكومة التي كانت محسوبة على نظام بشار الأسد. كان هناك تواصل مع هذه الحكومة، وعقد الشرع لقاءً مع رئيسها، لكن بعض الحسابات هي التي حالت دون ذلك، فدفعت بالشرع إلى العدول عن الفكرة، وذلك لا يتعلق بموقف الجلالي الذي كان متعاوناً، إما ببعض التنافس الذي ظهر على السطح بين فصائل هيئة تحرير الشام بقيادة الشرع، وبين بعض فصائل الجنوب بقيادة “أحمد العودة”. هنا تجدر الإشارة إلى أن فصائل الجنوب كانت قد احتفظت بكامل أسلحتها بعد إجرائها مصالحة مع النظام السوري قبل سنوات وبرعاية روسية. ومع سقوط حمص بيد المعارضة السورية وبدء التحرك باتجاه دمشق، سارعت فصائل الجنوب بقيادة العودة للوصول إلى دمشق، وقد وصلت طلائعها قبل هيئة تحرير الشام، وفوراً كان اتجاه فصائل الجنوب إلى منزل الجلالي رئيس الحكومة، وعملوا على اقتياده إلى مقر رئاسة الوزراء لتلاوة بيان تأييد الثورة ومهاجمة الأسد. حصل تشكيك بأن تكون فصائل الجنوب قد عقدت تفاهماً معيناً مع الجلالي، برعاية بعض الدول الإقليمية.
وحدة سوريا المركزية
تتمسك هيئة تحرير الشام بمبدأ وحدة سوريا المركزية، وتعتبر أن فصائل الجنوب لديها توجهات أخرى، وتريد أن تفرض حضورها ووجودها في دمشق، وهذا ما أجهض مسألة استمرار الجلالي لقيادة المرحلة الانتقالية. تقرّ الهيئة ببعض التجاوزات التي حصلت في دمشق في اليوم الأول لسقوط الأسد، وتتهم فصائل الجنوب بارتكابها. على الإثر، اتخذ قرار في الهيئة لإعادة الإمساك بكل المفاصل السياسية، وإبقاء السلطة في يدها وهو ما حدا بمنح صلاحيات الحكومة إلى حكومة الإنقاذ في إدلب برئاسة محمد البشير لمدة ثلاثة أشهر، خلاله يتم العمل على تشكيل لجنة دستورية والتحضير للانتخابات. استمر التنافس بين الهيئة وفصائل الجنوب، لكن الشرع بقي مصراً على لملمة الأمر وعقد مصالحة، وبنتيجة اتصالات كثيرة أجرى زيارة إلى درعا وعقد لقاءً مع العودة، تمت المصالحة على أساس أن تبقى سوريا موحدة، وإعادة تشكيل الجيش وعدم ترك أي أسلحة خارج نطاق الدولة.
الانتخابات الرئاسية
يحرص على سوريا الموحدة، يركز حالياً على نقطتين، أولاً الإمساك بكل المعابر الحدودية والسيطرة عليها من قبله مركزياً، وثانياً التفرغ للملمة الوضع الداخلي مع كل الفصائل الأخرى وضبط الوضع، بالإضافة إلى توسيع مدى شرعيته لدى كل المكونات، ولذلك يعمل على إعطاء الضمانات والطمأنة لكل الأقليات وهناك خطوط مفتوحة معها. ما يقوله المؤيدون له والمتحمسون للنتائج التي حققها “أنه حرّر سوريا من النظام وعمل على توحيدها”، فهو أخذ الولاء بالحرب والولاء بالدم من مريديه ومؤيديه وحالياً يريد أن ينال الولاء في السياسة على أن يُترجم الأمر بخوضه الانتخابات الرئاسية مرشحاً ورئيساً.
يركز على منطقة دير الزور لمنع حصول أي انفصال عن الجغرافيا السورية من قبل الأكراد، وهو عرض على المجموعات الكردية المختلفة التفاوض، مع التمتع بقوة عسكرية كبيرة، تحرير دير الزور والدخول إليها والاحتفالات التي عمتها أعطت إشارة واضحة للمجموعات الكردية، وفتحت خطوط وقنوات التواصل للبحث في صيغة تلائم الطرفين، لتجنب الدخول في حرب دموية لا تنتهي ولا تكون في مصلحة أحد. يحضّر أيضاً لعقد مؤتمر حوار وطني شامل، أو مؤتمر سوري عام للبحث في التعديلات الدستورية المقترحة ولآليات وضع نظام سياسي جديد.
توحيد سوريا
في خضم انهماكه بتحسين الصورة وترتيب الوضع السياسي، خرج معارضون له ومن فصائل جهادية أخرى، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين في “سجون الجولاني” وذلك رداً على ما يقوم به من عمليات إطلاق سراح للمعتقلين من سجون الأسد. في هذا السياق يقر مسؤولون في الهيئة عن وجود معتقلين في إدلب، وسيتم العمل على إطلاق سراحهم، ولكن هناك معتقلون آخرون هم من قيادات “جبهة النصرة” والفصائل الجهادية الأخرى، الذين رفضوا أي تنازل أو تطور في خطابهم، وهم من المؤثرين والمفوهين، وهؤلاء في حال استمروا بالتأثير على المحيطين بهم، سيشكلون خطراً كبيراً على ما حققته هيئة تحرير الشام، وعلى الاستقرار، وعلى الأقليات أيضاً.
قبل الانتقال إلى معركة إسقاط النظام، و”توحيد سوريا” خاض الجولاني حروباً كثيرة داخل النصرة وخارجها. حاول توحيد القرار من خلال حصره في يده. أضعف كل الفصائل خصوصاً أصحاب التوجهات المتشددة والتي لا تطور في خطابها. ونجح في تقديم صورة جديدة عنه وعن الهيئة، التي هي اليوم تحت أنظار العالم.
المدن
——————–
إسرائيل تلعب بالنار وتحاوِل إجهاض أهداف الثورة السورية/ ناصر زيدان
الجمعة 2024/12/13
لا يمكن تبرير العدوان الوحشي الذي قامت به إسرائيل ضد المُنشآت السورية بعد نجاح الثورة في اسقاط حكم بشار الأسد، لاسيما استهدافها للبنى التحتية العلمية والعسكرية، ذلك أن القادة الجُدُد في دمشق لم يتحدثوا بكلمة واحدة عن موقفهم المستقبلي من إسرائيل، ولم يحصل أي استفزاز لقوات الاحتلال المنتشرة في هضبة الجولان وفي مرتفعات جبل الشيخ، برغم أنها أراضٍ سورية، وتخضع لأحكام معاهدة فضّ الاشتباك التي رعتها الأمم المتحدة وتمَّ التوقيع عليها في العام 1974. والمسؤولون في غرفة العمليات العسكرية لقوات المعارضة السورية – بما فيهم أحمد الشرع قائد هيئة تحرير الشام – أكدوا التزامهم بكل المعاهدات والاتفاقيات الخارجية المشروعة التي تمَّ التوقيع عليها أصولاً من قبل السلطات السابقة.
وإضافةً للغارات المُدمرة التي شنتها ضد المواقع الحيوية السورية؛ تحاول إسرائيل التشويش على حِراك قيادات المعارضة في سياق جهدهم لإعادة بناء الوحدة السورية المتصدِّعة، وهي ترسل إشارات خبيثة عن صلات مزعومة لها مع بعض المكونات السورية – لاسيما مع الأكراد ومع الموحدين الدروز – لذرّ الرماد بالعيون، ولتشجيع بعض المتضررين من الثورة لإحداث قلاقل داخلية تمنع استقرار الوضع في سوريا، وتنذر بقيام حراك انفصالي لهذه المكونات عن السلطات المركزية. بينما الموحدون الدروز كانوا أكثر المعارضين لنظام الأسد، ولم يغادروا ساحة الاعتراض عليه منذ ما يقارب السنتين، وهم يتمسكون بوحدة سوريا وعروبتها حتى الثمالة. أما الأكراد؛ فقد بادروا الى اتخاذ خطوات إيجابية متقدمة اتجاه قادة المعارضة، كان آخرها رفعهم لأعلام الثورة السورية على مقرات الإدارة الذاتية في المناطق التي يسيطرون عليها شمال وشرق البلاد.
في حسابات بعض القوى الدولية، كما في بعض التحليلات التي تُعبر عن رغبة أصحابها؛ كلامٌ كثير عن خطط لتقسيم سوريا، او لإحداث نزاعات مسلحة بين القوى المنتصرة، لكن الوقائع تُشير الى تمسُّك الغالبية المُطلقة من الفصائل والمكونات السورية، بالتضامن وبالتعاون من أجل إدارة المرحلة الانتقالية على أفضل ما يمكن، برغم التشوُّهات الكبيرة التي أحدثها النظام السابق في متن المؤسسات الحكومية الجامعة، لا سيما منها الجيش العربي السوري والقوى الأمنية، وهي كانت أقرب الى كونها مؤسسات تخدم العائلة وتخضع لأهواء خارجية، أكثر مما كانت تخدم الشعب. ولا يوجد بيئة شعبية حاضنة لمشاريع انفصالية في كل المحافظات السورية، بما في ذلك في مناطق الساحل، حيث تضخ الماكينات المعادية للثورة كم هائل من “الخبريات والدسائس” غالبيتها غير صحيحة، وهدفها إثارة النعرات المذهبية، وتعميم الأجواء السلبية، بما في ذلك – ربما – دفع مجموعات غير منضبطة للقيام باستفزازات ليست محمودة على كل حال، مهما كانت مبرراتها، وقادة المعارضة أعلنوا جهاراً أنهم لن يسمحوا بأي أعمال ثأر مهما كان نوعها، بينما الذين ارتكبوا الجرائم والموبقات بحق الشعب السوري سيقدمون للمحاكمة وفقاً للقانون.
واضح أن تغييرات هائلة حصلت في المنطقة من جراء سقوط النظام في سوريا، وقد تحمُل الأيام القادمة معالم رسم خرائط سياسية جديدة، تُحدِّد موازين القوى الإقليمية بدقة، ذلك أن الساحة السورية هامة بطبيعتها من جهة، ومن جهة ثانية فإن النظام السابق وظَّفها لمصلحة قوى إقليمية ودولية تكفلت بمساعدته عندما تعرَّض لسقوط مؤكد في العام 2014. وتأكد بعد انهيار المنظومة الأسدية وجود توافقات سرية نسجها النظام، ومنها تفاهم غير مُعلن مع إسرائيل، يقضي بتجاهل احتلالها للجولان وعدم القيام بأي أعمال حربية ضدها، مقابل مساعدتها له في توفير الغطاء الأميركي والدولي لإرتكاباته، ومنها على سبيل المثال إبعاد مسؤوليته عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. وقد تحدث المسؤولون الإسرائيليون بالعلن عن هذه التوافقات، عندما أشاروا الى خوفهم من غياب ” العقيدة الأسدية” بمناسبة عدوانهم على المواقع العسكرية وعلى الأراضي المجاورة للجولان المحتل.
وبالفعل؛ فقد أحدثت سوريا بنظامها السابق تأثيراً واضحاً على خارطة نفوذ القوى الدولية المؤثرة في المنطقة، لا سيما لناحية مساعدة طهران على الإنفلاش الواسع في “بلاد الشام” برمتها، وهو ما أدى الى تقويض دول مثل العراق ولبنان، إضافة الى سوريا ذاتها، وتحويلها الى ساحات فوضى، وأماكن مستباحة للمتفلتين من القانون وللهاربين من الحساب. ودور النظام ساعد في إستقدام القواعد العسكرية الأجنبية، في مناطق استراتيجية، بحجة محاربة داعش، بينما أكدت الوثائق المُسرَّبة من مقرات تابعة للنظام، بأن داعش كان صنيعة قوى نافذة في المنطقة، ومنهم النظام السوري، بهدف تشويه سمعة المعارضين السوريين، وإنتاج حجج مُقنعة لكسب مودة قوى دولية كي لا تُساعد المعارضة على التغلُّب على النظام.
قادة الثورة السورية يؤكدون أنهم سيعملون على تأسيس دولة مدنية تحفظ حقوق كل السوريين بالمشاركة السياسية وبالحياة الكريمة، وحتى الآن لم يتسنَّى لغالبيتهم حلق ذقونهم بسبب ضيق الوقت، او بسبب كثرة الانشغالات (كما يقول أحدهم) وقد بدأت ورشة صناعة دستور جديد يتماشى مع هذه الرؤية.
اما المُتضررون من نجاح الثورة – في الداخل وفي الخارج – فسيجهدون لتشويه سمعتها، ولن يتوانوا عن القيام بأي عمل يمكن أن يساعد على تقويض أهدافها.
المدن
—————————
سوريا التي نعرفها ولا نعرفها!/ أسعد غانم
13.12.2024
أيها العزير الصديق، مثلما زرتني في الجليل، فإنني أريد زيارتك في الشام، مثلما كنت عندي أريد أن أكون عندك، وتعرف أنني أعني على الأقل بجواز ذلك معنوياً إن لم يكن فعلياً، لكنني معكم بوجداني، بأمنياتي، بدعائي وبمساهمتي إذا امكن.
كنت أعرف سوريا عن بعد، كفلسطيني من 48، ومن خلال اهتمامي بالسياسة، وكأستاذ علوم سياسية في جامعة حيفا، لكنني بت أعرف سوريا عن قرب، وبشكل مباشر، من خلال معرفتي، منذ عقدين ونيف، بالصديق ماجد كيالي، كفلسطيني وككاتب، وكصاحب همّ سوري وفلسطيني في الوقت نفسه.
هكذا، تعرفت على سوريا الأخرى، التي لا نقرأها في الصحف أو نشاهدها في التلفزيونات، تعرفت على ألم السوريين (والفلسطينيين – السوريين) ومعاناتهم الناجمة عن نظام الاستبداد، الذي اعتبر أن سوريا هي سوريا “الأسد إلى الأبد”، كما تعرفت على الآلام الناجمة عن دعم من اعتقدناهم كديمقراطيين ووطنيين سوريين وعراقيين وفلسطينيين لنظام القتل والإذلال، الذي أذاق السوريين والفلسطينيين واللبنانيين الأمرّين، في حماة وحلب ودمشق ومخيم اليرموك وغيرها من الوطن السوري العظيم بأهله، والمهان والمظلوم بنظامه.
مع ذلك عرفت من خلال ماجد الذي ولد في سوريا لعائلة فلسطينية، وعاش وتعلم في مدارسها وجامعتها، كل سنين عمره، التي ناهزت الستين لحظة مغادرته لها، قبل أكثر من عشرة أعوام، عرفت منه أن ثمة مع الألم أملاً بخلاص السوريين.
كنت بين فترة وفترة، بخاصة خلال السنوات الماضية، أي سنوات النكبة التي حلت بالسوريين، مع آلام التشرد والقتل والاعتقال والخراب، أخاطب صديقي ماجد بشكل يومي تقريباً، مع مشاعر يتعانق فيها الألم والأمل، الخوف والحلم على المستقبل، في إمكان سوريا ديمقراطية ومدنية وإنسانية وتعيش وتتنفس الحرية والمساواة والمواطنية الديمقراطية والمتخلصة من هموم العنف السياسي والخلاف الأهلي والقمع المؤسس على قوة الظلم وجبروته. ومن نظام لا يكون رئيسه إبناً لرئيس سابق، و لا أباً لرئيس قادم، والتداول فيه هو أساس المُلك.
“شعب سجن 55 سنة لنأمل بأن يتعافى من سجن الكراهية والعنف والرعب والخوف من الآخر… لنأمل بأن يتعافى السوريون بجسدهم وعقلهم ومشاعرهم…”.
أيها الصديق، التحديات كبيرة وفائقة وقد يقال إنها عصية على التطويع، وتعرف أن هذا غير صحيح، لا توجد مشكلة صنعها البشر وما حولهم من قوى الطبيعة، لا يوجد لها حل، ولا نستطيع تطويعها إذا تضافرت الجهود، وإذا امتلكنا الإرادة الذاتية، الوطنية، التي تعطي بغير ضغينة ولا استثناء، في آخر النفق المعتم هنالك مخرج مضيء ويحملنا الى حيث يجب أن نكون.
أدرك أن التحديات كثيرة، وأهمها: أولاً، تراث النظام البائد في التنكر للمواطنة، في ملاحقة المواطنين، في الابتعاد من الديمقراطية، في تخريب مقدرات البلد الإنسانية والاقتصادية والعلمية، الخ. ثانياً، التدخل الخارجي المقيت والمتغلغل الى كل زوايا الوطن، قوات ومخابرات إيرانية ولبنانية وتركية وعراقية وأردنية وإسرائيلية وأميركية وروسية وأوروبية وصينية، الخ. كلها لها مصالح وتعمل حسبها. العلاقات التبادلية هي محك التغيير، استقلال القرار الوطني يمثل تحدياً كبيراً وربما يبدو مستحيلاً في الظرف الحالي. ثالثاً، تحدي الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري وتوسيعه قبل أيام، إنه تحدٍّ كبير ويتعاظم مع الحكومة الفاشية والمتطرفة في إسرائيل الآن.
فوق كل التحديات أعلاه وغيرها أو تحتها، ترقد ضرورة بناء نظام ومجتمع ديمقراطيين ومدنيين بعد سنوات طويلة من الخراب، الفصائل العسكرية التي قاتلت نظام الأسد كانت مهمة لإسقاطه، لكن تراجعها قليلاً عن مركز الحكم والتحكم هو مفتاح مهم لبناء ديمقراطي في سوريا.
كبح جماح الفصائل العسكرية من أكراد وديمقراطيين ووطنيين وإسلاميين ودروز وعلويين، وبشكل مدني ومن خلال خلق مزاج شعبي يدافع لأجل ذلك، هو مفتاح مهم للمستقبل الديمقراطي.
إننا أمام امتحان طريق الألف ميل، والذي لن نرى آخره، إلا أننا نستطيع أن نساهم في أوله، في الخطوات الأولى لأجله، وإذا كانت الخطوات الأولى صحيحة وسليمة فلا خوف على استمرارية الطريق وأهدافها. كل ذلك ولذلك، من المهم أن يساهم كل السوريين في هذه العملية، مهم ألا تترك الأمور لقيادات الجماعات والفصائل والأحزاب والقوى المسلحة أو لغيرها. دورك كمثقف، ودور الفنانين والصحافيين وأساتذة الجامعات وعشرات المهن والاختصاصات مهم جداً لإحداث التغيير، أو على الأقل للبدء في مسيرة الطريق الطويل.
لا تستعجل الخلاص السريع كما يطنطن البعض، كما يريد من يؤيد في سره عودة نظام القمع من خلال نشر اليأس أو مقولة “مش قلنالكم”، لأنه يحرض بأن التجربة فشلت، مثلما حصل في تونس وفي مصر وغيرهما. لا تقنطوا أيها السوريون، أيها الأصدقاء من إمكانات التغيير البطيء والمستمر نحو إنجاز مجتمع المساواة والديمقراطية. سوريا لكم وستبقى لأبنائكم، فلا تقبلوا بعودة الاستبداد وقوى الظلام والبؤس للتحكم فيها.
مع كل ما هو قائم وما كان، مع المعاناة والأحلام الفردية والعائلية، والتي تمس الأصدقاء، فإنني أدعوك بهذا، وكل من ينشط في الحيز العام الى العودة الى دمشق وحلب ودير الزور والى اللاذقية، ليس لك ولنا ولغيرنا غير أوطاننا التي نستطيع تغييرها، نستطيع المساهمة في تطورها، في أنسنتنا، في جعلنا مواطنين أحراراً، لعلها بوابة العودة الى اللد. هناك أو هنا بحسب موقع كل واحد منا، نستطيع أن نساهم في جعل أوطاننا أجمل، جعلها مكاناً لأبنائنا من بعدنا، لمن يريد ويتطلع الى العيش في حضن الوطن.
أيها العزير الصديق، مثلما زرتني في الجليل، فإنني أريد زيارتك في الشام، مثلما كنت عندي أريد أن أكون عندك، وتعرف أنني أعني على الأقل بجواز ذلك معنوياً إن لم يكن فعلياً، لكنني معكم بوجداني، بأمنياتي، بدعائي وبمساهمتي إذا امكن.
إسمح لي يا صديقي أن أقتبس خاطرة عفوية بعثتها لي صباح هذا اليوم، اليوم الثاني لإزاحة نظام القتل. وأتفق معها تماماً: “اليوم لنأمل أن تتعافى سوريا من أدران الأسد ومن القيح الذي ينز من مساماتها… شعب سجن 55 سنة لنأمل بأن يتعافى من سجن الكراهية والعنف والرعب والخوف من الآخر… لنأمل بأن يتعافى السوريون بجسدهم وعقلهم ومشاعرهم…”.
درج
———————–
من قصور آل الأسد وصيدنايا إلى غزة فالمكسيك… عن ضرورة استعادة الأنفاق/ فراس دالاتي
13.12.2024
الأنفاق في منطقة المشرق العربي لم تعد تقل أهمية عمّا يعلوها، وباتت حكايا الحياة الرديفة تحت الأرض هي المتن وما فوقها الهامش.
مشهدان وردا بالتزامن؛ أحدهما من اقتحام فصائل المعارضة السوريّة المسلَّحة قصور الأخوين الفارّ والمُتخفي بشار وماهر الأسد، والآخر من الأقبية المعروفة والمُكتشَفة حديثاً في مسلخ صيدنايا. وبينما عرض الأول مئات الأمتار من أنظمة الإضاءة والتهوئة الحديثة والمكاتب المحصَّنة وأحزمة دحرجة الصناديق الثقيلة والغرف العصيّة على الفتح، عرض الثاني سراديب الموت، حيث تسود الرطوبة والصدأ وتصبح الإنارة رفاهية ولا يعبق سوى الدم والموت.
يختلف المشهدان بكل شيء، هما جوهر التضاد ومرآة سوريا الأسد التي ظننا أننا نعرفها جيداً، لكنها لم تفشل بالإفصاح عن الكثير خلال الأيام الماضية. لكن العامل الذي جمعهما هو النفق، الممر الطويل تحت الأرض، والذي، بطريقةٍ ما، لم يوفر شرط الحياة لمن قُدّر لهم السير عبره.
والحال، أنَّ الأنفاق في منطقة المشرق العربي لم تعد تقل أهمية عمّا يعلوها، وباتت حكايا الحياة الرديفة تحت الأرض هي المتن وما فوقها الهامش. ففي منتصف الحرب الإسرائيلية على المنطقة، رفع حزب الله في لبنان شعار “جبالنا حصوننا” وقدَّم للعالم منشأة “عماد 4” التي أظهرت ما بدا أميالاً من الأنفاق التي تقطعها الساحات والمقار العسكرية. بينما ذهب المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي دانيال هاغاري في اليوم الأول من عملية الجيش الإسرائيلي البرية في جنوب لبنان، بالحكاية الى ما هو أبعد من ذلك، وقال إن القوات البرية عثرت على خرائط يعتزم حزب الله استخدامها لـ “احتلال إسرائيل”. واليوم بعد أشهر، لم تُحصّن تلك الأنفاق قيادات حزب الله الذين تساقطوا واحداً تلو الآخر وتحت “سابع أرض” – بشكلٍ حرفي – وبالطبع لم تنطلق منها أي عملية، من أي شكل، ضد إسرائيل.
وفي 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، خلال فترة تحديد المواقف في الأيام الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة، أخذ صحافي مكسيكي معروف بتغطيته قضايا تهريب المخدرات، على عاتقه إشراك العصابات في الصراع، رمزياً على الأقل، ومن بوابة الأنفاق. ففي ذلك اليوم، نشر سول برينديدو سلسلة من المقالات زعم فيها أن أعضاء كارتيل “سينالوا” ــ الذي قاده لعقود خواكين “إل تشابو” جوزمان الغني عن التعريف ــ عقدوا تحالفاً مع حركة حماس وتلقوا التدريبات على أيدي أعضائها لبناء شبكة أنفاق تهريب المخدرات التي تهدد أمن أميركا القومي.
لم تؤخذ الادعاءات التي نسبها إلى “أصدقاء في فلسطين” على محمل الجد على أية حال، كما أنَّ أنفاق التهريب المكسيكية موجودة منذ ما قبل تأسيس الحركة نفسها، وأنَّ الإدارات الأميركية تناوبت على نفي ادعاءاتٍ من هذا الشكل كثُرت في أيام سطوة التنظيمات الجهادية كالقاعدة وداعش. فيما تبيَّن على الهامش الآخر، أنَّ شبكة “ميترو غزة” التي لطالما جعل الاحتلال منها بعبعاً، كانت أقل بكثير من الـ 500 كيلومتر التي تبجّح بها اسماعيل هنية عام 2016.
إذاً، نحن أمام ظاهرة نُسجت حولها الحكايا والأوهام، أُريد منها الردع والنجاة والتحذير، إلا أن الموت وحده هو من أتى منها. لذا، فإن فهمنا الجماعي لهذه الأنفاق، كما هو الحال مع معظم الظواهر العابرة للحدود الوطنية الحقيقية التي تنطوي على اقتصادات غير رسمية، مشوَّه، بسبب الروايات السائدة حول الدول الأمنية والإتجار غير المشروع والإرهاب، وتوسطها التغطية الصحافية التي تستند بدورها إما إلى الشائعة التي “تبيع” المشاهدات – كما شهدنا مع تسمّر كبريات وسائل الإعلام أمام سجن صيدنايا بحثاً عن المزيد من الأنفاق والمسالخ غير الموجودة أساساً تحت الأرض، بينما كان الجولاني ورجاله يختطفون الدولة وإسرائيل تدمر ما بقي منها – أو إلى معلومات رسمية، تأتي في كثير من الأحيان مباشرة من المؤسسات العسكرية التي تقدم نفسها الرواية المرجوّة من تلك الظواهر ذاتها.
تحتل الأنفاق مكانة خاصة في الخيال عندما نبحث عن المستحيل. فبعيداً من أي صلة بالديكتاتوريات أو إدارة العمليات العسكرية أو نقل السلاح أو تهريب المخدرات والبشر، كانت تُرى كممر ضروري للتنوير واكتشاف الذات والحرية. في رواية ألكسندر دوماس التي تعود إلى القرن التاسع عشر بعنوان “كونت دي مونت كريستو”، يحاول إدموند دانتيس والأب فاريا حفر طريقهما للخروج من السجن الظالم الذي فرضته عليهم حكومة استبدادية تجرّم الفقراء والمعارضين السياسيين. حفر نفق هو عمل من أعمال المقاومة وفرصة للتعليم، إذ ينقل فاريا المتعلم الحكمة إلى دانتيس بينما يشقّان الأرض الصلبة.
آندي دوفرين أيضاً، استلزم عليه أن يحفر لنفسه طريقاً للخروج من السجن في فيلم “الخلاص من شاوشانك” (1994)، والذي يعتبر إعادة سرد لرواية دوماس الكلاسيكية. فبعد إدانته ظلماً بقتل زوجته، يفر آندي من نظام عقابي حوّله مدير السجن إلى أداة للنصب والاحتيال لتحقيق مكاسبه الشخصية، بينما يدّعي تمسّكه بالمسيحية. ومثله كمثل دانتيس، يحفر آندي النفق بصبر دام سنوات، فيتصالح مع أخطائه وتجاوزاته الماضية بينما يحسن الظروف المعيشية الهشة لزملائه السجناء. وفي النهاية، تؤدي حريته إلى انهيار البنية الإجرامية للسجن. وبعد أن ينكشف أمام وسائل الإعلام، ينتحر مدير السجن، وتتحقق العدالة بفضل هروب آندي ونفَقه.
كما يشكل النفق الملاذ الأخير للبقاء على قيد الحياة ضد عنف الدولة في رواية “البؤساء” (1862) لفيكتور هوغو، عندما يحمل السجين السابق جان فالجان صهره الجريح عبر نظام الصرف الصحي الباريسي بعدما قضى الجنود على انتفاضة طلابية انضم إليها ذاك الشاب المثالي. وحتى ما وراء النجوم، سمح نفق طبيعي لقادة المتمردين الأبطال بالهروب من موت محقَّق في أحد أجزاء سلسلة حرب النجوم “الجيداي الأخير” (2017)، وعندما كان الكون على وشك التدمير بفعل طرقعة أصابع ثانوس في “المنتقمون: نهاية اللعبة” (2018)، وجد الأبطال سبيل إنقاذ الكون في “نفقٍ” كموميّ.
يخبرني أحد الأصدقاء بتهكّم بعد ورود المشاهد المروّعة من السجون الأسدية، إنه بات واضحاً الآن سبب تعثر مشروع “مترو دمشق” الذي بدأ النظام المخلوع الترويج له منذ عام 2006 على الأقل. إذاً، هناك حاجة ملحّة الى استعادة مفهوم النفق من تصوير وسائل الإعلام والترفيه، ومصادرته كذلك من الخطاب الرسمي، لفصله عن السرديات الأمنية الشاملة. نحن بحاجة إلى السير عبر الأنفاق مرة أخرى كمسارات للعصيان والتنوير والحرية. كيف سيكون الأمر إذا تركنا وراءنا النماذج المتهالكة للمرويّات الشعبية والشعبوية وتصريحات الساسة ووسائل الإعلام السائدة، وقرأنا بدلاً من ذلك من الأنفاق نفسها، وليس عنها؟.
درج
————————–
الجريمة المنظمة في سوريا: إرث الأسد الذي يجب هدمه/ هاني عضاضة
13.12.2024
يبدو أن طبيعة العلاقة بين نظام بشار الأسد والأنشطة الإجرامية التي تشكل شريان حياته المالي، متشابكة ومتكاملة، بل حتى عضوية. وتتجاوز هذه العلاقة مجرد تبادل المصالح مع عصابات قائمة بذاتها من أجل البقاء، فهي تكشف عن تكامل متوطن في نسيج وجود النظام ذاته.
بعد أيام على انهيار نظام الأسد في سوريا، والذي نأمل بأن يكون بداية النهاية الحقيقية لفصول الحرب التي مزّقت البلاد، بدأت تتكشف تدريجياً حقائقٌ طُمِست لعقود، وإن كان أبشعها على الإطلاق ما حصل في الأعوام الثلاثة عشر الأخيرة، وبالتحديد منذ آذار/ مارس 2011 حتى 30 آب/ أغسطس 2024 بحسب بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، إذ قُتل على يد قوات النظام 201290 مدنياً سورياً، قضى منهم 15102 تحت التعذيب، واعتُقل وأخُفي 136614 آخرين قسرياً. وقد بلغت حصيلة القتلى من الأطفال على يد قوات النظام 23045 طفلاً.
لكن، إلى جانب هذه الأرقام المروّعة، بدأت تبرز الى العلن، مع تكشف التطورات الأخيرة، مؤشرات عدة حول وجود شبكاتٍ معقدةٍ من المصالح والأنشطة غير المشروعة، وبخاصة الجريمة المنظمة، والإتجار بالمخدرات، وتجارة الأعضاء البشرية – بعضها موثّق، وبعضها لا يزال قيد الكشف والتحقيق. وعلى الرغم من أن الصورة الكاملة لم تظهر بعد، إلا أنه أصبح بالإمكان أن نزعم أن نظام الأسد الإبن هو عبارة عن كارتيل ضخم راسخ في الجريمة المنظمة.
المخدرات والكبتاغون: أدلة قاطعة
يبدو أن طبيعة العلاقة بين نظام بشار الأسد والأنشطة الإجرامية التي تشكل شريان حياته المالي، متشابكة ومتكاملة، بل حتى عضوية. وتتجاوز هذه العلاقة مجرد تبادل المصالح مع عصابات قائمة بذاتها من أجل البقاء، فهي تكشف عن تكامل متوطن في نسيج وجود النظام ذاته. وتشير عشرات مقاطع الفيديو التي بدأت تظهر تباعاً بعد سقوط النظام، إلى وجود معامل لتصنيع المخدرات على أنواعها، ومستودعات لتخزينها، في منازل وسيارات وأملاك خاصة لأقرباء الأسد، و“رجال الأعمال” المحيطين به، بل حتى في مقرات ومرافق أمنية كمطار المزة العسكري، ومقرات الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد.
هذه البنية التحتية المعقدة لإنتاج وتخزين المخدرات وتصديرها، خصوصاً حبوب الكبتاغون الشهيرة، لا يمكن أن تكون فقط نتاج فترة العقوبات والعزلة الدولية. كما أن حجم العمليات والأنشطة الإجرامية يتجاوز مجرد التحايل والالتفاف على العقوبات، فيما يستفيد بشار وماهر الأسد ودائرتهما الداخلية من الأقارب و”رجال الأعمال” بشكل مباشر من تحقيق أرباح ضخمة لا تعود إلى خزينة الدولة السورية، بل تُستَثمر في توسيع البنية التحتية للجريمة المنظمة، من تجهيزات ومعامل تصنيع ووسائل نقل وأنفاق تحت المنازل، كالنفق الضخم الذي اكتُشِف تحت منزل ماهر الأسد، إلى توسيع شبكة علاقات التصدير، والتي تسبب نشاطها بقيود كثيرة على استيراد المنتجات الزراعية والصناعية من لبنان منذ سنوات قليلة فقط.
راكم الأسد وحاشيته “الأرباح”، على رغم أن البنية التحتية لهذه الأنشطة الإجرامية أنشئت بأموال الشعب السوري الذي يعاني من الحرمان الاقتصادي الشديد.
تجارة الأعضاء البشرية: أدلّة متزايدة
هناك أدلة متزايدة حول استغلال الشبكات الإجرامية الأسدية الثغرات في قانون تنظيم عمليات نقل الأعضاء وزرعها، القانون رقم 30 للعام 2003، لتحقيق مكاسب مالية إضافية عبر المتاجرة بالأعضاء. وقد كان الحصول على أدلة ملموسة للمزاعم حول تجارة الأعضاء الممنهجة في سوريا أمراً صعباً للغاية بسبب القبضة الأمنية الشديدة. لكن بعد سقوط النظام واقتحام الأهالي السجون والمستشفيات، بدأت بالظهور فيديوهات تدل على وجود عمليات ممنهجة لتجارة الأعضاء، كان ضحاياها الأسرى المعدمين أو المقتولين تحت التعذيب أو في ظروف السجن القاتلة، حيث خضعت جثث لاستئصال الأعضاء الداخلية والعيون.
أشار شاهد يُدعى محمد يونس الحمود، وهو معتقلٌ سابق في سجن صيدنايا، في حديثٍ لموقع “عربي 21”، إلى أن قوات النظام السوري اعتقلته “أثناء ذهابه لاستلام مرتبه الشهري كونه موظفاً سابقاً في بريد محافظة إدلب”، بتاريخ 10 كانون الثاني/ يناير 2017. وأوضح أنه أُطلق سراحه بتاريخ 17 تموز/ يوليو 2017 بعد إجباره على التبرع بإحدى كليتيه “فداءً للوطن وإثباتًا لحسن النية”.
يقول الحمود: “هناك العشرات من المعتقلين تم استئصال كُلاهم، وقد تبين في ما بعد أن عمليات بيع الكلى والأعضاء البشرية باتت تجارة رابحة بين ضباط النظام في الفروع الأمنية والمعتقلات، حيث يتمّ بيع كل أعضاء السجين إن أرادوا ذلك، ومن يوشك على الموت تُجرى له عمليات جراحية عدة لانتزاع ما يمكن انتزاعه قبل أن تتم تصفيته بحقنة وريدية داخل المستشفى ثم ينقل إلى المحرقة أو مزابل نجها”.
يفيد تقرير لـ “آرام ميديا” بتاريخ 24 أيلول/ سبتمبر 2020، بازدهار تجارة الأعضاء في مناطق سيطرة النظام “تحت غطاء التبرع”، ومسؤولية كل من حافظ منذر الأسد، وأيمن جابر، وتاجر يلقب بـ “محمد بوز العسل”، في إدارة هذه العملية وبيع الأعضاء في أوروبا عن طريق اليونان. ومن المرجح أن يكون عشرات الآلاف من المخفيين قسرياً ضحايا لهذه التجارة في سجون الأسد ومستشفياته.
تجارة الاعتقالات التعسّفية وابتزاز الأهالي
مارس نظام الأسد الاعتقالات التعسفية على نطاق واسع بحق المدنيين السوريين، حتى صار كل سوري يخشى المرور على حواجز الجيش، بخاصة السوريين من المناطق الخاضعة شكلياً لسيطرة النظام، أو التي أبرمت اتفاقيات مصالحة لوقف القتال، مثل درعا والغوطة الشرقية والقلمون الشرقي وعدد من أحياء حلب وحمص وريف حمص الشمالي وبعض مناطق ريف إدلب وريف دمشق. لكن النظام يُعتبر نموذجاً صارخاً للاعتقالات التعسفية تاريخياً، قبل الثورة بكثير، بل منذ فترة حكم حافظ الأسد، وقد اختبر اللبنانيون هذا النوع من الاعتقالات مراراً وتكراراً، بخاصة خلال الحرب الأهلية اللبنانية والسنوات الخمس عشرة التي تلتها قبل خروج القوات السورية من لبنان.
كشف تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان بتاريخ 3 تموز/ يوليو 2024، أن النظام السوري مسؤول عن 88 في المئة من إجمالي حصيلة الاعتقالات التعسفية المسجلة في النصف الأول من عام 2024، فيما تشارك كلّ من قوات سوريا الديمقراطية وهيئة تحرير الشام وقوات الجيش الوطني السوري في مسؤولية 12 في المئة المتبقية.
هذه الممارسات ليست مجرد انتهاكات لحقوق الإنسان، بل هي أيضاً أدوات تُستخدم لصناعة الأرباح المالية من خلال نظام السجون، إذ إن معظم ضحايا هذه العملية اعتُقلوا من دون مبرر أو محاكمة عادلة.
يثير تقرير حديث لقناة “الجزيرة” بتاريخ 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024 هذه المسألة، وتُذكَر فيه أسماء متورطة بهذه التجارة كزوجة اللواء الركن الراحل جامع جامع، ومدير إدارة المخابرات العامة علي مملوك.
تتضمن هذه العملية الانتقال المتكرر للسجناء بين سجون متعددة، غالباً في أوقات متقاربة ومن دون أي إشعار. تُساهم هذه العملية في تعزيز أرباح ضباط النظام ومديري السجون، من خلال استغلال الوضع المأساوي للمعتقلين، والوضع النفسي المتدهور لأهاليهم، ومن دون خسارة “الرهائن” التي تدرّ عليهم الأرباح باستمرار. كما أن الإلقاء بهم في سجون تفتقر إلى أدنى مقومات الإنسانية، وتضج بالتعذيب الجسدي والنفسي، هي وسيلة اتبعها ضباط النظام لإجبار عائلات المعتقلين على دفع مبالغ مالية مضاعفة.
إمبراطورية الجريمة المنظمة في الشرق الأوسط
بينما تتكشف الحقائق حول شبكات الجريمة المنظمة في سوريا بعد انهيار نظام الأسد، فإنها ليست سوى جزء من صورة أكثر اتساعاً تعكس الانتهاكات الجسيمة. بالإمكان وصف هذا النظام بـ “إمبراطورية الجريمة المنظمة في الشرق الأوسط”، فهو عبارة عن شبكة إجرامية واسعة ومعقدة، تتخذ من الحكم السياسي غطاءً للأنشطة غير القانونية، وفي الوقت نفسه تشكل الأجهزة الأمنية والقضائية إحدى أدواتها المتعددة.
تحت ستار “الشرعية” انتشرت الجريمة المنظمة، ومن أموال الشعب السوري المفقر موِّلت العمليات الإجرامية بحقه. وبالإضافة إلى تجارة المخدرات والإتجار بالأعضاء البشرية، تبرز قضايا خطيرة أخرى، مثل تجارة السلاح وشبكات الدعارة المنظمة التي انتشرت بكثافة في مناطق سيطرة النظام، كما أشارت تقارير متعددة صادرة عن المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ عام 2016.
تتطلب هذه الصورة القاتمة التي خلّفها نظام الأسد، من السوريين جميعاً وقفة حازمة، وملاحقة المسؤولين عن شبكات الجريمة المنظمة المرتبطة به، بغض النظر عن مواقعهم، ومحاكمتهم بشكل عادل. فلا يمكن إنصاف الشعب السوري بمجرد إسقاط نظام الأسد، من دون هدم ما بناه هذا النظام من شبكات إجرامية. كما لا يمكن إعادة بناء ما هدمه هذا النظام على مستوى الاقتصاد والقانون والسياسة من دون التخلص من الإرث الإجرامي الثقيل.
درج
————————
تل أبيب ــ دمشق… سقوط الضمانات/ مصطفى فحص
13 ديسمبر 2024 م
منذ اللحظة الأولى لدخول قوات المعارضة السورية المسلحة العاصمة السورية دمشق وإسقاطها نظام بشار الأسد، صعّدت تل أبيب عمليتها العسكرية ضد الدولة السورية برّاً وجوّاً وبحراً كأنها تشن حرباً شاملة عليها، الأمر الذي يثير ريبة سياسية واستراتيجية في الأسباب التي دفعت تل أبيب إلى هذا التصعيد الخطير والتلويح بالاقتراب برّاً من العاصمة دمشق.
المتغير الميداني السريع من قبل الإسرائيلي لا يمكن فصله عما يمكن تسميته سقوط الضمانات التي هندست العلاقة ما بين تل أبيب ونظام الأسدين منذ اتفاقية فك الاشتباك بينهما سنة 1974 بإشراف وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر، وبعض بنودها السرية والتفاهمات الجانبية التي ظهرت في وثائق إسرائيلية وأميركية تم كشفها إلى العلن بعد مرور 50 سنة على الاتفاقية بين الجانبين، إضافة إلى وثائق كشفها نائب رئيس الجمهورية الأسبق عبد الحليم خدام بعد انشقاقه عن النظام.
الواضح من هذه الوثائق أن نظام دمشق التزم ضمنياً للطرفين الأميركي والإسرائيلي بعدم التفكير حتى بالعودة إلى القتال، وهذا واضح من خلال تفاصيل عسكرية حساسة حول حجم القوات السورية المنتشرة ونوعية سلاحها، ليس فقط على طول خط الاشتباك وإنما حتى وراء المنطقة العازلة. في المقابل، كان هناك تعهّد أميركي – إسرائيلي باستقرار النظام ولعب دور إقليمي بعيداً عن الجولان، وهذا فعلاً ما أدى إلى تغير في طبيعة الجيش السوري وإلى استقرار كامل على هذه الجبهة حتى آخر لحظة من عمر النظام السوري.
معادلة هدوء الجولان مقابل استقرار النظام كانت الالتزام الاستراتيجي الأوحد للأسدين حتى في ذروة النفوذ الإيراني وحرب الإسناد التي أُعفيت جبهة سوريا منها. فقد لعبت هذه المعادلة دوراً شبه حاسم في حماية النظام وبقائه، على الرغم من كل الأحداث التي تعرض لها، من حماة إلى إضراب دمشق إلى توريث الجمهورية، مروراً باغتيال رفيق الحريري وصولاً إلى ثورة الشعب السوري باستخدام الكيماوي وتخطي خطوط باراك أوباما الحمر. كما كانت عاملاً أساسياً لدوره في لبنان منذ سنة 1976، حيث دخل إلى لبنان بمهمتين: الأولى أميركية لضرب الحركة الوطنية، والثانية إسرائيلية لضرب المقاومة الفلسطينية، وجعل لبنان ورقة تفاوضية تحت ذريعة وحدة المسار والمصير التي تفككت بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني سنة 2000.
إذن بالنسبة إلى تل أبيب، التي اضطرت نوعاً ما إلى رفع التزاماتها في حماية نظام الأسدين نتيجة عوامل إقليمية ودولية فرضت نفسها على المنطقة، اندفعت بالمقابل إلى فرض ما تعده ضمانات لها كان نظام الأسد يؤمنها. لذلك، هي مستمرة في تدمير جميع البنية العسكرية للجيش السوري وإنهاء قدراته لدرجة توازي عسكرياً القرار الأميركي بحل الجيش العراقي، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم قدرة السلطة الجديدة في دمشق على فرض الاستقرار، وقد يؤدي إلى فوضى مناطقية وعنف، وحتى إلى التقسيم، وهذا ما تريده تل أبيب.
استراتيجياً، فإن عملية التدمير الممنهج للقدرات العسكرية الثقيلة لدى الجيش السوري، التي لم تمسها تل أبيب قبل 8 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، حيث كانت جميع ضرباتها ضد منشآت تابعة لإيران وميليشياتها، عملية عسكرية استباقية لمنع إعادة تكوين قدرات عسكرية سورية قادرة يوماً ما على مواجهة تل أبيب داخل الأراضي السورية المحتلة، التي تتوسع أكثر الآن ضمن مخطط ضم خطير. وهي مبنية على عدم ثقة استراتيجية طويلة الأمد بأي نظام أغلبي في دمشق له روابط عميقة مع الشعب الفلسطيني وقضيته.
الشرق الأوسط
—————-
كيف عبر الساروت عن قصة سوريا؟/ هادي عبد الجواد
12/12/2024
عبدالباسط ممدوح الساروت هو ذلك الشاب البسيط، الذي ارتبط في أذهان السوريين وأحرار العالم بالشجاعة وأحلام الحرية أمام الظلم والاستبداد، فتى انتقل من ملاعب الكرة إلى شوارع المظاهرات، إلى ميادين القتال.
الآن ونحن نتذكره في يوم ميلاده، تحقق ما خرج للتظاهر من أجله في 2011، ولكن بعد وفاته، الآن وقد سقط النظام السوري وسيتنفس السوريون أنفاس الحرية ويعانقون الحلم الذي ناضلوا من أجله أكثر من ثلاثة عشر عامًا، نتأمل في تحولات الساروت التي كانت خيرَ مثالٍ وخير معبّر عن الشباب السوري، منذ بداية عهد حافظ الأسد، دخولًا بعهد خلفه بشار، ثم تحولات الثورة السورية وقت سلميتها، ثم الاتجاه للنضال المسلح ثم استشهاده.
قبل أن ندخل في قصة عبدالباسط الساروت، سنرجع قليلًا إلى الوراء في تاريخ حقبة حزب البعث، وبالتحديد وقت أن سيطر حزب البعث على مقاليد الحكم في سوريا في ستينيات القرن الماضي.. حيث بدأت سيطرة حزب البعث بالاعتقالات وحظر الحركات السياسية المنافسة له، إذ كانت أبرزها جماعة الإخوان المسلمين، لتندلع وقتها احتجاجات وتمردات، مرات كانت تلك الاحتجاجات سلمية ومرات كانت عسكرية، وفي كل المرات كان النظام يقضي على تلك الاحتجاجات بمجازر، كان آخرها اجتياح مدينة حماة وقصفها عام 1982م. كانت تلك بداية حقبة حزب البعث، اعتقالات وحظر أحزاب ومجازر، سواء ما قبل انقلاب حافظ الأسد عام 1970 أو بعده.
وُلد عبدالباسط الساروت في يناير/ كانون الثاني من العام 1992 في حي البياضة بمدينة حمص، تلك الفترة التي نشأ فيها عبدالباسط في تسعينيات القرن الماضي – آخر عقود أعوام حافظ الأسد- كانت سوريا عبارة عن ثكنة عسكرية، تُدار بستة أجهزة أمنية تتجسس على الشعب وتتجسس على بعضها، وكانت تلك الأجهزة تتحكم بشكل كامل بكل سوريا، لا يتحرك سوريٌّ داخل سوريا أو خارجها دون علمٍ من تلك الأجهزة، وكل ذلك كان تحت إدارة حافظ الأسد، الذي كان يضع رجاله في كل تلك الأجهزة ليكون مسيطرًا بأذرعه على كامل التراب السوري.
في يوليو/ تموز من العام 2016، أصدر مركز “عمران” للدراسات الإستراتيجية دراسة بعنوان “الأجهزة الأمنية السورية وضرورات التغيير البنيوي والوظيفي”.. تقول الدراسة إن حافظ الأسد اعتمد في سبيل بسط سيطرته على الأجهزة الأمنية أسلوبي توليد العداء والتنافس بين الأجهزة والقائمين عليها، إذ جعل مؤشر الأداء الجيد وفق معيارَي الولاء والطاعة المطلقة، إذ أصبح للفرد في تلك المؤسسات الأمنية مصلحة خاصة، فيطلق الموظف الأمني يده في كل مفاصل الدولة، ويصبح لكل فرد مصدر ثراء فاحش، وله ملفات فساد وتجاوزات، ويسهل وقتها التخلص من أولئك الأفراد الفاسدين حين يزيد طموحهم، وفي الوقت نفسه لا تترك إقالته أثرًا على المنظومة الأمنية.
تلك الظروف التي نشأ فيها الساروت، كانت تجعل الشباب يتجهون لتفريغ طاقاتهم في أمور أكثر أمنًا وأمانًا، فدائمًا ما تأمر الأسر أبناءها بالابتعاد عما يثير قلق تلك الأجهزة الأمنية، فاتجه عبدالباسط الساروت لكرة القدم في سن مبكرة، وبرز شغفه بكرة القدم، اللعبة التي كانت أكثر من مجرد رياضة بالنسبة له، والتحق الساروت بفريق شباب نادي الكرامة، أحد الأندية العريقة في سوريا، حيث لعب كحارس مرمى.
كان أداؤه المتميز بين العارضتين سببًا في انضمامه إلى المنتخب السوري للشباب، حيث لمع اسمه كأحد أفضل حراس المرمى الواعدين، وكانت أبسط طموحاته أن يصبح حارسًا لامعًا في المنتخبات الوطنية، وربما يلعب في أحد الأندية العالمية، إذ كان وقتها هو حارس المرمى الأول للمنتخب السوري للشباب، وكان قريبًا من حراسة المنتخب الأول، ذلك الحلم يعكس طموحه الكبير، وإصراره على تطوير نفسه رغم التحديات.
في العام 2010 وبداية العام 2011 اندلعت احتجاجات سلمية في تونس، ثم مصر، ثم اليمن، ثم ليبيا، ثم سوريا، فيما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، تغيرت أحلام الشباب في كل البلاد العربية، إذ وجدوا أنه من الممكن أن تسقط الأنظمة وترحل رؤوسها، كما هرب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وكما تنحى الرئيس المصري محمد حسني مبارك، وتحولت الأحلام إلى تمنيات بمعانقة أنفاس الحرية واستنشاق هواء العزة والتنعم بأجواء العدل، وهكذا كان الساروت مثل كل الشباب العربي، فنزل إلى الشوارع رفقة الناس الذين خرجوا في مدينته حمص، وكان يقود الاحتجاجات رغم صغر سنه، واشتهر وقتها بالأغاني والأهازيج ليلقب ببلبل الثورة السورية.
في بداية الشهر الثاني للثورة السورية، وبالتحديد في أبريل/ نيسان، خرج المجند وليد القشعمي (كان في الحرس الجمهوري آنذاك) ليعلن عبر مقطع فيديو هو وآخرون انشقاقهم عن النظام السوري، والسبب أن الضباط الأعلى منهم رتبة كانوا يأمرونهم بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، لكنهم رفضوا وتركوا أسلحتهم واحتموا بالمظاهرة ثم هربوا، وبهذه الطريقة توالت الانشقاقات عن الجيش النظامي ليتم تأسيس الجيش السوري الحر، ليجمع الثوار والضباط المنشقين.
وكما شارك الساروت في سلمية الثورة، شارك في نضال الثورة المسلح، حيث كان أول من أسس كتيبة “شهداء البياضة” للدفاع عن حيه الذي نشأ فيه، وشارك بالقتال والدفاع عن المدينة بنفسه، وشارك في المعارك التي كانت ضد قوات النظام عند حصار النظام مدينة حمص لمدة أكثر من عام، وأصيب أكثر من مرة، وتم استهداف منزله، واستشهد كثير من أقاربه.
بعد عسكرة الثورة السورية كان النظام يشيطن معارضيه، بحجة أنهم فصائل جهادية إرهابية تقاتل الطوائف الأخرى، وفي وقت حصار مدينة حمص عام 2014 وانسحاب المعارضة منها، كان التنظيم الذي يسمي نفسه “الدولة الإسلامية في العراق والشام” يسيطر على مناطق عريضة في سوريا والعراق، في حين كانت التنظيمات الثورية المسلحة تعاني من الضعف الشديد، إذ كانت بنية الجيش السوري الحر من ثوار تسلحوا لحماية مدينتهم، وضباط منشقين يقاتلون دون رواتب.
حينها أُشيعت أخبار أن عبدالباسط الساروت قد بايع تنظيم الدولة الإسلامية؛ بحجة أن الجميع خذل الثورة السورية، لكن بعدها بثمانية أشهر ظهر عبدالباسط الساروت في مقطع فيديو لينفي انضمامه لتنظيم الدولة الإسلامية.
لم تكن اختلافات فصائل الثورة المسلحة مع تنظيم الدولة الإسلامية فقط، بل كانت الاختلافات مع تنظيم عرف باسم “جبهة النصرة”، هاجم كتيبته وطردها في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2015، ثم أصدر أمرًا باعتقاله بحجة انضمامه إلى تنظيم الدولة ومحاربة الثوار، ليذهب ويسلم نفسه بعدها بعامين، حيث ظل مسجونًا في سجون هيئة تحرير الشام أكثر من أسبوع، لتتم تبرئته بعدها من تهمة الانضمام لتنظيم الدولة من قبل إحدى المحاكم التابعة لهيئة تحرير الشام بإدلب.
بعد خروجه من سجون هيئة تحرير الشام عاد إلى المعارك مرة أخرى، حيث أصيب في إحدى معارك حماة مع النظام في يونيو/ حزيران من العام 2019، ونقلوه إلى مستشفى في تركيا، لكن توفي في صباح الثامن من يونيو/ حزيران عام 2019، ونُقل جثمانه إلى إدلب حيث دفن هناك.
لم يكن الساروت مجرد اسم في صفحات التاريخ، بل كانت مسيرته تحكي تاريخ نضال الشعب السوري ضد حقبة حزب البعث التي انتهت قبل ذكرى ميلاده بأقل من شهر.
شبكة الجزيرة.
————————–
وسقط طاغية الشام/ عبد المعين الطلفاح
12/12/2024
يعتبر القرن الرابع الهجري قرن انتشار نفوذ الباطنيين وتمكنهم في عدد من البلاد الإسلامية، لا سيما بغداد مركز الخلافة العباسية، فقد حكم خلاله القرامطةُ هجر (الأحساء والبحرين) وما حولها، منذ عام 286 هـ وحتى إسقاطهم على يد العباسيين عام 375 هـ، وحكم البويهيون بغداد وفارس وما حولها منذ عام 334 هـ وحتى إسقاطهم على يد السلاجقة عام 447 هـ، وحكم العبيديون بلاد المغرب الإسلامي ومصر منذ عام 298 هـ وحتى إسقاطهم على يد صلاح الدين الأيوبي عام 567 هـ.
الباطنية: مصطلح أطلق في التاريخ الإسلامي على عدة فرق تزعم أن للنصوص الدينية باطنًا وظاهرًا، وأن المراد منها هو الباطن الذي لا يفهمه إلا القلة المختارة من الناس، تقليدًا لما عليه المجوسية وبعض الديانات الشرقية الأخرى، وكان من أبرز تلك الفرق عبر التاريخ الإسلامي الإسماعيلية، والقرامطة، والعبيديون، والنزارية، والنصيرية، وغيرهما.
وقد عاث هؤلاء الباطنيون فسادًا وقتلًا في بلاد المسلمين في الجزيرة العربية، وفي الشام، والعراق، ومصر، وفارس وغيرها من البلاد، وكان من أعظم فسادهم أن أوقع القرامطة بحجاج بيت الله الحرام مذبحة كبيرة عام 317 هـ، وانتزعوا الحجر الأسود من الكعبة، وأخذوه إلى بلادهم هجر، وظل عندهم قرابة 22 عامًا، وبعد مفاوضات قامت بينهم وبين الخليفة العباسي لإعادته؛ وضعوه في الكوفة فأعاده المسلمون إلى مكانه في الكعبة عام 339 هـ.
ثم أقدم أحد الباطنية من العبيديين في موسم حج عام 413 هـ على ضرب الحجر الأسود بمطرقة محاولًا انتزاعه، فكسر منه جانبًا، وكان من ورائه حامية من الجند العبيديين يريدون أخذه معهم إلى مصر، ولكن الحجاج حالوا دون ذلك وقتلوه، وبددوا الحامية العبيدية.
هذا بالإضافة إلى اغتيال هؤلاء الباطنيين لكثير من القادة والعلماء، وارتكاب المجازر الكثيرة بحق المسلمين، لا سيما القادمين للحج من طريق العراق، ونشر البدع والخرافات في بلاد المسلمين، في العراق ومصر وغيرهما، ولكن إجرامهم ذاك وظلمهم لا يقارن بإجرام النظام الذي حكم سوريا 54 عامًا أو يزيد.
يعتبر نظام الأسد، الذي حكم سوريا بشكل رسمي منذ عام 1970 وحتى عام 2024 امتدادًا عقائديًّا لهؤلاء الباطنيين، حكم خلال ذلك الأب حافظ الأسد مدة 30 عامًا، ثم ابنه بشار مدة 24 عامًا.
قام نظام الأسد على العقيدة نفسها التي تعامل بها الباطنيون قديمًا مع المسلمين، ولكن هذا النظام الباطني رغم قصر مدة حكمه مقارنة بالدويلات الباطنية قديمًا، قد أذاق المسلمين في سوريا ولبنان على امتداد 54 عامًا شتى أنواع الظلم والقتل، وعاث في سوريا خرابًا وفسادًا، وطال ظلمه الحجر والبشر.
فقد سلَّم حافظ الأسد الجولان السوري لإسرائيل عام 1967 عندما كان وزيرًا للدفاع، ثم بعد توليه الحكم ارتكب أبشع المجازر بحق السوريين والفلسطينيين في كلٍّ من سوريا ولبنان، وكان من أعظم تلك المجازر مذبحة حماة عام 1982، التي راح ضحيتها أكثر من 40 ألفًا من أهلها.
وبعد أن تولى ابنه بشار الأسد حكم سوريا فتح أبوابها لإيران على مصراعيها لنشر التشيع فيها، إضافة لسرقة هذا النظام ثروات البلاد، وتبديد خيراتها، واعتقال صفوة أهلها، وقتل مئات الآلاف منهم تحت التعذيب، وتهجير من لم يقدر عليه منهم، ولم يترك هذا النظام سوريا ويرحل عنها إلا بعد أن ترك البلد دمارًا وخرابًا.
ويكفي دلالةً على تفوق ذلك النظام في الإجرام على أسلافه الباطنيين؛ ما شاهده العالم بعد إسقاطه من أهوال السجون التي كان يقبع بها آلاف المعتقلين من الأطفال والنساء والرجال، كسجن صيدنايا، وسجن المزة العسكري، وسجن تدمر، وسجن حلب المركزي، وسجن السويداء، وغيرها الكثير من السجون التي وُجِد بداخلها معتقلون منذ 50 عامًا!
سقط النظام في سوريا في 8/12/2024، بعد اندلاع ثورة شعبية ضده في 18/3/2011، راح ضحيتها نحو مليون شخص، واعتُقل خلالها مئات الآلاف من الناس، وهُجّر الملايين منهم إلى أصقاع الدنيا، حتى لم يبقَ بلد في العالم إلا ووصله السوريون الفارون من حكم نظام الأسد، وبسقوطه عمّت الفرحة أحرار العالم كله.
شبكة الجزيرة.
دكتوراه في الفقه وأصوله. جامعة قط
—————————–
كيف أثرت حرب غزة على سوريا؟/ د. عمار علي حسن
13/12/2024
أي أثر لـ “طوفان الأقصى” على سوريا؟ إنه السؤال الأكبر عن تداعيات الحرب التي ارتكبت فيها إسرائيل “إبادة جماعية” ضد أهل غزة، وجاءت ارتداداتها أسرع مما تصور كثيرون، فسقط نظام بشار، وانتهى حكم “آل الأسد” بعد ثلاثة وخمسين عامًا، ومعه جاء السقوط الثاني لحكم حزب البعث بعد رحيله عن حكم العراق عام 2003.
هذا الارتداد جاء من زوايا عدة:
أولها هو النموذج الذي قدمته فصائل المقاومة الفلسطينية في مواجهة جيش نظامي، فكان ملهمًا، إلى حد كبير، لـ “هيئة تحرير الشام”، فبدأت هجومها على الجيش السوري فور إعلان وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل في السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، معتقدة، هذه المرّة، بأن تحقيق النصر على خصمها آتٍ لا محالة.
والثانية -وهي الأكثر تأثيرًا، هي أن سعي إسرائيل والولايات المتحدة، لقطع الحبل السري بين إيران والمقاومة اللبنانية، أدى إلى خلخلة نفوذ أولئك الحلفاء الذين كان الأسد يعتمد عليهم في استمرار حكمه، ما عجل بسقوطه. لقد كان أحد أهداف تل أبيب هي إخراج إيران من سوريا، وإنهاء خط الإمداد الواصل إلى البقاع والجنوب في لبنان عبر محافظة حمص، وإضعاف الوجود الروسي في سوريا أيضًا، ولم يكن هذا ليتم إلا على حساب حكم الأسد.
وجاء كل هذا ضمن إطلاق المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيليتين على الضربات – التي شرعتا في توجيهها إلى القوات الإيرانية فوق أرض سوريا، وكذلك الفصائل المتحالفة معها، بل الجيش السورى نفسه، – مصطلح “المعركة بين الحروب”، على أساس أن هذا يمثل “عملية دفاع متقدم” أو “ضربات استباقية”، تحرم إيران من استخدام أرض سوريا لشن هجمات ضد إسرائيل، وقبلها تمنع وصول أسلحة متقدمة إلى حزب الله.
وما إن بدأ سريان وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، حتى أعطيت الفصائل المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام” ضوءًا أخضر، للهجوم على المناطق التي يديرها النظام السوري، وتحل فيها محل قوات من الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله، والحشد الشعبي العراقي.
وكانت غاية إسرائيل من هذا هو النيل من القوات المناوئة لها، بإشغالها في حرب أهلية تستنزف قواها، لكن الأمور سارت في اتجاه أقصر زمنًا، وأعمق أثرًا، مما قدرت تل أبيب، إذ تمكن المقاومون المسلحون السوريون ومن يعاونهم من مقاتلين جاؤوا من خارج سوريا، من إسقاط نظام الأسد في عشرة أيام فقط.
هذه السرعة جعلت بعض المحللين في إسرائيل نفسها يتحدثون عن الخطأ الكبير الذي ارتكبه الجيش الإسرائيلي حين أفرط في توجيه ضربات متتابعة وقاسية وممنهجة للجيش السوري والحرس الثوري والحشد الشعبي على أرض سوريا، والذي أدى إلى إنهاكها وتفككها بعض الشيء، مما سهل المهمة على الزاحفين من الشمال والغرب إلى دمشق، لتسقط تحت أقدامهم المدن والبلدات والقرى التي كانت تحت حكم الأسد.
ففي تحليله للدور الذي يمكن أن تلعبه هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها في إضعاف الوجود الإيراني الداعم لحزب الله، رأى الباحث البارز في جامعة تل أبيب هاريل تشوريف خلال حرب إسرائيل ضد حزب الله: “الخيار الأفضل لإسرائيل الآن هو إضعاف هذه القوى جميعًا، وبشكل متبادل، دون إعطاء فرصة لأي منها لتحقيق انتصار حاسم”.
كان المخطط، إذن، حرب استنزاف طويلة يهلك فيها الجميع على أرض سوريا، لكن إسرائيل والولايات المتحدة فوجئتا بانهيار الجيش السوري، وخروج إيران سريعًا لتحمي قواتها، وتراجع الحشد الشعبي إلى العراق رابطًا قراره بموقف الحكومة في بغداد، وعدم مشاركة حزب الله إثر تداعيات الحرب الحالية، وحتى لا يعمق ضرره، إثر الضربات الإسرائيلية الموجعة له على أرض لبنان.
والأثر الثالث يرتبط بهوية المقاومة الفلسطينية، كما يقول الباحث الأردني المختص في شؤون الجماعات الإسلامية حسن هنية، “فرغم تصنيف حماس والجهاد الإسلامي منظمتين إرهابيتين لدى إسرائيل والولايات المتحدة ودول في أوروبا، فإن العالم لم يتوقف طويلًا، ولا في جدية، أمام هذا التوصيف والتصنيف، وتعامل مع المقاومة على أنها “حركة تحرر وطني” تواجه “قوة احتلال استيطاني”.
الأمر نفسه انسحب على “هيئة تحرير الشام” ومن معها من فصائل “جهادية” أو “إسلامية متشددة”، قريبة في أفكارها من “تنظيم الدولة” و”تنظيم القاعدة” و”التنظيمات الجهادية المحلية” في سوريا، إذ تعامل معها العالم تحت عنوان “المعارضة المسلحة” و”قوة ردع العدوان”، التي تسعى إلى تحرير سوريا من قبضة نظام حكم مستبد، فلما أظهرت قدرة على الفعل في الواقع بهزيمة الأسد، تعالت أصوات في الغرب إلى رفع اسمها من قائمة الإرهاب، وفتح باب عريض للتعامل معها، بحكم ما آلت إليه الأمور في دمشق.
وهنا يأتي الأثر الرابع لطوفان الأقصى على المسألة السورية إذ كانت تجربة المقاومة الفلسطينية في تسويق صورة وخطاب وبرهان ناجع إلى العالم، بعيدًا عن السرديات التقليدية، التي سعت إسرائيل إلى تكريسها عن حماس والجهاد الإسلامي خصوصًا، ملهمةً للفصائل السورية المسلحة، فعدلت خطابها الموجه للآخر، وأضفت عليه مسحة مدنية أو حداثية إلى حد واضح، ولو بشكل دعائي، وفكت ارتباطها بالتنظيمات الجهادية التقليدية، وعمقت الصورة السلبية للنظام السوري الحاكم، ووجهت نداءات إلى الداخل السوري ترتبط بالديمقراطية والتحرير وإعادة بناء دولة موحدة، وكان لهذا أثره الكبير في نجاح مهمتها.
أما الأثر الخامس فيرتبط بتعلم الفصائل السورية المسلحة من تجربة التخطيط الجيد، والتجهيز القوي، الذي تحلت به المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ومنحها قدرة على الصمود في وجه الجيش الإسرائيلي المدجج بأحدث وأعتى أنواع الأسلحة. ففي مساحة صغيرة، على غرار غزة، بمحافظة أدلب التي كانت تسيطر عليها الفصائل المسلحة عملت على التخطيط بدقة، والتدريب بهمة عالية، على مدار عام كامل أو يزيد؛ بغية حيازة القدرة على تغيير المعادلات العسكرية على الأرض، وهو ما آتى أكله فور شروعها في شن هجوم على حلب، ثم حماة فحمص، حتى دخلت إلى دمشق وأسقطت نظام بشار الأسد.
والأثر السادس يتعلق بالنظام العربي كله، وفي مقدمته النظام السوري المنضوي ضمن “محور المقاومة، فقد أظهر هذا النظام عجزًا عن نصرة أهل غزة، إذ استمرت السلطة في سوريا على حالها القديمة بعدم الرد المباشر على إسرائيل، رغم الضربات المتوالية التي تلقاها الجيش السوري وحلفاؤه، والعمليات النوعية التي استهدفت قيادات للمقاومة في دمشق. هذا الانكشاف جعل قطاعًا من الجمهور العربي متقبلًا لفكرة تساوق أنظمة الحكم مع المشروع الإسرائيلي، أو على الأقل عجزها عن صده ورده، ما يفتح قوس السؤال عن إمكانية تغير المعادلة بإسقاط هذه الأنظمة، عملًا بالرؤية التي يتبناها البعض من أن تحرير القدس يبدأ من تحرير بعض العواصم العربية، وهو ما سيطر على جانب مهم من الجدال العربي على مواقع التواصل الاجتماعي فور سقوط نظام بشار الأسد.
اليوم يستمر أثر الطوفان بشكل مغاير، إذ تتجه الأنظار إلى من وصلوا إلى الحكم في دمشق، وما إذا كانوا سيتبعون خطى الأسد في الصمت على العدوان الإسرائيلي من عدمه، لا سيما بعد أن شرع الجيش الإسرائيلي في توجيه ضربات موجعة للقواعد العسكرية ومخازن الأسلحة التابعة للجيش السوري، وإنهاء اتفاق فض الاشتباك لتحتل إسرائيل جزءًا من الجولان بعد انسحاب الجيش السوري منه، وتتحدث جهارًا نهارًا عن تفكيرها في التوغل داخل الأرض السورية لإقامة منطقة عازلة.
الجزيرة.
———————–
هل انتهى المشروع الإيراني بسقوط الأسد؟/ هدى رؤوف
ستعمل طهران على تجنيد شباب سوريين من السنّة وتشكيل ميليشيات تشحنها بالعداء ضد التحركات الإسرائيلية مع فتح حوار مع الأكراد
الجمعة 13 ديسمبر 2024
تنبع أهمية سوريا من أنها كانت الممر اللوجيستي لخطوط الإمداد الإيرانية لـ “حزب الله”، فضلاً عن كونها الحليف العربي الوحيد منذ الحرب العراقية – الإيرانية، كما أنها كانت منفذاً على البحر المتوسط، ومن ثم فلن يكون بمقدور طهران إعادة بناء الحزب عسكرياً.
رُبطت التطورات الأخيرة في سوريا بإيران واعتبار سقوط الأسد فشلاً إيرانياً، وبدأ يطرح التساؤل حول هل انتهى المشروع الإيراني بسقوط نظام بشار الأسد حليف إيران؟ وهل خرجت سوريا مما يسمى محور المقاومة نهائياً؟ وما هو مستقبل الاستثمارات الإيرانية في سوريا على مدى أكثر من 12 عاماً منذ تدخلها المباشر في الحرب الأهلية السورية؟ وما هو تأثير سقوط نظام الأسد في إيران؟ وهل تستطيع طهران التفاوض مع النظام السوري الجديد؟
لن تكون “طوفان الأقصى” عملية فاصلة في مستقبل غزة بل ستكون نقطة تحول مهمة يؤرخ لها في تاريخ الشرق الأوسط، فما قبلها ليس كما بعدها، ولا سيما بالنسبة إلى دور إيران ومعها ما يسمى “محور المقاومة” الذي تلقى ضربات متتالية خلال الأشهر الماضية، بدأت بالقضاء على القدرات العسكرية لـ “حماس” ثم “حزب الله” وأخيراً إسقاط نظام الأسد.
وعلى رغم خطاب المرشد الإيراني منذ أيام والذي أشار فيه إلى أن خسارة إيران الأكبر كانت في “حزب الله” وليس سوريا، لكن نظام الأسد كان بالفعل يحتل مكانة كبيرة في إستراتيجية إيران الإقليمية، مما يفسر لماذا استثمرت فيها عسكرياً ومالياً واقتصادياً، وعملت على خطوات “فرسنة” للمجتمع السوري وتأليب النعرات الطائفية فيه، ويقدر حجم ما استثمرته إيران المأزومة اقتصادياً في سوريا بما بين 30 إلى 50 مليار دولار، واليوم يسود الجدل الداخلي في إيران عن جدوى ما أنفق على نظام الأسد، وأنه كان يمكن توجيه تلك الموارد للداخل الإيراني.
وتنبع أهمية سوريا من كونها كانت الممر اللوجيستي لخطوط الإمداد الإيرانية إلى “حزب الله”، فضلاً عن كونها الحليف العربي الوحيد منذ الحرب العراقية – الإيرانية، كما أنها كانت منفذاً لطهران على البحر المتوسط، ومن ثم ستضعف قدرة إيران على إعادة بناء “حزب الله” عسكرياً، والذي كان يعتمد على تدفق الأسلحة عبر سوريا.
وتعتبر إيران كذلك أنها خسرت الحليف الأساس في ما تسميه بـ “الهلال الشيعي” الذي كان يربط بين إيران والعراق عبر حدود لبنان وسوريا، كما تنظر إيران إلى أن وجود الجولاني في سوريا وذكره إيران هو استهداف لها.
وربما تعي إيران الآن أنها المرشحة للاستهداف الإسرائيلي عبر استهداف برنامجها النووي أو إشعال التوترات الشعبية الداخلية، ولا سيما على خلفية الاستثمارات المهدرة على نظام الأسد، ومن ثم يمكن للتظاهرات أن تخرج وتطالب بتحسين الأوضاع الاقتصادية بدلاً من توجيه الموارد نحو دول الصراعات، لذا يحاول الإعلام الإيراني الترويج لكون مساندة نظام للأسد نوع من رد الجميل، لأن النظام السوري دعم إيران خلال حربها مع العراق في الثمانينيات، كما يروج أن الدعم الإيراني كان ضرورياً للقضاء على “داعش” التي ظهرت في سوريا والعراق وتستهدف إيران، ومن جهة أخرى فقد منح سقوط الأسد تركيا، المنافس الإقليمي لإيران، اليد العليا في صنع مستقبل سوريا مقابل تضاؤل نفوذ طهران.
كيف ستتحرك إيران خلال الفترة المقبلة؟
ربما ستحاول طهران فتح علاقات مع الحكومة السورية الجديدة، وبالفعل بدأ المسؤولون الإيرانيون بإجراء اتصالات مع اللاعبين الجدد في سوريا، وستحاول أن تتفاوض حتى لا تخسر الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية الموجودة هناك والتي قد تجري السيطرة عليها، لذا جاءت تقارير إعلامية تؤكد أن طهران تبادلت رسائل دبلوماسية مع “هيئة تحرير الشام” قبل سقوط حكومة بشار الأسد، وهي تعتبر أن التطورات تحتم عليها أن تتحدث مع الطرف الآخر في سوريا، لذا أصدرت الخارجية الإيرانية بياناً جاء فيه أنه “بالنظر إلى التطورات الأخيرة في سوريا، وإذ تذكر موقف إيران المبدئي المتمثل في احترام وحدة سوريا وسيادتها الوطنية وسلامة أراضيها، فإنها تؤكد أن تحديد مصير وقرار مستقبل سوريا يعود لشعب هذا البلد وحده من دون تدخلات هدامة أو فرض أجنبي”.
وقد جاء البيان كلاسيكياً تقليدياً ولا يوضح حقيقة العلاقات بين سوريا وإيران لأكثر من أربعة عقود، لكن طهران تحاول أن تفتح حواراً مع اللاعبين الجدد، ومن جهة أخرى ستعمل على تجنيد شباب سوري من السنّة وتشكيل ميليشيات تشحنها بالعداء ضد التحركات الإسرائيلية في سوريا لخلق ميليشيات تعتمد عليها، إضافة إلى محاولتها فتح حوار مع الأكراد والاستفادة من العلاقات المتوترة بينهم وبين وتركيا، ولذا ستحاول ليس فقط خلق حلفاء تربط مصالحها معهم داخل سوريا، بل إضعاف نفوذ تركيا هناك.
إن سقوط الأسد سيجبر إيران على التمهل فترة حتى لا يجري استدراجها من إسرائيل لمواجهات عسكرية فتخسر ما كانت تحاول الحفاظ عليه خلال الفترة الماضية، وذلك عبر تجاهل الاستهدافات الإسرائيلية التي دفعتها للتخلي عن “حزب الله” أولاً، ثم حليفها الأسد بعد ذلك.
ومن دون شك ستعمل إيران على مراجعة إستراتيجيتها الإقليمية وإستراتيجية الردع في ضوء المعطيات الجديدة، والتي ستوضح هل سيظل اعتمادها على سوريا ضمن محورها؟ أم أن سوريا خرجت إلى الأبد من المحور الإيراني؟
وأخيراً لا بد من التنبيه إلى أن إيران دولة كبيرة لديها قدرات وطموحات للتوسع والنفوذ والتفاخر والشعور بالاستثنائية، وإدراك ذاتي يؤثر في نفسية حكامها ويحرك تطلعاتها لما وراء الحدود، وكلها عوامل ترسم وتحدد أهداف وأدوات سياستها الخارجية القائمة على التوسع والتمدد ومزج الميدان بالدبلوماسية، مما أضفى العسكرة على سياستها الإقليمية، فضلاً عن أن إستراتيجية طهران وعقيدتها الدفاعية قائمة على الدفاع المتقدم، أي خلق أدوات تحقق أهدافها لكن بعيداً من حدودها، ولذا فإن محاولات الاستثمار الإيراني في الأدوات الإقليمية ودول جوارها ستبقى.
————————-
وحدة الدولة السورية/ مصطفى الفقي
هذا البلد الذي أحاطت به المؤامرات عبر التاريخ لا يجب أن يظل مرة أخرى مرتعاً للمغامرين والعابثين والإرهابيين
الجمعة 13 ديسمبر 2024 1:00
لن تستقيم الأمور أبداً إلا بدولة عصرية حديثة تخرج من عباءة الماضي وتلفظ الطائفية والعنصرية وتشجب التعصب وتؤمن بأنه لا توجد فوارق بين أتباع الديانات، فالكل في هذه المنطقة من العالم يعبد الله الواحد الأحد ولا يجب أبداً أن نستغرق في التقسيمات والتفريعات، فتضيع الحقوق وتختفي الثوابت في عالم مضطرب، فلدينا القضية الفلسطينية بأبعادها المأسوية ولدينا ظروف محيطة عدة تنذر بالكوارث في أي وقت.
قلبي مع الشعب السوري الشقيق منبع القومية العربية ومصدر الأفكار الوحدوية، بدأ عز الشرق بعاصمته كما قال أمير الشعراء “وعز الشرق أوله دمشق”، نعم أقول قلبي مع الشعب السوري الذي شهد من المعاناة ما يقترب من معاناة شعوب عربية أخرى مثل فلسطين ولبنان والعراق حتى أصبح المشرق العربي مرجلاً يغلي بالتطورات الساخنة والأحداث العاصفة، نعم لقد سقط نظام الأسد الذي لا يأسف عليه أحد، فقد قمع الحريات وحاول عزل سوريا عن أمتها العربية والارتماء في أحضان إيران الفارسية، ولأنني لست عنصرياً بالطبيعة فإنني أرى أن حسابات الدبلوماسية السورية في عهد الأسدين حافظ وبشار لم تكُن مدروسة، بل قامت على أسس من العناد والصراع الحزبي المقيت داخل حزب البعث بجناحيه السوري والعراقي، فضلاً عن الخلافات الشخصية والمنافسات القطرية، وجاءت التغييرات الأخيرة لكي تطرح السؤال الكبير، سوريا إلى أين؟!.
لدينا هنا بعض الملاحظات التي يمكن أن تساعد على فهم طبيعة الأمر واستحضار الحقيقة، ومن بينها ما يلي:
أولاً، إن الحركة القومية التاريخية ارتبطت بالقطر السوري في الداخل وفي المهجر أيضاً، فمنذ عهد معاوية وابنه يزيد وصولاً إلى عهد حافظ الأسد وابنه بشار، عرفت سوريا ألواناً من الحكم وأنماطاً من السيطرة وكانت دائماً دولة محورية حضارياً وثقافياً وعروبياً وقومياً، وشهدت عاصمة الأمويين انتفاضات متوالية وانتصارات متتالية وعرفت سوريا الآلام والمتاعب والمصاعب وبقيت دائماً ترفع شعارات البطولة ونداءات الوحدة إلى أن ابتلاها الله في النصف قرن الأخير بنظام يتحدث أكثر مما يفعل ويتخذ موقفاً طائفياً علوياً بدلاً من أن يكون صاحب نظرة عروبية شاملة كاملة.
ولقد عانى السوريون في العقود الأخيرة ما لا يدركه عقل. أقول ذلك وأنا لا أصدق ما شاهدته مما كان يجري في سجن صيدنايا على سبيل المثال وغرف التعذيب التي يفوق تصورها الخيال والإعدامات التي تنتهي باختفاء البشر حتى لا يكون لهم أثر، وما زلت أتذكر جريمة اغتيال الكاتب الصحافي الراحل سليم اللوزي الذي كان رئيس تحرير مجلة “الحوادث” اللبنانية وجرى اعتقاله وهو في طريق العودة لدمشق عندما تم إبلاغه بمرض والدته، فكان لا بد من أن يحضر على رغم أنه على قوائم الانتظار والترقب، وهذا ما جرى فأوقفته عصابات التعذيب وأقامت عليه حفل إزهاق الروح لساعات عدة من التعذيب الإجرامي لأن سيد دمشق لا ينسى أن ذلك الكاتب الصحافي تناوله بشيء من النقد في مطبوعته الصحافية.
ثانياً، أتذكر الآن الحكمة العربية “كالمستجير من الرمضاء بالنار” لأن ثوار إدلب وما حولها يمثلون هويات مختلفة ومنطلقات فكرية متعددة، لكن يغلب عليها طابع ديني ولا بأس من ذلك إذا كان معتدلاً ووسطياً ولا يعرف التعصب والدماء والأشلاء، لكن ليست لدينا ضمانات حقيقية حول تاريخ القادة الجدد ومنطلقاتهم الفكرية ومعتقداتهم الحالية، إذ يبدو الأمر كما لو أننا استبدلنا النفوذ الإيراني بنفوذ تركي جديد بمظلة سنية قد تدخل في صراع مع بقايا المظلة الشيعية.
أقول ذلك ويدي على قلبي لأن الشعب السوري الشقيق الذي عانى كثيراً طوال الأعوام الماضية هو وغيره من شعوب المنطقة يتطلع إلى الاستقرار والسلام والتنمية والازدهار، وعلى رغم أن الجيش السوري الباسل كان علامة مضيئة في التاريخ العربي المعاصر، فإن الذين أطفأوا أنوار دمشق واستحلوا دماء شعبها وأقوات أبنائها حوّلوا الوطن السوري الذي كان مأوى للاجئين إلى مصدّر لهم، فضلاً عن ملايين النازحين من معسكر إلى آخر على أطراف الدولة السورية التي تستحق أفضل مما عرفت بعشرات المرات.
وبدا حكم الأعوام الأخيرة وكأنه تجسيد للمقولة الخالدة “أسد علي وفي الحروب نعامة!”، فلزم الأسد الابن الصمت الكامل وارتمى في أحضان طهران وطلب الدعم دائماً من موسكو وظل بعيداً من شعبه وأمته معزولاً عن قوميته، فكانت النتيجة تمزيق الكيان السوري وتقطيع أوصال تلك الدولة العربية العزيزة على قلوبنا جميعاً. فالشعب السوري شعب أبيّ ذو كبرياء وكرامة ولن أنسى أنني في أحد الأيام كنت أمر بسيارتي في أحد شوارع مصر الجديدة بالقاهرة، فوجدت طفلاً يقف على محطة المترو ويحمل بعض البضاعة للبيع وهي حلوى شامية، فاقترب مني وحاولت أن أعطيه بعض النقود بثمن ما سيعطيه لي من دون أن آخذ منه شيئاً فإذا به يقول لي، “يا عمي إنني لست شحاذاً، إنني أبيع وأتقاضى ثمناً لما يحصل عليه المشتري، فلدينا كرامة في العروق”، وأيقنت وقتها أن الشعوب الأصيلة تبقى أصيلة دائماً في الأوقات السعيدة والمحن الطارئة بالقدر نفسه وعلى المستوى ذاته.
ثالثاً، إن أخشى ما أخشاه أن تدخل سوريا العزيزة إلى مرحلة من الصراعات الدموية الداخلية والمؤامرات السياسية وتقع فريسة بين طهران وأنقرة، بينما يلتقط الغراب الإسرائيلي أرض الوطن ويلتهمها قطعة قطعة، إذ إن نتنياهو لم يضيع الفرصة بالفعل واحتل المنطقة العازلة للحدود بين سوريا وإسرائيل، معلناً أن مرتفعات الجولان ستظل تحت سيطرة إسرائيل إلى الأبد!. إن سوريا التي أحاطت بها المؤامرات عبر التاريخ وحملت على أرضها حضارات وثقافات وديانات لا يجب أن تظل مرة أخرى مرتعاً للمغامرين والعابثين والإرهابيين، لذلك فإن اليقظة التامة والتضامن العربي الكامل هما أمران مطلوبان بشدة في هذه المرحلة التي لا يخلو فيها شبر عربي من أطماع إسرائيل ومن يدعمونها عسكرياً وسياسياً وإعلامياً من قتلة الأطفال وهادمي البيوت الذين يسعون إلى تصفية القضية الفلسطينية، بل ابتلاع مناطق عربية أخرى، فأطماع إسرائيل ليست من النيل إلى الفرات فحسب، بل إنها تتمدد كالديدان السامة في كل جزء يخلو من ساحات الوطن العربي، ولندرك نحن العرب أنه لا الفرس ولا الترك سيكونون حريصين على وحدة الوطن السوري، فالشعارات كثيرة والعبارات ساخنة لكن الواقع شيء آخر.
وأكرر ما قلته دائماً، يجب ألا يظل العرب كالأيتام على مائدة اللئام، ولا يمكن أن يقرر مصير سوريا المثلث غير العربي سواء كان الإيراني أو التركي أو الإسرائيلي، فلا بد من تحالف عربي صلب يقف أمام المخططات المقبلة علينا والساعية إلى تقسيم مظاهر التضامن لدينا، فالعروبة ليست رداء نرتديه حين نريد ونخلعه متى نشاء، إنها قدر ومصير وحياة.
إنني لا أشكك في نوايا أحد ولا أعرف إذا كانت وقفة الثوار الجدد وقفة وطنية خالصة لوجه الله والوطن أو شعارات مرحلية لاقتناص دولة وسرقة وطن، ولا بد من أن تصدق النية ولا نتصور أن تاريخ البشر لو كان سيئاً يظل يلاحق أصحابه للأبد، فالله سبحانه يقبل التوبة، لذلك فإن الشعوب من جانبها تعرف الغفران والنسيان، دعونا نأمل للقطر السوري الشقيق الخروج من محنته الطويلة الصعبة والاتجاه نحو غد مشرق ترتفع فيه رايات الحرية وأعلام الديمقراطية وتختفي منه إلى الأبد جميع أنواع القتل والتعذيب والاختفاء القسري، وليس لدي شك في أن ما جرى في سوريا هو صدى لمأساة غزة وأزمة لبنان، ولن تستقيم الأمور أبداً إلا بدولة عصرية حديثة تخرج من عباءة الماضي وتلفظ الطائفية والعنصرية وتشجب التعصب وتؤمن بأنه لا توجد فوارق بين أتباع الديانات، فالكل في هذه المنطقة من العالم يعبد الله الواحد الأحد ولا يجب أبداً أن نستغرق في التقسيمات والتفريعات، فتضيع الحقوق وتختفي الثوابت في عالم مضطرب، فلدينا القضية الفلسطينية بأبعادها المأسوية ولدينا ظروف محيطة عدة تنذر بالكوارث في أي وقت، ولا بد من أن نعي جميعاً أن من حقنا أن نتطلع إلى الغد بأمل حتى لو كنا نجلس وسط الدماء والأشلاء والأحقاد الخبيثة والعداوات المتأصلة ضد شعوب المنطقة وحقوقها التاريخية الثابتة التي لن تضيع أبداً.
———————
معاني علم سوريا الجديد/ سامي مبيض
13 ديسمبر 2024
ترفع سوريا اليوم علمها الجديد، علم الاستقلال الذي هو نفسه علم المعارضة السورية منذ سنة 2011. لنطلق عليه اسم “علم الاستقلال” ولكن الأصح، وللأمانة التاريخية، هو “علم الجمهورية” لأنه أقر في مطلع عهد الجمهورية. رُفع هذا العلم مؤخّراً في الميادين وبعض الدوائر الحكومية والسفارات، ولكنه لم يصدر بمرسوم حتى الآن وهو الذي أُقرّ بالأساس سنة 1932.
ظلّ هذا العلم موجوداً حتى وصول حزب “البعث” إلى السلطة، حيث قام أنصاره بإنزال العلم من سنة 1963 ولغاية سقوط نظام بشار الأسد سنة 2024. وفي مطلع الثورة السورية، ابتكر الإعلام الحكومي رواية مختلقة تقول إن هذا العلم– علم الاستقلال أو علم المعارضة– كان “علم المفوض السامي” في مرحلة الانتداب الفرنسي. أطلقوا عليه ظلماً اسم “علم الانتداب” وقالوا إن نجماته الثلاث ترمز إلى ثلاث دويلات طائفية أقيمت في عهد الانتداب، تريد المعارضة استنهاضها من جديد: الدولة العلوية والدولة الدرزية والدولة السنية. علماً أنه لم يكن هناك دول مخصصة للسنة في عهد فرنسا. ووصفوه بعلم “العمالة للاستعمار” لكونه وضع في زمن الانتداب.
وكان جوابنا: “وكذلك النشيد السوري وضع أيضاً في زمن الانتداب. لم يتغيّر من يومها. هل نقول عنه إنه نشيد الانتداب؟”. لا أحد منهم كان يجيب، نظراً لجهلهم التام بتاريخ سوريا قبل سنة 1970، ولكن على كل السوريين اليوم أن يعرفوا قصة علمهم الجديد ودلالاته التاريخية.
علم الاستقلال
أقرّ هذا العلم يوم انتخاب محمد علي بك العابد رئيساً للجمهورية سنة 1932، وفيه ثلاثة أقسام متوازية: الأخضر، والأبيض، والأسود، يتوسّطها”ثلاثة كواكب حمراء ذات خمسة أشعة”، حسب ما جاء في المادة الرابعة من دستور عام 1928. وكانت الكواكب الثلاثة ترمز– بحسب الاجتهاد وليس النص- إلى ثلاث ثورات ضد الانتداب الفرنسي: ثورة الشمال بقيادة إبراهيم هنانو، والثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، مع اختلاف في النجمة الثالثة بين من يقول إنها نسبة لثورة أنطاكيا بقيادة صبحي بركات، أو ثورة الساحل بقيادة الشيخ صالح العلي. في كل الحالات كانت النجوم الثلاث، أو الكواكب، ترمز إلى الوحدة الوطنية وليس إلى التفرقة كما قال الإعلام السوري سنة 2011. أما عن ألوان العلم فكانت مأخوذة من ألوان علم الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين: الأخضر نسبة للخلفاء الراشدين، والأبيض للدولة الأموية، والأسود للدولة العباسية.
رفع الرئيس شكري بك القوتلي علم الاستقلال في سماء سوريا يوم تحريرها من الانتداب الفرنسي في 17 أبريل/نيسان 1946، ورفعه جنود الجيش السوري في حربهم الأولى ضد إسرائيل سنة 1948. وعلى الرغم من الانقلابات المتكررة في السنوات 1949-1951 فإن أحداً من الزعماء العسكريين لم يفكر في تغيير هذا العلم، وبقيت راية سوريا ثابتة لغاية مجيء الرئيس جمال عبدالناصر إلى الحكم سنة 1958. وأطاحت جمهورية الوحدة بالنشيد الوطني السوري أولاً، وباحتفالات عيد الجلاء واستبدلت به عيد ثورة 23 يوليو/تموز التي قادها الضباط الأحرار ضد الملك فاروق. ومن ثم استُبدل بالعلم علم مستوحى من الألوان نفسها، فيه نجمتان خضراوان ترمزان إلى سوريا ومصر.
وعند انهيار جمهورية الوحدة سنة 1961، أعاد السوريون علمهم القديم، وبقي معتمداً حتى الأشهر الأولى من عهد “البعث”، ولم يغيّر حتى 1 مايو/أيار 1963. قام مجلس قيادة الثورة بالعودة إلى علم الوحدة السورية-المصرية، بعد إضافة نجمة ثالثة خضراء في وسطه، رمزاً للعراق.
من هاجم علم المعارضة سنة 2011، أو علم الاستقلال، لم يكن يعلم أن هذا العلم هو الذي ألقى أمامه حافظ الأسد تحيته العسكرية يوم تخرّجه في الكلية الحربية في حمص عام 1955، ثم عاد وحيّاه في أعقاب تعيينه آمراً لسلاح الطيران في 8 مارس/آذار 1963 وفي عيد الجلاء يوم 17 أبريل 1963. لو كان جمهور بشار الأسد يعرف هذه المعلومات البسيطة لما حقروا علم بلادهم سنة 2011. وفي عهد حافظ الأسد كان علم الاستقلال يظهر بشكل مستمر، في الكتب والمسلسلات التلفزيونية، وعلى الطوابع البريدية التذكارية في الاحتفالات السنوية لعيد الجلاء، قبل أن يصبح حتى الاقتراب منه تهمة يُعاقب عليها القانون بعد سنة 2011.
العلم السوري وتغيرات “البعث”
من جملة الأخطاء التي ارتكبها النظام السابق كان تحقير علم المعارضة وتضخيم الولاء للعلم القائم منذ سنة 1980 (علم الوحدة مع مصر سابقاً). فرضوا على أصحاب المحلات رسمه على أبواب متاجرهم، ورفعوه بكثرة مزعجة في الشوارع، تعكس حالة استغلال أكثر مما هي حالة وطنية سليمة.
وقد جاءت كل هذه الأساليب بعد عقود طويلة من جعل العلم السوري في مرتبة أدنى من صورة رئيس الجمهورية، وعلم حزب “البعث”. لم تفكر “دولة البعث” بتشريع كيف يُرفع العلم ومتى يجب رفعه، ولم تعاقب على استغلاله أو رفعه ممزقاً مهترئاً وسخاً في الدوائر الحكومية، أو من رسمه على الجدران، وفي الأزقة، وعلى السيارات، ومحارس الجنود بطريقة لا تليق بعلم سوريا.
لم يأتِ قانون يمنع رفع العلم إلى جانب أي علم آخر، وهذا تحديداً ما حدث في السنوات الأخيرة حين أصبح العلم السوري متساوياً مع أعلام روسيا وإيران و”حزب الله”.
أجيال كانت تكبر وهي تستخف به لأن الدولة نفسها كانت تستخف به، وقد حاولت فرضه على الناس دون أية عاطفة أو تفسير أو مبادئ وطنية صادقة. ومع اندلاع الثورة السورية سنة 2011، أراد بشار الأسد إيجاد رمز وطني لتوحيد الشارع الموالي، وجده في العلم الوطني، وعلينا أن لا نحقر ذلك العلم كما حقر البعثيون علم الاستقلال، وأن ندرك أن العلم الجديد ليس علم الانتداب الفرنسي، وليس العلم السابق هو علم بشار الأسد.
————————-
سقوط الأسد يُقلق أكراد سوريا/ كون كوخلين
تعترض تركيا على منطقة “روجافا” لاعتقادها أن المنطقة قاعدة لـ”حزب العمال الكردستاني”
13 ديسمبر 2024
على الرغم من أن الإطاحة المتأخرة جدا ببشار الأسد كانت مناسبة للاحتفال بالنسبة لغالبية السوريين، فإن هناك مجموعات، وعلى رأسها الأكراد، تعيش مخاوف مشروعة بشأن ما يحمله المستقبل لها.
وبقاء الأسد في السلطة بعد حرب أهلية دامت عقدا من الزمن، مدعوما بشكل كبير من روسيا وإيران، لم يتح له سوى الحفاظ على السيطرة على أجزاء محدودة من الأراضي السورية.
عند الإطاحة الدراماتيكية بنظام الأسد، كانت سلطته تقتصر على ما يزيد قليلا على نصف الأراضي السورية قبل اندلاع الحرب. ورغم أن النظام استعاد السيطرة على معظم المدن الكبرى، فإن أجزاء كبيرة من البلاد ظلت تحت سيطرة جماعات الثوار، خاصة في الشمال.
تركزت جماعات المعارضة الإسلامية، مثل “هيئة تحرير الشام”، التي قادت الانتفاضة التي أطاحت بالأسد، في منطقة إدلب شمال غربي البلاد. وفي المقابل، تمكن الأكراد السوريون في شمال شرقي سوريا من تأسيس منطقة شبه مستقلة خاصة بهم.
لعب الأكراد دورا بارزا في الحملة العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة لتدمير ما يُعرف بـ”خلافة” تنظيم “داعش” في الرقة. وقد مُنحوا مكافأة على جهودهم بإنشاء منطقة ذات حكم ذاتي في شمال وشرق سوريا تُعرف باسم “روجافا”.
وعلى الرغم من أن هذه المنطقة تحظى بدعم يقدَّر بحوالي ألف جندي أميركي، يهدف وجودهم إلى منع عودة تنظيم “داعش” وتقديم الدعم للأكراد، فإن “روجافا” تواجه رفضا شديدا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي لا يخفي تطلعاته لتفكيك هذه المنطقة.
وتعترض تركيا على منطقة “روجافا” لأسباب رئيسة، أبرزها اعتقاد أنقرة بأن المنطقة هي قاعدة لـ”حزب العمال الكردستاني”، التنظيم الكردي الانفصالي الذي يخوض حملة طويلة الأمد لإنشاء وطن كردي مستقل. ويُعتبر “حزب العمال الكردستاني” جماعة إرهابية في كثير من الدول، بما في ذلك تركيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقد اُتهم مؤخرا بالتورط في هجوم استهدف مقر شركة صناعات جوية تركية في أنقرة خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وفي المقابل، يؤكد المسؤولون الأكراد أن أردوغان يربط عمدا بين “حزب العمال الكردستاني” و”وحدات حماية الشعب” التي تُعد المجموعة الأبرز في “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة.
ويشكل استمرار دعم واشنطن لـ”قسد” التي تواصل لعب دور محوري في منع عودة “داعش”، مصدر توتر دائم بين الولايات المتحدة وتركيا. إذ يمارس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضغوطا متواصلة على الولايات المتحدة لإنهاء دعمها لهذه القوات.
وفي وقت سابق، أعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب أثناء ولايته الأولى عن نيته سحب القوات الأميركية بعد هزيمة “داعش” في الرقة. إلا أنه أُقنع في النهاية بالتراجع عن قراره من قبل صناع السياسة الأميركيين.
ومع عودة ترمب المنتظرة إلى البيت الأبيض الشهر المقبل، يبقى احتمال أن يأمر بسحب القوات الأميركية المتبقية من شمال سوريا قائما، وهو ما قد يترك “قوات سوريا الديمقراطية” وحلفاءها الأكراد عرضة للهجوم التركي.
السبب الآخر الذي يدفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى إنهاء الوضع المستقل للأكراد في شمال سوريا هو اعتقاده بأن وجود هذه المنطقة قد يُشجّع الأكراد داخل تركيا على المطالبة بترتيبات مشابهة داخل الأراضي التركية.
وتتزايد المخاوف الآن من أن أردوغان سيُكثف جهوده لتفكيك المنطقة الكردية المستقلة بعد الإطاحة بنظام الأسد. وتشير التقارير إلى أن الفصائل السورية المدعومة من تركيا، مثل عناصر “الجيش الوطني السوري”، قد شنت سلسلة من الهجمات ضد المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية التي يسيطر عليها الأكراد، خاصة حول كوباني.
ووفقا للتقارير، عبر مقاتلو “الجيش الوطني السوري” نهر الفرات باتجاه كوباني تحت حماية الطائرات الحربية التركية. وفي الوقت ذاته، أعلنت وكالة الاستخبارات العسكرية التركية أنها دمرت 12 شاحنة عسكرية ودبابتين، ومستودعات ذخيرة كانت قد وقعت في أيدي “وحدات حماية الشعب” بعد انسحاب الجيش السوري.
وردا على الإطاحة بنظام الأسد، صرّح أردوغان بأن بلاده لن تسمح أبدا بـ”تقسيم” سوريا مرة أخرى، وهو تصريح فُسر على أنه تهديد مباشر للمنطقة الكردية الانفصالية. وأضاف: “تركيا لا تطمع في الحصول على أراض أو المس بسيادة أي دولة أخرى”، مشيرا إلى أن العمليات العسكرية التي تقوم بها بلاده تستهدف “حزب العمال الكردستاني” الذي يؤكد ارتباطه بـ”وحدات حماية الشعب”. وأوضح الرئيس التركي أن “الهدف الوحيد لعملياتنا عبر الحدود هو حماية وطننا ومواطنينا من الهجمات الإرهابية”.
وتثير التحركات العسكرية التي تقودها القوات المدعومة من تركيا ضد الأكراد المدعومين، بدورهم، من الولايات المتحدة احتمالات اندلاع صراع جديد في شمال سوريا في الوقت الذي يحتفل فيه معظم السوريين بالإطاحة بالدكتاتور المكروه في البلاد، وهو تطور تسعى الإدارة الجديدة لـ”هيئة تحرير الشام” إلى تجنبه بوضوح.
—————————-
ماذا جرى في دمشق خلال وبُعيد هروب النظام؟/ د. عبد المنعم حلبي
2024.12.13
لا يمكن أن تُسعفنا الكلمات والمعاني ولا أشعار النصر والتمجيد في التعبير عن مشاعر السوريين الجياشة والمفعمة بروح الظفر والانتصار الذي تحقق في يوم الأحد الثامن من كانون الأول بإسقاط نظام الأسد، الأسد الهارب.
فالسقوط كان مدوياً وصاعقاً لجميع الأطراف الإقليمية والدولية، وإن بدت مؤشراته واضحة بالنسبة لبعضها أو العديد من المراقبين لمجريات الأمور العسكرية قبل ذلك بيومين، وذلك عشية تحرير مدينة حماة وانتفاضة حوران وتوجه فصائل المعارضة إلى حمص ودمشق.
في حين اعترت الدهشة والانهيار المعنوي قطاعاً واسعاً من مؤيدي النظام، انعكست على كلماتهم وأصواتهم ووجوههم وهروب كثيرين منهم، ولاسيما أولئك الذي تصدروا المشهد الإعلامي وبعض الفنانين وقائمة المحللين الذي بقوا ينافحون عنه حتى الرمق الأخير.
هؤلاء لم يكونوا يُدركون أن الرمق الأخير بالنسبة لسيدهم لم يكن آخر رصاصة أو آخر قطرة دم، بل كان التخطيط لعملية فرار سرية آمنة تحت جنح الظلام، وعلى ما يبدو فإن كثيراً من مؤيدي النظام تم إلهامهم بروح الهروب تلك، والتي اتسع نطاقها بينهم وبصورة جماعية عندما بدأ كثير من عناصر الجيش يخلعون البزات العسكرية ويرتدون اللباس المدني ويبتعدون عن مواقعهم ولاسيما الأمنية، هروب تمثل بسيولٍ من السيارات المدنية إلى الساحل ولبنان، وكذلك عبر ما يشبه الجسر الجوي إلى الإمارات العربية المتحدة، ليتحوَّل السقوط العسكري للنظام إلى مشهدٍ دراميٍ بعنوان رديف، قد يكون أكثر توصيفاً لحقيقة ما جرى في دمشق وهو “هروب النظام”.
هذا الهروب كان من الطبيعي أن يترك فراغاً واسعاً، ووضع إدارة العمليات العسكرية في هيئة تحرير الشام وحلفائها، أمام اختبار صعب للغاية في ذروة أفراح السوريين بولادة سوريا الجديدة، اختبارُ اعترته فوضى سلاح وتخللته أعمال سرقة، والعديد من الانتهاكات من قِبل أشخاصٍ كانوا يرتدون لباساً مدنياً طال الأملاك والمؤسسات العامة بما فيها مصرف سورية المركزي، ولم تَسلم من أعمال النهب حتى البيوت والأملاك الخاصة بحسب رواياتٍ من أهالٍ في دمشق.
ترتيبات بعثت نوعاً من الطمأنينة بدأت بإقرار استمرار عمل حكومة النظام برئاسة محمد غازي الجلالي، تلتها مجموعة من التصريحات منه ومن مسؤولين آخرين بالعمل على الاستمرار بتأمين الخدمات العامة للمواطنين بناءً على طلب أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، كما صرّح حاكم مصرف سوريا المركزي الدكتور عصام هزيمة بأن جزءاً من المسروقات من المصرف المركزي قد تم استرداده، وأن ودائع السوريين في المصارف هي بخير. من جهتها أصدرت إدارة العمليات العسكرية بيانات واضحة بخصوص عقوبات ستطول كل من يتعدى على الأملاك العامة والخاصة، وتم نشر قوات حماية للعديد من الوزارات والمؤسسات العامة والإعلان عن حظرٍ للتجول، لاسيما عندما قامت مجموعة مسلحة بتفريغ وزارة الداخلية من كثير من محتوياتها الورقية والقيام بنهبها بشكل شبه كامل، إضافة إلى تعرُّض العديد من أفرع الأجهزة الأمنية للاقتحام وسرقة محتويات ووثائق على غاية من الأهمية، كما تم العمل على سحب السلاح من كثير من المدنيين بينهم أطفال، وقد تبين أنهم حصلوا عليها -في الغالب- بعد أن اقتحموا المخافر وأقسام الشرطة، إضافة إلى ثبوت أن كثيراً منهم كانوا قد جاؤوا من خارج العاصمة لاستغلال حالة الفوضى، وذلك بحسب روايات الأهالي وبعض عناصر الحواجز العسكرية التي قامت بسحب السلاح المسروق عند تنقُّل اللصوص بين شوارع المدينة في أثناء حظر التجول أو محاولتهم الخروج منها.
بالتوازي مع ذلك استمر المسلسل الدرامي المحزن بل القهري المتمثل بعمليات إخراج المعتقلين من سجون ومعتقلات النظام، وكان لسجن صيدنايا السيء الصيت حظاً تعاظمت أهميته في اليوم التالي لهروب النظام مع بروز شائعات بوجود أقبية اعتقال سرية في طابق سفلي تحته.
وهكذا في يوم الإثنين التاسع من كانون الأول، وبالتزامن مع الاهتمام والتركيز على قضية سجن صيدنايا كانت إسرائيل قد توغلت في المنطقة العازلة المنصوص عليها بموجب اتفاق فض الاشتباك العام 1974 بإشراف الأمم المتحدة، وشنت على الأراضي السورية أضخم هجوم جوي وصاروخي لها منذ تأسيسها في العام 1948 بما فيها حربي 67 و73 أو حربيها الأخيرين في غزة أو لبنان. فعلى مدار أربع وعشرين ساعة، قامت إسرائيل بما يزيد عن أربعمئة غارة جوية أدت إلى تدمير القدرات العسكرية السورية من مطارات عسكرية وأسراب الطائرات الحربية والرادارات، ودمرت المخزون الاستراتيجي السوري من الصواريخ البالستية، كما أحالت جميع مراكز البحوث العلمية في المنطقة الوسطى ومحيط دمشق وغيرها إلى أكوام من الركام، حتى المربع الأمني في كفرسوسة وفرع الخطيب السيء الصيت لم يَسلَم من الهجمات الضارية، والتي استكملتها بتدمير الأسطول البحري السوري ومرافئه العسكرية البحرية.
وعلى وقع الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق في يوم واحد، قام قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) بالطلب من الجلالي تسليم الصلاحيات الكاملة إلى محمد البشير رئيس حكومة الإنقاذ التي كانت عاملة في إدلب، وقد تم ذلك في غضون أربع وعشرين ساعة أيضاً، تم خلالها التوجيه بمباشرة جميع الموظفين في المؤسسات العامة بالعودة والالتحاق بمراكز عملهم في يوم الثلاثاء العاشر من كانون الأول، وهو اليوم الذي صرَّح فيه محمد البشير أن حكومته باشرت عملها وستكون حكومة انتقالية لمدة ثلاثة أشهر.
ومع بدء خلو دمشق من المظاهر العسكرية، وانسحاب الكم الهائل من المسلحين الذين ملأوا شوارع المدينة، أخذت المدينة تعود العاصمة إلى حياتها الطبيعية، كما شهدت أسواقها استقراراً في مستويات الأسعار بعد عودة سعر الدولار إلى مستواه عند خمسة عشرة ألف ليرة للدولار الواحد، مع افتتاح المصارف الحكومية وبعض المصارف الخاصة أبوابها.
سياسياً، ومع العيون الدولية التي تراقب ما يجري، وعلى عكس كثير من المؤيدين السابقين للنظام الهارب، ومن كانوا يُسمون بالرماديين، والذين تحول بعضهم بصورة هزلية لتأييد السلطة الجديدة، بدأت تُلاحظُ اعتراضات العديد من المعارضين السوريين وترديدهم لمطالب سياسية، وقد دارت هذه المطالب حول توضيح أكبر للكيفية التي ستدار بها المرحلة الانتقالية المعلنة، مشتكين من وجود إشارات لوجود نوايا تهميش مقصود لهم، وقد ازداد زخم هذه المطالب وحالة الشكوى تلك مع تصريحات ونداءات دولية، ولاسيما الأميركية منها، بضرورة قيام هيئة تحرير الشام والسلطة الجديدة بتوسيع المشاركة السياسية والعمل على تشكيل حكومة سورية شاملة بأسرع وقت ممكن. كما انتقلت الأمم المتحدة في خطابها من حيز المراقبة والتعبير عن اعترافها بالتغيير، إلى التأكيد عبر مبعوثها في سوريا غير بيدرسون يوم الأربعاء الحادي عشر من كانون الأول عن أن القرار 2254 ما زال المرجعية التي لابد من استكمالها في اتجاه تشكيل إدارة حكم انتقالي في البلاد، وأن غياب نظام الأسد لا يعني انتهاء صلاحية القرار العتيد.
وهكذا ومع توسع المناطق التي تقع تحت سيطرتها العسكرية، تزداد مسؤوليات السلطة الجديدة الأمنية والخدمية، وتصبح أكثر مواجهة لمطالب سياسية يُنتظر تلبيتها، والتي يراها بعضهم ضرورية كي لا تقع حكومة الإنقاذ الانتقالية في فخ صورة وطبيعة وأدوات سلطة أمر واقع تدار من رجل واحد، كما كانت في إدلب، أو كما كان النظام الهارب.
تلفزيون سوريا
—————————
سوريا الجديدة: حرية.. فرح.. مع قلق ومخاوف/ هوشنك أوسي
2024.12.13
فرحةُ السوريين بانهيار وسقوط نظام الأسد ـ البعث، سواء في الوطن أو المهاجر العربيّة والأجنبيّة، لا يمكن وصفها. تلك لحظات بقيت للتاريخ، وأشبه بفرحةِ السجين في أثناء معانقتهِ حريتَهُ، وفرحةِ الطير الذي بقي في القفص والأسر طوال ستة عقود وهو يعاود التحليق مرّة أخرى. فرحةٌ لن يفهمها أحد إلاّ من ذاق مرارة وظلم وغبن وجور ووحشيّة ذلك السجن الكبير الذي كان يُسمّى “سوريا الأسد”!
ولأنّ وظيفة العقل الانحياز للأسئلة، وعدم البقاء رهن المشاعر والعواطف، ولأنّ المحافظة على الحريّة وتطويرها وجعلها أساسًا للعدالة والكرامة والحقوق والمساواة في سوريا الجديدة يتطلّب تحصين تلك الحريّة بالمراجعة والنقد، لا مناص من طرحِ هذهِ الأسئلة والأفكار الموجودة طيّ هذه الأسطر.
1 ــ صحيحٌ أنّه لا يمكن الحكم على سوريا الجديدة من الأيّام الأولى لسلطة “هيئة تحرير الشام” للبلاد والعباد، لئلا نكون متشائمين جدًّا بالغد الذي ينتظرنا، إلاّ أنّ من العبث والجهل تجاهل بعض المؤشّرات الباعثة على القلق والخوف من الغد، سواء أكانت على الصعيد السياسي أو العسكري أو الإعلامي أو الإداري. وأبرز تلك المؤشّرات طريقة وكيفيّة وآلية تشكيل حكومة الإنقاذ (الحكومة الانتقاليّة) واستلامها مقاليد وملفّات الحكم من الحكومة السوريّة السابقة. تلك كانت طريقة غير مطمئنة ومثيرة للشبهة والقلق والخوف. ذلك أنّ سوريا، وبخاصّة في المرحلة الانتقاليّة، لا يمكن إدارتها بذهنيّة ومنطق الجماعة الإسلاميّة (الإخوان، القاعدة، الفصائل والميليشيات الدينيّة). ومع ذلك، السوريون الذين صبروا على نظام الأسد ـ البعث 61 سنة، يمكنهم الصبر على حكومة أحمد الشرع – محمد البشير بضعة أشهر، مع حقّهم في تسجيل كل الملاحظات وتوجيه كل الانتقادات لهذه الحكومة.
وصحيح أنّ سوريا لم تكن بحاجة إلى بول بريمر أميركي أو فرنسي أو تركي لتخريج المرحلة الانتقاليّة، إلاّ أنّ طريقة ظهور حكومة محمد البشير وتجاهل كل القوى السوريّة؛ عربيّة، كرديّة، سريانيّة، علمانيّة…الخ، لم يكن فأل خير، ولم يبعث على التفاؤل.
2 ــ مخاطبة المقاتلين (المحررين، الثوّار) المسيحيين، العلويين، الدروز بتلك اللغة الوطنيّة والإنسانيّة الودودة والدمثة، كانت في غاية الأهميّة والضرورة الوطنيّة التأسيسيّة. لكن تجاهلهم تطمين الكرد السوريين، أمرٌ لم تخطئه عين أو أذن، ولم يستسغه عقل ينظر بأمل وفرح إلى مستقبل سوريا الجديدة التي يفترض أن تكون مناهضة لسوريا الأسد في أساليب معالجها قضايا وحقوق الأقليّات القوميّة! وعليه، ارتفاع نبرة الخطاب الوطني والإنساني لدى قيادات وعناصر “غرفة العمليات” مع الأقليّات الدينيّة والمذهبيّة والطائفيّة في سوريا، إلى درجة مبالغ فيها أثارت تندّر كثير من السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، ومع تجاهلها مخاطبة الكرد بنفس القدر من مساعي توطيد الثقة الوطنيّة والتطمين، تلك النبرة فُهِمَ منها أنّها تسعى إلى مخاطبة الغرب (أميركا وأوروبا) على أنّ سوريا الجديدة لن تقمع المسيحيين والعلويين والدروز…، على اعتبار أنّ الغرب مسيحي، وجلُّ اهتمامهم مسحيو الشرق (سوريا)، أمّا ملفّ الكرد، فهو موضوع آخر! بالتالي، من حقّ الكرد السوريين أن يقلقوا على مستقبلهم الغامض في سوريا الجديدة، ما بعد الأسد – البعث.
من جهة أخرى، الإمعان في الخلط بين الشعب الكردي في سوريا وجماعة حزب العمال الكردستاني وتفريخات الحزب في سوريا، ذلك التعمّد في الخلط، جعل كثيرًا من الكرد يفهمون أنّ موقف المعارضة السوريّة السابقة، والسلطة الحاليّة، لم تكن ضد الحزب الأوجلاني، بل كان موقفًا قوميًّا عنصريًّا مناهضًا للكرد وحقوقهم الوطنيّة والقوميّة العادلة في سوريا. وبالتالي، يخشى أن تكون سرديّة هؤلاء الكرد صحيحة ومخاوفهم في محلّها، وأنّ حكومة الشرع ـ محمد البشير، ستكون تتمّة لسلوك حكومات البعث ـ الأسد في تعاملها مع القضيّة الكرديّة وحقوق الكرد في سوريا!
3 ــ صحيح أنّها مرحلة انتقاليّة، وليست دائمة، إلاّ أنّها تبقى مرحلة تأسيسيّة في غاية الأهميّة، يُبتنى عليها ما سيفضي إلى مستقبل سوريا الجديدة. وإذا كانت هذه المرحلة الانتقاليّة مشوبة بلون واحد ديني، عقائدي، مذهبي، قومي وحزبي ـ جماعاتي واحد، فستبقى مُفخّخة بكثير من الألغام التي يمكنها جعل مستقبل سوريا الجديدة على كف عفريت، أو مرحلة محفوفة بكثير من المخاطر الكفيلة بإرجاع سوريا إلى مرحلة جد بدائيّة ومتخلّفة، ربّما تدفع المواطن السوري إلى الترحّم على أيّام البعث!
4 ــ إنّ مساعي سلق وإخراج حكومة الإنقاذ بتلك الطريقة السريعة، طبقًا لمشيئة ومزاج “هيئة تحرير الشام”، وتجاهل كل القوى السوريّة المعارضة لنظام الأسد السابق، تلك المساعي ضربت عرض الحائط كل تلك التطمينات اللفظيّة الكلاميّة الوطنيّة الواردة في البيانات والتصريحات، سواء على لسان أحمد الشرع أو غرفة العلميّات العسكريّة! وعليه، تجاهل القوى السياسيّة العلمانيّة الديمقراطيّة والمدنيّة في إدارة المرحلة الانتقاليّة لأمرٌ في غاية الخطورة والانتكاسة. بالتالي، قياسًا على ما ظهر، يحقّ للمواطن السوريّ
القول: إن طبع “هيئة تحرير الشام” كفصيل جهادي، إسلامي غلب تطبّعها كحزب سوري وطني، يسعى إلى لملمة ما فرّقه وشتته نظام الأسد البائد.
5 ــ استبدال الأناشيد والأغاني كانت تتغنّى بنظام الأسد ـ البعث بالأغاني والأناشيد التي تتغنّى بالمجاهدين والإسلاميين ودولة الخلافة…الخ، في الإعلام الرسمي السوري كان أمرًا في غاية الخطورة الباعثة على الخوف والقلق، وصادقت على سرديّة النظام البائد عن مخاطر البديل، ونسفت كل الصور التي جمعت سوريات (سافرات ومتبرّجات) مع مقاتلين من “غرفة العلميّات” التي استولت على الحكم في سوريا! وأظهرت تلك الأناشيد والأغاني الجهاديّة أنّ تلك الصور والبيانات والتطمينات كانت لزوم تحييد الغرب عن أيّة ردود أفعال عنيفة مناهضة للحكم الجديد في سوريا.
المراحل الانتقاليّة في عمر البلدان والمجتمعات ليست ورديّة، بل في غالبها ضبابيّة، دمويّة، سوداويّة مؤلمة، تتخللها الجرائم والفظائع. من كان يشيطن الثورة على نظام الأسد، طبيعي سيسعى إلى شيطنة مرحلة ما بعد الأسد. هؤلاء على مستوى النخب والعوام، لم يكونوا مع التغيير، ورأوا ويرون نظام الأسد (البائد) أفضل بكثير من المعارضة التي وصلت إلى السلطة. من جهة أخرى، بسقوط النظام لم يعد هناك شيء اسمه ثورة على نظام الأسد. يعني؛ “أهزوجة “الثورة مستمرّة”، آن أوان التخلّي عنها. وإلاّ ستكون ثورة على مَن أو ضدّ مَن؟ الحكومة الانتقاليّة مثلاً؟ وبالتالي، تنويعات (المعارضة السورية) لنظام الأسد، ينبغي عليها مراجعة نفسها وخطابها بعد تحقق الهدف الذي تشكّلت مِن أجله؛ “إسقاط النظام”، وما عاد في الإمكان تقديم نفسها بوصفها معارضة سورية! لأنّ النظام السابق كان يوجد في مواجهتهِ معارضة سابقة، لا تعارض النظام الحالي وليست شريكة فيه، “الائتلاف السوري” و”التحالف السوري”، “المسار الديمقراطي” نموذجا. وإذا أصرّت هذه الكيانات السياسيّة على تقديم وتصدير نفسها على أنّها معارضة، هذا يعني أنّها تعارض سلطة أحمد الشرع وحكومته الانتقاليّة.
حاصل القول: تلك الفرحة بالحريّة وزوال طغمة نظام الأسد ـ البعث، على روعتها وجمالها وتوحيدها للسوريين من كل المشارب الفكريّة والانتماءات القوميّة والمذهبيّة، على أنّ سوريا دخلت حقبة الاستقلال الثانية والجمهوريّة الثالثة، تلك الفرحة للأسف لم تدم طويلاً، بالنظر إلى ما جرى بعد الإعلان عن الحكومة الانتقاليّة، ومظاهر الفلتان الأمني، وطفو العقيدة الجهاديّة السلفيّة على سطح التعاملات اليوميّة…الخ. وآمل أن تكون هذه المخاوف والأسئلة وهذا القلق والحرص على سوريا الجديدة مبالغًا فيها،
وإنّ الغد سيكون أفضل بكثير من الأمس الأسدي، واليوم (الانتقالي) نحو دولة وطنيّة حقيقيّة لامركزيّة، تعدديّة، لكل السوريين، وليست لجماعة دينيّة أو قوميّة أو مذهبيّة بعينها.
تلفزيون سوريا
————————————
“المجلة” تنشر وثائق عن رسائل من إسرائيل إلى مخابرات الأسد
ديسمبر 13, 2024
“المجلة” تنشر وثائق عن رسائل من إسرائيل إلى مخابرات الأسد
تكشف عن آلية تنسيق بين الجانبين برعاية روسية
لندن – “المجلة”
تنشر “المجلة” وثائق مصنفة “سري للغاية” عثر عليها بعد سقوط نظام بشار الأسد، وهي تكشف رسائل موجهة من شخصية إسرائيلية تدعى “موسى” إلى رئيس شعبة المخابرات السورية والذي رفعها بدوره إلى رئيس مكتب الأمن الوطني. أبرز ما كشفته هذه الوثائق هو وجود آلية لتبادل الرسائل بين الجيش السوري والجهات الإسرائيلية برعاية روسيا، “تسمح بسد حاجات الجيش من دون مخاطرة بمواقع وبنى تحتية يستغلها الإيرانيون”. كما تظهر الرسائل رصد إسرائيل لتعاون الجيش السوري مع “حزب الله” وإيران، وتحذره من مواصلة نشاطه معهما وإلا “سيدفع ثمنا غير مسبوق”، مع التأكيد على “عدم الرغبة بالعمل ضدّه”.
وفي الآتي نص هذه الوثائق:
الجمهورية العربية السورية (سري للغاية)
القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة
شعبة المخابرات-مكتب رئيس الشعبة
الرقم/ 2642/1
التاريخ 9/6/2022
السيد رئيس مكتب الأمن الوطني
لاحقا لكتابنا رقم /2254/1 تاريخ 17/5/2022 موضوع رسالة الإسرائيلي (موسى)…
– بتاريخ 8/6/2022 ورد إلى مكتب السيد العماد وزير الدفاع رسالة ع/ط “الواتس آب” من المدعو (موسى) تتضمن (حرفيا) ما يلي:
“مرحبا سيادتك… موسى معك
خلال الأسبوعين الأخيرين لاحظنا هبوط ثماني طائرات في مطار حميميم وصلت من إيران ومن ضمنها أربع طائرات إيرانية لشركة “إيران إير” (25,05- 20,05- 01,06- 04,06) بالإضافة إلى أربع طائرات “إيليوشين 26” من لواء 29 في القوى الجوية السورية (19,05- 21,05- 05,06- 07,06).
بودي التشديد على أنه لاحقا لجهود تعاظم قوة المحور الإيراني فإننا نفهم أنه تم نقل أسلحة أيضا من أجل جهات “قوة القدس” و”حزب الله” على متن طائرات “إيليوشين 76” من لواء 29 في القوى الجوية السورية، ولاحظنا أنه تم نقلها من قبل جهات أمنية عسكرية من اللاذقية إلى المستودعات الواقعة في منطقة القطيفة.
تتم عمليات الشحن هذه بالتعاون بينكم وبين الإيرانيين ومن خلال استخدام مطار حميميم الخاضع لمسؤولية الروس.
لا نريد إيذاء الجيش السوري. علاوة على ذلك في خضم تنظيم الآلية سيسمح لكم بالحصول على متطلباتكم ولكن في حال تابعتم السماح بعمليات نقل الأسلحة هذه لمساهمة “حزب الله” والإيرانيين في زيادة قوتهم فلن نستطيع الوقوف مكتوفي الأيدي وسنجبر على التصرف.
دمتم بخير”.
يرجى الاطلاع
رئيس شعبة المخابرات
نريد أن نشدد على أن وقف رحلات طائرات الشحن الإيرانية لشركتي “كسفيان إير” و”فارس إيرقشم” التي هبطت في مطار نيرب يعتبر خطوات إيجابية ستحمي مصالحكم
“موسى”
الجمهورية العربية السورية (سري للغاية)
القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة
شعبة المخابرات-مكتب رئيس الشعبة
الرقم: /2682/1
التاريخ: 11/6/2022
السيد رئيس مكتب الأمن الوطني
لاحقا لكتابنا رقم /2642/1 تاريخ 9/6/2022 موضوع رسالة الإسرائيلي (موسى)…
– بتاريخ 10/6/2022 ورد إلى مكتب السيد العماد وزير الدفاع رسالة ع/ط “الواتس آب” من المدعو (موسى) تتضمن (حرفيا) ما يلي:
“مرحبا سيادتك- موسى معك.
خلال الأسابيع الأخيرة نلاحظ بشكل واضح إعادة تقديم المساعدة لعناصر “حزب الله” في مجال الدفاع الجوي من قبل عناصر لواء صواريخ الأرض جو 75. نحذركم بأن متابعة هذا التعاون لا يترك أمامنا أي خيار إلا الرد القوي والشديد ضد منظومة الدفاع الجوي بشكل شبيه لما قمنا به عند مهاجمة هذه المنظومة في شهري شباط وآب من عام 2022 عندما قمنا باستهداف مواقع تابعة للواء 116 بسبب عمليات تصليح وصيانة الدفاع الجوي التي تم تنفيذها بمساعدة سورية.. هذا النشاط من قبل “حزب الله” يخدم مصالح “حزب الله” فقط ويمس ويضر بكم! إنكم لا تستفيدون من هذا النشاط بأي شكل من الأشكال بل بالعكس! إنكم الذين تدفعون الثمن وتتحملون المسؤولية الكاملة، يمكنكم الحد من هذا التعاون ومنع إلحاق الضرر بمواقع سورية ونتوقع منكم العمل بهذا الخصوص فورا ومباشرة!”.
يرجى الاطلاع
رئيس شعبة المخابرات
المجلةالمجلة
الجمهورية العربية السورية (سري للغاية)
القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة
شعبة المخابرات-مكتب رئيس الشعبة
الرقم:/ 2769/1
التاريخ: 17/6/2022
السيد رئيس مكتب الأمن القومي
لاحقا لكتابنا رقم /2461/1 تاريخ 9/6/2022 موضوع رسالة الإسرائيلي (موسى)…
– بتاريخ 16/6/2022 ورد إلى مكتب السيد العماد وزير الدفاع رسالة ع/ط “الواتس آب” من المدعو (موسى) تتضمن (حرفيا) ما يلي:
“مرحبا سيادتك… موسى معك
لاحقا لمكالمتنا السابقة لاحظنا أن اعتبارا من يوم 06- 07 تم وقف هبوط طائرات “إيليوشين 76” للواء 29 من القوات الجوية السورية في مطار حميميم.
كما أوضحنا لكم أكثر من مرة على متن هذه طائرات تم نقل أسلحة أيضا من أجل جهات “قوة القدس” و”حزب الله” وهذا بتدخل من جهات أمنية سورية من اللاذقية..
نريد أن نشدد على أن وقف رحلات هذه الطائرات بالإضافة إلى وقف رحلات طائرات الشحن الإيرانية لشركتي “كسفيان إير” و”فارس إيرقشم” التي هبطت في مطار نيرب يعتبر خطوات إيجابية ستحمي مصالحكم.
لا نريد التحرك ضد الجيش العربي السوري، ولذلك استخدام الآلية المنظمة تحت رعاية روسية سيسمح لكم بسد حاجات الجيش دون مخاطرة بمواقع وبنى تحتية يستغلها الإيرانيون لعمليات نقل أسلحة وعلى هذا المنوال يلحقون بكم أضرارا.. باعتباركم الجهة التي تقف وراء وقف رحلات هذه الطائرات فاعلموا بأنكم قمتم بمنع احتكاك نحن في غنى عنه باعتباره احتكاكا لا يرغب فيه الطرفان الاثنان.
رغم كل هذه الأمور فاعلموا أننا نتابع وسنستمر نتابع بشكل وثيق النشاط الجاري عند المحور. ووفقا لذلك إذا لاحظنا إعادة عمليات نقل الأسلحة من أجل تعاظم “حزب الله” والإيرانيين فلا يكون لدينا خيار آخر سوى إعادة التحرك وبشدة كبيرة… مصير الأمر منوط بكم… دمتم بخير”.
يرجى الاطلاع
رئيس شعبة المخابرات
كلما تابعتم تقديم المساعدة إلى الإيرانيين على صعيد نقل الأسلحة على متن طائرات الجيش السوري سوف نضطر أن نعود للعمل ضد هذا الأمر
“موسى”
الجمهورية العربية السورية (سري للغاية)
القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة
شعبة المخابرات-مكتب رئيس الشعبة
الرقم:/ 2254/1
التاريخ: 17/5/2022
السيد رئيس مكتب الأمن القومي
لاحقا لكتابنا رقم /2160/1 تاريخ 11/5/2022 موضوع رسالة الإسرائيلي (موسى)…
– بتاريخ 17/5/2022 ورد إلى مكتب السيد العماد وزير الدفاع رسالة ع/ط “الواتس آب” من المدعو (موسى) تتضمن (حرفيا) ما يلي:
“مرحبا سيادتك… موسى معك
كما تعلم في تاريخ 8/4/2022 أطلقوا/3/ صواريخ شديدة الانحدار باتجاه إسرائيل من أراضي هضبة الجولان بتوجيه “حماس”.
وفي الفترة الأخيرة وبسبب “يوم القدس” ومسيرة الإعلام، نحن نشاهد نشاطات للعناصر الفلسطينية على أراضيكم.
إذا لم يكن من الواضح من هو القائد، يتم تشغيل هذه العناصر بواسطة خالد مشعل، وصالح العاروري، من قبل “حماس”.
نحذركم من احتمال أي نشاط لهذه الأطراف على أراضيكم ونطالب بوقف كل الاستعدادات لاستخدام القوة على أراضيكم… أنتم المسؤولون على ما يحدث في سوريا.
آخر إجراء اتخذناه ضدكم كان مجرد طلقة تحذير… نحن نتابع نشاطاتكم ولا نشاهد أي نشاط من جانبكم بهدف القضاء على هذه الظاهرة.
ننصحكم بالتعامل مع كلامنا هذا على محمل الجد، خذوا بعين الاعتبار أن هجومنا القادم سيكون أقوى وأشد بكثير مما فعلناه حتى الآن وستدفعون أنتم الثمن الباهظ الغير مسبوق”.
يرجى الاطلاع
رئيس شعبة المخابرات
المجلةالمجلة
الجمهورية العربية السورية (سري للغاية)
القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة
شعبة المخابرات-مكتب رئيس الشعبة
الرقم:/ 3067/1
التاريخ: 4/7/2022
السيد رئيس مكتب الأمن القومي
لاحقا لكتابنا رقم /2769/1 تاريخ 17/6/2023 موضوع رسالة الإسرائيلي (موسى)…
– بتاريخ 2/7/2022 ورد إلى مكتب السيد العماد وزير الدفاع رسالة ع/ط “الواتس آب” من المدعو (موسى) تتضمن (حرفيا) ما يلي:
“قمنا هذه الليلة بمهاجمة مواقع يتم استخدامها من قبل إيران و”حزب الله” لغرض إجراء عمليات نقل الأسلحة من إيران إلى سوريا ولبنان بحيث تتبع هذه المواقع لسيد رضى ورجاله وكذلك قمنا بمهاجمة مقر قيادة خاص بوحدة /18050/ حيث تكون كل هذه الجهات مسؤولة عن استلام المعدات التي يتم نقلها من إيران إلى سوريا، علاوة على ذلك قمنا بمهاجمة موقف سيارات يتبع الوحدة /4400/ التي تتناول مجال تعاظم قوة “حزب الله” ومجال التعاون الخاص بالتنظيم وتقوم بنقل أسلحة خطيرة من منطقة حمص إلى لبنان.
إننا نطالبكم بوقف مساعدة الأجهزة المسؤولة عن نقل الأسلحة التابعة لمكتب الدعم والوحدة /18050/ والوحدة /4400/ على نقل الأسلحة إلى سوريا ومنها إلى لبنان وبما في ذلك نقل أسلحة تحت غطاء وتحت اسم تقديم المساعدة الإنسانية.
أردنا أن نمتنع عن الإساءة لكم ولكن في أعقاب إطلاق الصواريخ المضادة للطيران من قبل قوات الدفاع الجوي بشكل غير مسؤول إلى داخل أراضي دولتي مما عرض الطيران المدني وحياة البشر للخطر فقمنا بمواجهة موقع قاعدة إطلاق الصواريخ من نوع 5A-5 في مصياف.
كما أوضحنا لكم سابقاً فإننا نعتبر هذا الأمر بمثابة خط أحمر ممنوع تجاوزه ولذلك سنرد على هذا الأمر والعمل ضده بما أنه يعرض حياة مواطنينا للخطر.
دمتم بخير”.
يرجى الاطلاع
رئيس شعبة المخابرات
لا نريد إيذاء الجيش السوري، ولكن في حال تابعتم السماح بعمليات نقل الأسلحة لـ”حزب الله” والإيرانيين فلن نستطيع الوقوف مكتوفي الأيدي
“موسى”
الجمهورية العربية السورية (سري للغاية)
القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة
شعبة المخابرات-مكتب رئيس الشعبة
الرقم:/ 3314/1
التاريخ: 15/7/2022
السيد رئيس مكتب الأمن القومي
لاحقا لكتابنا رقم /2146/1 تاريخ 6/7/2022 موضوع رسالة الإسرائيلي (موسى)…
– بتاريخ 14/7/2022 ورد إلى مكتب السيد العماد وزير الدفاع رسالة ع/ط “الواتس آب” من المدعو (موسى) تتضمن (حرفيا) ما يلي:
“مرحبا سيادتك… موسى معك
بتاريخ 6/7/2022 قمنا بمهاجمة مخزن أسلحة خاص بإدارة التسليح التابعة لهيئة أركان الجيش في منطقة القطيفة وذلك في ظل تخزين أسلحة إيرانية فيه تم نقلها على متن طائرات شحن من نوع “إيليوشين 76” التابع للواء 29.
لاحقاً لرسالاتنا الأخيرة بهذا الموضوع فلا نرغب في العمل ضد الجيش السوري ولذلك يمكنكم استخدام الآلية المنظمة تحت رعاية الروس مما سيسمح لكم بسد حاجات الجيش دون المخاطرة بمواقع وبنى تحتية يستغلها الإيرانيون لغرض إجراء عمليات نقل أسلحة لمصلحتهم ولمصلحة “حزب الله” مما يسيء لكم ويلحق بكم الأضرار.
في هذا السياق أية خيارات عمل أخرى لا تعتمد على مراقبة ومتابعة دقيقة من قبل الروس كما تم إجراؤه بتاريخ 10/6/2022 بالنسبة للمعدات التي تم تفريغها من الطائرات الروسية التي هبطت في مطار حميميم فإنها تعتبر آلية عمل لنقل أسلحة إيرانية مما يعرض دولتي للخطر، وبالتالي لا يمكننا السماح بذلك.
كلما تابعتم تقديم المساعدة إلى الإيرانيين على صعيد نقل الأسلحة على متن طائرات الجيش السوري سوف نضطر أن نعود للعمل ضد هذا الأمر.
دمتم بخير”.
يرجى الاطلاع
رئيس شعبة المخابرات
الملجةالملجة
الجمهورية العربية السورية (سري للغاية)
القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة
شعبة المخابرات-مكتب رئيس الشعبة
الرقم:/ 3146/1
التاريخ: 6/7/2022
السيد رئيس مكتب الأمن القومي
لاحقا لكتابنا رقم /2067/1 تاريخ 2/7/2022 موضوع رسالة الإسرائيلي (موسى)…
– بتاريخ 6/7/2022 ورد إلى مكتب السيد العماد وزير الدفاع رسالة ع/ط “الواتس آب” من المدعو (موسى) تتضمن (حرفيا) ما يلي:
“مرحبا سيادتك… موسى معك
قمنا هذه الليلة 6/7/2022 بمهاجمة مخزن أسلحة خاص بإدارة التسليح التابعة لهيئة أركان الجيش والقوات المسلحة في منطقة القطيفة.
لاحقاً لرسالتنا الأخيرة من تاريخ الـ16/6/2022 فلا نرغب في التحرك ضد الجيش السوري، ولذلك يمكنكم استخدام الآلية المنظمة تحت رعاية الروس مما سيسمح لكم بسد حاجات الجيش دون المخاطرة بمواقع وبنى تحتية يستغلها الإيرانيون لغرض إجراء عمليات نقل أسلحة لمصلحتهم ولمصلحة “حزب الله” مما يسيء لكم ويلحق بكم الأضرار.
رغم تحذيراتنا الكثيرة لكم فإنكم تتابعون نقل الأسلحة من إيران إلى سوريا على متن طائرات “إيليوشين 76” التابعة للواء /29/ من القوات الجوية السورية والتي تهبط في مطار حميميم تحت غطاء تقديم المساعدات الإنسانية إلى سوريا. في هذا السياق يتم نقل هذه الأسلحة أيضاً إلى “حزب الله”.
في حال لم توقفوا تقديم المساعدة إلى الإيرانيين على صعيد نقل الأسلحة على متن طائرات الجيش السوري فسنضطر إلى العمل ضد هذا الأمر بشدة كبيرة وحتى أكثر من أي وقت آخر سابقاً.
دمتم بخير”.
يرجى الاطلاع
رئيس شعبة المخابرات
إن التعاون مع “حزب الله” يضر بالجيش السوري وعناصره وأنتم تدفعون الثمن
“موسى”
الجمهورية العربية السورية (سري للغاية)
القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة
شعبة المخابرات-مكتب رئيس الشعبة
الرقم:/ 2450/1
التاريخ: 29/5/2022
السيد رئيس مكتب الأمن القومي
لاحقا لكتابنا رقم /2254/1 تاريخ 17/5/2022 موضوع رسالة الإسرائيلي (موسى)…
– بتاريخ 29/5/2022 ورد إلى مكتب السيد العماد وزير الدفاع رسالة ع/ط “الواتس آب” من المدعو (موسى) تتضمن (حرفيا) ما يلي:
“مرحبا سيادتك… موسى معك
قبل قليل قمنا بقصف أهداف للتخزين تابعة لقيادة الجنوب في دمشق.
إضافة إلى ذلك قمنا بقصف المعسكر التدريبي الذي يتم استخدامه من قبل ملف الجولان والذي يترأسه أبو حسين ساجد لإجراء تدريبات وبناء القوة من أجل تعزيز القدرات للمساس بدولتي.
نشدد على أننا لن نقبل تواجد حاج هاشم وأفراده من منطقة جنوب سوريا.
وأن التعاون مع “حزب الله” يضر بالجيش السوري وعناصره وأنتم تدفعون الثمن.
كل دعم من قبلكم للمحور ولـ”حزب الله” بشكل يمكن أن يضر دولتي سوف يكون الرد عليه قاسيا.
دمتم بخير”.
يرجى الاطلاع
رئيس شعبة المخابرات
————————————–
==================