سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

—————————-

على أبواب مرحلة جديدة.. اثنا عشر يومًا هزّت سورية

14 كانون الأول/ديسمبر ,2024

شكّلت الأيام الاثني عشر، بين 27 تشرين الثاني و8 كانون الأول 2024، تطورًا مفاجئًا في نتائجه التي لم تكن متوقعة ولا مأمولة لدى معظم السوريين، وقد وضعت تلك التطورات حدًا لاستبداد بدأ مع الانقلاب العسكري ليل 8 آذار 1963، وأخذ أبعادًا أكثر سلبية منذ استيلاء حافظ أسد على السلطة في تشرين الثاني 1970، ثم ازداد الوضع سوءًا بعد توريثه السلطة لولده، فاقد الأهلية، بشار الأسد، في تموز سنة 2000.

لقد سقط نظام الأسد أخيرًا، وتحقّق بذلك حلم السوريين بالحرية التي خرجوا منادين بها في آذار 2011، ويأمل السوريون أن يكون الاستبداد قد ذهب إلى غير رجعة، تحت أي شكل أو مسمى أو زعم كان، سواء أكان قوميًا أم دينيًا أم ثوريًا. وفتح سقوط نظام الاستبداد أبواب المستقبل أمام سورية، بعد أن أغلقها سنين طويلة.

السقوط السريع لنظام الأسد يؤكد هشاشة قواته التي بدت في معظم المعارك عاجزةً عن المواجهة والقتال، حيث استسلمت وتركت أرض المعركة أمام قوات المعارضة الزاحفة من شمال غرب سورية باتجاه حلب ثم حماة فحمص فدمشق، خلال 12 يومًا فقط، وأبرزت مقدار ضعف نظام الأسد واعتماده الكامل على الدعم الروسي والإيراني الذي انقطع عنه أخيرًا لأكثر من سبب، فهوى بسرعة مدهشة، ما قلّل عدد المعارك والضحايا. وهكذا حرّر الشعب السوري نفسه بنفسه، من دون الاعتماد على تدخل أجنبي مباشر، كما في العراق وليبيا.

لقد وضع هذا التغيير سورية على أعتاب مرحلة جديدة كليًا، مرحلة تحتمل أكثر من وجهة، وأكثر من احتمال في تطورها القادم، وتواجه سورية كمًّا كبيرًا من التحديات الصعبة التي تتطلب كثيرًا من الرشد والعمل والتعاون بين جميع السوريين لمواجهتها وتجاوزها.

ما يزال من المبكّر تقديم تقييمات وإطلاق أحكام قطعية، ومن الحكمة عدم نشر التشاؤم في لحظات تاريخية كهذه، ولكن ثمة حاجة لتناول الاحتمالات والمخاطر، كي يتلمّس السوريون مستقبلهم، فهذه مصلحة شعب ومستقبل بلد، ومن الضروري تقديم رأي ورؤية، بما يُعتقد أن سورية تحتاج إليه الآن، وكذلك ما تحتاج إليه الجماعة التي أمسكت بزمام الأمور أخيرًا. فالأمر متعلّق بمستقبل شعب عانى طويلًا من أهوال الاستبداد، وبدولة ضعيفة المؤسسات، يواجهان حالة من اللايقين، على الرغم من الأجواء الاحتفالية المستحقة.

أولى إجراءات السلطة الجديدة:

ما يعدّ مؤشرًا أوليًا إيجابيًا هو السلوك المسؤول والسمة العامة الإيجابية الهادئة البعيدة عن الثأر والانتقام، التي اتسمت بها معالجات قوات غرفة “ردع العدوان” التي سيطرت على المدن الرئيسية في سورية، حلب وحماة وحمص ودمشق واللاذقية، وحرصها على تحقيق الاستقرار وضبط الأمن ومنع الفوضى، بالرغم من وجود بعض التجاوزات التي تحتاج إلى مزيد من الضبط، ونجحت في طمأنة السوريين وكسب ثقة الناس، وغاب عنها سلوك الانتقام، وقامت بإجراءات وقدّمت تطمينات لقيت ارتياحًا لدى السوريين، مثل الحرص على حماية مؤسسات الدولة والأملاك العامة والخاصة، والسعي لتأمين الخدمات العامة، وإعادة المؤسسات العامة والأسواق إلى عملها الطبيعي، وتنظيف السجون من عشرات آلاف المعتقلين، وإعلان إجراءات إخراج الفصائل من المدن، وتولّي الشرطة ضبط الأمن داخل المدن والبلدات، والتشديد على مكافحة الفساد، وتقديم وعود بحل مشكلة الكهرباء خلال شهر، وتصريحات أحمد الشرع بإمكانية حلّ “هيئة تحرير الشام”، في حين اتسم سلوك العديد من أفراد فصائل “الجيش الوطني” في غرفة “فجر الحرية” بالتجاوزات على الأفراد والأملاك العامة والخاصة، إضافة إلى بعض الأفراد الطامعين في استغلال الظرف الحالي، للقيام فكانت موضع انتقادات كثيرة.

وبالرغم من أنّ السلطة الواقعية الجديدة التي يقف على رأسها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا) لم تتخذ ما يكفي من الإجراءات بعد، بما يظهر توجهها الفعلي، وعلى الرغم من أن تصريحات أحمد الشرع وأحاديثه تعدُّ مطمئنة، فثمة حذرٌ من أن تكون “هيئة تحرير الشام” هي من يتصدر المشهد. ويقف على رأس الفريق المسيطر على السلطة اليوم أحمد الشرع الذي كان حتى الأمس يدعى “أبو محمد الجولاني”، وكانت الهيئة تسمى “جبهة النصرة”، وكانت في الماضي تبايع تنظيم القاعدة، بعد أن تمرّدت على “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق”، والقوة العسكرية التي تتشكل منها فصائل وأفراد غرفة عمليات “ردع العدوان” هي سلفية جهادية، ويعدّ النظام الذي أقيم في إدلب أقرب إلى الإمارة الإسلامية، وجميع الكوادر التي تتواصل مع المجتمع السوري تنتمي إلى ذلك الفكر. وقد قدّم أحمد الشرع خطابه الأول، يوم سقوط النظام (الأحد 8 كانون الأول 2024)، من داخل المسجد الأموي، وليس من ساحة عامة يجتمع فيها مختلف السوريين، وأهدى “هذا النصر” إلى الأمة الإسلامية، ولم يُهده إلى الشعب السوري، وإلى أمهات شهداء الثورة السورية، مما جعل البعض يسأل: هل يمكن لأحمد الشرع أن يخرج من ثوب أبو محمد الجولاني؟ لكن ثمة دلائل إيجابية مثل دعوته “الشعب السوري العظيم” للاحتفال بسقوط النظام، يوم الجمعة 13 كانون الأول/ ديسمبر الجاري.

محاولات الطمـأنة جيدة وتُستقبل بارتياح. ولكن الحقوق المرساة في القانون والدستور أضمن من الطمـأنة التي تأتي من طرف سياسي فاعل إلى متلقين مستقبلين، لا إلى مواطنين أصحاب حقوق تحترمها السلطة.

وسّع الشرع صلاحيات حكومة الإنقاذ في إدلب لتصبح حكومةً لعموم سورية، وهي حكومة من لون واحد من دون إشراك أي أطراف أخرى، ما أثار التساؤل عن نموذج إدلب: هل سيكون هو النموذج الذي ستحكم به سورية؟ ويتخذ الشرع قراراته منفردًا حتى الآن، ويمكن تبرير ذلك بالحاجة الملحّة إلى ملء الفراغ والتنفيذ وسرعة ضبط الأمن وضمان استقرار السلطة الجديدة من جهة، وضرورة تأمين مستلزمات الحياة وتحسين الخدمات لكسب ثقة السوريين من جهة أخرى. وثمة مسألة ما تزال غير واضحة: هل حكومة الإنقاذ هذه هي لتصريف الأعمال إلى حين تشكيل حكومة انتقالية قريبًا، أم هي الحكومة الانتقالية التي ستبقى الى حين استكمال الانتخابات. ومن جهة أخرى، صرّح الشرع يوم 11 كانون الأول بأنه سيؤسس حكومة تكنوقراط تستوعب مختلف كفاءات الشعب السوري، وهذا أفضل من حكومة ذات لون سياسي واحد، بالرغم من أن التكنوقراط لا يحلّ محل التمثيل. ولم يعلن الشرع أي برنامج بعد، ولم يتحدث عن تشكيل أي هيئة تمثيلية انتقالية تمثل مختلف أطياف الشعب السوري.

ثمة معايير حدّدها الشعب السوري تشكّل بوصلةً لتوجيه سلوك أي قيادة جديدة لسورية بعد زوال استبداد الأسد، فقد صدحت حناجر السوريين “حرية … حرية … حرية”، وهي تعني الحريات العامة في التنظيم والتعبير وقيام نظام سياسي ديمقراطي، كما صدحت حناجرهم بشعار “واحد.. واحد.. واحد.. الشعب السوري واحد”، وهي تعني المواطنة المتساوية لجميع السوريين، لا أقليات وأكثريات ثابتة بحكم المولد، فالجميع سوريون متساوون، والأقلية والأكثرية مفهوم سياسي، لا مفهوم ديني أو طائفي، مع ضرورة إيجاد السبل لتمثيل التنوع، أي عدم حرمان مواطنين من المشاركة لأسباب إثنية أو جهوية أو بسبب الانتماءات الدينية والمذهبية. والشعب السوري بعد كل تلك التضحيات التي قدّمها يستحق أن يحكم نفسه بنفسه في نظام حكم قائم على الحقوق والحريات العامة في التعبير والتنظيم، وأن تسعى القوى والفصائل الثورية إلى إيصال الشعب لغاياته.

إن هذا الانتصار في 8 كانون الأول 2024 هو تتويجٌ لنضالات لمناضلين ضد استبداد البعث-الأسد، دفعوا أثمانًا كبيرة منذ 1963، وعلى الرغم من الجهد العظيم الذي قامت به غرفة ردع العدوان وغرفة فجر الحرية، وهما صاحبتا الفضل الأكبر في الإعداد والتنظيم وإطلاق الطلقة الأخيرة على نظام الأسد وإسقاطه، فإنّ الوصول إلى هذه النتيجة التي انتظرها الشعب السوري طويلًا قد أسهم فيه أيضًا ملايين السوريين، ولا سيّما بعد انطلاق الثورة 2011، بدءًا من الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع في مواجهة الرصاص، مطالبين بإسقاط النظام، والذين اضطروا إلى حمل السلاح نتيجة إيغال النظام في دم السوريين، وسقط منهم أكثر من نصف مليون قتيل، وقرابة مليوني جريح، فضلًا عن مئات آلاف المعتقلين والمخفيين قسريًا، وعانى نحو 13 مليون تبعات النزوح الداخلي أو اللجوء إلى الخارج. ويأمل أبناء وبنات الشعب السوري كلّه بأن تمنحهم السلطة الجديدة التمثيلَ وحقّهم بالمشاركة.

تحديات كثيرة:

تواجه سورية اليوم وغدًا تحديات هائلة لإعادة الإعمار المادي والمجتمعي، لا يمكن مواجهتها بدون مشاركة الجميع، وأوّل هذه التحديات استعادة وحدة التراب السوري، واستعادة الأمن والاستقرار، وحظر وجود تنظيمات مسلحة خارج سلطة الدولة، واحتكار الدولة للسلاح الشرعي، ضمن شرط وحدة سورية ووحدة أراضيها، والتفاهم على سحب القوات الأميركية من شرق شمال سورية،وإعادة الإعمار المادي لما دمرته الحرب، إضافة إلى التركة الثقيلة التي خلفها وراءه نظام الأسد على مدى أربعة عقود قبل الحرب، فضلًا عن أعباء إعادة الإعمار المجتمعي، بعد أن ألحقت الحرب بالمجتمع السوري شروخًا عميقة، وتطبيق العدالة الانتقالية ومحاسبة كبار المجرمين، والتسامح مع من بقي.

وتواجه سلطات المرحلة الانتقالية تحدّي إعادة هيكلة الجيش الوطني، وليس حلّه، كما حدث في العراق، وتحدي تضخّم أعداد المقاتلين، سواء أكانوا أفراد جيش النظام أم أفراد فصائل المعارضة في غرفة ردع العدوان وغرفة فجر الحرية، ومقاتلو (قسد) وغيرهما. ومن دون استيعاب الفائض منهم في وظائف وأعمال تؤمن لهم دخل، لن يتخلوا عن أسلحتهم.

يشكّل تحدي إعادة بناء مؤسسات الدولة واستمرار عملها، وإعادة الحياة اليومية للمجتمع السوري، تحديًا صعبًا آخر، إذ يتطلب تأمين الماء والغذاء والدواء والكهرباء، كما يتطلب العودة السريعة للمدارس والجامعات، وتوفير وسائل النقل والاتصال. ولا تبدأ سلطات المرحلة الانتقالية من الصفر في هذه المجالات، فثمة مؤسسات قائمة، وكفاءات ومقدرات سورية يمكن تحشيدها ضمن الجهود الوطنية في مرحلةٍ يمكن فيها إقناع الجميع بخدمة الوطن في أجواء من الحرية.

يُقدّر تمويل إعادة الإعمار بأكثر من مئة مليار دولار، لا يكاد يتوفّر منها شيءٌ في خزينة الدولة السورية التي أهدرها الأسد ونظامه، وسيتطلب تأمين هذه الأموال التي ستموّل إعادة الإعمار، التي ستستغرق أكثر من عقد، اكتساب ثقة السوريين في الداخل والخارج، وجذب رجال الأعمال السوريين وبعض الدول الصديقة للمساهمة في اكتساب ثقة دول مجلس التعاون، وبناء علاقات إقليمية جديدة، واعتراف المجتمع الدولي وثقته، ورفع العقوبات، وضمان تقديم المساعدات.

إن القدرة على مواجهة هذه التحديات الكثيرة تتطلب مشاركة سورية واسعة، وتتطلب علاقات حسنة مع الدول العربية ودول الإقليم وأقطاب المجتمع الدولي وسلطة شرعية لديها برنامج مجمل.

تحتاج سورية التي تواجه تلك التحديات الهائلة إلى مشاركة جميع السوريين، من أجل مواجهة التحديات وإعادة بناء سورية، وتتطلب مشاركة الجميع سيادة مناخات من الحريات العامة في التعبير والتنظيم، بما فيها من حرية الاعتقاد وقيم المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، وتتطلب وجود نظام تعددي يقوم على تداول السلطة سلميًا، من خلال انتخابات ديمقراطية حديثة يجب أن تأتي في حينها من دون تسرّع، ضمن برنامج معلن للسلطة الجديدة التي تقلدت الأمور بحكم الأمر الواقع.

الحاجة إلى سلطة تكتسب شرعيتها وتعلن برنامجها:

تعدّ الشفافية والشرعية ركنين أساسيين في تكوين الثقة بالسلطة الجديدة، في حين يخلق الغموض حالة من الشك وعدم اليقين، حيث لم تعلن السلطة الجديدة آلية اتخاذ القرار ولا الهيئات أو المؤسسات التي تصدر القرارات.

من جهة أخرى، يتوفر للسلطة الجديدة أساس قانوني أممي سيُكسبها شرعية أممية في لجوئها إليه، وقيامها على أساسه، وهو القرار 2254 الذي رفض النظام قبوله عمليًا، ويمكن أن تعلن السلطة الجديدة، التي استولت على زمام الأمور في سورية، الالتزام بما جاء فيه، وهو ينص على وحدة سورية واستقلالها وسلامتها الإقليمية وطابعها غير الطائفي، وينصّ على الانتقال السياسي تحت قيادة سورية، وفي ظل عملية يمتلك السوريون زمامها، وإقامة هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحية، وحكم ذي مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وصياغة دستور جديد، وانتخابات حرة ونزيهة تجرى، وفق الدستور الجديد، في غضون 18 شهرًا تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة، وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين تحق لهم المشاركة، ومنهم أولئك الذين يعيشون في المهجر، وتهيئة الظروف المواتية للعودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخليًا إلى مناطقهم الأصلية، وتأهيل المناطق المتضررة، وفقًا للقانون الدولي، ويحث الدول الأعضاء على تقديم المساعدة في هذا الصدد. ولا نقول إن على السلطات السورية تنفيذ الاتفاق بحذافيره، فلم يعد النظام السابق طرفًا، ولا حاجة إلى وسطاء دوليين، ولكن يمكن لسلطات المرحلة الانتقالية أن تستند إليه، وأن تلتزم بروح القرار، ولا سيما ما يتعلق بهيئة حكم انتقالية غير طائفية وذات مصداقية وصياغة دستور جديد يكفل حقوق السوريين وحرياتهم.

على هذا الأساس، يمكن أن تبادر السلطة الجديدة في سورية إلى إعلان برنامجها، وهي لم تعلنه بعد، بما يطمئن السوريين أولًا، والعرب والدول الإقليمية والمجتمع الدولي ثانيًا، على أن يتضمن عقد مؤتمر وطني، يسمى أعضاؤه بالتوافق، بحيث يمثّل أوسع قطاعات الشعب السوري، وتنشأ عنه جمعية وطنية، يصدر عنها إعلان دستوري مؤقت، ينص على الالتزام بوحدة سورية واستقلالها، وتنوعها الثقافي والعرقي والديني، والتأكيد على مدنية وديمقراطية الدولة، وتداول السلطة سلميًّا، وسيادة القانون والمساواة والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان وفقًا للأعراف الدولية، وتشكيل مجلس عسكري يدمج فصائل المعارضة، ويضمن حلّها تمامًا، ويضمّ ضباطًا منشقين وضباطًا من جيش النظام ممّن لم تتلوث أيديهم بدماء السوريين، وتشكيل حكومة مؤقتة انتقالية، بالتشاور مع القوى السياسية في الداخل والخارج، تتولى السلطة التنفيذية، إلى حين إصدار دستور جديد، وهذه الجمعية تضع مشروع الدستور الجديد وتعرضه على الاستفتاء العام، بحيث تلتقي الشرعية الثورية مع الشرعية الأممية، وتضع قانونًا للانتخابات وتشكل هيئة انتخابات، وتضع قانون أحزاب جديدًا وقانونًا للمنظمات النقابية والجمعيات، وتدعو بعد ذلك إلى انتخابات وتهيء الجوّ لها، وتضمن سلامتها مع دعوة منظمات دولية للإشراف عليها، على أن يحرص البرنامج على الحفاظ على المؤسسات الوطنية القائمة، وإنشاء آليات رقابة مستقلة لضمان احترام الحقوق المدنية والسياسية، وتشكيل مجلس لإعادة الإعمار، والبدء بمسار عدالة انتقالية، من خلال تشكيل هيئة خاصة بها، وتشكيل مجلس أعلى للقضاء ومحاكم من قضاة يتصفون بالنزاهة والحياد، ووضع خطة لتعويض المتضررين، وكشف مصير المفقودين، وإلغاء عدد كبير من القوانين والتشريعات والأحكام التعسفية التي أصدرتها السلطة السابقة على مدى 60 عامًا.

في هذه المرحلة، هناك مهام وتحديات اقتصادية لا بدّ من العمل عليها، إذ ينبغي على المصرف المركزي السوري أن يعلن سريعًا سياسة نقدية تتضمن تثبيت مبادئ أساسية كي تسود الليرة السورية في كل سورية، ومن ضمنها مناطق إدلب وشمال سورية التي كانت تتعامل بالليرة التركية، كما ينبغي على كلّ البنوك الحكومية أن تعود إلى العمل، وأن يكون هناك إعلان مبادئ أساسية عن السياسات النقدية وسعر الصرف القابل للتداول، وليس كما كان في زمن حكم الأسد، وأن يبدأ العمل بدفع رواتب الموظفين بالليرة السورية، حتى يساهم ذلك في الاستقرار، والدخول مع (قسد) في مفاوضات ضمن إطار وطني يضمن احترام وحدة سورية وسيادتها. والتفاوض حول نموذج إدارة محلية يحترم التنوع الثقافي ويمنع النزعات الانفصالية. والتنسيق مع دول الجوار ودول اللجوء لتأمين عودة طوعية وآمنة للاجئين السوريين. ووضع برنامج لإعادة إطلاق الاقتصاد الوطني ودعوة المستثمرين والصناعيين والتجار السوريين الذين غادروا البلاد خلال السنوات الماضية بالعودة والمساهمة في إعادة إعمار سورية، والعمل على استمرار الدعم الإنساني للمناطق المتضررة، ووضع برنامج لإعادة الاعمار، والانتفاع بالسوريين المهاجرين الدياسبورا السورية في إعادة بناء سورية الجديدة.

لن تكون التغييرات في سورية محلية فقط، بل ستعيد تشكيل التوازنات الإقليمية، وتواجه سورية المستقبل تحديات كبيرة، لكن تجاوزها ليس مستحيلًا إذا ما توفرت الإرادة السياسية والخطط الاستراتيجية. النجاح في تحقيق الاستقرار والاعتراف الدولي يعتمد على قدرة القيادة الجديدة على توحيد الجهود الوطنية، والتعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية لضمان مرحلة انتقالية ناجحة تحقق تطلعات الشعب السوري في الحرية والعدالة والتنمية.

الضمانة للسير للأمام:

فاعلية الناس وفاعلية المجتمع المدني، من أحزاب ونقابات وجمعيات، وروابط وانتشار الثقافة الديمقراطية والوعي الديمقراطي هي الضمانة. ويعدّ توفر الحريات العامة في التعبير والتنظيم المعيارَ والمقياس لضمان عدم عودة الوصاية على الشعب، والشرعية تستمدّ من الشعب، فقدذهب استبداد الأسد، ويريد السوريون أن يكون ذهاب الاستبداد بكل صوره إلى غير رجعة، تحت أي شعار أو مسمّى. وأن تمثل السلطة الشعب، وتلتزم بالحقوق والحريات العامة. إن مناخ الحريات العامة وفاعلية المجتمع المدني ترفع من قدرة المجتمع السوري على الإنتاج المادي والروحي وتحقيق الازدهار والتقدّم.

مركز حرمون

————————–

منمنمات فكرية في مرحلة “ما بعد سوريا الأسد”/ د. حسام الدين درويش

14 كانون الأول 2024

“المستقبل في سوريا مفتوح على احتمالات (إيجابية) كثيرة للمرّة الأولى منذ سنوات طويلة” هذا ما يقوله الباحث والمفكّر السوري حسام الدين درويش، دون أن يخفي مخاوفه في الوقت ذاته، حيث “يمكن لما حصل ويحصل في سوريا في الفترة الحالية أن يصبح مشعل نورٍ يهتدي به آخرون (في العالم العربي)، أو أن يصبح شرارة نار تحرق أيّ رغبة في الثورة”.

معظمنا فوجئ بالأحداث العظيمة المتسارعة والسقوط السريع للنظام الأسدي إلى الجحيم. ولم يكن أحد (حرفيًّا) يتوقع أن يحصل ما حصل، بهذه السرعة والطريقة. ولم يجد كثيرون عيبًا في أن يعترفوا بتفاجئهم وبأن يراجعوا تنظيراتهم وتقييماتهم للأوضاع و(بعض) الأطراف المنخرطة فيها. واعترفت بعض أهم الدول المؤثرة في سوريا (روسيا، الولايات المتحدة الامريكية، إيران، … إلخ) بأنها تفاجأت بما حصل وبكيفية حصوله. في المقابل ثمّة حفنة قليلة من المنظرين النخبويين و/ أو أصحاب المواقف السياسية الجامدة ما زالوا يصرّون أنهم كانوا دائمًا على حق على الرغم من أنّه ثبت مرارًا وتكرارًا، أنّهم كانوا على خطأ، بل على خطيئة أيضًا.

المستقبل في سوريا مفتوح على احتمالات (إيجابية) كثيرة للمرّة الأولى منذ سنوات طويلة، وبعد أكثر من 54 عامًا من حكمٍ أسديٍّ لم يشهد التاريخ السوري (الحديث) جرائم تضاهي جرائمه، كمًّا وكيفًا. وقد أصبح الوضع في السنوات الأخيرة سيئًا ومتجمدًا إلى درجة فقد كثيرون أو كادوا أن يفقدوا لأمل في حصول أي تحسن. لكن مي سكاف، إحدى أبرز أيقونات الثورة السورية، كانت على حق، حين قالت: “لن أفقد الامل، لن أفقد الأمل، إنها سوريا العظيمة، وليست سوريا الأسد”. ويبدو أنّ أمالها وأماني (معظم) السوريات والسوريين في طريقها إلى التحقّق.

فكرة موجزة عن “سوريا الأسد”

أرى، مع كثير من السوريات والسوريين، أنّ ما حصل في سوريا منذ السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني، إيجابي رغم كلّ السلبيات القائمة والمخاوف المشروعة. ولفهم هذا الرأي ينبغي ألا نقارن الوضع الحالي بالوضع المثالي أو الأمثل المتمثّل في قيام دولة سورية ديمقراطية تحمي الحريات الفردية لجميع مواطناتها ومواطنيها بغضّ النظر عن انتماءاتهم الجندرية او الإثنية أو الدينية أو الطائفية، وتكون دولة مواطنة وقانون منصف إلخ، لأنّ الوضع الحالي لسوريا للسوريات والسوريين كارثي إذا قارناه بالوضع المثالي المذكور.

لفهم هذا الرأي ينبغي فهم وضع سوريا في ظلّ حكم النظام الأسدي خلال الأربع والخمسين سنة الماضية عمومًا، وخلال السنوات الأخيرة خصوصًا. فقد قتل هذا النظام مئات الآلاف من السوريات والسوريين وهجّر الملايين منهم، والغالبية الساحقة والمسحوقة من السوريات والسوريين التي بقيت في سوريا تحت سيطرته كانت تعاني الأمرين من كلّ النواحي، ووصل الوضع الاقتصادي إلى درجة من السوء بحيث إن راتب الموظف الحكومي أصبح لا يكفيه لإطعام عائلته لبضعة أيام على أبعد تقدير، إضافة إلى فقدان أبسط مقومات الحياة من كهرباء ووقود وقدرة على شراء أتفه المستلزمات الضرورية.

وفي السنوات الاخيرة، ازداد الطابع المافيوي للنظام وتكاثرت عصابات الأمن والشبيحة التي تفرض الإتاوات وتمارس عمليات الخطف والسلب والنهب والقتل والقمع من دون حسيب أو رقيب. وكان هذا الوضع مستقرًّا أو جامدًا أو مجمدًا في السنوات الأخيرة بطريقة فقد معها الكثيرون أي أمل وأصبحوا في حالة مواتٍ صامتةٍ. أما النظام فأصبح اقتصاده يعتمد على تصنيع الكبتاغون وما يشابهه من مواد مخدرة وتصديره، إضافةً إلى عمليات نهب الدولة وسلب المجتمع. والطريف أن بعض العروبيين يؤيدونه رغم أنه حليف أو تابع لإيران التي فعلت ما فعلت في العراق واليمن وسوريا ولبنان وعاثت في هذه البلدان تدميرًا وفسادًا. كما يؤيده بعض أنصار المقاومة والممانعة رغم أنّه لم يطلق أي طلقة على إسرائيل حتى بعد تعرّضه وتعرض سوريا لعشرات، بل مئات، الغارات والاعتداءات الإسرائيلية، في السنوات القليلة الماضية فقط، وكان حامي حدودها، واقتصر على ترديد الشعارات الفارغة من أيّ مضمون فعلي. وربما يكفي أن نذكر للمتعاطفين، بحسن نية، مع هذا النظام بوصفه نظامًا علمانيًّا وممانعًا، أنه، خلال العقد الأخير فقط، قتل من السوريين (والفلسطينيين واللبنانيين)، المتدينين والعلمانيين، أضعاف ما قتلته إسرائيل وفرنسا وداعش وكلّ التنظيمات الإسلامية وغير الإسلامية، منهم، منذ أكثر من قرن …!

الشعار الوحيد والأصدق الذي رفعه هذا النظام، ونفذه بكل طاقته هو “الأسد أو نحرق البلد”. وإضافة إلى إسقاط النظام الأسدي، فإنّ الإيجابية الأكبر في الحراك الحالي هو وجود هذا الحراك أو الحركة وانتهاء حالة الموات البطيء والاستقرار المميت. وفي هذه الحركة كلّ البركة. وإضافةً إلى تحرّر كثير من السوريات والسوريين من حكم النظام الأسدي وإمكانية تحسّن أحوالهم المعيشية والاقتصادية والأمنية، فتحت التغيّرات الأخيرة المجال لعودة مئات الآلاف وربما ملايين السوريات والسوريين إلى بيوتهم وبلداتهم ومدنهم التي تمّ تهجيرهم منها منذ سنوات بدت أنها أطول من الدهر. وبعض هؤلاء النازحين كانوا وما زالوا يعيشون في خيام ومخيّمات تفتقر إلى البنية التحية للحياة البنيآدمية. فلنتصور فرح هؤلاء بعودتهم إلى بيوتهم ومدنهم.

الفرح الذي أظهره كثير من السوريات والسوريين في الأسبوعين الأخيرين لم يكن يتعلق بكونهم وجدوا بديلًا مناسبًا للنظام الأسدي، بل كان تعلق بوجود إمكانية فعلية للتخلص من حكم نظام الأسد، بعدما كاد كثيرون منهم أن يفقدوا الأمل ويفقدوا حياتهم من جراء ذلك. لكن ذلك كله لا ينفي أنّ البوصلة التي، كان وما زال، يتمسك بها سوريات وسوريون كثير هي بناء دولة مواطنة للجميع ونظام سياسي ديمقراطي يحفظ للجميع كراماتهم وحرياتهم في إطار مؤسسات ملتزمة وقوانين منصفة.

“الله يعطينا خير هالفرح/ هالضحك”

هذه مقولة منتشرة في كثير من بلاد “العالم العربي”، وقد كانت في بالي وبال سوريات وسوريين كثر حتى في ذروة فرحي بأخبار سقوط النظام الأسدي. وهناك إدراك أنّ نتائج حكم العائلة الأسدية لسورية التي استمرت لأكثر من نصف قرن لن تنتهي وأن بعضها سيتفاقم بعد إسقاط هذا الحكم. وهذا ما حصل.

فمن جهةٍ، ما زالت الفرحة العارمة تملأ قلوب ملايين السوريات والسوريين والانتشاء بزوال هذا النظام هو السائد بقوّة، وخصّص معظمنا مكانًا خاصًّا في قلبه للفرحة بتحرير المعتقلين (السياسيين) وعددهم بآلاف تصل إلى أكثر من أصابع اليدين. وخرج معتقلون بعد سجن استمر لسنوات طويلة بلغت عند عدد منهم 42أكثر من أربعين عامًا. واستمرت عملية تنظيف المدن والقرى السورية من الأصنام والصور الأسدية التي تملأ أرجاء سوريا في ترسيخ لثقافة عبادة الفرد التي كان النظام الساقط ينشرها. وهناك الكثير الكثير من المبادرات والاخبار الإيجابية، والقصص الفردية والجماعية في هذا الخصوص.

ومن جهةٍ أخرى، سقط النظام وتوقفت بعض مؤسساته/ مؤسسات الدولة عن العمل، لأنّ الرئيس الساقط هرب من دون أن يتواصل حتى مع أعضاء جيشه ومؤسسات الدولة والحكومة. وقد أدى ذلك إلى فراغًا كبيرًا وشكّل تحديات كبيرة تتضمّن تهديدات خطيرة على الدولة والمجتمع ومستقبلهما. فمن ناحية أولى هناك عدد من عمليات السطو والنهب والتعفيش، وحرق مؤسسات الدولة وإتلاف ملفات ووثائق مهمّة وضرورية (كحرق مبنى إدارة الجوازات) ومباني المربع الأمني في دمشق. وهذا العدد كبير نسبيًّا، لكنه يبقى في الحدود المتوقعة و”الطبيعية”، في مثل هذه السياقات. ومن ناحيةٍ أخرى، هناك ازدياد في الاعتداءات الإسرائيلية المتمثلة في اجتياح لبعض الأراضي السورية (القنيطرة وجبل الشيخ) ومئات الغارات الجوية، وقصف مكثف للكثير من الواقع العسكرية، لأنها تخشى وقوع بعض الأسلحة “الاستراتيجية” في يد قوى أمر الواقع اليوم، ولا تأمن جانب هذه الجماعات كما كانت تأمن جانب “النظام الساقط”.

بعد أن سارت سوريا لمدة طويلة في طريق عمودي واحد نحو هاوية لا قرار لها، مع النظام الأسدي الساقط، أصبحت الآن في مفترق طرق، بعضها بالغ الإيجابية وبعضها الآخر بالغة السلبية. الآمال كبيرة بقدر الآلام الهائلة التي عاناها الشعب السوري، في ظلّ النظام الأسدي، لكن المخاوف كبيرة أيضًا. ويشدّد كثيرون على أنّ الإسهام الإيجابي في تحديد المسار المقبل واجب على كلّ من استطاع إلى ذلك سبيلًا.

سوريا والإسلام السياسي

ثمّة من يرى أنّ الإسلام السياسي هو المشكلة (الأكبر) وليس مجرّد مشكلة أو ظاهرة فيها سلبيات، ومثل هذا الشخص لم يفرح، على الأرجح، ولن يرى أو يتوقّع أيّ إيجابية من سقوط النظام الأسدي وإسهام الإسلام السياسي/ الجهادي في هذا السقوط/ الإسقاط، ولن يكون أمامه سوى التبشير بحرب سورية أهلية وبديكتاتورية دينية لا تقل سوءًا وديكتاتورية عن ديكتاتورية الأسد بل تزيدها سوءًا وديكتاتورية. وحتى إذا خذلته (بعض) أقوال وأفعال الإسلام السياسي المذكور، لكونها تبدو من وجهة نظره أو وجهة نظر كثيرين آخرين جيّدة، فسيظل مصرًّا على رأيه أنّ الإسلام السياسي هو الشيطان (الأكبر)، ويمكن كثيرًا أن يتمنى (لا أن يتوقع أو يبشر فقط) أن تحصل أسوأ الشرور من الإسلام السياسي، وأن يتوافق الواقع مع مخاوفه وتوقعاته. وهذا ما هو حاصل لدى بعض أصحاب النظرة الجوهرانية السلبية للإسلام السياسي.

هناك من يرى أنّ الإسلام السياسي هو الحل (الوحيد) وليس مجرّد حل أو أحد الأطراف التي يمكن أن تسهم في صياغة الحل (في سوريا)، ومثل هذا الشخص يرى مشروعية لكل توجه استبدادي أو أحادي لهذا الإسلام، ويرى أنّه صاحب المشروعية الوحيدة، شاء من شاء وأبى من أبى، وهو ينفي أو ينكر وجود أيّ سلبية (مهمة أو كبيرة) فيه. وانطلاقًا من هذه النظرة الأحادية الضيقة، ينظر بإيجابية لكل محاولات الإقصاء التي يمارسها هذا الإسلام السياسي على الأطراف المخالفة له أو حتى المختلفة عنه، وليس مستبعدًا أن يمارس، هو نفسه، هذا الإقصاء عمليًّا، إذا استطاع إلى ذلك سبيلًا. وهذا ما هو حاصل لدى بعض أصحاب النظرة الجوهرانية الإيجابية للإسلام السياسي.

الواقع موجود بين قطبي هذه المثنوية أو الثنائية الأيديولوجية، لكن كثيرين يصرون على البقاء في إحدى قطبي هذه المثنوية، وهذا حقهم، لكن المشكلة أنهم يسخرون من أصحاب النظرات المختلفة عن نظرتهم ولا يرون فيها إلا أوهامًا أو مؤامرات وما شابه، وينفون حتى مشروعية أو معقولية الاختلاف عنهم في هذا الخصوص. والمشكلة الأكبر والأخطر هي أن يكون لديهم القدرة على تنفيذ رؤيتهم الأحادية وممارسة عمليات الإقصاء الفعلي على أساسها.

انحسار خطر التهجير الطوعي

إضافة إلى قصف الطيران الذي يشبه منايا زهير بن أبي سلمى كان الخطر الأكبر على سوريا والسوريات والسوريين يتجسد تحديدًا في “التهجير الطوعي”. ويبدو مصطلح التهجير الطوعي متناقضًا مع نفسه، فكلمة التهجير تعبر عن قيام طرف ما بتهجير طرف آخر، في حين أنّ الطوعية تعني أنّ الطرف المُهجّر يهجر بيته ومنطقته طوعًا، لا كرهًا.

على الرغم من التناقض النظري المذكور، فقد حصل هذا التهجير عمليًّا في الفترة الحالية. فبسبب الخوف من القوى المهاجمة أو بسبب الخوف من قصف الطيران على المناطق التي تخرج عن سيطرة النظام، أو لأسباب أخرى، اختار كثيرون وكثيرات ترك بيوتهم وبلداتهم ومدنهم والهرب من المناطق التي تخرج عن سيطرة النظام الأسدي أو ميليشيات قسد أو غيرها من الميليشيات.

لم أجرؤ على تقديم النصيحة لأي من الأشخاص الذين فكروا بالنزوح من مناطقهم، لكن كنت أتمنى ألا يقوموا بذلك. ومن المؤكد أنّ كثيرين ممّن نزحوا وتعرّضوا للتهجير الطوعي المذكور قد ندموا. وثمّة من يعانون الأمرين أو أكثر بسبب نزوحهم غير الضروري. ولحسن الحظ بدأت الأوضاع بالتحسّن وسمحت لكثيرين بأن يعودوا إلى بيوتهم ومناطقهم التي نزحوا منها.

طبعًا، هناك في المقابل عشرات الآلاف ممن عادوا مسبقًا إلى بيوتهم التي هجروا منها، وهناك مئات الآلاف أو الملايين ممّن يتحضرون للعودة إلى بيوتهم بعد تهجير قسري طويل. وقد شملت حركة النزوح عشرات الآلاف من السوريات والسوريين، من كلّ الأطياف والانتماءات، لكن ثمّة خصوصية كبيرة في نزوح الأقليات الإثنية والدينية والطائفية تحديدًا (الكرد، الإسماعيلية، العلوية، المسيحية … إلخ). وللأسف هناك قوى خبيثة تشجع على حصول هذا التهجير لمآرب في نفسها، لتستفرد كلّ قوة بسورياها المفيدة النقية والخالية من أيّ تعددية.

بغض النظر عما حصل ويحصل، ثمة كتلةٌ سوريةٌ وازنةٌ ترى ضرورة أن يكون أو أن يبقى الهدف، بعد التخلّص من النظام الأسدي، هو قيام سوريا الديمقراطية ودولة المواطنة الحاضنة لكلّ السوريات والسوريين، بغضّ النظر عن اختلافاتهم الإثنية والدينية والطائفية إلخ. ويرفض كثيرون قيام “منطقة مفيدة” على غرار سوريا المفيدة الأسدية، ويشدّدون على أهمية أن يبقى التنوّع والاغتناء به في كلّ المناطق السورية الثقافات السورية الفرعية المتعددة وفي ثقافة كل سورية وسوري أيضًا.

لم ينقشع غبار معركة إسقاط النظام، بعد، لكن برزت بسرعة تساؤلات مهمةٌ وملحةٌ عن مصير أحمد الجولاني، المسمّى حاليًّا أحمد الشرع، وعن جبهة النصرة، المُسمّاة حاليًّا بهيئة تحرير الشام. فهذه الهيئة، التي يرأسها الجولاني، كانت القوّة القائدة والمهيمنة في العمليات العسكرية التي أفضت إلى إسقاط النظام الأسدي، وعلى الرغم من أنّ الجولاني قد أعلن منذ بضعة أيّام إمكانية حل الهيئة، يبدو أنه يخطّط ليكون “القائد” لسوريا في المدى المنظور. وليس واضحًا الصفة والمدة والطريقة التي سيحكم بها سوريا؟، ولا ماهية أو طبيعة الفترة الانتقالية ومدتها والعملية السياسية التي ستتضمنها والنظام السياسي الذي تفضي إليه، ومن سيكون المسؤول عن تلك العملية والمشارك فيها والمعايير التي سيتم الاستناد إليها لتحديد ذلك. وقد ظهرت تلك التساؤلات وغيرها بعد أن قام الجولاني بتعيين أو تشكيل حكومة انتقاليةٍ يُخشى أنّها من لونٍ إسلاميٍّ ورجاليٍّ/ ذكوريٍّ واحدٍ، على غرار حكومته في إدلب، من دون أيّ تشاورٍ مع أيّ طرفٍ سياسيٍّ محليٍّ آخر، ومن دون شفافية أو معرفة الشرعية التي يرى أنها تمنحه الحقّ في هذا التعيين، بهذه الطريقة.

من وجهة نظر كثيرين، أظهر الجولاني وهيئته الكثير من الإشارات الإيجابية في أقوالهم وأفعالهم في الفترة الأخيرة، لكن توجد في المقابل الكثير من الإشارات السلبية ، ليس خلال الأيام الأخيرة فحسب، بل خلال سنوات حكمه لمناطق في إدلب وحلب في السنوات الماضية فحسب. فهيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني أسهمت في تحرير آلافٍ من المعتقلين السياسيين في السجون الأسدية، لكنها لم تقم بتبييض سجونها هي ذاتها في إدلب وحلب. وتلك الهيئة التي أصبحت “بقدرة قادر” فصيلٍ في الثورة السورية متبنٍ لقيمها وأهدافها، ورفعت علم الثورة/ علم الاستقلال خلال الأيام الأخيرة، سبق لها أن رفضت هذا العلم واستنكرت رفعه وداسته بأقدام مجاهديها في مراتٍ كثيرةٍ. والهيئة ذاتها، بقيادة الجولاني ذاته، التي أصدرت بيانات تعترف فيها بحق الاختلاف وبوجوب احترام الحريات السياسية والحريات الاجتماعية عمومًا، قمعت قمعًا شديدًا أي اتجاه سياسيٍّ مختلف مع اتجاهها أو معارضٍ (صريحٍ) له، وفضَّت بالقوة المظاهرات التي حصلت ضدها، بما في ذلك، على سبيل المثال، مظاهرة نسائية كانت تطالب بالإفراج عن أقاربهن بعد قضاء أشهر طويلةٍ في سجون أو معتقلات الهيئة/ الجولاني، لمجرّد انتقادهم للجولاني وهيئته. فكيف ولماذا يمكن للسوريات والسوريين أن يتوقعوا أن يكون الجولاني، بوصفه قائد هيئة تحرير الشام، قد أصبح متبنيًّا للديمقراطية ومؤمنًا بالتعددية والتشاركية؟

“لا تؤجل مواجهة استبداد اليوم إلى الغد”

يبدو الجولاني وهيئته الطرف المنظّم الأكثر قوةً وتأثيرًا في سوريا اليوم، فهل سيحاول الاستفراد بالسلطة مع تهميشِ أو تهشيم للمعارضة القائمة حاليًّا أو التي يمكن أن تقوم مستقبلًا؟ ليس ثمة إجابةٌ قاطعةٌ ومؤكدةٌ \في هذا الخصوص، لكن سوريّات وسوريين كثر تذوقوا مرارة طعم الاستبداد مصمّمون على ألا تقوم له قائمة في سوريا بعد الآن؛ وهم يعون إمكانية وضرورة الإسهام في تحديد مصير سوريا، بدلًا من الركون وجعل هذا المصير قدرًا أحمق الخطى تسحق هاماتهم خطاه. فهم يدركون من تجربتهم المريرة مع الاستبداد الأسدي أنّ التهاون مع مثل هذا الاستبداد اليوم سيجعله أقوى غدًا، وسيجعل مهمة التخلص منه تزداد صعوبةً إلى أن تقترب، تدريجيًّا، من الاستحالة. ولهذا، فشعارهم “لا تؤجل مواجهة استبداد اليوم إلى الغد”. ويمكن لنوايا الجولاني وهيئته مع نوايا السوريات والسوريين المذكور أن تتقاطع وتتكامل أو أن تتواجه وتتصادم. وقد يتحدد المستقبل المنظور لسوريا على أساس نتيجة هذا التقاطع والتكامل أو تلك المواجهة وذلك التصادم.

سوريا: المثل والنموذج أم العبرة والدرس

بدأ الربيع العربي بحراكٍ تونسيٍّ وجد صدىً إيجابيًّا وتراكميًّا له في معظم أرجاء العالم العربي (وغير العربي)، وأصبح نموذجًا يحتذى ويقتدى به، ومثلًا أعلى يُتطلع إليه. وقد استلهمت الثورة السورية انطلاقتها مما حدث في تونس ومصر خصوصًا. لكن الخسائر الهائلة التي تعرّض لها الشعب السوري بعد ذلك جعلت كثيرين يحذرون من الثورة على الأنظمة، لأنّ نتيجة الثورة يمكن أن تفضي بهم إلى حال مماثلٍ لحال الشعب السوري، الذي قُتل قرابة مليون شخصٍ من أفراده، ونزح أكثر من إثني عشر مليونًا منهم، وتقسَّمت دولته وتدمرت مدنه ومنطق عمرانه، وانهار اقتصاده، وتفتت مجتمعه، وتدهورت أو توترت العلاقات بين معظم أفراده وجماعاته.

ما حدث في الأيام الأخيرة من إسقاط النظام الأسدي بعد حراكٍ لمدة إثني عشر يومًا هو حصيلة نضالٍ مستمرٍ ضدّه، بدأ منذ سبعينيات القرن الماضية، واتخذ منعطفًا حاسمًا مع قيام الثورة السورية في آذار 2011. ويمكن لما حصل ويحصل في سوريا في الفترة الحالية أن يصبح مشعل نورٍ يهتدي به آخرون (في العالم العربي)، أو أن يصبح شرارة نار تحرق أيّ رغبة في الثورة لدى كثيرات وكثيرين. لا شك أنّ إسقاط النظام كان نهايةٍ سعيدةٍ للثورة السورية التي انطلقت عام 2011، لكن تلك النهاية ليست مطلقة، بل ستكتمل وتكتسب معناها وقيمتها مما سيحصل لسوريا والسوريات والسوريين بعد ذلك. فإذا سارت الأمور في اتجاهٍ إيجابيٍّ، أصبحت أشبه بمثلٍ أعلى ونموذج إيجابي يمكن العمل على محاكاته وتكراره في سياقات عربية أخرى، مع مراعاة خصوصية تلك السياقات، ومحاولة تجنّب سلبيات النموذج السوري قدر المستطاع. أما إذا سارت الأمور في اتجاهٍ سلبيٍّ، فسيبقى الوضع السوري أشبه بفزاعةٍ يتم استخدامها لتخويف الناس من أيّ حراكٍ ثوريٍّ ضدّ النظام السياسي القائم. المشكلة والتحدي الأكبر الذي يواجهه الشعب السوري في هذا الإطار أنّه ليس متروكًا لوحده لاختيار مصيره وتحديد الاتجاه الإيجابي أو السلبي الذي سيسير فيه، بل هناك قوى خارجية تعمل جاهدة للتأثير في الاختيار المذكور. وبعض هذه القوى والدول تعمل جاهدة لجعل ما حصل في سوريا عبرةً لشعبها بحيث يفكر ألف مرة قبل أن يثور على من يحكمه. فهل يصبح النموذج السوري مثلًا أعلى ملهمًا لشعوبٍ أخرى، ودرسًا لأنظمة أخرى، أم (يبقى) نموذجًا لتجنّبه والاعتبار منه، ودرسًا تلقنه الأنظمة الحاكمة لشعوبها المحكومة والمكلومة؟

جكاية ما انحكت

——————————

الاستقلال الثاني لسوريا؟

14 كانون الأول 2024

خرج الملايين في المدن والبلدات الرئيسية السورية احتفالا ببدء مرحلة جديدة من تاريخهم يمثّلها تحرير المعارضة البلاد من طغمة نظام بشار الأسد.

اتشحت سوريا، خلال هذه الاحتفالات، باللون الأخضر، الذي يميّز العلم الذي اعتمدته «الجمهورية السورية» التي نشأت مع استقلال البلاد عن فرنسا التي كانت تحتل البلاد، والذي اختاره المتظاهرون إثر الثورة على النظام قبل 14 عاما، ويزيح اللون الأحمر، الذي يميّز علم النظام، في خيار يقطع جذريا مع رموز الدولة والنظام السوريين السابقين، وفي إشارة تتضمن مساواة حكم الاستبداد الأسدي، الذي بدأ مع انقلاب حافظ الأسد، عام 1970، بحكم المحتلّ الأجنبيّ.

أشعرت الممارسات الوحشية للنظام، السوريين، بأنهم يتعاملون مع سلطات محتلّة، وازداد الأمر وضوحا بقرار نظام الأسد الاستعانة بقوات أجنبية من روسيا وإيران، وكذلك ميليشيات عسكرية غير نظامية من بلدان أخرى، لإعانته في قمع أبناء بلده الثائرين ضده، فكان طبيعيا أن يترابط، لدى السوريين، مطلبا النضال ضد الاستبداد والاحتلال معا، بحيث صار شعار «سوريا بدها حرية» (الذي تردّد في احتفالات أمس أيضا) يعني التحرّر من الطاغية المحلّي وحليفه المحتلّ الأجنبي سوية.

في هتافاتهم الأخرى، التي أطلقوها في احتفالاتهم أمس، استعاد السوريون أيضا المشاعر الوطنية الغامرة التي كانت سائدة أثناء نضال المكوّنات المختلفة، الإثنية والدينية، لسوريا، ضد المحتلين الفرنسيين منذ عشرينيات القرن الماضي.

في اجتماعهم في «ساحة الأمويين» أعاد المحتفلون وصل تاريخ استقلالهم الأول، بتاريخ الخلافة الأموية، التي حرص النظام البائد، ضمن خطط تأجيجه للعصبيات الطائفية، أن يقطع معها، فكان مجرّد وقوف مواطن لبضع دقائق في تلك الساحة سببا للاشتباه به والتحقيق معه.

استعاد محتفلو مدينة السويداء أيضا ذكر سلطان باشا الأطرش، قائد «الثورة السورية الكبرى» ضد الاحتلال الفرنسي، فأطلقوا اسمه على دوار شهير في المدينة، بدلا من اسم «دوار الباسل» والأخير كان الابن الأكبر لحافظ الأسد، والذي لم يُعرف له دور غير أنه كان يتم إعداده ليكون وريث أبيه، وكان مقتله في حادث سيارة، سببا لتسلّم البلاد إلى أخيه بشار!

وصل ثوار الشمال السوريون إلى دمشق، بعد فتحهم حلب وحماة وحمص، ليلتقوا بثوار القنيطرة والسويداء ودرعا وأرياف دمشق وأحيائها، ليستلموا بلدا حطّمها المستبدّ الداخلي/ المحتلّ الخارجي فجوّف جهاز الدولة محوّلا إياها إلى هيكل فارغ تتحكم فيه عصابات المخابرات والشبيحة والدول الأجنبية، ونهب اقتصادها ومالها، وحوّلها إلى مصنع ضخم للمخدرات، وأهان وأذلّ وقتل أهلها.

في أثناء ذلك، وخوفا من وقوعها في يد الثوار، قامت إسرائيل باستهداف البنى العسكرية السورية، لتذكر السوريين، مجددا، بالترابط العضويّ بين الاستبداد والاحتلال، وهو أمر، على أي حال، لا يمكن للسوريين، أبدا، أن ينسوه!

القدس العربي

————————–

أهلنا السوريون: لا تصدقوا غير هذه الرواية!/ د. فيصل القاسم

14 كانون الأول 2024

أهلنا في سوريا ستسمعون من الآن فصاعداً روايات عديدة حول سقوط النظام. هل سقط فعلاً بعملية عسكرية شنتها قوى المعارضة السورية؟ هل استسلم بموجب اتفاق؟ هل كان وراء العملية قوى إقليمية ودولية ساعدت قوى المعارضة على إنجاز هذا النصر العظيم؟ هل ساهمت إسرائيل وأمريكا بسقوط النظام؟ هل اتفقت روسيا وأمريكا وتركيا وإسرائيل على إسقاط النظام، فنفذت الفصائل السورية المهمة؟ هذه بعض نظريات المؤامرة التي ستسمعونها من جهات عدة، ومعظمها طبعاً عبارة عن تلفيقات وأكاذيب لا تمت للحقيقة بصلة مطلقاً، وكل من يروج لمثل هذه النظرية التافهة يحاول بطريقة أو بأخرى أن يقلل من قيمة النصر السوري على أعتى نظام إرهابي عرفه التاريخ الحديث في العالم أجمع. لا تصدقوا كل هذه الترهات الممجوجة، بل اضحكوا عليها ولا تعيروها أي اهتمام، خاصة وأن هناك أطرافاً عدة لها مصلحة في ترويج مثل هذه الفبركات لغاية في نفس يعقوب.

لقد قضيت أياماً وأنا أدقق وأبحث في العامل الخارجي. هل فعلاً كان الثوار السوريون مجرد منفذين لعملية دبرت في الخارج؟ والجواب بعد التدقيق والتمحيص لا أبداً، فالنصر صناعة سورية بحتة، ربما بدعم ثانوي من بعض الجيران، لكن التخطيط والتنفيذ كان سورياً بامتياز، فالجنود والقادة الذين فتحوا دمشق سوريون أقحاح، والأسلحة صناعة محلية بحتة، والطائرات المسيرة التي دكت معاقل الجيش الأسدي المهزوم كانت سورية، والعقول التي أدارت العملية عقول سورية، والأهداف التي تكمن وراء العملية التاريخية أهداف وطنية سورية بالدرجة الأولى.

لا تصدقوا أن قوى إقليمية ودولية كبرى كروسيا وأمريكا وإسرائيل وتركيا قد اتفقت على تنفيذ العملية، فهذا كذب بواح هدفه حرف الأنظار عن الجهد السوري العملاق. لا أحد يستطيع أن ينكر الدعم التركي ودعم بعض العرب الخيريين، لكن العملية ليست خارجية قطعاً. هل تعلمون أن روسيا أكبر وأقوى داعم للنظام الساقط فوجئت بالعملية ولم تستطع إيقافها بشهادة وزير الخارجية الروسي لافروف في تصريح خاص، فقد اعترف الروس بأن جيش النظام في حلب كان جيشاً منهاراً أصلاً ولا يستطيع ولا يريد أن يواجه الثوار، أولاً لأنه عاجز تماماً، وثانياً لأنه كان يفتقر إلى الروح القتالية، فلم يكن يمتلك أي حماس لمواجهة قوى المعارضة، فهو جيش جائع مسحوق كان يعيش على حبة بطاطا طوال اليوم أحياناً لأن ثروات سوريا كانت في حسابات عائلة الأسد وشركائها في الخارج، بينما كان السوريون شعباً وجيشاً يموتون من الجوع والبرد وانعدام معظم أساسيات الحياة، لا بل إن بشار وزوجته كانا يبيعان الكهرباء لدول مجاورة بالدولار، بينما كانت الكهرباء مقطوعة عن سوريا بأكملها معظم الوقت. باختصار، لقد فقد النظام حاضنته العسكرية منذ سنوات بعد انتهاء المعارك في سوريا عام ألفين وخمسة عشر، ومنذ ذلك الحين بدأ الانهيار الرهيب على كل الأصعدة، وخاصة على الصعيد العسكري. وقد اعترف لي كثيرون في الجيش لاحقاً بأنهم كانوا جوعى، واستشهد أحدهم بمقولة نابليون الشهيرة إن الجيوش تزحف على بطونها، أي أن الجيوش لا تستطيع القتال على معدة فارغة. لا شك أن الروس فكروا بمواجهة قوى المعارضة في بداية الزحف على حلب، لكنهم فوجئوا بأن الجيش السوري منهار وراح عشرات الألوف من الجنود والضباط يهربون كالفئران فقررت روسيا فوراً وقف عملياتها الجوية ضد قوى المعارضة، بعد أن أدركت أن جيش النظام منته.

وحتى الإيرانيون أنفسهم لمسوا الشيء نفسه، فقرروا الانسحاب من المعارك فوراً، لأنهم لا يستطيعون مواجهة الثوار لوحدهم دون الجيش السوري والطيران الروسي. يجب أن تصدقوا أن الإيرانيين وميليشياتهم انسحبوا بسرعة البرق أمام زحف الثوار لأنهم عرفوا أن المعركة خاسرة. لقد تفاجأ الإيرانيون بسرعة سقوط الجيش الأسدي مثل الروس. وقد قال لي مستشار وزارة الخارجية الروسية السيد رامي الشاعر شخصياً إن عملية تحرير حلب كانت بسرعة البرق لأن جيش النظام هرب بسرعة قياسية، ولأن سكان حلب أنفسهم كانوا ينتظرون المخلص ليخلصهم من واقعهم المرير، فرحبوا بالثوار ترحيباً حاراً، وقد كانت فصائل المعارضة عند حسن ظن الحلبيين، فعاملتهم كأشقاء بطريقة شهد العالم كله على كياستها ودماثتها وطيبتها وحسن أخلاقها. وقد أضاف السيد الشاعر لي شخصياً بأن كل المدن السورية ستستقبل الثوار بنفس الطريقة التي استقبلهم بها أهل حلب. وهذا ما حصل فعلاً، فقد انطلقت جحافل قوى المعارضة إلى حماة، فقاوم الجيش السوري فيها لساعات قليلة فقط ثم انهار كأحجار الدومينو، وسرعان ما انطلق الثوار إلى ريف حمص الذي حرروه بلمح البصر، ولم يستمر حصار حمص سوى يوم أو أكثر قليلاً. في هذه الأثناء تمكنت الفصائل الشعبية في السويداء بسلاحها البسيط من هزيمة كل فرق وألوية النظام في المحافظة وطردت كل الفروع الأمنية ورموز السلطة، ثم تبعتها درعا التي هزمت أيضاً كل فيالق النظام، وبدأت تزحف في اتجاه دمشق. في هذه الأثناء كان الثور قد حرروا حمص وخلال سويعات فتحوا العاصمة دمشق بعد أن هرب كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين، وقبلهم طبعاً ما يسمى برئيس الجمهورية الذي شحنه الروس على عجل إلى قاعدة حميميم ثم إلى موسكو. ولا ننسى أن آلاف الجنود كانوا قد هربوا إلى العراق أو تاهوا في العراء داخل سوريا، أو استبدلوا ملابسهم العسكرية بملابس مدنية.

وحتى الأمريكيون والإسرائيليون هرشوا رؤوسهم عندما شاهدوا الانهيار السريع لجيش النظام، وبدأت إسرائيل تأخذ احتياطاتها فوراً دون سابق تخطيط لأنها بدورها لم تتوقع هذا السقوط المدوي لجيش النظام. وقد وصلت أنباء هروب الجيش السوري إلى كل عواصم القرار في العالم، فبدأ الجميع يسلم بأن النظام قد انتهى ولا بد من التعامل مع الأمر الواقع الذي فرضته قوى المعارضة على الأرض، بدليل أن الغرب بات اليوم يدرس إزالة هيئة تحرير الشام عن لائحة الإرهاب. ولعل أكبر دليل على أن إسرائيل نفسها لم تتوقع هذا السقوط المريع للنظام وجيشه أنها بدأت بشن غارات جوية على كل القواعد العسكرية السورية الجوية والبرية والبحرية، لأنها باتت تعتبرها معادية بعد أن سقط بشار وجيشه. وهذا يؤكد على أن النظام كان على مدى نصف قرن يعمل بوظيفة كلب حراسة لإسرائيل، وكانت تل أبيب تعتبر كل أسلحته وقواعده في أيد أمينة. أما عندما سقط النظام فبدأت تخشى على نفسها، فراحت تحرق كل المواقع والترسانات السورية.

باختصار، من حق السوريين أن يفرحوا فرحاً عظيماً بهذا الانتصار الحقيقي والتاريخي على أبشع نظام فاشي في العالم، فلو كان جيش النظام قادراً على المواجهة لما تحقق النصر بهذه السرعة الرهيبة، ولكان كل حلفائه من روس وإيرانيين وعرب وأجانب قد ساندوه ودعموه لمواجهة الثوار. ألف مبروك لسوريا والسوريين هذا النصر المؤزر، وسيكون النصر أحلى وأجمل عندما ننجح في إعادة بناء سوريا إنسانياً وعمرانياً، ولا شك أن هذا الشعب العظيم قادر على ذلك إذا تمكن من التغلب على المؤامرات الداخلية والخارجية الكثيرة التي تواجهه وعلى لعبة الأمم القذرة التي بدأت تطل برأسها في سوريا، وهذا أكبر دليل على أن تحرير سوريا كان جهداً سورياً لم يعجب الكثير من الأقربين والأبعدين، لكن بإذن الله فإن السوريين لهم بالمرصاد.

كاتب واعلامي سوري

القدس العربي

————————-

ملاحظات خول اليوم التالي في سوريا/ سعاد جروس

14 كانون الأول 2024

بوست طويل بس لا بد منه

رح نخلص الاسبوع الاول بدون الكابوس ولسه فيه كتير ناس مشغولين بالمخاوف والتخويف حابة ،وضح شغلة ان اللي صار اكبر وابعد من هذه المخاوف وضروري كتير الناس اللي طلعوا من البلد قبل 2020 عام الكورونا والعقوبات يعرفوا ان سوريا كوضع معيشي ويوميات قبل 2020 هي غيرها قبل

باخر سنتين وصلنا لمرحلة تفسخ الجيفة وكنا عم نتفس هواء مسموم العقوبات اللي انفرضت على الجيفة انعكست على الشعب من حيث انهم انداروا هالشعب ينهبوا مو اللي بجيوبه بس كمان حتى لقمته اللي بتمه لدرجة انو ما حدا كان قادر يشتغل حتى الشحاذة كانت محتكرة لعصابات ، فيه شي ما حدا بيقدر يتصوروا على الاطلاق كانت تصير اعتقالات كيدية على اساس مخالفات بهدف الابتزاز فيه ناس باعت تيابها رشاوي حتى تخلص حالها اما من احتجاز او مخالفة وناس باعت بيوتها كرمال تدفع بدل او تسفر ولادها باخر سنة كانت الناس عم تسب علنا على راس الجيفة وبالشوارع والامن يشارك معهم انو عادي لان ما عاد مهم تسب او ما تسب المهم تدفع والكل بده يدفع ، بتراتبية نهب واستنزاف من الادنى للاعلى ، هاد موت نفسيات الناس وارهقها لدرجة الموات

لهيك المرحلة الجاية صعبة ، وقبل الخوف والتخويف خلينا نرتب الاولويات

سوريا كانت كلها معتقلة تماما متل اللي طلعوا من المعتقلات واللي فجاة لقوا حالهم قدام كاميرات الاعلام العالمي مطالبين يحكوا وهنن نسيانين اسمائهم ونسيانيين انهم بشر . وبحاجة لرعاية وعناية ترجع التوازن

الاولويات

1 تتحسن حياة الناس المعيشية ليكون الارتياح حقيقي يدفوا بعد 14 سنة برد

تتوفر مواد الطاقة حتى يقدرو يشتغلو وينتجو باخر فترة صاروا يصادروا زرع الفلاحين وهو بارضه والصناعيين والورش كان ممنوع عليهم يشتروا مواد اولية واللي بده يشتغل بده يدفع واللي بده يتاجر بده يدفع وهكذا حتى اللي بده يركب لمبة بده يدفع اتاوة

2  مكافحة عصابات ترويج المخدرات ومعالجة المدمنين وتخليص الشباب من هالآفة المدمرة آلاف الشباب تدمروا من ورا الكبتاغون لازم مراكز معالجة لان هدول بالمرحلة الجاي قنبلة فوضى موقوته

3 مكافحة التسول وفكرة الاستجداء والتذلل والاعتماد على الاخر

باخر وقت صارت الشحادة طريقة حياة وصاروا الشحادين التقليدين بالطرقات اكتر من عناصر الامن والشبيحة وخصوصا الاطفال وهي مصيبة كمان بدها دور رعاية واعادة تاهيل

ومعهم مكافحة الجريمة ولم المتشردين من الشوارع واعدادهم بالالاف ومدينة حمص عندها تجربة تاريخية مهمة بهالخصوص

ومكافحة عصابات الدعارة اللي انتشرت بكل الاحياء والمناطق دون استثناء

4 الاهتمام بالتعلم والمؤسسات التعليمية بعد سنوات من الفساد والانفلات بدون تعليم مافينا نحكي عن المستقبل بدنا مدارس وجامعات نضيفة من الفساد ومعها لازم نهتم وعلى درجة اكبر بالمؤسسات الثقافية الوطنية سينما مسرح دور نشر واعلام لازم تنضف من النخر اللي اكلها وكتار كتير الشباب السوريين اللي اشتغلوا بهالمجال وقدموا مساهمات عالميا

5 الناس اللي تشردت وفقدت بيوتها واللي عاشوا بالمخيمات او بيوت ايجار  وارهقتهم الايجارات نساعدهم ليرجعوا لمناطقهم ليعمروها

  والقائمة تطول وبرأيي الشخصي هي اولويات هالمرحلة الصعبة هون لازم نركز التفكير والجهود حتى نقدر نستوعب المخاوف والتخويف

اولويات بدها جهود من الكل وعلى كل المستويات علما انه بعد فتح المعتقلات كتير سوريين برا وجوا بلشوا يشتغلو بس السرعة والمفاجأة وثقل المشاهد المروعة اربكت هالجهود خلينا نتعاون ونبادر كل حدا حسب اختصاصه.

صح السوريين بالداخل خسرنا الخبرات  بس سوريا كسبت الخبرات اللي تعلمت وتدربت برا وصار وقت نرجع حتى نشتغل ونوحد الجهود وننظمها على امل تتعافى بلدنا بسرعة

ونقدر ننتقل للاولويات الابعد

الفيس بوك

——————————-

ملاحظات/ رشاد كامل

14 كانون الأول 2024

هناك ندم كبير من قادة الافرع الامنية والعاملين فيها من ضباط وصف ضباط وعساكر، على خطتهم التي استخدموها من اول ايام  الثورة في بانياس في تصوير عمليات التعذيب والاهانة ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي كجزء من خطتهم لترويع السوريين من خرجوا مطالبين بالحرية.. لأن تلك الفيديوهات الان ومستقبلا ستلاحقهم كأدلة في المحاكم الجنائية السورية والدولية.

وعنف تلك الفيديوهات ازداد مع تطور الاحداث، وتواطؤ العالم مع نظام الاسد في قبول نشر مثل هذه المقاطع بأوامر اسرائيلية امريكية لاتريد لسورية القوية ان تخرج من حكم ال الاسد المضمون ..

وكتبت سابقا ان يوتيوب وفيسبوك منصات لايتم النشر فيها دون موافقتهم على المحتوى، وموافقتهم على محتوى التعذيب ونشره آنذاك كان بقرار ترويع الشعب السوري مساندة للنظام.

واليوم وبعد سقوط النظام، فان موافقتهم لا بل نشرهم هم مقاطع تعذيب لا تطاق لنساء واطفال سوريات من قبل سجانين مع التأكيد على لهجتهم العلوية انما هو مقصود  لاطلاق حملة انتقام من طائفة كاملة لا نستطيع ايقافها ..

نعم انتهاكات قوى الامن السورية مشهود لها، ويجب ان يحاسبوا وفق القانون ولن نتركهم.. لكن لن ننتقم.. وانما كدولة سنحاسب ..

اعرف ان غضب قلوبكم كبير على ما تتابعونه ، والله يعين من كان لديه معتقل سابق بين ايديهم .. ويتخيل كيف مات ابنهم او ابنتهم بين ايادي جلادين بكل معنى الكلمة.. شعور لا يطاق ..

اول من يجب ان يتصدى لهذه المشاعر التي تتصاعد حتى عربياً هم اهلنا العلويون ، وقيادة هيئة تحرير الشام.. في اطلاق عملية مخصصة للتبرؤ من هذه الممارسات واطلاق عمليات منع من تداول مثل هذه المقاطع واعتبارها اعمال تحريضية يحاسب عليها القانون.

يجب ان نعمل بحكمة وسرعة لخفض الترويج للعدالة الانتقامية، ونستبدلها سريعا بالعدالة الانتقالية..

والفرق بينهم بحر دم، وتقسيم سورية..

واقترح ايجاد منظمة من الحقوقيين السوريين يعملون فورا على مطالبة دولية برأس النظام واركانه و كل من قاد تلك الاجهزة القمعية على مستوى المحاكم الجنائية الدولية وذلك لنلاحقهم دولياً والان…

وايضا مجموعة حقوقية تعمل على مخاطبة منصات التواصل الاجتماعي لضبط انفلات مشاهد العنف السوري على منصاتهم وذلك حقناً لدماء قادمة..

مايحدث ليس مزحة ياشباب..

ليس مزحة ما يخطط لنا ..

ابدأ بنفسك.. توقف عن مشاهدة هذه المقاطع.. توقف عن مشاركتها..

اي نعم

انشروه.. بسرعة ..ساهموا بخفض التوتر السوري السوري.

الفيس بوك

———————–

نداء الأمهات

14 كانون الأول 2024

والدة الشهيد غياث مطر

ووالدة المعتقل نور حلاق

تكتبان لولديهما

رفعت الأقلام.. وجفت الصحف:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أولاً: والدة الشهيد غياث مطر

بدفع عمري وأعرف شو سرك ياغياث … انت سر من اسرار هالدنيا…سر الاهي ….اكيد رب العالمين رفع ذكرك لانك كنت صادق …. صادق بمعنى الكلمة….ماعم اقدر استوعب يلي عم يصير يعني اول يوم بمهرجان الدوحة سميح شقير بعدد كل المحافظات وبس يوصل لداريا بيسكت وبقول غياث مطر بوجداني وضجت الصالة بالتصفيق كرمال روحك الغالية……وتاني يوم خمسين شخص فرنسي بيرفعو خمسين صورة لألك فوق آلاتهن الموسيقية مع مقطوعة سموها البلبل الى غياث مطر وبعتولي تعازي مع الاخ طارق ملص وانو عندهن امل بابنك الغالي …وتالت يوم اصاله والتوائم ملص مابينسوك وبقولو منكم قنبلة الغاز ومنا غياث مطر….وريما فليحان الغاليةبتذكرك بريبورتاج …وبعدها ببرنامج سلمية عالعربية بينحكى عن امجادك وبطولاتك وبينذكر اسمك…واليوم الرائع وصفي المعصراني غنى اغنية يامو وهداني ياها عالمباشر لاني امك …وآخر شي رجف قلبي وقت سمعت غياث مطر لا ما مات زغردولو يالبنات بصوت الغالي وصفي يلي ما رح انسالو ياها بحياتي ….انا برفع راسي وبفتخر انك ابني ..بتباهى اني حملتك 9 شهور …اني سهرت ع راحتك …بفتخر انك رضعت من حليبي ….انا بفتخر انو كنت اغسلك تيابك الوسخة …

لك زغردولو للعريييييييييييييييييييييييييييييييييييييس…..غيااااااااااااااااث……… يااااااااااااامو….عم اكتبلك بدمعاتي وانت اكيد حاسس فيي شتقتلك يا رافع راسي شتقتلك ياصاحب اروع وانقى واطهر ابتسامة بالكون…..شتقت لروحك ياروح الروح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثانياً: والدة المعتقل نورحلاق:

صباحك نور ..

وجمعة مباركة لكلّ سوري حرّ.

هل عرفت ماذا جرى في غيابك؟

صرت أخجلُ من المطالبة بحريّتك أمام مشاهد الموت الجماعي ..

أطفالٌ تذبح بالسكاكين..

مقابرُ جماعية..

قذائف عمياء ..

بيوتٌ تنهار فوق رؤوس ساكنيها ..

مستقبل مشوّه الملامح، يمشي على قدم عرجاء، قادمٌ صوبنا ..

هل بعد هذا العماء والخراب يمكنني أن أرفع صوتي مطالبةً بمؤازرة رماد الجثث المحروقة، ودماء الأطفال الجارية سواقي في الحولة والقبير.. وبقايا المنازل في أريحا.. والثكالى واليتامى والمبتورة أطرافهم والمفقوءة أعينهم.. بالدعاء لك لتطرق عليّ باب الانتظار فأشم رائحة الجنة؟

هل يحقّ لي أن أرجو من الله نعمة لم تعد معظم أمّهات سوريا ممن استودعن أولادهن رحم الأرض، يأملن إلاّ باللقاء في جنّة الله الموعودة؟

أيحقّ لي يا نور أن أحلم برؤيتك لدقائق أنفث فيها ريح الحقد البغيض الذي خلّفته مجازرهم في روحي بعيداً ، لاحتضن البنفسج الغضّ في راحتيك الحنونتين ؟

يابني .. لا تقسو على قلب أمّك .. مازلت أملك ضعف البشر وأنانيتهم.. مازلت أرجو من الله في هذا اليوم الفضيل أن يردّك إليّ كما ردّ يوسف على يعقوب.. وأن يمنحني لحظة فرح بلقائك..

وسأكفّر بعدها عن ذنبي بأن أقبّل قدمي كلّ أمّ لن ترى ولدها بعد اليوم .. لأنّ سكينا حاقدة نحرته بكلّ برود وتوحش!

الفيس بوك

——————————

افكار اقتصادية واستشراف المستقبل القريب

Ahmad Nazir Atassi

14 كانون الأول 2024

١- تصور عندك مزرعة تعطيك ٣٦٠ كيلو من الحنطة. وكل يوم تأكل كيلو حنطة. ستعيش السنة على امل ان يأتي محصول جديد يكفي السنة التي بعدها. لن تستطيع الحصول على اي شيء غير الحنطة، ستعيش حياة بدائية.

٢- اذا اردت ان تحصل على منتجات اخرى فعليك ان تمتلك فائضا من الحنطة حتى تبادلها بمنتجات اخرى. لنقل انه يلزمك فائض من ١٠٠ كيلو حنطة لتحصل على حذاء ولباس للسنة كلها. اذا لم تملك الفائض فعليك ان تصرف من ال ٣٦٠ كيلو الاساسية لتحصل على المنتجات الاضافية. اما ان تنتج حنطة اكثر او ان تأكل اقل او ان تلبس حذاء وتموت من الجوع بقية العام.

٣- لننقل كل هذه الحنطة الى ذهب ولنتصور ان هناك سوق تبادل يقبل الذهب كوسيط للتبادل. سيكون عندك نفس الخيارات، لكن مع استخدام الذهب.

٤- لنتصور حالة اعقد. هناك مزارعون وهناك صناع احذية وملابس وهناك تجار. في حالة الاقتصاد السابق نفسه، كل انسان ينتج حاجته من الطعام او يشتريها من خلال مبادلة المنتجات والحنطة الفائضة بالعملة الذهبية. الاقتصاد يدور دورته، المزارعون يطرحون الحنطة والصناع يطرحون الاحذية والالبسة في السوق ويتمم الناس مبادلاتهم من خلال الذهب الموجود، مع افتراض توفر كمية مناسبة وان كانت محدودة من الذهب.

٥- لنتصور ان محصول الحنطة هذه السنة كان سيئا. سيرتفع سعرها واسعار كل المنتجات الاخرى لان كمية الذهب هي نفسها موزعة على كمية اقل من الحنطة بالاضافة الى المنتجات الاخرى. في النهاية لن تكون الحنطة كافية، ستنتهي مدخرات كثير من الناس من الذهب قبل ان تكتمل السنة وسيجوعون بانتظار المحصول القادم. لنتخيل ان هناك قرية بعيدة لم تتأثر بالجفاف وعندهم فائض حنطة. ستحاول قريتنا ان تشتري بعض هذا الفائض. لكنها لا تستطيع انفاق كل الذهب. ستقايض بعض الاحذية وبعض الذهب بالحنطة. طبعا بعض التجار سيشترون هذه الحنطة وسيبيعونها بسعر مرتفع لتعويض الذهب الذي خسروه. او ان ادارة القرية ستأخذ ذهبا من مدخرات الجميع لتشتري الحنطة وتوزعها.

٦- وربما كانت ادارة القرية على معرفة بوجود منجم فحم حجري، فستقوم باستخراجه باستعمال اليد العاملة في القرية لتبيع الفحم الى قرى اخرى لتحصل على الذهب اللازم لشراء الحنطة. وعندها فالادارة بحاجة لدفع اجور العمال من ذهبها الخاص لتحصل على الفحم وتبيعه، ثم على استيراد الحنطة وتبيعها لاسترداد ذهبها. مع ذلك سيدفع الناس سعرا اغلى للحنطة المستوردة. اذا كانت الادارة لا تملك اي ذهب فان القرية ستجوع. واذا كانت كمية الفحم قليلة فان كمية المستوردات ستكون قليلة والاسعار ستكون غالية جدا.

٧- لنتصور اقتصادا يستخدم عملة ورقية محلية. بالعادة تجمع الحكومة كمية مناسبة من الذهب وتطبع عملة قيمتها مطابقة لمخزونها من الذهب. ستدور الدور الاقتصادية نفسها. لكن العملة ستفصل الداخل عن الخارج. ويجب ان تتوفر كمية اضافية من الذهب موجهة نحو الاستيراد، غير الكمية الموجهة نحو طبع العملة الورقية. تءا استخدمة الادارة ذهب العملة الورقية الاستيراد فان قيمة العملة ستنخفض والاسعار سترتفع.

٨- الخلاصة، اما ان يكون الاقتصاد مكتفيا بذاته وهذا يعتمد على الحظ. واما ان تكون هناك تجارة خارجية. لكن التجارة الخارجية بحاجة الى موارد اضافية اما على مستوى الافراد او على مستوى ادارة البلد. وعندها على ادارة البلد ان تؤمن سيلا مستمرا من الدخل بالذهب (العملة العالمية) حتى تستطيع الاستيراد وكفاية حاجة المواطنين. وحتى لو فرضت الادارة ضريبة على الناس فان هذه الضريبة ستكون بالعملة المحلية التي لا يمكن تحويلها الى ذهب في البلدان الاخرى. من سيبيعك حنطة بعملتك المحلية، سيبيعونك فقط بالذهب.

٨- الحل هو ان تمتلك الادارة او السوق بضائع يمكن بيعها في الخارج من اجل الحصول على ذهب يبادولونه في السوق العالمية بحاجياتهم. الحل الاخر هو اقتراض الذهب من قرى اخرى. لكن يجب سداد هذه القروض بالذهب ايضا، ونعود الى الحاجة للتصدير. يمكن للحكومة ان تأخذ الذهب من الناس، اي مدخراتهم، لكنها ستصرفها لتغطية الحاجات لمدة محدودة، والناس سيكونون غير قادرين على شراء كل المنتجات المستوردة، ولن يدفعوا بالطبع ثمنها بالذهب، وسيتوقف الاستيراد.

هذه هي حال سوريا اليوم. عندهم فائض من الاكل والبضائع والعملة المحلية. سيتداولونه حتى ينتهي الاكل وتتجمع العملة في بعض الايدي. وعندها سيحتاجون الى شراء طعام ومنتجات اخرى من الخارج. الذين تجمعت العملة في ايديهم سيحاولون استيراد الحاجات لكن لا احد سيقبل عملتهم. فاما ان تنتج البلد منتجات للتصدير واما ستضطر للاقتراض. وحتى الاقتراض يحتاج الى سداد بالذهب. هذا يعني ان التصدير حاجة اساسية.

في العالم الحديث هناك حل اخر وهو المنحة، ستمنح دول اخرى الدولة السورية كمية من الذهب او العملة الصعبة لمساعدتها على الوقوف على ارجلها. لكنها ستطلب بالمقابل تأثيرا على السياسة الداخلية وعلى الاقتصاد الداخلي وربما ستطلب الحصول على بعض مقدرات الدولة مقابل المنحة. الدولة المانحة يجب ان تكون غنية وقوية ومتنفذة حتى تستطيع دفع هذه المنحة والتأثير على البلد الممنوح.

هرب الاسد وترك بنكا مركزيا فارغا من الذهب والعملات الصعبة، واقتصادا ضعيفا غير قادر على تصدير الا الكبتاغون. الحل الوحيد بالنسبة للجولاني، القائد الجديد، هو اما المنحة واما الاقتراض او تصدير الكبتاغون. وعليه ان يكون اقتصاديا حاذقا جدا حتى يستطيع اعادة بناء القدرة على التصدير. الغرب لن يعطيه قروضا. تركيا وقطر سيمنحونه بعض المال، لكنه سيصرف المال على شراء الاسلحة ودفع مرتبات جنوده من اجل تثبيت حكمه. وستكون لقطر وتركيا سلطة هائلة عليه الى الامد القصير.

الحل الاخر هو ان يجذب رؤوس الاموال السورية من الخارج والداخل لتأمين العملة الصعبة. يجب ان يسمح لهم بالاستيراد والتصدير بأموالهم الخاصة. او سيبيعهم عملته المحلية الرخيصة جدا من اجل الحصول على دولاراتهم. ومن اجل هذا يجب ان يثقوا به ثقة عمياء انه سيسمح لهم بالصناعة والاستيراد والتصدير والمتاجرة وجني الارباح وتحويلها الى عملة صعبة مرة اخرى. او انه سيخوض حربا ضد قسد من اجل الحصول على منابع النفط او ضد الشركات الروسية من اجل الحصول على موارد الفوسفات. الاحوال ستكون صعبة جدا. ويجب ان يكون الجولاني ومعاونوه حذقين جدا بالاقتصاد والادارة ومرنين جدا بمشاركة السلطة مع رأس المال.

للاسف، لا هم حذقون ولا هم سيشاركون السلطة مع الاخرين. انهم فصيل مقاتل سري لا يعرف الا جمع المنح وصرفها على السلاح وتطبيق ايديولوجيتهم. وحتى لو صرفت عليهم تركيا وقطر مليارات الدولارات فان رفع سوريا من الفقر سيكون مكلفا جدا. ببساطة على تركيا ان تحتل سوريا وتديرها حتى يبقى الجولاني في الحكم. بالطبع هناك حل الخضوع للاملاءات الغربية والحصول على قروض دولية. بالطبع سيرفض الجولاني الايديولوجي مثل هذه الاملاءات.

الفيس بوك -صفحة الكاتب-

——————————

الدولة السورية الآن/ بكر صدقي

الدولة السورية اليوم، بصرف النظر عمن يحكمها:

بلا مال،

ولا سلاح،

ولا جيش،

ولا شرطة،

ولا اقتصاد،

ولا تعليم،

ولا خدمات،

إنها باختصار بلا دولة ولا سند.

فلا تبالغ أيها الإسلامي السوري في توقعاتك وتطالب بفرض الشريعة في دولة إسلامية.

ولا تبالغ أيها العلماني في توقعاتك وتطالب بعلمانية أميركية أو بريطانية.

لا تبالغ أيها القومي العروبي في توقعاتك بالإجهاز على قسد وإلغاء الإدارة الذاتية.

ولا تبالغ أيها الكردي في توقعاتك بقيام منطقة فيدرالية.

ولا تبالغ أيها الوطني فتطالب بشن حرب ضد إسرائيل وتحرير الجولان، أو بتصريحات جوفاء في هذا الاتجاه.

ولا تبالغ أيها الوطني في توقعاتك بإلغاء الشروخ الطائفية في لمح البصر.

ولا تثملوا أيها السوريون جميعاً بهواء الحرية المنعش.

ولا تنسوا أنكم تعيشون في العالم ولستم في معزل عنه، حتى لا نقول إنكم في قلب الصراعات الدولية.

توقعوا أن ورشات الثورات المضادة من أبو ظبي إلى إسرائيل تعمل بلا كلل وبصمت للقضاء على حريتكم الهشة.

صفحة الفيس بوك الخاصة بالكاتب

—————————–

غير بيدرسون لـ”المجلة”: ذاهب إلى دمشق للحوار مع “هيئة تحرير الشام”… والجميع فوجئ بسرعة سقوط الأسد

إبراهيم حميدي

المبعوث الأممي إلى سوريا أكد على دعم عملية انتقال سياسية شاملة وأن تعاون “الهيئة” سيؤدي إلى رفعها عن قائمة “الإرهاب”

14 ديسمبر 2024

قال المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، في حديث إلى “المجلة”، إنه ذاهب إلى دمشق، ملمحا إلى نيته “التحدث” إلى “هيئة تحرير الشام”. وقال: “مهمة الأمم المتحدة هي التحدث مع جميع الأطراف، بما في ذلك (هيئة تحرير الشام)”.

وتابع بيدرسون: “نحن نتعامل مع وجود حكومة مؤقتة. خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، نهدف إلى التعاون مع الأطراف السورية للتحضير لترتيبات انتقالية”. وأوضح ردا على سؤال: “إذا نفذت (هيئة تحرير الشام) ما تقول إنها تنوي القيام به– وتحديدا تعزيز عملية شاملة تضمّ جميع المجتمعات والأطراف السورية– فربما يكون الوقت قد حان لإعادة النظر في تصنيفها”.

وكان وزراء خارجية “مجموعة الاتصال العربية” وعدد من الدول العربية اجتمعوا في العقبة الأردنية قبل لقائهم مع وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن. وأكدوا في بيان الوقوف إلى جانب الشعب السوري وخياراته، و”دعم عملية انتقالية سياسية سورية–سورية جامعة”. كما أكدوا دعمهم “دور المبعوث الأممي إلى سوريا، والطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تزويده بكل الإمكانات اللازمة وبدء العمل على إنشاء بعثة أممية لمساعدة سوريا لدعم العملية الانتقالية في سوريا ورعايتها ومساعدة الشعب السوري الشقيق في إنجاز عملية سياسية يقودها السوريون وفق القرار 2254”.

وقال بيدرسون ردا على سؤال: “هناك مبدآن أساسيان مضمنان في القرار الدولي. الأول أن يكون الانتقال السياسي في سوريا بقيادة الشعب السوري نفسه. أما المبدأ الثاني، فهو التأكيد على حماية سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها، وهو مبدأ لا يزال ذا صلة حتى اليوم”.

وبسؤال بيدرسون عن سرعة سقوط نظام بشار الأسد ووصول “هيئة تحرير الشام” إلى دمشق، أجاب أن جميع الأطراف فوجئت بما حصل، مستبعدا وجود صفقة إقليمية–دولية لإسقاط الأسد. وقال: “إن كانت هناك صفقة، فلم يبلغني بها أحد. وبصراحة، سأكون متفاجئا جدا لو أن هناك مثل هذه الصفقة. أعتقد- كما ذكرت في البداية- أن الجميع أُخذ على حين غرة، حين انتهت الأمور فعليا بهذا الشكل في دمشق”.

وهنا نص الحديث الذي جرى في مكتب بيدرسون في جنيف:

* توقيت هذه المقابلة مناسب للغاية. جميعنا نعلم أنه خلال الأيام الاثني عشر الماضية، الأسبوعين الأخيرين، حدثت تغييرات هائلة في دمشق. ما قراءتك لما حدث؟

– بصراحة، لا يمكن إنكار أننا جميعا فوجئنا بما حدث. أعتقد أن السوريين تفاجأوا، بل إنني أعتقد أن الجماعات المسلحة نفسها التي أصبحت الآن في دمشق كسلطات الأمر الواقع قد فوجئت أيضا بسرعة ما حدث. لا أعتقد أن أحدا توقع انهيار الجيش السوري بالطريقة التي حدثت بها، وعدم تدخل روسيا أو إيران بشكل فعلي، أيضا. وهكذا، بعد وصولهم إلى حلب خلال فترة قصيرة جدا، ثم انتقالهم إلى حماة وحمص، ومن ثم دمشق في غضون 14 يوما، كان الأمر أشبه بالعاصفة وهكذا، لم أكن وحدي من فوجئ، فالعالم كله كان متفاجئا، كما أعتقد.

* أعتقد أنك كنت في الدوحة بعد اجتماعات آستانه، عندما دخلت الفصائل الى دمشق وسقط النظام. والآن، ثمة نظرية تقول إن صفقة ما قد عُقدت قبل الهجوم الذي شنته “هيئة تحرير الشام”، وأن هناك نوعا من التفاهم بين الأطراف الثلاثة المعنية. ما تعليقك على ذلك؟ هل كانت هناك أي صفقة قبل بدء الهجوم؟

– حسنا، إن كانت هناك صفقة، فلم يبلغني بها أحد. وبصراحة، سأكون متفاجئا جدا لو كان هناك مثل هذه الصفقة. أعتقد أن الجميع، كما ذكرت في البداية، أن الجميع أُخذ على حين غرة، حين انتهت الأمور فعليا بهذا الشكل في دمشق. أنا متأكد من أن هناك نظريات مختلفة حول ما يمكن أن يكون قد حدث بالفعل، ولكن خلال محادثاتي في الدوحة، مع الأتراك والإيرانيين والروس، ثم مع وزراء الخارجية العرب، لم يكن ثمة مؤشرات على وجود صفقة قبل بدء الهجوم. بل وأعتقد أن مفاجأة الروس كانت أكبر بشكل خاص حين رأوا الجيش السوري لا يقاوم بشكل جاد. وأعتقد أن الإيرانيين قد تفاجأوا بدورهم. وأحسب أن ما جرى بحلول يوم السبت كان إدراكا جماعيا بأن الأمور قد بلغت غايتها. ومع ذلك، فإن السرعة والزخم الكبير للتحركات العسكرية للجماعات المسلحة هما ما أنهى القصة بشكل حاسم. هذه قراءتي للأحداث. ولكن، من يدري؟ فقد أكون مخطئا.

* بالطبع أنت لست متخصصا في التحليل العسكري، ولكن هل لديك أي نظرية أو تفسير لما حدث… لماذا لم يقاوم النظام أو الجيش السوري؟

– لا بد أن هناك جملة من العوامل، وليس فقط العسكرية. يعود ذلك الأمر إلى قرابة السنوات الأربع عشرة من الحرب والنزاع. لقد أوهِم الشعب السوري بأن الصراع قد انتهى فعليا، بينما كنا نؤكد دوما خلاف ذلك، ونقول إن تحديات كبيرة ما زالت قائمة. وقد ساهم في ذلك بشكل أكبر الانهيار الاقتصادي الذي كان قد دفع المجتمع بالفعل إلى حافة الهاوية قبل بدء الهجوم. وحين وقع الزلزال في الشمال، كانت هناك آمال بأن التطبيع مع الدول العربية قد يجلب خيرا للشعب السوري. ولكن بدلا من ذلك، تردى الوضع الاقتصادي أكثر، وفشل نظام الأسد في الانخراط في حوار سياسي جاد، فلا هو لبّى مطالب العرب، ولا هو أظهر تفاعلا جادا مع الأتراك، كما أنه تجنب بشكل كبير التفاعل معي أيضا.

* بالتأكيد. لم يتفاعلوا معك، وأنت في هذا المنصب منذ أكثر من خمس سنوات، ولم تلتقِ الأسد. في الواقع، الأسد رفض لقاءك. سؤالي الآن، كيف تشعر اليوم إزاء ذلك الرفض؟ هل أنت سعيد لأنه رفض دائمًا رؤيتك ولم تلتقِ به؟

– لا، لا أحسب أن الأمر يتعلق بي شخصيا. الحقيقة، كما ذكرت، لم يكن هناك أي تفاعل أو اعتراف بأنه كان يمكن تشكيل مستقبل الشعب السوري من خلال حلول سياسية بدلاً من الإجراءات العسكرية. ولدينا أمل الآن أن نستطيع- بمجرد أن نفهم الوضع في دمشق- بدء عملية سياسية تسهّل التنفيذ وتلبي تطلعات الشعب السوري. المشكلة الجوهرية كانت في أن الأسد كان يؤمن بإمكانية الاستمرار كما لو أن المجتمع السوري والشعب السوري لم يكونا منقسمين. والحال أن الشعب السوري كان منقسما وكان يريد تغييرا إيجابيا، لكنه لم يُوافق على ذلك.

* إذن، الأسد انتهى، والحكومة السورية انتهت، والنظام السوري انتهى. ولقد كانت مهمتك، استنادا إلى القرار 2254، كانت تسهيل الحوار بين الحكومة/النظام السوري والمعارضة. والآن، بعد خمس سنوات، الواقع هو أن الجهة التي لم تتفاعل معها أبدا، الجهة المصنفة كمنظمة إرهابية في القرار 2254، هي الآن المسيطرة في دمشق. ماذا يعني ذلك لتفويضك ولمهمتك؟

– أولاً، من الضروري إعادة النظر في المبادئ الأساسية لقرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي اعتُمِد قبل تسع سنوات بالضبط. هناك مبدآن أساسيان مضمنان في هذا القرار. الأول أن يكون الانتقال السياسي في سوريا بقيادة وملكية الشعب السوري نفسه. أما المبدأ الثاني، فهو التأكيد على حماية سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها، وهو مبدأ لا يزال ذا صلة حتى اليوم.

ومع ذلك، كما أشرتَ بحقّ، فإن الوضع على الأرض قد تطور بشكل كبير منذ صدور القرار، ونحن بحاجة إلى دراسة هذه التغيرات بعناية وتقييم الحقائق الحالية. وهذا يقودنا إلى السؤال الملح: كيف يجب أن نعرّف “هيئة تحرير الشام” اليوم؟ حتى الآن، لا تزال “هيئة تحرير الشام” مصنفة كمنظمة إرهابية، كما ذكرت. والخبر الإيجابي هو أن هذا التصنيف لا يمنعنا من إجراء حوار معهم.

أود أن أشدد على أنه إذا نفذت “هيئة تحرير الشام” ما تقول إنها تنوي القيام به– وتحديدا تعزيز عملية شاملة تضمّ جميع المجتمعات والأطراف السورية– فقد يكون الوقت قد حان لإعادة النظر في تصنيفها. إذا توافقت أفعالهم مع هذه الالتزامات، فسيشير ذلك إلى تغيير كبير في الواقع على الأرض.

* هل هذا يعني أنك على استعداد لأن تسافر غدا أو الآن إلى بيروت، ثم التوجه بالسيارة إلى دمشق للقاء أحمد الشرع؟

– حسنا، غدا أنا متوجه إلى الأردن لحضور اجتماع وزراء الخارجية، وسنكون هناك لبحث الأمور، ونأمل أن نستطيع توجيه ما أسميه رسالة موحدة للشعب السوري، رسالة أمل للمستقبل، وأيضا رسالة توضح ما هو متوقع، حتى يكون هناك توافق في الرؤى بين ما يحدث الآن في دمشق والمجتمع الدولي. كما آمل أن أتمكن قريبا من زيارة دمشق.

* هل تعملون على ذلك؟

– نعم، ويمكنني أن أؤكد لك أنك ستكون أول من يعلم.

* بالنسبة لي، المعنى السياسي لذلك مهم. ولكنني أعلم أن الأمر حساس للغاية بالنسبة لك ولهم، فهل اتخذت القرار بأنك ستبدأ التواصل الرسمي مع “هيئة تحرير الشام” وأحمد الشرع؟

– لقد أوضحت منذ اليوم الأول أن مهمة الأمم المتحدة هي التحدث مع جميع الأطراف، بما في ذلك “هيئة تحرير الشام”. لذا، فهذا ليس موضوعا محظورا بالنسبة للأمم المتحدة، وسنستمر في اتباع هذا النهج. حاليا، نحن نتعامل مع وجود حكومة مؤقتة. خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، نهدف إلى التعاون مع الأطراف السورية للتحضير لترتيبات انتقالية تتماشى مع الأهداف التي ناقشناها حتى الآن. نحن ملتزمون تماما بالتواصل والانخراط في حوار مع جميع الأطراف السورية في هذا السياق.

* متابعة لذلك، إذن ستذهب إلى دمشق للقاء الشرع؟

– لم تحدَّد تفاصيل الزيارة بعد. ولكن كما قلت، نحن منفتحون للقاء جميع الأطراف في دمشق. هذه ليست القضية. سيتم توضيح التفاصيل، ونأمل أن نحصل على وضوح بشأنها خلال الأيام القليلة المقبلة.

المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون في مقابلة مع رئيس تحرير “المجلة” إبراهيم حميدي

* أعلن أحمد الشرع/أبو محمد الجولاني قبل بضعة أيام عن الحكومة المؤقتة الجديدة أو الحكومة التي كانت تحكم إدلب والآن تحكم دمشق أو سوريا. كيف ترى هذه الحكومة؟

– ما ذكرتَه عن كون هذه حكومة مؤقتة لمدة ثلاثة أشهر أمر بالغ الأهمية. حتى الآن، لم يتضح بعد إن كان جميع الوزراء قد تم تعيينهم. ولسنا متأكدين من أننا نفهم تماما التطورات الحالية، لذا هناك حاجة إلى المزيد من الوضوح بشأن هذا الأمر. منذ اليوم الأول، كانت نصيحتي دائما أن سوريا تحتاج إلى هيكل حوكمة شامل، وهو طموح يتشاركه ملايين السوريين. وآمل بصدق أن يتحقق هذا التصور خلال فترة الأشهر الثلاثة.

علاوة على ذلك، لاحظت أنهم يعتزمون التحضير لدستور جديد وترتيبات انتقالية أخرى بعد هذه الفترة. أولويتنا الآن يجب أن تتركز على ضمان أن تحقق هذه الأشهر الثلاثة الاستقرار، وتعزز الشمول، وتشرك جميع السوريين. وتتجنب أي انقسامات أو صراعات جديدة خلال هذه الفترة. أعتقد أن هذا أمر بالغ الأهمية.

* هل يمكنك تكرار الشروط أو المعايير التي تتوقع أن يلتزم بها أحمد الشرع أو “هيئة تحرير الشام” للحكومة المؤقتة؟

– دعني أوضح أن هذه ليست رسالة مني فقط. بل هي تعكس ما أراه رسالة جماعية صادرة عن مجموعات مختلفة. هذا ما نسمعه من السوريين في جميع المجتمعات، ومن المجتمع الدولي الموحد: الحاجة إلى عملية ذات مصداقية وشاملة. ماذا يعني ذلك؟ يعني إشراك جميع المجتمعات السورية، والأحزاب السياسية المتنوعة، والفصائل المسلحة المختلفة. ومن خلال هذا النهج الشامل، يمكنهم العمل على بناء توافق حول كيفية المضي قدما. قد يبدو هذا بسيطا، لكننا نعرف جميعا أن الحوكمة بطبيعتها معقدة. قيادة حملة عسكرية لمدة 14 يوما شيء، وإدارة دمشق شيء آخر تماما وأكثر صعوبة بكثير.

* عندما تقول “شاملة”، هل يعني ذلك تضمين عناصر النظام السابق؟ وهل يشمل ذلك “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)؟

– أعتقد أن الحفاظ على مؤسسات الدولة واستمرارها أمر ضروري، ويتماشى ذلك مع ما سمعته حتى الآن بأن هناك رغبة واضحة في ذلك. ومعلوم الآن أنهم وجهوا دعوات للموظفين المدنيين الذين عملوا في ظل الحكومة السابقة، وأرى أن هذه خطوة إيجابية. في النهاية، ستكون القرارات المتعلقة بمن سيتم إشراكه من الحكومة السابقة أو من المجموعات الأخرى متروكة لما أسميه عملية شاملة، لتحديد من سيتم تضمينه من الحكومة السابقة أو المجموعات الأخرى. ولكن يجب أن تكون هذه العملية بقيادة وملكية سورية. وينبغي أن يكون التركيز على جمع جميع الأطراف بشكل جاد وحقيقي، وليس على الإيماءات السطحية أو الانشغال بما يبعد عن القضايا الجوهرية، وهو ما أعربت عنه حتى الجماعات المسلحة نفسها. وهذا يتماشى مع تطلعات الشعب السوري وتوقعات المجتمع الدولي. وأعتقد أن هذا يوفر أساسا قويا للمضي قدما. وبطبيعة الحال، سيكون من الضروري مراقبة كيفية ترجمة هذه الرؤية إلى تنفيذ عملي عن كثب.

* هل لديك إطار زمني لهذا؟

– كما أسلفت، لقد حددوا إطارا زمنيا لمدة ثلاثة أشهر، ومن المهم جدا الاستفادة من هذه الفترة بشكل شامل أيضا للتحضير للترتيبات الانتقالية الجديدة.

* ماذا عن المرحلة الثانية من الانتقال؟ مثل القرار 2254 الذي يمتد لـ18 شهرا؟

– انظر، علينا أن نناقش هذا، بالطبع، عن كثب مع أصدقائنا السوريين لنرى ما هو ضروري. دعونا نتذكر أن الاقتصاد قد انهار. هناك بالفعل 400 ألف لاجئ عادوا من لبنان، وهناك آلاف آخرون يريدون العودة، ولدينا كذلك النازحون داخليا الذين يريدون العودة إلى منازلهم. فإذا لم نتمكن من إصلاح الاقتصاد بسرعة كبيرة، فستكون أمامنا صعوبات هائلة. لذلك أعتقد أن من المهم للغاية وجود تواصل جيد بين سلطات الأمر الواقع في دمشق والمجتمع الدولي، لأن هناك حاجة ماسة لدعم اقتصادي كبير ودعم إنساني فوري.

* يتساءل قادة “هيئة تحرير الشام”: لماذا يجب أن نتعامل مع المبعوث الأممي الخاص؟ لقد تجاهلنا المبعوثون الأمميون لأكثر من 10 سنوات، ولم نكن في يوم جزءا من العملية، فلماذا يجب علينا المشاركة الآن؟ ما الحوافز التي يمكنك تقديمها لـ”هيئة تحرير الشام” للتعامل معك؟

– أود أن أطرح الأمر بشكل مختلف قليلا. الواقع هو أن الجماعات المسلحة باتت الآن، أو ربما قريبا، تحكم سوريا بأكملها. وكجزء من المجتمع الدولي، فإن سوريا لديها بطبيعة الحال تمثيل دبلوماسي وهي عضو في الأمم المتحدة. هذا يعني أننا لا نفرض أنفسنا على السلطات الفعلية في دمشق؛ بل هذا هو ببساطة كيفية عمل الدول، حيث تتعامل مع الأمم المتحدة. بالطبع، هناك حاجة لإجراء مناقشات لتحديد المتطلبات المستقبلية. على مر السنين، تعاونّا بشكل مكثف مع الأطراف السورية لتطوير أفكار، وهو أمر بالغ الأهمية. هذه الأفكار ليست أمرا نخطط لفرضه، بل هي نتائج حوار مع الآخرين. لقد استكشفنا مسارات متعددة للتقدم خلال الفترة الانتقالية. لقد عملنا منذ 2015 على استكشاف ترتيبات انتقالية في سوريا، وأعتقد أننا يمكن أن نلعب دورا داعما في هذا السياق.

في هذه المرحلة بالتحديد، تعتبر المساعدات الإنسانية أمرا لا غنى عنه، وستلعب الأمم المتحدة دورا محوريا في تنسيق هذه الجهود. بالإضافة إلى ذلك، فإن قضايا المساءلة والعدالة مهمة للغاية، ويمكن للأمم المتحدة، بخبراتها، أن تسهم بشكل كبير في ضمان معالجتها. وأخيرا، أود أن أشدد على أهمية قضايا اللاجئين، حيث تلعب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين دورا حاسما في هذا المجال.

* إذا فهمتُك بشكل صحيح، فأنت تتحدث عن شيء يشبه التعاون المشروط أو الانخراط المشروط، يمكن بواسطتها للمجتمع الدولي، بمن في ذلك أنت، تقديم بعض الحوافز إذا ما اتخذوا خطوات في الاتجاه الصحيح، مثل إزالة اسم الجولاني من قائمة الإرهاب، ورفع “هيئة تحرير الشام” من تلك القائمة، وربما رفع بعض العقوبات؟

– أعتقد أنه من الضروري رؤية تقدم يمكن أن يؤدي في النهاية إلى إزالة “هيئة تحرير الشام” من تصنيفها كمنظمة إرهابية. سيكون ذلك أمرا بالغ الأهمية. ومع ذلك، كما أشرتَ بشكل صحيح، يجب أن نرى أن ما يقولونه يُطبَّق على الأرض. وأنا سعيد أيضا أنك أثرت نقطة العقوبات، فرفع العقوبات لا يقل أهمية، لأنه من دون ذلك، لن يكون التعافي الاقتصادي في سوريا ممكنا. لتحقيق ذلك، نحن بحاجة إلى تفاهم مشترك، خاصة بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، حول كيفية المضي قدما.

* من يجب أن يتحرك أولاً؟ هل تتوقعون أن تتحرك “هيئة تحرير الشام” أولاً؟

– دعنا نكن صادقين، هذا يحدث بالفعل. كما قلت منذ اليوم الأول، عندما رأينا التحركات نحو دمشق، كان ما يحدث على الأرض إيجابيا. بالطبع، هناك تحديات، ولا ينبغي أن نخفي ذلك. نعم، هناك تحديات، بلا شك. لكنهم يقولون الأشياء الصحيحة. يقولون إنهم يريدون عملية شاملة. يقولون إن سوريا يجب أن تكون لجميع مكوناتها. وأعتقد أننا إذا رأينا ذلك يسير نحو التحقق، فسيكون هناك فرصة جيدة لرفع “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب.

* متى تعتقد أن ذلك قد يحدث؟

– للأسف، لست أنا من يقرر هذا.

* من الذي يقرر؟

– بالطبع، الدول الأعضاء هي التي لها الكلمة في هذا الأمر. ولكنني لاحظت أن ما أقوله الآن يردده بالفعل كثير من الدول الرئيسة.

* حتى روسيا؟

– لا يمكنني التحدث نيابة عن الروس، لكنني سأكون مندهشا إذا لم يروا هم أيضا الحاجة إلى تحقيق الاستقرار والتنمية في سوريا.

* سأنتقل إلى موضوع مختلف تماما، وهو موضوع مؤلم للغاية لكثير من السوريين. أنا متأكد أنك تابعت ما كُشف عنه بشأن المفقودين والمعتقلين. وأنا متأكد أنك تابعت ما حدث في صيدنايا. ما تعليقك، سيد بيدرسون؟

– إنه لأمر مفجع للغاية. مجرد رؤية وجوه أولئك الذين أُفرج عنهم أمر يفوق الوصف. بعض المشاهد لا يمكن التعبير عنها بالكلمات– إنها تتجاوز أي وصف. لا يمكن إلا أن تتأثر بعمق عندما تراهم. ثم تفكر في العائلات، ما الذي يشعرون به، والمعاناة التي يتحملونها وهم يعلمون أن عشرات الآلاف ما زالوا مفقودين. نحن نشارك في حزن جميع العائلات التي لم تتمكن بعد من لمّ شملها مع أحبائها أو حتى معرفة مصائرهم. هذه بلا شك واحدة من أعظم مآسي الصراع السوري. وكما تعلم، كان التصدي لهذه القضية إحدى أولوياتي الرئيسة منذ اليوم الأول. ويظل أحد أعمق، أعمق، أعمق مصادر حزني أننا لم نتمكن من تحقيق تقدم ملموس في هذا الملف.

* إنها إحدى القضايا الرئيسة لمستقبل سوريا، لبناء سوريا جديدة. هذا جزء من القضية الكبرى، وكانت عائلتي إحدى العوائل التي تعرضت لها. يمكنك بالفعل أن ترى مدى صعوبة هذا الملف. ما النصيحة إذن، بل ما الدور الذي يمكن لمكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة أن يقوم به الآن لمعالجة هذا الملف؟

– نحن لدينا مؤسسات مختلفة داخل الأمم المتحدة يمكنها المساعدة. لدينا اللجنة المستقلة التي أُنشئت حديثا للنظر في ملف المفقودين، وأعتقد أن ذلك يمكن أن يكون مفيدا جدا للسلطات الآن في دمشق. ثم هناك بالطبع قضية المساءلة والعدالة، وأيضا قضايا المصالحة، وكشف الحقيقة، وكيفية تحريك كل هذه الأمور بشكل متواز بطريقة تحقق العدالة للضحايا، وفي الوقت نفسه تسهم في تضميد الجراح بعد سنوات طويلة من الحرب والصراع والمعاناة الهائلة التي شهدناها.

*  هناك الكثير من التحديات في المستقبل، لقد بدأت حقبة جديدة الآن للسوريين، ولكن أمامها أيضا الكثير من التحديات. أحدها هو التدخل الإسرائيلي. نحن جميعا نعلم، وهذا معروف للجميع، أنهم دمروا بالفعل الأصول الاستراتيجية للدولة السورية. وانتهكوا، فوق ذلك، فعليا اتفاقية “فض الاشتباك” التي ترعاها الأمم المتحدة لعام 1974. ما تعليقك على هذا؟

– قلت، وأريد أن أكرر ذلك، هذا يجب أن يتوقف. إنه انتهاك، كما قلتَ، لاتفاقية عام 1974، وهو انتهاك لسيادة سوريا وسلامة أراضيها. إنه انتهاك للقانون الدولي. وأيضا قلت إنه من المهم للغاية في هذه المرحلة أن لا يقوم جيران سوريا بأي شيء يمكن أن يعقد العملية الصعبة جدا لخلق ترتيبات انتقالية ستكون ضرورية لإعادة الأمل للشعب السوري. لذلك، نحن بحاجة حقا لوضع حد لهذه الانتهاكات.

* بالطبع أنت مؤرخ، وأنا متأكد أنك قرأت كتاب باتريك سيل “الصراع على سوريا”. الآن، الكثير من الناس يتحدثون عنه مجددا. يبدو أننا ندخل مرحلة جديدة، حيث تدخل سوريا بأكملها في مرحلة جديدة من الصراع، صراع على دمشق أو صراع على سوريا. ماذا يعني هذا؟ هل ترى أن الصراع على سوريا يحدث الآن؟

– كما قال أحد الشخصيات التاريخية، هناك عقود لا يحدث فيها شيء وأسابيع تظهر فيها عقود.

* لينين قال ذلك…

أنت من ذكر لينين، وليس أنا. لكن هذا يعكس الواقع الحالي. من الصعب التنبؤ بوضوح بالطريق الذي سنسلكه. تغييرات كبيرة تحدث في المنطقة. نحن نشهد الأحداث الجارية في غزة، والتطورات في لبنان، حيث يوجد الآن وقف لإطلاق النار نأمل أن يستمر. لقد شهد “حزب الله” حالة ضعف شديد، وتبدو إيران وكأنها فقدت وجودها في سوريا. وفي الوقت نفسه، يتراجع تأثير روسيا في سوريا بشكل واضح.

في الشمال الشرقي، يستمر الصراع الذي يشمل تركيا– وهي عضو في “الناتو”– مع احتمال حدوث مواجهة مع الولايات المتحدة، وهي أيضا عضو في “الناتو”. كل هذا يخلق حالة من عدم اليقين الكبير. بالإضافة إلى ذلك، تتابع الدول العربية المجاورة عن كثب ما يحدث في سوريا.

بعد ثلاثة عشر عاما من الحرب والصراع، ومع نزوح ستة إلى سبعة ملايين لاجئ من سوريا إلى الدول المجاورة مثل لبنان والأردن وتركيا ودول عربية أخرى، وكذلك إلى أوروبا، من الواضح أن أي فاعل دولي عاقل لا يريد لهذا السيناريو أن يتكرر. هناك الآن رغبة حقيقية في تحقيق الاستقرار في سوريا. لهذا السبب أؤكد على أهمية تجنب أي أفعال قد تعرض هذا الاستقرار للخطر. إنها مسؤولية هائلة تقع على عاتق الأطراف السورية والمجتمع الدولي لضمان عدم تفويت هذه الفرصة لخلق بداية جديدة للشعب السوري.

* هل تعتقد أن الشرق الأوسط يشهد تحولاً هيكليًا شاملاً؟

– لا، لا أعتقد ذلك. لا تزال هناك الكثير من المناطق في المنطقة تتمتع بالاستقرار، ولا تحدث تغييرات كبيرة. ومع ذلك، في سوريا وفلسطين ولبنان، نشهد تطورات دراماتيكية للغاية. السؤال الرئيس هو كيف ستؤثر هذه التغييرات على المنطقة ككل. كما ذكرت سابقا، هناك أمل في أن تلعب سوريا الآن دورا إيجابيا بدلاً من دور سلبي. وإذا تمكنت سوريا من تحقيق الاستقرار، فسيكون لذلك تأثير إيجابي واسع، يجلب نتائج إيجابية لبقية المنطقة. هذا هو الهدف الذي نعمل من أجله.

* سؤال شخصي، إذا سمحت. هل صُدمت أو فوجئت بالطريقة التي غادر بها الأسد البلاد؟

– في النهاية، ومع تطور الأحداث، كنت أتوقع أنه على الأرجح سيغادر. غير أن الطريقة التي غادر بها؟ نعم. كانت بالفعل صادمة. لم تكن هناك رسالة، ولا أي تواصل مع الشعب الذي حكمه لسنوات طويلة. من الصعب فهم كيف يمكن أن يحدث مثل هذا الرحيل.

* بعض المسؤولين البارزين في الحكومة السورية السابقة، مثل بشار الجعفري وغيرهم من الشخصيات الرمزية للنظام السابق، ظهروا بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول بخطاب مغاير تماما لخطابهم السابق. كيف ترى ذلك؟

– ليست هذه أول مرة نشهد فيها مثل هذه التحولات بعد انهيار الأنظمة الاستبدادية، حيث نرى تحولا مفاجئا في مواقف أشخاص كانوا يعتبرون من أعمدة هذه الأنظمة. رأينا ذلك في جميع أنحاء أوروبا الشرقية. أتذكر عندما كنت أعمل دبلوماسيًا في ألمانيا الشرقية مباشرة بعد سقوط جدار برلين. كنت هناك في عام 1991، وكنت أسافر كثيرًا في الشرق، وكان من المذهل رؤية كيف تحول الشيوعيون المخلصون سابقا بسرعة إلى أعضاء محافظين ملتزمين في الاتحاد الديمقراطي المسيحي. هذا يحدث الآن أيضا، وأؤكد لك أنه يحدث كذلك في سوريا. ومع ذلك، فإن الأهم هو أن ننظر إلى ما هو أبعد من هذه التحولات. يجب أن ينصب التركيز على تحقيق المساءلة الحقيقية وتعزيز المصالحة الفعلية.

* هل لديك أي رسالة للشعب السوري؟

– حول الحوكمة الشاملة: من الضروري ضمان إشراك النساء.

وحول المعتقلين والمفقودين: عائلات المفقودين تحتاج إلى دعم عاجل وشامل: إنهم بحاجة إلى المساعدة الآن.

* السيد غير بيدرسون، شكرا جزيلا على هذه المقابلة الغنية مع مجلة “المجلة”. آمل أن تكون قريبا في دمشق فتعمل على تشكيل حكومة شاملة لجميع السوريين.

– أشاركك الأمل في أن نتمكن من تقديم دعم ومساعدة فعّالين، وأن نساهم، كما ناقشنا، في تمهيد الطريق لبداية جديدة للشعب السوري. دائمًا ما يسعدني التحدث معك.

* شكرا جزيلا…

المجلة

———————-

سورية في بحر الزمن/ بيار عقيقي

14 ديسمبر 2024

شيء واحد لا يتوقف مهما فعلنا: الزمن. في الحالة السورية، انتقل الزمن في غضون أيام من إسقاط بشار الأسد ونظام العائلة وحزب البعث إلى أيّ نوعٍ من الحكم في سورية سيولد؟ عملياً، لا أحد يعلم ماهية النظام العتيد. ونظرياً لن يحمل أيَّ نوع من أنواع تقسيم سورية إلى دويلات عرقية أو طائفية. لا لشيء، سوى لأن طبيعة سورية لا تحتمل تقسيم الأراضي، عكس ما يظنّه أنصار نظريات المؤامرة، وهم كثر، خصوصاً حين يتداولون خرائط تقسيمية، لا لسورية فحسب، بل أيضاً للشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فلو كانت مثل تلك الخرائط صحيحة، فلم يجري تداولها علناً؟ سيحمل المخاض السوري في مرحلة ما بعد الأسد نوعاً من الحكم الذي سيمنح صلاحيات أكثر مرونة للمحافظات، بصورة مماثلة بعض الشيء للعلاقة بين إقليم كردستان في العراق والحكومة الاتحادية في بغداد، لكن بصيغة أكثر قرباً من الطبيعة السورية.

لا يتعلق الأمر برفض الدول المجاورة لسورية تقسيمها أو قبوله، بل أن أي تقسيم للدولة السورية سيستولد كرة ثلج تطاول آثارها لبنان والعراق وتركيا والأردن وإيران. ليست سورية يوغوسلافيا السابقة على سبيل المثال، كي يمرّ تقسيمها من دون انعكاسه على الجوار الإقليمي. في يوغوسلافيا، وضمناً البلقان، تنوّع إثني وديني، لم يتجاوز الشمال اليوغوسلافي، ولا الجنوب، بل تمركز في الوسط وصولاً إلى مداخل ألبانيا الشرقية الشمالية لجهة كوسوفو. في المقابل، التنوّع الإثني والديني في سورية مترابط بين سواحل شرقي البحر المتوسط غرباً، وباتجاه إيران شرقاً، ومن تركيا شمالاً إلى شبه الجزيرة العربية جنوباً.

صحيحٌ أن المخاوف الناجمة عن وصول “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) إلى السلطة في دمشق، ولو لثلاثة أشهر، محقّة، بفعل تاريخ “الهيئة” وزعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، لكن من جهة أخرى، سورية غير مؤهلة لتُصبح أفغانستان ثانية، بل مستحيل حصول ذلك. الأسباب كثيرة، فسورية بموقعها الجيوبوليتيكي في قلب الشرق الأوسط، وتالياً في لبّ الطريق الرابط بين الشرق والغرب، أكثر ميلاً إلى الانخراط في الحراك الاقتصادي والثقافي. حلب نموذجاً. مدينة مليئة بتراث اقتصادي واجتماعي وديني وثقافي لا ينضب. دمشق، أقدم عاصمة في التاريخ، لا قدر لها سوى التفاعل مع عالم يُشبهها باتساعها الجغرافي، كما أن قلعة بعلبك الرومانية لم تُبنَ إلا عبر تمرير أحجارها عبر طرق حمص السهلية، لا عبر الجبال اللبنانية الوعرة. الجغرافية في سورية متفاعلة ومتحرّكة أكثر بكثير مما هي في أفغانستان، سقف العالم، والمعزولة بفعل طبيعتها القاسية ومناخها القارس.

أكثر من ذلك، مع أن من المبكر توقع ما سيحصل، إلا أنه يُمكن الاتفاق على أن التغيير في سورية، مؤهلٌ، في مكان ما، لبناء صيغة تصالحية بين الدين ومدنية الدولة من ناحية، وبين المسلمين والغرب من ناحية ثانية، بعد أكثر من عقد على نموّ اليمين المتطرّف والإسلاموفوبيا غرباً، وتهميش العديد من الأقليات شرقاً والتضييق عليها. ليست الصورة مثالية، ولكن يجوز التفكير فيها، على قاعدة أن الدعم الغربي للحكم الجديد المؤقت في سورية، بل الحديث عن تزايد احتمالات رفع “هيئة تحرير الشام” عن قوائم المنظمات الإرهابية، مؤشّرٌ على مسار أكثر تشعّباً من إسقاط نظام الأسد. وهو ما عبّرت عنه تصريحات الشرع تجاه المعسكر الغربي، وتصريحات قادة الدول الغربية تجاه التغيير السوري.

وسط ذلك كله، ظلّت روسيا والصين خارج تلك المعادلة. تسعى موسكو إلى التفاهم مع هيئة تحرير الشام بشأن مستقبل قواعدها في سورية، فيما كرّست بكين عادتها في التموضع بمكان غير مؤثر على الواقع. رسّخ التغيير السوري مجدّداً عجز الصين وروسيا عن تأدية دور مقارب للدور الأميركي، وعن تمتين دعوتهما إلى عالم متعدّد الأقطاب. الزمن لا يتوقف، وقطار التغيير يتجه شرقاً إلى ما وراء جبال زاغروس.

العربي الجديد

——————–

العيون السورية نحو المستقبل/ بشير البكر

14 ديسمبر 2024

تعب السوريون من أثقال الحكم العسكري الدكتاتوري، الذي عاشوا في ظله أكثر من 60 عاماً، منها 54 عاماً تحت سلطة عائلة الأسد، التي حوّلت البلد مزرعة خاصة ومملكة للصمت، على حد تعبير الرمز المعارض الراحل رياض الترك. وشكّل سقوط نظام بشّار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الحالي أهم انعطافة في تاريخ سورية الحديث. ويعكس الفرح العارم، من شمال سورية إلى جنوبها، مدى توق السوريين إلى الانعتاق والحياة الخالية من الخوف وسطوة أجهزة الأمن والمخابرات، التي بثت الرعب في المجتمع وكتمت أنفاسه، ومنعته من الحديث بصوت عال، والمطالبة بحقوقه الأساسية التي سلبها قانون الطوارئ سيئ الصيت، الذي فرضه حزب البعث عام 1963، وواصل العمل به، ليُصادر الحقوق العامة والسياسية كافة، ويجمّد القضاء المستقل، ويستبدله بالأحكام العسكرية، كما وضع تدابير استثنائية وقيوداً على حرية الأشخاص، ووسائل الإعلام المستقلة، ومنع حق الاجتماع لأكثر من ثلاثة أشخاص، وتدخل حتى في تنظيم الزيجات.

تلوح اليوم فرصة تاريخية لطي صفحة الماضي الأسود، ويذهب الطموح نحو البناء على الحالة التي شهدتها سورية منذ بدء العمليات العسكرية في حلب في السابع والعشرين من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، ومن ذلك الانضباط الذي تحلت به الفصائل العسكرية في عملها ضمن المهمة المكلفة بها، وعدم التجاوز على المدنيين والأملاك العامة والخاصة والحريات الفردية أو المتعلقة بالأديان والعبادات وممارسة الطقوس. وما يبعث الأمل هو الخطاب العام الذي رافق العملية العسكرية لجهة احترام الحريات ووحدة المجتمع وعدم التدخل في شؤون الناس وخياراتهم السياسية والحياتية أو فرض الإكراه الثقافي والديني والقومي، فسورية بلد تعدّدي متنوّع، وهذا أحد عناصر جماله وقوته ومصادر ثروته ورأس ماله الرمزي الثقافي والاجتماعي، الذي منحه مكانة متميزة على مر التاريخ، وجعل منه مثالاً للتعايش. ولذلك ستكون إحدى أبرز المهام التي يجب أن ينهض بها السوريون عدم تكرار التجارب السيئة، العربية وغير العربية، التي سبقتنا في الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، وهذا يحتم أن تكون الأولوية لإنهاء الانقسامات التي كرّسها حكم عائلة الأسد من طائفية وثقافية ومناطقية، والسبيل إلى ذلك أن نجعل من بوصلتنا رفض الثأر والانتقام والإقصاء، وإعلاء وحدة المجتمع وبناء سورية الجديدة المنفتحة على كامل أبنائها.

ليس هذا ضرباً من المبالغة في الحلم، بقدر ما هو رهان مشروع قائم على الرصيد الإيجابي لتجارب السوريين داخل بلدهم وخارجه، حيث يُسجّل لهم أولاً أنهم استطاعوا مواجهة ظروف الحياة في ظل أحد أكثر الأنظمة توحّشاً، ولم تنطفئ داخلهم جذوة الحرية وأحلام الانعتاق من الاستبداد. وقدّمت تجربة المنفى السوري صورة مشرقة عن القدرة على التكيف والصبر والبناء، وما هو مطلوب اليوم هو أن ترجع رؤوس الأموال والطاقات إلى البلد من أجل المساهمة في إعادة إعماره.

كان المجتمع المدني السوري مصادراً من النظام في مرحلة ما قبل الثورة، وبعد قيامها تدرّب على بناء المؤسّسات من أجل إدارة حياة السكان في مناطق التهجير، وحقق نجاحاتٍ مشهوداً لها. وهنا يحضر على الدوام مثال منظمة “الخوذ البيضاء” للدفاع المدني، التي خففت من معاناة السوريين، وحازت على تقدير الأمم المتحدة وعدة أطراف دولية وثقتها، ما جعلها هدفاً لروسيا التي حاولت إفشالها من خلال توجيه تهمة الإرهاب لها. وبالفعل، كانت هذه المنظمة أول الواصلين إلى المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام أخيراً، وكان نزولها إلى حلب من أجل تقديم الخدمات الضرورية مبادرة تستحق التقدير، وتبعث على الأمل في نهضة المجتمع السوري.

العربي الجديد

————————

إنقاذ الجندي جعفر: تقرير عيانيّ عن أحداث سوريا الأخيرة/ أحمد عمر

14 كانون الأول 2024

اتصلت بي أم جعفر وكانت جارتنا قبل هجرتها من حمص إلى طرطوس، في صباح الأحد العظيم، أحد إسقاط أعتى نظام ظالم عرفه التاريخ العربي، رحلت بعد البسوس الثانية التي اشتعلت بين الشعب والنظام، استغاثت بي قائلة: أقبل يديك ورجليك، ابني جعفر في الشام، والمواصلات مقطوعة.

فتذكرت قول بشامة: وإن دعوت إلى جلي ومكرمة يومًا سراة كرام الناس فادعينا، فقلت: إذا حصّلت بنزين فأبشري أم جعفر.

اتصلت بها بعد نصف ساعة، وأخبرتها أني إليه منطلق، فشكرتني ودعت لي بدعاء طويل ظهرت فيه لوعة الأم الثاكل على ابنها، أقرعت بين نسائي، وليس لي سوى امرأة واحدة لكن بأربع أسماء ، فوقعت القرعة على زوجتي الصغرى الحبيبة إلى قلبي أم الخير، فأنا أستوحش في السفر من غير أنثى تواسيني في الطريق وتجلو عني وعثاء السفر، ليرتي لها وجه واحد: طرة، وليس لها نقش، اصطحبت ابني الخير، في رحلة «إنقاذ الجندي جعفر»، على غرار الفلم الشهير، إنقاذ الجندي رايان، كانت أصوات القذائف وغمامات الدخان تتعالى من بقايا المعركة، انطلقنا من حمص باتجاه الشام، أخبرني جعفر الذي أخذت رقمه من أمه أنه ينتظرني في كراج العباسيين في الشام.

كان الطريق مطرزًا بالجثث، جثث على مدِّ النظر، وثياب عسكرية ملقاة خلفها أصحابها تخلصا من شبهة الجيش، لم أجد شحاطات لجند جيش أبي شحاطة. كانت عشرات العربات المدرعة متفحمة ولحمها الحديدي لا يزال يحترق، وكنا نرى بين الحين والآخر فصائل الجيش الحر التي يسميها السوريون الهيئة اختصار أو الجيش الحر بتسميته الأولى، قد أوقفت مجموعات من جند الأسد جاثين، خاشعين، مبدلين ومغيرين، فيصادرون أسلحتهم، ويلصقون عليها لصقات عليها أرقام وعلامات، ويصادرون هواتفهم، والمصادرة أمنية، وليست اغتننامية، ثم يطلقونهم بعد خطبة قصيرة قائلين في ختامها: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فيهتفون الله أكبر عدة مرات.

رأينا أنا زوجتي الصغرى التي وقعت عليها القرعة وابني سطورًا طويلة ومتراكبة ومتلاصقة من السيارات والشاحنات في الطريق، وصهريجًا مثل سلحفاة بحرية تراكمت عليها الأصداف والأشنيات، عليها ما يقرب من ثلاثين رجلًا، كأننا في الهند الشهيرة بمواصلاتها المزدحمة، بلغت استراحة الجلّاب على مشارف النبك، فاتصل بي جعفر يخبرني أنه وجد وسيلة نقل، ورجاني أن أنتظره في حمص لإجلائه عنها إلى طرطوس، فملنا إلى الاستراحة، فوجدت فيها باصًا كبيرًا مليئًا بالرجال ينزلون، سألت أحدهم عن خبرهم فقال: نحن سجناء، فعجبت من أمرهم، فهم أصحاء، سمان، لا يشبهون سجناء سجون الأسد الذين يخرجون عراة من اللحم والعقل، ثم علمت أنهم سجناء جنائيون محررون، من الطائفة العلوية والمرشدية، عملوا مساعدين للسجانين، وأنَّ النظام الرحيم أطلقهم قبل الهروب الكبير. كانوا سعداء، ويكبّرون، ويحيون هيئة تحرير الشام، ويسبون الأسد الصغير ويترحمون على الأسد الكبير.

عدنا إلى السيارة، فوجدت شابًا مع أمه على كرسيها المتحرك، وقفا أمام سيارتي، توسل الشاب إليّ أن أصطحبه مع أمه، ورجاني شابان آخران، قلت للشابين إن سيارتي لا تسع سوى خمسة ركاب، وأستطيع أن أقل واحدا منهما، وسأقرع بينهما، اقترح الرجل الثاني أن ينام في صندوق السيارة الخلفي، فابتسمت وقلت: إذا استوقفتنا هيئة تحرير الشام سيظنون بي الظنون، وقد أتهم بتهمة جنائية.

انكبّ على يدي يقبلها، فسحبتها كما يفعل الشيوخ الأجلاء تواضعا لله، قائلا بلهجته الساحلية: في عرضك، ورمى بنفسه على قدمي زوجتي التي تراجعت مذهولة، أدرك أنه أخطأ، وأن المرأة عند السنّة لا تمسّ، فاعتذر، وتوسل، فألحدته في الصندوق، وانطلقنا باتجاه حمص، بعد أن أجلست ابني، وهو طالب جامعي، عظيم البنية، في حضن أمه في المقعد الأمامي، فصار منظرنا مضحكًا، لكن المنظر كان شائعًا في وسائل النقل على الطريق. حادثت ضيفي، والمضيف العربي ينادم ضيفه، كما قال الشاعر مسكين الدارمي:

أُضاحك ضيفي قبل إِنزال رحله

ويخصبُ عندي والمحلُّ جديبُ

فسألته عن اسمه، فمكث غير بعيد، كأني أسأله عن حلِّ أحجية، ثم أجاب بعد تفكر: جورج.

انتظرت وسألت: جورج إيش؟

قال بعد تفكر (ظننت أنه سيطلب ثلاثة أجوبة) جورج إلياس. فأدركت أنه يتوقى من اسمه الطائفي، حتى لا يذعرني، كما نذعر من أسمائنا عند عبور الحواجز. سقى الله تلك الأيام غير البعيدة.

سألت: من أين؟

أجاب: من زيدل.

وهو حي للنصارى.

فتوثقت من كذبه، فلهجته ليست لهجة زيدل، امتحنته قائلًا: إذًا تعرف لورانس إلياس من زيدل، لعله ابن عمك، فسكت ثم قال لا أعرفه لأني خرجت من زيدل منذ زمن، فأشفقت عليه من الكذب وأعتقته.

أخبرني ابن ذات الكرسي المتحرك أنه مهندس اتصالات، فسألته عن «البوابات المنطقية» في الحاسبات، فسكت، ثم قال معترفًا إنه نقيب، واعترف الثاني أنه مقدم في الحرس الجمهوري، وقد شارك في معارك التسليم بدءًا من حلب حتى دمشق، وهما هاربان بعد أن أمروا بالاستلام والتسليم، لم اجد تعبير التسليم والاستلام متسقا، فهو لا هذا ولا ذاك أنه ترك أو فرار، أو تسليم من غير استلام، ولم اعرف مهنة المسافر في الصندوق، الذي ستره الصندوق من الكذب ولم اعرف رتبته، لاحقا زعم انه من حرس الشرف، وهي مهنة استعراضية ، واظنه كاذبا .

أخبرني المقدم أنهم خسروا 700 جندي في معارك حماة، وقدر خسائر جيش الأسد بثلاثة آلاف جندي في طريق الشام، وخسائر هيئة تحرير الشام بعدة مئات، بغضتهما بغضًا شديدًا، فهما كاذبان خسيسان، هربا مثل رئيسهما من غير تبليغ للجنود بأمر الاستلام والتسليم، وزاد من بغضي لهما أنهما توسلا إلي أن أوصلهما إلى مأمنهما، وكنت أخبرتهما أني مبتعث لاصطحاب الجندي جعفر، وأني سأنتظره في حمص، كما وعدت أمه، وأنا على العهد، وليس مثل رئيسهما الذي أقسم على حماية الدستور ورعاية مصالح الشعب رعاية كاملة، فخانها، قبلت أن أوصلهما إلى أطراف وادي الذهب شفقة بهما، وهو حي للطائفة العلوية في حمص، خال من الذهب والفضة، عشوائي البناء مثل كل الأحياء العلوية، بني رغمًا عن أنف القانون، مثل كل الأحياء العشوائية التي بناها رفعت وحافظ للطائفة، نزلا أمام بيت في الحي الشاحب، الخالي من السكان الهاربين خوفا من الانتقام، وجعل أحدهما يتسلق حائطًا، فيخذله بدنه، تركتهما، وأنزلت السيدة ذات الكرسي المتحرك أيضًا، وعدت أنتظر جعفر في الاستراحة التي اتفقنا عليها. شربت شايًا ثم قهوة، وصليت العصر والمغرب والعشاء، لم يصل جعفر إلا بعد الساعة الثانية عشرة ليلًا، معتذرًا بزحام الطريق. كنت وزوجتي (الصغرى التي وقعت عليها القرعة) وابني قد بلغ التعب منا مبلغه، فاقترحت عليه أن أستضيفه في بيتي، فسكت على مضض، وكان يخافني، ويظن أني سأذبحه في الليل، تجولنا في حمص، وأوقفتنا دورية لهيئة ردع العدوان، سألونا، وهم يغضون حياء من زوجتي طمأنونا وقدموا لنا دخانًا، تعمدت أن أزور صديقًا علويًا كريمًا كان معتقلًا سابقًا، جاع، لم يخف من الجيش الحر لطمأنة ضيفي جعفر. أعلمني جعفر أنه ملازم أول يخدم في منطقة سعسع، واعترف بأنه يكره هؤلاء الإسلاميين، لكن لم ير منهم سوءًا، واعترف أن أصدقاء له من السنّة من أهل المنطقة حموه وصانوه، عدنا إلى البيت وتعشينا، وغلبني النعاس النوم فأيقظني جعفر، ليخبرني بأنه سيقصد طرطوس ولو مشيًا على الأقدام، فطلبت منه أن يقود السيارة لشدة تعبي. وانطلقنا من جديد.

وجدت الطريق مكتظا بالمدرعات والعربات المدمرة، أو المعطلة، وجثثً ما تزال فيها، تظهر أن معركة شديدة قد حصلت بين هذه الفرقة المدرعة وبين فصائل الجيش الوطني، والذي يسميه العلويون الجيش السوري الحر، اسمه الأول الذي يعرفونه به، وإن القوم ذعروا لبسالة المقاتلين ففر منهم كثير. أخبرني الملازم أنه علم أن دولًا عربية عرضت عليهم تكوين جيب طائفي، لكن وجهاءهم رفضوا أن يعقدوا صفقة الذل والمهانة مع من بقي من طغمة آل الأسد، وآثروا السنة الذين سخروا من دينهم وحجابهم وصلاتهم وفتكوا بمدنهم وأهاليهم. لقد يئسوا، أوصلت جعفرًا إلى أمه في فجر الاثنين، وعدت إلى حمص الموحشة، سكرانًا من النعاس، وسعيدًا بالحرية غير خائف كأني سيد هذه البلاد، وتذكرت مرارات أربعين سنة من الذل، والقتل والاعتقال، كانت حمص مدينة خالية من الحواجز والبشر. أذن الفجر، فتذكرت قوله تعالى:

(فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون)

ملاحظة: التقرير السابق من محادثة مع صديق

كاتب سوري

القدس العربي

—————————

عندما انهارت أعمدة نظام الأسد/ غازي دحمان

14 ديسمبر 2024

سقط أحد أكبر الطغاة في التاريخ السوري والعربي عموما، سهر السوريون، في سورية والعالم، طوال تلك الليلة مذهولين، لم يتصوّروا مثل هذا السيناريو حتى في أحلامهم، كان هناك تخوّف كبير أن تشهد دمشق أحداثا معقدة وقتالاً عنيفاً، فدمشق المتخمة بالأجهزة والمليشيات ستكون ورقة مهمّة للتفاوض من أجل ترتيبات مستقبلية لبقايا نظام الأسد.

في آخر يوم من أيام نظام الأسد، تكدّست القوات المنسحبة من كل الجبهات في دمشق، بالمنطق العسكري، كان متوقّعاً تشكيل أطواق دفاعية حول العاصمة، أو على الأقل حول المربعات الأمنية وقصور بشّار الأسد، في ظل مفاوضات مكثّفة كان تجريها روسيا وإيران مع تركيا في الدوحة، كان الواضح منها رغبتهم في إنقاذ المعادلة في سورية وإنقاذ الأسد ومؤيديه من مصير مجهول. ومن المفترض أن هناك خطوط تواصل مباشرة مع النظام في دمشق، غير أن بشّار استعجل الفرار لإنقاذ نفسه، وحلّت أجهزة الأمن وقطعات الجيش هياكلها وسرّحت عناصرها وتخفّى قادتها.

كيف حصل ذلك؟ كيف سقطت إمبراطورية آل الأسد؟، وكيف انهارت دمشق التي جرى العبث بتوازناتها الديمغرافية وإعادة تشكيل اقتصادها ومجتمعها وحيوات ناسها، وكيف سمحت مراكز القوى الإقليمية والدولية التي تورّطت مع نظام الأسد في صناعة هذا الواقع السوري المنحرف، واستثمرت أموالا طائلة لإدامة الأوضاع التي أنشأتها بالقوة؟

كان الأسد على بعد خطوةٍ من إعادة تأهيله، أصبح هذا الأمر الشغل الشاغل لدول أوروبية كثيرة، وحتى دول إقليمية كثيرة كانت قد بدأت ترويج أن لا بدائل للأسد في سورية لا اليوم ولا في السنوات المقبلة. وبالتالي، يجب طي صفحة الثورة ضده إلى الأبد، وقبوله إقليمياً ودولياًً، بناء على أمر واقع جرى فرضه بالقوّة، وبالتالي، الحلّ الأفضل واقعيا هو التوصل إلى صيغ وترتيبات جديدة لسورية، بناء على هذه المعطيات، التي لا يبدو أنها ممكنة التغيير.

ثمّة إطار تفسيري ومفاتيح يمكن استخدامها لفهم اللعبة الكبرى التي وجد الأسد نفسه داخلها، والتي يبدو أن نتيجتها كانت ستكون نهايته، لعبة كان قد قبلها سنوات وتماهى معها، لكن اللاعبين الأساسيين طوّروا اللعبة، وربما أرادوا إجراء نقلة حاسمة تشكّل معادلة جديدة لا يكون الأسد أحد أطرافها.

الحرب التي اشتعلت في المنطقة هي السياق الذي جرت خلاله إطاحة الأسد، هذه الحرب التي أطاحت مراكز إيران في المنطقة، وغيرت المعادلة بشكل حاسم ضدها. لكن، ولفترة طويلة، بدا أن الأسد استطاع إنتاج استجابات تؤمن له إعادة تموضع جديد في ظل إحتضان عربي له وحالة من الرضى من إسرائيل على أدائه في أثناء الحرب، وتحييد نفسه بدرجة كبيرة. ورغم تهديد نتنياهو الأسد من اللعب في النار في سياق خطاب نصره على حزب الله، إلا أنه كان تهديداً من نوع لزوم ما لا يلزم، على اعتبار أن الأسد أصلا بذل أقصى ما يستطيع من جهد. وحسب تحليلات وتقديرات إسرائيلية، لا يمكن أن تحصل إسرائيل على وضع أفضل من ذلك في المرحلة الحالية.

بيد أنه في الأسابيع الأخيرة، كان هناك ضغط إيراني لم يخف نفسه، ويبدو أن إيران التي كانت تعيش على وقع إنهيار أوراق قوتها في المنطقة أخذت تتصرّف بنزق من خارج نسق سياساتها النمطية القائمة على حسابات معقدة وصبر إستراتيجي. وواضح أن هذه التحوّلات الإيرانية وضعت الأسد أمام خياراتٍ رأى فيها مصيرا أسود يتشكل أمام عينيه، وزاد من سوء الوضع بالنسبة له استجابة بوتين له عندما ذهب يطالبه بالدعم للوقوف في وجه قوات المعارضة، فقد كشفت صحف موسكو أن بوتين كان محبطاً منه إلى حد بعيد، وربما أفهمه أن دعم بقائه في السلطة بات يستنزف قدرات روسيا المستنزفة أصلا نتيجة حرب أوكرانيا.

في ظل هذه الخريطة المعقدة من التحولات والمواقف وضعف قاعدته الشعبية، حتى وسط بيئته، ومعرفته بحجم الضعف الذي وصل إليه جيشه، اتّخذ الأسد خيار الهرب وطي صفحة الحكم والتوريث، وكانت أولوية النجاة بنفسه المحرّك الأساسي له. لذا بدا تنفيذه مخطّطه هذا مطابقا لكلاسيكيات هروب زعماء المافيات عبر التسلّل هربا في جنح الليل، وترك النظام ينهار من دون تأمين لبيئته، وكأنه يقول لروسيا وإيران تولوا أنتم هذا الأمر، ربما لأنه لم يرغب في الاشتراك بترتيبات إنهاء دوره، وربما لخوفه من أجهزة الأمن التي ربما كانت ستعمد إلى خيارات أخرى، من نوع احتجازه والتفاوض عليه مع المعارضة والدول الفاعلة في الملفّ السوري. وربما لإنقاذ أنفسهم وتقديمه كبش فداء، ولهذا قرّر إجراء عملية هرب استباقية وتركهم لمصيرهم، حتى لا يتحوّل إلى ورقة بيد من كان يعتبرهم أوراقاً يحرقها متى يشاء.

ما يعني السوريين في هذه المرحلة أكثر من التفكير ببشّار الأسد، هو إدارتهم هذه المرحلة والعبور بالبلد إلى برّ الأمان وطي صفحة الحرب المريرة التي استنزفت طاقاتهم وحيواتهم؛ فالتحدّيات المطروحة كبيرة جدا، وتحتاج إلى عقول وإرادات توازي حجم ما هو مطروح عليهم.

العربي الجديد

——————————

كيف يُحمى أحمد الشرع وكيف نُحمى منه؟/ عمر قدور

السبت 2024/12/14

كي نتجاوز ما قد يبدو شخصنة لما سيلي؛ لا يتوقف الحديث هنا على أحمد الشرع، فهو كان سيصلح إزاء أي حاكم فعلي لسوريا ضمن سيناريو مختلف عما حدث فعلاً. وبالمعنى ذاته، لا ينطلق ما سيلي من اعتبارات أيديولوجية، لأن قسماً كبيراً منه عابر للأيديولوجيات، ويبقى مشروعاً فيما لو كان الحاكم الفعلي شخص آخر بأيديولوجيا غير إسلامية.

في بلدان نحلم باللحاق بها، ثمة خشية أميركية، عبّر عنها كثر، من أن يعمد ترامب، الرئيس المنتخب ديموقراطياً، إلى الانقلاب على الديموقراطية التي أتت به إلى البيت الأبيض ثانية. في فرنسا، انتُقد الرئيس ماكرون في العديد من المناسبات لأنه تجاهل روح الديموقراطية، رغم استغلاله فقرات دستورية أو قانونية تبرر له تجاهل روحية القوانين التي يجب أن تكون لها أولوية موازية للنصوص. واقعياً، وحيثما أمكن، لا ضمانة لمنع أي حاكم، منتخب أو غير منتخب، سوى الضغط بالقوانين وبالحراك السياسي.

وعندما نسأل: كيف يُحمى أحمد الشرع؟ فهو سؤال يُطرح بحكم وجوده في موقع السلطة حالياً، السلطة التي تتحول إلى استبداد متى وجد الحاكم إليه سبيلاً. وهذا سؤال بطبيعة الحال لا يفترض سوء النوايا مسبقاً، بل قائم على أن النزوع إلى السيطرة من صفات معظم البشر، ولو تُرِكوا لأهوائهم بلا قوانين لرأينا العجب. وإذا افترضنا حسن النية لدى الشرع، فمن الأولى حمايته من أن ينزع إلى السيطرة والاستئثار بالسلطة.

لقد قيل الكثير في الأيام الأخيرة عن براغماتية الشرع، بما فيها تخلّيه عن لقب الجولاني، وصولاً إلى ظهوره بلباس مدني وهو يدعو إلى الاحتفال بالنصر يوم الجمعة، ومن ثم الشروع في بناء البلد بعد ذلك. البراغماتية، بخلاف ما تنص عليه التربية الأيديولوجية الصارمة، هي خصلة مطلوبة في الممارسة السياسية، لكن التعويل على صاحبها لا يكفي، فهو كما نعلم محكوم أيضاً بنشأة أيديولوجية، وبأتباع لن يكونوا راضين عن الشطط البراغماتي.

أن يكون الشرع مستفرداً بالقرار، فهذا ما سيصعّب عليه المضي في البراغماتية أمام أنصاره من هيئة تحرير الشام، هؤلاء الذين ينتظرون منه إقامة دولة إسلامية، ولن يفهموا أو يتفهّموا عدم الشروع في بناء الدولة الموعودة. الاختبار يكون أصعب عندما نضيف إليهم أولئك الذين هم خارج الهيئة، وراحوا ينظرون إلى الشرع بوصفه القائد المحرِّر، بل تمادى البعض منهم إلى حدّ طلب الصمت من منتقدي الشرع والقول: كان الأولى بالمنتقدين أن يحرروا البلد من أن ينتقدوا محرِّرها!

ثمة مغالطة هنا على صعيد الفهم أولاً، يُستحسن بالشرع نفسه أن يفنّدها. فالتحرير المشار إليه حدث بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً على الثورة والحرب، دفع فيها السوريون أثماناً باهظة بدءاً من المظاهرات الأولى التي تُسجّل لعموم السوريين ولمجمل نضالاتهم، ما يوجب أن يكونوا شركاء أصيلين في القرار. احتفالات النصر اليوم هي مستحقة ومؤجَّلة منذ شارف الأسد على السقوط، وأسعفه حلفاؤه بالبقاء، قبل أن تسعفه تحالفات دولية. والتحالفات الدولية التي منعت في ما مضى سقوطه أذنت لاحقاً بذلك، وهذا لا ينتقص إطلاقاً مما هو مستحق منذ زمن بعيد، ولا ينتقص بالتأكيد من شجاعة المقاتلين الذين قاموا بعملية التحرير الأخيرة ونبلهم، إلا أن التذكير بالخارج “ودوره في تفادي سيناريو دموي لإسقاط بشار” ضروري جداً كي يتواضع أصحاب الرؤوس الحامية في الداخل.

نعلم أن الإشارة إلى قوى الخارج لها إرث سوري سلبي، من قبل مَن تشرّبوا بإعلام الأسد الذي واظب على ذمّ الخارج، وأيضاً من قبل جمهور الثورة الذي رأى أن الخارج نفسه تآمر عليه. نحن بحاجة ماسة إلى الخروج من هذه العقلية، وإلى إعلان سوريا دولة غير مارقة في ما يخص القوانين الدولية، ويحضر هنا على وجه السرعة القرار 2118 الذي نصّ في أحد بنوده على الالتزام ببيان جنيف، والقرار 2254 المعروف. بالطبع حدثت تطورات تجعل تعديل القرارات ضرورياً، منها أن الأسد لم يعد طرفاً في عملية الانتقال السياسي، ومنها ما يُشاع عن رفع هيئة تحرير الشام من لوائح الإرهاب، إلا أن روحية القرارات نفسها ما زالت صالحة.

إعلان سوريا دولة قانون، تلتزم بالقوانين الدولية، مدخل جيد لكي يدرك أنصار الشرع أنهم لا يستفردون بالحكم، وأن هذا ليس من حقهم، والمطلوب مرحلة انتقالية على قاعدة المشاركة، لا التغلُّب. وللتأكيد؛ هذا يدعم موقف “الشرع”، إذا كان لا يريد الاستئثار بالسلطة. ونفترض أن تنفيذ القرارات الدولية مدخل تلقائي لمشاركة أوسع، تنزع عن الشرع ما هو محاط به من ريبة اليوم على خلفية الخشية من استفراده بالسلطة، وعلى خلفية الغموض الذي يكتنف ما يخطط له. المشاركة هي أيضاً المدخل الأنسب لتبديد الغموض، وتعزيز الشفافية المطلوبة بإلحاح في الفترة الانتقالية.

ورغم أن العديد من القرارات الدولية لم يأخذ طريقه إلى التنفيذ، إلا أننا، ولو على الصعيد المعنوي فحسب، خسرنا فرصة تجريم بشار في محكمة الجنايات الدولية، لأنه لم يوقّع عليها بصفته رئيساً للبلاد، ومن المؤكد أنه عندما لم ينضم إلى الاتفاقية كان مدركاً لعواقبها. ومن نافل القول أن السلطة، المناطة بها مطالبة إسرائيل عبر الهيئات الدولية بالالتزام باتفاقية الهدنة للعام 1974، ينبغي أن تقدّم مثلاً بالالتزام بتطبيق القرارات الدولية الخاصة بسوريا، فلا تعطي بتملّصها منها ذريعة كي تتملص إسرائيل أيضاً وتحتفظ بالأراضي التي استولت عليها مؤخراً.

ولأن الداخل السوري منهك حقاً، بسبب التحطيم الذي ناله عموم السوريين في السنوات الأخيرة، فإنه يقع على قوى الخارج جزء من مسؤولية الدفع في اتجاه تنفيذ القرارات الدولية. ومن المعلوم أن الشرع بحاجة إلى القوى الدولية في أمرين شديدي الإلحاح له؛ أولها الاعتراف رسمياً بسلطته، ما يستوجب ثانياً رفعه من لائحة الإرهاب.

يفوّت الخارج الفرصة إذا تعاطى مع الوضع على قاعدة تغليب الاستقرار على استحقاق التغيير الديموقراطي، وقد سبق له أن فعل ذلك عندما تم الترويج لإبقاء الأسد كوصفة للاستقرار. اليوم هناك فرصة حقيقية للإقلاع عن قصر النظر السابق، من خلال قناعة دولية وإقليمية بأن استقرار سوريا على المدى البعيد رهن بنظام تشاركي ديموقراطي. والحديث عن الفرصة السانحة يأخذ طابع الاستعجال، بما أن التطورات الأخيرة كلها حدثت في أيام قليلة لم تُلتقط خلالها الأنفاس.

على نحو أكثر تحديداً، ربما نكون على موعد مفصلي، حيث قد ينعقد اليوم السبت اجتماع العقبة للمجموعة العربية الخاصة بسوريا، تضاف إليها دول عربية أخرى هي قطر والإمارات والبحرين، فضلاً عن اجتماعات ستُعقد مع وزيري خارجية الولايات المتحدة وتركيا، والممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي والمبعوث الأممي حول سوريا. السوريون بحاجة ماسة لدعم متعدد المستويات من المجتمعين، في مقدمها الدعم السياسي والاقتصادي. من بين أوجه الدعم المطلوبة أن يُحمى السوريون من الحاكم الحالي، وذلك بأن يُحمى هو نفسه من احتكار السلطة.

المدن

——————————

مهام صعبة أمام حكومة الثورة السورية/ حمد مظهر سعدو

14 ديسمبر 2024

مهما قيل عن انتصار الفصائل السورية المسلحة، وقدرتها المبهرة على الوصول إلى العاصمة دمشق، خلال 11 يوماً فقط من بدء عملية ردع العدوان، فإن الحقيقة تقول إن ثوار سورية، وبجهد ميداني طويل، ومعاناة لا تنقطع، وشهداء على مذبح الحرية، جاوزوا المليون ونيف، تمكنوا وبعد ما يقرب من 14عاماً من أن يصلوا إلى دمشق، العاصمة الأموية العريقة، وينعموا بهواء قاسيون العليل. وبذلك، يكون الأمل قد عاد، ليس للسوريين فحسب، بل لجميع نشطاء ثورات الربيع العربي، التي انتكست خلال السنوات المنصرمة، وأصابت الشعوب باليأس، ويكون الواقع السوري قد أثبت، بالممارسة والملموس، أن الشعوب فيما لو ظل الأمل والعمل والاستمرار في اشتغالها الجدّي، سوف تصل إلى مبتغاها، وتنجز الكثير، وها هي ثورة الشعب السوري، ثورة الحرية والكرامة تنتصر وتقتلع أركان النظام الطغياني الاستبدادي الطائفي بدوره الوظيفي القذر، وترميه إلى مزابل التاريخ، فيفر هارباً إلى موسكو تحت جنح الظلام، وهو الذي كان وأدواته يمسكون برقاب الشعب السوري وأنفاسه، ويمعنون في تقتيل الناس، من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، ويزجّونهم في غياهب السجون، حتى بلغ من تم إدخاله إلى معتقلات بشار الأسد وأقبيته، حسب تقديرات لمنظمّات حقوقية أممية ما يقرب من 900 ألف معتقل، منذ بدء الثورة السورية في 15 مارس/ آذار 2011، وحتى لحظة سقوط نظام الأسد المدوي، ومنهم من قتل في السجون، ومنهم من خرج للحرية، ومنهم ممن ما زال مغيباً حتى اللحظة، لا يعرف أهلوه أي خبر عنه.

سقط هذا النظام/العصابة مع صبيحة 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 وهو تاريخ سيسجل في مؤرّخات العالم ومعارفه، وليس لدى السوريين فقط، لأهميته التاريخية، إذ أزيلَ النظام الديكتاتوري الفاشي، الذي يصنّف من أعتى الأنظمة وأقذرها في العالم أجمع.

أما وأن حكومة انتقالية قد تشكّلت في دمشق، وهي التي جاءت من الشمال السوري لتدير المرحلة الانتقالية المحددة حتى مارس/آذار المقبل، فإنه ما يزال أمامها مهام كثيرة ومعوقات وصعوبات عديدة، وهي تحتاج إلى الإسراع في وضع الحلول العاجلة لعشرات من الملفات التي لا تحتمل المماطلة والتأجيل، لعل أهمها الملف الأمني، الذي سيكون من أولى أولويات الحكومة الانتقالية ليعطي الاستقرار والأمان للناس، كي تطمئن قلوبهم وحيواتهم، ثم يتشجع ويعود من الخارج والشمال السوري أكثر من ١٤ مليون سوري هُجّروا قسريًا على يد نظام الفاشيست الأسدي، وهم في الواقع لا يمكن أن يعودوا في معظمهم، إلا إذا شعروا بأن البيئة الآمنة، التي تحدث عنها قرار مجلس الأمن 2254 سابقاً، أضحت ناجزة، وهي مهمّة صعبة التحقيق في ظل تفلت السلاح، وكثرة أنواعه، التي سبق وقام بتمليكها وتوزيعها النظام البائد لشبّيحته وزبانيته، كي يحموه بها، ويشبّحون على كل السوريين، وهي اليوم تشكل الخطر الأكبر على نهارات السوريين وأيامهم، خشية من عودة شبح الثورة المضادة، كما يقال.

ويبدو أن حكومة محمد البشير الجديدة تنبهت جديًا لخطورة ذلك، وبدأت العمل عليه، وهو ما أعطى أجواء من الحالة المدنية الطبيعية لدمشق، ولكل المحافظات وهذا يشي بإنجاز الحياة التي طالما حلم بها السوريون. كما لا بد من الإسراع في حلحلة ملفات مهمة أخرى مثل الخدمات اليومية للناس، والتي حرموا منها أيام النظام المخلوع، ومنها الكهرباء والمحروقات، في ظل الشتاء القاسي والصعب المقبل على سورية، وأيضاً تحقيق الأمن الغذائي والصحي، إذ تفتقد سورية (بعد أن أصبحت دولة فاشلة على يد المجرم بشّار الأسد وأبيه من قبله)، إلى مقومات وضرورات الصحة والدواء والغذاء، ناهيك عن حالة العوز المعيشي، فقد تجاوز خط الفقر في سورية عتبة 90%، وأصبح المواطن السوري لا يكفيه دخله أكثر من أسبوع في أحسن الحالات، وهذا يفترض مهمة كبرى على الحكومة الانتقالية، وهي تأمين فرص عمل وتحسين أوضاع الليرة السورية المنهارة كليًا، والتي أضحت بلا قيمة شرائية البتة. فضلًا عن موضوع طالما كان يؤرق السوريين، انتظارهم ساعات طوال على أبواب الأفران من أجل الحصول على ربطة خبز تقي أسرهم الجوع. وهذه المسألة هي اليوم من المهام العاجلة والضرورية جدًّا.

العمل الخدمي للوزارة الانتقالية، غاية في الأهمية، ولا بد أن يتم إنجازه، كي يشعر المواطن السوري أن الحكومة مهتمة به، وتحترم معاناته السابقة مع نظام القهر الأسدي البائد. علاوة على ذلك، موضوع التواصل العاجل مع المجتمع الدولي والعربي الرسمي والتعامل الدولي مع الدول الكبرى وكذلك الأمم المتحدة، لوقف حالة التعدّي العدواني الصهيوني على الجغرافيا السورية والعتاد العسكري للجيش السوري، والانسحاب الفوري من الأراضي السورية التي احتلتها بعد سقوط بشار الأسد، قضية غاية في الأهمية، إذ تصر إسرائيل على أن تترك سورية بعد الأسد بلا أنياب، فقد كانت إسرائيل تشعر بالأمان مع وجود نظام الأسد، بينما هي اليوم لم تعد تشعر به إبان استلام السوريين الدولة بعد الأسد.

أما عن المهام الأكبر، والتي يفترض أن تشتغل عليها القيادات السياسية للثورة السورية، فهي مهامّ جسام، وتأخذ وقتًا كثيرًا، ولا أعتقد أنها تدخل ضمن مهام الوزارة الانتقالية، بل يجب أن تشغل عليها كل القوى السياسية الفاعلة في الثورة السورية بلا استثناء، وهي تشكيل أو انتخاب جمعية تأسيسية وطنية سورية، من مهامها التأسيس للانتقال السياسي وصياغة الدستور السوري الوطني، وتحديث القوانين التي علاها الصدأ، وإجراء انتخابات حرّة بإشراف دولي، وفتح حوار وطني واسع على كثير من القضايا المقلقة للسوريين، لعل من أهمها إنجاز العقد الاجتماعي السوري الجامع، الذي لا بد منه، لتوحيد سورية، وليضم كل أطياف وكل مكونات الشعب السوري الإثنية والطائفية والأيديولوجية، وقطع الطريق نهائيًا على كل من تسول له نفسه العمل على تقسيم سورية، وتفتيتها إلى دويلات، أو أقاليم فيدرالية سياسية خارج إطار الفيدرالية الإدارية، بل في تناقض معها، من أجل تحقيق ما عملت عليه بعض المكونات بدعم خارجي، إذ أن العقد الاجتماعي الوطني السوري الجامع يحقق وحدة سورية ويمنع تحرّكات العابثين في النسيج المجتمعي السوري من العمل السلبي والتفتيتي داخل أنساق المجتمع السوري وأطره.

العربي الجديد

————————–

نظام احتضار دموي مزمن قاده «سفّاح مدنيّ»/ وسام سعادة

14 كانون الأول 2024

ما كان بمستطاع نظام الأخوين السفاحين أسد الاستمرار لولا تدخل روسيا وإيران والجحافل المرتبطة بالأخيرة.

يبقى أنه ليس بمستطاعنا سوى الانصراف للمخيلة والتخمين والتقدير. بالنسبة لما كانت ستؤول إليه الحال، لو أن هذا النظام الفئوي الدموي كان انهار قبل ثماني سنوات، بدلاً من أن ينتظر كل هذا الوقت ويسارع إلى حتفه في إثر تزايد ضعفه وضعفه حماته الخمينيين الإيرانيين واللبنانيين بعد الحرب الأخيرة.

ومع أن النظام مدين لموسكو بالاستمرار طيلة هذه السنوات جاثماً فوق صدور سكان حلب ودمشق، ومتسبباً بخروج تسعة ملايين سوري من بلادهم وتفرقهم بين المنافي، فإن مؤاثرة روسيا عدم القيام بأي جهد وساطي لمحاولة ثني إسرائيل عن استهدافاتها طيلة العشر سنوات الأخيرة للمناطق السورية، حتى عندما كان فيها جيش روسيا تتدخل بسلاح الطيران لضرب الفصائل المعارضة، أو للإشراف على نقل مسلحيها بالباصات في اتجاه ريف إدلب، أو تسليط الشرطة العسكرية الروسية على مناطق من سوريا، هنا لرعاية «مصالحات» وهناك لحماية السكان من «الحليف الإيراني» ثقيل الوطأة، ومن دون إغفال صولات مرتزقة مجموعة فاغنر.

كل هذا من دون أن توقف روسيا تنسيقها مع الجانب الإسرائيلي على موعد الغارات. وفي كل هذه السنوات طفق نظام الأخوين الأسد «يحتفظ بحق الرد» ويصدر بيانات الدعم لروسيا في حربها على أوكرانيا، وفي النهاية دعمته روسيا بالغارات لاعتراض تقدم قوات المعارضة بقيادة «هيئة تحرير الشام» نحو حلب فحماة فحمص، قبل أن تعلم قيادتها رأس هذا النظام بأن اللعب انتهى. لم يقم الأخير بأي محاولة للحفاظ على أي شكلانية دستورية، كمثل نقل السلطة لنائب الرئيس. هرب بالشكل الخسيس المنتظر أساساً من كل من خبره.

سقط نظام آل الأسد القائم منذ 24 عاما على مفارقة التوريث الرئاسي. هذا التوريث الذي أثار لعاب عدد من الرؤساء العرب يومها ما ساهم بتساقطهم، بالأخص في مصر. وجه المفارقة في موضوع التوريث أن النظام الأسدي طبيعته عسكرية وحزبية وعائلية وطائفية. لكن التوريث لبشار كان توريثاً لشخص من خارج السلك العسكري، مقحم عليه بالتعسف، ومن خارج الحزب، ما ساهم في تحويل الأخير إلى كاريكاتير محض. لم تفضل سوى الاعتبارات الحزبية والطائفية المركبة، طالما أن النظام الذي أقامه حافظ الأسد قائم على تفاهم عقده من موقع القوة مع البرجوازية السنية الدمشقية على أساس معادلة شوكة الحكم لنا ولكم الأعمال ونتاج أعمالكم لنا ولكم ونحن نحميكم من أنفسكم ومن سواكم ونحمي كل شريحة من الأخرى وعلى هذا الأساس يسوّغ الإرهاب الدائم الذي يقوم عليه نظام الطغيان.

نجح التوريث في سوريا عام 2000 لأن الابن ولو أنه من خارج الجيش والبعث إلا أنه كان بمستطاع توليته ضمان السمة المتعددة العسكرية والبعثية والطائفية والعائلية للنظام. لكن الابن لم يستطع الحفاظ على تفاهم والده مع البرجوازية طويلاً. كرر مشكلة عبد الحميد السراج السني وصلاح جديد البعثي اليساري معها. هذا بعد أن حاول تلافي ذلك في البداية. نهم أقربائه وأولاد الضباط الأساسيين الآخرين لتشكيل شريحة أوليغارشية جديدة، عكس اختلالا في اللعبة، لكن المشكلة زادت مع قتل الرئيس رفيق الحريري في بيروت، وانسحابه في إثر ذلك من دمشق، ثم جاءت الثورة عام 2011 فوقفت البرجوازية المدينية في موقع لا هي قادرة على الانحياز للمنتفضين، ولا هي قادرة على أن تنجو بنفسها من الحرب والخيارات المدمرة اقتصاديا التي يتبعها النظام وصولا إلى زيادة فظاظة أهل النظام تجاهها. اليوم أيضاً تمثل القدرة على تحقيق تفاهم مع البرجوازية الدمشقية والحلبية جزءا أساسيا من التحديات التي يتوقف عليها إمكان تأمين المرحلة الانتقالية التي لا تزال غامضة الطابع في سوريا. زد على أنه من الصعب تفادي التناقض بين منطقين. أحدهما يقول بأن السلطة ينبغي أن تؤول لمن أسقط الطاغية في نهاية المطاف. والمنطق الآخر مضاد له. يقول إن السلطة لمن بمستطاعه بناء نظام للحرية. التعارض بين المنطقين بديهي، وليس من الممكن شطب أي منهما. هو تناقض إنساني في النهاية. بين نمطين من أنماط تعليل الأحقية. وبين من يرى النظام البائد بالمعنى الدنيوي أولاً، كطغيان، وبين من يراه، بالمعنى الديني أولا، كطاغوت. النظام الذي انهار يتحمل المعنيين، لكن كيف تفادي عدم التصادم بين من يفرح لسقوط الطغيان أولا، وبين من يفرح أكثر لسقوط الطاغوت؟

يبقى أن تضحيات عموم السوريين أكبر بكثير من تضحيات أهل السلاح، وليس هذا بتفصيل. ويبقى أن ميزان القوى لا يتحدد بمعايير الداخل السوري فقط، وأننا نعيش جميعا، في كنف الهيمنة الأمريكية بعيداً عن أوهام انكسارها التي أدمنت عليها قوى الممانعة حتى خرّت صريعة.

لقد سقط واحد من أشد الأنظمة همجية في تاريخ العرب، نظام تختصر كل علة وجوده في الحرب الدائمة على الأنسجة الأكثرية من المجتمع السوري، وفي سجن الناس في صيدنايا وسواها من المعتقلات شبه النازية. نظام استخدام غاز السارين من الغوطة حتى خان شيخون. نظام قتل اللبنانيين والفلسطينيين.

وهو نظام قاده «مدني ابن عسكري» بالمحصلة، في حالة تذكر أيضا بأن صدام حسين هو الآخر لم يكن عسكريا، بل مدنيا «تعسكر». لعله السقوط الأكثر جذرية في كامل خارطة التساقطات المرتبطة بالثورات الربيعية العربية، ولو أن هذا حدث بعد ثماني سنوات من «تجميد وتأجيل» النصر الثوري، ومن تبديل طبيعته، وجعله أكثر استجابة لقطب واحد، هو «قائد العمليات العسكرية» أحمد الشرع الذي اعتدنا عليه على أنه «أبو محمد الجولاني» كل هذه السنوات. ويحدث هذا في ظل استباحة إسرائيلية للجنوب السوري، ولمخلفات الجيش السوري من قطع ومن أعتدة، وهذا واقع داهم لا يمكن تنحيته جانباً والانصراف إلى تدبر قضايا الحوكمة الداخلية فقط.

يبقى أن النظام الذي انهار والمعارضة ذات السمة السلفية التي تتصدر مشهد إعادة تكوين السلطة اليوم يفرضان نوعاً من الإقرار بالفاتورة الباهظة جدا للكارثة الذي تسبب بها حافظ لكن بدرجة لا توصف بشار الأسد. ليس فقط على صعيد الإنسان والعمران. أيضا على صعيد الأفكار والأيام الآتية.

فعندما توافيك أنظمة بهذا السوء، أقامت كل لعبتها على أنها أنظمة تقدمية وتحديثية وتحريرية، بوجه مجتمعاتها الرجعية والمُستَلَبة، فلا يسعك، إن كنت أنت أيضا تقدّم نفسك كتقدمي، الا أن تشعر بأن تقدميتك أنت وليس فقط تقدمية هذا النوع الكالح والمفلس من الأنظمة على المحك.

متهافتة من تلقائها، والحال هذه، محاولة تسوية الموضوع تلفيقياً كما لو أن المشكلة تكمن مرة جديدة في التطبيق وليس في النموذج، أو أنها محصورة في النموذج بحد ذاته، وليس في الفكرة أو في المقصد من وراء هذا النموذج.

سقوط هذا النوع من الأنظمة يستدعي أيضاً إعادة التفكير في سمات الخطاب التقدمي التحديثي العلماني عند العرب، ولماذا فشل في أن يوجد لنفسه أرضية «جمهورية» وينتهي الأمر لليسار إلى التشظي بين فئة ترفض الاستبداد القائم لكنها لا تعرف كيف تحدد نفسها تجاه الإسلاميين وبين فئة لا ترى إلا استعماراً وترى في مملكة التوريث الجمهوري الفئوي الأسدية التي سلمت أرضها لإيران والروس ولم ترد يوماً على اعتداءات إسرائيل – وحاولت دائما اقناع الغرب بأن الدنيا تخرب أن سقط بشار الأسد – نموذجاً لمواجهة الغرب والإمبريالية!

في الوقت عينه، الواقع لن تتوقف حركته ولا مكائده. وأن تنظر إلى الأمام يعني أن تكون قادراً على رؤية كم الأفكار المعادية للعقلانية والتنوير من حولك، خاصة حين تصبح النزعة التقدمية محسوبة على نظام كالذي اندثر. والحل هنا لا يكون برمي التقدمية مع النظام الذي كان يزعم شيئا منها، ويبدي النزعة المحافظة عليها حين يجد ذلك أسلم له، أي في غالبية الوقت. التقدمية العملية أكثر ضرورية من ذي قبل، وهي تنطلق اليوم من جملة أسئلة: ما الموقف من المساواة القانونية بين البشر في مجتمع ما؟ ما الموقف من الحريات العامة والخاصة؟ ما الموقف من موضوع الحرب والسلام، وهل ثمة استعداد لمن يريد تولي الأمور في دمشق لمغادرة منطق «الاحتراب المستدام»؟

كاتب من لبنان

القدس العربي

————————

سوريا: الطبيب الذي سقط في الامتحان مرتين/ مالك التريكي

14 كانون الأول 2024

يروي المذيع الفرنسي ديفيد بوجاداس أن بشار الأسد توتر وعلت وجهه سحابة مظلمة من المكابرة والغضب لما سأله عام 2015 عن استخدامه للبراميل المتفجرة وللسلاح الكيميائي ضد شعبه. كان بوجاداس أحد آخر الصحافيين الغربيين الذين أجروا مقابلة مع سفاح دمشق. ظهر بشار عامذاك في مقابلة على قناة سي. بي. اس. الأمريكية، ثم على بي. بي. سي. البريطانية. آنذاك دار نقاش بين صحافيي فرانس 2 حول ما إذا كان من المناسب منح الكلمة لطاغية دموي قتل من أبناء شعبه (حتى ذلك الوقت) حوالي ربع مليون نسمة، ثم استقر الرأي على أن محاورته واجب إعلامي رغم أن فرنسا الرسمية كانت آنذاك تعدّ بشار شخصا منبوذا، خصوصا أن الرئيس أولاند كان قد أعلن استعداده أواخر 2013 لاستخدام سلاح الجو لإسقاط النظام (بعد اتفاق مبدئي مع أمريكا وبريطانيا على أن تكون العملية مشتركة).

اتجه بوجاداس مع فريق التصوير برا من بيروت عبر البقاع إلى دمشق، وفوجئ بأن البلاد كانت مقفرة كأنها بلاد أشباح وبأن الطريق المؤدية إلى القصر الرئاسي على مشارف دمشق كانت خالية موحشة، «كأنها في كوريا الشمالية» لأنها طريق خصوصية لا يسلكها إلا بشار وعائلته وحاشيته. وقد كان ذلك «أحد مظاهر الطابع الكوري الشمالي» للنظام الأسدي. كما فوجئ بوجاداس بأن القصر سوفييتي المعمار كئيب المظهر. وبعد الوصول أركب أعوان الرئاسة كامل الفريق في سيارات نظامية وأخذوا يجوبون بهم طرقا ملتفة ليتعذر عليهم معرفة الاتجاهات والمواقع إلى أن أوصلوهم إلى مقر إقامة خاص. وبعدها بقليل أتى بشار.

يقول الصحافي الفرنسي إنه قابل عددا من الطغاة، كان بينهم القذافي، وبوتين (مرتين) وأحمدي نجاد، ولكن الذي صدمه من الوهلة الأولى أن بشار هو أكثر هؤلاء الطغاة تطبُّعا بطباع أهل الغرب ولباسهم وأسلوب معيشتهم. وتفسير بوجاداس لهذا الملمح هو أن بشار لم يكن في الأصل يهيأ ويدرب للحكم (بحكم أن شقيقه باسل كان هو الخليفة المعلن، لولا الحادث الذي أودى به) وأنه كان يستعد لممارسة طب العيون، وكان مغرما بالتكنولوجيات الجديدة. وهذا بالطبع تفسير محدود. إلا أن ما راع الصحافي الفرنسي هو هذا التضارب بين المظهر الحضري العصري الأنيق للرجل وبين ما يقترفه من مجازر. ويلاحظ بوجاداس أن بشار كانت تبدو عليه علامات عدم الاطمئنان، بل وحتى الخوف. فقد كان نظامه آنذاك يترنح وكان التوقع شائعا بأن سقوطه وشيك. إذ أجريت المقابلة في أبريل، أي قبل خمسة أشهر من تدخل روسيا الحاسم لإنقاذه والمد في عمره الدموي.

أعد الصحافي حيلة ليواجه بها الطاغية: دس بين أوراقه صورة لطائرة هليكوبتر عسكرية سورية وهي ترمي المدنيين ببرميل متفجر. وأثناء المقابلة فاجأه بالصورة وقال له: ليس هناك في سوريا من يملك طائرات إلا جيشك! توتر بشار وتململ في كرسيه، ثم قال: هذه الصورة لا تثبت شيئا. لم أر صورة من هذا النوع من قبل. قال له الصحافي: هل تعني أن الصورة مُمنتَجة وزائفة؟! فقال: لا، لم أقل هذا ولكن…..

وإذا كانت هذه المقابلة تثبت مدى إيغال السفاح في معاندة الحقائق وخداع نفسه قبل خداع الناس، فإن الأكيد أن المقابلة التي نجحت في تجلية طبعه وحقيقته والعثور على مفتاح شخصيته هي تلك التي أجرتها معه مبعوثة الصنداي تايمز في نوفمبر 2016. كان الحوار مطولا، والأجوبة كالعادة كاذبة لا فائدة منها، ولهذا قصدت الصحافية في الختام أن تسأله سؤالا إنسانيا متعاليا فوق كل الاعتبارات. قالت له: هل تستطيع أن يغمض لك جفن في الليل وأنت تعلم أن آلاف الأطفال السوريين يقتلون في حلب وسواها؟ فضحك الرجل! أي نعم، ضحك! ثم قال: «أدرك معنى السؤال. إني أنام بانتظام. أنام وأعمل وآكل بطريقة عادية، وأمارس الرياضة». رأت الصحافية أنه بدّد الفرصة ولم يفهم، فمنحته فرصة أخرى: وما هو شعورك بشأن كل أعمال القتل المستمرة في بلادك؟ أجاب: «الخطأ يقع على الإرهابيين. إننا نتحدث هنا عن حرب وليس عن مَبَرّة خيرية»!!!

الأرجح أنه لو كان الأمر يتعلق بأي طاغية آخر، مثل تشاوشيسكو أو سوموزا أو ماركوس، الخ، فما كانت بلادة الحس وتحجّر القلب وصدأ الضمير لتعجزه عن أن يغتنم الفرصة للتعبير الإنساني المبدئي عن الحزن لمرأى مقتل الأطفال. ولكن طبيب العيون سقط في أول وأسهل امتحان. سقط في امتحان الآدمية مرتين.

كاتب تونسي

القدس العربي

—————————

اقتلاع الخوف من جمهورية الخوف/ سوسن جميل حسن

14 ديسمبر 2024

في بدايات تنصيب الوريث “الشرعي” لحافظ الأسد، بشار الأسد، رئيساً لـ”الجمهورية العربية السورية” في العام 2000، والذي أمسى اليوم “الرئيس المخلوع” أو “الهارب”، شاعت نكات متنوّعة في الشارع السوري، والنكات هي التعبير العفوي والموقف النقدي أيضًا عن روح الشعب وتفاعله مع الأحداث. ومن تلك النكات ما كان يستبطن حمولة كبيرة من الخوف في أعتى صوره وأرسخ معانيه، إذ درج أن يتصيد الشخص صديقه أو رفيقه أو من هو مقابله بزلّة “لاوعي” إذ يقول، على سبيل المثال، “هل تعلم أن أخت الرئيس، بشرى الأسد، قالت أو فعلت كذا؟”، فيهب المُخاطب ليصحّح: لا هي ابنة الرئيس وليست أخته.

هذه علامة فارقة ودامغة على مدى تجذّر الرهبة والخوف من حافظ الأسد في نفوس السوريين، ليس هذا فحسب، بل اقتران الخوف هذا مع التسليم بـ “أبدية” الأسد، التي كانت تترجمها شعاراتٌ تُردّد مثل الصلاة: إلى الأبد يا حافظ الأسد.

هذا ما أقام عليه “الأب المؤسّس”، أسس “جمهورية الخوف” ذات البصمة الخاصة، وأعمل أجهزته الأمنية، وكوادره الحزبية، وفرقه الثقافية، في تمكين هذه الجمهورية ورعايتها، كي لا يصيبها الترهل لناحية ضبط إيقاع سلوك الجماهير التي استبدلت الركوع إليه وتأدية طقوس الولاء والدعاء والعرفان، بالصلاة مهما كانت قبلتها.

إنما، للتاريخ والإنصاف، بزّ بشار الأسد أباه، وجعل السوريين ينسون، إلى حدّ ما، الظلم الذي مارسه عليهم، والظلمات التي رماهم فيها، هل هناك دليلٌ دامغ أكثر من كشف النقاب عمّا كانت غالبية الشعب السوري تسلّط الضوء عليه، وتنادي وتطلب من المنظمات الدولية والأنظمة القوية، أن تميط اللثام عنه، وتساعد الشعب السوري في الوصول إلى العدالة المطلوبة بمحاسبة المجرم الذي مارس كل هذا الإجرام بحقها، قضية المعتقلين والمغيبين، في السجون التي يكسر الشعب حالياً أبوابها المحصّنة، وكشف واقعٍ يفوق الخيال؟

ما ظهر، حتى الآن، من هول هذا الواقع القابع في ظلمات الأقبية تحت الأرض ورطوبتها، يدفع المشاهد، بعد الصدمة الأولى، إلى أن يستدعي تاريخ الأنظمة المستبدة الشمولية، أقله في التاريخ الحديث، علّه يجد ما يشبه هذا السلوك الجرمي المنظم المحكم في ممارسات تلك الأنظمة والأجهزة القمعية التي صارت، في معظمها، مطروحة أمام الشعوب بكل الوثائق والدراسات والأعمال البحثية والاستقصائية، وخضعت رموزها إلى شتى أنواع العلوم الإنسانية، من علم نفس واجتماع وفلسفة وغيرها، فاستنبطت المشترك في ما بينها، خاصة في مراحل تاريخية تزامنت فيها تلك الديكتاتوريات، منها ما اكتسب شهرة وعدّ علامة مميزة، مثل هتلر وموسوليني وستالين وماو، إلّا أن هنالك مستبدين آخرين، مثلما كتب الكاتب والصحافي أوليفييه جويز، فهو يقول: هناك أيضاً صور لطغاة أقل شهرة، مثل أنور خوجا أو موبوتو أو تيتو. الجمع بين هؤلاء الديكتاتوريين معًا في كتاب يجعل من الممكن إظهار أوجه التشابه بينهم، ورسم ملف شخصي وسيكولوجية الديكتاتور في القرن العشرين. إنها المرّة الأولى التي يجمع فيها هذا العدد الكبير من هؤلاء الرجال الذين ترأسوا الحروب والإبادة في قرن بربري”.

إذا كان الأب قد أسّس لهذا النظام القمعي الشمولي، ورسّخ سلطة حزب واحد، واختصر الحزب والدولة والنظام في شخصه، وأحكم الإطباق بقبضة أمنية خانقة على جميع أوجه النشاط في المجتمع، فزجّه في حالة استنقاع مديد، إلا أنه كان شخصاً يجيد اللعب، حتى لو كان بنبش في جبالٍ من القذارة، ويعرف كيف يدير تحالفاته، وكيف يكون خادماً مطيعاً أحياناً، ونمروداً جباراً أحياناً أخرى. وبالتالي، يمكن تصنيفه في خانة المستبدّين “الكبار”. أما وريثه فيمكن القول إنه ينتمي إلى فئة المجرمين أكثر منه منتمياً إلى المستبدّين، فهو لديه جهاز أمني راسخ وقوي ومتجذّر في المجتمع والتاريخ الحديث للدولة السورية، لكنه بحاجة إلى تفكيك شخصيته وتبيان الخيوط التي يتشابك بواسطتها مع أجهزته القمعية، وإخضاعه لدراسة تحليلية من الناحية النفسية، لكشف حقيقة تركيبته النفسية التي توحي بالإجرام اللامقيّد أو اللامشروط، الإجرام الجامح الجانح عن كل الأسس والقواعد.

مشاهد السجون التي يسمّونها “مسالخ بشرية” تكسر أقفالها، ومشهد المساجين الذين ارتبكوا أمام فتح أبواب معتقلاتهم على النور، خاصة النساء اللواتي ظهر الخوف في أقسى صوره على سلوكهن الذي أطاشته المفاجأة، استفزّ غريزة الخوف مما ينتظرهن عند الاستدعاء. هذا عدا ما تخفيه الأقبية الموغلة في العمق والظلام والسرّية، التي أكثر ما تشبه المتاهة المغلقة بشيفرة لم يستطع أحد فكها حتى كتابة هذه المقالة، تلك الأقبية المستعصية على الانفتاح إلا بالهدم تحت ضربات المطارق، هذه المشاهد وحدها كفيلة بتبرير خوف السوريين، أو فهمه، لقد أنساهم الابن جبروت والده، ولم تعد نكتة أن بشرى أخت الرئيس وليست ابنته تثير فضول السوريين.

الخوف هو العشبة السامّة التي تجرّعها السوريون على مدى أربعة وخمسين عامًا، أربعة وخمسون عامًا لم يعرف فيها الأطفال الذين ولدوا منذ استيلاء الأب على الحكم إلى اليوم رئيسًا غيرهما، بل صارت كلمة “الأسد” كافية ووافية ومانعة، فـ “الأسد” كلمة تعني سورية، الدولة، الحكومة، النظام، الأبد. وإلّا؟ الخوف يمنع التفكير في إلّا. … لكن الشعب وصل إلى مرحلة الغليان، وكان لا بد من انفجاره منذ نحو 14 عاماً، وضع “الرئيس الفارّ” الشعب خلالها في بوتقة خيميائي مصاب بجنون العظمة وجنون الشغف بالسيطرة والقوة والإعجاب المرضي بالذات حدّ “البارانويا”، إلى أن جاءت لحظة الحقيقة: هذا الجبار “فرّ” مثل أي أرنبٍ مذعور، فرّ حتى من دون الوقوف لحظة أمام فكرة “الرجولة” أو “شرف الانتحار” كبعض المستبدّين الأصليين. لقد برهن على أنه نسخة مزوّرة مغشوشة عن المستبد، فرّ، واكتشف الشعب السوري أي لجّةٍ كان يحشُرهم فيها، اكتشف الحقيقة لكن لم يكتشف خوفه بعد، هذا الخوف هو الذي جعل قسماً من الشعب يشهر تأييده الفصائل التي قادت المرحلة، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام، الخوف المتأصل الذي استعاد تاريخ هيئة التحرير منذ انبثاقها من جماعة القاعدة، وتبنّيها فكرها ونهجها، ومنذ أن كان اسمها “جبهة النصرة” وخطابها وممارساتها العنفية والإقصائية حينها.

صحيحٌ أن الجماعة بدأت مسيرة تغيير أسلوبها، ابتداء بتغيير اسمها، وانتهاء بالكشف عن اسم زعيمها وإعلان اسمه الأصلي، أحمد حسن الشرع، طاوياً خلفه سيرة أبو محمد الجولاني، وربما دعماً لنسيان تاريخ الهيئة، عدا عن نضوجه السياسي اللافت، وما أبدت الفصائل تحت قيادته من محاولة لضبط المرحلة، إلّا أن الخوف ما زال لاطياً في نفوس سوريين كثيرين، ليس من الأقليات فحسب، بل من الشرائح التي تنشد دولةً مدنيةً عمادُها المؤسّسات والقانون، علمانية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة.

هذا الخوف مبرّر، لكن من المهم بمكان اليوم احترام فرح الشعب بخلاصه من مجرم أمعن في إجرامه بحق الشعب، والدولة، لقد دمّر بنيان الفرد السوري، ودمّر مستقبل البلاد والأجيال، وجعل من سورية مشكلة تخصّ العالم كله، حتى أصبح كل يوم إضافي في وجوده على رأس السلطة يعني تفاقم المصيبة، كان الخلاص منه أولى الضرورات، وهذا ما حققته هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها. هل هي لعبة دولية؟ وما الغريب في الأمر، فمنذ متى كانت سورية مستقلة في “لعبها” وابتكار حياتها؟ فكيف بهذه السنوات الحارقة التي رهن فيها الأسد حاضرها ومستقبلها للاعبين الإقليميين والدوليين؟ خاصة أنه جنح في رهانه إلى أحصنة خاسرة في لعبة الأمم الحالية، هل كان رهانًا غبيًّا؟ من الصعب الفهم حاليًا، لكن ليس من الصعب الإقرار بالإجرام بحقّ الشعب لمن كان حتى يوم سقوطه لا يريد ان يقرّ أو يفهم.

اقتلاع الخوف من جذوره أمر يلزمه صبر. كما أن أمام الشعب السوري واشتغال حثيث ومعقّد، مع بقاء عيونه مفتوحة على أداء الأطراف الجديدة التي استلمت زمام الأمور وإدارة الحياة في سورية، وهي مهمّة صعبة جدًاً، إنما يبقى الخوف مشروعاً بالنسبة لهذا الشعب، خاصة أمام المستقبل الضبابي الغامض للمنطقة، من دون أن ننسى أن إسرائيل هناك، تستغل الظرف وتتمادى على الأرض السورية، كغيرها من الأطراف الأخرى.

من حقّ الشعب السوري أن يخاف من المستقبل، القريب منه على الأقل، فهو لم يُشفَ من خوفه المتأصّل بعد، وليس من السهل أن يشعر بالثقة بأي طرفٍ كان، قبل أن تنجلي ملامح الواقع الجديد، إنما من حقه اليوم أن يعيش نشوة اللحظة.

العربي الجديد

—————————

سوريا بعد السقوط… انهيار باستيل العصر/ أحمد عويدات

14 كانون الأول 2024

أزفت ساعة السقوط المريع لتعلن الولادة الجديدة لسوريا. فجأة تغيّر كل شيء.. الحواجز حُطمت وانقشع ضباب الحقيقة، واندفع الرجال.. الرجال من الشمال والجنوب، فحطموا المتاريس واقتحموا الحصون؛ ليضيّقوا الخناق على أذرع السفاح. كل شيء قد تغيّر.. تغيرت الأسماء وأشكال الساحات، واندفع الناس- الفرحين والمذهولين بآنٍ معاً – من كل حدب وصوب وسقطت تماثيل هُبل ويعوق ونسرا، وعلى الطرقات كثر حطام البقايا من آليّات الرعب المنسحبة، وتناثرت الأشلاء البريئة بقصف الطائرات الروسية المغيرة.

وتناقضت الأقوال والتصاريح، وتاهت الاتجاهات، وتغيّرت الخرائط، ويبدأ المشهد المنتظر بالتمدد، والتحولات تأخذ مجرى لها نحو العاصمة، وحبس الأنفاس الدولية والإقليمية والترقب – رغم التفاهمات الحاصلة مسبقاً – سبقت أعين السوريين لما سيحدث لاحقاً. وبدأ الرحيل والترحال من موتٍ إلى موتٍ آخر.

هناك في مكان آخر، لم يدرِ النائمون تكديساً وراء الجدران والأبواب الموصدة، وفي غياهب الظلام القاتل، وصمت الموتى الأحياء؛ أن ثمة حراكا قد قض مضاجع اعتقالهم المديد. لم يدرك هؤلاء القابعون وراء القضبان، ووراء أبواب غرف الموت والإعدام أن هناك من يطرق عليهم خزان موتهم لتحريرهم، ولم تدرك تلك الأجساد النحيلة والعيون الغائرة والظهور التي تقوست – ليس لأنها على أعتاب الكهولة، ولكنها كهولة الشباب نتيجة تعذيب السجان وقسوة السجن- إن فجر الحرية بزغ. لقد حسب هؤلاء أن ساعة الإعدام قد دنت، وأن حبل المشنقة الأحمر تدلّى ليطوق أعناقهم الغضة، لقتل آمالهم وأحلامهم بلقاء الأهل والأحبة، ورفاق المظاهرة والاحتجاج، ورفاق الهتاف «حرية.. حرية». فتلاشت البسمات التي لم تكن يوما إلا حزينة وذرفت دموع الوداع الأخير وعناق اللحظة الأخيرة، لكن ثمة شيئا آخر حدث، وكان النداء من خارج الأبواب «اخرجوا.. اخرجوا إلى بيوتكم، سقط النظام.. ما في حكومة»، «ليساعدني أحدكم في فتح الباب». ذُهل المساكين وصُدموا لهذا النداء، ولم يصدقوا أن يبرحوا المكان، فانطلقوا هائمين على وجوههم، لم يدركوا حينها ما الذي يحدث ، إلى أن جاء صوتٌ آخر: «سقط النظام.. سقط الأسد.. نحن الثوار» جاء الصوت من قامة طويلة تحمل فأس الخلاص ليضرب به قفل باب السجن اللعين ليحطمه.

يا لهول ما كان؛ طفلٌ صغير لا يتعدى الأربع سنوات سجيناً. حافي القدمين تائهاً على وجهه، لا يعرف مَن هو والده بسبب اغتصاب أمه المتتالي من قبل السجانين الأوغاد. وهناك فتاة لم تبلغ الثلاثة عشر ربيعاً تحتضن أمها وهي تخرج من باب مهجع السجن مذعورة مصدومة. وتلك المرأة التي تسأل حامل الفأس، «أريد ابنتي.. أين ابنتي؟». وفي مشهد آخر، تدافعت تلك الجموع لتخرج من باب القمع المظلم، والمعاناة المديدة إلى باب الحرية ونافذة الخلاص. وهناك معتقلٌ آخر يخرج من باب السجن حاملاً على ظهره معتقلاً مسناً. وتحت السرير الحديدي كان يقبع شاب نحيل الوجه منفصل عما يحدث، سئل عن اسمه فلم يجب من أين هو، لقد فقد ذاكرته. وفي مشهد لا يصدق يسجد ثلة من المفرج عنهم شاكرين الخالق على نعمة خروجهم، وأحدهم بصوته المرتجف العالي يقول «كنّا سنُعدم قبل نصف ساعة مع أربعة وخمسين معتقلاً»؛ لأن هؤلاء – كسائر كل المعتقلين- كانوا يؤمنون بأن من يدخل هذا «المسلخ البشري» – كما يطلق عليه السوريون- مفقودا، ومن يخرج منه مولود. وفي مشهد لا يُنسى، يتجمع الناس خارج الباستيل الساقط يسألون عن أحبتهم، ذاك شاب يسأل: «أين أبي.. هذه صورته؟»، طبعا إنها صورته قبل اثني عشر عاما، وآخر يسأل عن والده ذي الثمانين عاما، وقد اعتقل منذ عشرة أعوام مع أبنائه الثلاثة، وتلك المرأة المكلومة تسأل عن زوجها الذي غادر المنزل إلى عمله ولم يعد منذ اثني عشر عاما، ولا تغيب عني صورة الأبناء الستة الذين يجلسون على رصيف في شارع أحد العواصم الأوروبية ينتظرون عودة أبيهم منذ أحد عشر عاما، وتلك الأم المريضة التي تنتظر أبناءها الثلاثة بعدما استشهد رابعهم، تنتظر يوم الفرج بعد أن سمعت أن السجون في حلب وحماة وحمص قد فُتحت أمام المعتقلين من قبل الثوار، فكان الانتظار بالنسبة لها عمراً مديداً. ويا لفظاعة الكارثة! ما زالت أبواب القسم الأبيض من الباستيل الأسدي في طوابقه الثلاث السفلى تحت الأرض موصودة.ً وتحجز وراءها حياة المئات، بل ربما الآلاف ممن ينتظرون رشفة ماء أو كسرة خبز وفسحة الضوء، لقد باتت حياتهم بيد السجان الهارب وبيده «شيفرة» الأبواب الجدارية التي يتحكم بها إلكترونيا والتي لم يُعرف لها منفذاً أو قفلاً ، إنه الموت البطيء الذي يتمناه هذا السجان وأسياده، موتٌ بطيء إما جوعاً أو عطشاً أو خنقاً قد أعده السجانون بعناية فائقة قبل فرارهم، ولربما كانوا يريدون نسخةً جديدة من مجزرة الباستيل الأولى «مجزرة قيصر»، لكن بإخراج جديد وسيناريو أكثر ترويعاً، لقد تتلمذ هؤلاء السجانون جيداً على أداء فنون التعذيب من غرف الملح، وغرف الأسيد والمحرقة وغرف فقء العيون وكبس الرأس بالقناع الفولاذي، والدولاب والجلد والفسخ والشبح بالجنازير، وغرف الصعق بالكهرباء، وغرف التجميد إلى غرف الشنق والإعدام، أمام المعتقلين الآخرين وترك جثثهم لعدة أيام بجوارهم.

إن الباستيل الذي أسقطته الثورة الفرنسية في الرابع عشر من يوليو عام 1789 اشتهرت فيه المقصلة، ولكن في باستيل الأسد كانت هناك مقاصل عديدة. كان الفرنسي يموت ميتة واحدة، أما المعتقل عندنا فيموت مرات ومرات، ويشتهي الموت من شدة التعذيب، ولكن لا يموت إلا بمشيئة السجان وقرار المجرم الأكبر.

وسقط الباستيل، ولا تزال حكاياته تروى ممن كتبت لهم الحياة من جديد، ولن تنتهي لا بمقابر جماعية ولا بأجساد مشوهة ملقاة على قارعة الطريق، أو بأرض مشفى تنتظر حفار القبور بعيدا عن الأهل والدفن الكريم، ليروي هذا الأخير رحلة الموت ويعطي الأجساد أرقاماً ورموزاً لا يفكها إلا القاتل الهارب، الذي تنتظره العدالة يوماً ليروي من جديد رحلة بدايتها التعذيب ونهايتها الإعدام.

السؤال هنا، من يعيد لهم الحياة التي فقدوها في هذا الباستيل؟ من سينصفهم من كل العذابات والقهر والمعاناة والقمع، الذي تعرضوا له؟ من سيثأر لاغتصاب الحرائر، ومن يعيد الكرامة والشرف لهن؟ من يعيد الشباب لمن فقدوه صغاراً وقد أمضى بعضهم أربعين عاماً؟ ومن يعوضهم عن فقدان ذاكرتهم؟ ومن يكفكف دموعهم، ويشفي غليلهم، ويجبر كسرهم؟ ولن تنتهي المشاهد هنا، وتبقى الرواية الأطول هي حكايا المفقودين، الذين تنتظرهم عوائلهم وعملية البحث عنهم في أقبية السجون والزنازين والمعتقلات السرية، التي تعمد النظام إخفاءها وإتلاف أية دلائل أو مستندات تتعلق بأماكنها أو بنزلائها. سقط الباستيل ولم تسقط سوريا، وللرواية بقية.

كاتب فلسطيني

القدس العربي

———————————-

نهاية ديكتاتورية الأسد/ سامح المحاريق

14 كانون الأول 2024

نسمة الهواء الأولى التي استقبلت وجوه السوريين الخارجين من منازلهم صباح الثامن من ديسمبر سيبقى ملمسها مختلفا عن أي شيء عهده معظمهم في حياةٍ كاملة، فنحو 90% منهم لم يعرفوا الحياة خارج حكم أسرة الأسد، ولدوا وعاشوا وتقلبوا في فصول المعاناة، وهم يدورون في الحلقة المفرغة نفسها، ويسمعون الكلام المعلب ذاته، وبصورة مفاجئة، وأثناء محاولات لتعويم النظام وإعادة تأهيله للخروج من السنوات السوداء التي شهدت فصولا غير مسبوقة من العنف والدموية، أتى السقوط المفاجئ.

تعالت الأصوات في دمشق، وعشرات المدن السورية، سقط.. سقط.. سقط.. وبعد ساعات بدأت تفاصيل السقوط، الذي أتى عنوانه الأساسي في هروب الرئيس بشار الأسد تظهر تباعا، فالجيش السوري يتخلى عن القتال، وجنوده يتخلون عن ملابسهم العسكرية، ويذوبون وسط الناس، والجنرالات لا يتلقون أية أوامر، لتنكشف الأسلحة السورية من طائرات ومعدات دفاع جوي أمام قصف إسرائيلي للحيلولة دون استيلاء الثوار على هذه الأسلحة المتقدمة نسبيا، في تصرف يكشف مدى استهانة الأسد بسوريا وشعبها، خاصة أن البعض استدعى قرار الرئيس العراقي صدام حسين استيداع عشرات الطائرات لدى ايران الدولة العدوة ليتجنب خسارتها في قصف التحالف، أثناء حرب الخليج الثانية، فكل طائرة تساوي قيمتها مئات الأسرة في المستشفيات وعشرات الغرف الصفية في المدارس.

خلال ساعات من سقوط الأسد تمكنت إسرائيل من الدخول إلى العمق السوري في أكثر من نقطة خلال الحدود، وبقيت الأسئلة المعلقة بالقوات الكردية، التي تسيطر على جانب واسع من سوريا، وربما تحركت بالطموحات الانفصالية مع التفاعلات القائمة. انشغل العالم بعد السقوط بالوقائع المرعبة التي تطايرت صورها من سجن صيدنايا، درة التاج في دولة الخوف والصمت التي تأسست في عهد الرئيس حافظ الأسد، ليصبح الدرج السري الذي تطوى فيه ملفات الثمانينيات الصاخبة في سوريا، وفي لحظات أخذ السوريون ينطقون بالمكتوم والمسكوت عنه لعقود من الزمن، وخارج سوريا، بدأت حملات التنظير تتوالى بين فرض الوصاية على الشعب السوري واتهامه بالسذاجة، والتشكيك في المستقبل الذي يأتي تحت شعار ديني يتبدى في هوية المقاتلين وانتماءاتهم، وتكذيب ما كان الجميع يعرفه ويسكت عنه، حتى قبل انطلاق الثورة السورية في 2011، ورفض النظام اتخاذ أية اجراءات تصحيحية حقيقية أو جدية، واستهانته بالقفز إلى القمع المكثف والأعمال العسكرية العدوانية. داخل المشهد الأوسع، سقوط الرئيس الأسد هو جزء من سقوط أوسع لمشروع أبقاه على الأرض لسنوات، بعد أن بقي على الحافة طويلا، وتحديدا منذ تفجير مبنى الأمن القومي السوري في صيف 2012، حيث بدت دمشق وقتها متاحة أمام القوى المسلحة على جميع أطيافها، ليأتي التدخل الإيراني الواسع، وتتم مناقلة آلاف الكوادر من منتسبي حزب الله إلى سوريا لدحر الجماعات المسلحة، التي تمكنت من الاستيلاء على الدفقة الثورية العفوية وتحويلها إلى عمل عسكري واسع، وأتى التدخل الروسي بعد تعاظم المخاطر المرتبطة بجماعات إرهابية، عملت على مدى أوسع من الجغرافيا السورية، ووصلت الإهانة للنظام حدودها القصوى مع إبقاء الرئيس الأسد وراء ضيفه فلاديمير بوتين في زيارة إلى سوريا، وكان يكفي ذراع حارس روسي ليضعه في مكانه الحقيقي، وبتزامن الأحداث الساخنة التي توازت مع تفاعلات طوفان الأقصى في نهاية العام الماضي، كان الإيرانيون يواجهون للمرة الأولى تهديدات أوسع وأكثر جدية من كل المناورات السياسية السابقة، وبمجرد ظهور نتائج الانتخابات الأمريكية، ظهرت معادلة دمشق مقابل كييف، وكانت كافية للروس المتورطين في حرب أدت إلى انكشاف كبير في إمكانياتهم وحدود قوتهم.

السوريون اليوميون والاعتياديون والبسطاء، غير معنيين بهذه المعادلات سوى من بوابة الخوف والاتقاء، أما شكل سوريا الجديد، فيعتمد على الذي أبقاه الرئيس الهارب وراءه، وهو قليل للغاية، فأمامهم بنية تحتية متهالكة، ومؤسسات قامت طويلا على أهل الولاء الأعمى، من الذين مارسوا بكل غباء وقصر نظر سياسات الإقصاء والتجفيف للكفاءات والمواهب، واقتصاد قائم على المحاباة والفساد الذي طويلا ما وضعت عصا الأوركسترا الخاصة به في يد رامي مخلوف، ابن خال الرئيس الأسد، قبل أن تنازعه أسرة الأخرس عليها، ومن هذا القليل، يواجهون تنظيما يعيش في صدمة الدولة بين السلفية والحداثة، وعليهم أن يبقوا أصابعهم على زناد أسلحتهم بصورة متواصلة، وفي مقابل الولاء الذي عملت دولة الأسد على صيانته، تأتي البيعة في المقابل لتكون الرابط الأساسي لدى الجولاني، أو أحمد الشرع، كما أصبح العالم يعرفه، وهي مفهوم أكثر تعقيدا وسيولة من التنظيم الحزبي المستقر لعقود من الزمن. المفارقة، أن يكتسب الرئيس شرعيته لدى أنصاره القلائل في داخل سوريا وخارجها، من بقائه حصنا في مواجهة ما يوصف بالإرهاب، ليمعن إرهابا في السوريين، وما لا يفهمونه على بساطته، أن سقوط الأسد كان غاية في حد ذاتها، لأنه يقف على رأس ثأرية طويلة وممتدة مع معظم السوريين، وأن الكثير منهم كان يعيش وهو يستحضر هذه اللحظة بوصفها الأمنية السرية التي تنكأ صدره، وأنه غير معني بما سيحدث، لأن الأسوأ لم يعد ممكنا، بعد أن استنفده وتمرغ في بقاياه الرئيس الذي أثبت للجميع أنه لم يكن يحب سوريا بمعنى الوطن والناس، بل ولم تشغله سوى كمزرعة تضمن له ولأسرته وأقاربه عيشا رغدا لا يعرف السوريون عنه شيئا في سعيهم المتصل والتراجيدي من أجل حياة أقل من عادية.

كاتب أردني

القدس العربي

————————

إلى الثورة السورية: هذا هو الباب الذي سيدخل منه الشيطان! إنها الفتنة تطل برأسها!/ سليم عزوز

14 كانون الأول 2024

فبينما يتابع العالم أخبار الثورة السورية، التي أذهلته، إذ بشبكة «بي بي سي»، صاحبة التغطية التلفزيونية الباهتة للحدث، مشغولة بأمر آخر، لتعلن قبل قليل من كتابة هذه السطور، إنها ستطلق خدمة إذاعية موجهة إلى سوريا ودول الجوار، فقلت من فوري: إنه الباب الذي سيدخل منه الشيطان، حوالينا لا علينا!

هذا تصرف ذكرني بتصرف مشابه، بعد نجاح الثورة المصرية في إجبار مبارك على التنحي، وبينما الناس في فرح وجدل حول المستقبل، إذا بمن يختفي ليخطط للاستفادة مالياً من الثورة، فكانت محطة تلفزيونية، تستخدم اسم الثورة، «التحرير»، والتي لم تكن محطة فضائية فقط، ولكن وجريدة أيضاً، وكان المالك الفعلي هو رجل أعمال من عهد مبارك، جاء ليغسل سمعته، أما صاحب الفكرة العبقرية والتاجر الشاطر في المجال، وهو إبراهيم عيسى وشقيقه، فكانوا ملاكا بـ «المجهود»!

وبعد ذلك باع الشريك بمجهوده القناة وخرج منها، ومع أفول نجم الثورة، وانتهاء «التحرير» كرمزية، بيعت لصاحب القسمة والنصيب، لتصبح قناة «تن»، أما «التحرير» الصحيفة فقد فشلت، وبيع الاسم لرجل أعمال آخر من عهد مبارك، كان يحتاج للاسم لغسيل السمعة السياسية أيضاً، فلما قضى منها وطراً أغلقها، ولم ينتظر حتى لبيعها للشركة المتحدة، والتي لا أظن أن الاسم؛ التحرير، يمثل لها غواية، فالعهد الجديد يعتبر أن مصر عرت كتفها وكشفت ظهرها في ميدان التحرير!

الأهداف السياسية للمشروع

بلا شك فإنه قياسا مع الفارق، فالحالة المصرية مثلت انتهازية لمن يجيد بيزنس الإعلام، وفي حالة «بي بي سي»، فلا بد أن تكون هناك أهداف سياسية وراء المشروع، والـ»بي بي سي»، صفت أعمالها في المنطقة، وفي يناير/كانون الثاني من العام الماضي، صدمت عواطفنا الجياشة بإغلاق المحطة الإذاعية التاريخية «بي بي سي»، بعد عمر ناهز الخامسة والثمانين عاماً، ولم يمنعها من الإقدام على هذه الخطوة القاسية، عواطفنا الجياشة؛ إذ كيف يقوون على هذا الفراق، وهذه الإذاعة جزء من تاريخنا وتاريخ المنطقة، صحيح أن الأجيال الجديدة لم تكن كالجيل المؤسس، فلا قوة في الصوت، ولا همة في الأداء، لكن اسمها يداعب ذكرياتنا، إنها كبيت والدي في مسقط رأسي، لن أسكن فيه، ولست مستعداً لبيعه!

بيد أن الإدارة لم تكترث بعواطفنا وأقدمت على خطوة تدمير ذكرياتنا، بقسوة متناهية، وأغلقت الإذاعة، فقد قررت الانسحاب من المنطقة بعد كل هذه «العشرة الطويلة»، وإن بقيت محطتها التلفزيونية الباهتة المواجهة لنا، فقد تردد أن خطة إغلاقها قائمة، فما حاجة القوم إلى المنطقة؟!

والحال كذلك، ومع أن الانسحاب بدا قراراً لا رجعة فيه، فإن الإعلان عن إطلاق خدمة إذاعية من «بي بي سي» موجهة إلى سوريا ودول الجوار، هو مفاجأة، فما الهدف منها!

من لسعته الشوربة لا يلام إذا نفخ في الزبادي، ودعك من «دكانة إبراهيم عيسى»، فقد كانت «سبوبة» في حدود تصوراته البسيطة، وهي تقوم على اللحظة الراهنة، ولو انتظر بعض الشيء لوجد مشتريا بأعلى سعر من الإقليم، الذي كان يخطط في الانقلاب على الثورة، وكانت وسيلته في البداية هي الإعلام، فأطلق ترسانة إعلامية، بح صوتي وأنا أطلب بتتبع تمويلها، وهي عملية سهلة وميسورة، لكن الحكم الإخواني كان مقتنعا بأنه لن يهزم بعد اليوم من قلة أو من ضعف، فمعه أغلبية الشارع، وقوة الجيش. فكان ما كان!

القادم وصدمة الإقليم

سوريا ستكون في مقبل الأيام هدفاً لإطلاق الصواريخ الإعلامية، هذه قناعتي، لكن قناعتي أن هذا سيكون أجندة الإقليم، الذي لا يزال إلى الآن في صدمة، ولم أكن أتوقع أن تكون هذه الطلعة الجوية من «بي بي سي»!

الصدمة من هول ما حدث، وأيضاً من هذا الانسحاب غير المنظم أمام قوات الثورة السورية، واختفاء الجيش السوري الباسل، وكأنه فص ملح وذاب، وهذا الهروب المفاجئ لبشار الأسد، بدون بيان وبدون إعلان، وكأنه لص كان يستولي على أملاك غائب فلما عاد هرب، عطل قدرتهم على التركيز!

هل يعقل أن يكون هذا أداء رئيس دولة مسؤول، يفتقد حتى الإحساس بالمسؤولية إن لم يكن على بلده فعلى قبيلته، ورجاله، وأنصاره، فإذا كان لا بد من التخلي عن السلطة، فليكن هذا بشجاعة القادة، وليس بتصرفات اللصوص، الذين يلوذون بالهرب في جنح الظلام!

وكما فاجأت الثورة المصرية الإقليم، فقد فاجأ نجاح الثورة السورية الإقليم كذلك، وإذا استبعدنا دولة أو دولتين، فهو إقليم معاد للثورات، فماذا وهي ثورة يقودوها إسلاميون، وأن هؤلاء الإسلاميين نجحوا، في وقت كان هذا الإقليم يظن أنه انتصر في دول الربيع العربي، بالهزيمة الساحقة الماحقة لتيار الإسلام السياسي، ومن مصر إلى تونس إلى اليمن، وفي وقت كان الإقليم قد أعاد دمج بشار الأسد من جديد في المنظومة العربية، فذهب إلى أهله يتمطى، ويدخل القمة العربية في الرياض وهو ظالم لنفسه، فلن يبيد ملكه أبداً، وقد يكون الوارث منه، من صلبه، أو تكون أسماء، فمن يعترض؟!

إن المفاجأة كوم، وهروب بشار في جنح الظلام كوم آخر، فقد اعتقد الإقليم إنه أسد، ولم يكن يظن أنه فأر مذعور!

وهذا كله أربك الإقليم، المعادي للربيع العربي، ومن هنا فهذا المشهد الذي نراه في سوريا لن يستمر طويلاً، فغداً تذهب السكرة وتحل الفكرة، ويلتقطون أنفاسهم ويستردون وعيهم ويبدأ التخطيط، وأداتهم هي الإعلام!

الثورة السورية ليست كالثورة المصرية، والفصيل الديني الذي يمثله أحمد الشرع (الجولاني) ليس الإخوان، ولن يسمح بضرب الثورة من الداخل السوري، وبإنشاء وسائل إعلام تمول من الخارج، ويغض الطرف عن هذا ليثبت انحيازه لحرية الرأي!

فمن الوارد إطلاق إذاعات وقنوات تلفزيونية في الخارج وموجهة للداخل السوري بتمويل الثورة المضادة، وسيتم استقطاب من يتم النفخ فيهم بأنهم قد يكون لهم دور في المستقبل، وقد يتوصلون إلى بشار الأسد، لعلهم يصنعون منه علي عبد الله صالح من جديد!

فرض الوصاية على الثورة

ونتابع الآن محاولة فرض الوصاية على الثورة السورية، فالجميع صاروا حكماء يعطون الدروس في السياسة لـ «الجولاني»، فحتى النظام المصري يطالب بعملية سياسية لا تقصي أحداً، فلا تملك إلا أن تستلقي على قفاك من الضحك، باعتبار أن شر البلية ما يضحك، فهذا النظام الذي يعطي هذه الدروس، هو نفسه من أسس عملية سياسية غير مسبوقة في تاريخ السياسة، وهي أن يقصي الجميع، فحتى الحزب الوطني تم أقصاؤه، وأقام عملية غير سياسية بأشخاص من خارج السياسة لاستيفاء الشكل!

وقد شاهدنا رئيس الحكومة العراقية وهو يتحدث بالنغمة نفسها، لنسأله أين العملية التي جاءت به من الأغلبية السنية في العراق؟!

بيد أن الجميع يرون في أنفسهم مؤهلين لإعطاء الدروس للجولاني وإخوانه، ومن ثم لن يكون مفاجأة أن تطلق محطات إذاعية، وقنوات تلفزيونية تحمل اسم سورية، وتصنع من خلالها معارضة تعمل على إعادة الحكم البائد، أو لإفساد المشهد وإشاعة الفوضى إن عجزت عن إعادة الحكم، وهي الفوضى التي تضرب الآن ليبيا واليمن!

كل هذا مفهوم، فنجاح الثورة السورية في خلع بشار الأسد واسقاط نظامه وتحقيق الاستقرار، من شأنه أن يمثل غواية لبلاد كانت تظن أنه الخريف، لا الربيع، العربي، فضلا عن أن القبول الدولي بشخص مثل أحمد الشرع (الجولاني)، مفزع جداً للإقليم، فما الذي يمنعه في المستقبل أن يقبل غيره، حازم صلاح أبو إسماعيل مثلا، وأحيانا يكون القبول الدولي على مضض، كما حدث في التجربة المصرية من قبول الإخوان، لكن عند وجود أي بادرة أمل في التغيير أو الفوضى يتحول الموقف الغربي، إذن فلتتم تهيئة المناخ لذلك!

والأداة الوحيدة لذلك، هي الإعلام، لكن المفاجأة أن تكون البداية من «بي بي سي» بإطلاق خدمة إذاعية موجهة إلى سورية، فلماذا هذا الكرم الحاتمي، من شبكة بدأت الانسحاب بالفعل من المنطقة؟!

ما هي مصالح القوم في سورية الجديدة لكي يتحملوا فاتورة إطلاق خدمة إعلامية بهذا الشكل، ولماذا ليست هناك خدمة إعلامية موجهة لمصر، أو اليمن، أو ليبيا، أو غيرها من الدول!

عموما، إن لم تؤسس الثورة السورية إعلامها بسواعد المؤمنين بها، فسيكون هذا هو الباب الذي يدخل منه الشيطان!

ولأن إيمان الإسلاميين بالإعلام ضعيف، فالخوف من تكرار التجربة المصرية. من خاف سلم!

 صحافي من مصر

 القدس العربي

—————————–

الانتقال السياسي في سورية لم يبدأ بعد/ محمود الريماوي

14 ديسمبر 2024

لم يُلاقِ اختيار محمد البشير (41 عاماً)، رئيسا لحكومة سورية “انتقالية” ترحيبا من شخصيات سورية بارزة عُرفت بمعارضتها لنظام آل الأسد، ويتمحور الاعتراض حول أن البشير من المقرّبين من قائد العمليات العسكرية والحاكم الحالي لسورية أحمد الشرع، وقد كان بالفعل رئيسا لـ”حكومة الإنقاذ” المنبثقة عن هيئة تحرير الشام، وكان نطاق عمل هذه المجموعة المناطق المحرّرة في شمال سورية. وقد تنازعت تلك الحكومة الشرعية مع “الحكومة المؤقتة” المنبثقة عن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية.

في واقع الحال، ونظرا إلى ظروف تشكيلها ومصدر تكليفها، فإن حكومة البشير هي بمنزلة هيئة حكومية، مهمّتها تأمين ظروف مناسبة لعودة الحياة الطبيعية، وضبط الوضع الأمني ومعالجة ما هو عاجل من تحدّيات الحياة اليومية، ومن المبالغة وصفها بحكومة انتقالية، ويدلّل على ذلك أن النطاق الزمني لمهامّها لا يتجاوز ثلاثة شهور، وهي مولجة بملء مؤقتٍ للفراغ الحكومي وتيسير حياة الناس وتأمين الخدمات الأساسية وفق الإمكانات المتاحة. وكان من اللافت أنه جرى الإعلان عن رئيس الحكومة من غير الإعلان عن التشكيلة الوزارية، ما يشي بالطابع التقني لهذه الحكومة التي ضمّت وزراء من حكومة الإنقاذ السابقة (حكومة إدلب!)، وعدد من وزراء آخر حكومة في عهد بشّار الأسد، ليس منهم وزراء الخارجية والداخلية والدفاع والإعلام. وبهذا، مهامّ وزراء هذه الحكومة هي أشبه بمهام وكلاء الوزارات، أو الأمناء العامّين في تسمية أخرى، أو المدراء العامين للوزارات في تسمية ثانية، وهي تسمياتٌ تشير إلى المسؤول الثاني في الوزارة، والذي يتعهد بتسيير أعمال الوزارة.

ووفق هذا الوضع، ينتهي تكليف هذه الحكومة في مارس/ آذار المقبل، ويُفترض أن الحكومة اللاحقة هي التي سوف تستحق أن توصف انتقالية، من مهامّها الرئيسية تهيئة البلاد للانتقال إلى عهد جديد، يقوم على المشاركة السياسية وسيادة القانون والفصل بين السلطات. وما يتطلّبه ذلك من تهيئة تشريعات للانتخابات العامة البرلمانية والرئاسية، ووضع قوانين للإعلام ولتنظيم تشكيل الأحزاب والجمعيات والنقابات. على أن ينظر مجلس النواب المنتخب في هذه القوانين، والأحرى مشاريع القوانين، ويضع ما يراه من ملاحظات وإدخال ما يراه من تعديلاتٍ عليها وإقرارها. ومن الطبيعي أن تكون الحكومة الانتقالية، المفترض تشكيلها بعد ثلاثة أشهر على الأكثر، ذات طابع سياسي تشاركي، وأن تجمع بين الطابعين السياسي والتكنوقراطي، وأن تقود تلك الحكومة شخصية ذات خبرات سياسية وإدارية، وتحظى باحترام واسع في الداخل، وتقود السياسة الخارجية في الوقت نفسه.

وكان من اللافت صدور تصريحات في دمشق بأن حكومة البشير التمهيدية سوف تعمد إلى تشكيل لجنة قانونية لوضع دستور جديد، وبينما يرتدي وضع دستور أهمية بالغة وحيوية لمواكبة التحوّل الذي تعيشه البلاد، ولضمان حقوق السوريين حاضراً ومستقبلاً، فإن مهمّة كهذه قابلة للتأجيل بضعة أشهر، وبحيث يُناط بحكومة انتقالية ذات طابع سياسي تعدّدي اختيار لجنة صياغة دستور جديد، فمثل هذه الحكومة هي المؤهلة لأداء هذه المهمّة، خلافاً للحكومة الحالية التي يُعهد إليها تأمين الخدمات الأساسية، بما في ذلك بسط الأمن بصورة عادلة، تُطمئن السوريين. ولأن الحكومة الحالية ذات لون سياسي واجتماعي واحد تقريباً، يتعذّر أن تتمكّن من خلال لجنة قانونية من وضع دستور عصري متطوّر يضمن الحقوق الفردية والجماعية ويحدّد الواجبات، ويعكس واقع التعدّدية التي تسم المجتمع السوري الكبير الغني بتنوّعه.

من حقّ الجميع في الظروف الجديدة إبداء آرائهم بحرّية والتأشير إلى الأخطاء ومواطن الخلل متى ما وجدت، لكن مع الأخذ في الاعتبار الظروف الحالية التي تتطلب حلولاً عاجلة لخدمات المياه والكهرباء والتعليم والصحة وسلامة المجتمع من الجنح والجرائم، وتأمين المواد التموينية للفئات الأشد فقراً، ابتداء من تأمين الخبز والحليب للأطفال، وهو ما أملى الإعلان عن هذه الحكومة بصورة مستعجلة، كما أملى خلال الأيام الأولى للتغيير الإبقاء على حكومة عثمان جلالي، والتي اختفى بعض أعضائها أو غادروا البلاد.

والمأمول أن تُبدي الشخصيات العامة روحاً إيجابية في التعامل مع هذه المرحلة، من أجل حل المشكلات الملحّة وعدم التسبب بنشوء مشكلات إضافية، فالنظام الجديد لم يتبلور، وتحتاج بلورته جهداً جماعياً ومشاورات واسعة بروح بنّاءة وموضوعية، ومن حقّ من قادوا التغيير التاريخي التعامل معهم باحترام، كما من واجب من قادوا التغيير تسهيل بلورة نظام سياسي جديد يكتسب شرعيته بالانتخاب والتفويض الشعبي، وفق قوانين انتخاب عصرية، إذ ليس خافياً ولا غائباً عن الأذهان أن المتضرّرين من التغيير سوف يسعون إلى إفشال التجربة في مهدها أو وضع العصي في عجلتها، أو تأليب مكونات المجتمع بعضها على بعض، أو ارتكاب ما يخطر ولا يخطر على البال من حوادث. من هنا، تبرُز أهمية استثنائية لمساهمة الشخصيات العامة ومنصّات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني والأكاديميين والمثقفين والوسائط الإعلامية المستقلة في تحصين الانتقال وحمايته. وكما تحقّق التغيير بأداء راقٍ أبدى كل الاحترام لمكونات المجتمع وأفراده، ما سوف يسجّل في تاريخ هذا البلد “بأحرفٍ من نور”، فإن من الواجب مواصلة هذا النهج في بناء الهيئات الانتقالية، وفي إرساء الوحدة الوطنية وتجريم العنف المجتمعي أو الفئوي، وفي التحضير لمرحلة الاستقرار وإعادة بناء ما هدمه ودمره النظام السابق، وهي مهمّات جليلة تنادي القوى الحية من مختلف المشارب والمذاهب للمشاركة بها بدل الاكتفاء بتسجيل الأخطاء.

العربي الجديد

———————————-

الأسئلة اللبنانية بعد التطورات السورية/ توفيق شومان

14 ديسمبر 2024

ما كادت تطورات الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي، تفضي إلى انقلاب المشهد السوري، بسقوط النظام وانفتاح ما بعده على احتمالات حائرة، حتى تزاحمت الأسئلة اللبنانية التي استنبتتها التطورات الجارية في الدولة الجارة. منها ما يرتبط بشكل العلاقة ونوعها بين لبنان والحكم الجديد في سورية، وضمن أي إطار يمكن أن تمضي، فترقى إلى مستوى الدولة مقابل الدولة، أو تدور في فلك العلاقة بين الدولة الواحدة، أي سورية، وبين كل جماعة لبنانية على حدة.

هذا السؤال السابق لأوانه، لكونه مرتبطا باستقرار الأوضاع في سورية، يصبّ في مآل يستشرف اتجاه العلاقات اللبنانية ـ السورية في المستقبل القريب. ومن خلال استبيان النظرة السورية الجديدة إلى لبنان، يمكن طرق أبواب الحديث عن نوعية العلاقة بين بيروت ودمشق.

لم تكتمل بعد صورة الحدث السوري، وقد يكون طبيعيا ألا تكتمل معه محدّدات السياسة الخارجية السورية، لكن لبنان القلق على أوضاعه الداخلية، والقلق أيضا من عدم اتضاح شكل الحكم الجديد، تأخذه، أولاً، هواجس (ومتاعب) الحدود الطويلة مع سورية (370 كلم)، ويتأتى ذلك من عاملين: الأول: دخول موجة نزوح سورية مستجدّة إلى الأراضي اللبنانية ناشئة من التطورات السورية أخيراً، وهي موجة مضافة إلى النزوحات المتكرّرة منذ عام 2011، وفي الوقت نفسه، لم يشهد لبنان حركة عودة سورية عالية المنسوب كانت متوقعة إثر المتغيّرات التي قلبت المشهد السوري.

الثاني: مضمونه أمني، وميدانه الحدود المشتركة، فثمة مخاوف لبنانية من احتكاكات أو مناوشات تصل إلى مستوى الصدامات بين الجيش اللبناني وفصائل سورية مسلحة تقترب من مواقع الجيش أو تطلق النار على أفراده، وهذا أمر جرى أكثر من مرّة في الأيام القليلة الماضية.

وباستدعاء أسئلة الداخل اللبناني مجدّداً، يأتي هاجس عدم طي صفحة ما قبل 8 ديسمبر، واعتبار دمشق أو بعض منها أن تلك الصفحة مفتوحة، ما يعني تصدير التوتر، وربما ما أعلى منه، إلى لبنان، على قاعدة “الحساب المفتوح” مع فئات سياسية لبنانية محدّدة.

وفيما مصدر هذا الهاجس اللبناني من خارج الحدود، ثمة هاجس مماثل من داخلها، عنوانه اندفاع أطراف لبنانية معينة للاستثمار في الواقع السوري الجديد، والسير في جدول أعمال، أقلّ ما تقول عناوينه نزع سلاح حزب الله. وفي هذه اللحظة اللبنانية الحرجة، إسرائيلياً وسورياً، للمرء أن يتخيّل تداعيات ما يمكن أن ينجم عن مثل هذه الطروحات التي يمكن أن تدر على لبنان محنة ومشقة ووبالاً.

وإذ ينتظر اللبنانيون ملمحاً أو مؤشّراً من دمشق حيال كيفية التعاطي السوري مع لبنان، وعلى أي أسس يمكن أن تُبنى قواعد العلاقة بين الجانبين، وهو أمر لم يرشَح عنه شيء يمكن البناء عليه، فبيروت من جهتها تلتزم الصمت، وتنتظر ما يمكن أن تؤول إليه المواقف الإقليمية والدولية تجاه المستجدّات السورية، كما أنها تأخذ بالاعتبار التباينات الداخلية اللبنانية وتعدّد القراءات المحلية للحدث السوري ومتغيّراته الجذرية. ومع ذلك، هناك من يسأل في العاصمة اللبنانية ماذا لو لم يتفق “السوريون الجدد” على موقف موحّد من لبنان؟ وماذا لو كان لهؤلاء أو لبعضهم مواقف إزاء قوى سياسية لبنانية وازنة وفاعلة؟ حينذاك، كيف تكون السياسة السورية تجاه لبنان، وكيف تكون سياسة الأخير تجاه سورية؟

لا إجابات على مثل هذه الأسئلة، لا في بيروت ولا في دمشق. ومع هذا الإرباك الثنائي، يذهب لبنانيون إلى أن القوى العسكرية والأمنية اللبنانية على الحدود مع سورية قد تجد دليلا إلى نوعية التعاطي السوري مع لبنان، بعد استلام قوى عسكرية وأمنية سورية معابر الحدود، فنوع هذا التعاطي يحمل في مضمونه أكثر من إشارة ودلالة إلى مسار العلاقات اللبنانية ـ السورية.

وبما يختص بالحدود، يبدو الرهان اللبناني على تركيا، ففي بيروت، كما في غيرها، ثمة قناعة بالإشراف التركي على الإدارة السياسية الحالية في سورية، وهذا مبعث طمأنينة، خصوصا حين يجري التداول في أروقة سياسية لبنانية عُليا، أن أنقرة تضمن عدم اقتراب فصائل سورية من الحدود اللبنانية، وهذه الضمانة جاءت بعد أسئلة مرتابة من بيروت وجهتها لأنقرة، فأتت “الضمانة” على الشكل المذكور.

وإلى تلك الأسئلة، واحد منها يتصل بالهاجس من إسرائيل، فالتوافق على وقف الأعمال القتالية وتنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 على الجبهة اللبنانية، لا يعني، في أي حال، توقف الحرب كما هو معروف في التفسيرات التي تفرّق بين وقف القتال ووقف الحرب، وفي ظل المتغيرات السورية، ثمة من ينادي في تل أبيب بانتهاز تلك المتغيرات، واستكمال الحرب على لبنان، واستنساخ ما تفعله إسرائيل بالأصول العسكرية السورية، عبر قطع الدابر الجغرافي بين لبنان وسورية بالنار المتواصلة أو المتقطعة، أو عبر جعل ورقة الضمانات الأميركية ـ الإسرائيلية أساسا لطريقة التزام تل أبيب بالقرار الأممي، وليس بالضرورة أن يكون العدوان على لبنان شاملا بالشكل الذي عرفه بين 23 سبتمبر/ أيلول و27 نوفمبر/ تشرين الثاني الفائتين، وإنما على نمط الضربات الجوية الإسرائيلية لسورية طوال السنوات التي خلت.

بصورة من الصور، ينتظر لبنان إجابات من سورية، وما من احد متيقن أنها قد تأتي سريعة أو متأخرة، ومباشرة من دمشق أو غير مباشرة، أو عن طريق طرف ثالث أو أطراف عدة. والأهم أن الاستقرار السوري أو عدمه هو ما يجيب على هذه الأسئلة.

العربي الجديد

————————-

القائد لم يعد خالداً في التماثيل/ عمّار فراس

14 ديسمبر 2024

سقط نظام الأسد. العبارة التي كانت حلماً بالنسبة للسوريين. وعلى الرغم من غموض المستقبل، فرحة السوريين لا توصف. تزامناً مع تحرير المعتقلين من الأفرع الأمنية سيئة السمعة، اقتحم سوريون مدنيون، القصر الجمهوري في دمشق، وحطّموا تماثيل آل الأسد: حافظ وباسل. تماثيل الأسد المنتشرة في كل سورية، كانت لزراعة الخوف في القلوب، وزراعة الرعب في الفضاء العام، خصوصاً بعد مجزرة حماة (1982)، إذ تكاثرت هذه التماثيل في كل مكان.

تنويعات على “القائد الخالد” في كل زاوية، وكأن عيون الجزار تحدّق في كل السوريين. حُطمت التماثيل بالأيدي، وبالرافعات، وبالحجارة. واللافت هو أن أغلبها مجوّف من الداخل؛ واجهات كرتونية تحولت إلى نكتة التقطها جون ستيوارت في حلقته عن سقوط بشار الأسد، الذي دعا إلى تدعيم التماثيل كونها تسقط بمجرد دفعة صغيرة من اليد.

هشاشة هذه التماثيل، تلك التي انهارت وبسرعة كانت مفاجئة للجميع… انهار نصف قرن من الصمت بدفعة صغيرة من اليد. هذه التماثيل التي تصل أحياناً إلى حد الصرح، هي علامة على الهيمنة على الأرض، تلك التي اكتشفنا أنها مليئة بالأنفاق. أنفاق للمعتقلين، وأنفاق للسلاح، وأنفاق لإدارة العمليات العسكرية، وأنفاق حسب تعبير بعضهم “تتسع لسورية كلها”، ليأتي التمثال هنا كحارس وطيف للموت، يضخ الذعر في قلوب المارّة.

ركب السوريون التماثيل وجروها في الشوارع، وحطموها، ورموها في القمامة. هالة “الأبد” تحطمت، وأصبحت دمية أو لعبة للتندر والسخرية، وأيضاً لـ”فش الخلق”، ومحاولة ربما لتأكيد “الانتصار” عبر تحطيم التمثال. وكأنها عملية تنظيف للهواء من الخوف، تعقيم من سنين الصمت، فكلما حطم تمثال جاد اللسان بالهتاف وصرخات الحريّة. انقلاب مفاجئ خلال أيام، تحول فيه تمثال الأسد إلى لعبة أطفال في الأرض.

الفضاءات العامة تحولت إلى ساحات احتفال وتجمع، ذاك الذي كان ممنوعاً لسنين. وفي حال حصل، لا يحصل إلا تحت أعين “القائد الخالد” القادر عبر تماثيله ورجال أمنه التحديق في “كلّ سورية”.

الدراسات والأبحاث والنظريات عن تماثيل الأسد في سورية كثيرة جداً، ولطالما جرى الحديث عن تنويعاتها وأشكالها، والأهم عيوبها؛ كحجم الرأس واليدين، والتناقضات بينها لبث الخوف من جهة وتأكيد التجبّر من جهة أخرى. هذه العلامات انهارت الآن، تحول إلى محط سخرية وتندّر، إلى حد أن بعضهم بدأ ينشر ساخراً تماثيل أخرى من سورية، كصلاح الدين ويوسف العظمة، قائلاً احذروا لا تحطموها، هذه ليست للأسد. نكات كهذه لم تكن أبداً تُقال علناً، ولا حتى همساً.

أحد التماثيل التي تحطمت، كان تمثال حافظ الأسد في القرداحة، قرية حافظ الأسد في اللاذقية. هناك كان التوجس على أشدّه، القرية التي كان اسمها يزرع الخوف في قلوب السوريين، خرج سكانها لتحطيم التمثال، القرية التي عانت أيضاً من بطش الأسد، هتفت باسم الحريّة، وأزاحت الرمز الذي بقي لعشرات السنين محدقاً في سكانها حاكماً عليهم بالولاء له بقوة الخوف والبطش. تمثال آخر كان مشهد تحطيمه مثيراً، ذاك الذي في دمشق، في ساحة عرنوس، ساحة المشاة الوحيدة ربما في العاصمة التي لطالما شهدت مسيرات مؤيدة للنظام. حُطّم التمثال فيها لتعود للمارة والمشاة. هذا التمثال كان يمنع الاقتراب منه، والآن تحول رأسه إلى كرة قدم للأطفال.

تحطيم التماثيل هو تحطيم للأبد السياسي، ودخول للتاريخ الذي عطله “خلود” الأسد الذي نفى لنصف قرن أي صوت سياسي، ورسخ سطوته على الأرض تماثيلَ وسجوناً وآلاف القتلى على مرّ السنوات. اليوم لا تماثيل للأسد في سورية.

العربي الجديد

———————–

سورية الحرّية/ فوزية أبو خالد

13 ديسمبر 2024

يرفّ الحمام في سماء سورية بعد خمسين عاماً من تكسير الأجنحة وسدّ الحناجر، ليهدل بـ الحرية وحلم السلام. يتحرّك الهواء حرّاً في شوارع سورية بعد أن سُجن في أقبية الظلام وغُيّبَ في غياهب الظلم لأكثر من خمسين عاماً. تُسفر الشمس ضاحكةً على جبين سورية بعد أن سُجنت وسُحلت وانتُهكت وقطع ضوؤها عن الأحياء وجُمّدت حرارتها في ثلاجّات الموت لخمسين عاماً.

تنفض الأرغفة عن طحينها وسنابلها وأفرانها السوس والعثّ والجدري والقمل والبارود الذي كان يجعلها لخمسين عاماً طعاماً غير صالحٍ لبني آدم وحوّاء. يجري الماء في روح سورية من جديد بعد أن جُفّفت منابعه واحتُكرت مصابّه وصُوِّب الرصاص على لونه وطعمه ورائحته خمسة عقود من الزمان، بنهاراتها الظمأى ولياليها اليابسة وسنواتها الضاريات العجاف.

كان النظام الفاشي، نظام البعث العبثي القاتل، قد قطعَ عن الشعب السوري كلّ أسباب الحياة من لقمة العيش الكريمة إلى الماء والهواء والشمس والأحلام وبوارق الأمل، ناهيك عن وحشيّته الممتدّة واللامتناهية لملاحقة وقتل وحرق كلّ قيمة من قيم مكارم الأخلاق، وكسر وذبح كلّ براعم وصبّار الأبجدية، وسجن وتشريد واعتقال وتعذيب كل كلمة شريفة وشفيفة من كلمات اللغة. لذلك كان معظم مثقّفي سورية الحقيقيّين إما خارج الوطن أو غرباء نفيه، أو مفقودين داخله.

على أنّه وإن كنا والعالَم أجمع على علم لا يَخفى إلّا على المتواطئين والجبناء بشرور النظام وقسوته ودمويّته على الشعب السوري وعلى جواره العربي، إلّا أنه ليس لإنسان أنّى بلغت به قتامة وعبثية وكوابيسية الخيال أن يخال أو يتخيّل واقع البشاعات والوحشية، التي يرتقي عنها الحيوانات، لما أظهرته الكاميرات من شهادات ومشاهد حيّة جنونيّة عن حال سجون النظام، في شكل من أفظع أشكال قبور الأحياء، وما كان يرتكب فيها من جرائم يجتمع فيها أقذر ما عرفته تواريخ السجون في العالم من جرائم الإهانة والانتهاك والتعذيب والذبح.

ولا إخال التعبير الرائج، “مسالخ النظام”، إلّا تعبيراً مخفّفاً لما شهدناه هذا الأسبوع من محارق النظام الفاشي الهتلري الهولاكي البعثي العبثي وأفرانه الغازية، حيث لا توجد في لغات العالَم كلمة تصف تلك السجون وما كان يجري فيها من جرائم.

لكلّ ذلك الطغيان الذي عاشت سورية طاعونه لعقود، تليق بسورية الحرية ويليق بشعبها أن يحلم باستعادة عافيته وكرامته  الشخصية الوطنية معاً. يحقُّ لناس سورية إن ينعموا بالحرّية بعد أن كانوا يعيشون الرعب في عذاب ما بعده عذاب لعشرات السنين.

يحقّ للحرّية نفسها أن تنتعش وتنتشي بعد أن عاشت أقسى أشكال الاضطهاد والعداء ضدّ حروفها حرفاً حرفاً. يحقّ لأطفال سورية أن يفزّوا ليستعيدوا طفولة حُرِموا منها قبل أن يولدوا. يحقّ لنساء سورية أخيراً أن يلبسن ثياباً عاديّة على أرواح ممشوقة لأوّل مرّة، بعد أن لبسن ثياب الحداد على أجسادٍ يعلجها الحزن والخوف على عفافهن وعلى فقد غواليهن لعدة أجيال. خرجت سورية عن بِكرة أبيها من شامها لحلبها وحمصها وحماتها ودرعاها وديرها وفراتها وزبدانيها ولاذقيّتها وبحرها المتوسط والطويل الأبيض والأسود وقاسيونها وسهولها وقلاعها وقراها وضيعها وسهولها وبساتينها وجبالها لتحتفي بعودتها للحياة بعد موت محقق لخمسين عاماً.

لذا، تثميناً وفرحاً لا حدود لهما بحرّية سورية، نجد من واجبنا خطّ بضع كلمات لا يجهلها الشعب السوري ولا يخونها الذكاء الاجتماعي والوطني لكافّة قواه المجتمعية، ولكنّها من باب المشاركة الوجدانية والفكرية:

أوّلاً، نتمنّى في هذه اللحظة على سورية ولسورية ألا تُفسَد فرحةُ تحرير أرضها من هولاكو وهتلر ونيرون وفرعون دفعة واحدة لشعب ظُلم وسُجن وشُرّد وسُفّه وأُحرق حيّاً، بأية محاولات رعناء لتصفية الحسابات، وأن تتفرّغ القوى لطرح الأسئلة البنّاءة والتفكير العقلاني التعميري باللحظة التالية، بدل تعكير صفو اللحظة بالحزازات والأحقاد والملاحقات القولية أو التصفوية، لأنّ رأس المال الآن هو السلم الأهلي والتفكير المشترك في الآتي.

ثانيا، مرّةً أُخرى وأُخرى، حقّاً، وإلى مالا نهاية نحمد للرحمن أنّه مدّ في آمالنا الضميرية والوجدانية المشتركة نحن وأجيال وأطياف عريضة من الأرواح الحرّة، لنعيش نشوة هذه اللحظة؛ لحظة نهاية العبث الوحشي لحزب البعث وسقوط طاغية عاش عداءً بشعاً للشعب السوري والعربي وقامر بدماء شعبٍ كامل ليبقى على عرش الخراب.

ومن المهمّ في سياق هذه النقطة أن يعلم الشعب السوري مدى حبّ الشعوب العربية بكلّ أطيافها له وفرحتها بتحرّره وتثمينها لأمجاده التاريخية وتوقّعاتها العالية لمستقبله الأجمل، كما لا بدّ للشعب السوري أن يعي، وهو لا شك يعي، أهمية ظهيره العربي القريب والبعيد، الذي لا يريد لسورية أن تقع في شرك التأسلم السياسي، ولا شركِ التشيع الطائفي المنغلق الإيراني، ولا بين سندان العدو الصهيوني وكيانه العسكري الاحتلالي التوسّعي ومطرقة قوى الهيمنة الأُخرى الإقليمية والعالمية معاً. فالحلم والمرجو والواجب هو سورية حرّة مستقلّة بكافة أطيافها الاجتماعية على قدم المساواة من الشراكة الوطنية للخروج من مرحلة النقاهة لمرحلة العمران.

فحمداً لله على هذه اللحظة من ردّ الاعتبار لتلك القيمة العمرانية العظيمة. إنها لقيمة حتمية نهاية الطغاة بأسوأ المآلات، وما يضاهيها من قيم الحرية وانعتاق الشعوب من أظلاف الظلم واستعادة إرادة الحياة.

لا تسع كلّ إنسانٍ طبيعي عاقلٍ راشد الفرحة بسقوط نظام قامَ على الحديد والنار والطائفية والعسكرة والحزبية الضيّقة والاستعداء الخارجي على أرض البلاد. كما ليس من فرحة تكفي الشعوب الحرّة بسقوط ديكتاتور قام على حراسة هذا النظام الفاشي بأبشع أشكال الظلم والقمع والقتل والسجن والتشريد للشعب بجانب أبشع أشكال العداء لمحيطه العربي.

‏أمّا القلق على هذه اللحظة المُستحقّة النادرة من لحظات الحرّية وسؤال المستقبل؛ مستقبل سورية حرّة أبية مستقلّة غير مجزّأة وغير مُختطفة من قوى الهيمنة، وكذلك مستقبل الوطن العربي، فهو التحدّي الذي لا تستطيع عظمة اللحظة وتاريخيّتها ورومانسيّتها أن تشغلنا عن استحقاق التفكير به، إن لم يكن الاستعداد له، بل إنّ زخم هذا الانعتاق العامّ من أظلاف الخوف يستدعي الاستلهام نحو تخطيط واعٍ للعمران والاستقرار وإقامة دولة النهوض والسلام.

لكلّ ما تقدّم ولما هو آتٍ، أتقدّم من سورية وشعبها العظيم، باسم شعراء الأرض وأطفالها وأحيائها الأحرار جميعاً، بأجمل التهاني على هذه اللحظة العظيمة التي تجلّى فيها الشعب، وهرب الباطل: إنَّ الباطل كان زهوقاً. 

* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية

العربي الجديد

————————-

هزيمة الحداثة في سورية/ معن البياري

14 ديسمبر 2024

يبدو شيءٌ من الملوحة في فرحة كثيرين من أصدقائنا المثقفين السوريين، من أهل الأدب والنقد والفنون والفكر، بانتهاء نظام عائلة الأسد في بلدهم، ذلك أن المشهد الذي اشتهوه عقوداً، ليتصدّر اليوم التالي لإسقاط (أو سقوط) هذا النظام ليس الذي رأوه، ورأيناه معهم، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري. شبّانٌ ملتحون، يتمنطقون بواريد ورشّاشاتٍ ومسدّساتٍ، ينتسبون إلى تنظيمٍ، إسلاميٍّ جهاديٍّ سلفي، مسلّح، يُصنّف إرهابياً، خرج من معطف “داعش”، ثقافةُ عناصره ماضوية، يستلهمون التفكير القاعدي إيّاه. يتزعّمهم رجلٌ لم يُكمل دراسته الجامعية، يبدو طموحاً، وهادئاً، سمتُه القياديٌّ ظاهر، كما نزعتُه المُحاربة. يبدو، في قناعاته، على يمين من انشقّ عنهما، أيمن الظواهري ثم أبو بكر البغدادي. وتفاصيلُ كهذه، على ما فيها من إيجازٍ، مخلٍّ ربما، كافيةٌ ليشعر المثقفون السوريون، الذين ناهضوا الأسد، وتوزّعوا في المغتربات والمهاجر، ومن بقوا في البلد، بمقادير من الحرج، فلم يكونوا، وهم يُنتجون إبداعاتهم وفنونهم واجتهاداتهم الفكرية، وهم يتوافقون ويختلفون، يتصوّرون أن جهاديّاً قاعديّاً سيتسلم بعد بشّار الأسد سورية، بلد نزار قباني ومحمّد الماغوط وصادق جلال العظم، فاتحاً، منتصراً بالغلبة والسلاح. هذا ليس مُفرحاً، في أبسط تعبير، بل مقلقٌ، وربما يبعث على التطيّر، سيّما وأن السوريين في الأسبوع الأول لتحرّرهم مبتهجون أيضاً بما احتاجوا أن يسمعوها من الفاتح وصحبِه من “تطميناتٍ” بشأن الأقليات وحرية اللباس والعبادة والنظام العام… .

لا أظنّني أتورّط في مجازفةٍ غير محسوبة، لو ذهبتُ هنا إلى أن سورية هي البلد الذي صدرت من مثقّفيه، في بلدهم وخارجه، أكثرُ التنظيرات والأفكار و”السجالات” العربية في الحداثة، بعناوينها في الآداب والفنون والفكر السياسي. وقد التقى مُنتجهم هذا، سيّما في شقّه المتعلق بالأدب، مع التجارب الرائدة والمؤسّسة في العراق ولبنان. وإذا قال قائلٌ إن أصحاب هذا الجهد الثقافي قلّةٌ في مجتمعهم، فلا يعوّل على تأثيرٍ جوهريٍّ لهم، فالتعقيبُ إن من بديهيّ البديهيّات أن يكون المشتغلون بهذه الهموم قلّة، كما في كل شعوب الأرض، ولا يؤاخَذون على حالهم “الطبيعي” هذا. أما عن مدى التأثير الذي أحدثوه، فليس صحيحاً أنه محدود، سيّما في مرحلةٍ عربيةٍ انطوت، فقد كانت الحداثة في صدارة مشاغل التربويين والسياسيين وأهل الإدارة والتعليم الجامعي والعمل المؤسّسي، بفعل الاحتكاك القويِّ مع الغرب وتأثيراته في بِنياتٍ عميقةٍ وسطحية، وبفعل خيارات بعض نخبٍ في غير سلطةٍ عربيةٍ. بالتوازي مع نضالاتٍ عريضةٍ من أجل الديمقراطية والتمدّن والتحديث والحرّيات العامة، ووجِه غيرُ قليلٍ منها بتربّص السلطات، وقمعها وضربها. على أن تشخيص لوحة هذا كله، وتفاصيل الاشتباك في غضونها بين قوىً وتمثيلاتٍ تدافعت، قوميةٍ ويساريةٍ وغيرهما، يحتاج شرحاً، عويصاً ربما، ليس هنا مقامُه. ولكن، في الوسع الإيجاز هنا إن هذا التشخيص سابقٌ للنفوذ الذي أحرزه الخطاب الإسلامي، بتدرّجاته التقليدية والمغلقة، والأخرى التي شقّت مساراتٍ منفتحةً على التعايش مع المُغاير والمتعدّد. مع التسليم، المُسبق والباقي، بأن المجتمعات العربية، في عُمقها، متديّنة ومحافظة.

لا مكابرة. هزمت السلفيات والأصوليات، مع تنويعات الإسلام السياسي، في سورية وغيرها، مجرى الحداثة، الثقافي النخبوي والسياسي المؤسّسي والاجتماعي العام، الذي حاول أن يتموقع في الفضاء العربي، وأفلح موضعياً وبحدود. وتقدّمت مظاهر المحافظة في المجتمع، وكذا استلهام الدين في بناء قيم المقاومة ضد العدو الصهيوني ومواجهة “مؤامرات” الغرب والتغريب، وإنْ مع تسارع العمران الحضري واستخدام تقنيات التواصل الحديثة والانفتاح المهول على ما وفّرته شبكة الإنترنت من ممكناتٍ بلا حدود. لم يتراجع خطاب الحداثة ولا سرديّاته وتطلعاته، سيبقى صامداً في قنواته الخاصة، غير أنه سيزداد ارتداداً في نخبويّته وثقافويّته. وعندما يضنّ صاحب التسطير الأشهر للحداثة العربية، أدونيس، على شعبه السوري، بمفردة تهنئةٍ بانتهاء طغيان الأسد، في إطلالةٍ إعلاميةٍ له في باريس، الأربعاء الماضي، وعندما لا يرى قيمةً لتغيير النظام أمام عدم “تغيير المجتمع”، في لحظةٍ انعطافيةٍ كبرى، فإنك لا بدّ ستسأل عن جوهر الحداثة ومعناها، ناهيك عن جدواها. وفيما كان قد أشهر عدم سروره بخروج سوريين للتظاهر ضد الأسد من الجامع، فهذه “بيعةٌ” يُحرزها في الجامع الأموي رجل اللحظة زعيماً لسورية غداة فرار الأسد، فتصبح إشهاراً لهزيمةٍ كبرى للحداثة في سورية، مثّلها أدونيس أو غيره.

العربي الجديد

——————————-

عقل المستبد… زنازين العظمة والخوف/ محمد صالح

13 ديسمبر 2024

سقط مستبدٌ آخر ونقص القتلة واحدًا، ولكن كان الثمن باهظًا جدًا. ويبدو أنّ الحرية لا تأتي أبدًا مجانًا. لماذا لم يكتفوا بما نهبوه ورحلوا؟ لماذا أصرّوا على تعذيب شعبٍ كامل من الضحايا حتى آخر رمق؟ ماذا لو أطلقت لمخيّلتي العنان لتلج إلى عقل ذاك الديكتاتور المستبد ومشاعره؟ هل بإمكاني تصوّر الخليط المُعقّد والمتضارب من الأحاسيس والأفكار التي تملئ ذلك العقل المظلم؟ لست أدري؟ ولكن ماذا لو تمكنت من ذلك؟

أظنّ أنّ أولى الزنازين التي سألجها داخل ذلك الكهف المظلم البارد ستكون زنزانة “الهبة الإلهية”، فالمستنسخون من فصيلة ظلّ الله في الأرض ووكلاؤه الحصريون على مرّ التاريخ، غالبًا ما أقنعوا أنفسهم لدرجة الإيمان بأنّ المستبد هو “هبة الله” لشعبه، محاولًا إقناع نفسه قبل الآخرين بأنه المُخَلّص الوحيد القادر على قيادة الأمة إلى برّ الأمان وسواحل الاستقرار والازدهار. هذا الشعور الذي يتضخّم بفضل المنافقين والمقرّبين الذين يغذّون غروره، ومع الوقت تمتدّ العدوى ليشكّلوا معًا عقلًا جمعيًا، تعتقد فيه بطانة السوء أنّها امتداد لظلّ الله في الأرض، وفقًا لمبدأ “كلب الشيخ شيخ”، واضعين المستبد وأنفسهم فوق الشعب، متعالين على رغباتهم ومطالبهم، تحت مظلّة سرديتهم المصطنعة التي يستبسلون في تسويقها بأنّ الشعب لا يدرك الصورة الأشمل ولا يفهم المصلحة الكبرى التي لا يراها سوى ظلّ الله في الأرض.

على الحائط الأيمن في زنزانة “الهبة الإلهية”، لربما أجد بابًا لزنزانة “الرعب”، فعلى الرغم من شعور العظمة والقوّة الزائف الذي يحاول المستبد إقناع نفسه به، فلا بُدّ أنه يعيش في خوفٍ دائم. وعلى الرغم من تملّق المنافقين والمتسلّقين والمرتزقة وتمسّحهم بأعتاب المستبد، فمن الصعب الثقة بمثل هؤلاء، هو أصلًا لا يثق حتى بنفسه، لأنه إذا امتلك ذكاء طفل في العاشرة من عمره سيعلم علم اليقين أنّ النظام الذي بنى سلطته عليه أوهن من بيت العنكبوت، وأنّ القوّة التي يبطش بها بخصومه ومنتقديه والمطالبين بالإصلاح من أجل البقاء يمكن أن تنقلب عليه في رمشة عين. لربما هذا الخوف الدائم هو ما يدفعه باستمرار لمضاعفة بطشه وإحكام قبضته أكثر، وخنق البلاد والعباد حدّ الموت أو الانفجار، ومع ذلك فهو لن يشعر بالأمان مطلقًا مهما علت أسوار قلاعه وازدادت مراكبه تصفيحًا.

ولربما عن طريق الصدفة دَلَفْتُ إلى زنزانة “مطل الرعاع”، هي الزنزانة التي يشرف منها عقل المستبد المريض على الشعب الذي استعبده. لربما كان لدى المستبد مشاعر مختلطة تجاه الشعب في البدايات. من جهةٍ، هو ما زال يحتقرهم ويرى فيهم كتلة من الجهلة غير القادرين على إدارةِ شؤونهم على الرغم من جميع المظاهر الاستعراضية الاحتفالية التي يحاول فيها الاحتفاء بهم وإظهار الحبّ اتجاههم في كليشيهاتٍ تسويقيّةٍ باتت رخيصة ومبتذلة وغبيّة في عصرنا الحالي. ومن جهةٍ أخرى، يستمر بالشعور بالرهبة من كراهيتهم له، التي يدرك أنّها تتزايد ظلمًا بعد ظلم. هذا الكره المتبادل والمتنامي يزيد من برودة زوايا هذه الزنزانة ويعزّز شعوره بالقشعريرة والخوف والعزلة.

أسرع لمغادرة تلك الزنزانة لأجد نفسي واقفًا في “ممرّ التبرير”، فالمستبد غالبًا ما سيحاول إقناع نفسه بأن كل ما يفعله مبرّر، سواء كان قمعًا أو بطشًا أو نهبًا لأحلام الناس قبل ممتلكاتهم. فهو يحاول التبرير لنفسه بأنّ القسوة ضرورة لضمان “الاستقرار والأمان”، أو أنّ الشعب النمرود بحاجة إلى “يد حديدية” لتجنّب الفوضى، فالحرية لا تليق بهؤلاء الرعاع الذين ابتلى الله المستبد بهم وفق تصوّره المريض. لربما تمنحه هذه التبريرات نوعًا من السلام الزائف مع نفسه، ولو بشكلٍ مؤقت.

في نهاية الممر قد أجد زنزانة “السيطرة”، هذه الزنزانة لا يبدو أنّها كانت ضمن المخطّط الأصلي لهذا الكهف المظلم، ولكن يبدو أنّ المستبد استحدثها لاحقًا في عقله المريض عندما لم تعد السيطرة مجرّد وسيلة للبقاء بالنسبة له، بل أصبحت غاية بحدّ ذاتها. عند استحداث هذه الزنزانة أظن أنّ المستبد فقد القدرة على الفصل بين شخصيّته كفرد ودوره كحاكم، واختلط عليه الأمر حتى ألّه نفسه قبل تأليه المنافقين له، ممّا جعله أسيرًا أبديًا لمنظومة القمع التي شيّدها بنفسه.

أهنالك فتحة صغيرة في طرف الزنزانة يتسلّل منها شعاع من الضوء؟ على الرغم من القمع والبطش، يبدو أنّ لدى هذا المستبد الجبان رغبة دفينة في الحبّ والاعتراف من الشعب الذي اضطهده، لا أعلم ما هذه العقدة؟ ولكن هذا الميكافيلي يعلم علم اليقين أنّ الخوف والكراهية هما فقط ما يضمنان له السيطرة والبقاء، وليس الاحترام أو الإعجاب والحب. هذا التناقض يزيد من قلقه الداخلي فيُسارع لإغلاق تلك الفتحة مرّةً واحدةً وللأبد.

أركض إلى الأمام فأجد نفسي حيث بدأت. فعلى ما يبدو أنّ هذا المستبد عالق في دوامة من التناقضات، دوامة تتلاطم فيها مشاعر العظمة والقوّة الزائفة مع الخوف الدائم، ويختلط فيها احتقاره للآخرين مع الحاجة للتقدير والحب، استقرار ظاهري واضطراب داخلي عميق، ففي النهاية يعيش جميع المستبدين على اختلاف مشاربهم ونكهاتهم أسرى لسلطتهم المصطنعة أكثر من كونهم أسيادًا عليها. وعلى الرغم من أنّ نهاية المستبدين جميعًا معروفة فغالبًا ما يُظهر التاريخ أنّ المستبدين لا يتعظون بسهولة. فمن طبيعة هندسة زنازين أدمغتهم المريضة أن تُريهم أنفسهم مختلفين عن الآخرين، دافعةً إياهم للاعتقاد واهمين بأنهم أذكى أو أقوى من أولئك الذين سبقوهم. حتى عندما يرون استبدادًا ينهار، قد يُفسّرونه بأنه خطأ في التكتيك أو الظروف وليس إدانة جوهرية للاستبداد نفسه، فهذه النهاية مستحيل أن تصيب ظلّ الله في الأرض. لذا تراهم، وببساطة، يغلقون باب زنزانة “الهبة الإلهية” ويلقون بأنفسهم في دوامة كهفهم المظلم مؤجّلين لحظة الحرية وسقوطهم إلى حين.

العربي الجديد

————————–

صيدنايا.. قصة سجن شعاعي قبل تحوله مسلخاً/ علي سفر

السبت 2024/12/14

عندما استولى حافظ الأسد على السلطة في سوريا، لم تكن لدى الحكومات التي سبقته، والقوى التي حكمت سوريا، منذ خروج الدولة العثمانية، خطط معلنة أو معروفة، لإنشاء سجون عملاقة، غير تلك التي يعرفها السوريون تاريخياً. فدمشق، على سبيل المثال، لديها سجون معروفة، هي سجن القلعة وكركون الشيخ حسن، وهي الأكبر بمقاييس تلك الأيام، والتي تتناسب مع عدد السكان في المدينة، أو في عموم البلاد. وحين أنشأ الفرنسيون سجن المزّة، كان مخصصاً للعسكريين، لا للمدنيين، وينطبق هذا على سجن تدمر الصحراوي الذي بُني أصلاً كإسطبل لخيل الجنود، لكن اتساع نطاق معارضة السوريين للانتداب، سرعان ما جعل السلطة المنتدبة تستخدمهما لاحتجاز الثائرين ضدها.

وفي سجن المزّة، قرّر حافظ الأسد أن يضع رفاقه في قيادة الحزب والدولة، بعدما انقلب عليهم في العام 1970، وكان الخيار أمامهم إما التسليم له، أو الذهاب إلى المزّة، حيث سيبقى أبرزهم لعشرات السنين، ولن يخرجوا إلا مرضى بلا أمل في النجاة، كرئيس الدولة الأسبق نور الدين الأتاسي، أو موتى كصلاح جديد، الأمين القطري المساعد الأسبق لحزب البعث، فيما سينجو البعض بمحض الصدفة، ليعيشوا ويرووا التفاصيل عما جرى وحدث في ذلك الزمن.

ازدياد حجم معارضة الديكتاتورية الأسدية وسياساتها اعتباراً من العام 1974، جعل النظام يواجه حاجة مُلحّة، لإنشاء سجون عملاقة، كما أن توجه وزارة الثقافة لاستعادة الأمكنة الأثرية، التي استخدمت كسجون، مثل قلعتي دمشق وأرواد، عزز الحاجة إلى إنشاء سجون مدنية وعسكرية، تتناسب طردياً مع ازدياد عدد السكان.

وفي هذا الإطار، ولدت خطة النظام الأسدي، لإنشاء المسلخ البشري أو سجن صيدنايا. وبحسب مصادر متقاطعة، فإن الأرض التي بُني عليها السجن، مُصادرة من أصحابها، وفق قانون الاستملاك. وقد اختيرت بسبب استراتيجية موقعها، فهي تلّة مشرفة، وهي من ناحية الجغرافيا شبه محصنة، في منطقة جبلية في شمال العاصمة دمشق، وتقع ضمن منطقة بعيدة من مصادر القلق الطائفي، لنظام يحسب حساب وضع الأكثرية غير المأمونة الجانب، ويسترخي أمام الأقلية التي يظن أنها لن تكون صِدامية مع السلطة! ومن هذه الزاوية، ربما كان وجود مدينة صيدنايا المسيحية والشهيرة بدَيرها التاريخي، عنصراً مغلباً لاختيار المكان.

وقد بدأت عمليات الإنشاء منذ العام 1980، بعدما تمّت الموافقة على تصميمه العمراني، وغير معروف إن كان روسياً أم رومانياً أم ألمانياً شرقياً، فهذه المعلومات تعتبر سرية وفق قانون الطوارئ. لكن من الثابت أنّ افتتاح السجن حصل في العام 1987، بالتزامن مع حدثَين لافتَين، يدلان على حالة انتشاء هائلة، كان يعيشها نظام حافظ الأسد. الأول، هو افتتاح دورة ألعاب البحر المتوسط في مدينة اللاذقية، بعدما جُندت موارد الدولة كلها، لإنشاء المدينة الرياضية، بينما كان السوريون قد بدأوا يعانون شظف العيش (يتذكر السوريون كيف طلب حافظ الأسد من السوريين آنذاك شد الأحزمة على البطون بينما كانت الأموال تصرف على إنشاء المعتقلات والأفرع الأمنية)، بسبب سياسة اقتصادية متردية، يربطها البعض بالحصار الاقتصادي على النظام، بالتوازي مع سياسة أمنية غير مسبوقة، توسعت بعد الصدام المسلح مع جماعة الأخوان المسلمين، وقامت على تكثيف الحضور الأمني، وإبراز السيطرة. فشيّدت عشرات الأبنية، لتكون مقرّات للأفرع الأمنية والمفارز، في كل مدينة وناحية وقرية، وكان التتويج الأهم الذي حدث في ذلك العام، حملة اعتقالات شرسة شنّها “فرع فلسطين” التابع لشعبة المخابرات العسكرية ضد تنظيم حزب العمل الشيوعي على مستوى سوريا كلها ولم توفر تنظيمات أخرى كالحزب الشيوعي–المكتب السياسي، وتنظيمات ماركسية صغيرة أخرى. الأمر الذي قضى فعلياً على الحزب، بعد اعتقال ما يقارب 10 آلاف من أعضاء وأصدقاء الحزب وعائلاتهم، وأُفرج عنهم تدريجياً، ليُحتفظ بمن ثبت عليه الانتماء أو العضوية، وأيضاً كل من اطلع على جريدة “الراية الحمراء”!

الاستطراد حول ما جرى في ذلك العام، يهدف هنا إلى إبراز أن التصوّر الفعلي عن مخطط بناء السجن، لم يكن متروكاً خارج ضرورات تعميق التفكير بالسيطرة، حيث يجب الانتباه إلى أن الشكل الشعاعي، الذي جاء عليه تصميم المبنى، إنما يستند إلى فكرة فلسفية صنعها صاحب رؤية، هو الفيلسوف البريطاني جيريمي بنثام في أواخر القرن الثامن عشر، الذي قدم نموذج سجن “البانوبتيكي” (Panopticon). ويمكن تلخيص الجذر الرئيس له، بضرورة أن يُراقب السجناء من خلال نقطة واحدة، أي أن يتم سجنهم في زنازين، يمكن مشاهدتها من هذه النقطة.

الجوهر الإجرائي التقني، لا بد أن يقودنا إلى فكرة أخرى، اشتغل عليها آخرون هي فكرة السلطة، التي تهيمن على المجتمع، وتراقبه، وتتحكم فيه، ولا تترك شيئاً يفلت منها. فالنموذج الشعاعي للسجن، يتناسب تماماً مع سيطرة “الأخ الأكبر”، بحسب تعبير الروائي جورج أورويل في روايته “1984”. لكن ما يمكن اعتباره مجرد عمل تقني، يوفر على السجّانين الجهود، من أجل التحكم بالمسجونين، يتحوّل إلى قضية أعمق، لدى النظام الأمني الأسدي. فليس كل سجن ذي بناء شعاعي يقصد به أن يكون رمزاً للسلطويات الفاشية والنازية والأسدية. ثمة سجون كثيرة بُنيت وفق هذا الشكل، ومنها على سبيل المثال سجن رومية في لبنان، بل إن هذا يرتبط بقصدية، يجب أن تكون متوافرة أصلاً لدى أصحاب السلطة ذاتها.

ذهبتُ إلى سجن صيدنايا مرّات عديدة، في النصف الثاني من عقد الثمانينيات، بقصد زيارة أخي السجين آنذاك، بتهمة الانتماء إلى حزب العمل. لكن الزائر الذي سترهبه الإجراءات الأمنية، وطول المسافة بين بابه الرئيس وبين البناء الأساسي، وحقول الألغام التي تحيط به، لن يفهم كيف يجري الأمر بالنسبة للنزلاء. فالزيارة لا تتضمّن جولة في داخله، بل هي مقابلة بين الزوار والسجين، وبينهما قضبان حديدية، ومسافة تزيد عن متر ونصف. لكن المؤكد أن ضخامة السجن كانت كافية، لإدراك أنه يتسع جداً، ليحتوي فئات سياسية سورية شتى، وأنه سيصبح المقابل الرمزي للمجتمع السوري نفسه! وكلما كان النظام يوغل فحشاً في تدميره للمجتمع والبشر، كانت أحوال السجن ذاته تتردى، حيث لا مراقبة على أداء المسؤولين عنه، والعاملين فيه، وسيشهد في العام 2008 استعصاءً طويل الأمد، وستظهر بعد ذلك لمحات عما كان يجري فيه، لا سيما احتفاظ النظام بمجموعات من المتشدّدين الإسلاميين، يستخدمهم كلما أراد، عبر قيادتهم من الخلف، فيوجههم نحو أهداف تخدم مصالحه. وهكذا أنتجت “أكاديمية صيدنايا”، بحسب تعبير أحد أشهر السجناء، ممن برزوا خلال الثورة السورية هو نديم بالوش، الذي انتحر في سجن تركي في العام 2016، عشرات من قادة التيار الجهادي الذي ظهر في الفصائل السورية المسلحة.

المخفي مما حدث في السجن الشعاعي، رصدته خلال سنوات طويلة، منظمات حقوق الإنسان، لكن ما رآه العالم كله، من كارثة لا إنسانية، لا سيما استخدام النظام لآليات إبادة، ومحو أثر، يكفي للقول إنّ الرغبة في السيطرة، تتحوّل مع اقتراب التهديدات لأصحابها، إلى عمل تدميري منهجي، لا يوفر أي بشري! وكما أنتج النازيون معتقلات رهيبة، لا يمكن للإنسانية أن تنساها، صارت لدى السوريين حكاية مشابهة، سبق أن تحدثوا عنها مطولاً، لكن أحداً لم يستمع، فقُتل في صيدنايا عشرات الآلاف من الناس، وتحولوا بعد انكشاف تفاصيل الكارثة، إلى مجرد أرقام، يصعب من وفرتها إثبات حجمها.

المدن

————————–

هذا ما سيفعله السوريون لحذف صور الأسد عن عملتهم/ عزة الحاج حسن

السبت 2024/12/14

لو قُدّر للسوريين حذف صور آل الأسد عن أوراقهم النقدية بأيديهم لحذفوها منذ اللحظة الأولى التي أُسقط فيها نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الاسد، ومذ أطاح السوريون بتماثيل الأسد الأب والإبن من ساحات دمشق. فالعملة النقدية الورقية التي اعتادت دول العالم على ترسيخ رموز وطنية عليها كدلالة على ثقافة البلد وتاريخه وعراقته، تحمل في سوريا صور رؤساء طبع التاريخ في سجلّاتهم جرائم لن تُنسى وقمعاً واستبداداً، حوّل العملات الورقية بما تحمل من صور لأدات استفزاز لشعب حُكم بالخوف على مدار أكثر من 50 عاماً.

الليرة السورية التي انهارت وفقدت أكثر من 96 في المئة من قيمتها، ودخلت بذلك مساراً مجهول المصير لجهة عجزها عن مواجهة الدولار من جهة وحمل بعض فئاتها صور آل الأسد من بقايا عهد سوريا السابق. فما مصير العملة الورقية وكيف يمكن للسوريين التخلّص منها واستحداث عملة جديدة تمثّل سوريا البلد لا سوريا الأفراد؟

تغيير العملة ضرورة ولكن..

يصعب الحديث اليوم عن تغيير العملات النقدية في سوريا، البلد الذي أسقط مواطنوه رئيسهم وأغلقوا معه حقبة امتدت لأكثر من 50 عاماً من حكم آل الأسد. وعلى الرغم من استياء السوريين من وجود صور آل الأسد على عملاتهم غير أن قرار استبدال العملة ليس سهلاً ولا متاحاً اليوم، فهيكلية وشكل السلطة السياسية في سوريا لم تتبلور حتى اللحظة بانتظار إطلاق عجلة الإصلاح السياسي والاقتصادي والنقدي. حينها فقط يمكن البحث بآلية تغيير العملة وشكلها الجديد.

وعلى الرغم من دقة الوضع الحالي، يعرب الكثير من السوريين عن تلهّفهم لتغيير شكل العملة، وهو ما دفع المصرف المركزي السوري إلى إصدار بيان عقب سقوط النظام السوري، أكد فيه أن العملة المعتمدة في التداول في سوريا هي الليرة السورية بكافة فئاتها، قاطعاً الطريق على الشائعات التي تحدّثت عن سحب بعض الفئات النقدية من التداول لحملها صور آل الأسد. من جهته وزير التجارة السوري وحماية المستهلك لؤي المنجد، أكد في تصريحات إعلامية منذ أيام بأن قرار تغيير العملة هو مسألة سياسية، موضحاً أن التعامل الحالي يشمل الليرة السورية، الليرة التركية، والدولار الأميركي.

في المقابل ثمة مخاوف من هروب السوريين من استخدام الليرة السورية إلى التركية والدولار الأميركي ما يمكن أن يرتد سلباً على العملة المحلية ويخفض من قيمتها المنخفضة أصلاً. وقد عبّر مصدر مصرفي، وهو مدير أحد المصارف السورية، في حديث إلى “المدن” عن قلقه حيال التعامل مع الفئات النقدية الورقية التي تحمل صورتي بشار وحافظ الأسد، وقال هناك ضرورة لتغيير العملات الورقية التي تحمل صور آل الاسد ولكن ليس في الوقت الحاضر، فالمرحلة الراهنة غير مناسبة على الإطلاق لتغيير العملة كرد فعل عاطفي، فالوضع الاقتصادي والنقدي لا يسمح بذلك خصوصاً في ظل ضبابية الصورة لجهة السلطات النقدية وأهمية القيام بهكذا إجراء دقيق.

آلية تغيير العملة

إذا المرحلة الأولى تستلزم تشكيل السلطتين السياسية والنقدية تمهيداً لاتخاذ قرار سياسي ونقدي، أما المرحلة الثانية فتطرح تساؤلات عن صلاحية قرار تغيير العملة الوطنية هل تعود للمصرف المركزي أو مجلس الوزراء.

يسترجع المحامي الدكتور المتخصص بالرقابة على المصارف المركزية باسكال ضاهر، نظام قانون النقد الأساسي الصادر عن مجلس الشعب السوري تحت الرقم 23 لعام 2002 كيفية إصدار العملة وتحديد شكلها وعلاماتها الفارقة ورسوماتها كما وآلية سحب الأوراق من التداول. ويقول في حديثه إلى “المدن” حُدد تنظيم كل ذلك في الفصل الأول من هذا القانون المساق تحت عنوان “إصدار الأوراق النقدية وتداولها وسحبها” والوارد تحت القسم الثاني المعنون “الأوراق النقدية” ميشراً إلى أن هذا القانون أكد على أن الدولة السورية هي صاحبة امتياز إصدار العملة الذي ينحصر بها على أن يمارس المصرف المركزي السوري هذا الامتياز وفق أحكام القانون، أي أن الدولة لم تمنح امتياز الإصدار للمصرف المركزي بل سمحت له بممارسته فقط.

 وقد حددت الفقرة الأولى من المادة 16 فئات الأوراق النقدية وفصلتها على أن تحمل توقيعي وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية وحاكم مصرف سورية المركزي.

أما الفقرة الاولى من المادة 17 فقد حددت قياسات الأوراق النقدية ورسومها وألوانها وجميع أوصافها الأخرى وتصدر هذه القياسات والرسومات بقرار يحمل توقيع وزير الاقتصاد والتجارة السورية بناء على اقتراح يصدر عن  مصرف سوريا المركزي.

علماً أن هذا القانون جرى تعديله بموجب المرسوم الإشتراعي الرقم 21 لعام 2011 وبموجبه قد حل رئيس مجلس الوزراء مكان وزير الاقتصاد الذي اسُتبدل مكانه أينما ورد في النص الأساسي، كما وجرى تعديل على التعديل بموجب مرسوم اشتراعي آخر صادر بالرقم 48 لعام 2013.

بالمحصلة وبصرف النظر عن طبيعة المراسيم التشريعية التي تبقى تتمتع بمكانتها الإدارية طالما لم يتبناها المجلس النيابي، يقول ضاهر “بحسب النصوص المرعية الإجراء في الجمهورية العربية السورية، يقتضي لتعديل العملات الورقية ورسوماتها وعلاماتها الفارقة أن يرسل المصرف المركزي بدايةً اقتراحاً بذلك  لرئيس مجلس الوزراء وبعد درسه يصدر به القرار، كما ويتم وضع الأوراق النقدية الجديدة في التداول بقرار يصدر أيضا عن رئيس الوزراء بناء على اقتراح لجنة إدارة مصرف سوريا المركزي على ان تحمل الأوراق النقدية الحديثة توقيع كل من رئيس الوزراء وحاكم مصرف سورية المركزي، وحينها يبدأ المركزي السوري بسحب الأوراق القديمة بالتزامن مع ضخ العملة الجديدة”.

العملة تاريخياً

وتعود إحدى العملات التي تحمل صور آل الاسد إلى العام 2015 مع تدهور العملة الوطنية السورية بفعل الحرب التي كانت واقعة منذ عام 2011، فقام البنك المركزي السوري حينها بإصدار ورقة نقدية جديدة بقيمة 2000 ليرة حملت صورة الرئيس المخلوع بشار الأسد، ذلك بعد أن كانت الورقة النقدية القديمة من فئة 1000 ليرة تحمل صورة والده الرئيس السابق حافظ الأسد. 

المدن

——————-

جمعة النصر”: السوريون يستعيدون فضاءهم العام/ وليد بركسية

السبت 2024/12/14

في ساحة الأمويين بدمشق، كانت النجمة السورية كاريس بشار، المعروفة بموقفها الصامت المعارض لنظام الأسد منذ سنوات، ترقص مع ملايين السوريين الذين خرجوا إلى الساحات والشوارع، للاحتفال بسقوط النظام الذي حكم البلاد طوال 54 عاماً حول فيها البلاد إلى أكبر سجن جماعي على الكوكب، ليس فقط من ناحية نشر السجون والمعتقلات سيئة السمعة فوق الأرض وتحتها، بل من ناحية نشر الخوف وثقافة الانغلاق أيضاً.

وفي الساحات كانت الموسيقى والأناشيد الثورية والفرح الذي يلمع في العيون، ممتزجة بالأعلام الخضراء والعفوية التي طغت على المشهد المتناقض بشكل صارخ ليس فقط مع الصمت الإجباري الثقيل في ظل حكم الأسد الذي منع التعبير السياسي، بل أيضاً مع مشهد “المسيرات المليونية” المؤيدة التي كانت تغص بها الساحات في السنوات الماضية عندما كان النظام يجبر الموظفين والطلاب الذين يحملون لافتات “منحبك” على المشاركة في تلك المسرحيات ليرددوا عبارة “بالروح بالدم نفديك يا بشار”.

والعاطفية التي غمرت المشهد كانت واضحة بسبب ذلك التناقض وبسبب عدم تخيل كثيرين أن يشهدوا قدوم مثل هذا اليوم بسبب خيبات وانكسارات الثورة السورية في السنوات الماضية. وكانت دموع الفرح والسعادة حاضرة، مع إحساس طاغ بالحرية التي يتم التعبير عنها بهذا المستوى للمرة الأولى في عموم البلاد، بشكل يختلف حتى عن مشهد المظاهرات المليونية التي كانت حاضرة في مدن سورية كثيرة، لا كلها، العامين 2011 و2012.

وساحة الأمويين تحديداً تحمل رمزية كبيرة لكونها تشكل قلب العاصمة دمشق، حيث يقع مقر التلفزيون الرسمي، وكانت تحتضن “المسيرات الموالية” ويتم منها بث بروباغندا النظام بشكل يتعاكس مع تحولها اليوم إلى مكان يعكس صوت السوريين الحقيقي الذي تم قمعه طويلاً، ويتم منه تصدير الأمل بمستقبل أفضل، حتى لو كانت هنالك تحديات كثيرة تقف بين السوريين وحلمهم في دولة ديموقراطية مدنية.

الشعب السوري واحد؟

في باحة الجامع الأموي الفسيحة في دمشق القديمة، وتحت علم الثورة السورية ذي النجوم الثلاث، ردد الآلاف هتاف الثورة السورية الأول: “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد” وقالت سيدة تدعى نور ذي الغنى (38 عاماً) من حي الميدان الدمشقي بفرح عارم في تصريحات صحافية: “نحن في الجامع الأموي في دمشق، نجتمع فرحين بتحرير سوريا، فرحين بتحريرنا من السجن الذي كنا نعيش فيه”.

وقالت أماني زنهور (42 عاماً)، وهي مدرّسة ومهندسة كمبيوتر احتفلت في ساحة الأمويين، لوكالة “فرانس برس”: “لا شيء أسوأ مما كان. لا يمكننا أن نشعر بالخوف” من المستقبل، لكنها أبدت تأييدها لإرساء دولة “مرتكزة على تعاليم الإسلام”، تحترم في الوقت ذاته تقاليد المكونات الأخرى في سوريا، حيث تعيش أقليات عديدة، من بينها المسيحية والكردية، بعكس أحلام آخرين بدولة أكثر مدنية وتقاليد أكثر علمانية تكفل حقوق الجميع من دون تمييز أو أفضلية، ما جعل سوريين، أكراداً ومسيحيين، يعبرون في مواقع التواصل تحديداً عن مخاوفهم وشعورهم بالإقصاء أمام ذلك الخطاب المحتمل.

فرح يتجاوز الانقسامات

والفرح المعبّر عنه في سوريا لم يكن فرحاً بانتصار الجهاديين أو القوى الإسلامية، مثلما روج كثيرون، خصوصاً من أتباع محور الممانعة الذي سقطت أعمدته واحداً تلو الآخر في الأشهر القليلة الماضية، بل كان فرحاً بالخلاص من نظام الأسد بوصفه أسوأ ما يمكن للسوريين أن يعيشوه على الإطلاق، خصوصاً أن النظام بنى دولته على الخوف ونشر سياسات العسكرة والتقسيم الطائفي ومارس انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان من الاعتقال إلى التعذيب وبات في نهاية المطاف عصابة تتحكم بتجارة الكبتاغون والمخدرات في عموم الشرق الأوسط.

وفي القصص التي انتشرت عن المحتفلين في وسائل الإعلام ومواقع التواصل، كان هناك أشخاص من كافة الطوائف والأعمار، ومن المؤثر حقاً رؤية أفراد عاشوا كل حياتهم في ظل “الأسدين”، حافظ وبشار، ولم يعرفوا يوماً بديلاً لهما، وباتوا اليوم على موعد مع الأمل بمستقبل مختلف يعيشونه في عمرهم القصير، ما يجعل اللحظة تاريخية ليس فقط على المستوى السياسي، بل على المستوى الشخصي الذي يبدو الأهم خلال الأسبوع الماضي منذ لحظة سقوط النظام، بسبب القصص الفردية والتجارب التي عاشها كل سوري، وتتقاطع كلها في الإحساس بالظلم والقهر.

استعادة الفضاء العام

وحتى على المستوى الثقافي، كانت هناك موسيقى وأغنيات ثورية ورقص، بعكس الصورة النمطية التي روجت إلى أن البلاد ستتحول إلى أفغانستان جديدة، وهي مخاوف جدية بالطبع لكنها لم تتحول بعد إلى واقع ملموس، وسط تطمينات مستمرة من فصائل المعارضة بهذا الصدد. فيما كانت رسوم الغرافيتي والشعارات على الجدران والوجوه تقلب الصفحة على النظام البائد وتبدأ صفحة جديدة.

وكانت هذه الجمعة، أول يوم جمعة عفوياً إلى هذا الحد في عموم البلاد للمرة الأولى منذ عقود تمزقت فيها الهوية السورية إلى هويات طائفية وإثنية وتم فيها تقسيم المجتمع من قبل السلطة إلى فئات متصارعة مع تصوير النظام المخلوع نفسه الحامي الوحيد لتلك الفئات من بعضها البعض، رغم أنه في الواقع كان مصدر الخطر عليها كلها، بشكل يظهر تحديداً في المعتقلات التي لا تحتوي أشخاصاً من طائفة واحدة فقط، أو من تيار سياسي واحد فقط، بل كانت تضم سوريين من كافة الفئات.

ولطالما انتُقدت الثورة السورية على تقديمها يوم الجمعة كيوم للتجمع والتظاهر بسبب طبيعته الدينية، لكن ذلك الانتقاد لطالما كان مجحفاً بالنظر إلى تركيبة المجتمع أساساً، فيما كان يمكن النظر إلى رمزية اليوم من ناحية روحانية بدلاً من تصديره كيوم يمثل المتشديين فقط، بشكل يعمم صورة خاطئة عن المسلمين السنّة ككل على أنهم “إرهابيون وجهاديون”. واليوم يمكن تلمس ذلك في الساحات التي لم يتجمع المسلمون وحدهم، ولم يُرفع فيها فقط صوت القرآن والأناشيد الدينية، ولم يطلق فيها الرصاص ولم يكن فيها حضور للعنف.

الاحتفال بالأمل

وفيما كانت مظاهرات العام 2011 تعيد للسوريين علاقتهم بالساحات والشوارع والمساحات العامة، كفضاءات مشتركة للتعبير السياسي، فإن ذلك كان محكوماً بالخوف من العناصر الأمنية وكاتبي التقارير وقوات الجيش والشرطة التي استخدمت الرصاص الحي ضد المتظاهرين السلميين. واليوم استعاد السوريون حقهم في التجمع من دون خوف من الاضطهاد، وهو ما عبروا عنه في مواقع التواصل بالتأكيد على أن الساحات باتت لهم كي يتظاهروا فيها ضد أي سلطة مقبلة قد تحاول فرض أجندة ما عليهم، بما في ذلك الأجندة الإسلامية المتشددة التي تلغي حقوق الآخرين.

والسوريون هنا بدوا مدركين إلى أن البلاد لم تتحول فجأة دولة ديموقراطية مدنية لمجرد سقوط النظام السابق، بل كانوا يحتفلون بنقطة معينة في الزمن تمثل الصلابة والأمل بغد أفضل، مستذكرين رموز النضال ضد السلطة الحاكمة منذ عقود، وليس فقط منذ العام 2011، ومن كافة التيارات الفكرية، وليس فقط من قبل الإسلاميين الذين تصدروا المشهد لاحقاً.

وعليه، بدت الاحتفالات في عموم سوريا أشبه بتعبير جماعي عن حلم مشترك بإعادة بناء سوريا المستقبلية، حتى لو كان هنالك اختلافات بشأن شكل الدولة وطبيعتها، مع الاعتراف بأن الانتقال إلى الاستقرار يتطلب جهداً كبيراً خصوصاً أن هناك دولاً فاعلة كثيرة يمكن أن تؤثر في ذلك المسار السياسي الناشئ.

المدن

————————–

نظام سوفياتي آخر سقط في سوريا/ بسام مقداد

السبت 2024/12/14

حين سقط الإتحاد السوفياتي، بقي أرشيف الدولة المركزي في موسكو، ولا يزال حتى الآن، يحمل ختم “سري للغاية”. ولو رُفعت السرية عن هذا الأرشيف، وهو ما لا يمكن تخيله في ظل سلطة بوتين، لكنا عرفنا مع السوريين من لقّن السفاحين الأسديين دروس الوحشية والبربرية التي نشاهدها الآن مع العالم بأسره على شاشات التلفزة. شاشات التلفزة الروسية الرسمية وحدها لا تعنيها الصور وشرائط الفيديو التي تنقل ما تتكشف عنه أقبية السجون الأسدية من فظائع وبربرية لا يتصورها عقل بشري سويّ، مهما اتسعت مخيلته.

كان نظام البعث السوري في طليعة الأنظمة في المنطقة التي تسلحت بمقولة البلاشفة “الأنظمة الوطنية الديموقراطية”، والتي أطلقها البلاشفة لتوسيع رقعة نفوذهم إلى البلدان النامية التي لم تتمكن الأحزاب البلشفية فيها من الإستيلاء على السلطة. وانضوى النظام تحت مظلة إمبراطورية البلاشفة السوفياتية، وأفاد من كل رُشاها، واستقبل “مستشاريها” في كافة الحقول، بما فيها الأمني والعسكري والمخابراتي. ونشط هؤلاء المستشارون في تلقين البعثيين السوريين وأجهزتهم، كل خبراتهم في بناء المؤسسات، وفي القمع والتنكيل والقتل ضد كل رأي ناقد لهم في الإمبراطورية الروسية، والتي ألبسوها كلها رداء ستالين الذي ما زالت تماثيله تقام في أنحاء روسيا.

النظام السوفياتي في العراق كان أول الساقطين، لكن على أيدي الأميركيين، ومن ثم تبعه النظام السوفياتي في ليبيا. أما نظام البعث في سوريا، فقد بقي متدثراً بالعباءة الروسية، إلى أن جاءت الثورة السورية العام 2011 وبدأت تنزعها عن الجسم السوري. لكن روسيا، التي استعاد جهاز KGB بلشفيتها ونصب بوتين على رأسها، عادت إلى سوريا بوجهها البلشفي الحقيقي. عادت، ليس بلباس المستشارين والخبراء، بل بطيرانها الحربي وأسطولها البحري وسفاحيها من مجموعة “فاغنر”، وعاثت في سوريا قتلاً وتدميراً لتثبيت عرش الأسد الذي كان يتهاوى تحته. غير أنها لم تنجح على مدى تسع سنوات من القتل والتدمير، بالتعاون مع إيران وميليشاتها، من تثبيت هذا العرش، إلى أن هوى أخيراً تحت أقدام السوريين، وخسرت روسيا سوريا أخيراً.

تتضارب آراء الخبراء والمحللين ما إن كانت روسيا خسرت سوريا وخرجت منها نهائياً، كما إيران وميليشياتها، أم أنها ستحتفظ فقط بقاعدتيها في طرطوس وحميميم، وبالتمثيل الدبلوماسي المتبادل، كما بقية الدول الأخرى. ويبدو أن التمثيل الدبلوماسي لن يتأذى، فالسوريون لم يدخلوا السفارة الروسية في دمشق ويعيثوا فيها تخريباً، كما فعلوا في السفارة الإيرانية. والسفير السوري في موسكو بشار الجعفري سارع إلى نزع العلم الأسدي عن السفارة، وبعث إلى أحد البرامج العربية في شبكة RT الروسية رسالة يصف فيها نظام الأسد بـ”مافيا الفساد التي عاثت خراباً في البلاد وباعت مقدراتها ودمرت مؤسساتها”. ويعتقد البعض أن الجعفري لم يكن ليقدم على ذلك في اليوم التالي لسقوط الأسد، من دون همس السلطات الروسية في أذنه.

موقع الخدمة الروسية في صحيفة The Moscow Times نشر في 10 الجاري نصاً عنونه بالقول “صفعة كبيرة لبوتين”. فقدان سوريا “يقصي روسيا عن قلب الشرق الأوسط”. استهل الموقع نصه بالقول أن بوتين إستقبل في موسكو الزعيم الثاني الذي حاول دعمه بالقوة ضد إرادة شعب هذا الزعيم الفار. وأشار إلى فرار الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش من كييف العام 2014، بعد الثورة عليه لخضوعه لأوامر بوتين. وقال بأن سقوط الأسد في سوريا، قد يحرم روسيا من نفوذها وقاعدتيها العسكريتين في الشرق الأوسط.

ذكّر الموقع بزيارة بوتين إلى قاعدة طرطوس البحرية العام 2017، وقوله بأن العسكريين الروس في سوريا يدافعون عن “وطننا، وسيوجهون إلى الإرهابيين ضربات لم يشهدوا مثيلاً لها حتى الآن إذا فكروا بالنهوض مرة أخرى. وبعد 7 سنوات لم يقم العسكريون الروس في سوريا بالدفاع عن “وطننا”، ولا عن الأسد ضد جبهة تحرير الشام المدرجة في لائحة المنظمات الإرهابية في روسيا. كما ذكّر بتصريح لافروف في الدوحة في 7 الجاري، بأن منظمة هيئة تحرير الشام إرهابية، لا يجوز السماح لها بالإستيلاء على أراضٍ في سوريا. لكن وكالتَي تاس ونوفوستي، بدأتا هذا الأسبوع بتسمية هيئة تحرير الشام “المعارضة المسلحة”.

نقل الموقع عن الدبلوماسي السوفياتي الروسي السابق والباحث حالياً في مركز فيينا لنزع السلاح، Nikolay Sokov، قوله بأن موسكو تفضل أن تتعامل مع أولئك الذين يملكون السلطة، وتشطب من حسابها أولئك الذين يفقدونها. ونقل الباحث عن “غارديان” البريطانية إشارتها إلى أن الأسد حين طلب المساعدة من الكرملين في العام 2014، طلب من مسؤول روسي أن يبلغ الرسالة التالية: “قولوا لبوتين أنني لست يانوكوفيتش، وأنا لا أهرب (من بلدي)”.

كما نقل الموقع عن المسؤول في معهد واشنطن Aaron Zelin، قوله بأنه ليست لدى روسيا الآن القدرة التي كانت لها في العام 2015 لتدافع عن الاسد، كما في ذلك الحين. وإذا فقدت  قاعدتها في طرطوس، ستكون بالنسبة لها “خسارة جسيمة للغاية”. فهي المرفأ الوحيد لروسيا في المياه الدافئة، والتي يمكن أن تستخدمها قواتها البحرية، وعبرها تستطيع إستعراض قوتها في المنطقة. وفقدان هذا المرفأ البحري يقصي روسيا عملياً عن قلب الشرق الأوسط.

ينقل الموقع عن الباحث في شؤون القوات المسلحة الروسية في مركز Carnegie برلين، Dara Massicot، إفتراضه بأن روسيا تريد الإحتفاظ بقاعدتيها في سوريا عبر المفاوضات إذا تمكنت، مقابل المال، أو المقايضة، أو النفط والغاز، أو مقابل عدد محدود من المرتزقة. لكن السؤال يبقى، ما إذا كان الإئتلاف السوري الذي كانت تقصفه الطائرات الروسية، سيرغب في الحصول على أي شيء من روسيا.

يبدو أن روسيا التي اصطدمت برفض الأسد المتكرر الإستماع إلى نصائحها بالإفراج عن العملية السياسية والتفاوض مع المعارضة، كانت تضع في حساباتها إمكانية وصول المعارضة إلى السلطة، أو مشاركتها فيها على الأقل، ومطالبتها بإخلاء قاعدتي حميميم وطرطوس. لذلك كانت منذ زمن تبحث عن بديل للقاعدتين. فقد نشرت صحيفة القوميين الروس المتشددين، SP، في 10 الجاري، نصاً بعنوان “يد موسكو: هل سيتمكن مطار أرض الصومال من الحلول مكان قاعدة حميميم الجوية؟”. وأرفقته بآخر ثانوي “القاعدة الجوية في الخارج هي قوة، لكنها في أغلب الأحيان مشكلة، كما حصل في سوريا”.

ونقلت الصحيفة عن رئيس لجنة الدفاع في البرلمان الروسي (الدوما) قوله بأن القيادة السورية الجديدة التي حلت مكان بشار الأسد بعد فراره، ملزمة “بالنظر على الأقل” في الاتفاق بين روسيا وسوريا بشأن القواعد العسكرية، المبرم في العام 2017 لمدة 49 عامًا.

قالت الصحيفة بأنه على الرغم من غياب الأسباب الموضوعية لتقليص الوجود العسكري الروسي في سوريا، إلا أن الحديث يدور حول هذا الموضوع في الصحافة الآن. وأخذ تُطرح على بساط البحث خيارات “الخطة ب” في حال حتمت الظروف إجلاء القاعدتين العسكريتين. وبعدما توقفت الصحيفة عند أهمية قاعدة حميميم للعمليات العسكرية الروسية في إفريقيا، قالت بأن أحد البدائل التي طرحتها الخطة، حتى قبل سقوط الأسد، كان إقامة قاعدة جوية عسكرية روسية في القارة الإفريقية مباشرة. ورأت الصحيفة أنه يمكن لموسكو أن تقيم مثل هذه القاعدة في جمهورية “أرض الصومال” غير المعترف بها، مقابل أن تمنحها موسكو مثل هذا الإعتراف بشرعيتها.

المدن

—————————-

سقط الأسد.. هل يفوز أردوغان؟/ فراس فحام

السبت 2024/12/14

بقيت سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية الحاكم، لسنوات، زاوية مفضلة لأكبر أحزاب المعارضة التركية المتمثل بحزب الشعب الجمهوري، لمهاجمة الحكومة، حيث عمل الحزب المعارض على تكريس صورة نمطية لدى الجمهور تقوم على أن الحزب الحاكم أقحم تركيا في الشأن السوري، وتسبب بموجات لجوء سورية إلى تركيا أثّرت على جودة حياة المواطن التركي، وبناءً عليه بات موضوع اللاجئين السوريين منذ عام 2019، أداة مهمة للنيل من شعبية أردوغان وحزبه مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والتشريعية والمحلية.

منذ اليوم الأول لسقوط بشار الأسد، ظهرت بعض الآثار على الساحة التركية الداخلية، فقد أتيح للسوريين المقيمين على الأراضي التركية إقامة احتفالات وتجمعات شعبية في مختلف الولايات التركية، وخاصة الكبرى، وشارك محسوبون على الحزب الحاكم التركي في بعض هذه التجمعات التي رُفعت فيها أعلام الثورة السورية والتركية أيضاً، فيما يبدو أنه بهدف لفت أنظار الشعب التركي إلى سقوط الأسد ونجاح رهان أردوغان على الثورة.

تداول نشطاء أتراك من بينهم معارضين بارزين عبارة “الرجل فاز مجدداً”، في إشارة إلى تسجيل أردوغان لنجاح جديد، لكن هذه المرة على مستوى السياسة الخارجية.

انهيار النظام السوري فتح الأبواب أمام فصائل المعارضة السورية (الجيش الوطني) المتحالفة مع أنقرة، لتنفيذ هجمات ضد تنظيم قسد، واستطاعت السيطرة على مناطق مهمة مثل تل رفعت ومنبج، في ريف حلب، ويجري التحضير للمزيد من العمليات العسكرية التي ستتركز على عين العرب (كوباني) والرقة، وهذا سيترك ارتدادات على الساحة التركية فيما يتعلق بتراجع المشروع الذي رفع نبرة التحدي لدى شريحة من الأكراد في تركيا، ودفعهم للإمعان في التصلب تجاه الحكومة والاصطفاف مع أحزاب المعارضة الأخرى، وبالتالي قد نشهد مستقبلاً، انفضاض أكبر للمكون الكردي عن التيارات السياسية التركية المرتبطة بمشروع حزب العمال الكردستاني العابر للحدود، خصوصاً أن الحديث يدور في الأوساط التركية عن توجيه عبد الله أوجلان، مؤسس العمال الكردستاني، دعوة للأكراد للتخلي عن استخدام السلاح.

سقوط بشار الأسد وانكماش النفوذ الإيراني في سوريا، سيترك فراغاً مهماً سياسياً واقتصاديا ستحرص تركيا على ملئه، وهذا سيوفر فرص اقتصادية للمئات من الشركات، خصوصاً العاملة في مجال الإنشاءات، أي دفعة جديدة للاقتصاد التركي الذي أسهم تراجعه إلى نزيف الحزب الحاكم لرصيده الشعبي على مدار السنوات الـ8 ماضية.

لا تقتصر العوامل التي تؤثر في المزاج الشعبي التركي على الملفات الداخلية والاقتصاد والخدمات رغم أهميتها، بل أيضاً يدخل ضمن اعتباراته في عملية التصويت النجاحات في السياسة الخارجية ومدى قدرة الحزب أو الشخصيات السياسية على إدارة السياسة الخارجية التي تنعكس على مكانة تركيا، وفي هذا السياق يمكن أن نتوقع زيادة الرصيد الشعبي للحزب الحاكم، خصوصاً أن رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالن، كان أول الواصلين من بين المسؤولين الدوليين إلى دمشق، وأدى صلاة الجمعة في المسجد الأموي، فيما يبدو أنه وفاءً من أردوغان بعهده القديم بالصلاة في المسجد الأموي بعد رحيل الأسد، وإن كان لم يفعلها بنفسه لكن من ناب عنه هو أحد الشخصيات المقربة للغاية منه، ولأن الآثار المتوقعة على الداخل التركي لهذه التطورات كبيرة، سارع زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال للتقليل من أهمية الحدث، وأشار إلى أن الوفاء بالوعد تم بعد 13 سنة، وخسارة اقتصادية كبيرة للخزينة التركية.

عموماً، اتجاه الأمور إلى الاستقرار في سوريا سيسهّل خلال عام مقبل، عودة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وهذا سيخفف من الضغوطات التي يعاني منها الحزب الحاكم، ويُفقد المعارضة ورقة مهمة في العمليات الانتخابية المقبلة.

من المتوقع أن يتضاعف الإنجاز الخارجي للحزب الحاكم، في حال تمكنت أنقرة عبر مفاوضاتها المستمرة مع واشنطن، والتي تتم بالتوازي مع استخدام التسخين الميداني عند الحاجة، للوصول إلى تسوية تنهي مشروع “الإدارة الذاتية” في سوريا.

المدن

————————

هل يلغي سقوط النظام الاتفاقيات بين لبنان وسوريا؟/ بتول يزبك

السبت 2024/12/14

عشرات الاتّفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات والمذكّرات والبرامج والعقود، فضلًا عن الهيئات والمجالس المشتركة، وأشهرها ما هو مسمى بـ “المجلس الأعلى السّوريّ اللّبنانيّ” تلك الّتي تربط لبنان بسوريا، بعضها وُضع قبل أن يستلم نظام الأسد المخلوع سدّة الحكم قبل 54 عامًا، وغالبيتها تمّ إبرامها وعقدها في فترة هذا الحكم، وكانت المُحرّك لشقاقٍ أهليّ داخليّ لفتراتٍ طويلة حتّى اللحظة.

وإن كانت غالبية هذه الاتفاقيات تتسمّ بطابعٍ دبلوماسيٍّ وسياسيٍّ واقتصاديّ وتجاريّ، يتواءم مع طبيعة العلاقة المُعقّدة بين البلدين، اللذين تارةً كانا شقيقين وطورًا كانا لدودين. لا يُمكن إنكار أن بعضًا من هذه الاتفاقيات ومنها اتفاقيّة “الأخوة والتعاون” الشهيرة، قد أسهم وفي فتراتٍ عدّة بإضفاء الشرعيّة على “الوجود” أو الاحتلال العسكريّ السّوريّ للبنان. والّتي كانت بداية النهاية لأي أملٍ في جعل لبنان جمهوريّة مُستقلة، دولة سياديّة منفتحة على العالم، بلدٌ ديمقراطيّ بكل ما تحمله الديمقراطيّة من معنى سياسيّ وحقوقيّ ووجوديّ. وكانت الانطلاقة لحقبة جهنميّة، لم تُخلف وراءها سوى “تروما” الاستتباع، وصعود ثقافة “البلطجة” والميليشياويّة. أما المفارقة، فإن أصواتًا لبنانيّة مؤيدة للنظام، واظبت منذ سنوات على استذكارها واقتراح العودة إليها.

فما مصير الاتفاقيات المُبرمة والمجالس المشتركة بين لبنان وسوريا، بعد إسقاط النظام؟ وهل يُمكن الاستفادة من التغيير الجذريّ الحاليّ في سوريا، لـ “تنظيف” دفاتر الوصاية السّوريّة وإحقاق العدالة لضحايا النظام في لبنان وسوريا عبر هذه الاتفاقيات؟

للإجابة على هذه الأسئلة التقت “المدن” بالمحاميّة السّابقة في المحكمة الجنائيّة الدوليّة ICC والخبيرة في القانون الدوليّ، ديالا شحادة.

مصير المعاهدات

تستهل شحادة حديثها بالإشارة لكونه وفيما يتّصل بكلّ الاتفاقيات المعقودة (ضمنًا المجلس الأعلى السّوريّ – اللّبنانيّ) بين نظام الأسد ولبنان والحكومات اللّبنانيّة المتعاقبة، ومن الناحية القانونيّة، تبقى جميع الاتفاقيات المبرمة بين الدولتين السّوريّة واللّبنانيّة ساريةً ونافذةً إلى أنّ يتمّ إنهاؤها أو فسخها أو تعديلها من قبل إحدى الدولتين، إذ إنّها في نهاية المطاف عقودٌ رضائيّة بين حكومتين. وهنا تُعلّق شحادة بالقول: “وبالتالي، فمن المنتظَر أن تحسم الحكومة السّوريّة المقبلة موقفها ممّا إذا كانت ترغب في إنهاء بعض هذه الاتفاقيات أو تعديلها”.

فما هي الاتفاقيات الّتي من صالح لبنان، تعديلها أو فسخها؟ تسأل “المدن”.

“إذا عدنا إلى الاتفاقيات المعقودة بين سوريا ولبنان، نجدها تصبّ ظاهريًّا في مصلحة البلدين على صعيد التّعاون الاقتصاديّ والزراعيّ والقضائيّ والأمنيّ. غير أنّه من حيث التطبيق، لم نلحظ خلال العقود الأخيرة وعلى امتداد حكم أسرة الأسد في سوريا تطبيقًا صحيحًا لها، أو على الأقلّ لم يكن ذلك التطبيق في صالح الدولة اللّبنانيّة. كما أنّ الدولة اللّبنانيّة لم تبذل جهدًا كافيًّا لحسن تطبيق هذه الاتفاقيات تحقيقًا للغرض الذي وُقِّعت من أجله”. تقول شحادة.  وتُضيف: “من مصلحة الدولة اللّبنانيّة الآن التعاون مع الحكومة السّوريّة المقبلة لمراجعة هذه الاتفاقيات بما يحقّق مصالح البلدين، إمّا بحسن تطبيقها أو بتعديلها وتحسينها”.

لتسليم مجرمي الحرب

شهدنا في أوّج الحرب السّوريّة وما تلاها، مطالبات تتعلق بتسليم مطلوبين أو ترحيلهم، واليوم يثور جدلٌ حول ما إذا كان لبنان ملزماً بتسليم مجرمي حرب من أعوان النظام السّوريّ إذا طلبت ذلك الحكومة السّوريّة العتيدة، استنادًا إلى اتفاقيات التعاون القضائيّ المبرمة بين البلدين منذ عقود ماضية، والتي أُلحِقت بها ملاحق في سنوات لاحقة، فهل لبنان مُلزمٌ بذلك؟

تُجيب شحادة بالقول: “لبنان وسوريا وقعا اتفاقيةً خاصّةً بالتّعاون القضائيّ منذ عام 1951. وتشمل هذه الاتفاقية تبادل المعلومات والتعاون الأمنيّ والقضائيّ، وأيضًا مسألة تسليم المطلوبين”.

تُنبّه شحادة لكون لبنان أمام خيارين في حال كان يرغب في استقبال واحتضان الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم في سوريا: فإما أن يطبق الصلاحية الموجودة بقانون العقوبات لجهة حقّه في محاكمة الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم خارج لبنان أمام المحاكم اللّبنانيّة، أو أن يسلم هؤلاء الأشخاص السّوريّين المطلوبين من سوريا بخصوص جرائم ارتكبت في سوريا وليس في لبنان، متى طُلب ذلك  من قبل الحكومة السّوريّة.

أما عن أصول التسليم، فتشرح شحادة: “نصّت هذه الاتفاقية لجهة الإجراءات الواجبة، لإثبات أن هؤلاء الأشخاص مطلوبون بجرائم جنائيّة وليس بجرائمٍ سياسيّة. وأيضًا، إثبات أن هذا الطلب ليس مدفوعًا بدوافع سياسيّة، وإنّما هناك أسس لجرائم جنائيّة خطيرة في سوريا”. وعلى متن شرحها لأصول التسليم، تنوّه على قضيةٍ أساسيّة، قائلةً: “لبنان، على الأقل منذ ما بعد الثورة السّوريّة، استخدم القضاء العسكريّ في المحكمة العسكريّة دائمًا من أجل محاسبة الأشخاص المعارضين لنظام الأسد، خصوصًا من السوّريّين ولكن في مرات كثيرة من اللبنانيين أيضًا، بحيث أن الأشخاص الذين انخرطوا في حقّ تقرير المصير المشروع بالقانون الدوليّ وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبالتالي انخرطوا بالنزاع في سوريا، إما النزاع المسلّح أو حتّى بطرقٍ مختلفة مثل ممارسة مهنة الإعلام. حدث ذلك رغم أنّ التزامات لبنان الدولية لا تجرّم حقّ تقرير المصير ما لم يتضمن انتهاكات لقواعد الحرب. ومن الواجب اليوم مراجعة هذه السّياسة في لبنان، ليس فقط في ضوء القانون الدوليّ، بل أيضًا في ضوء تحسين العلاقات مع الدولة السّوريّة الجديدة الّتي لم تعد تحت حكم الأسد، وبالتالي ينبغي عدم تسييس القضاء على نحو يضرّ بالعلاقات مع دولةٍ جارةٍ كسوريا”.

السّجناء السّوريون في لبنان

أمّا في ما يتعلّق بالموقوفين السّوريّين في السّجون اللّبنانيّة، سواء المحكومون منهم أو الذين ينتظرون المحاكمة وتصدّح أصوات ذويهم المطالبين بالإفراج عنهم أسوةً بالمعتقلين في سوريا (راجع “المدن”)، فتؤكد شحادة: “هناك خياران في المستقبل: فإمّا أن تتعاون الدولة اللّبنانيّة مع الجانب السّوريّ لتسليمهم للسّلطات السّوريّة كي تنظر في ملاحقاتهم الجزائيّة، لا سيّما إذا كانت الجرائم قد ارتُكبت في سوريا وليس في لبنان، وإمّا أن يتم التوجّه نحو عفوٍ عامٍ يشمل هؤلاء الموقوفين، خصوصًا إذا طالت فترة انتظارهم وظلّت أوضاعهم معلّقة بلا محاكمة عادلة، وذلك بعد انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان وتفعيل مسار العفو، بما يحلّ إشكاليات عديدة تتعلّق بغياب المساواة في الملاحقة القضائيّة”.

وتتوّجه شحادة في حديثها إلى “المدن” إلى الجانب السّوريّ في هذا السّياق لتقول: “أشجع الجانب السوري الآن، والسّلطات السّوريّة والحكومة السّوريّة الانتقالية حتّى، أن تباشر من دون تأخير بالتّوجه إلى الدولة اللّبنانيّة بطلب تسليم السّجناء الموجودين، وخصوصًا نحن نتحدث عن الذين هم موجودين في لبنان بسبب ملاحقاتٍ جنائّية مرتبطة بما فعلوه في سوريا وليس بما فعلوه في لبنان”. 

العدالة لضحايا لبنان

اليوم نشاهد احتفالات في الشارع اللّبنانيّ بانتصار الثورة السّوريّة، وبعض الاحتفالات تحمل آمالاً بأنّ سقوط النظام في سوريا يعني العدالة للضحايا الذين قتلهم أو أخفاهم النظام أو تواطئ في قتلهم مع حلفائه في لبنان، فهل سقوط النظام والمعاهدات القضائيّة بين لبنان وسوريا، قد تُمهّد الطريق أمام المحاسبة وإحقاق العدالة للضحايا من اللّبنانيين؟ تسأل “المدن”.

تُجيب المحامية بالقول: “هناك سلسلةٌ من الجرائم السّياسيّة، والاغتيالات السّياسيّة الّتي ارتُكبت في لبنان من قبل، مقتل رفيق الحريري، نتحدث خلال الحرب الأهلية اللّبنانيّة وبعدها. ومع التحفظ لجهة مرور الزمن على بعض هذه الجرائم، ولكن نذكر أن جرائم الإخفاء القسريّ لا تسقط بمرور الزمن لأنّها جرائم مستمرة، ومع التذكير بأن لبنان يُفترض أنه يطبق المعايير الدوليّة أو القانون الدوليّ للجرائم الجسيمة ذات الطابع الدوليّ، الّتي لا مرور زمن عليها، وبُكل الأحوال، تظلّ هناك حقوقٌ مدنّية، إذا كان هناك مرور زمن بالملاحقة الجزائية، وبالتالي من المهم جدًا أن نرى اليوم وجهًا جديدًا من العلاقة الّلبنانيّة السّوريّة فيما يختص بمحاسبة المرتكبين، وأن يُتمّ على الأقل تشكيل لجنة من أجل البحث في الجرائم الّتي وقعت بحقّ اللّبنانيين ويُشتبه بأن من ارتكبها أو من أمر بها كان جزءًا من النظام السّوريّ السّابق”.

وتختم بالقول: “لعلّه بذلك يظهر لنا أن الحكومة السّوريّة الجديدة راغبة بمحاسبة هذا النظام، ليس فقط على الجرائم الّتي ارتكبها في سوريا، ولكن أيضًا على الجرائم التي ارتكبها في دولة لبنان، التي بدورها دولة شقيقة لسوريا، وكل اللبنانيين، أو عددٌ أكبر من اللّبنانيين، يأملون بأن هذا التغير العظيم في تاريخ سوريا، يكون له آثار أيضًا على العلاقة بين الدولتين”. 

المدن

———————–

أنا صحافيّ سوري… هل أنزع درعي وأعمل بحريّة ؟

صعب الياسين

14.12.2024

غطى الصحافي السوري مصعب الياسين تقدم فصائل المعارضة السورية المسلحة من إدلب وصولاً إلى دمشق، وبعد سقوط النظام، وفرار بشار الأسد يسأل :”هل أنزع درعي الصحفي وخوذتي وأعمل بحريّة؟

بدأت الرحلة من إدلب منذ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي مع إعلان فصائل المعارضة حينها الاشتباك مع قوات النظام بالقرب من مدينة حلب.

ومثل كل الصحافيين في شمال غربي سوريا وعلى مدى الأعوام الثلاثة عشر الماضية، أعمل على توثيق التطورات الميدانية،  أغطي الاشتباكات بين فصائل المعارضة والنظام، بيد أن الاستعداد تلك الليلة لم يكن عادياً بالنسبة إلي، لم أنم وأنا أشحن معداتي لتتبّع التطورات الميدانيّة عبر “واتسآب” و”تلغرام”.

ما هي إلا ساعات من تتبّع الأخبار عن تقدم فصائل المعارضة على حساب قوات النظام في أحياء مدينة حلب، حتى قرأت أنهم وصلوا إلى الجامعة، لم أعرف حينها كيف أجمع معداتي في الحقيبة بعد تأكدي من انسحاب قوات النظام من أحياء الشهباء والفرقان حيث الجامعة التي درست فيها، أو بصورة أدق لم أستطع إكمال دراستي فيها منذ العام 2011، بسبب تعميم اسمي على حواجز النظام حينها بعد مشاركتي في حراك طلابي سلمي في كلية الآداب.

 الطريق إلى حلب

اتصلت بـثلاثة زملاء لي كي نتجه سويّةً إلى مدينة حلب وسط تصاعد الاشتباكات وتقدّم قوات المعارضة، وتوجّهنا فجراً بسيارتي عبر الطرق الفرعية البعيدة عن الطريق السريع إلى حلب.

 كان الطريق محفوفاً بالموت، لا سيما أن الاشتباكات ما زالت مستمرة على مقربة من الطريق الذي تعرض للقصف من الطائرات الحربية وانفجار عدد من الألغام، لكننا تمكنّا من دخول حي حلب الجديدة. وبعد مرور 13 عاماً، رأيت حلب التي عشقت، والتي كنت أتمنى زيارتها دائماً،  ولم أعِ نفسي إلا أمام كليّة الآداب.

حين دخلت حرم الجامعة، عادت إلي ذكرياتي عما كان يدور بيني وبين أصدقائي الطلاب، كنت أتمنى أن يطول وقت دراستي في الجامعة، لكني تذكرت فجأة أنّي صحافي، ولم أعد ذلك الطالب الذي كان دائماً يجلس ساعات طوال، ويتنقل بين الكليات باستمرار. ومع عودتي الى أرض الواقع بعيداً عن الذكريات، بدأت بتصوير مشاهد عدة من الكلية ورئاسة الجامعة.

 بدأت أبحث وأسأل نفسي: “أين يمكن أن أعدّ وأصوّر الملخص الرئيس للأحداث الميدانية؟”، سألت أحد زملائي ليفاجئني بقوله: “لا يوجد مكان أبهى من قلعة حلب! من الممكن أن ننقل للعالم من أمامها تحريرها من نظام الأسد وميليشياته المحلية والأجنبية”.

اتجهنا بالسيارة من الجامعة نحو القلعة، وعيناي تكاد لا تشبعان من حلب وسكانها، لأجد نفسي واقفاً أمام باب قلعة حلب والكاميرا أمامي لأعلن عن سيطرة فصائل المعارضة على غالبية أحياء المدينة وفرار قوات النظام منها.

 لم يكن شعوراً عادياً أن أنقل للعالم الأخبار من أمام صرح تاريخي كقلعة حلب التي تعاقب عليها السلاطين والملوك، وكانت شاهدة على صلاح وفساد كل من احتموا بأسوارها.

أثناء خروجنا من حلب، نفذت الطائرات الحربية لقوات النظام قصفاً بالصواريخ على دوار الباسل غرب المدينة، خلّف عشرات الضحايا من المدنيين، ربما كان النظام يحاول إيصال رسالة مفادها أن آلة الموت بيده، وطالما يمتلك سلاح الجو سيبقى يقتل كل من يحاول أن يخرج عن سيطرته، حينها سألني زميلي: “لماذا قصفت الطائرات حلب ومنذ أيام قليلة كان عناصر النظام يجوبون المدينة قبل خروجهم منها؟”، لم أجد إجابة حينها.

في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر وبعد تصوير جولة في حلب بين أحياء صلاح الدين وسيف الدولية والأعظمية والشهباء والفرقان، وسماع مطالب الناس بضرورة تأمين الخبز والكهرباء اللذين لم يكونا متوافرين إلا عبر البطاقة الذكية في عهد نظام الأسد، عدت إلى منزلي في مدينة سلقين غرب إدلب حتى أرفع المواد وأسلمها للمؤسسات الصحافية التي أعمل معها.

 انتهى ذلك اليوم بتعب شديد ونوم لساعات عدة استيقظت بعدها على خبر سيطرة فصائل المعارضة على مدن معرة النعمان وكفرنبل وخان شيخون ومورك. عند الساعة 4 فجراً أيقظني أحد زملائي الصحافيين، وقال لي إنه ينتظرني في السيارة خارج منزلي حتى نذهب ونغطي التطورات الميدانية جنوب إدلب.

الطريق نحو خان شيخون

خرجت من منزلي باتجاه مدينة خان شيخون جنوب إدلب، التي حولها نظام الأسد الى مركز محافظة إدلب المؤقت، وعلى طريق m5 الذي لم أمش عليه منذ العام 2011، كانت عربات قوات النظام مترامية على جانبي الطريق، تركها سائقوها وطواقمها وهربوا، فيما لم يتمكن البعض من الهروب لتبقى جثته ممدة  جانب دبابته.

كان الدمار الذي أصاب منازل المدنيين في المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات النظام وانسحبت منها لا يوصف، حتى أن قرى في منطقة معرة النعمان مُسحت بالكامل.

اقتربنا أكثر من مدينة خان شيخون وأنا لا أزال حائراً، ما الذي يمكن أن أقوله؟ وما هي المعلومات التي يجب أن أنقلها للعالم أمام الكاميرا، غير الطابع التقليدي عن السيطرة والانهزام.

وقع نظري على أشجار الفستق الحلبي المزروعة بعيداً عن الأوتوستراد أمتاراً عدة، هنا عرفت ما سأتكلم عنه: موضوع الفستق الحلبي الذي لازم قلمي لسنوات طوال، إذ كانت قوات النظام تستولي على حقول المهجرين وأراضيهم قسراً وتمنحها لأشخاص محسوبين عليها.

عملت منذ العام 2020 على توثيق موضوع الفستق الحلبي وأنا في السيارة أتذكر تلك التقارير التي أنتجتها حول موضوع الاستيلاء على أشجار الفستق الحلبي وكانت دليل كبير لعدد من الجهات الحقوقية العالمية على استبداد النظام في أراضي السوريين.

 لكن ما لم أكن أتوقعه أن أصل إلى مقر محافظة إدلب في خان شيخون وأتجول بين الغرف، لأكتشف أن تلك المكاتب وُجدت للاستيلاء على أراضي المزارعين، فالمكاتب مملوءة بقرارات الاستيلاء والمزادات والأسعار وأسماء المستفيدين والقرى والبلدات الواجب أن تدخل في الاستيلاء.

 يبدو أن الموظفين الذين كانوا في مبنى المحافظة لا شغل لهم سوى الاستيلاء على أراضي السوريين، فيما كانت المنطقة أشبه بكثبان من الخراب جراء سرقة حديد الأسطح من منازل المدنيين في منطقة خان شيخون، والتي لم يسلم منها سوى ما حولته قوات النظام والميليشيات الإيرانية  الى مقار لها.

كانت الطرقات بين بلدات ريف إدلب الجنوبي وحماة الشمالي مليئة بالألغام، ولا تزال خريطة السيطرة متداخلة، وضمن هذه المساحة الكبيرة كنت و3 من زملائي نسير في سيارتي والخوف تسلّل إلى قلوبنا، لكن أحدنا لم يبده للآخر، والخوف الأكبر كان من الألغام أو الخطأ بالطرقات ودخول منطقة تسيطر عليها قوات النظام.

لم يكن هناك إنترنت أو وسائل اتصال، فيما كنت أعمل يومياً على تصوير مادة وأعود إلى منزلي حتى أرفعها الى المؤسسات الإعلامية، وأقول إنه ربما يتباطأ العمل العسكري قليلاً حتى أستطيع النوم ولو لساعات قليلة تعيد لي نشاطي، لكن العمليات العسكرية كانت سريعة وتتطلب سباقاً مع الزمن.

أعود الى المنزل في ساعات متأخرة من الليل، تتولى زوجتي ترتيب مقاطع الفيديو فيما أعدّ أنا التقارير والقصص المكتوبة، ونبقى على هذا المنوال حتى الساعة الثانية فجراً، أغفو قليلا وأعود الساعة الخامسة صباحاً للعمل. وباعتباري من ريف حماة، كنت على استعداد للوصول إلى مناطقه التي انسحبت منها قوات النظام، لكن هذه المرة على دراجة نارية بسبب وجود ألغام بكميات كبيرة على الطرقات، 150 كم ذهاباً ومثلها إياباً في الجو البارد جداً، قطعتها من مدينة سلقين وصولاً إلى قلعة المضيق.

 وقفت على جسر مدينة صوران لأشرح التطورات الميدانية أمام الكاميرا فيما القصف الأرضي والجوي على مقربة مني لا يهدأ. غادرت الجسر المار من فوق طريق حماة، وما هي إلا دقائق حتى استهدفت قوات النظام الجسر بوابل من الصواريخ، ولم أعلم حينها إن كنت أنا المستهدف أم أنه كان استهدافاً اعتيادياً.

 كل ما كنت أصبوا إليه هو تصوير التقرير في مدينة صوران ومغادرتها، حتى المغادرة كانت مليئة بالخوف والمخاطر، إذ عاودت قوات النظام استهداف جسر مدينة صوران، وهو الطريق الرئيسي، ولا أعلم كيف استطعت المرور بدراجتي النارية، بينما كنت أدعو لله ألا تتعطل الدراجة هناك أو يلحق بدواليبها ضرر جراء انتشار شظايا الصواريخ.

الدخول إلى حماة

كنت على مقربة من مدينة حماة التي دخلتها فصائل المعارضة، لكن الطريق كان طويلاً ومحفوفاً بالمخاطر، لا سيما أن قوات النظام وميليشياتها كانت لا تزال تتمركز في جبل زين العابدين. قطعنا حينها مسافة 180كم للوصول الى مدينة حماة، ولم نعِ أننا وصلنا إلى ساحة العاصي، حيث النواعير والبناء الأثري الجميل، ومن فوق قلعة حماة نقلت خبر انسحاب قوات النظام منها.

توجهت بعدها إلى مطارها العسكري، حيث وثقت بكاميرتي الطائرات التي كانت تقتل المدنيين على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية الحربية منها والمروحية، حتى أن إحدى الطائرات كانت مذخرة وواقفة في مربضها.

 ما إن رأيت الصواريخ على جناحيها حتى تذكرت كم وثّقت من جرائم وقعت بفعل تلك الطائرات، وكحال بقية المناطق في حماة كان الإنترنت مقطوعاً بسبب فصل نظام الأسد خطوط الاتصالات عن المدينة، فعدنا إلى إدلب لرفع ما صورته.

 وفيما أنا عائد على أوتوستراد m5 الواصل بين دمشق وحلب، لاحظت أن السكان المحليين شغلوا الطريق ليلاً بمجرد انسحاب قوات النظام من حماة، بأرتال من السيارات المدنية، بعضها من أهالي حماة والقسم الأكبر من خارجها، متوجهين إليها ليشاركوا أهلها بالفرح من الخلاص من النظام.

وددت أن أزور منطقة مختلفة وأوثق ما يحصل فيها، فكانت مدينتي السلمية ومحردة اختياري، ولا أبالغ إذا قلت إنني ذهبت إلى المنطقة وفي نفسي حاجز يمنعني، كون أهلها من المسيحيين وربما لن يستقبلوني وأنا الضيف الجديد الذي سيدخل بعد انسحاب قوات النظام منها.

 وصلت المدينة وكنت حذراً من الدخول في الشارع الرئيسي، لكن بمجرد قطعي مسافة 200 متر من الشارع حتى سمعت صوتاً ينادي: “يا أهلا يا أهلا تفضل نضيفك شاي!”، هنا تبددت كل الهواجس في ذهني.

قابلت في محردة نساء ورجال وشباباً، والكل تكلم عن وجعه وما تحتاجه المدينة، ولم يفارقني سكانها لحظة حتى أنهيت تقريري، وحصلت على أرقام هواتف كثيرة لسكان المدينة، التي كانت تحلم فقط بالعيش بهدوء وسلام.

 خرجت من المدينة مع حلول المغرب، ووصلت إلى المنزل، كانت مدينة حمص تحت سيطرة فصائل المعارضة، اختلطت حينها مشاعر التعب بمشاعر الفرحة، كيف سأصل إلى حمص ومن سيذهب معي، فيما كنت أسجل كل حركة وفكرة في دفتر جيبي الصغير، وما هي إلا ساعات حتى أعلنت فصائل المعارضة وصولها الى دمشق.

الطريق إلى دمشق

كم تمنت زوجتي أن تكون شريكتي في الرحلة إلى دمشق، وكانت تتوق لارتداء السترة الصحافية والتغطية من دمشق، لكن ظروف الحمل بطفلنا الأول بعد زواج 8 سنوات منعتها من ذلك.

خرجت ذلك الصباح من المنزل بوداع مختلف، نعم هذه المرة الوجهة دمشق، التي تبعد عن منزلي 480 كم، بينما لا تزال ساعات تغيير خريطة السيطرة في ساعاتها الأولى.

دار بيني وبين زوجتي حديث طويل عند  الباب انتهى بالدعاء، وصلت بسيارتي إلى مدينة إدلب وبالكاد حصلت على وقود بسبب الطلب الكثير من المتوجّهين إلى دمشق.

على الطريق، ظننت أن كل سكان شمال غربي سوريا متجهون إلى دمشق بسبب اكتظاظ السيارات على الطريق، الذي حفظته حتى مدينة حماة، أما بعدها فكان طريق جديداً كلياً، حيث صادفت الكثير من السكان على قارعتي الطريق يحتفلون بزوال نظام الأسد، بنات وشباباً وكباراً وصغاراً.

على جسر الرستن شمال حمص، توقفت لأكثر من ساعة ونصف الساعة حتى جاء دوري بالعبور على الجسر الذي تعرض لغارات جوية روسية قبل يومين أدت الى ضرر كبير ببنيته.

 كانت رائحة الحرب تفوح من الطريق الذي يربط حمص بدمشق، آليات عسكرية على جانبي الطريق منها المحروق ومنها الجديد، جثث لأشخاص، سيارات عسكرية مقلوبة، لكن ما لفتني أرتال عناصر النظام الذين تركوا سلاحهم في قطعاتهم العسكرية وتوجهوا الى منازلهم مشياً على الأقدام.

أعداد كبيرة من الشبان كانت هناك، وكانوا في غالبيتهم يقصدون طرطوس واللاذقية وحمص، أما الطريق القادم من دمشق باتجاه حمص فكان لا يتسع للسيارات والدراجات النارية، وعندما حاولت استيضاح الموضوع بسؤال هؤلاء إلى أين هم ذاهبون وهل النظام سقط وممن يخافون… ليجيبني أحدهم بأن كل تلك العائلات تقصد مناطق الساحل قادمة من دمشق التي كانوا يعملون فيها، واليوم مع ذهاب الأسد تركوا دمشق.

من المفارقات التي تبادرت إلى ذهني حينها وأنا على الطريق الطويل بين حمص ودمشق مروراً بالقطع العسكرية والطوق العسكري الذي أنشاه نظام الأسد حول دمشق، هو كيف لم يصمد ولو ساعة أمام فصائل المعارضة، قطع عسكرية كثيرة تبخرت في لحظة واحدة وفتحت الباب أمام المعارضة نحو دمشق.

دمشق الحلم

وصلت إلى مشارف دمشق ولم أصدق ما رأيت، صار قلبي يخفق بشدة، ويداي لم تعودا قادرتين على تثبيت مقود السيارة، مشاعر اختلط بها الفرح بالبكاء، ولا أبالغ  إن قلت إن البكاء الذي صدر مني غطا صوته على هدير محرك سيارتي.

منذ لحظة دخولي العاصمة، كانت الفوضى تعمها، القصف الإسرائيلي، عمليات السرقة وانتشار السلاح والزحمة المرورية، كانت العاصمة مختلفة عن باقي المدن السورية التي انسحبت منها قوات النظام ودخلتها المعارضة، لكن لم يحدث فيها كما حدث في العاصمة من فوضى.

وصلت إلى ساحة الأمويين، حيث فصائل المعارضة، كان مدنيون وصحافيون وشخصيات مشهورة ينقلون ما يجري مباشرةً على السوشيال ميديا، فيما هم يحتفلون بسقوط بشار الأسد.

من ساحة الأمويين، أخذتني قدماي إلى المبنى الذي كنت أحلم بالعمل به، مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، دخلت من الباب ولم يكن هناك عنصر أمن يمنعني من الوصول الى المبنى والدخول إليه.

كانت لحظات تاريخية لي لن أنساها ما حييت، تجولت كثيراً ولم أشبع فضولي من الوصول إلى كل الغرف حتى وصلت إلى استديو الأخبار، وتلقائياً وجدت نفسي أجلس خلف الطاولة الرئيسة في استديو الأخبار، حيث قرأت الخبر الأهم لذلك اليوم: سقوط النظام وفرار بشار الأسد.

التقيت هناك أحد الإعلاميين في إذاعة دمشق، والذي مُنع من دخول الإذاعة منذ العام 2014 بسبب تقارير أمنية، رأيت الفرحة في عينيه بالعودة الى الإذاعة التي دائماً ما كان يتوق الى الجلوس وراء المايكرفون فيها.

خرجت من دمشق وعدت إلى منزلي، تركت المدينة تعج بالأحداث والتطورات، والسؤال الذي راودني على طول طريق العودة ليلاً: هل جاء الوقت لنزع درعي الصحافي، وهل زال الخطر لأعود إلى الميدان بلباسي الرسمي؟ أم أن الدرع الصحافي سيلازمنا إلى أيام طويلة مقبلة.

درج

————————–

إحراق قبر حافظ الأسد… هل يمكن تفاديه؟/ حسام فران- صحفي لبناني

14.12.2024

لم يكتف “زوار” قبر حافظ الأسد من مدنيين ومسلحين و”صحافيين” بحرق المكان، بل طُبقت الشعارات التي رفعت ضد الأسد الأب عام 2011 حرفياً، من تبوّل وشتم وحرق، وكل ما ردّده المتظاهرون في الساحات.

صور إحراق قبر حافظ الأسد في القرداحة في اللاذقية، تضع المرء أمام معضلة أخلاقية مرتبطة بحرمة الموتى والقبور. ومع أن الغضب السوري الذي أشعل النار بالضريح، المبالغ في حجمه وفخامته، مفهوم ومنطقي، إلا أن الفكرة بذاتها، وعلى رغم تكثيفها الرمزي الكبير، وبسبب ثقل القيم البشرية والدينية المتوارثة المرتبطة بخصوصية الموت وهيبته، تجعل العقل حائراً أمام صور النار وهي تلتهم الضريح انتقاماً من صاحبه المسؤول عن قتل الآلاف وتعذيبهم وقمعهم.

لكن القبور في السياسة مسألة لطالما حملت هذه الإشكالية، خصوصاً عندما تكون قبوراً لزعماء إشكاليين، أو طغاة متجبّرين، أو إرهابيين عالميين. فصدام حسين مثلاً، دُفن في مسقط رأسه بعد إعدامه، وكاد قبره في مراحل من التوتر الطائفي في العراق أن يتحول محجاً للبعثيين والطائفيين المُترحمين على أيامه ومريدي حمايته حتى في موته.

لكن القبر، وبسبب التاريخ الدموي لمن يرقد فيه، تحوّل أيضاً إلى هدف للاعتداء، كنوع من الانتقام من الرخام، بعدما عجز الموت نفسه عن تقديم عدالة للضحايا.

بيد أن الاعتداء الأبرز والأكثر تنظيماً الذي تعرض له ضريح صدام كان في العام 2014 حينما أقدمت ميليشيات طائفية على إحراقه، ما اضطر أبناء عشيرة صدام إلى نبش عظامه وجمع رفاته وإخفائها في مكان سرّي، ليس معروفاً حتى اليوم. ولم تخل خطوة إحراق قبر صدام حينذاك من أجندات لإثارة النعرات، أكثر من كونها مسألة انتقام من الطاغية، الذي حوكم وأُعدم بطريقة مستفزة في صبيحة عيد الأضحى.

ولا مناص من استحضار أمثلة أخرى، لدى الحديث عن قبور السياسيين المكروهين أو المتورطين بقضايا إرهاب وقمع وقتل، لفهم أعمق لرمزية القبور وحساسيتها في هذا المجال.

فالحلفاء في الحرب العالمية الثانية، أحرقوا جثّتي أدولف هتلر ومديرة مكتبه إيفا براون بعد إيجادهما، ونُقلت البقايا المحترقة إلى مقبرة في منطقة قريبة من الخط الذي سيفصل لاحقاً بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، لكن حدث انتحار هتلر تحيط به نظريات مؤامرة عدة منها فرار هتلر وبراون  إلى أميركا الجنوبيّة!

كذلك، دمّر عناصر من الاستخبارات الروسية في العام 1970 أي أثر للجثتين في تلك المقبرة. وكان قرار إزالة أي أثر يذكّر بهتلر مدفوعاً بالخوف من تحوّله إلى مزار يعيد إحياء أفكاره النازية التي يفترض أن تكون احترقت ودُفنت ثم أُتلفت معه.

هذا الأمر نفسه اعتمده الأميركيون مع جثة أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، بعد قتله، عبر رميها في البحر، حتى لا يكون له شاهد أو ضريح، وحتى لا يصير لأكثر الارهابيين شهرة في التاريخ الحديث، محجّ لمريديه ومحبيه المتطرفين، وحتى لا يثير وجوده في المقابل حساسية ضده من ضحايا إرهابه حول العالم.

معضلة شبيهة واجهت حزب الله مع قتل أمينه العام حسن نصرالله في أيلول/ سبتمبر الماضي، وامتناع الحزب عن تشييعه حتى اللحظة، وترك جثته مدفونة كوديعة في مكان سرّي إلى حين التشييع لأسباب أمنية أولاً، وأسباب تتعلق باللحظة السياسية التي تمثلها مواراة نصرالله في الثرى، بما تعنيه من دفن لنفوذ إيراني كبير في المنطقة.

ليس شائعاً أن يتعرض قبر لشخص لم يؤذ أحداً ولم يقمع أحداً ولم يقتل أحداً، للاعتداء أو التخريب. هذا الأمر نادر، إلا في حالات الانتقام، كما كان يفعل بعض عناصر جيش الأسد! لكن أيضاً قد تقع قبور لأناس أبرياء ضحية همجية، كما حدث مع مقابر عدة قصفها الجيش الإسرائيلي ونبشها بالصواريخ.

لكن في غالبية الحالات يحفظ البشر للموت هيبته واحترامه، ولا داعي للاعتداء على قبور الجلادين انتقاماً للضحايا. فالضحايا قادرون دائماً على ألا يسمحوا لجلاّديهم بأن يرقدوا بسلام. وفي حالة “الأب القائد” السوري “المقبور”، فإن هتاف “يلعن روحك يا حافظ”، الذي قيل في الشوارع منذ 2011 وفوق قبره، ربما كفيل بأن ينغّص النوم “الأبدي” للديكتاتور البائد إلى… الأبد!

درج

———————-

المسرح السوري بعد الأسد هو الأصعب/ محمد الرميحي

14 كانون الأول 2024

العالم، وخاصة العربي، ينتظر كيف سوف تتطور الأمور في المسرح السياسي السوري بعد أن تغير المشهد، ربما كثيرون قد أصيبوا بالدهشة لسرعة التغيير، وبعضهم ساوره القلق، ولكن من يعرف تأثير العنف المؤسسي على المجتمعات يتوقع أنه في وقت ما سوف يحدث التغيير، لأن العنف يولد العنف المضاد، قاعدة لا تخطئ.

التغيير في سوريا مطلب شعبي، لقد ولغ النظام السابق في العنف المؤسسي إلى حد الثمالة، وتضافر عدد من الظروف كي تصل الأمور إلى خواتيمها.

حتى الآن يبدو أن عددا من الملاحظات يمكن أن تشاهد، أولها الطابع السلمي تقريبا الذي سارت عليه المجموعات المسلحة، ودخولها العاصمة دون الكثير من العنف أو بأقل كثيرا من المتوقع، حتى المخالفون السابقون -ما لم يرفعوا السلاح- لم يتعرض لهم أحد، وثانيها الإصرار على عدم نقل السلطة بشكل عشوائي، بل بشكل منظم.

ليس الآن وقت تعداد الأخطاء الكبرى التي دخل فيها النظام السابق، ولكن من المؤكد أهمية تذكر أن أحد أسباب سقوطه هو «استراتيجية العنف المفرط»، التي تبناها (على الأقل في الأربع عشرة سنة الماضية)، بجانب ما اتصف به من «عجرفة وغرور» ورثهما من حكم سابق كانت له ظروف مختلفة. العنف يهدد الحضارة ويهدد المجتمعات، خاصة إن كان عنفا من ذلك النوع الرمزي الذي يكون مجدولا في تشريعات وقوانين، تجعل من ممارسته من أهل السلطة شرعيا! بجانب تطبيقه الوحشي ضد الآخر، وقد رأى العالم كم العسف الذي وقع على السجناء السياسيين، وبعضهم فقد الأمل في الحياة، وآخرون أخذ أهلهم فيهم العزاء!

من المؤكد علميا أن السلطة التي تمارس العنف المفرط تشعر بعدم الأمان، خاصة الأمن الذاتي، والخوف الشديد من المستقبل، وهي بذلك لا تعي أن ممارستها ذلك العنف المفرط تدفع لنهايتها الحتمية.

ما بعد الأسد قد يطرح أكثر من سيناريو، الأول سيناريو العراق بعد تحريره من الطاغية، وقد تشرذم لسنوات وفقد القدرة على بناء دولة حديثة، وساهم في ذلك غياب مشروع عربي لمساعدته على النهوض، والسيناريو الآخر هو السيناريو الليبي، الذي قسم ليبيا إلى مناطق نفوذ.

هذان السيناريوهان ليسا بعيدين عن قيادة الفصائل السورية، وعلى أرض الواقع هناك تشابه في الساحة السورية مع الساحتين الليبية والعراقية.

لذلك فإنه من الأفضل أن تفكر السلطة الجديدة، مع السير في ما يمكن أن يعرف بالدولة الاتحادية، وهي ليست منكرة ولا مبتكرة، فهي موجودة في بعض دول أوروبا وناجحة ومستقرة.

لماذا الدولة الاتحادية؟ لأن سوريا بعد سنوات القمع تبين أن هناك مناطق جغرافية/إثنية لها بعض خصوصياتها، وإن تم بناء دستور حديث على قاعدة الفيدرالية، يحفظ للمناطق حقوقها في حكم ذاتها تحت سلطة اتحادية واضحة الصلاحيات.

أي مزايدة في هذا الملف، كالقول إن سوريا واحدة، سوف تغلب فئة اجتماعية على غيرها، حتى لو كان الأمر غير مقصود، فالتفسير، بعد طول معاناة، سوف يذهب إلى ذلك. من الأفضل إذن حسم الموقف بوضوح بعيدا عن المزايدة أو الاستحواذ.

هناك أمر آخر مهم، حيث تمت شيطنة الفصائل المسلحة التي قامت بتغيير النظام، أو على الأقل شيطنة القسم الأساسي منها، لذلك فإن السلطة الجديدة تحتاج إلى جهود إضافية لطمأنة الداخل أولا والجوار العربي والقوى النافذة في العالم من خلال الأفعال على الأرض، وهي العملية الأصعب حتى من فعل التحرير.

الخطأ الذي يمكن أن تقع فيه السلطة الجديدة أن تستكين لدغدغة المشاعر وأن السلطة باقية إلى الأبد، على نفس شعار «الأسد إلى الأبد»، فلا بد من الانتباه، وإن زال النظام السابق، أنه ورث أفعالا تركت تأثيرها العميق في النفس السورية، وهي «حب السلطة والتسلط»، وأن هناك أناسا سوريين أفضل من أناس سوريين آخرين، تلك خطيئة يتوجب أن يتنبه لها.

آخر الكلام:

استمرت عبادة الشخصية في الفضاء السوري وتناسلت من الرئيس إلى الوزير إلى المدير إلى أصغر مسؤول، واقتلاعها يحتاج إلى جهد ووعي خاصين.

الشرق الأوسط

———————-

ترمب وسوريا… الفرصة والمخاطر/ إميل أمين

14 ديسمبر 2024 م

وصف الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب ذات مرة سوريا بأنها «رمل وموت»، واليوم وقبل عودته إلى البيت الأبيض ببضعة أسابيع، وعلى هامش سقوط نظام بشار الأسد اعتبر أن «سوريا في حالة من الفوضى، لكنها ليست صديقتنا، ولا ينبغي للولايات المتحدة أن يكون لها أي علاقة بها. هذه ليست معركتنا. لا تتدخل».

منذ اليوم الأول لها، نأت إدارة جو بايدن عن قضية سوريا، ونتيجة لذلك تراجعت العلاقات التي تربط الولايات المتحدة بمختلف الجهات الفاعلة المهمة بمرور الوقت».

هل يملك ترمب الرفاهية نفسها التي توافرت لبايدن؟

باختصار، هناك ضباب كثيف يخيّم على المشهد الأميركي تجاه سوريا، ضباب يدعو الخبراء للحيرة والارتباك، حول ما إذا كانت واشنطن قريبة جداً من الفوضى غير الخلاقة على الأرض، وبخاصة في ظل ما أشاعته وأذاعته وسائل إعلام أميركية من مجابهات بين أنصار البنتاغون وعملاء الاستخبارات المركزية الأميركية على الأراضي السورية، أو تصديق ما أعلنته صحيفة «وول ستريت جورنال» من أنه «في الوقت الحالي لا يعرف المسؤولون الأميركيون ما سيحدث ومدى نفوذهم».

كالعادة يتعامل العالم مع واشنطن من باب «الازدواجية التاريخية» أو «تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة».

ولأن إدارة بايدن بكل ما حملته من لغط والتباس داخلي وخارجي، راحلة عما قريب، ورغم ما خلفته من فخاخ، فإن التركيز ولا شك لا بد أن ينصب على مستقبل إدارة ترمب، وما إذا كانت ستقترب الهوينى من الملف السوري، الذي بات يمثل المخاطر أو الفرصة أم لا.

هناك حالة أميركية من عدم اليقين تجاه أحداث المنطقة وتداعياتها، هذا إذا أبقينا جانباً نظرية المؤامرة، والتفاعلات الماورائية بين واشنطن والأطراف التي تحركها، لا سيما في ظل علاقاتها التاريخية بجماعات الإسلام السياسي من زمن الجد أيزنهاور ولقائه التاريخي بالبيت الأبيض في مارس (آذار) 1954، مع قيادات العالم الإسلامي، ونشوء وارتقاء فكر «لاهوت الاحتواء» لصاحبه وزير الخارجية جون فوستر دالاس، الذي قدمه عام 1950 في كتابه المعنون «حرب… أم سلام».

هل ينبغي لنا أن نصدّق أن واشنطن وكما التصريحات المتعددة التي خرجت عنها، كانت بعيدة كل البعد عن تقدير واستشراف المشهد في سوريا، قبل القارعة الأخيرة؟

يوم الخامس من ديسمبر (كانون الأول) الحالي، صرح بات رايد المتحدث باسم البنتاغون، بأنه لا علاقة لعسكر أميركا بما يجري في سوريا، وأن واشنطن ستواصل العمل مع شركاء مثل «قوات سوريا الديمقراطية» لتحقيق مهمة هزيمة «داعش».

بعد ثلاثة أيام تقريباً، تابع العالم باندهاش غير عادي، لقاء مطولاً يكاد يكون بروباغندا غسل سمعة، لكبير «جبهة النصرة»، التي لا تختلف عن «داعش» كثيراً، وربما جناح مستتر منها، عبر أكبر وأهم محطة إخبارية في أميركا CNN، في حين أنه هو الشخص عينه المطارد أميركياً والمرصود لرأسه عشرة ملايين دولار.

أي أميركا نصدق المثالية أم الواقعية، الجيفرسونية أم الويلسونية؟

إنها الحيرة نفسها التي تلف القاصي والداني حول العالم، لا سيما سكان منطقة الموت في الشرق الأوسط.

دعونا مع ترمب الجديد، والسؤال المثير: «هل يخشى سيد البيت الأبيض من وحول بلاده في مستنقع سوري مشابه ومكمل ربما لمستنقعي أفغانستان والعراق، وقبلهما فيتنام؟».

الخوف من الخطر يعني رهان واشنطن على انتشار الفوضى في منطقة لا تزال تمثل رصيداً استراتيجياً كونياً، سواء من حيث ثرواتها الطبيعية، أو مواقعها الجغرافية المتحكمة في مسارات خروج النفط وسريان التجارة الدولية.

التراجع الأميركي عن لعب دور فاعل في مستقبل سوريا، ربما يعطي ضوءاً أخضر لقوى قطبية أخرى، ربما تراجعت تكتيكياً في الحال، لكن مخططاتها الاستراتيجية جاهزة في الاستقبال، وبخاصة روسيا والصين.

هل يترك ترمب مربعات نفوذ تلك المنطقة لخصومه يملأونها ساعة يشاءون بما يرغبون؟

تدرك موسكو وبكين أن الغزل على متناقضات الجماعات المتطرفة سيصيبهم في العمق مرة أخرى، وكأننا في استنساخ لما جرى في أوائل العقد الماضي، وعليه يخطئ ترمب إن اعتبر أنه لا عودة لهما عما قريب رغم سقوط نظام الأسد.

الفرصة أمام ترمب تاريخية لكتابة اسمه في سجل القياصرة الأميركيين، والدخول من بوابة الشرق الأوسط، بزعامة بعيدة عن مخططات مثلت «أوباما – هيلاري – بايدن»، زعامة تعيد أمجاد أيزنهاور، تستنقذ مسار المنطقة المضطربة، من خلال أميركا أخرى تعيد ألقها كمدينة فوق جبل.

هل يعيد ترمب أميركا رقماً صعباً إيجابياً وخلاقاً في الشرق الأوسط؟

ربما يتحتم على الشرق أوسطيين أن يبادروا بطرح رؤاهم للمنطقة عليه، وإدماجه في شراكات وصفقات تُفرح قلبه وتسر ناظريه… لكن كيف ذلك؟

الشرق الأوسط

———

لماذا بقيت الميليشيات العراقية متفرجة على سقوط الأسد؟/ عبد الخالق سلطان

14 ديسمبر 2024

أثار الانهيار السريع لنظام بشار الأسد تساؤلات عديدة حول الأسباب التي دفعت الميليشيات الموالية لإيران، المنتشرة في سوريا، إلى الانسحاب المفاجئ دون مقاومة أمام تقدم فصائل المعارضة المسلحة.

ولم يقتصر الجدل على لغز هذا الانسحاب وإخلاء المناطق التي كانت تحت سيطرتها دون أي قتال، بل امتد ليشمل تساؤلات حول أسباب صمت الميليشيات العراقية الموالية لإيران عقب سقوط الأسد. فهل تعرض محور إيران في المنطقة لضربات قاصمة تهدد نفوذه؟ ولماذا تراجعت الميليشيات العراقية عن دعم الأسد خلال الأيام العشرة الأخيرة؟

منذ الأشهر الأولى للأزمة السورية عام 2011، أصبحت البلاد مسرحًا لوجود ميليشيات وفصائل مسلحة، أجنبية ومحلية، تنفذ أجندات إقليمية. ومن بين هذه القوى جماعات مرتبطة بإيران دعمت نظام الأسد وخاضت معارك ضد الجماعات المعارضة المسلحة.

وإلى جانب قوات الحرس الثوري الإيراني، انتشرت في سوريا ميليشيات أفغانية وباكستانية ولبنانية تابعة لطهران، إضافة إلى جماعات مسلحة عراقية موالية لنظام خامنئي.

من بين أبرز الميليشيات العراقية التي كانت تتواجد في سوريا، ميليشيا النجباء، ومنظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله العراق، ولواء أبو الفضل العباس، الذي كان أول ميليشيا عراقية تشكلت في سوريا لحماية مرقد السيدة زينب، وكتائب سيد الشهداء، وكتائب الإمام علي.

جدد رئيس أركان الجيش الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يار الله، تأكيده أن الحدود العراقية مؤمنة بالكامل، لافتا الى عدم السماح بتهديدها.

اللواء الركن المتقاعد عماد علو، أوضح أن أغلب الفصائل دخلت العراق وانضمت إلى الفصائل المنضوية تحت القوات العراقية الموجودة على الشريط الحدودي، وقال في تصريحات للحرة: “توجهت إلى العراق كي لا يلحق بها الضرر، ولحاجة العراق إلى سلاح هذه الفصائل وعديدها لتعزيز حدوده مع سوريا التي تمر بمرحلة انتقالية خطيرة”.

انسحاب الفصائل الموالية لإيران إلى العراق جاء، بحسب اللواء علو، “لأن أكثرها مرتبطة بقوى وأحزاب سياسية شيعية فاعلة في الحكومة العراقية أو ما يسمى بالإطار الشيعي”.

والتزمت هذه الفصائل جانب الصمت منذ سقوط سوريا بيد المعارضة، وأوقفت نشاطاتها العسكرية التي كانت تنطلق من العراق، وامتنعت عن الاشتباكات المسلحة مع المعارضة السورية.

واتخذت هذه الخطوات “كي لا تعطي إسرائيل ذريعة لضربها”، بحسب اللواء علو، الذي أضاف: “قد تلجأ هذه الفصائل في قادم الأيام إلى الذوبان والانصهار ضمن القوات العراقية الرسمية، لا سيما أن أغلب هذه الفصائل تتبع أحزابًا شيعية فاعلة في الحكومة العراقية”.

ضباط سوريون في العراق

لكن “علو” بيّن أن اندماج هذه الفصائل في القوات العراقية الرسمية لن يكون سريعًا، بل هو مرهون بـ”شكل العلاقات الدبلوماسية التي ستربط العراق بالحكومة السورية الجديدة”، مشيرًا إلى أن أعدادًا كبيرة من الضباط والجنود السوريين قد فروا إلى العراق خلال الأيام الماضية.

في هذه الحلقة من مساء العراق نناقش الزيارة غير المعلنة لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى بغداد وتأكيده على التزام واشنطن بأمن العراق ومنع عودة تنظيم داعش

هل تغلب القوى الحاكمة في العراق المصلحة الوطنية على المصالح الخارجية؟

انسحاب الفصائل جعل موقف الحكومة العراقية أكثر قوة بمواجهة الأحزاب التي تقود تلك الفصائل، بحسب علو، الذي لم يستبعد أن تقوم إسرائيل بتوجيه ضربات إلى مخازن السلاح التي تمتلكها هذه الفصائل داخل العراق، “خصوصًا السلاح الذي يصل مداه إلى العمق الإسرائيلي”.

في المقابل، استغرب الخبير الاستراتيجي أحمد الشريفي، في حديثه مع موقع “الحرة”، موقف تلك الفصائل المسلحة الموالية لإيران، قائلًا: “كان من المتوقع أن تعتمد على مبدأ المواجهة، لأنها كانت تؤكد أن المواجهة هي الخيار الأوحد”.

وأضاف أن هذا الخيار قد انحسر بحجج كثيرة غير مقنعة، متوقعًا أن هذه الفصائل لن تستخدم السلاح في المرحلة القادمة.

والتزام هذه الفصائل الصمت ومراقبة ما يجري الآن في المنطقة لا يصب في مصلحتها، بحسب الشريفي، الذي أوضح أن “الوضع الراهن لن يستمر على حاله”، مؤكدًا أن حصر السلاح بيد الدولة قد “لاقى قبولًا لدى جميع الأطراف السياسية في العراق وكذلك المرجعية الشيعية”.

خيار نزع السلاح من هذه الفصائل، من وجهة نظر الشريفي، هو بمثابة تسوية عملية للتخلص من السلاح الموجود لدى تلك الفصائل، داعيًا رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني “للبت بسرعة بهذه القضية، وتحويل تلك الفصائل إلى أحزاب سياسية تندمج مع المنظومة السياسية في البلاد”.

وكان السوداني قد تعهد في بداية تسلمه رئاسة الوزراء في نوفمبر 2022 بنزع سلاح الميليشيات المسلحة ووضعه تحت سيطرة الدولة. إلا أن القرار لم يُنفذ حتى الآن. ويرى الشريفي أن هذا هو التوقيت المناسب لكي يقوم السوداني بتجريد هذه الفصائل من سلاحها، وتسوية أمرها سياسيًا.

الشريفي أكد أن صمت هذه الفصائل قد يمنحها فرصة لمراقبة ما يجري الآن في سوريا، فإذا انهارت العملية السياسية هناك، فإن هذه الفصائل ستجد لنفسها مبررًا لحمل السلاح وقد تعود لمهاجمة إسرائيل مرة أخرى، مما قد يحرج العراق دوليًا “وهذا ما يخشاه السيد السوداني”، بحسب قوله.

ودعا الحكومة العراقية للإسراع بتسوية ملف الفصائل المسلحة في العراق.

رئيس بعثة "يونامي" محمد الحسان في مؤتمر صحفي، عقب لقائه مع محمد رضا نجل المرجع الديني الأعلى علي السيستاني

“مسعى أممي وحراك داخلي لعدم تحوّل العراق إلى “ساحة لتصفية الحسابات

أثارت الزيارة الثانية التي أجراها رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق “يونامي” للمرجعية الدينية في النجف خلال شهر الكثير من التساؤلات حول مستقبل العراق في ظل الصراعات التي تشهدها المنطقة والتطورات المتسارعة في سوريا والمخاوف من تبعاتها على وضع البلد الداخلي.

وقال مستشار مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية، جاسم الموسوي، لموقع “الحرة”، إن هذه الفصائل لم تكن تتوقع ما حدث في سوريا، موضحًا أن الهدف الأساسي مما حصل كان طرد وإخراج تلك الفصائل من الأراضي السورية، وهو ما تحقق.

وكان قائد الحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، قد أعلن أمام البرلمان الإيراني، في 10 ديسمبر الجاري، أن جميع الفصائل والقوات الإيرانية انسحبت من سوريا، قائلاً: “حاليًا لا توجد هناك قوات عسكرية إيرانية داخل الأراضي السورية”.

ويؤكد الموسوي أن توقف هذه الفصائل عن التصريحات المعادية لإسرائيل وشن الهجمات عليها، جاء نتيجة الجهود التي تبذلها الحكومة العراقية لإقناعها بعدم زج العراق في معادلة معقدة لن تصب في مصلحة البلاد، بالإضافة إلى كبح جماح تلك الفصائل ووقف هجماتها على القواعد التي تتواجد فيها قوات أميركية.

كما رجّح أن تقوى شوكة الحكومة العراقية في الفترة المقبلة، مرجعًا ذلك إلى عدة أسباب، أهمها أن ما حصل في سوريا ولبنان وغزة أدى إلى تسليم الأمور للحكومات في النهاية، إضافة إلى ذوبان تلك الفصائل التي دخلت الأراضي العراقية وابتعادها عن المناطق الحدودية.

وكانت هذه الفصائل توجه هجمات مستمرة باتجاه إسرائيل منذ نشوب الحرب بين إسرائيل وغزة، تحت مبدأ “وحدة الساحات”، لكن الانهيار السريع لنظام الحكم في سوريا دفع بهذه الفصائل للتوقف عن كل نشاطاتها العسكرية والإعلامية. ولم تصدر أي بيانات حول ما جرى في سوريا، بل اتخذت من الصمت موقفًا بانتظار ما ستؤول إليه الأحداث، بحسب الموسوي.

وبيّن أن ما حصل في سوريا جعل هذه الفصائل تدرك أن البيئة الحالية ليست مناسبة لها، معتقدًا أنها ستنكفئ وتتوقف عن نشاطاتها العسكرية والدعائية “لتحافظ على نفسها ولا تتعرض لضربات من قبل إسرائيل والتحالف الدولي”.

إسرائيل وقطع أذرع “محور المقاومة”

من جهته، أكد المستشار العسكري السابق، صفاء الأعسم، أن إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، نجحت في قطع أذرع “محور المقاومة”، حيث تم توجيه ضربة قاصمة لحزب الله اللبناني والفصائل المسلحة الموجودة في سوريا. وأضاف أن “الهدف التالي لإسرائيل هو تفكيك مبدأ وحدة الساحات الذي كان ينادي به محور المقاومة، وقد نجحت في ذلك”.

ويرى الأعسم أن مستقبل الفصائل المسلحة في العراق لا يزال مجهولًا، مشيرًا إلى أنه لا يمكن التضحية بها بسهولة “بسبب التطورات الإقليمية السريعة، بما في ذلك التدخلات التركية في سوريا”.

وأشار  إلى أن الحكومة العراقية اتخذت موقفًا حازمًا، حيث سترد بقوة على أي ضربات تخرج من العراق. وقال: “أي مواجهة ستكون قتالاً جويًا، والعراق لا يملك منظومة دفاع جوي تحميه من صواريخ وطائرات إسرائيل”.

وأوضح أن انسحاب الفصائل من سوريا “جاء برغبة منها وليس بتوجيه حكومي، حيث تعمل بتوجيهات عقائدية طائفية”. وأضاف أنه من المحتمل أن يتم تفكيك هذه الفصائل بعد انتهاء مبدأ وحدة الساحات.

أطماع تركية وتحديات إقليمية

كشف الأعسم عن قلق العراق تجاه ما حصل في سوريا، مشيرًا إلى “أطماع تركية في الوصول إلى حلب وحماه وحمص، مع احتمال الوصول إلى الموصل وكركوك”. وبيّن أن الموضوع لا يزال مبهمًا لدى الجميع.

أكد رئيس الحكومة الانتقالية في سوريا، محمد البشير، أن المرحلة الجديدة سوف تشهد ضمان حقوق جميع الأطياف في البلاد، موضحا أن الوضع المالي للبلاد “سيئ للغاية” وأن أولويات حكومته تتمثل في إعادة الاستقرار والأمن وإعادة ملايين النازحين إلى البلاد وبسط سلطة الدولة وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين.

واستبعد الأعسم أن تصدر الفصائل العراقية المسلحة في الوقت الراهن أي مواقف أحادية تتجاوز الحكومة العراقية، قائلاً: “قراراتها ستكون توافقية مع مواقف الحكومة العراقية وما يصدر عنها”. وأضاف أن ذلك قد يؤدي في النهاية إلى نزع السلاح من جميع الفصائل وحصره بيد الدولة.

موقف الحكومة العراقية

في المقابل، يرى المحلل السياسي العراقي علي البيدر أن هذه الفصائل لجأت إلى “استراتيجية براغماتية” في التعاطي مع الأحداث الجديدة لتجنب المواجهة المباشرة مع الأطراف المعادية. وأشاد بموقف الحكومة العراقية التي استطاعت “امتصاص التبعات التي خلفتها الأحداث في المنطقة”.

واستبعد البيدر أن تستهدف إسرائيل تلك الفصائل في الوقت الراهن، قائلاً: “المشهد العراقي لا يزال يدفع باتجاه تعزيز حالة الاستقرار في المنطقة”.

يُذكر أن مجموعة من الفصائل العراقية المدعومة إيرانيًا كانت قد أعلنت انضمامها تحت ما كان يسمى بـ”المقاومة الإسلامية في العراق”، وقامت بتوجيه ضربات مباشرة إلى إسرائيل عن طريق المسيرات بشكل يومي. لكن هذه الفصائل أوقفت هجماتها بعد سقوط نظام بشار الأسد وانسحابها من سوريا.

عبد الخالق سلطان

الحرة

————————-

سقوط الأسد… درس للغرب في هزيمة بوتين/ كير جايلز

أثار انهيار النظام السوري عدداً من التساؤلات حول النفوذ العالمي الروسي وقدراتها في الخارج

السبت 14 ديسمبر 2024

يهدد سقوط نظام بشار الأسد طموحات روسيا في الشرق الأوسط ويكشف حدود دعمها للحكام المستبدين، وهو ما قد يفتح المجال للقوى الغربية لاستغلال هذه الفرصة لإضعاف النفوذ الروسي.

أثار انهيار نظام بشار الأسد في سوريا شكوكاً حول مدى قدرة روسيا على المحافظة على نفوذها ومواصلة مغامراتها العسكرية خارج أراضيها. فقد دعمت موسكو لأكثر من عقد من الزمن الأسد بناء على العلاقات طويلة الأمد بينها ودمشق، إلا أن التقدم الميداني السريع الذي حققته القوات المعارضة للحكومة السورية الشهر الجاري أظهر أن لروسيا قدرة محدودة على التأثير في مسار الأحداث، بصرف النظر عن شن طائراتها غارات جوية (أفادت تقارير كما هي العادة، بأن معظمها استهدف مناطق مدنية) لتعزيز دفاعات قوات النظام.

هذا التطور في سوريا أثار كثيراً من التساؤلات حول قدرة روسيا على الاستمرار في بسط نفوذها خارج حدودها، ودفع بعضاً إلى استنتاجات تتناول انعكاساته المحتملة على مسار الحرب في أوكرانيا.

لكن التفكير المتأني يظل ضرورياً قبل التسرع في إجراء مقارنات. فالفارق كبير بين عملية عسكرية بعيدة المدى من أجل دعم صديق لموسكو يواجه مصاعب في الحفاظ على السيطرة في بلاده، وصراع كبير يدور على حدود روسيا داخل أراض أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنها يجب أن تكون تحت سيطرة بلاده.

في العقود السابقة، لاحظ المحللون الذين يتابعون أنشطة القوات المسلحة الروسية وجود حقيقة بديهية، مفادها أن الكرملين لن يتوانى عن القيام بتدخلات عسكرية في المناطق التي هي في متناول قواته من طريق البر، سواء بواسطة الآليات أو في الوضع المثالي باستخدام السكك الحديد.

وانطلاقاً من ذلك، يمكن القول إن عملية الانتشار العسكري الروسي في سوريا خلال العقد الماضي من الزمن كانت بمثابة خروج كبير عن المعتاد، بحيث أظهرت موسكو قدرة غير متوقعة على إقامة جسر جوي وبحري واستخدامه للانتقال إلى دولة بعيدة من حدود روسيا. وفاجأ ذلك في حينه كثيراً من المحللين وأثار إعجابهم.

لكن بمجرد بلوغ روسيا هذا المدى في ترسيخ وجودها، أعادت تصرفاتها تأكيد الأنماط الدائمة في نهجها والحقائق القائمة منذ فترة طويلة التي ظلت من دون تغيير. فالاستخدام المتعمد للفظائع وتكتيك التدمير المنهجي للبنية التحتية الأساس بهدف بث الخوف في نفوس المدنيين وإجبارهم على الاستسلام، يعكس استمراراً للنمط التي استخدمته موسكو على مدى عقود وقرون، وهذا النهج يظهر لمحة سوداوية عن المعاناة والفظائع التي ستلحق بالأوكرانيين في هذه المرحلة.

يمثل سقوط بشار الأسد بلا شك ضربة كبيرة لطموحات روسيا، ولسعيها إلى تعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. ومن بين التساؤلات الكثيرة التي يثيرها تغير السلطة في دمشق تبرز مسألة إمكان سحب القوات الروسية المتمركزة على أراض سورية، وآلية تنفيذ هذا الانسحاب. وإلى جانب ذلك يبقى الغموض قائماً حول تأثير هذا التحول في الطموحات الأوسع للكرملين، ولا سيما في ما يتعلق بنفوذ روسيا داخل القارة الأفريقية بعدما كانت سوريا جسراً لوجيستياً أساساً ومهماً بالنسبة إلى موسكو.

النتيجة الإيجابية المحتملة الأخرى لهذا التطور هي أن الحكام المستبدين الدمويين الآخرين الذين يسعون إلى الحصول على دعم روسيا لهم، قد يدركون أن مساندتها لهم محدودة ومشروطة، وهذا من شأنه أن يفتح فرصة أمام القوى الغربية، إذا كانت راغبة وقادرة على استغلالها، لإضعاف تصميم بعض الأنظمة الأكثر إثارة للاحتقار في المجتمع الدولي على التحالف مع موسكو، والسماح للنفوذ الروسي بالتوسع داخل حدودها.

إلا أن تأثير الأحداث في سوريا على أهداف روسيا وطموحاتها في أوروبا يبقى محدوداً، فكان الدعم الذي قدمته موسكو لبشار الأسد وطبيعته مختلفين تماماً عن غزوها لأوكرانيا. ورمى التدخل الروسي في سوريا إلى الحفاظ على وجود محدود [قوات برية صغيرة]، مع الاعتماد بصورة رئيسة على قوة جوية ونشر مستشارين وقوات خاصة.

ويعكس هذا النهج إلى حد ما الاعتماد على جيش أصغر حجماً وأكثر تدريباً واحترافاً وأفضل تجهيزا،ً وهو ما كانت تسعى روسيا إلى بنائه قبل عام 2022. لكن في أوكرانيا، ابتعدت موسكو إلى حد كبير من هذا النموذج، وعادت إلى اعتمادها التقليدي على الكمية [عدد القوات] عوض المهارة والنوعية، فنشرت أعداداً كبيرة من القوات العسكرية ذات التدريب المحدود في كثير من الأحيان لاستيعاب نيران القوات الأوكرانية، وإرهاقها من خلال الضغط والاستنزاف المستمرين.

ويضاف إلى ذلك أنه في حين أن الوجود الروسي داخل سوريا كان بلا شك بمثابة انعطاف في السياسة الخارجية لموسكو، خصوصاً أنه جاء بعد نجاح موسكو في مواجهة التدخل الذي قامت به الولايات المتحدة عام 2013، إلا أن ذلك كان مصلحة هامشية في حسابات روسيا. وهذا يختلف بصورة كبيرة عن أوكرانيا، إذ لم يؤكد فلاديمير بوتين على مطالبه فحسب، بل ربط اقتصاد بلاده بالكامل ومستقبلها باستعادة الإمبراطورية.

وفيما يضيف سقوط الأسد انتكاسة إلى سلسلة الانتكاسات والضربات التي استهدفت هيبة روسيا، ولا سيما بعد التوغل الأوكراني في منطقة كورسك الروسية، واعتماد موسكو على تعزيزات كورية شمالية لدعم قواتها، فإن أياً من هذه التحديات لا يشكل في الواقع تهديداً مباشراً لسلطة الكرملين داخلياً، على خلاف الفشل في حرب إعادة احتلال أوكرانيا.

وبعبارة أخرى، في حين تظهر التطورات في سوريا أن روسيا لا تستطيع دائماً التحكم في نتائج الصراعات البعيدة من حدودها، فإن هذا الواقع ينبغي ألا يبعث على كثير من الراحة والطمأنينة في [أوصال] أوروبا.

ففي هذه المنطقة من العالم تواصل روسيا التركيز على إعادة بناء قواتها البرية، في وقت أن قدراتها الجوية والبحرية ما زالت سليمة إلى حد كبير جراء طبيعة الصراع في أوكرانيا. ويجمع قادة الدفاع والاستخبارات الأوروبيون على أن أهداف موسكو تمتد إلى ما هو أبعد من أوكرانيا.

الخلاصة الرئيسة لما حدث في سوريا، التي أكدتها أوكرانيا بصورة أكبر على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة، أن روسيا وحلفاءها ليسوا عصيين على الهزيمة، وأنه يمكن وضع حد لاندفاعهم نحو تحقيق أهدافهم من طريق مقاومة حازمة. وهذا بمثابة ناقوس خطر آخر للمملكة المتحدة ودول أوروبا الغربية لتعزيز دفاعاتها، إذا كانت ترغب في إحباط طموحات فلاديمير بوتين.

© The Independent

————————–

هل من أفق للأكراد في سوريا بعد الأسد؟/ مارك ألموند

انهيار نظام الأسد كشف عن حقيقة قاسية وهي أن سوريا التي نراها على الخرائط مجرد وهم

السبت 14 ديسمبر 2024

يواجه الأكراد في سوريا والمنطقة تحديات كبيرة بسبب التوازنات الجيوسياسية المعقدة والمصالح المتضاربة للقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل. رغم مطالبهم الطويلة بالاستقلال أو الحكم الذاتي، فإنهم يعانون من ضغوط سياسية وعسكرية متزايدة، ويظل مصيرهم غير محدد في ظل التحولات الإقليمية والدولية.

ترى مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية أن عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض يشكل تهديداً وشيكاً للتوافق الثنائي الحزبي في قضايا السياسة الخارجية.

كان ينظر إلى سياسة جو بايدن باعتبارها عودة إلى النهج “الطبيعي” في السياسة الخارجية بعد الاضطرابات التي شهدتها إدارة ترمب الأولى. فبايدن انتقد بشدة الكرملين، وكان داعماً قوياً لإسرائيل. كما زاد الضغط على الصين ولم يخفف منها على كوريا الشمالية.

ولكن، في منطقة واحدة من العالم ــ وهي منطقة حيوية بالنسبة لأمن أولئك الذين يعيشون فيها في الأقل ــ خالفت إدارة الرئيس بايدن تقليداً متبعاً في السياسة الخارجية الأميركية يعود تاريخه إلى عام 1919. وفيما لم يتبق على عهد الرئيس بايدن في السلطة إلا أقل من ستة أسابيع في البيت الأبيض [يمكنه خلالها] أن يتخلى عن الأكراد.

منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، أطلق رؤساء الولايات المتحدة من الحزبين الرئيسين تصريحات تؤكد حقوق الأكراد في الحصول على دولة مستقلة أو في الأقل حكم ذاتي في المناطق التي يعيشون فيها بكثافة في دول مثل تركيا، وإيران، والعراق، وسوريا.

وعلى غرار الشعب اليهودي قبل إقامة دولة إسرائيل عام 1948، فإن الأكراد يشكلون مثالاً كلاسيكياً على “الأمة من دون دولة”. 

قبل أكثر من قرن بقليل، وبفعل الحماسة التي أثارتها دعوة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون إلى تقرير المصير عقب انهيار الإمبراطوريات الكبرى عام 1918، حمل وفد كردي من الإمبراطورية العثمانية المنهارة نسخة من نقاط ويلسون الـ14، وضعوها داخل مصحفهم، وانطلقوا مليئين بالأمل إلى مؤتمر باريس للسلام، لكن ما واجهوه كان خيبة أمل قاسية.

وزير خارجية ويلسون في حينه، روبرت لاسينغ، كان قد اعترف بعد ذلك أنه ورئيسه وقادة الحلفاء الآخرين، لم يكن لديهم أدنى فكرة عن عدد “الأقليات” العرقية والدينية المختلفة التي كانت تضمها شعوب كل من الإمبراطوريات العثمانية وهابسبورغ والإمبراطورية الروسية، والذين طالبوا الرئيس ويلسون بتطبيق حق “تقرير المصير” لصالحهم.

كما يظهر بوضوح في سوريا اليوم، تقدمت العرب (السنة والشيعة) والأكراد، إضافة إلى التركمان والأرمن (في الأقل من نجا منهم عام 1915)، بمطالب متنافسة على الأراضي نفسه.

أما المشكلة الأكبر بالنسبة لواشنطن، في الماضي كما هي الحال الآن، فهي أن القوى الكبرى المتحالفة معها، التي لم تكن تكترث كثيراً بحقوق الأقليات ولا بمبدأ تقرير المصير، كانت تسعى إلى استخدام الأراضي المأهولة بالأكراد أو الجماعات الأخرى لتحقيق أهدافها الإمبريالية والاستراتيجية.

في عام 1919 كانت للبريطانيين والفرنسيين طموحاتهم الكبرى، كما هو الحال اليوم بالنسبة إلى الأتراك والإسرائيليين، إذ وضعوا للسكان في سوريا، في أفضل الأحوال، دوراً ثانوياً يخدم خططهم. وإذا كان نظام الأسد قد حكم يوماً ما دولة تعمل بكامل أجهزتها، على رغم كل مساوئها، فإن انهياره أفسح المجال لحقيقة قاسية مفادها أن سوريا المرسومة على الخرائط والموجودة في مقعد الأمم المتحدة ليست سوى وهم.

كل الأنظار تتجه اليوم إلى دمشق ومسألة وصول جماعة “هيئة تحرير الشام” كحكام جدد، وربما جهاديين متجددين. لكن في أنحاء سوريا الأخرى، تعمل مجموعات مسلحة أخرى على ترسيخ وجودها كحكام محليين أو تخوض صراعات مع منافسين لتحقيق ذلك الهدف.

لقد أدى تركيزنا على ما يجري فقط في العاصمة السورية إلى تشتيت أنظارنا عما يجري من حروب أهلية متصاعدة في أماكن أخرى من سوريا، وكل الألعاب الجيوسياسية المختلفة التي تلعبها الجارتان الكبيرتان، إسرائيل وتركيا.

وكان إضعاف إسرائيل لحليف الأسد “حزب الله” في الأسابيع التي سبقت الانتفاضة السورية الأخيرة، ترك إيران عاجزة عن التدخل. وتلى ذلك قيام إسرائيل بتدمير إرث نظام الأسد العسكري.

لم تقتصر الضربات الجوية الضخمة [التي نفذتها إسرائيل على مدى الأيام الماضية] على نزع سلاح سوريا كدولة بالكامل، بل حرمت أيضاً أي جماعات معادية لليهود من امتلاك مزيج من الأسلحة الكيماوية المتبقية والذخائر العادية أو الصواريخ اللازمة لمهاجمة إسرائيل.

لكن الغارات الإسرائيلية أجهضت أيضاً فرصة جماعات مثل الأكراد لوراثة أنظمة الدفاع الجوي أو الأسلحة الأخرى التي كان يمكن أن تحميهم من عدوهم الرئيس، تركيا، وحلفائها المحليين من العرب والتركمان في شمال شرقي سوريا.

تتمتع إسرائيل بعلاقات جيدة مع الأكراد الذين يحكمون مناطق في شمال العراق، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن كليهما يخشى تهديدات إيران المجاورة، لكن إسرائيل لا تثق أيضاً في الزعيم التركي رجب طيب أردوغان. وعلى عكس إسرائيل، تمتلك تركيا أقلية كردية كبيرة تفوق عدداً المناطق الكردية في شمال العراق وسوريا.

فأي حكم ذاتي قابل للتطبيق على مناطق أكراد تركيا من شأنه أن يهدد وحدة الأراضي التركية. والأمر نفسه قد ينطبق على كل من إيران ومن يحكم في بغداد أو دمشق.

فمنذ عهد الرئيسين الأميركيين ترومان وأيزنهاور، مروراً بعهد كل من الرئيس نيكسون، ووصولاً إلى عهد الرئيس بوش الابن، كثيراً ما لمحت واشنطن إلى دعم حقوق الأكراد… قبل أن تتراجع عن ذلك.

خلال الحرب الباردة، كان بعض قادة الأكراد يوصمون بأنهم شيوعيون – و”أبو”، كما يعرف عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني التركي وفروعه السورية، كان كذلك بالنسبة إلى الأميركيين بالتأكيد. لاحقاً، وبعد انتهاء الحرب الباردة، لم يعد التركيز على اتهامهم بالشيوعية، وإنما أصبح ينظر إلى الأكراد كعائق أمام تنفيذ مخططاًت إعادة تقسيم المنطقة أو حتى كعقبة أمام تحقيق “السلام” في المنطقة.

تقوم الولايات المتحدة بحماية الأكراد في الأجزاء الشمالية والشرقية من سوريا، منذ أن بلغت المعارك الطاحنة ضد تنظيم “داعش” ذروتها عام 2017.

ما تقوم به القوات الجوية الأميركية ونحو 900 جندي على الأرض السورية هو حماية الأكراد ليس من “داعش” أو حتى من قوات الأسد، بل يحتاج الأكراد إلى رعاية أميركية تحميهم من حليف واشنطن في “الناتو”، تركيا.

وكان القتال الوحشي حول مدينة منبج قرب الحدود التركية وفي مناطق الجنوب الشرقي في دير الزور على نهر الفرات قد أدى للتضييق على ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية الكردية (قسد)، من قبل القوات المتحالفة مع تركيا، تزامناً مع سماح الجيش الأميركي لهيئة تحرير الشام بالاستيلاء على حقول للنفط في المنطقة، وحقول زراعية واسعة انتزعت السيطرة عليها من الأكراد.

ولا يزال من غير المؤكد بعد ما إذا كانت واشنطن ستتخلى نهائياً عن الأكراد، أم أنها ستقوم في حماية إقليم صغير لهم.

إلا أن التودد الأميركي إلى هيئة تحرير الشام التي كانت في الماضي معادية للنموذج العلماني الذي يطرحه الأكراد ــ خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة ــ يثير مخاوف من أن تتخلى واشنطن عنهم مرة أخرى لأسباب جيوسياسية براغماتية.

هل سيميل أحدهم على كتف جو بايدن قريباً ويقول له “سيدي الرئيس، لقد وصلت في فترة رئاستك إلى المرحلة التي يمكنك فيها خيانة الأكراد”؟ أم أن بايدن سيكسر القالب ويغادر البيت الأبيض بوعد واحد في الأقل تم الوفاء به ولو جزئياً؟

أم أن مسألة أكراد سوريا ستكون واحدة من المسائل العالقة على طاولة الرئيس دونالد ترمب؟

مارك ألموند هو مدير معهد أبحاث الأزمات، أكسفورد

© The Independent

—————————-

السقوط الكبير الثالث: قوة التنوع السوري/ رفيق خوري

بدا نظام الأسد كمن يعيش على وقت مستقطع من مباراة إقليمية ودولية حامية

 السبت 14 ديسمبر 2024

أكبر خطر حالياً هو تجاهل التنوع السوري عند الإدارة الفعلية للوضع الجديد، فضلاً عن التصور أنه من الممكن جعل المرحلة الانتقالية مجرد انتقال من إمارة إدلب إلى حكم دمشق.

ليس أهم من سقوط نظام الأسد سوى مرحلة ما بعده وطريقة إدارتها، ولا من الصدف أن تتكرر علامات الأزمنة في السقوط الكبير ثلاث مرات، وفي كل مرة كان الاهتمام يتركز على لعبة الأمم والأطراف الإقليمية والدولية اللاعبة فيها لأسباب تتعلق بالأهمية الجيوسياسية والإستراتيجية لسوريا في موقعها الجغرافي البالغ التأثير في المعادلات بالمنطقة، لكن السبب المحلي البارز إلى جانب لعبة الأمم هو الخوف لدى الأنظمة التوتاليتارية من التنوع السوري سياسياً واجتماعياً، والسعي إلى وضعه في إطار ضيّق بالقوة العسكرية والأمنية أو أقله بالجهل والعجز عن القراءة في التاريخ.

فالتنوع السوري أقوى من أية قوة إيديولوجية مسلحة، ولو حكمت وتحكمت أعواماً طويلة، والدرس مكتوب على الجدار منذ السقوط الكبير الأول ثم الثاني ثم الثالث، لا تتجاهل التنوع.

‎ يوم سلّم الرئيس السوري شكري القوتلي في فبراير (شباط) 1958 سوريا إلى دولة الوحدة العربية قال للرئيس جمال عبد الناصر، “أترك لك في سوريا 5 ملايين مواطن، بعضهم يدعي أنه مؤهل للرئاسة أكثر مني، وبعضهم يتصور أنه في مرتبة الأنبياء، وبعضهم الآخر يصعد نحو الآلهة، وهناك من يعبد الله والشيطان معاً”.

لكن النظام الأمني المصري أصر على حل الأحزاب وإلغاء النظام الديمقراطي وإدارة “الإقليم الشمالي” بالاستخبارات واستعلاء المسؤولين المصريين، لم يرد أن يفهم التنوع السوري، فجاءه السقوط الكبير لدولة الوحدة في سبتمبر (أيلول) 1961، من حيث كان هناك من يراهن على انضمام بلدان أخرى إلى الوحدة المصرية-السورية، وعادت سوريا إلى استقلالها.

‎وخلال الدخول العسكري السوري إلى لبنان في بدايات الحرب ضمن اتفاق مع أميركا و”تفاهم الخطوط الحمر” مع إسرائيل بضمان واشنطن، قال مسؤولون أميركيون لمسؤولين سوريين، “لا تضغطوا على لبنان كثيراً ولا تبقوا فيه طويلاً”، لكن إغراء التحكم ثم الحكم في لبنان غلب على المسؤولين في دمشق، سواء لجهة توظيف “الساحة” اللبنانية في ألعاب سوريا الإستراتيجية مع الكبار وحرصها على ضبط منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات، أو لجهة المنافع المادية الكثيرة.

وهكذا اشتد الضغط على اللبنانيين وطال البقاء المتشدد في إدارة مجتمع لبناني متنوّع، فكان التفاهم الأميركي-الفرنسي على إنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان بمواكبة “ثورة الأرز” بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، وكان الخروج السوري عام 2005 السقوط الكبير الثاني الذي أفقد دمشق توازنها وقادها إلى حرب سوريا الطويلة.

‎أما السقوط الثالث، وهو الأكبر، فإنه اختفاء النظام، لا مجرد سقوطه، فلا جيش قاتل عنه، ولا أخذ السقوط سوى مشوار الطريق من إدلب إلى دمشق على أيدي فريق موضوع على “لائحة الإرهاب”، وكان التصوّر أن النظام بدأ معركة لإخراجه من إدلب نفسها، رئيس ترك جيشه وشعبه وهرب إلى موسكو، ولا صوت ارتفع ضد تدمير إسرائيل الأسلحة الإستراتيجية للجيش السوري وعملياً منع قيام دولة سورية في المستقبل، لا بل صح قول لينين “إن ما يحتاجه المرء لإسقاط نظام ليس منظمة قوية بل منظمة ثوريين”.

 والأسباب معروفة، نظام دفع شعبه إلى الإفلاس وأصر على إلغاء تنوعه بالقمع، نظام رفض أن يحاور المعارضين ثم تراجع عن قتال الأعداء، نظام صار من الصعب على روسيا المشغولة في أوكرانيا، وعلى إيران المضروبة في غزة ولبنان إنقاذه كما حدث في الماضي، نظام يعيش على وقت مستقطع من مباراة إقليمية ودولية حامية، حيث الفوز بسوريا يبدل اللعبة في المنطقة، ونظام صار خارج العصر من دون أن يدرك أن الزمن تغيّر واللعبة انتهت.

‎ وأكبر خطر حالياً هو تجاهل التنوع السوري عند الإدارة الفعلية للوضع الجديد، فضلاً عن التصور أن من الممكن جعل المرحلة الانتقالية مجرد انتقال من إمارة إدلب إلى حكم دمشق، وفضلاً أيضاً عن تبسيط الحلول وسط تعقيدات محلية وإقليمية ودولية شديدة، فلا تركيا تستطيع أن تكون الرابح الوحيد، ولا روسيا التي وصلت إلى المياه الحارة وحققت حلم بطرس الأكبر يمكن أن تتخلى عن قاعدتيها الجوية والبحرية في حميميم وطرطوس، مع أن بين المحللين الروس من دعا إلى ترك القاعدتين اللتين لا “قوة برية” تدافع عنهما، ولا قوة جوية كافية لحمايتهما، لا أميركا هي مجرد قوة لحماية الكرد وقتال “داعش”، ولا إنكار الواقع يلغيه، بالنسبة إلى إيران الخاسرة التي يحاول المرشد الأعلى علي خامنئي تقوية معنوياتها بالقول إن طهران “لن تتأثر بما حدث في سوريا” وإن المقاومة ستكون “أقوى”، فالمهمة هي توسيع الحكم في الداخل، وفتح العلاقات العربية والدولية على مداها الواسع لكي يصبح الوضع السوري في مكانه الصحيح، و”العدل من دون القوة عاجز، والقوة من دون العدل استبداد” كما قال بسكال.

———————

سوريا ما بعد الأسد.. أربعة تحديات عاجلة/ جيفري كمب

14 ديسمبر ,2024

لعل سقوط نظام بشار الأسد في سوريا هو الحدث الاستراتيجي الأكثر أهمية الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط منذ الثورة الإيرانية التي اندلعت عام 1979، غير أن الثورات نادراً ما تنتهي بانتقال سلس إلى شكل جديد من أشكال الحكم. وإذا كانت الإطاحة السريعة بالأسد لم تتسبب، حتى الآن، في سقوط سوى عدد قليل من الضحايا، فإن التاريخ يقدّم صورةً مختلطة لما يمكن أن يحدث بعد ذلك. فالثورة الإيرانية، على سبيل المثال، أعقبتها صراعاتٌ داخلية عنيفة، وفي غضون عام، وجدت الجمهورية الإسلامية الجديدة نفسَها في حرب شاملة مع العراق. كما أن الثورة التي شهدتها أوكرانيا في أوائل عام 2014 وأطاحت رئيسها الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، سرعان ما أفضت إلى تحرك روسيا نحو شرق أوكرانيا، وضمها شبهَ جزيرة القرم.

والواقع أن التحدي الأول الذي يواجه القادة الجدد في دمشق يتمثّل في إقناع القوى الخارجية الرئيسة بأن المخزون الضخم من الأسلحة، بما في ذلك الأسلحة الكيماوية، والصواريخ الباليستية التي خلّفتها قوات الأسد وراءها، آمنة ولن تقع في أيدي جماعات متطرفة، مثل تنظيم «داعش» الإرهابي، أو أي جماعة أخرى قد تكون له أجندات مختلفة عن أجندات القيادة الحالية. وقد شرعت إسرائيل، والولايات المتحدة في استخدام القوة العسكرية لتدمير العديد من مخزونات الأسلحة التابعة للأسد.

والتحدي الثاني، الذي لا يقل أهمية، هو إقناع الأقليات الرئيسة، بما في ذلك الطائفتان العلوية والمسيحية اللتان دعمتا الأسد، بأنهما لن تتعرضا للأذى. ولتحقيق ذلك، سيكون حرياً بالمسؤولين الجدد في دمشق أن يتعلموا من دروس العراق حينما أطاحت الولايات المتحدة صدام حسين في عام 2003. إذ عمد المحتلون الأميركيون بغباء إلى حل الجيش العراقي، وحظر حزب البعث الذي كان ينتمي إليه العديد من موظفي الخدمة المدنية الرئيسيين. والحال أنه من دون بيروقراطية فعالة، لا يمكن لأي مجتمع أن يستمر طويلاً. كما أن الدرس المستفاد من احتلال الحلفاء لألمانيا واليابان عام 1945 كان أهمية الحفاظ على الوظائف اليومية للمجتمعات الكبيرة والمعقدة، وهذا لا يتأتى إلا من خلال الإبقاء على خدمات الموظفين الألمان واليابانيين.

والتحدي الثالث، ولا سيما بالنظر إلى المعاملة المروعة التي عاملت بها «طالبان» المرأة بعد العودة المظفّرة للحركة إلى السلطة، في عام 2021، هو منع الأيديولوجيا المتطرفة لتنظيمات الإسلام الراديكالي من ممارسة الفصل على أساس النوع ضد المرأة. ولو حدث هذا الأمر في سوريا، فإن النظام الجديد سيبدّد أي أمل في التعاون والاعتراف الدولي والمزايا التي يمكن أن تترتب على ذلك في حال عامل النساء والأقليات بمساواة واحترام.

أما التحدي الرابع، فهو أن تتوصل القوى الخارجية إلى نوع من التسويات والتوافقات بشأن ما تتوقعه من النظام الجديد. ومن الأمور الأساسية لتحقيق هذا الهدف التوصل إلى تفاهم بين تركيا ودول الخليج العربي والولايات المتحدة وإسرائيل بشأن كيفية التعامل مع إيران وروسيا. فهذان البلدان كلاهما رأى نفوذه ينهار في سوريا، وهما حساسان تجاه ضغوط القوى الأخرى عليهما للتخلي عن طموحاتهما الاستراتيجية في المنطقة. وفي هذا الصدد، سيتعين على إيران أن تدرس ما إن كانت خسارتها لسوريا، ولوصولها المباشر إلى «حزب الله» في لبنان سيحفّزها على تسريع برنامجها للأسلحة النووية، أو ربما تكون هذه لحظة مناسبة لها للسعي إلى تحقيق تقاربٍ مع إدارة ترامب القادمة من أجل تحسين العلاقات عن طريق الدبلوماسية، وبالتالي السعي للحصول على تخفيف لبعض العقوبات المفروضة عليها. وهذا سيقتضي من إيران تجميد برنامجها النووي، والسماح باستئناف عمليات التفتيش الشفافة من قبل الأمم المتحدة.

المشكلة الروسية قد تكون الأكثر صعوبة. ذلك أنه من دون الوصول إلى سوريا، فإن طموحات روسيا في أفريقيا ستتعطل، ووصولها الحيوي إلى موانئ المياه الدافئة والمطارات على الساحل السوري المطل على البحر الأبيض المتوسط قد ينتهي. والحال أن مثل هذا الحرمان سيجعل موسكو أكثر تصميماً على الضغط من أجل تحقيق النصر في أوكرانيا، غير أنها قد تجد نفسَها في مواجهة أوروبا أكثر اتحاداً وإدارة ترامب الجديدة التي قد تكون أقل «موالاة لروسيا» مما يعتقده بعضهم.

* نقلا عن “الاتحاد”

————————————

هل علينا أن نصدق أسئلة القلقين على مستقبل سوريا؟/ إيلي القصيفي

كيف ستتعامل إيران مع “النظام الجديد”؟

14 ديسمبر 2024

على الرغم من أن السؤال عما بعد سقوط نظام آل الأسد في سوريا سؤال مشروع بعد نحو ستين عاما من حكمه، وبعد 13 عاما من الحرب الأهلية، فإن هذا السؤال نفسه يتحول إلى سؤال فاقد لأي حس سياسي وأخلاقي، عندما يصدر عن دفاع ضمني عن النظام المخلوع، بحجة أنه كان “مضمونا” أكثر من المطيحين به.

في الواقع إن مجرد القبول بمناقشة حجة كهذه، يكاد يكون سقوطا أخلاقيا وسياسيا، فأن يبقى أحد يدافع عن هذا النظام، الذي لم يخطئ من وصفه بالنازي، ولم يخطئ من وصف معتقلاته بالمحارق التي أقامها النازيون ليهود أوروبا، أن يبقى أحد بعد كل هذه الصور والفيديوهات من سجن صيدنايا، الذي لا يماثل فظاعته سجن حول العالم في الـقرن الواحد والعشرين، فهذا يظهر حجم المشكلة السياسية والأخلاقية في بلداننا، والتي لا يختصرها أي انقسام سياسي، كما لو أن هذا الانقسام، يحصل على أجندات سياسية غير متفاوتة في تبنيها لسلم قيم سياسية واجتماعية، تتصدره المساواة القانونية للأفراد في حقوقهم الأساسية.

والمستغرب أن كثيرين ممن انتقلوا من ولائهم الأعمى للنظام، إلى التنصل منه لم يفعلوا ذلك بحجة ما اكتشفوه في معتقلاته، بل لأنهم اعتبروه متقاعسا ومتواطئا، وهذا سبب إضافي للتفكير في معايير الانحياز السياسي في بلداننا، وفي معاني السياسة والدولة والسلطة والعقد الاجتماعي، علما بأن مآسي السجون السورية لا يفترض أن تكون هي أول ما يستدعي الموقف من هذا النظام، إذ إن الموقف منه ينبغي أن يكون سابقا عليها بفعل الأدوات التي استخدمها على مدى نحو ستة عقود لحكم سوريا، وبالأخص منذ عام 2011 عندما قابل مطالب السوريين بالتغيير بالحديد والنار.

لذلك فإن سقوط نظام آل الأسد هو فرصة كبيرة وغير مسبوقة للسوريين- وللبنانيين والفلسطينيين أيضا، بحكم أنهم جميعا عانوا كلٌ في سياقه من سياسات هذا النظام، لإعادة بناء حياتهم بمعانيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بعد زمن طويل من تشويه السياسة والدولة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية.

وإذا كانت رواسب الماضي في سوريا بعد كل هذا الظلم والحروب والتجويف للمجتمع السوري ثقيلة جدا، وسيكون البعض منها حاضرا حكما في المرحلة الانتقالية، فإن التحدي الأساسي أمام السوريين الذين ملأوا الساحات فرحا بسقوط الأسد، هو في تجاوز هذه الرواسب والعبور إلى واقع سياسي واجتماعي اقتصادي يتقاطع معها، ونجاح هذا المسار السوري لن تقتصر نتائجه على سوريا، بل سيشمل كل الحيز الجغرافي والسياسي الذي كان للنظام المخلوع تأثيرات كبيرة فيه، وهو ما سيحكم على إمكان إعادة صوغ السياسة ومرادفاتها في بلداننا من عدمها.

والحال فإن الخائفين من المرحلة المقبلة في سوريا ينسون أو يتناسون أو لا يدركون أساسا أن المستقبل كان معدوما في سوريا، طيلة حكم النظام المخلوع الذي لم يكن يسعى إلا إلى تأبيد الماضي، وتكراره بنسخ مأساوية، لا يدركون أن المستقبل السوري بدأ الآن، بدأ من لحظة فرح السوريين، بسقوط نظام آل الأسد الذي حكمهم 54 عاما، فأعاد هندسة المجتمع السوري بما يلائم حكمه قسرا عن السوريين.

الآن أصبح المستقبل ممكنا في سوريا، وأصبح التفكير فيه ممكنا كفرصة للسوريين لإعادة بناء حياتهم وعلاقاتهم السياسية والاجتماعية، بعيدا عن العنف والترهيب والطائفية والمافياوية، وهي مهمة شاقة لكنها غير مستحيلة رغم التحديات التي تواجهها من الداخل والخارج. الداخل الذي يخرج من تحت أنقاض نظام احتكر السياسة، وأمات المجتمع من خلال خنق تعدديته وإعادة إنتاجها بصورة مشوهة وهزلية، فلم يكن اعتداده “العلماني” وادعاؤه بحماية الأقليات، سوى اعتداد وادعاء وظيفيين كغطاء لتطييف ممنهج وخطير للمجتمع والدولة والجيش. كذلك فإن الداخل الخارج من حرب أهلية دامت أكثر من عقد مع كل ما ولدته من مظالم وأحقاد، يكثف التحديات أمام الحكم الجديد لمعالجتها واحتوائها، ومنع تحولها إلى عمليات ثأر مفتوحة تدفع بسوريا نحو الفوضى والحرب الأهلية من جديد.

وإذا كان من الصعب القول للسوريين الآن، وهم لا يزالون يلتقطون أنفاسهم ما ينبغي عليهم فعله وما يجب عليهم تجنبه، فإن شدة تأثير مآلات الحالة السورية الجديدة على المنطقة تجعل التفكير في المسألة السورية مسألة مشرقية أو إقليمية، وليست سورية وحسب. ولذلك فأقل الإيمان أن نتطلع ألا يتبنى “النظام الجديد” أي ديناميات سياسية واجتماعية، تعيد إنتاج الطائفية في البلاد وترسخها، كما لو أن الإطاحة بنظام آل الأسد هو انتصار طائفة على الطوائف الأخرى وليس انتصارا للسوريين جميعا، علما أنه تتجمع حتى الآن مؤشرات عديدة على أن سوريا الجديدة لا تسلك هذا الطريق.

فبغير إدارة واعية وعقلانية للتعددية السورية الطائفية والإثنية، فإن “النظام الجديد” سيواجه مبكرا سؤال الشرعية والذي يؤدي الفشل في الإجابة عليه إلى التعثر والتخبط في إدارة الدولة، لأنه يحولها إلى أداة مركزة للتعويض عن اختلال الشرعية، كما حصل في ظل النظام المخلوع. أي يحول الدولة إلى أداة سلطوية بحتة من دون أي أفق تمثيلي وإصلاحي.

لكن تعدد الفصائل بمشاربها وأولوياتها يجعل التركيز على الأبرز بينها، أي جماعة أحمد الشرع، وكأن بيدها كل شيء فيه الكثير من المبالغة وطلب المستحيل، خصوصا أن الانتقال من الثورة إلى الدولة لن يكون سهلا بالنظر إلى الحسابات الخاصة لكل فصيل من الفصائل الرئيسة.

أجندات الخاسرين

كل تلك التحديات الداخلية التي يواجهها السوريون حاليا، على أهميتها، فإنها لا تحدد وحدها المستقبل السوري، أو بالأحرى فإنه لا يمكن الفصل بين الموقف الإقليمي والدولي والتطورات الداخلية السورية، على ما بين الأمرين من تداخل ومن تأثير متبادل، إذ إن سوريا الآن في أمسّ الحاجة إلى دعم عربي وإقليمي ودولي لنيل الاعتراف السياسي، وإعادة إطلاق عجلة الاقتصاد. ولا شك في أن هذا الدعم سيكون حاسما في تحديد معالم النظام الجديد الذي سيتوقف نجاحه على مقدار استيعابه للأولويات الخارجية في سوريا، ومقدار فهمه لموازين القوى المتغيرة في المنطقة، والتي كان من نتائج تغيرها أيضا سقوط نظام الأسد. أي إن نجاح الحكم الجديد سيتوقف بدرجة كبيرة على خفض حساسيته تجاه التعامل مع هذه الأولويات، وإدارتها بما يخدم المصلحة الوطنية السورية مستقبلا. مع العلم أن استمرار النظام القديم طيلة هذه المدة رغم كل عنفه وارتكاباته ضد السوريين، لم يكن إلا نتيجة عدم رفع الغطاء الدولي عنه لغايات متصلة بالأولويات الدولية في المنطقة.

وفي السياق ثمة سؤال يطرح نفسه عن كيفية تعامل الخاسرين من إسقاط نظام الأسد، وفي مقدمتهم إيران و”حزب الله” فضلا عن فلول نظام الأسد، مع المرحلة المقبلة في سوريا، في ظل الشكوك الكبيرة في أنهم سيسلمون بقواعد اللعبة الجديدة في دمشق. ينبغي هنا النظر إلى التباين داخل إيران في قراءة الحدث السوري، بين من يعتبر أن سقوط نظام الأسد هو خسارة للعمق الاستراتيجي لإيران، ومن يقلل من حجم التأثير الذي سيتركه رحيل الأسد على النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ما عبر عنه المرشد الإيراني علي خامنئي الذي حاول رمي المسؤولية عما حدث في سوريا على الجيش السوري، وأيا ما يكن من أمر، فإن المسألة السورية قد تحولت إلى مسألة داخلية في إيران بين أجنحة السلطة فيها، وهذا لن يكون بلا تأثير على المشهد السياسي الإيراني، وعلى كيفية تصرف طهران مع الواقع الجديد في سوريا.

فهل يحاول “الحرس الثوري” ومعه “حزب الله” أن يعوض خساراته في سوريا؟ أم إن سياسة الرئيس مسعود بيزشكيان حيال سوريا، والتي عبرت عنها الخارجية الإيرانية بعد ساعات من سقوط الأسد من خلال توقع استمرار العلاقات مع دمشق، بناء على “نهج بعيد النظر وحكيم” للبلدين، ستكون هي الحاسمة في الاستراتيجية الإيرانية للتعامل مع سوريا الجديدة؟

في الواقع من الصعب الإجابة على هذا السؤال منذ الآن، خصوصا أن تعامل إيران مع الوضع السوري مرتبط بتعاملها مع ملفات المنطقة ككل، خصوصا بعد الضربات القاسية التي تلقتها أذرعها في المنطقة، والتي أدت حكما إلى تراجع نفوذها الإقليمي، بل إلى بروز تهديدات أكبر على الداخل الإيراني نفسه، وبالأخص فيما يتعلق بإمكان توجيه ضربات إسرائيلية وربما أميركية– بعد دخول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض- إلى البرنامج النووي الإيراني عصب النظام الرئيس.

لكن يمكن توقع سيناريوهين هنا، فمن ناحية ربما يسعى “الحرس الثوري” إلى تخريب الوضع الجديد في سوريا وبأدوات مختلفة، سياسية وإعلامية من خلال شيطنة القوى الجديدة الحاكمة ووصمها بالإرهاب، والأهم السعي إلى تنفيذ أجندات أمنية في الداخل السوري، تماما كما حصل بعد الغزو الأميركي للعراق، ولكن هذه المرة بالاتجاه المعاكس.

وقتذاك نفذ نظام الأسد المخلوع وإيران خطة مشتركة لإرسال المقاتلين من “القاعدة” والمتطرفين بأسلحتهم ومتفجراتهم إلى العراق، لخلق الفوضى وتخريب الأجندة الأميركية في “العراق الجديد” والتي لم تكن مثالية بطبيعة الحال، ولكن إيران نفسها كانت أكثر المستفيدن منها والمتقاطعين معها. فضلا عن أن بشار الأسد قد لاذ أكثر بالإيرانيين حينها، خشية الإطاحة به بعد صدام حسين. أما الآن فيمكن لهؤلاء المتضررين استخدام الأراضي العراقية للارتداد على الداخل السوري وتخريبه من جديد، ولكن هذا السيناريو يتوقف على أمرين:

1-    مدى استعداد الحكومة العراقية للتعاون مع إيران في هذه الخطة، خصوصا أنها تدير توازنا صعبا ومعقدا بين طهران وواشنطن على أراضيها، وتخشى من تبعات تحدي الأميركيين.

2-    الاستراتيجية الإيرانية للتعامل مع المتغيرات على الساحة الإقليمية في المرحلة المقبلة، فهل ستتجه طهران إلى الانكفاء إلى أولوياتها الداخلية، والذهاب إلى تفاهمات مع الغرب، أم إنها ستحاول تعويض خساراتها الإقليمية بشتى الطرق؟

أما السيناريو الثاني فهو اتباع إيران سياسة احتوائية مع القوى الإسلامية في سوريا، من خلال تقديم التقاطعات معها في منظومة القيم والعداء للغرب وإسرائيل. ولكن غالب الظن أن قابلية هذه القوى للانجرار إلى هذا المنطق الإيراني، ستكون ضعيفة ومحدودة، بعد الاشتباك الطويل والدامي مع طهران وحلفائها في سوريا.

ولا شك أن جزءا من كيفية تعامل إيران مع الوضع السوري، سيتوقف على علاقتها مع تركيا، التي تقدم نفوذها في سوريا على حساب النفوذ الإيراني، مع العلم أن العلاقات بين البلدين شهدت طيلة الفترة الماضية تقاطعات كثيرة، خصوصا في ظل الحجم الكبير للتبادل التجاري بينهما.

من جانب آخر فإن توغل إسرائيل في سوريا، وقصفها البنى التحتية العسكرية للجيش السوري عقب سقوط الأسد، واعتبار إسرائيل نفسها في حل من اتفاق “فك الاشتباك” في الجولان، يبرز كتحد رئيس أمام النظام الجديد في سوريا، والأهم أمام تركيا التي سبق أن حذر رئيسها من احتلال إسرائيل لدمشق، كما سربت مخاوف تركية من استهدافات إسرائيلية لتركيا، وهو ما يجعل من ضبط إسرائيل في الأراضي السورية، ودفعها إلى العودة للالتزام باتفاق “فك الاشتباك” أولوية تركية أيضا، باعتبار أن أنقرة ستحاول منع إسرائيل من العبث بـ”حديقتها الخلفية”.

كذلك ثمة سؤال يتعلق بـ”حزب الله” بعد أن أصبحت سوريا خاصرته الرخوة، بعد عقود من اعتبار النظام “البعثي” المخلوع أن لبنان خاصرته الرخوة. فكيف سيتصرف “حزب الله” بتوجيه إيراني في المرحلة المقبلة، بعدما أضعفته الضربات الإسرائيلية، وقطعت طريق إمداده عبر سوريا؟ فهل يكتفي بمحاولة التعويض في لبنان من خلال السعي من جديد إلى التحكم بمفاصل الحكم وتوجهات الدولة؟ أم إنه أيضا سيحاول التعويض في سوريا من ضمن الخطة الإيرانية المحتملة هناك؟ أيا ما يكن من أمر فإن الأنباء عن هروب فلول النظام الأسدي المخلوع إلى لبنان، وارتباك الدولة في التعامل معهم، يؤكدان أن البلد لا يزال بشكل أو بآخر امتدادا لسوريا القديمة. وهذا تحد لبناني كبير، في حال أراد اللبنانيون أيضا الاستفادة من الفرصة السورية التاريخية بإطاحة نظام آل الأسد، الذي استنسخ على مدى عقود أدواته وسياساته وخطابه داخل النظام اللبناني.

بيد أن استغلال الفرصة السورية، يتوقف بالدرجة الأولى على القدرة على تجاوز الصراع، الذي كان قائما طيلة الفترة الماضية مع إيران وأذرعها، باعتبار أن استمرار هذا الصراع هو أداتهم الوحيدة، لإعادة إنتاج نفوذهم في المنطقة، والأهم لمنع انطلاق مسار سياسي جديد يتطلع إلى الأولويات الداخلية للبلدان التي مزقتها الحروب والاستبداد والفساد، ويعيد الاعتبار لقيم العدالة والحرية، بعد عقود من الجرائم السياسية وغياب العدالة والترهيب. وفي ذلك كله فإن اللحظة السورية هي لحظة حاسمة لا غنى عنها.

المجلة

—————————

السويداء داخل دائرة «التطمينات» وخارجها/ رشا النداف

أولويات اللحظة الراهنة وأسئلة الغد في المحافظة المنتفِضة

14-12-2024

        احتفلت محافظة السويداء كغيرها من المناطق السورية بسقوط نظام الأسد يوم الأحد الماضي، لكن على عكس المناطق التي خرجت حديثاً من قبضة النظام، امتلكت السويداء إمكانية البدء الفوري بتسيير شؤونها الأمنية والخدمية والإدارية، ذلك لأن تواجد الأجهزة الأمنية فيها صوريٌ أصلاً، خاصة بعد الحراك السلمي الذي انطلق في آب (أغسطس) 2023، بالإضافة إلى وجود لجنة سياسية مُنتخَبة من الهيئة العامة للحراك السلمي، وقادرة على البدء فوراً بالعمل. كما أن فصائل السويداء أنهت وجود النظام في المحافظة بنفسها، دون تَدخُّل فصائل «ردع العدوان» وبمؤازرة تقتصر على التنسيق مع «الجبهة الجنوبية» في درعا والقنيطرة.

        يرصد هذا التقرير الحالة المدنية والعسكرية في السويداء ما بعد سقوط الأسد، كما يتأمل في خصوصيتها التي، ربما، تجعل كثراً يعولون عليها في أن تكون شرارة رفضٍ لأي سوريا جديدة لا تحقق آمال جميع السوريين.

        لحظة الحسم

        بعد إعلان غرفة إدارة عملية «ردع العدوان» بدء عملياتها في ريف دمشق، أُعلِنَ من درعا عن تشكيل «غرفة عمليات الجنوب»، وقد اعتبر كثيرون أنها تضم درعا والسويداء والقنيطرة، لكن الجمهورية.نت تواصلت مع عدد من مقاتلي الفصائل المحلية في السويداء، الذين أكّدوا أنه لم يكن هناك تنسيق رسمي وواضح مع «غرفة عمليات الجنوب»، وأن القرار ببدء العمليات العسكرية ضد المراكز الأمنية والجيش في السويداء كان محلياً وناتجاً عن تَسارُع الأحداث. وربما يكون إعلان «غرفة عمليات الجنوب» قد سرّعَ من هذا القرار بحسب من تحدّثتُ إليهم، لكن العملية كانت ضمن إطار «الفزعة» لأنه لا يوجد أصلاً قائدٌ مُوحَّدٌ لفصائل السويداء.

        وبعد سقوط النظام أصبح الجانب الأمني من أكثر الجوانب إلحاحاً، وذلك لحفظ الأمن وضبط السلاح، وعن هذا يقول سقراط نوفل، عضو اللجنة السياسية المنتخبة من هيئة الحراك السلمي في السويداء، في حديث للجمهورية.نت: إن «العمل جارٍ على ضبط السلاح بحيث يتبع للقرار المدني بدل أن نتبع نحن للقرار العسكري»، مُؤكِّداً على تعاون الفصائل، الذي رغم مصاعبة إلا أنه «مُحقَّق ويجري بشكل ايجابي» حسب تعبيره.

        وككل حالة اضطراب واختلال توازن، لا يخلو الأمر من تجاوزات يتم التغاضي عنها، بحسب حجمها، ربما لتفادي أي صدام مسلح بين الفصائل المختلفة، ولكن ضبط الأمن «بحاجة إلى وقت للوصول إلى المثالية» بحسب نوفل، الذي تحدَّثَ عن فكرة بشأن توحيد جميع الفصائل في غرفة عمليات مشتركة، وذلك لأن المحافظة بحاجتهم الآن للقيام بدور إيجابي في حماية المؤسسات، خاصة ملفّات القصر العدلي التي قد يستغلُّ البعض الفوضى لإتلافها، كما المصارف وأماكن تخزين الأموال والمحروقات والآليات.

        «تمتلك السويداء خصوصية نابعة تاريخياً من ثبات الموقف رغم قلة العدد، ومن التمسُّك بالمشروع الوطني كما الأرض، وظهر هذا في تصرّف الفصائل التي ساهمت في تحرير السويداء، حيث أنهم اتجهوا مباشرة إلى دمشق بعد تحرير المدينة، ووصلوها حاملين علم الثورة قبل بيرق الخمس حدود، وهذا كان أيضاً محطَّ ترحيب من قوات ردع العدوان إذ تبادل المقاتلون مخازن السلاح كرمزية تشير إلى أن السلاح حُمِلً لهدف واحد». يُضيف نوفل أن هذا للإشارة والتأكيد على أن «البوصلة دمشق والمعبر دمشق».

        صباح الحرية

        مع توارد أخبار فتح السجون والمعتقلات المركزية في دمشق وريفها، انفتحَ سجن السويداء الكبير على أهلها. السويداء التي ضمّت بحسب التقديرات ما يفوق 60 ألف شخصٍ بين مطلوبين للأفرع الأمنية ومطلوبين للخدمة الإلزامية والاحتياطية، خرج شبابها عابرين طريق السويداء-دمشق الخالي من الحواجز الأمنية في مشهد لا يقل سريالية عن مشاهد عودة النازحين إلى بيوتهم في حمص وحلب وحماة ودمشق. لطالما كانت دمشق شريان حياة السويداء، إذ يعتبرها أهل المحافظة مدينتهم فيما السويداء هي «الضيعة».

        ومع انقشاع الضوء، وخفوت غبار الرصاص والاحتفالات، اتّضحت فوراً معالم العمل الطارئ وأولويات التنظيم المدني للحفاظ على المدينة ومؤسساتها.

        فمع انتشار الفوضى بدأت عمليات نهب وسرقة لبعض محطات الوقود وسيارات شركة الكهرباء ومعمل السجاد، بالإضافة إلى تحطيب جائر وعشوائي في حرش العين على طريق السويداء-صلخد، ما استدعى ضرورة العمل فوراً على تنظيم الفصائل المحلية لنفسها من أجل حماية مؤسسات الدولة والممتلكات العامة والخاصة.

        وبدورهم، بدأ أبناء المدينة، مؤسسات وأفراد، بالعمل كلٌ من موقعه، والتعاون لتسيير شؤون المحافظة، فبرزت مبادرات أهلية لتنظيف الشوارع والمؤسسات ومباني حزب البعث والقيام ببعض أعمال الصيانة اليدوية، فيما بدأ المكتب التنفيذي لمجلس مدينة السويداء بإزالة الحواجز الإسمنتية التي كانت تُعيق الحركة، خاصة أنها كانت حواجز أمنية.

        وأعلنت شعبُ التجنيد عن أنها بدأت بتسليم الهويات المدنية للعسكريين المُسرَّحين من الخدمتين الإلزامية والاحتياطية، وصرَّحَ مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عن قدرة الأفران على تأمين الخبز لمدة أسبوعين، فيما تجري متابعة عملية تأمين الطحين والقمح والمازوت، بالإضافة إلى المواد الغذائية، بالتعاون مع غرفة الصناعة والتجارة. كما صرّحَ رئيس نقابة عمال الكهرباء والاتصالات سامر حاتم، في مقابلة مع موقع السويداء 24 المحلي، عن وجود خطوط توتر مُعطَّلة عن العمل إثر الاشتباكات وعمليات التخريب، وتعمل الشركة على إعادتها للعمل في أسرع وقت.

        شرعية ثورية

        تظهر اليوم على الساحة السورية نقاشات حامية حول الإجراءات التي اتخذها أحمد الشرع (الجولاني) بتعيينه حكومة مؤقتة، والتخوُّف -رغم «التطمينات»- من أن يكون ذلك مؤشراً على سعيه لإقامة دولة تحت سلطة القوة و«الشرعية الثورية» في تجاوزٍ للقرار 2254. تُواجه السويداء نموذجاً مُصغَّراً، وأكثر محلية، على هذ الصعيد أيضاً.

        امتازت السويداء عن المحافظات الأخرى بقدرتها على الانتظام السريع وتجنب انتشار الفوضى من خلال وجود لجنة سياسية منتخبة من الهيئة العامة للحراك، واللجنة معنية اليوم بتنظيم المبادرات والمساهمة في تنسيق آليات إدارة مؤسسات الدولة في المرحلة المؤقتة، في ظل عدم تواصل حكومة دمشق مع السويداء حتى الآن بشكل رسمي.

        في حواره مع الجمهورية.نت، صرّح سقراط نوفل، عضو اللجنة السياسية، بأنهم معنيون بالتنظيم بالطبع، لكنه أضاف أن المشاركة المدنية والسياسية موجودة ومفتوحة للجميع، وأن الاجتماعات في حالة انعقاد دائم نتج عن بعضها صيغة «شبه توافقية» لتشكيل إدارة مؤقتة، تعمل على تحييد رموز الفساد من المفاصل الحسّاسة في مؤسسات الدولة وتعيين بُدلاء. وشدَّدَ نوفل على ضرورة الانتباه إلى أنها ليست إدارة انفصالية أو إدارة ذاتية، إنما تيسيرُ أعمال مؤقت ريثما تتضح معالم حكومة دمشق وآليات عملها في المحافظة. يقول نوفل: «الأشخاص الموجودون في مفاصل حسّاسة ولديهم ملفات فساد كبير ستتتم إزاحتهم بخطوات تُتَّخذُ تِباعاً للمحافظة على عمل هذه المؤسسات».

        وجاء في بيان رسمي صادر عن الهيئة العامة للحراك السلمي في السويداء ما يلي:

            إن الحراك السلمي ينتقل اليوم من الثورة ضد نظام الاستبداد إلى العمل على بناء سوريا المستقبل، وتخليصها من منظومات الاستبداد والفساد المتبقية، وإنهاء كافة أنشطتها التي مزقت اللُّحمة الوطنية.

            إن حراك السويداء السلمي المدني المتمسك بسلميته ومطالبته بالانتقال السياسي والحل السوري الوطني الشامل وفق القرار 2254 الذي يضمن سيادة سوريا ووحدتها، يجدد مطالبته بإنهاء المأساة السورية التي سببها نظام الأسد الاستبدادي الإبادي، ويجدد الإشارة إلى خطر أذرعه الأمنية التي تشكل وبالاً على الدولة بشعبها ومؤسساتها، والتي مارست الفساد والنهب وترهيب وتخريب البنى الاجتماعية واللحمة الوطنية والسلم الأهلي.

        لكن ردود الأفعال على الإجراءات التي باشرت الإدارة المؤقتة بقيادة الهيئة العامة للحراك لم تكُن جميعها مُهنِّئة، إذ تساءل البعض عن الصلاحيات القانونية لهيئة الحراك السلمي ومن ورائها اللجنة السياسية، لاتخاذ هذه القرارات، معتبرين أن هذه القرارات بحاجة لأهل الاختصاص وإلى جسم قضائي. وعبَّرَ البعض الآخر عن استيائهم من تصرفات اللجنة السياسية كحكومة مُصغَّرة في تجاهُل للاختصاصات، وتساءلوا عن المدى المعرفي التقني لدى اللجنة سياسية لاتخاذ قرارات قضائية أو تقنية أو تربوية أو صحية. وقد بدأ هاشتاغ «الشرعية الثورية» بالانتشار في صيغ نقدية بشأن مدى تمثيل هذه اللجنة للحراك أصلاً، فضلاً عن تهميش أطراف لم تُشارك بالحراك أو نازحة ومُهجَّرة خارج البلد.

        وفي حين علّقَ نوفل على هذا بالتأكيد على أن السويداء مرتبطة بالمركز في دمشق، والعمل جارٍ على كفٍّ يد بعض الشخصيات الفاسدة دون محاسبة، أي أنهم سينتظرون تفعيل القضاء للمحاسبة: «لن ننتقل من نحن الدولة ولاك إلى نحنا الثورة ولاك. الشرعية الثورية ليست أساسية في القرار، بل يتم استبدال أصحاب المناصب الفسادين بأصحاب كفاءات لم يتورطوا في ملفات فساد، وبذلك يتم تحييد الفاسدين عن مراكز صنع القرار». وأكَّدَ نوفل أن البدلاء ليسوا من خارج المؤسسات، وذلك حرصاً على الكفاءات، وأن التسليم والاستلام دقيقٌ قدر المستطاع: «نعمل على تفعيل صناديق الطوارئ، أو ملف الإنقاذ الذي يتضمن معلومات حول كيفية تصرف المؤسسات في حالات الطوارئ».

        الرؤية السياسية

        موقف أهالي السويداء السياسي كان واضحاً منذ بداية الحراك السلمي العامَ الماضي، إذ لم يتراجعوا يوماً عن رفع مطلب تطبيق القرار الأممي 2254، لكن أين نحن من 2254 اليوم؟

        يقول سقراط نوفل للجمهورية.نت إن عموم السوريين اليوم بحالة ترقُّب، واللجنة السياسية تضع عيناً على السويداء وأخرى على دمشق: «توجد بوادر حسن نية والجميع لديه تحفّظات، خاصة بما يخص تاريخ الجولاني، لكن إدارة العمليات والحكومة التي شكلتها تقدم حتى الآن خطاباً معتدلاً ومقبولاً، لذلك نبادر بحسن النية». ويؤكد نوفل على وجود «خطوط حمراء وثوابت»، وعلى أن مشروع السويداء «مشروع وطني»، ويضيف أن العناوين السياسية واضحة ضمن قرار 2254 الذي ينص على انتقال سلمي للسلطة وسوريا ديمقراطية علمانية موحدة: «قد يُساء فهم العلمانية وتشكل صدمة لدى البعض لذلك تُخفَّف بصيغ كصيغة فصل الدين عن الدولة، لكن سوريا التي نريد هي بلد علماني ودولة مواطنة وحق وقانون».

        يؤكد نوفل أن حراك السويداء ـ ويعوّل على أن غالبية السوريين كذلك ـ لن يقبل بسوريا لون واحد ونظام استبداي جديد على اختلاف إيدولوجيا وشكل هذا الاستبداد؛ «هناك مؤشرات غير مبشّرة ونحاول ألا نستبق الأحداث، لكننا نراقب عن كثب لتجنُّب تَسارُع الأحداث وخروجها عن السيطرة».

        وعن الجهات التي يمكن لردع العدوان أو الحكومة المؤقتة التواصل معها، أكَّدَ نوفل أن التواصل سيكون حُكماً مع اللجنة السياسية على المستوى السياسي، وأيضاً مع الشيخ حكمت الهجري باعتباره الراعي الديني والمجتمعي للتغيير الذي حصل في السويداء، والذي يدعم المطالبات بدولة علمانية.

        مؤشرات القلق

        لم يتم التواصل رسمياً مع السويداء حتى الآن من قبل الحكومة المؤقتة في دمشق، فيما فسّره البعض كمؤشر سلبي من حكومة تحاولُ أن تثبّت سلطتها وشرعيتها في محافظات ربما تكون قادرة على امتلاك حاضنة شعبية كبيرة فيها، وهو ما يلوّح بعودة مصطلح «خصوصية السويداء» إلى الواجهة، ذلك المصطلح الذي يرغب الكثيرون بالتخلّص منه مع التخلّص من الأسد، باعتبار أن سلوك النظام السابق أعاد تفعيل الهويات الأوليّة، فيما يرغب أهالي السويداء بعودة هويتهم السورية لتطغى على كافة الهويات الأخرى. «للأسف في الحقبة الماضية لم نستطع ممارسة انتمائنا لسوريا بشكل مثالي، فأصبح هناك نكوص تجاه هويات أوليّة»، يقول سقراط نوفل.

        وعلى المقلب الإقليمي، ثمة متغيرات إقليمية جديدة مرتبطة بتحركات إسرائيل وتَقدُّمها في الجنوب السوري، دون صدور أي بيان رسمي حتى الآن من حكومة دمشق المؤقتة حول ذلك؛ يقول سقراط نوفل: «نحن نحتاج أن نفهم وجهة نظر دمشق حول ذلك، لا يوجد أي تنديد أو رأي من الحكومة المؤقتة أو إدارة العمليات، وهو مؤشر يثير القلق للمواطنين السوريين».

        ويضيف: «ككل السوريين يوجد تفاؤل ويوجد تشاؤم، نحن بحاجة أن ننتقل إلى مرحلة البناء ونرغب في  إنهاء زمن الثورات مع ضمان عدم استبدال استبداد بآخر، وضمن تسارع الأحداث يبدو أن الأمور ستُحسَم قريباً. ثوابتنا معروفة وسنتعامل مع المتغيرات على أساس هذه الثوابت».

        وعن فكرة «ثورة أخرى» المتداولة حالياً، وجدنا في جولة سريعة على منشورات أهالي المحافظة على السوشال ميديا استعدادهم للقيام بثورة جديدة في حال ثبت التعدي على ثوابت ثورة 2011، كما جاء واضحاً في خطاب الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، أسس الدولة التي يجب على عل بنائها، حيث قال: «لا بد من بناء دولة مدنية حديثة على أسس العدالة والمساواة، دولة قانون تحمي حقوق الجميع مطبق على الجميع، تبدأ بحكومة انتقالية لإدارة المؤسسات والمرافق لتجنب الفوضى، وتنتهي بصياغة دستور جديد يؤسس لحكم وقيادة شعبية وتقدمية ينتخبها السوريون»، وناشد الهجري بضرورة تجاوز الضغائن لبناء سوريا العظيمة في بلد يتسع للجميع بمختلف انتماءاتهم وأفكارهم.

        وأضاف نوفل في هذه السياق «لم نتحول إلى موالاة، الثورة فكرة، لدينا ثوابت معينة، أيُّ خروج عنها دون أن يتمّ حلّه بالحوار والتفاهم والسياسية، فنعم نحن مستعدون لثورة جديدة، لم ندفع الدم لإنتاج نظام استبدادي جديد. وهذا كلام مشروط بتجاوز الخطوط الحمر، لكننا لسنا مُتعنّتين، ونتفهم حساسية المرحلة وأولوياتها».

        أما فيما يخص دعوات التقسيم والانفراد بإدارة ذاتية، فأشار بعض من تحدثت إليهم الجمهورية.نت إلى تخوّفهم من طرح موضوع التقسيم، بانين ذلك على مؤشرات منها تواصل حكمت الهجري مع موفق طريف، أو تواصل أحد أعضاء اللجنة السياسية مع قسد، لكن نوفل أكد أن هذا الكلام، وإن كان مطروحاً، إلا أنه لا يملك أفقاً، ولا يتعدى عن كونه طروحات رغبوية عند البعض، لكنها ليست توافقية أبداً، وهو طرح لا يملك وزناً حقيقياً على الأرض ولا يتعدى كونه «هرج وسائل تواصل».

        * * * * *

        يختم نوفل حديثه مع الجمهورية.نت برأي شخصي بعيداً عن موقعه كعضو لجنة سياسية، حيث يقول: «الحكومة المؤقتة الحالية لديها خبرة تقنية لا بأس بها، وأدعو الجميع أن نبدأ بالبناء على حسن النوايا، نحن بحاجة إلى خبرة تقنية لتسيير أمور بلاد بحجم سوريا تضم ملايين الناس. لا يهمني أن ينتمي وزير الصحة لأيديولوجيا تتوافق معي، نحتاج كفاءة ونزاهة، لن يعالج وزير الصحة الناس بالقرآن، وأعتقد أن هذا الحل إلى حين تشكيل حكومة انتقالية لا بأس به. لكنني أدعو أيضاً إلى مراقبة أي مؤشر لاستغلال هذه المناصب في فرض تلك الإيديولوجيات. لقد أثبت السوريين وعياً كبيراً، والعيون على البلد، وعلى مطالب الثورة، والحكومة المشكلة اليوم هي حكومة سلطوية تشكلت بشرعية ثورية، إذن هي سلطة أمر واقع، لكنني أفضل ألّا أُساهم في إعاقة عملها الطارئ الآن طالما خطابها ما زال وطنياً».

موقع الجمهورية

—————————-

إيران وسوريا الجديدة/ حازم كلاس

2024.12.14

“هل عليّ أن أبارك لك أم ماذا؟! حقًا لا أعرف”. هكذا وصلتني رسالتها بالفارسية في يوم سقوط الأسد. كنت غارقًا بين شاشتي الحاسوب والهاتف المحمول، أتتبع أي موقف أو تعليق إيراني. محللون إيرانيون على التلفزيون الرسمي يقولون: “سلوك الجماعات المسلحة السورية يظهر أنها عقلانية، وعلينا (في إيران) أن نؤكد قواسمنا المشتركة مع الشعب السوري، وأن نمنع الانحياز السلبي بين التيارات الجديدة في سوريا. يمكن مواصلة العمل معهم”. موقف متقدم وسريع، وإن كان غير رسمي، يأتي بعد تخبط في الأوساط الإيرانية منذ إطلاق عملية “ردع العدوان” التي انتهت بإسقاط الأسد بعد 12 يومًا، حيث لم تتفق إيران على توصيف لقوات هذه العملية: فهم إرهابيون تكفيريون حينًا، ومعارضة مسلحة حينًا آخر، ومسلحون في أحيان أخرى، وصولًا إلى توصيف المجموعات الحاكمة في سوريا.

لا يعرف الإيرانيون الكثير عن سوريا؛ ينقسمون بين من يرى فيها دولة صاحبة مقامات دينية يتوقون إلى زيارتها، وحلقة ذهبية في محور المقاومة كما يحلو لهم توصيفها، وبين من يرى فيها دولة ديكتاتورية. لا يعرف كثير منهم أيضًا عن البعث السوري، ولا أنه كان يُدرّس حتى مطلع الألفية في كتبه التي فرضها في المدارس باسم القومية العربية أن محافظة خوزستان أرض عربية محتلة اسمها عربستان.

إيران تتابع سقوط الأسد

في إيران، تابع الجميع سقوط الأسد. في حالة نادرة، تجاوز البحث عن “سقوط الأسد” بالفارسية في محرك بحث غوغل البحث عن أسعار صرف الدولار. وتتالت الأخبار: اقتحام السفارة الإيرانية، وتقليل إيران من أهمية الأمر لاحقًا بقولها إن من قام بذلك ليس مرتبطًا بإدارة العمليات العسكرية، ودخول عناصر من قوات “ردع العدوان” إلى مقامي السيدة زينب ورقية، وكلمة مقتضبة لأحمد الشرع، قائد إدارة العمليات العسكرية، في المسجد الأموي بدمشق قال فيها: “إن الأسد ترك سوريا مزعة للأطماع الإيرانية”.

متأخرًا، بعد أكثر من عشر ساعات على الإعلان رسميًا عن سقوط نظام الأسد، صدر بيان الخارجية الإيرانية كموقف رسمي: “احترام وحدة سوريا وسيادتها الوطنية وسلامة أراضيها موقف مبدئي لإيران، وتحديد مصيرها مسؤولية الشعب السوري دون تدخل مدمر أو فرض خارجي”، مع “الدعوة لإنهاء الصراعات العسكرية في أسرع وقت ممكن، ومنع الأعمال الإرهابية، والبدء بحوارات وطنية بمشاركة كافة أطياف المجتمع السوري من أجل تشكيل حكومة شاملة تمثل أبناء الشعب السوري كافة”، إضافة إلى تمنٍّ “باستمرار العلاقات في ظل النهج الحكيم وبعيد النظر للبلدين على أساس المصالح المشتركة والالتزامات القانونية الدولية”، وتأكيد أن “إيران ترصد بدقة التطورات في سوريا والمنطقة، وستتبنى النهج والمواقف المناسبة وفق مراعاة سلوك وأداء الجهات الفاعلة في المشهد السياسي والأمني في سوريا”.

مساءً، خرج وزير خارجية إيران على التلفزيون الرسمي ليستفيض في الحديث عن مبررات وقوف إيران إلى جانب نظام الأسد طوال أكثر من عقد من الزمن، وعن المشهد، مشيرًا إلى أن ضمانات أُعطيت لإيران بعدم التعرض للأماكن المقدسة والدبلوماسية، وهو ما فُهم منه وجود قنوات اتصال بين طهران وقادة سوريا الجدد، وهو ما أكدته رويترز لاحقًا.

عند غروب يوم سقوط الأسد، جلس رؤساء تحرير الصحف الإيرانية يبحثون عن عناوين الصفحات الأولى لجرائدهم، لتخرج الصحف في اليوم التالي منقسمة؛ فتلك المقرّبة من التيار الإصلاحي اختارت عناوين تبرز سقوط النظام، ومنها ما ذهب إلى الأقصى، ستاره صبح عنونت: “نهاية 54 عامًا من الديكتاتورية في سوريا.. السوريون تنفسوا وأسقطوا تماثيل عائلة الأسد”، أما المقرّبة من التيار المحافظ فكانت متشائمة بالقادمين الجدد إلى الشام، كيهان عنونت: “سقوط دمشق، نهاية مهمة الإرهابيين وبدء السلطة الأمريكية.. الفوضى تعم سوريا”، ووطن امروز عنونت: “سوريا في نفق مظلم”، وذهب بعضها سريعًا إلى تحليل سيناريوهات ما بعد الأسد في سوريا. أما صحيفة إيران الحكومية فنقلت عن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان قوله: “إيران تدعم حق الشعب السوري في الاختيار.. الشام بدون الأسد”.

الرؤية الإيرانية

في الصباح كانت طهران غارقة في التلوث. عُطّلت المدارس والكثير من الأعمال. كنت أشق طريقي شمال العاصمة الإيرانية وسط دخان يحول دون الرؤية لمسافة متوسطة حتى، وغرقت في التفكير فيما كان راديو سوري اعتدت الاستماع إليه يبث أغنية: “جنة جنة جنة.. جنة يا وطنا”. إنها رؤية إيران تجاه سوريا الجديدة، غير واضحة.

بالنسبة لإيران، كانت المتغيرات سريعة، ليس في سوريا فقط؛ فالتطورات كانت غير مسبوقة في الإقليم منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، مرورًا بالعدوان على لبنان، وسلسلة الاغتيالات الإسرائيلية الطويلة لقيادات من حزب الله وإيران، إضافة إلى القيادات الفلسطينية، وصولًا إلى خروج الصراع الإيراني – الإسرائيلي من دائرة حرب الظل إلى الاستهدافات المباشرة. وليس بعيدًا عن ذلك فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية والتحركات الغربية – الأوروبية – الأمريكية على خط البرنامج النووي الإيراني، وقبل كل شيء متغيرات داخلية لافتة تسارعت منذ وفاة مهسا أميني في أيلول/سبتمبر 2022 بعد إيقافها من قبل شرطة الأخلاق لعدم مراعاتها الحجاب، إلى سقوط مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في أيار/مايو 2024، والانتخابات الرئاسية المبكرة التي تبعت ذلك وشكلت تحديًا للنظام الإيراني، على الأقل في جولتها الأولى التي سجلت أدنى نسبة مشاركة شعبية منذ 1979.

تصريحات إيران

بعد سقوط الأسد، عُقد اجتماعيْن مغلقين في البرلمان الإيراني؛ الأول بحضور وزير الخارجية الإيرانية عباس عراقتشي، والثاني بحضور قائد الحرس الثوري حسين سلامي. شيئًا فشيئًا، رسمت إيران سرديتها عن سوريا في بُعدين: عسكري ودبلوماسي، وعلى ثلاثة مستويات مرتبطة بالماضي والحاضر والمستقبل.

سردية تبرير الماضي

عسكريًا، تبنّت إيران رسميًا رواية انهيار جيش النظام السوري وفقدانه الحماسة للقتال، وتوسعت في تحليل الأسباب، وغمزت بعض وسائل إعلامها إلى “الخيانات” داخل النظام السوري. ولو أن مصادر مقربة من إيران في سوريا قالت لي: إن التبني الإيراني لهكذا روايات غير دقيق وما حصل على الأرض مختلف، ومرتبط بشخص الأسد وتوجيهاته بعدم القتال، خاصة بعد زيارته لموسكو. لكن يبقى الأهم في السردية العسكرية الإيرانية ما قاله رئيس البرلمان الإيراني بأن إيران لم تذهب لتقاتل جماعات مسلحة وإنما لتحارب الإرهاب وخاصة تنظيم الدولة، وأنها “لم تكن لتحارب بدلًا عن جيشي العراق وسوريا”، كما قال المرشد الإيراني.

ورغم إشارة قائد الحرس الثوري الإيراني إلى أن المستشارين العسكريين الإيرانيين كانوا في سوريا حتى اللحظات الأخيرة قبل سقوط الأسد، أكد المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية عودة أربعة آلاف إيراني من سوريا خلال ثلاثة أيام قبل سقوط الأسد. وهنا لا بد من التذكير بأن إيران أعلنت أنها كانت قد قدمت تقارير أمنية أيضًا منذ أيلول/سبتمبر الماضي للنظام السوري حول تحركات المعارضة.

سياسيًا، رغم انتقادات خرجت من أطراف مختلفة في إيران تقول: إن طهران أُخرجت من العملية السياسية في سوريا بعد سنوات على آلية أستانة، إلا أن رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف قال إن قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني دعا مرارًا بشار الأسد للإصغاء إلى مطالب الشعب السوري.

وقد لخّص المرشد الإيراني علي خامنئي في كلمة له أسباب وقوف إيران خلال تلك الفترة إلى جانب نظام الأسد بالحفاظ على حرمة المقامات الدينية، وتوفير الأمن، وعدم السماح لتنظيم الدولة بالانتشار في المنطقة والوصول لإيران، مذكرًا بموقف نظام حافظ الأسد بالوقوف إلى جانب إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي.

موقف من الحاضر

سقط الأسد، فخرجت إيران من سوريا. يؤكد قائد الحرس الثوري الإيراني عدم وجود أي مقاتلين إيرانيين في سوريا اليوم، ويقول وزير الخارجية الإيراني إن استئناف عمل السفارة الإيرانية في دمشق مرهون بالتطورات في سوريا.

بعد خروجها من الساحتين العسكرية والسياسية في سوريا، ترى إيران كما يقول مرشدها: “إن السبب الرئيسي لما حدث في سوريا هو مؤامرة دُبّرت في غرفة العمليات الأمريكية والإسرائيلية مع دور تركي”، وهو ما رد عليه أردوغان بالقول: “إن الرد الأمثل على من يمجّدون عهد الأسد ويختزلون القضية إلى مستوى مؤامرة القوى الأخرى هو السجون السرية تحت الأرض في دمشق”.

إيران وتركيا

كان أحد محدثي الكُثر هذه الأيام ينتقد تركيا، ويقول: “تركيا لم تكن وفية لإيران رغم أن طهران وقفت إلى جانب أردوغان أيام الانقلاب عليه”. أنهينا الحديث الذي بدأ بسوريا وأردوغان مرورًا بفكر الإخوان المسلمين وصولًا إلى معركة جالديران بين العثمانيين والصفويين. عدت إلى أخباري ألملم أجزاء الصورة المبعثرة. إيران على لسان مرشدها تنتقد تركيا وإعلامها يهاجم أردوغان، بينما يستقبل الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وزير التجارة التركي عمر بولات. الحديث تخللته ربما بعض الكلمات التركية وإن بلغتين إسطنبولية وآذرية، حول إيجاد إطار للتفاعلات المالية بين البلدين يلغي الدولار، مع رغبة تركية بتجديد الاتفاقية التجارية مع إيران في مجال الطاقة لـ25 عامًا، كما ذكر بيان الرئاسة الإيرانية الذي نقل عن بزشكيان قوله: “إن الأحداث الجارية في المنطقة دليل على استغلال إسرائيل للخلافات بين الدول الإسلامية للاعتداء على غزة ولبنان وسوريا”، ودعوته “لحل المشاكل بشكل أخوي وعملي وليس بالكلام”.

لاحقًا، بعد أن رسمت تركيا مشهدًا مختلفًا بزيارة مسؤوليها إلى دمشق ولقائهم الشرع الذي رافقهم بسيارته عند الخروج من المسجد الأموي، خرج وزير خارجية تركيا ليقول: “تركيا وإيران ليستا عدوتين وإنما متنافستين”.

مستقبل مقاوم

دمّرت غزة، واغتيل قادة حماس، وضُرب حزب الله، وأُخرجت إيران من سوريا فقُضي على جسر الإمداد عبرها لمحور المقاومة، وقُطع طريق طهران – بغداد – دمشق – بيروت. لكن “إيران لم تفقد أذرعها”، يقول قائد الحرس الثوري الإيراني. فـ”كلما صار الضغط أكبر، أصبحت المقاومة أقوى، وكلما ارتُكبت جرائم أكثر ضدها، باتت أكثر حماسة”، يقول المرشد الإيراني، ويتعهد بـ”توسع المقاومة في المنطقة كلها أكثر من السابق”، ويضيف أن “من يهاجموا سوريا اليوم لهم أهداف مختلفة في السيطرة على أراض شمال أو جنوبي سوريا، و أمريكا تسعى لتثبيت موطئ قدمها في المنطقة”، وفي رسائل مبطنة يوضح المرشد: “كونوا على ثقة أن الشباب السوري الغيارى سيحررون المناطق المحتلة، وأمريكا ستطرد من المنطقة على أيدي جبهة المقاومة حتماً”.

إيران لن تتخلى عن محور المقاومة

محور المقاومة، وما أوجده من نفوذ إقليمي لإيران، هو عنوان لن تتخلى عنه طهران. فهو، بعيدًا عن مبادئ وأيديولوجيا الثورة، يُعدّ خط دفاع متقدم بالنسبة لإيران. صحيح أن معاون الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف، يقول: “إن المقاومة لم تكن قط قوة وكيلة تنوب عن إيران، بل سعت إلى تحقيق أهدافها الوطنية الخاصة، ومن الأدلة على ذلك عملية 7 أكتوبر التي تمت دون علم إيران، وعمليتا الوعد الصادق 1 و2 اللتان نُفذتا من الأراضي الإيرانية وليس من قبل المقاومة”. لكن كبير مستشاري المرشد الإيراني للشؤون العسكرية، يحيى رحيم صفوي، قال سابقًا: “على طهران أن تزيد من عمق دفاعها الاستراتيجي إلى خمسة آلاف كيلومتر خارج الحدود. الإيرانيون وصلوا ثلاث مرات إلى البحر المتوسط، مرتين منها في عهدي الملكين الأخمينيين قورش الأول وداريوس الأول، وآخر مرة بواسطة حزب الله اللبناني”.

كما أن طهران تعتقد أن ما يحصل في المنطقة دومينو بدأ في غزة، ومر بسوريا ولبنان، وسيستمر إلى العراق، ومنها إلى إيران، بحسب القائد الأسبق في الحرس الثوري الإيراني، محسن رضائي. لذا يقول السفير الإيراني في العراق اليوم: “إن طهران ستقف إلى جانب بغداد إذا ما هدد الإرهاب العراق”.

بما يتناسب مع التغيرات على الأرض، ستواصل إيران دعم محور المقاومة. وهي لتحقيق ذلك ستسعى في إطار تحركات متعددة الأطراف، إقليميًا وأمميًا، للحفاظ على مصالحها وسط معادلات إقليمية سائلة وغير مستقرة، ودولية مختلفة عن أي وقت مضى.

إسرائيل

محور المقاومة موجه ضد إسرائيل وأمريكا، تقول طهران. لذا تدين إيران بشدة تدمير إسرائيل للبنية التحتية الدفاعية والمدنية في سوريا، واحتلالها المزيد من الأراضي السورية في انتهاك لاتفاقية فك الارتباط لعام 1974 وقرار مجلس الأمن رقم 350. ومع المتغيرات في سوريا، وفي رسالة واضحة، يسأل سفير إيران في دمشق، حسين أكبري: “لماذا لم يجرؤ الكيان الصهيوني على فعل مثل هذا الأمر في عهد الحكومة السورية السابقة؟ هل لأنه كان يخاف من حلفاء سوريا… فهل تم هذا العدوان والاحتلال بالاتفاق بين الكيان الصهيوني والجماعة التي تدّعي حكم سوريا أم دون التنسيق معهم؟”.

نظرة إيرانية جديدة لسوريا الجديدة

بعيدًا عن نظرة سوريا الجديدة الرسمية لإيران، فإن طهران تحدد كيفية تعاطي دمشق مع الإرهاب وإسرائيل كعنوانين رئيسيين لرسم شكل علاقات البلدين، إضافة إلى تشكيل حكومة سورية شاملة. وهنا تتضارب الإشارات الإيرانية؛ منها ما هو متقدم، كقول رئيس جامعة الأديان في إيران للتلفزيون الإيراني: “إن ما نراه من هيئة تحرير الشام هذه الأيام هو تغيير فكر وليس تكتيكًا. لذا، إذا نأوا بأنفسهم عن القاعدة وجبهة النصرة وتوجهوا نحو النموذج الإخواني، فيمكننا التفاعل والتعامل معهم”، ومنها ما هو متشبث بنظرية المؤامرة ومشبع بفكرة تكفيرية حول حكام سوريا الجدد. أما الموقف الرسمي فهو حذر وقلق، يرى أن احتمال التصعيد في المنطقة وارد في حال انتشر الإرهاب في سوريا، وفي ظل استمرار مؤامرات إسرائيل ضد المنطقة، كما يقول وزير الخارجية الإيرانية.

بين تفعيل قنواتها الأمنية والدبلوماسية، ستسعى إيران إلى عدم خسارة ما بذلته من غالٍ ونفيس لتحقيقه إقليميًا، خاصة في سوريا. ولتحقيق ذلك، ستسعى إيران إلى استغلال كافة القنوات الإقليمية والأممية للحفاظ على مصالحها، وسط بيئة إقليمية متغيرة ودولية غير مستقرة.

تلفزيون سوريا

———————–

رسائل تركية من الجامع الأموي في دمشق/ سمير صالحة

2024.12.14

امتعض البعض في طهران وموسكو والعديد من العواصم عندما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أسبوعين: “إدلب ثم حلب وبعدها حماة وحمص، والأنظار نحو دمشق”. حتمًا هم منزعجون وقلقون أكثر اليوم، بعدما اختار رئيس جهاز الاستخبارات التركية إبراهيم كالن خلال زيارته الخاطفة والمفاجئة لدمشق الذهاب لأداء الصلاة في الجامع الأموي والتجول في المكان وسط حشد جماهيري كبير. فلمن كانت الرسالة وما هو مضمونها؟

بعض الإجابات قد تكون عند وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عندما يقول إن الشعب السوري ليس في وضع يسمح له بإعادة البناء بمفرده، وإن الجهات الفاعلة الدولية والقوى الإقليمية يجب أن تتصرف بحكمة وتحافظ على سلامة الأراضي السورية.

بعضها الآخر قد يكون عند المرشد الإيراني علي خامنئي الذي يردد أنه يمتلك أدلة لا تقبل الشك بأن ما حصل في سوريا تم التخطيط له في غرفة عمليات أميركية وإسرائيلية، وأن دولة جارة لنا لعبت دورًا واضحًا في إسقاط نظام الأسد وهي تواصل العمل في ذلك.

أو عند رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني الذي قال قبل عقد من رحيل الأسد إنه لا ينبغي لتركيا تحميل إيران وحزب الله مسؤولية فشلها في سوريا بسبب حساباتها الخاطئة.

أو ربما عند وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي قال قبل أيام من فرار الأسد إلى موسكو: من الضروري فصل مسلحي جماعة “هيئة تحرير الشام” الإرهابية المحظورة في روسيا عن المعارضة المعتدلة. وأن “هجمات هيئة تحرير الشام الإرهابية تم التخطيط لها مسبقًا ونحن نساعد سوريا في التصدي لها”.

أو لدى الرئيس الأميركي جو بايدن الذي بعث بوزير خارجيته بلينكن إلى أنقرة لإبلاغها أن بلاده ستدعم “بشكل كامل” العملية الانتقالية في سوريا التي ستتم تحت رعاية الأمم المتحدة وتحت قيادة السوريين، وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 2254.

أو قد تسهم في حسمها مفاوضات السوريين حول مستقبل شرق الفرات وما تطرحه قوات سوريا الديمقراطية على من يساومها بشأن مشروعها السياسي والدستوري في هذه الساعات بعد نجاح تجارب الانسحاب من تل رفعت ومنبج ودير الزور بانتظار الرقة.

رسالة الجامع الأموي حملت معها حقيقة وجود تفاهمات إقليمية على إزاحة الأسد، لكن الحوار الإقليمي حول ما بعد الأسد لم يكتمل أو يُحسم حتى الآن. وطرحت تساؤلات حول: هل المسألة تتوقف عند إعادة بناء سوريا؟ أم أن هناك مراحل ومسارًا تفاوضيًا سياسيًا ودستوريًا وأمنيًا طويلًا سيسبق ذلك، بدأه كالن من الجامع الأموي الذي كان لسنوات طويلة في قلب النقاشات السياسية التركية بسبب تعقيدات الملف السوري؟

فأي مسار ستدعمه أنقرة لبناء الدولة السورية الجديدة؟ الإقليمي أم الأممي؟

    مسار إقليمي يبقي الطاولة التي تم ترتيبها لإزاحة الأسد وإيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم، ويطلق يدها مجددًا لبحث المشاركة في رسم معالم خارطة الطريق السورية السياسية والدستورية والاقتصادية الجديدة؟

    أم المسار الأممي المدعوم من قبل واشنطن وأوروبا والعديد من العواصم العربية باتجاه الذهاب نحو مرحلة انتقالية تُشرف عليها الأمم المتحدة انطلاقًا من القرارات الدولية حول سوريا؟

ما سيساعد أنقرة على حسم موقفها هو:

    فرص مواصلة الحوار أمام الطاولة الإقليمية القائمة حول سوريا، والتي تجمع أنقرة وواشنطن وبعض العواصم العربية وموسكو وتل أبيب في مفاوضات مباشرة أو عبر قنوات تواصل استخباراتي ودبلوماسي.

    نتائج زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي غاب طويلًا عن أنقرة، وها هو يعود “مرغمًا أخاك لا بطل” للتفاوض معها حول الممكن والمستحيل في الصفحة الجديدة من العلاقات، وتحديدًا الشق السوري فيها، وما الذي سيضعه في حضن دونالد ترمب قبل وصوله إلى البيت الأبيض.

    فرص تشكيل حكومة ائتلافية سورية واسعة تشارك فيها كل القوى الثورية والمجتمعية الرئيسية، بما يضمن تمثيل المكونات السورية أمام طاولة المصالحة الوطنية. وأن وصول هيئة تحرير الشام إلى دمشق لا يعني بالضرورة بقاءها هناك أو تبني السوريين لما تقوله وتريده.

    التفاهمات السورية-السورية حول الانطلاق في عملية وضع دستور سوري عصري ديمقراطي جديد بمشاركة سياسية وشعبية واسعة، بعيدًا عن الهدف الأميركي بتقديم النماذج العراقية واليمنية والسودانية.

يؤكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن تركيا ستواصل تقديم دعم قوي للشعب السوري وضمان وحدة أراضيه والحفاظ على سلامتها، بالإضافة إلى محاربة الإرهاب وتحقيق التعايش السلمي بين جميع السوريين بمختلف مكوناتهم العرقية والدينية. ويتابع: “عملية العودة الكريمة والآمنة والطوعية للسوريين إلى وطنهم قيد التخطيط، وأعمال إعادة إعمار سوريا ستسهم في تسريع هذه العودة”.

تعرف أنقرة أن هناك من سيحاول إضعافها في سوريا بعد أخذها للكثير في الأيام الأخيرة من دون أن تعرض نفسها ومصالحها للخطر الكبير هذه المرة. وتعرف أن واشنطن لن تكتفي بما يقوله وزير خارجيتها بلينكن قبل ساعات من وصوله إلى أنقرة: “يجب أن تكون العملية الانتقالية شاملة وغير طائفية”، و”يجب أن تدعم جميع السوريين وتحمي حقوقهم، بمن في ذلك الأقليات ومنها النساء”. لكن ما لا يريد بعضهم تذكره هو حجم التكاليف والأعباء التي تحملتها في سوريا طوال سنوات وقبل توجه كالن للصلاة في المسجد الأموي.

ستضع تركيا مصالحها وحساباتها في سوريا أمام أعينها وهي تفاوض وتتحدث إلى اللاعبين المحليين والإقليميين المؤثرين هناك. لكنها:

    لن تتخلى عما شيدته من علاقة متماسكة مع كثير من القوى السياسية السورية، في إطار الدفاع عن وحدة سوريا وسيادتها واستقلالها وعروبتها والحؤول دون مخططات التفتيت والتقسيم هناك.

    لن تتجاهل أن مشروع قسد في سوريا هو هدف إقليمي للبعض، حتى ولو اقتنعت قسد بمراجعة كامل سياستها السورية.

    لن تعرض للخطر سياستها العربية الجديدة وعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا.

    لن تتخلى عن حقيقة وجود اللاعب الإيراني المؤثر في الإقليم، حتى ولو تلقى كل هذه الضربات الموجعة في لبنان وسوريا.

    لن تفرط بالعروض التي سيقدمها ترمب بعد أسابيع.

    لن تتجاهل أن القوات الإسرائيلية تجلس فوق قمة جبل الشيخ لتستقوي بها عن بُعد.

بعد أقل من ثلاثة أشهر، من المفترض أن نتعرف إلى نتائج ما فعله الثنائي البشير-الشرع. لكن بالنسبة لأنقرة لا شيء محسوم أو نهائي حتى الآن، وهو مرتبط بالتفاهمات السورية-السورية والدعم الإقليمي لهذه التفاهمات، وديناميكيات التعامل مع الملفات الكثيرة الساخنة المرتبطة بسوريا، والعامل الإسرائيلي، ومتى سيخرج البعض من حالة الهستيريا السورية وقبول حقيقة وجود أكثر من فاعل إقليمي يريد معرفة ما سيحل بمصالحه في سوريا؟ وأي نموذج سيناقشه السوريون عند بناء دولتهم الجديدة؟ ومن الذي سيكون حاضرًا في نقاشات سوريا الموحدة أم سوريا الاتحادية؟ أم الذهاب وراء سيناريو تشكيل لجان حل سياسي على طريقة لجنة الإنصاف أم لجنة الحقيقة أم لجنة المصالحة الوطنية أو التسوية والوساطة؟ وبناء سوريا على الطريقة اللبنانية أم العراقية أم السودانية أم الجنوب أفريقية أم الأرجنتينية كما يخطط ويريد البعض؟

المؤشرات تذهب أكثر باتجاه أن سوريا بلباسها التقليدي وزيها العربي، ولكن بطلة سياسية دستورية اجتماعية معاصرة، دعمها البعض في مهمة تسهيل ولادة عقد اجتماعي سوري جديد، هي التي ستنتصر.

تلفزيون سوريا

—————————-

بعد الثورة.. “الوحدة الوطنية” جسر نحو سوريا الحديثة/ أحمد زكريا

2024.12.14

تحمل سوريا اليوم تحديات مصيرية بعد انتصار ثورتها المبهر، حيث تقف أمام منعطف تاريخي يتطلب حكمة وتعقلاً في إدارة المرحلة الانتقالية، فبعد ثلاثة عشر عاماً من النضال المرير ضد أحد أعتى الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، نجحت الثورة السورية في تحقيق إنجاز نوعي يتمثل في إسقاط نظام الاستبداد.

لكن التحدي الأكبر الآن يكمن في الحفاظ على “الوحدة الوطنية” وعلى وحدة النسيج الاجتماعي السوري، ذلك النسيج المتعدد الأطياف والمكونات، فقد أثبتت الثورة قدرتها على التغلب على المعوقات الصعبة، حين واجهت خمس قوى عسكرية معادية تمثلت في ميليشيات إيران والنظام السابق وحزب الله والقوات الروسية وقوات سوريا الديمقراطية.

يمكن القول، وهنا أقتبس من كلام الأكاديمي الدكتور سمير التقي في مقابلة له مع تلفزيون سوريا خلال الشهر الجاري (كانون الأول 2024)، إن هناك أبعاداً كثيرة للتحصين الوطني، تتمثل في “جَسر الهوة” بين المكونات السكانية، الأمر الذي يعد استراتيجية جوهرية للمرحلة القادمة، والانتقال إلى حوار مجتمعي منفتح يهدف لإنتاج شروط عيش مشترك يلبي طموحات مختلف المكونات من علويين وأكراد وغيرهم، هذا الحوار سيكون محورياً في إعادة بناء الوطن والوحدة الوطنية، مع التركيز على حلول عملية تراعي خصوصيات كل منطقة.

ولا يمكن إغفال موضوع الحوكمة والحكم المدني الذي يمثل أحد العناصر الأساسية في هذه المرحلة الانتقالية، وتقع مسؤولية هذا التحول على عاتق القوى المسيطرة حالياً، والتي تحتاج لإعادة تشكيل جذري مع هوية وطنية جديدة.

ولا بدّ كذلك من الابتعاد عن أي تحديات قد تهدد السلم الأهلي الذي يعد أولوية قصوى، فالمرحلة الحالية لا تحتمل منطق المنتصر والمهزوم، بل تتطلب نهجاً توافقياً يسع الجميع.

وعلينا ألا نتجاهل أمراً ضرورياً آخر وهو توفير مناخ سياسي داعم للنخب الجديدة يستدعي تمكين الشباب والنساء، فإنقاذ البلاد يتطلب دوراً محورياً لهذه الفئات، وعلى النخب القديمة تسليم الراية للجيل الجديد الذي يملأ شوارع سوريا بهتاف “الحرية”، إضافة إلى أن التوافق على مبادئ الدولة والديمقراطية يجب أن يسبق أي حديث عن انتخابات، فمن الضروري استيعاب دروس الماضي والاستفادة منها لبناء مستقبل أفضل.

    في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها سوريا، من المهم أن نتساءل عن السبل الفعّالة لتعزيز الوحدة الوطنية: هل يكون ذلك من خلال الحوار المجتمعي؟ أم عبر مبادرات وطنية مشتركة تشمل مختلف الأطياف؟

رابطة المواطنة ستكون الرصيد الحقيقي الذي ينقذ السوريين من محاولات تفكيك النسيج الاجتماعي، فالمواطنة هي الجسر الذي سيعبر به السوريون نحو سوريا الحديثة الموحدة، وبالتالي فإن نجاح هذه المرحلة يكمن في قدرتنا على تجاوز الانقسامات، واحتضان الاختلاف، وبناء دولة المؤسسات التي تحترم التنوع وتصون الكرامة الإنسانية.

من جانب آخر، يمكن تحصين سوريا الجديدة بـ “الوحدة الوطنية” من خلال رفض الصمت والسلبية التي كنا فيها لعقود، رفض الإلغاء لي ولك، قبول الآخر المختلف سياسيا وبالطبع عرقيا وطائفيا، فالاختلاف سُنة الحياة وسبيل التطور واستمرار الأوطان.

وكذلك رفض تقسيم سوريا تحت أي ذريعة والدفاع عنها موحدة، عدم اليأس والاستعجال في قطف ثمار التغيير، وعدم تضخيم حوادث شائنة ضارة لأفراد تعكس سلوكيات موروثة من العصر الأسدي، والنظر إلى يومنا الحاضر كجسر بين ماض أسود وغد حر كريم وليس نهاية المطاف.

وفي ظل الظروف الراهنة التي تمر بها سوريا، من المهم أن نتساءل عن السبل الفعّالة لتعزيز الوحدة الوطنية: هل يكون ذلك من خلال الحوار المجتمعي؟ أم عبر مبادرات وطنية مشتركة تشمل مختلف الأطياف؟ كيف يمكن لكل فرد ومؤسسة أن يسهموا في تحصين البلاد من خلال تكريس هذه الوحدة؟

نعود للقول، إنه لا بدّ من الإشادة بنجاح الثورة السورية وانتصارها المبهر بعد مضي ثلاثة عشر عاماً على قيامها على أعتى دكتاتوريات العصر والمتجذرة عبر سنين طويلة امتدت إلى خمسين عاماً من الظلم والاستبداد والقهر التي عاشها الشعب السوري على مر هذه العقود، فقد انتصرت هذه الثورة بعد عمل دؤوب وإعداد لهذه المعركة الحاسمة والتي لم يطل أمدها لبضعة أيام وبزمن قياسي لم يشهد له مثيل في تاريخ الحروب المعاصرة والتي أبهرت العالم بأسره على سرعة حسم هذه المعركة بقليل من الخسائر البشرية، ويعود ذلك لعقيدة الثوار وإيمانهم بالثورة، وفي الجهة المقابلة لطرف المعركة فقدان هذه العقيدة وإيمانهم بالحاكم الأوحد والحزب الواحد.

ورغم مجابهة خمسة جيوش على الأرض السورية وهي ميليشيات إيران والنظام وميليشيات حزب الله وروسيا وقوات قسد، نجحت هذه الثورة وتعطلت سنن الحروب الطويلة بمعركة خاطفة أبهرت العالم وبإمكانيات متواضعة وأسلحة بسيطة، فتحت المحافظات تباعاً حلب وحماة وحمص وصولاً إلى قلب العاصمة دمشق التي لم يتوقع أحد أن يصلوا إليها بهذه السرعة، علماً بأنه قد تم تحصين العاصمة تحصيناً جيداً، ولكن إرادة الله وعقيدة الثوار وتلاحم بقية المدن مثل درعا والسويداء سارعت بإنهاء هذه المعركة وحسمها لصالح الجيش الوطني وقوات ردع العدوان، وهروب الطاغية وحاشيته منها هروباً مذلاً بصفقة روسية إيرانية مهدت له هذا الهروب، وتركت جيشه المتهالك وميليشياته تصارع الموت الزؤام.

وباعتبار أن الثورة نجحت بهذه الفترة، فقد أعطت الأمان لمن يلقي سلاحه، وقامت بطمأنة الأقليات من جميع الطوائف والإثنيات، وكانت هذه الثورة ثورة فتح وتسامح لهذه الأقليات.

واليوم، فإن نجاح الثورة يضعنا أمام استحقاقات كثيرة لابد لنا أن نسارع في إنجازها وبأسرع ما يمكن، وأولويات هذه الاستحقاقات تشكيل حكومة مؤقتة تدير البلاد لسد الفراغ وعدم انهيار مؤسسات الدولة والمحافظة عليها، وثانياً بسط الأمن والأمان على امتداد تراب الوطن، وثالثاً تشغيل عجلة عمل المؤسسات وتأمين مستلزمات حياة المواطنين، ورابعاً طمأنة المجتمع الدولي على حماية الأقليات وعدم المس بهم وممتلكاتهم وإعطائهم الحرية في ممارسة عقائدهم الدينية، وخامساً إشراكهم في صنع القرارات المصيرية للدولة عبر ممثلين عنهم، وسادساً، وهو الأهم، هو أن سوريا للجميع من دون تفرقة لدين أو عرق أو طائفة، والتشديد على الوحدة الوطنية لكافة المكونات والمحافظة على النسيج الاجتماعي.

    كما أنه من الضروري نشر ثقافة المواطنة التي تمنح الناس نفس الحقوق والواجبات، بعيداً عن التقسيمات العرقية والطائفية، وغرس الولاءات الوطنية في نفوسهم.

وبهذه الطريقة نكون قد حصنا ثورتنا وسوريا بـ “الوحدة الوطنية” التي هي الآن تحت مجهر العالم الذي يتربص بها ويحسب عليها أي خطأ تقع به، كما ينبغي على الإعلام تشديد الرقابة على تسريب أو نشر انتهاكات غير صحيحة للعالم الخارجي، وذلك حرصاً على نجاح ثورتنا ووحدتنا الوطنية ضمن معايير حركات التحرر بالعالم.

وعلينا أن نعلم أن الوحدة الوطنية ليست مجرد شعار، بل هي عملية مستمرة تحتاج إلى استعداد وعمل فعلي من جميع الأطراف لتحقيق مستقبل مستقر ومزدهر لسوريا.

الوحدة الوطنية في سوريا، كدعامة أساسية للنهوض بالبلاد، تستلزم تطبيق مقاربة شمولية تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وإنشاء قنوات تواصل شاملة تشمل جميع الأطياف الاجتماعية والسياسية من دون استثناء، للوصول إلى اتفاق على التوجه المستقبلي للبلاد، كما أنه من الضروري نشر ثقافة المواطنة التي تمنح الناس نفس الحقوق والواجبات، بعيداً عن التقسيمات العرقية والطائفية، وغرس الولاءات الوطنية في نفوسهم، ولا شك أن الشفافية وسيادة القانون هما حجر الزاوية في العلاقات بين الدولة والمجتمع.

وأخيراً، إن تحقيق الوحدة الوطنية ليس هدفاً بعيد المنال إنه خيار استراتيجي يحتاج إلى إرادة جماعية وآليات عملية لترسيخه ،والوحدة الوطنية ليست هدفاً بعيد المنال بل هي خيار استراتيجي يحتاج إلى إرادة جماعية وآليات عملية لترسيخها، وفوق هذا وذاك، يبدو أن المبادرات الوطنية والنقاشات المجتمعية المدعومة من أفراد ومنظمات هي أضمن وسيلة لتحقيق هذا الهدف، وأضمن وسيلة لتحقيق مستقبل سوريا، إذاً، فالوحدة الوطنية ليست هدفاً بعيد المنال، بل هي خيار استراتيجي يحتاج إلى إرادة جماعية وآليات عملية لترسيخه.

تلفزيون سوريا

———————–

النظام السوري العائد/ طارق بلال

2024.12.14

نحن نشهد سباقاً مع الزمن في دمشق، في حين تراجع الدول ذات النفوذ تموضعها في الجغرافيا السورية والقصر الرئاسي، تتشكل في الأفق ملامح شرق أوسط جديد خارج عن النص. يستقبل الشارع العربي أصداء دمشق بالبهجة المشوبة بالتردد، فالتغييرات النوعية بطبيعتها محفوفة بالشك وتستلزم وقتاً إضافياً قبل الإحاطة بأبعادها.

وزاد في الالتباس ما سجلته الأيام الأخيرة لنظام الأسد من تسارع في مجرى الأحداث الميدانية، انتقل بعملية الردع إلى عملية تحرير شامل وانتقال كامل للسلطة، لكن هذا في حقيقة الأمر لم يكن سوى القمة الظاهرة من جبل الجليد، بعد أن تصدع في غير مكان، بدءًا من أوكرانيا وصولاً إلى جنوبي لبنان.

الحسم العسكري المفاجئ، قلب الطاولة على الجميع بصورة أو بأخرى، فجأة لم تعد الخارطة السورية مقسمة بخمسة ألوان، والاستثمار الطويل للفاعلين الدوليين في سوريا لا سيما طهران وموسكو صار في مهب الريح، وعادت الجغرافيا السورية مليئة بالحيوية لتشهد أحد أكبر التحولات في الشرق الأوسط بعد أن سيطر عليها الجمود لعقود.

الخيار الثالث

انتصرت الثورة، لكن لم تنتهِ المواجهة، بل إن دخول دمشق السريع من دون دماء قد وضع المنطقة بأسرها على صفيح ساخن، فنظام الأسد خسر رأسه لكنه لا يزال يحتفظ بكامل بنيته الأمنية المتوحشة، وقدرته التنظيمية المتراكمة، وصلاته مع أصدقاء الأمس واليوم، وهو مشارك في الحدث على طريقته ولا تخفى بصماته في صناعة الشائعات والتهويل والنيل من مصداقية السلطة الجديدة قبل تمكنها.

إقليمياً لا يقل المشهد سخونة، فالمنطقة بالأساس ملتهبة تشهد انزياحاً في النفوذ على حساب مشروع طهران، وفي حين كاد الشرق الأوسط أن يرتد مجدداً نحو القطبية الأحادية في عالم جديد متعدد الأقطاب، يدوي سقوط النظام في دمشق على يد معارضة محلية القيادة، من دون غطاء جوي أو تحالف دولي مساند، مؤذناً بولادة مسار ثالث، عسير المخاض عظيم النوال، ينطوي على رصيد عالٍ من السيادة على القرار، يلهم الشارع العربي ويزيد في توتر أصحاب السلطة، كأهم حدث تاريخي تشهده دمشق منذ استعادتها استقلالية قرارها السياسي بعد انفراط عقد الجمهورية العربية المتحدة في ستينيات القرن الماضي.

أمام هذا التحول الكبير يقف المراقبون بذهول في محاولة لقراءة المشهد، مع عجز واضح على الإحاطة بأبعاده كاملةً، ولا يزال كثيرون يبحثون عن فهم ما جرى ضمن المقاربة الثنائية القديمة، بين معسكري المقاومة والاعتدال، أو بين مصالح طهران وتل أبيب، متجاوزين السياق التاريخي لتطور عجلة الصراع السوري، قاصرين عن رؤية المقاربة الجديدة وليدة الاشتباك الدولي في المشهد الأوسع.

هدوء دمشق الحذر

لن يطول هذا كثيراً، فالمتأهبون للوثوب على السلطة الجديدة كثر للغاية، فالثورة في خطر، ومن المبكر جداً الإشارة لنظام الأسد بوصفه النظام السوري البائد.

محلياً، لا يمكن الركون لأجواء الفرح بالنصر، هناك حالة من التوجس من أصحاب السلطة السابقة وداعميها، تلاحقهم دعوات القصاص وتدفعهم للهروب إلى الأمام بانتظار الرياح المواتية.

وهناك حالة مشابهة تسيطر على الكوتا السورية، فالاحتقان ليس وليد الصراع الأخير بل يمتد إلى ستة عقود منذ وصول البعث للسلطة والعبث بالتركيبة الاجتماعية وهندسة الدوائر الانتخابية على أساس طائفي بصورة تخدم احتكار السلطة أو عزلها، وأخيراً التطهير السياسي الممارس في الحرب الأخيرة لإنتاج “المجتمع المتجانس” بحسب وصف الأسد. التحول السريع في دمشق لم يمنح المكونات المحلية الخيار، فوقع الاختيار على الانكفاء والترقب، إلى حين.

أمّا على الصعيد العربي، فهناك انفصام كامل بين الحالة الشعبية وبين أصحاب السلطة، فالشارع العربي الذي استقبل أخبار الثورة بالترحيب والبهجة، يقابله في الطرف الآخر شعور عارم بالقلق يذكرنا بوضع سابق في العراق يوم سقوط صدام وتحوله لعظة بعد أن كان سيد القصر.

وأما إقليمياً، فالخاسرون بانتصار الثورة أكثر من الرابحين، ومن فضول القول أنه لن يجري التفريط باستثمارات كبيرة من دون محاولة لاستنقاذ الماضي، والتجربة الهشة للثوار في إدارة المدن ستغري بكثير.

بدخولها دمشق دخلت الثورة مزدحماً جديداً، وعليها أن تواجه أعداء التحرر وأصحاب المشاريع الخارجية والحركات الطامعة بالسلطة إضافة لأصحاب سلطة الأمس، وكل هؤلاء على اختلاف أجنداتهم ولغاتهم تجمعهم الثورة المضادة.

في المقابل، يتوافر للثورة السورية ما لم يتوفر لغيرها، فتجارب الربيع العربي المنقطعة لا تزال مشهودة وتمنح الواقع جملة مقارنات حية تكشف أساليب الثورة المضادة.

الاقتصاد السوري المنهار والمعتمد على تجارة الكبتاغون والمساعدات، من شأنه أن يشكل تحدياً للسلطة القادمة، لكن في نفس الوقت قد يمنحها مجالاً لصناعة فارق واضح. ولا زال الداخل السوري يستند مالياً إلى مكون سوري كبير مقيم في الخارج استطاع عبر سنوات بناء قنوات تمويل أهلية ولعب دور المعادل الحر لتهاوي الاقتصاد الوطني، يضاف اليوم لهذا الحامل المالي المهم موارد محلية كبيرة لطالما كانت منهوبة للسلطة، وخزان بشري حيوي متنوع الخبرات، وبنية صناعية مهمة يمكن البناء عليها، والأهم شعور عال بالانتماء والاستعداد للبناء.

أولوية التحرك

كل ما سبق من حديث عن المخاطر والاحتمالات يشكل جزءاً من مشهد يومي في الشارع العربي عند تناوله الخبر السوري، وهو بلا شك أحد تجليات الوعي بالمرحلة، وهو كذلك مؤشر على وحدة المصير رغم اختلاف الأمصار والأقطار، ويلبي حاجة شعورية في شارع يتوق لامتلاك منجز ما في طريق التحرر والنهوض.

لكن بعيداً عن الاستطراد، نريد هنا الإشارة لأهم واجبات المرحلة، والتي من دونها لن يستقيم بناء ولن يتراكم مكتسب، فالطريق مليء بالعثرات كما بالمترصدين، وآخرون لا ينتظرون الرياح المواتية بل يصنعونها، وفي دائرة الاستهداف حملة لواء ردع العدوان وفي مقدمتهم الهئية وعلى رأسها قائدها أحمد الشرع، في حين أن المسؤولية الكبيرة في حماية المنجز الثوري تقع على أصحاب الثورة الأوائل، بشكلها المدني والعسكري، بكل مبادراتها القائمة والفائتة، وكل من كان له سهم في صناعة التغيير آنذاك متجاوزاً خوفه في رهان يعوزه الأمل.

سلاح المرحلة هو اجتماع الكلمة، وهذه دعوة لتشكيل اتحادٍ يضم مبادرات الثورة، يتسع لكل مؤمن قديم بالتغيير الكبير، ليكون بمنزلة المراقب، والضامن على اجتماع الكلمة على طول المرحلة، وهذه مسؤولية كبرى وفيها متسع للجميع.

يخطئ الثوار في الركون لانتقال السلطة قبل أوانها، وفي هذا الركون يكمن الخطر الكبير، حيث تلتهم السلطة الجديدة منجز الثورة ومفصل التغيير، ليكون الانقلاب على السلطة الجديدة هو الحلقة الأسهل. عندها لن تبقى سلطة حرة ولا ثورة منتصرة، بل أعمدة مشانق تنتظر الجميع، تعيد النظام الساقط بعد غياب.

————————-

التكويع” لدى أبناء الساحل.. قراءة سلوكية/ أحمد عسيلي

14 كانون الأول 2024

كان أسبوعًا حافلًا على السوريين جميعًا، اختبروا به الأحاسيس كلها، من الترقب والمتابعة لسير المعارك، إلى الفرح بالانتصارات المتتابعة لغرفة العمليات المشتركة، ذهولًا من ضعف النظام وهرب شبيحة كان يعتقد الكثيرون أنهم أكثر عنادًا من ذلك، إلى فرح يشوبه الحذر، ثم فرح وقلق من تغير قد يحدث في اللحظات الأخيرة، ثم فرح تام، وخروج للاحتفال في الشوارع، لتمزيق صور وتماثيل الأسد، وسط مزيج مختلف من مشاعر مختلطة، لم يختبروها من قبل، هي إحساس بالحرية، وزوال جبل ثقيل من الخوف، كان يجثم على قلوب الملايين من السوريين، حتى من هم بالخارج، لأن لمعظمهم أهالي وأحباء كانوا أشبه بالرهينة عند النظام السابق (وما أجملها من كلمة، النظام السابق، ولن نكتب السوري لأنه لم يكن سوريًا يومًا).

رافق تلك الأحداث المفصلية في تاريخنا بعض الظواهر السلوكية، التي شغلت السوريين خلال الأيام الماضية، والتي أسلط الضوء عليها تباعًا خلال الأسابيع المقبلة، أهمها، وهو ما سأناقشه في مادة هذا الأسبوع، تلك الظاهرة التي أطلق عليها “التكويع”، أي الانقلاب السريع، من مؤيدين للنظام السابق، وحتى شبيحة له، ليصبحوا وبسرعة قياسية، أي خلال عدة ساعات، مؤيدين للتغيير، بكل ما رافق هذا التحول من كوميديا، لأن الكثير من الصفحات التي كانت تنشر تهديدات، وتحتفل بنصر الأسد، حتى مساء السبت، تحولت للاحتفال بالانتصار، لكن انتصار الطرف الآخر هذه المرة، صباح الأحد، دون أي محاولة لقراءة ما حدث، أو مراجعة فكرية، أو أي شكل من أشكال النقد الذاتي، وهنا لن أتحدث عن بعض الفنانين أو الكتاب، المستعدين دومًا لركوب أي موجة، فليس لدى هؤلاء غالبًا أي موقف سياسي أو أخلاقي، ولا يستحقون أصلًا دراسة نفسية خاصة، فهم موجودون بكل زمان ومكان، وسبق وكتب عنهم سابقًا في أماكن عديدة لأنهم حالة مكررة جدًا حد الاشمئزاز، بل أتحدث هنا تحديدًا، عن بعض أبناء ساحلنا السوري.

ربما لا يعرف الكثيرون من أبناء دمشق أو غيرها من المدن السورية شيئًا عن هذا المجتمع، فالصورة المرتسمة لهم، هي بكل بساطة، ضابط الجيش والمخابرات، أو عنصر الأمن الشرس (هي صورة عززها وعن قصد إعلام الأسد)، وهو اختصار مخلّ لمجتمع كامل، لكنه صحيح من حيث تأثير هذه النسبة الصغيرة على طريقة عيش وتفكير المجتمع ككل، فالأسد قام بعسكرة المجتمع الساحلي منذ عشرات السنين، هذه العسكرة لم تشمل فقط من تطوع بالجيش، لأن هذا المتطوع لديه عائلة وامتداد اجتماعي، وسيمارس على عائلته سلوكه العسكري نفسه، لتشمل العسكرة المجتمع ككل، وخاصة أننا هنا وتحديدًا في الساحل، لا نتحدث عن شخصين أو ثلاثة، أو مئة أو ألف، بل لا تكاد توجد هناك قرية ساحلية لا تحوي العشرات من هؤلاء العسكريين ذوي السلوك العسكري (بكل ما لهذا السلوك من قسوة، ومطالبة بالطاعة العمياء)، هو سلوك تناقلته الأجيال، فالتطوع في الجيش، بجميع أجهزته، كان المشروع الشخصي والمهني للكثيرين من أفراد ذلك المجتمع، بل هو “المصير المحتوم” لكل شباب هذه العوائل، بحكم انسداد أفق التجارة والسياحة في تلك المناطق (رغم امتلاكها لكل مقوماته)، لكن الأسد أحكم الخناق على جميع الناس في هذه المنطقة، وأغلق عليهم جميع أفق العمل، حتى يصبحوا جزءًا من خزانه البشري (وهذا ما كان للأسف)، ما جعل الكثير من الناس في الساحل تابعين وبشدة للسلطة، لا عن قناعة أو مصلحة، بل عن خوف، وربما تكون كلمة خوف غير وافية بالغرض هنا، فهي حالة رعب وهلع دائم، وهنا لا أتحدث عن الضباط الكبار الذين سرقوا واستغلوا الوضع، والذين لا تتعدى نسبتهم 1% من نسبة هؤلاء الناس، بل عن الأغلبية التي بقيت ترزح تحت معاناة الفقر والرعب الدائم.

هذا الانصياع للسلطة ليس عائدًا لخنوع أو لعوامل ثقافية، بل لعنف دكتاتورية الأسد تحديدًا، لدرجة أصبح الخلاص من الأسد هو رغبة الناس الدفينة، التي لم يستطيعوا حتى قولها لأنفسهم (ربما هنا نفهم الفيديو الذي انتشر خلال الساعات الأولى لوصول قوى الثورة، حين كان أحد عناصر “الجيش الوطني” يطمئن إحدى قرى الساحل، فصرخ صوت كله لهفة ووجع بأننا “والله احنا كنا ناطرينكم”، صوت واحد نطق بما يخاف حتى من الشعور به أبناء قريته) فأهل الساحل وإن استطاعوا التغلب على الخوف، فهم عاجزون عن إيجاد فرص أخرى للعمل أو الحياة. بمعنى أدق، كانوا محاصرين بالخوف ولقمة العيش، حصارًا تامًا ومقصودًا، وهو حصار بالتأكيد ما زال موجودًا إلى الآن، فلا مكسب لهم إلا الوظيفة التي ترتبط مباشرة بأجهزة الحكم.

هذا الخوف المبالغ فيه تجاه السلطة بقي، وانتقل إلى السلطة الجديدة، وقد أشار إلى هذا عادل محفوض، وهو سوري معارض للنظام منذ الثمانينيات، تعرض للاعتقال عدة مرات، وهو من أبناء الطائفة العلوية الذين بقوا في طرطوس طيلة فترة الثورة، فقد حاول بعد النصر النقاش مع بعض جيرانه ومعارفه حول مستقبل البلاد بعد هذا الانتقال للسلطة، ففوجئ بمدى الخوف الذي ما زال يسيطر عليهم، خوف ورثته السلطة الجديدة رغم عدم مسؤوليتها عنه، فقد أبقوا على خوفهم رغم محاولته تشجيعهم على إبداء رأيهم، لكننا هنا نتحدث عن 50 سنة من تحكم أكثر السلطات همجية بهم، فهل نستغرب بعد هذا الخوف المبالغ فيه من أي سلطة قائمة، وتحولهم السريع لموالاتها؟

الآن هم بحاجة لبعض الوقت، لنزع هذه العسكرة الاجتماعية كي يندمجوا في المجتمع المدني، لذلك فإن إقامة مشاريع سياحية وتجارية، وإتاحة الفرصة لأبناء الساحل للعمل وكسب المال، وإفساح مجالات أخرى أمامهم غير مجالات الجيش والأمن، سيساعد في تخلصهم من إرث الأسد المظلم، وإعادتهم إلى الحياة السياسية، ومشاركتهم بشكل فعال، بعيدًا عن أي خوف.

عنب بلدي

————————-

أولى خطوات حماية السوريين من تكرار التعذيب والإخفاء/ منصور العمري لمنظمة “العفو الدولية

14 كانون الأول 2024

فاجأت الأحداث الضخمة والمبهجة والخيالية في سوريا عديدًا من المسؤولين والصحفيين الأجانب، وركزت ردود أفعالهم الفورية على الكيفية التي قد تؤثر بها هذه الأحداث على الاستقرار الإقليمي وغير ذلك من المخاوف الجيوسياسية المجردة، في كثير من الأحيان. لكن بالنسبة للسوريين، ما حدث ليس مجرد مسألة جيوسياسية؛ بل سيغير حياتهم، وخاصة بالنسبة لمئات آلاف أفراد العائلات الذين اختفى أحباؤهم في شبكة نظام الاعتقال والتعذيب الواسع النطاق في البلاد.

عاش المجتمع السوري مزيجًا من الأمل والقلق عندما حررت قوات المعارضة هؤلاء المعتقلين. مع ذلك، لا يزال عشرات آلاف الأشخاص الذين اختفوا على يد النظام السابق طي الغياب، ويصارع السوريين، سواء داخل البلاد أو خارجها مشاعر لم يعرفوا أبدًا أنها موجودة.

ما زلت بالكاد أصدق أن مافيا الأسد، التي قادت سوريا إلى الحضيض لمدة 53 عامًا، رحلت أخيرًا. كانت ليلة السبت الماضي وصباح الأحد أشبه بلوحة سريالية. لم أستطع النوم لأيام، حتى عندما حاولت. تولى الأدرينالين هذا الأمر.

لم أتوقف عن العمل تقريبًا، بما في ذلك مراقبة الوضع، وتنبيه الزملاء في سوريا إلى مواقع مراكز الاحتجاز غير الرسمية وكيفية توثيق ما يكشفونه بفعالية.

بدا النوم والطعام وكأنهما ذكرى بعيدة. لم يعد الحرمان عقابًا، بل واجبًا.

اليوم، أشعر إني تخلصت من ثقل ساحق على جسدي وروحي. أعلم أن هذه كانت العقبة الأولى الهائلة على الطريق نحو سوريا خالية من الاستبداد. أعلم أن الطريق سيكون طويلًا ومعقدًا. أعلم أننا سنواجه عديدًا من الذين يريدون إعاقتنا، خارجيًا وداخليًا، لكنني سأسير عليه مع زملائي السوريين الأحرار بغض النظر عن ذلك.

أهمية ملف المعتقلين والمختفين

كانت سوريا في عهد الأسد دولة سجن. كان الوصول إلى مراكز الاحتجاز لتحرير المعتقلين أولوية قصوى للقوات المسلحة التي دفعت جنود الأسد المحاصرين إلى الوراء. كان مطلب إطلاق سراح المعتقلين أحد الشعارات الأولى للانتفاضة السورية في عام 2011. طالبت الاحتجاجات في مختلف أنحاء البلاد باستمرار بإطلاق سراح المعتقلين. لم تؤدي الاعتقالات واسعة النطاق التي شنها نظام الأسد إلا إلى تكثيف المظاهرات والمقاومة المسلحة، وفي نهاية المطاف سقوط النظام.

إطلاق سراح آلاف المعتقلين من سجون النظام يشكل نقطة تحول مهمة، وأيضًا تذكير صارخ بعشرات الآلاف الذين لا يزالون مختفين، وعدد لا يحصى من الآخرين الذين قُتلوا أثناء الاحتجاز.

لمسألة المعتقلين والمختفين تأثير عميق على الأسر السورية والمجتمع ككل. عندما يتم اعتقال أحد أفراد الأسرة بشكل غير عادل، تنقلب حياة الأسرة رأسًا على عقب. يواجهون عديدًا من التحديات، بما فيه الخسارة وعدم اليقين والصعوبات المالية. هذه المأساة هي كارثة مجتمعية، وكما شهدنا، لا يمكن احتواؤها.

الحاجة إلى عمل عاجل ودعم دولي

كل سوري وسورية تحدثت إليهم يتحدثون عن أحبائهم الذين اختفوا، ويصلون من أجل معرفة مصيرهم. يحاولون كل شيء لمعرفة بعض الأخبار عنهم. نحن في حاجة ماسة إلى الخاتمة والتعافي.

يحتاج المعتقلون المفرج عنهم دعم شامل لسلامتهم. هذا يشمل تلبية احتياجاتهم الجسدية والنفسية، وحماية كرامتهم، وتسهيل لم شملهم السريع مع عائلاتهم. ينبغي إنشاء مجموعة عمل مخصصة لتنسيق هذه الجهود الأساسية. وينبغي لهذه المجموعة أن تنسق هذه الجهود في أقرب وقت ممكن وتعمل على دعم المعتقلين المفرج عنهم بمساعدة المنظمات السورية والدولية ذات الصلة، والاستفادة من خبراتها. من بين أولئك الذين يمكنهم المساهمة في هذه الجهود مجموعات المجتمع المدني السوري، والخوذ البيضاء، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وغيرها من المجموعات الطبية الدولية.

ينبغي تكليف مجموعة عمل مخصصة أيضًا بتوثيق أسماء وتجارب المعتقلين المفرج عنهم وتوثيق الظروف في هذه السجون بشكل شامل، وتأمينها، فضلًا عن مواقع المقابر الجماعية. يمكن لعدة كيانات، بما في ذلك الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، ولجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، والمؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا، ومنظمة العفو الدولية، أن تساهم في هذه الجهود.

هذه الأماكن هي مسارح جريمة ويجب عدم العبث بها. هذه المعلومات ضرورية لإعادة توحيد الأسر والحصول على العدالة. يتعين على الحكومات والأمم المتحدة والمنظمات الدولية أن تستعد على وجه السرعة لدعم هذه الجهود.

بصفتي معتقلًا سابقًا، أستطيع أن أشهد على التأثير الدائم للسجن. فهو ليس محنة مؤقتة فحسب؛ بل هو تجربة تغير الحياة وتخلف ندوبًا نفسية عميقة.

عام 2012، كنت أعمل في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير في دمشق، والذي كان يتمتع بوضع استشاري لدى الأمم المتحدة وركز على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان. كنت مسؤولًا عن قسم توثيق المعتقلين في برنامج توثيق الانتهاكات.

داهمت المخابرات الجوية مكاتبنا وخطفتني وزملائي وأخفتنا قسرًا دون أي اتصال بالعائلة أو المحامين. تعرضت للتعذيب اليومي من مختلف الأنواع حتى تم إطلاق سراحي في عام 2013 نتيجة للضغوط الدولية، بما في ذلك من منظمة العفو الدولية.

بعد إطلاق سراحي، كنت مثل طفل يتعلم الحياة من جديد، يتعلم المشي وكل شيء من جديد. كنت أعاني من أمراض مرتبطة بالاعتقال وكنت في حالة نفسية لا يمكن تجاهلها وكان لا بد من معالجتها بشكل مناسب.

تضاءلت عديد من أعراض وتأثيرات الاعتقال، وخاصة الجسدية منها، لكنني ما زلت أعاني من مشاكل نفسية. الاعتقال في سجون الأسد ليس حدثًا عابرًا في الحياة بل تجربة، إذا نجوت منها، فقد تتركك متغيرًا جسديًا وعاطفيًا وعقليًا بشكل دائم.

أخيرًا، تقول قوى المعارضة التي قادت تحرير المعتقلين إنها تريد تحقيق أهداف الثورة السورية، وطمأنة مختلف شرائح المجتمع السوري، وإرسال رسائل الثقة للشعب السوري. لذلك، ونظرًا لأولوية قضية الاعتقال، فيجب على جميع أطراف الصراع في سوريا، أن تفرج عن جميع المعتقلين السياسيين والمعتقلين تعسفيًا في سجونها، وتحسين أوضاع السجون بما يليق بكرامة الإنسان، ودعوة الجهات الدولية لزيارة هذه السجون. هذه هي الخطوة التي ستساعد في إثبات جدية هذه القوات بأفعالها، وليس فقط بأقوالها، في حماية كرامة الشعب السوري، وتجنب زرع بذور الصراع مرة أخرى أو تكرار انتهاكات نظام الأسد التي تقول إنها تحرر الشعب السوري منها.

لحماية الشعب السوري من تكرار الأهوال التي تعرض لها، هناك عدة مجالات للعمل فيها وخطوات يجب اتخاذها، من أولها أن تضمن الحكومة المنتخبة القادمة:

التصديق على العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بما في ذلك:

    الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري

    والبروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب

    ونظام روما للمحكمة الجنائية الدولية

    ودمجها في دستور سوري جديد والقانون الوطني.

لا يمكن للسوريين أن يخاطروا بالحرمان من حماية القانون الوطني والحماية الدولية مرة أخرى. قطعنا شوطًا طويلًا وبذلنا الكثير من التضحيات، ولن نستبدل الاستبداد والإفلات من العقاب بالاستبداد والإفلات من العقاب.

————————-

اللاتماثليّة الجيوسياسيّة على المسرح السوريّ

روسيا وإيران وتركيا تتصارع… وإسرائيل تقوم بإعادة تموضع تحسباً لـ«السيناريو السيئ»

لمحلل العسكري

14 ديسمبر 2024 م

مثلّثات من دول غير عربية تتصارع جيو – سياسياً على المسرح العربيّ. يتركّز الصراع حالياً على محور الهلال الخصيب. يُلقّب هذا المحور بمحور اللاستقرار المُستدام. وهذا أمر يعني أن الاستقرار فيه هو حالة استثنائيّة، بدءاً من العراق، وصولاً إلى لبنان وفلسطين، ومروراً بسوريا. وإذا رأينا أن المثلث الجيوسياسيّ التاريخي التقليديّ مؤلّف من روسيا وإيران وتركيا، فإن إسرائيل هي جزء من مناطق الهلال الخصيب، وهي لاعب أساسيّ في الصراع الإقليميّ، لكن الصراع يدور أيضاً في داخلها، الأمر الذي يؤكّد ديمومة لا استقرارها، أسوة ببقية دول الهلال، غير أن الفارق التاريخيّ بين فلسطين الأمس وإسرائيل اليوم هو أن إسرائيل اليوم ارتقت في دورها الجيوسياسيّ لتصبح لاعباً إقليميّاً مهمّاً؛ فهي في النادي النووي، ولكن بغموض (كونها لا تُقر بذلك علناً). هناك قدرية جغرافية، كما تاريخيّة، تتحّكم في الصراع الجيوسياسيّ بين هذه الدول؛ فهذه الدول تحمل في جيناتها الحلم الإمبراطوري القديم، ولديها مشاريع إقليميّة لا تخفيها، وتسعى إلى مناطق نفوذ. وإذا كانت غالبيتها إمبراطوريات قديمة، فإن إسرائيل تسعى، بحسب بعض الدراسات، إلى إنشاء إسرائيل الكبرى. وفي حين أنها غير قادرة على احتلال الأرض لإنشاء إمبراطورية بالمعنى التقليديّ، إلا أنها من دون شك تسعى إلى امتلاك القدرة على التأثير في محيطها المباشر، كما في بقية المنطقة.

الصراع الجيوسياسيّ – المثلث الأكبر

ربما يمكن قول إن حالة العداء بين كل من روسيا وإيران وتركيا هي الحالة المُستدامة، لكن تقاطع المصالح في بعض الأوقات قد يؤدّي إلى التعاون. ويعود هذا السبب إلى القرب الجغرافيّ، أو حتى التماسّ المباشر. تظهر هنا منطقة القوقاز منطقة صراع تاريخيّ بين هذه الدول؛ فهي تجاور المثلث الإمبراطوري جغرافياً، وهي من ضمن مناطق النفوذ المشتركة. إذن، هناك تضارب وتقاطع سلبيّ مستمرّان في المسلَّمات الجيوسياسيّة لهذه الدول. وفي هذه الحالة، يبدأ الصراع يأخذ شكلاً خفياً وظاهراً في الوقت نفسه. ولأن هذه الدول لا تريد المواجهة المباشرة، فهي تذهب إلى مسرح ثانويّ لتصفية الحسابات. وبذلك تسعى هذه الدول إلى رسم وخلق واقع لا تماثليّ تستغل فيه ضعف الفريق الآخر المؤقّت كما الدائم، بالإضافة إلى التخطيط للقدرة على النكران، وخلق واقع وظروف لا تورّطها مباشرة، مع تجنّب خرق المسلَّمات الجيوسياسيّة الحيويّة لهذا الفريق كيلا تتحوّل اللاتماثليّة إلى مواجهة مباشرة.

بعض الأمثلة

تتعاون إيران مع روسيا في أوكرانيا، لكنها على خلاف جوهريّ معها في أرمينيا حول معبر «زنغزور»؛ لأنه يتناسب مع مصالح تركيا، بحيث يصل هذا الممر أذربيجان بالمقاطعة الغربيّة الآذريّة نخجوان، الأمر الذي يفتح الباب أمام حكومة الرئيس رجب طيب إردوغان للذهاب من إسطنبول إلى بحر قزوين عبر هذا المعبر ودون عوائق تُذْكر. وإذا سمحت إيران بالتنفيذ، فإن هذا الأمر سيقطع الطريق عليها نحو الشمال عبر أرمينيا ومنها إلى روسيا.

بنت إيران منذ عام 1983 حالة لا تماثليّة في المنطقة عبر مشروع ما يُسمّى بمحور المقاومة. كانت إسرائيل المُتضرّر الأكبر من هذا المشروع، لكن، بعد بدء الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، بدأ هذا المشروع اللاتماثليّ يهدد الأمن القومي التركيّ، خصوصاً بعد وصوله إلى مناطق النفوذ التركية في الشمال السوري حيث الأكراد. ومع الدخول الروسي على خط الحرب السوريّة في عام 2015، والتموضع العسكري في قاعدتي حميميم وطرطوس، ربما يمكن قول إن أكبر لعبة لا تماثلية بدأت بين الأطراف الثلاثة الأساسييّن، لكن مع دور ثانوي لإسرائيل وعن بُعد.

مرّت الحرب السورية بعدة مراحل. وفي كل مرحلة، كان المثلّث الجيوسياسيّ المؤلَّف من الدول الثلاث يدير اللعبة تماشياً مع الواقع الميداني، وبشكل تجنّب الصدام الكبير والمباشر بينها. فعلى سبيل المثال، وعندما تم الاتفاق على 4 مناطق لخفض التصعيد، حسب منصّة آستانة، قامت سوريا وروسيا، بالتعاون مع إيران، بضرب وإسقاط هذه المناطق بدءاً من الجنوب السوري، وصولاً إلى المنطقة الشمالية التي تضم إدلب، حيث المصالح التركيّة. وبذلك تكون تركيا قد أصبحت في حالة لا تماثليّة مع بقية اللاعبين، الأمر الذي جعلها تقاتل مباشرة وعبر جيشها الرسميّ في إدلب. وتعبيراً عن التحولات في موازين القوى على المسرح السوريّ، شهد المسرح الدبلوماسيّ صورة فريدة من نوعها، وهي جعل الرئيس إردوغان ينتظر بفارغ الصبر دقيقتين أمام باب الرئيس فلاديمير بوتين في موسكو قبل الاجتماع به في عام 2020. ورداً على هذ الحادثة المذلّة دبلوماسيّاً، جعل الرئيس إردوغان الرئيس بوتين ينتظر على بابه عندما كان في طهران عام 2022، لمدة 50 ثانية قبل الدخول للقائه. ألا تعكس هذه المشاهد حالات اللاتماثليّة بين الاثنين؟ أليست صراعاً جيو – سياسيّاً ولكن بطرق ووسائل أخرى؟ الجواب بلى بالطبع.

بعد زلزال غزّة والحرب الإسرائيليّة على لبنان، وبعد الصدامين المباشرين بين إسرائيل وإيران، وبعد سقوط النظام في سوريا وخروج إيران خاسرة منها، تغيّر المشهد الجيوسياسيّ الإقليميّ. عادت إيران إلى محيطها المباشر. هُدّد الوجود العسكري الروسيّ على الساحل السوريّ وسط مؤشرات على سحب للقوات الروسية من سوريا. تبوأت تركيا صدارة المستفيدين من هذا التحوّل، وبدأت إسرائيل بعملية تموضع جديدة بالاتجاه السوري تحسبّاً للسيناريو السيئ، لكن التحدّي الأكبر هو في قدرة الفصائل المسلّحة السوريّة على إعادة إنتاج نظام سياسيّ جديد، يقوم ويرتكز على التعددية الإثنيّة والدينيّة كما المذهبيّة. فهل هذا ممكن؟ بالطبع ممكن إذا لم تتقاتل هذه الفصائل مع بعضها، خصوصاً أن الحرب السورية لم تعد تفيد أحداً، كما أن تكلفة استمرارها أكبر كثيراً من أرباحها.

الشرق الأوسط

————————

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى