سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
————————–
صهاينة ما بعد الأسد: “حسافات” وحسابات/ صبحي حديدي
15 كانون الأول 2024
يعيش المرء حفنة أيام، أو شهر رجب واحداً كما تقول الحكمة العتيقة، فيرى عجباً؛ وراهنوا أنّ غرائب شتى سوف تنتظره إذا تابع ما يكتبه صهاينة من كلّ فجّ ضحل أو عميق، حول سوريا ما بعد فرار بشار الأسد وانهيار ركائز نظام “الحركة التصحيحية”، صناعة الأب والوريث، واحدة تلو الأخرى. وليس الأقلّ نُطقاً بالعجيب أن تقرأ كتابات أقرب إلى “حسافات”، كما قد يقول أشقاؤنا العراقيون، على رحيل طاغية وابن سفاح وسليل عائلة مجرمي حرب عتاة؛ بل لعلّ أصحاب السبق هم أولئك الصهاينة الذين يتباكون على “تقصير” الديمقراطيات الغربية في حماية نظام ظلّ حارس احتلال الجولان الأمين طوال 50 سنة ونيف!
المفضّل في يقين هذه السطور، حتى الساعة على الأقلّ، صهيوني إسرائيلي يُدعى أرييل بئيري، يعرّف عن نفسه هكذا (نعم، صدّقوا!): “ستراتيجي وباني مؤسسات يكرّس نفسه لمستقبل أفضل لإسرائيل والشعب اليهودي. ويتفانى في حلّ المشاكل التي تواجه الإنسانية”؛ وهو الرئيس التنفيذي لخمس مجموعات عمل واستشارة، وصاحب مدوّنة تتخذ مفردة “المنارة” عنواناً لها. فما الذي يحزنه في رحيل آل الأسد، نظاماً ومافيات وعصابات وقتلة، أي بالجملة والمفرّق كما قد يصحّ القول؟
نقطة أولى هي أنّ العائلة الأسدية، وآخر رجالاتها بشار، كانت تسير حثيثاً نحو تحطيم “كذبة” صنعها الإنكليزي مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج ـ بيكو بموجب الاتفاقية الشهيرة التي خلقت كيانات زائفة مثل العراق وسوريا؛ وهضمت، استطراداً، حقوق أقليات من الكرد واليزيديين والسريان والآشوريين وسكان الأهوار والعلويين والدروز… وكما أخطأ الغرب في العراق قبل 20 سنة، فظنّ أنّ هذا البلد يحتمل إقامة نظام ديمقراطي يتساوى فيه الأفراد، أو أنّ مسمى “العراق” له أيّ معنى فعلي خارج التخيّل أساساً؛ فإنّ الغرب سوف يخطئ مجدداً حين ينتظر من مسمى “سوريا” أيّ حظّ مماثل.
تفريع هذه النقطة، وربما عمود ارتكازها، هو أنّ آل الأسد كانوا على وشك ردّ سوريا إلى مكوّناتها الفعلية بعيداً عن مجموع البلد الذي رسمته “كذبة” سايكس وبيكو، أي إلى دويلات لأقليات إثنية ودينية حرمها المشروع الاستعماري الغربي (نعم، صدّقوا هنا أيضاً!) من حقوقها في الاستقلال والسيادة. وفي مناطق سوريا الساحل والوسط والشمال وشرق الفرات والجنوب، كان ممكناً إقامة كيانات تتأسس على مزيج من الأمر الواقع والتقسيم غبر المعلَن؛ ولقد فات هذا الصهيوني، “الستراتيجي” حسب توصيفه لذاته، أن يقتبس مقولة الأسد الفارّ حول “سوريا المفيدة”، لأنها كانت ستضيف إلى رأيه مطمحاً تنفيذياً على الأرض، وعيّنة على مكوّن ديمغرافي وجغرافي ألحق به الاستعمارُ الغبن والإجحاف.
“حسافات”، إذن، بعد الحسابات على اختلاف أصنافها، الجيو ـ سياسية أو التاريخية أو الديمغرافية أو الثقافية أو الأخلاقية؛ لا تغيب عنها، مع ذلك، جرعة تفلسف ركيكة سطحية، تستهدف تبرئة الكيان الصهيوني من مسارات هذه المعادلة؛ غير المنفصلة عن إرث سايكس ــ بيكو، في أوّل المطاف كما في نهايته. فارق دولة الاحتلال، حسب تفلسف بئير، هي التالية (صدّقوا أيضاً، للمرّة الثالثة!): أنها “ولدت حين كانت الجالية اليهودية القاطنة في أرض الأسلاف قد حاربت الجيوش الغازية التي أرادت فرض رؤيتها عن الحدود الاستعمارية”؛ وحيث “شاءت جماعة بشرية الحفاظ على استقلالها داخل كيان سياسي يعكس تاريخها، وثقافتها، وتقاليدها”؛ بالنظر إلى أنها “التعبير الوحيد في المنطقة عن شعب قديم ولد من جديد بعد الغزو”….
الخبر السيء لأمثال بئيري هو أنّ السوريين، مثل العراقيين، متجذرون في أرضهم منذ قرون، لا عاقل يضعها في مقارنة مع عقود استيطان الصهاينة في فلسطين، وبالتالي فإنّ سقوط نظام آل الأسد يتوجّب أن يستدعي الكثير من الحسابات الإسرائيلية؛ حتى حين لا يجبّ التباكي والحسرات، مع ذلك.
القدس العربي
————————
هل تصنع “تحرير الشام” مفاجأة الديمقراطية في سوريا، ومَن مِن “المعارضة” الأقرب للحكم؟/ عمار جلّو
الأحد 15 ديسمبر 2024
هل تكون هيئة تحرير الشام المفاجأة الكبرى في المشهد السوري بعد سقوط نظام الأسد؟ وكيف ستتعامل مع التحديات التي تواجهها في مرحلة انتقالية معقدة؟
هناك -من المعارضة نفسها- من يشك في قدرتها على تحقيق وعود “التعددية في الحكم”، وتجنب الوقوع في فخ الاستبداد بزيٍّ جديد. مع سؤال مشروع لا يغيب عن ذهن أحد اليوم، حول قدرة من وُصفوا سابقاً بالإرهاب على صناعة معجزة سياسية كالديمقراطية؟
مع انفراد حكومة الإنقاذ بتسيير المرحلة الانتقالية، تتشابك الطموحات بالتحديات، في الوقت الذي لا يزال فيه كابوس المفاضلات الأسدية القائل “إما أنا أو الفوضى” حاضراً في الذهن الجمعي السياسي السوري. وبرغم كل هذا يبدو المشهد السوري وكأنه على أعتاب فصل جديد، حيث يبقى المستقبل مفتوحًا على كل الاحتمالات.
أسئلة كثيرة يطلقها المشهد السوري الراهن تاركًا إجاباتها برسم المستقبل المنظور، ويتمحور غالبها حول حقيقة انفتاح هيئة تحرير الشام على القوى السياسية والعسكرية الموجودة على الساحة السورية، بعد أن قادت الهيئة بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي جهودًا مشتركة أدت إلى إسقاط نظام الأسد.
هل يمكن للإسلاميين صنع تعددية؟
سرعة وأحادية تصدّر حكومة الإنقاذ، الذراع المدني لهيئة تحرير الشام، لإدارة المرحلة الانتقالية في دمشق، تخاطر بإثارة معارضة داخلية وربما صراع داخلي، حسب تشارلز ليستر، وهو زميل أول، مدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف في معهد الشرق الأوسط، وذلك بعد نقل حكومة نظام الأسد لسلطاتها إلى هيئة انتقالية تقودها حكومة الإنقاذ.
“إلا أن أي جماعة في موقعها، تتولى زمام الأمور من نظام منهار في بلد منهك، ستتصرف بنفس الطريقة”، حسب إفادة الزميل البارز في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، يزيد صايغ، لوكالة رويترز. ويضيف: “هيئة تحرير الشام تسعى بوضوح إلى الحفاظ على الزخم على جميع المستويات. هناك مخاطر متعددة مع تحديدها الأولويات ووتيرة الآتي. إحداها هو تأسيس شكل جديد من الحكم الاستبدادي في زي إسلامي”.
مع ذلك، فإن تنوع المجتمع والمعارضة السورية يصعّب احتكار مجموعة واحدة للنفوذ. إلى جانب حرص تركيا، وهي الداعم المؤثر للمعارضة، على تشكيل حكومة يمكن أن تحظى بدعم دولي، حسب صايغ.
في هذا السياق، أشار وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى رغبة أنقرة برؤية حكومة وطنية/شاملة غير إرهابية (حزب البي واي دي الكردي) في سوريا. ومثله قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، إن الانتقال في سوريا يجب أن يؤدي إلى “حكم ذي مصداقية وشامل وغير طائفي” يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لعام 2015، عبر عملية انتقال سياسي بقيادة سورية تيسّرها الأمم المتحدة.
ومن جانبه، أكّد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية “استمراره في العمل على إتمام انتقال السلطة إلى هيئة حكم انتقالية ذات سلطات تنفيذية كاملة، لتحقيق سوريا حرة ديمقراطية تعددية”.
لكن الائتلاف اشتكى من انفراد هيئة تحرير الشام بالحكم، عبر تنصيب حكومة الإنقاذ لقيادة المرحلة دون تشاور معه أو مع الفصائل المسلحة، حسب مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة. مشيرًا إلى أسباب شخصية بعيدة عن التوافق وقبول الآخرين تقف وراء اختيار محمد البشير لرئاسة الحكومة المؤقتة، في ظل انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين وقربه من أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام.
هل سيدعم المجتمع الدولي من “كانوا” إرهابيين؟
إنما، لضمان بقاء الهيئة على المسار الصحيح وأن تكون الحكومة الانتقالية شاملة، يجب أن يكون المجتمع الدولي ثابتًا بدعمه لهيكل الحكم الجديد، حسب زميل برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاتام هاوس، نيل كويليام. منوهًا لمصلحة تجمع واشنطن وبروكسل وأنقرة وعمان وباقي العواصم الخليجية والعربية في نجاح قصة سوريا.
الأهم لدى كويليام هو قيادة السوريين لعملية انتقال سياسي يدعمها المجتمع الدولي وليس العكس. فالطريق مليء بالتحديات، والسوريون يعرفون ويفهمون ذلك جيدًا. مع ذلك، فإن شعور النشوة والوحدة الذي يتقاسمه أغلبهم، يجب أن يحفز المجتمع الدولي على تقديم الدعم الفوري للحكومة الانتقالية، بغض النظر عن تكوينها.
“فيما يتعلق بدوائر المعارضة، أعتقد أنها الخاسر الأكبر في أي حديث اليوم”، قال قتيبة إدلبي، وهو زميل أول ومدير مكتب سوريا في المجلس الأطلسي، لرصيف22. يضيف: “هذه الدوائر أصلاً وضعت ضمن إطار سياسي لتمثل الحالة الشعبية عام 2012-2013، لم يكن لها هيكلية قيادة وسيطرة، ولم يكن لها تمثيل أو قيادة سياسية وعسكرية. وهذا الأمر لم يعد موجودًا على الأرض اليوم. للأسف لم تحاول المعارضة التقليدية، خلال كل السنوات السابقة، استغلال الواقع لبناء حالة شعبية أو للتواصل مع أطراف الأمر الواقع كما كان يجب عليها”.
للأسباب الآنفة، يعتقد إدلبي بأن دوائر المعارضة هذه ستجد نفسها اليوم خارج المعادلة، وربما بشكل كامل تمامًا. وينطبق الأمر على الائتلاف وهيئة التفاوض وعلى الحكومة المؤقتة بالتأكيد.
وخلال لقاء صحفي، عارض قائد إدارة العمليات العسكرية نقل أو مناصفة السلطة مع جماعات المعارضة الخارجية، في إشارة إلى الائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة المنبثقة عنه وسواهما.
“لا يمكن تهميش الأشخاص والقيادات والكفاءات، كأفراد لا كيانات. لكن لا يمكن قبول طلب كيان سياسي بالحكم أو نقل السلطة إليه. نحن قمنا بكل شيء تقريبًا”، هذا ما قاله أحمد الشرع، مضيفًا: “لقد أخطؤوا التقدير، اقتصر عملهم على حديث غير واقعي عن إسقاط نظام الأسد، وعلى الذهاب إلى الدول والسفارات للمطالبة بإزالة الأسد، وبأنهم بديل عنه”.
وحقيقةً فإن حديث الشرع أعلاه لم يجانبه الصواب أبداً، بل إنه حديث ملطّف على مكون مهم من مكونات المعارضات المتفرقة، والتي هيّأت لها كل مقومات النجاح على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، بسبب الخلافات البينية والرؤية السطحية لطبيعة العلاقات الدولية ومتطلباتها، إضافة لسقوط المعارضة الخارجية في مستنقع الوكالة عن الدول بدل الشراكة والتحالف معها، مع الفشل بتقديم ضمانات مطلوبة وموثوقة للأطراف المحلية والإقليمية والدولية، أو لرؤية واضحة لسوريا ما بعد الأسد.
فشل الإئتلاف السابق.. يُدفع ثمنه اليوم
بجانب ذلك، فشل الائتلاف والحكومة المنبثقة عنه بتنظيم نفسيهما بطريقة مؤسساتية، ما أدى مؤخراً إلى الفشل بإقناع الشارع السوري بأنه بديل ديمقراطي عن نظام الأسد، في ظل ما بات يُعرف لدى هذا الشارع بـ”تدوير الطربوش”.
وأهم من ذلك، الفجوة الكبيرة بين العملين السياسي والعسكري، نتيجة هامشية قبضة الائتلاف الوطني على الجانب المسلح للثورة (الجيش السوري الحر أو الجيش الوطني)، مع الفشل بترجمة الانتصارات الميدانية إلى مكاسب سياسية تخفّف نزيف الدم السوري، أو للانضواء ضمن تحالفات عسكرية فرضها ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). وجميعها أسباب موضوعية من وجهة نظر معدّ التقرير، بحكم سوريّته، أدت لتآكل شعبية الائتلاف لدى الشارع السوري الثوري.
أولوية تجنب الفوضى
“يجب أن يؤكد الشرع سلطته بسرعة لتجنب الانزلاق إلى الفوضى”، هذا ما يقوله لوكالة رويترز الخبير في الشؤون السورية ورئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، جوشوا لانديس، مستأنفاً: “لكن عليه أيضاً توسيع نطاق قدرته الإدارية من خلال جلب التكنوقراط وممثلي المجتمعات المتنوعة”.
ولتوحيد البندقية تحت قيادة مؤسسة واحدة تجنباً للفوضى والاقتتال الداخلي، قام الرجل الأول في المشهد السوري الحالي بزيارة مدينة درعا في جنوب سوريا. وبعد اجتماعه بأحمد العودة، قائد غرفة عمليات الجنوب، صدر بيان عن الجهة الأخيرة واصفاً الاجتماع بأنه “خطوة مهمة نحو توحيد جهود قوى الثورة بقيادة مركزية موحدة تحفظ حقوق الجميع، وتضمن مشاركة فاعلة من كافة أبناء الوطن في بناء الدولة السورية بما يقودها نحو مستقبل آمن ومزدهر، إلى جانب تحديد أولويات المرحلة المقبلة، وتنسيق العمل وتعزيز التعاون في كلا المجالين، المؤسسة العسكرية والإدارة المدنية”.
والغالب أنه في الوضع الحالي، أو على الأقل خلال الفترة القادمة، لن يكون هناك انفتاح كبير على جهة من خارج التحالف الموجود ما بين الهيئة وباقي الفصائل بشكل أساسي، نتيجة الحاجة لفرض نوع من الاستقرار، لا سيما وأنه – عملياً – فهروب بشار الأسد لا يعني أن بقايا النظام غير موجودة في سوريا. وهو ما يدركه مجتمع الفصائل باختلافاتها، حسب إدلبي، معتقداً أن ذلك سيؤدي لغياب أي تصادم فيما بينها. الاستثناء الوحيد في هذا الجانب، قد يكون فيما يتعلق بالجبهة الجنوبية أو قوات أحمد العودة، نتيجة تخوّف واضح من تحول هذه القوات إلى “بروكسي” لإحدى الدول الإقليمية بهدف تغيير الوضع على الأرض. أما بالنسبة لباقي الفصائل، فهناك الكثير من الجوامع التي يمكن من خلالها لهيئة تحرير الشام الاتفاق معها على إطار موحد.
وانعكاساً للتنوع في سوريا، تحدث الشرع عن تحقيق اللامركزية في السلطة إلى جانب بناء مؤسسات الدولة. وقال في حديثه لـCNN: “سوريا تستحق نظاماً إدارياً مؤسسياً، لا يوجد فيه حاكم واحد يتخذ قرارات تعسفية”.
قسد… الرقم الصعب
على ضوء هذا الانفتاح، أعربت قيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن استعدادها للعمل مع حكومة دمشق الجديدة. كما رفعت علم الثورة السورية المرصّع بالنجوم الثلاث في مناطق سيطرتها. ومؤخراً أكد زعيم “قسد”، مظلوم عبدي، استعداده للتواصل مع الحكومة الجديدة، لافتاً إلى أهمية الحوار في تحديد مستقبل سوريا وضمان حقوق جميع مكوناتها.
ولتداخل هذه المسألة مع الجوار التركي، يعتقد إدلبي بأنه مع انتهاء نظام الأسد، وحسب ما سيجري مع هيئة تحرير الشام، سنرى إما حالة اتفاق بين الهيئة وقوات “قسد” بشكل يضمن نوعاً من البقاء لـ”قسد” داخل المناطق الكردية، أو عملية تركية تدفع بالجيش الوطني شرقاً باتجاه مناطق شمال شرق سوريا. وفي كلتا الحالتين، يبدو أن قوات “قسد” في موقع خاسر.
“لكن على الجانب الآخر، سيجد الجيش الوطني نفسه بدون غطاء سياسي تركي مباشر، نتيجة تراجع أو زوال الحاجة إليه. ففي ظل وجود شريك قوي أمنياً وعسكرياً، مثل الهيئة، لا أعرف حقيقة ما الحاجة إلى الجيش الوطني؟” يضيف.
بعد زوال النظام وتلاشي قواته، يتصدر المشهد السوري أربع قوى عسكرية: قوتان مركزيتان هما هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية. وبجانبهما قوات الجيش الوطني في مناطق شمال وشمال شرق سوريا، ولكن بنسبة أقل بكثير من مناطق سيطرة “قسد” التي تسيطر أيضاً في هاتين المنطقتين، إضافة إلى قوات الجنوب في درعا ومحيطها، والتي عادت مجدداً إلى امتدادها الثوري بعد موجة مصالحات بدأت بعد عام 2018. والأخيرتان أقل توحيداً ومتانة مؤسساتية.
ومع إنشاء الهيئة حكومة دمشق المؤقتة، لا تزال أجزاء كبيرة من سوريا خارج أيديها. ومن أجل تحقيق أهدافها في تشكيل الدولة، سيتعين على الهيئة دمج هذه الجهات الفاعلة، إما من خلال المفاوضات والتسوية، أو بالإكراه والقوة، على الرغم من أن ذلك قد يثير عداءً سياسياً واسعاً.
مع ذلك، يبدي قائد الهيئة وإدارة العمليات العسكرية براغماتية وحساً سياسياً يفوق التصور، نتيجة خلفيته الأيديولوجية الراديكالية مع حداثة دخوله المعترك السياسي، ما يمنح الاطمئنان على وحدة سوريا واستقرارها، وأملاً بتجنب انحدارها إلى أتون الحرب الأهلية. وبعيداً عن أي هيمنة لمكون أو فصيل، سياسي أو عسكري أو ديمغرافي، بسبب العوامل الديمغرافية السورية وتنوع توجهات مراكز القوى الأخرى.
رصيف 22
————————
سقوط “الأسد والأبد” وسجونهما/ زياد ماجد
15 كانون الأول 2024
طوى السوريون قبل أسبوع صفحة من تاريخهم وتاريخ المنطقة والعالم استمرّت أكثر من نصف قرن. صفحة ما سُمّي بسوريا الأسد، أي تلك التي قامت على أساس احتكار السلطة بالقوة من قبل عائلة استندت في حكمها إلى سبعة أركان.
الركن الأول هو ذاك المرتكز إلى أجهزة مخابراتية وأمنية ووحدات عسكرية في الجيش، شديدة الولاء من خلال قادتها للعائلة الأسدية، وشديدة البطش دفاعاً عنها وعن نفسها وعن مكتسباتها، وشديدة التحسّب أيضاً لاحتمالات الانقلاب العسكري عليها. ولعبت خبرة حافظ الأسد في تكوين هذه الأجهزة والوحدات دوراً أساسياً وهو القابض على السلطة بعد ثلاثة انقلابات شارك في اثنين منها (في العامين 1963 و1966) وقاد الثالث (في العام 1970) مطيحاً (قتلاً أو سجناً) بكل من يمكن أن يهدّد سلطانه المطلق.
الركن الثاني هو المرتبط بالطائفية، أي بتحويل الانتماء الديني إلى ما يُشبه الانتماء السياسي، ومن ثم توظيفه لتمييز أفراد عن آخرين. هكذا جرى التعامل على مدى عقود مع المنتمين ولادةً إلى هذه أو تلك من المجموعات الدينية بوصفهم كتلاً أو جماعات سياسية – طائفية مكتملة. وهكذا أيضاً وظّف حافظ الأسد ومن بعده وريثه بشار الطائفية لإيجاد قاعدة علوية للنظام تقدّم شروط الولاء والطاعة، وتحظى بحصانة تجاه العنف الذي تُشجَّع على استخدامه باسم السلطة ضد “الآخرين” بهدف ترويع المجتمع السوري وإخضاعه.
وهذا يُحيلنا إلى الركن الثالث، أي العنف. ذلك أن النظام الأسدي ابتنى عبر مركّب الأجهزة التي أشرنا إليها والطائفية التي اعتمدها وغذّاها، سياسات العنف المفرط، المستهدف خصومه تارةً (الإخوان المسلمين وبعض أطياف اليسار الشيوعي بخاصة)، والمعمَّم على المجتمع تارةً أخرى (ولنا في نموذج حماه وسجن تدمر وشبكة الفروع الأمنية والمُعتقلات المثال الأبرز تحت سلطة الأب، ومعظم سوريا بمدنها وأريافها وبسجن صيدنايا وبالتعذيب الوحشي تحت الابن). وقد تحوّل العنف مع الوقت في سوريا إلى واقع عاش الناس برعب في ظلّه، بجوار عشرات آلاف المعتقلين وعلى مقربة من عشرات المقابر الجماعية حيث دفن النظام ضحاياه ومنع حتى بناء الأضرحة والقبور لهم. وإذ حطّمت ثورة العام 2011 جدران الخوف وتحدّت العنف، أعاد النظام بناء هذه الجدران بمعاونة إيران وروسيا بعد سنوات مجازر وتدمير وتهجير وتعذيب واغتصاب وقتل بالبراميل المتفجرة وبالسلاح الكيميائي. لكنّ السوريّين حطّموها من جديد قبل أيام وأسقطوا نظامها وسجونه.
الركن الرابع الذي استند إليه النظام هو الركن الإيديولوجي وحقله الرمزي الذي تحوّل مع الوقت إلى مزيج من التوتاليتارية والبروباغاندا قبل أن يتراجع دوره في الآونة الأخيرة.
فبعد حقبةٍ شكّل حزب البعث فيها، بخطابه ومصطلحاته ولغته وشعاراته ومزاعمه وخريطته الجغرافية-السياسية، القوام “الثقافي” للسلطة الأسدية، تلجأ إليه في إعلامها ومناهج التعليم في مدارسها، وبعد أن شكّل الحزب أيضاً الإطار التنظيمي الوحيد الذي ينبغي الانتساب إليه للحصول على المكاسب والمنَح والمناصب، بوصفه وفق الدستور الأسدي “قائد الدولة والمجتمع”، تبدّلت الأحوال في العقدين الأخيرين. فصار الحزب هيكلاً قليل الفاعلية، يُستخدم كواحد من وسائل القمع والزجر واستقطاب الباحثين عن انتفاع لإظهار السلطة المترنّحة تدريجياً بعد العام 2011 وكأنها ما زالت تملك هيئات تنظيمية خارج مؤسساتها الأمنية والعسكرية والمخابراتية.
ترافق ذلك قبل تبدّل الأحوال البعثية وخلالها مع ظاهرتين. ظاهرة إطلاق المسمّيات الأسدية على الطرقات السريعة والمؤسسات الكبرى والملاعب الرياضية والمنشآت السياحية والصناعية وسواها من منشآت يعدّها النظام “منجزاته التحديثية”. وظاهرة نشر تماثيل الأسد الأب والصور العملاقة للأسد الإبن في كل أرجاء المدن السورية، بحيث احتلّت التماثيل والصور الفضاء السوري العام وبدأت وكأنها عناصر أمن تراقب الناس يومياً في كل حركة وتجوال روتيني أو طارئ.
الركن الخامس هو ذاك المرتبط بالبيروقراطية والقضاء والاقتصاد والشبكات الزبائنية. فالنظام الأسدي وسّع الإدارة السورية ووظّف في السبعينات والثمانينات مئات الآلاف فيها بهدف تكوين قاعدة اجتماعية لدولته الجديدة. وقام كذلك بتعزيز شبكات الانتفاع على أسس الولاء السياسي ووفق الانتماءات المناطقية والطائفية. وسيطر على القضاء عبر القوانين التي فرضها وأبرزها قانون الطوارئ الذي جرى العمل به من العام 1963 ولغاية العام 2011، وعبر التعيينات التي هدفت إلى تحويل الجسم القضائي إلى أداة معاقبة للخصوم أو إحقاق لعدالة إنتقائية، تستهدف موجباتها من لا سند سياسياً له، في حين تُهمل من وفّرت له ولاءاته وانتماءاته حصانة لا يرفعها غير الأسد الأب ثم ابنه وبعض النافذين في حاشيتيهما من أقارب وأصدقاء.
وشكّل الاقتصاد السوري حيّزاً آخر من أحياز الأسدية. إذ أتاح الانفتاح المحدود أيام الأب في السبعينات والثمانينات (مقارنة بالاقتصاد الموجّه وبموجة التأميمات في الستينات) لتجار ووجهاء وصناعيين وأصحاب أراضٍ (كما لضبّاط ومسؤولين بعثيين) الحصول على عقود وأرباح وإعفاءات ضريبية. كما أتاح الانفتاح الموسّع والخصخصة للمقرّبين من الابن، حين بدأ تحضيره للوراثة في النصف الثاني من التسعينات، ثم بعد التوريث ابتداء من العام 2000، شراء الكثير من مؤسسات القطاع العام والحصول على مشاريع وعقود كبيرة واحتكار خدمات (مثل الاتصالات) وقطاعات حيوية. وجرى تشجيع بناء اقتصادات مافياوية بموازاته، غالباً ما تقاطعت أنشطتها مع أنشطة الدولة الأسدية وضاعت أحياناً الحدود بين مداخيلها الخاصة والعامة. فمن السرقات والمصادرات والتهريب ونهب لبنان أيام الأب، إلى السرقات والتهريب والخوّات ثم الاتجار بمخدّرات الكبتاغون أيام الابن، اجتذبت الأنشطة غير الشرعية جهوداً كبرى وتوزّعت العائدات من أرباحها على مافيات وعلى حماة وشركاء في العائلة وفي بنية النظام نفسه.
ويمكن اعتبار بناء الصورة الركن السادس من أركان الأسدية في سوريا. فصورة “الأب القائد”، أو “بطل تشرين”، حامي العروبة في “قلبها النابض”، المتدخّل في لبنان لإنقاذه، المدافع عن فلسطين، القاسي وقت الشدائد والليّن وقت التسامح، باني “سوريا” المنيعة وجالب الاستقرار لها، رافقت حافظ الأسد وإطلالاته في المناسبات المختلفة. ثم رافقت صعود الابن والعشرية الأولى من حكمه صورة أخرى، هي صورة الرئيس الشاب، التحديثي والعصري، المُقبِل على العلوم والانترنت، المتزوّج من سيدة وافدة إلى سوريا من لندن حيث كبرت وعاشت، الحاجزة إلى جانبه في صورة التحديث هذه موقعاً أساسياً يروق لقسم من جيل جديد في سوريا كما يروق لوسائل الإعلام الغربي. على أن الصورة تعدّلت بعد العام 2011، حين اضطرّ الأسد إلى اللجوء لصورة والده، فحاول استنساخها بلباسه العسكري المستجد، وبحزم لم تساعده ملامحه على تظهيره، ولو أن التوحّش في القصف والقتل والتعذيب حتى الموت من قبل أجهزته الأمنية والعسكرية ترجمه إلى ما تخطّى توحّش أبيه، صاحب الصورة الأصلية.
أما الركن السابع، فهو ركن السياسة الخارجية التي شكّلت طويلاً طوق النجاة للأسدية، ووسيلة سحق إضافي للمجتمع المهيمنة عليه. فمن التحالف مع الاتحاد السوفييتي ثم إيران والتنسيق في الوقت نفسه مع أمريكا والسعودية، ومن اجتياح لبنان واحتلال أجزاء واسعة منه إلى السعي للتلاعب بالمسألة الكردية واستخدامها ضد تركيا، ومن الاشتباك مع “عراق صدام حسين” إلى التطبيع مع “مصر حسني مبارك” بعد قطيعة مع السادات، ومن هجاء إسرائيل اليومي وتهديدها دون إطلاق طلقة واحدة عليها منذ فشل حرب استرداد الجولان العام 1973، سعت السياسة الخارجية الأسدية في ظلّ الأب إلى توسيع هوامشها وتحويل دمشق إلى مركز وساطات بين المتخاصمين إقليمياً ودولياً ومركز مفاوضات على حساب الجار اللبناني الصغير المُخضع سورياً (وإسرائيلياً) لاحتلال يرعى ويطيل حربه الأهلية.
أما الابن، فقد ضاقت هوامشه بعد المتغيّرات التي عصفت بالعالم والمنطقة وبعد طرد جيشه من لبنان، فاستقرّت سياسته على التحالف مع روسيا وإيران، قبل أن تحوّله الثورة الشعبية وكفاحها المسلّح ضده والصراع الإقليمي على سوريا، إلى نجم من نجوم اليمين المتطرّف عالمياً، الداعم له في مواجهة “الإسلاميين” (أو بالأحرى المسلمين بالعرف العنصري)، وإلى نجم من نجوم بعض التيارات اليسارية الغربية والعربية التي تعدّه عن جهل أو عن انتفاع معادياً للإمبريالية مواجِهاً للمؤامرات المُحاكة من الخارج ضده. كما مكّنته خشية الأنظمة العربية من الثورات، ورغم حقبة تصادم مع قطر ثم مع السعودية (لأسباب إيرانية)، إلى الحصول على الدعم من بعضها، لا سيّما من الإمارات والبحرين والجزائر.
هكذا، وباستفادة من عوامل خارجية وداخلية، وبالاستناد إلى أركان حكمه السبع المشار إليها لفترة طويلة، ثم إلى العنف المفرط منذ العام 2011 وإلى الاحتلال الإيراني والروسي تدريجياً منذ العام 2013 ثم بعد العام 2015، عاش النظام الأسدي 54 عاماً، جاثماً بسجونه وتماثيله على صدور السوريين الأحياء ومقابر موتاهم. وهو إذ هجّر الملايين منهم أملاً بالنجاة من عقابهم بعد الثورة، وإذ ظنّ أن حمايته الخارجية ستظلّ تقيه من الداخل الذي عمل على تكسيره وتقسيمه، فاته أن حماته انسحبوا لانشغالات وحروب أخرى منذ سنتين، وأن أركان النظام تداعت الواحد تلو الآخر على مدى السنوات الماضية، وأن التوحّش الذي لطالما أدام عمره لم يعد كافياً لمواجهة من قرّر الخلاص النهائي منه وتحرير سوريا.
سقط نظام الأسد إذن، وسقط معه “الأبد” الذي رفعه شعاراً لحُكمه، مصادراً من خلاله الزمن والفعل السياسي، وسقطت معه أيضاً السجون والتماثيل والصور العملاقة وشعارات “البعث” وبروباغاندا التحديث والممانعة. وبات حقل الممكن مفتوحاً اليوم، والمستقبل مُلكاً للسوريين بتحدّيات وصعوبات جسام وبتعدّد احتمالات وممكناتٍ أيضاً…
*كاتب وأكاديمي لبناني
القدس العربي
———————–
الموالون وتلاشي نظام الأسد/ راتب شعبو
15 ديسمبر 2024
كان الفصل الأخير من قصة سقوط نظام الأسد سريعاً، وبقدر من الدماء يكاد لا يذكر في المقياس الرهيب الذي شهدته سورية في عقدها الأخير، إلى الحد الذي يسمح بالقول إن نهاية القصة كانت، كما البداية، سلمية. وكان التحوّل خاطفاً إلى الحد الذي بدا أن التعبير الأنسب هو تلاشي النظام وليس سقوطه، فالظاهر أنه تلاشى من دون أن يبقى منه شيء، اختفت حتى الأصوات التي لم تكفّ حتى الأمس القريب عن تمجيده والدفاع عنه. وأهم ما في الأمر أننا تجاوزنا، على عكس التوقعات، ما كنا نسميها “صدمة الساحل”، أي أن يشهد الساحل صراعاً دموياً قبل أن تحسم السيطرة فيه، أو أن يشهد الساحل مجازر انتقامية بعد حسم السيطرة. كان انتقال السيطرة سلمياً، وهذا لا يحقن الدماء فقط، بل أيضاً يسهل البدء ببناء جديد. وقد كان استسلام دمشق وفرار رأس النظام، عاملاً مؤثراً في استكانة الساحل الذي رضي شعبياً بالأمر الواقع الجديد، وبصورة تامة، حتى قبل وصول القوات المنتصرة إليه، إضافة إلى تأثير العامل الأهم، وهو ما أظهرته هذه القوات من تعامل جيد غلبت عليه الوطنية، مع الأهالي من كل الأطياف.
لا يعود تجاوز صدمة الساحل فقط إلى العوامل السابقة، بل ساهم فيه أيضاً غياب أي ردة فعل من أهالي الساحل، على ممارسات غير منضبطة وصلت في بعض الحالات إلى القتل من قبل أفراد محسوبين على السلطة الجديدة.
لا يحسُن فهم غياب ردة فعل من أهالي الساحل دلالة ضعف، حتى وإن كان يتوفر على كل عناصر الضعف، بل ينبغي فهمه على أنه خيبة كاملة من نمط سياسي فاسد نجح في إيهام عموم العلويين بالسيطرة وقادهم، مع كامل المجتمع السوري، إلى كل هذا الخراب. انعدام أي مقاومة في وجه القوات التي طالما تصوّرها أهل الساحل “العدو”، يعني أن وهمهم رقّ كثيراً مع مرور سنوات الجحيم السابقة وتبخّر، وباتت المساواة تطلعاً بالنسبة لهم، بعد أن أكملت صلابة الواقع دورها في ردّهم عن وهم السيطرة الفئوية القاتل. بعد الآن، ينبغي أن يكون التطلع إلى السيطرة الفئوية منبوذاً من كل فئات الشعب السوري، لصالح التطلع العادل الوحيد الذي هو المساواة في المواطنة.
بعد 2011، سيما بعد تحول الثورة إلى حرب داخلية مخترقة دولياً، بات حال الموالين كحال “بالع الموس على الحدّين”، من جهة أولى، باتوا يعانون من الفقر إلى حدود الجوع، ويُزجون، باسم الدولة، في معركة لا نهاية لها ولا أفق، قتلت وأقعدت مئات الآلاف منهم. ومن جهة أخرى، يخشون تغيير النظام القائم، يقيناً منهم أن ما ينتظرهم بعده، أسوأ مما يعانون في ظله. وليس خافياً أنهم عملوا أقصى ما يستطيعون لتفادي ما كان يبدو لهم مصيراً سيئاً. واليوم يصحّ القول إن سقوط نظام الأسد لم يحرر معارضيه فقط، بل حرّر مواليه أيضاً. تحرّر الموالون من وهم مزدوج، وهم أن نظام الأسد يشكل حماية، ووهم أن الآخرين يريدون بهم شراً. وربما لم يكن من الممكن التحرّر من هذا الوهم إلا بالاختبار المباشر الذي عاشوه.
الهدوء الذي تلا السقوط المفاجئ لنظام الأسد، هو، في جانب منه، تعبير عن ذهول. إنه وقت للمراقبة الحذرة من جميع الأطراف، وهو ما يلقي مسؤولية كبيرة على القوات المسيطرة التي سيحدّد سلوكها شكل تفاعل مختلف فئات الناس معها. وما يعني أن تجاوز الخطر يحتاج جهوداً مشتركة من الجميع، وبصورة خاصة من القوى المدنية التي عليها أن تثبت حضورها بكل أشكال المراقبة والنقد والتوثيق ودعم المسارات القانونية للعدالة الانتقالية.
واكب الدخول السريع للقوات المنتصرة تحوّل سريع في الولاء. والحال أن هذه الظاهرة، في اتساعها، تشكل دليلاً على ثلاثة أمور: الأول ضعف ثقة الناس بعدالة سلطة القوى الجديدة ونزاهتها، وأخذها سلفاً، من دون اختبار، على أنها لا تختلف بشيء عن السلطة البائدة التي كانوا يتفادون شرها بإظهار الولاء التام. والثاني غياب أي رصيد محترم للسلطة السابقة في عقول الناس، ذلك أنها أنهكت المجتمع كله، وأوصلت البلاد إلى الحضيض على جميع المستويات، بما يدفع الجميع للتبرؤ منها. والثالث أن الولاء السابق كان، في جزء كبير منه، شبيه بالولاء المستجد، إنه ولاء لسلطة، أي ولاء لصاحب الأمر في بلد اعتاد الناس فيه على أن السلطة تحتل المجتمع وتشغل فيه كامل المجال العام، فلا ينجيك من سوء المصير سوى الولاء التام.
قد يصح القول إن تسليم جمهور الموالين بتبدّل السيطرة هو نوع من الاستسلام، غير أن هذا القول ضعيف الحساسية. هذا التسليم هو بالأحرى إقرار بفشل التركيبة السياسية البائدة وتفسّخها، وإعلان صريح لخيبة متراكمة، رغم خطاب “النصر” الذي طالما بشر به النظام البائد. على هذا، يمكن النظر إلى تسليم الموالين على أنه تعلق بأمل. من هنا تأتي المفارقة أو حساسية اللحظة السياسية بالنسبة للموالين، إنهم يبحثون عن الأمل في سيطرة من أخذوه طويلاً على أنه عدو، لذلك تجد أن فرحهم بطاقة الأمل يقيده قلق غامض تغذّيه التصوّرات التي يحملونها عن القوى المنتصرة.
الأمل أن يكون فرح السوريين ثابتاً هذه المرّة. والحال أنه لم يفرح السوريون في تاريخهم لشيء إلا وانقلب فرحهم غماً بعد حين غير طويل. كان من ذلك مثلاً فرح السوريين بالاستقلال ثم فرحهم بالوحدة مع مصر، وكذلك بانقلاب حافظ الأسد 1970، وكان منه أيضاً تأمل الخير في أول خطاب قسم، في صيف عام 2000، للوريث الفارّ، ثم خيبتهم المريرة في كل مرّة. لا تدوم فرحة الناس ما لم يصونوا فرحهم بأيديهم. لا يدوم فرح شعب يستريح عن حماية فرحه، ويوكل أمره لنخبة ما، كائنة من تكون.
العربي الجديد
—————————
أسئلة عن مستقبل الحياة السياسية في سورية بعد سقوط نظام الأسد/ عماد كركص
15 ديسمبر 2024
يفتح تعليق نشاطات حزب البعث الحاكم في سورية سابقاً، الباب واسعاً أمام أسئلة مهمة تتعلق بمستقبل الحياة السياسية في سورية بعد سقوط نظام بشار الأسد وقبله والده حافظ، والذي كان يحكم، شكلياً على الأقل، باسم “البعث” طيلة 53 عاماً. الموقع الرسمي، ومعرفات حزب البعث على وسائل التواصل الاجتماعي، لم تنقل بيان التعليق، غير أن البيان نقلته وكالة فرانس برس يوم الأربعاء الماضي، وقال الحزب فيه إنه علّق عمله ونشاطه الحزبي “حتى إشعار آخر”، بعد ثلاثة أيام من إعلان فصائل المعارضة السورية إسقاط نظام بشار الأسد وهروب الأخير من البلاد.
وأورد الأمين العام المساعد للحزب، إبراهيم الحديد، في البيان، أن القيادة المركزية للحزب قرّرت “تعليق العمل والنشاط الحزبي بأشكاله ومحاوره كافة حتى إشعار آخر”، وكذلك “تسليم الآليات والمركبات والأسلحة كافة” لوزارة الداخلية، على أن “توضع أملاك وأموال الحزب تحت إشراف وزارة المالية، ويودَع ريعها في مصرف سورية المركزي”. وسبق ذلك أن أعلن الحديد دعم حزب البعث “لمرحلة انتقالية” في سورية. وقال في بيان: “سنبقى داعمين لمرحلة انتقالية في سورية هادفة للدفاع عن وحدة البلاد أرضاً وشعباً ومؤسسات ومقدرات”.
وكان الحزب قد فاز في يوليو/تموز الماضي بغالبية مقاعد مجلس الشعب، غير أن معظم السوريين وحكومات ومنظمات غربية وحتى عربية، شكّكت بتلك الانتخابات، واعتبرتها صورية، لا سيما أنها أوصلت الكثير من المحسوبين على النظام من متزعمي المليشيات المقاتلة إلى قبة المجلس.
واستولى حزب البعث على السلطة في سورية عام 1963، قبل أن يقود حافظ الأسد انقلاباً، سُمِّي بـ”حركة تصحيحية” داخله، وبذلك حكم منذ عام 1971 حتى وفاته عام 2000، ليتسلّم السلطة من بعده نجله بشار، الذي تولى إضافة إلى رئاسة الجمهورية، قيادة الحزب، والقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، قبل أن تعلن المعارضة في رسالة بثّتها عبر التلفزيون الرسمي السوري صباح الأحد الماضي، إسقاط نظام بشار الأسد الذي فرّ من البلاد.
أسئلة ما بعد “البعث”
الأسئلة تدور حالياً عن مستقبل الحياة السياسية في سورية التي استأثر بها حزب البعث الذي كان “قائداً للدولة والمجتمع” بموجب الدستور، الذي ظلّ ينص على ذلك حتى العام 2012 حين تمّ تعديل الدستور، لكن ذلك لم يمنع من أن زاد توغل “البعث” في أجهزة الدولة، بل بات له جناح عسكري أقوى من ذي قبل شارك في الحرب على السوريين إلى جانب النظام، وخرجت أصوات من داخل جمهور الثورة، بإنهاء حزب البعث من الحياة السياسية مطلقاً.
الاحتلال يعزز قواته في الجولان السوري المحتل، 11 ديسمبر 2024 (مصطفى الخاروف/الأناضول)
تقارير عربية
أول رسالة من حكومة سورية المؤقتة إلى مجلس الأمن بشأن توغل إسرائيل
وعقب سقوط النظام، قالت المعارضة إنها ستجمد الدستور ومجلس الشعب (البرلمان)، ما يعني عدم الوضوح حالياً في ما سيكون عليه شكل الحياة السياسية في سورية خلال الفترة المقبلة، لا سيما مع عدم صدور إعلان دستوري يحدد ذلك، وتقول المعارضة إن الحكومة الانتقالية ستتسلم تسيير أمور البلاد حتى الأول من مارس/آذار المقبل، أي لفترة نحو ثلاثة أشهر.
ورأى أحمد العسراوي، الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي (أحد أحزاب المعارضة التقليدية داخل سورية) وعضو المكتب التنفيذي في هيئة التنسيق الوطنية، أن الإقصاء ليس حلاً في هذه المرحلة، رافضاً تكرار التجربة العراقية بإقصاء حزب البعث عن المشهد السياسي في البلاد، بعد سقوط نظام صدام حسين.
وقبل الدخول في رؤيته ورؤية حزبه للمشهد السياسي لا سيما على المستوى الحزبي في البلاد، أشار العسراوي في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن “معظم قواعد حزب البعث في سورية، وحتى الكثير من قياداته، انتموا للحزب لتحقيق منافع شخصية من النظام كانت محظورة على غالبية السوريين من خارج المنتمين للبعث، وهي أساساً بمثابة حقوق بالنسبة إليهم وليست حكراً على السلطة، كالتوظيف والترقية في المناصب وغير ذلك، لذا أرى أن عدم اجتثاثه يكون الأفضل”، مقدراً أن هذا الحزب “لن يكون له رصيد في الشارع السوري مستقبلاً نتيجة للعنف الذي استخدم ضد الشعب السوري تحت مسمى قيادته للدولة والمجتمع”.
وأشار العسراوي إلى أن “ما تحقق حالياً بإزالة هذا النظام، يعد انتصاراً للسوريين جميعاً نتيجة للتضحيات التي قدموها خلال 14 عاماً منذ انطلاقة ثورة الحرية والكرامة والعدالة، بغض النظر عن مستجدات المستقبل”. ولفت إلى أن حزبه والهيئة التي يشارك فيها مستعدون للانخراط في الحياة السياسية، التي هم بالأساس جزء أساسي منها، سواء في المرحلة الحالية أو في المستقبل. لكنه أشار إلى ضرورة وجود آليات تحدد المشاركة السياسية في سورية لا سيما مع تعطل الدستور والبرلمان حالياً. وقال: “من الضروري اليوم أن يكون هناك إعلان دستوري مؤقت، وهذا الإعلان يجب أن يتضمن أسس واضحة عن المشاركة السياسية في المرحلة الانتقالية ريثما يتم إقرار دستور جديد، تقدمه هيئة دستورية تشاركية بين القوى السياسية والعسكرية والمجتمع المدني، ذلك أن إقرار دستور جديد في البلاد يصوت عليه السوريون هو الذي يحدد شكل الدولة المقبلة ونمط الحياة السياسية في البلاد، ويسمح بالتنافس الإيجابي وفق البرامج التي تقدمها القوى والتشكيلات السياسية للشعب في ظل هذا التنافس، ومن ثم ستكون جميع المكونات السياسية أمام امتحان لبرامجها السياسية والتي يعتمدها الصندوق الانتخابي وهو من يقرر”.
لكن القاضي والمستشار حسين الحمادة، عضو قيادة فرع حزب البعث في حلب سابقاً، والمنشق عن الحزب في العام 2005، أبدى عدم تسامح في ما يخص البعث. وقال لـ”العربي الجديد” إن “أي حزب يمتلك سلاحاً يفقد صفته السياسية ويصبح مليشيا”، بالإشارة إلى المليشيات التي أسّسها البعث وشاركت في الانتهاكات ضد السوريين.
ورأى الحمادة أن “الصيغة المثلى لإنقاذ سورية والتأسيس لسورية موحدة حرّة مستقلة خالية من الاستبداد والاحتلال والإرهاب يمكن تحقيقه من خلال عقد مؤتمر وطني سوري، وهذا يتطلب توفير شروطه ومعاييره، وفي مقدمتها: تأمين مناخ سوري مؤيد لعقد هذا المؤتمر، وتأمين مناخ دولي داعم دبلوماسي لعقد هذا المؤتمر ومستعد للاعتراف بمخرجاته”.
وأشار الحمادة إلى أن المرحلة تتطلب تشكيل عدد من اللجان، من مهامها إعداد مسودة ميثاق وطني يتضمن شكل نظام الحكم مبني على مبدأ الفصل بين السلطات: التشريعية – التنفيذية – القضائية، في إطار اللامركزية الإدارية، بالإضافة إلى النظام السياسي، المبني على مبادئ الديمقراطية والتعددية السياسية والتبادل السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة نزيهة تشرف عليه السلطة القضائية، وغيرها من اللجان التي تعمل على جوانب الحياة الاجتماعية والخدمية وغيرها، إلى جانب الشأن السياسي.
الحياة السياسية في سورية… انتهاء مرحلة سوداء
من جهته، قال مهند دليقان، عضو الأمانة العامة في حزب الإرادة الشعبية، وهو أحد الأحزاب المعارضة التي تصنف ضمن “منصة موسكو” المقربة من روسيا، إن “سورية تجاوزت مرحلة سوداء من تاريخها بكل المعاني، والأمل كبير لدى عموم السوريين بسورية جديدة موحدة أرضاً وشعباً، قائمة على المواطنة المتساوية لكل السوريين بغض النظر عن أي انتماء قومي أو عرقي أو ديني أو طائفي تصان فيها حقوق الناس وكراماتهم”.
وأضاف دليقان في حديث لـ”العربي الجديد”: “بقدر ما هي الآمال كبيرة، فإن المخاطر والتحديات كذلك. البلد بحاجة إلى دخول سريع في مرحلة انتقالية استناداً لجوهر القرار 2254 بحيث ننتهي من عقلية الاستئثار والحزب القائد التي يمكنها أن تهدد ليس فقط الحياة الديمقراطية بل ووحدة سورية الجغرافية السياسية أيضاً، خصوصاً في ظل المطامع الصهيونية المعلنة بأرضنا؛ سقوط السلطة كما علمتنا تجارب دول عديدة لا يعني بالضرورة سقوط النظام. نحتاج إلى عملية تغيير جذري شامل على الصعد كافة، وهذه العملية تتطلب جهود كل الوطنيين السوريين”. وتابع: “حزبنا، حزب الإرادة الشعبية، كان وما يزال يناضل من أجل تغيير جذري شامل يؤدي إلى منظومة كاملة جديدة سياسياً واقتصادياً اجتماعياً وديمقراطياً، وسيكون حاضراً في المشهد كغيره من الأحزاب والقوى، وسيكون القرار للشعب السوري وحده في أن يقرر لمن يولي ثقته لهذه القوة أو تلك، عبر انتخابات حرة ونزيهة”.
من جهته، أبدى شلال كدو، سكرتير حزب اليسار الديمقراطي الكردي، وهو أحد أحزاب المجلس الوطني الكردي، المكون في الائتلاف الوطني السوري المعارض، تفاؤلاً في أن تكون الحياة السياسية في سورية بالمستقبل “ذاخرة وغنية ومتعددة”. وأضاف في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “مستقبل الحياة السياسية في سورية لا شك سيكون عنوانه الديمقراطية والتعددية بعد سقوط نظام الطاغية بشار الأسد، فدماء السوريين وجهودهم ستؤدي إلى تغيير حقيقي، ومن غير المستبعد أن نرى في الأسابيع المقبلة ولادة هيئة حكم انتقالية، تؤسس لمرحلة انتقالية وتشكل لجنة دستورية لكتابة دستور دائم للبلاد وتوفر بيئة آمنة لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية”. وأضاف كدو: “سيكون لحزبنا دور سياسي في البلاد، طالما أن الحزب جزء من المجلس الوطني الكردي والائتلاف الوطني، اللذين شكّلا معاً العمود الفقري للمعارضة السورية، التي قارعت النظام لسنوات طويلة، لا سيما منذ انطلاقة الثورة السورية وما قبلها”.
وعن الوضع السياسي الراهن في سورية، ومستقبل الحياة السياسية في سورية بعد إسقاط الأسد، رأى المحلّل السياسي درويش خليفة، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن بيان حزب البعث، وما تضمن من وضع مقدراته تحت تصرف الوزارات المعنية، “خطوة لبناء الثقة مع المرحلة المقبلة، بمعنى أنه ليس لديه أي توجهات لعرقلة العملية السياسية”. ولفت خليفة إلى أن “المطلوب من القيادة الجديدة وضع تصور لشكل الحياة السياسية في سورية المقبل، إذ جرت العادة عندما تسقط الأنظمة والحكومات سواء من خلال الثورة أو الانقلابات العسكرية، تدعو القوى العسكرية الجديدة والمسيطرة إلى مؤتمر أو جمعية تأسيسية، يتمخض عنها لجنة لإعداد دستور جديد للبلاد، وذلك بعد توافق جميع القوى السياسية والاجتماعية والمدنية وحتى الفعاليات الاقتصادية وجميع المكونات في البلاد، لا سيما أن لدينا حالة مختلفة عن كثير من الدول”. وبالتالي، برأيه، فإن “الجمعية التأسيسية يجب أن تتضمن كذلك حواراً وطنياً، وبالنهاية إنتاج دستور للبلاد يُعرض على الشعب من خلال استفتاء عام، ويفترض أن يتضمن الحريات الفردية والعامة وضمان وجود قوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني وصحافة حرة ومستقلة”.
وأضاف خليفة أنه “من خلال وضع قانون أحزاب جديد، تعود الأحزاب التي لديها أنظمة داخلية، لتلائم ما لديها بما يتوافق مع المرحلة المقبلة، ففي حال كان القانون أو الدستور يحظر وجود أحزاب ذات أيديولوجيات من أي شكل، فيجب على تلك الأحزاب أن تغير أنظمتها أو تحل نفسها”.
وحول مستقبل الحياة السياسية في سورية مع سقوط الأسد، حاول “العربي الجديد”، التواصل مع إدارة الشؤون السياسية التابعة لحكومة الإنقاذ، والتي أعلن قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع أنها ستقود الفترة الانتقالية، لسؤالها حول التصورات لديها للمرحلة السياسية، لكن لم تأت ردود، غير أن مصدراً مقرباً من الإدارة وحكومة الإنقاذ، وهو عضو في “مجلس الشورى العام”، الذي يعد هيئة برلمانية في إدلب ومحيطها، أفاد بأن “التوجه حالياً يذهب إلى تشكيل لجان من كل الاختصاصات، للتشاور في ما يمكن العمل عليه، وذلك ينسحب على الحياة السياسية ومسألة الأحزاب وغيرها من الأمور المتعلقة في الحياة السياسية”.
وأضاف عضو المجلس الذي فضّل عدم الإفصاح عن هويته لكونه غير مخول بالتصريح الرسمي، أنه “حالياً ليس هناك قالب جاهز لأي شكل من شكل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكل المواضيع مطروحة للنقاش، فما حدث بسقوط سريع للنظام كان غير متوقع، والعمل جاء على إعداد أوراق وعقد لجان تشاورية في كل الموضوعات”. وأضاف أن “العناوين العريضة حالياً هي: الانفتاح على الجميع والمشاركة مع الجميع، لكن هناك حالات خاصة يجب أن يتم التوقف عندها”، بالإشارة إلى مسألة إمكانية عودة حزب البعث للحياة السياسية في البلاد.
وفي بحث أصدره مركز جسور للدراسات، في سبتمبر/أيلول الماضي، رصد المركز كل الأحزاب السياسية السورية التي نشأت خلال 100 عام من تاريخ سورية الحديث، وهي الأحزاب التي ما تزال قائمة حتى عام 2024. وبحسب البحث، فقد بلغ عدد هذه الأحزاب 134 حزباً سياسياً تتوزع تحالفاتها وعلاقاتها وتموضعها السياسي بين النظام الحاكم أو مؤسسات المعارضة الرسمية، أو الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها. وأشار البحث إلى أن عدد الأحزاب الناشئة بعد عام 2011 وصل إلى 92 حزباً، في مقابل 42 حزباً كانت قبل ذلك.
العربي الجديد
——————————-
ضرب إيران بسورنة لبنان ولبننة سوريا/ منير الربيع
الأحد 2024/12/15
في الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على غزة والمواجهة مع حزب الله في لبنان، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن مشروعه يفضي إلى ضرب إيران وإضعافها وتقويض نفوذها في المنطقة. في الطريق إلى هذا المشروع وجد نتنياهو نفسه قادراً على توجيه ضربات عسكرية وأمنية وسياسية قاسية لحلفاء إيران أو للدول التي تدعي طهران السيطرة عليها. لعب نتنياهو لعبة رفع شعار مواجهة إيران وإضعافها ليلاقي صمتاً عربياً أو رضى، خصوصاً بعد كل الممارسات الإيرانية التي شكلت تهديداً للدول والمجتمعات العربية. عملت إسرائيل على تدمير كل مقومات الحياة في غزة، وجزءً كبيراً من مقدرات حزب الله العسكرية وقضت على أي مقومات قوة لدى الجيش السوري، ما بعد سقوط نظام الأسد.
أوهام طهران
أغرقت طهران وحلفاؤها على مدى سنوات بيئاتهم وجمهورهم بأوهام كثيرة بما فيها القدرة على هزيمة الولايات المتحدة الأميركية، إسرائيل، والغرب كله. حتى بنيت كل السياسات على هذه الاستنتاجات، ولم يكن هناك من إمكانية للوصول إلى تسوية توقف الحرب الإسرائيلية الطاحنة وتحمي ما تبقى من قدرات أو مقومات. استباح الإسرائيليون كل شيء في غزة، لبنان وسوريا، وسط تحضيرات متزايدة لتوجيه ضربة إلى إيران، إذ يتجدد الحديث عن مساع إسرائيلية أميركية مشتركة لتنفيذ الضربة قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض، وفي هذا السياق يأتي الفيديو الجديد الذي نشره نتنياهو قبل أيام ووجهه إلى الشعب الإيراني. إلى جانب التسريبات الإسرائيلية عن نقاشات جدية في خيار تنفيذ ضربة للمشروع النووي الإيراني، وهو ما ترافق مع تسريبات أميركية بأن ترامب يدرس خيارات تنفيذ ضربات استباقية ضد إيران، وأن احتمالات ضربها تُدرس بشكل مشترك بينه وبين نتنياهو. معروف أن ترامب يعتمد هذا الأسلوب التهديدي والتصعيدي ضمن جزء من آلياته التفاوضية للإتيان بخصمه إلى طاولة التفاوض بشروطه، وهو ما ممارسه سابقاً ويمارسه مجدداَ مع إيران.
ما يعرضه الأميركيون على إيران، هو العودة إلى داخل حدودها والتخلي عن الطموحات التوسعية في المنطقة، أي التخلي عن حلفائها واعتماد سياسة هادئة تجاه إسرائيل. أما الإسرائيليون فيريدون التخلص من النفوذ الإيراني على حدودهم، ومن إمكانية وصول طهران إلى انتاج أسلحة نووية، لذلك يفضل نتنياهو توجيه ضربة عسكرية لإيران ولكنه يحتاج إلى الدعم الأميركي لأنه لن يكون وحده قادراً على ذلك. في إطار تحجيم النفوذ الإيراني، فرض الأميركيون اتفاقاً لوقف النار في لبنان، لكن إسرائيل حصلت على موافقة أميركية واضحة لمواصلة عملياتها العسكرية في الداخل اللبناني، من خلال استمرار تفخيخ وتفجير المنازل في الجنوب، واستهداف بنى تحتية لحزب الله، مواصلة تنفيذ غارات على السيارات أو الآليات التي تتحرك في الجنوب، والتضييق على آليات عودة السكان اللبنانيين إلى مناطقهم، والتحكم لاحقاً في الذين سيعودون. بذلك عملت إسرائيل على اعتماد نموذجها في سوريا داخل لبنان الذي أصبح معرضاً دوماً لعمليات اغتيال أو غارات.
إسرائيل ولبننة سوريا
أما سوريا والتي بقيت ساحة مفتوحة للاستباحة الإسرائيلية الممتدة منذ سنوات، شنّت إسرائيل حرباً شرسة عليها وإن بشكل غير معلن من خلال التوغل البري أو القصف الكثيف والعنيف لكل مقدرات الجيش السوري ومراكز الاستخبارات والمعلومات. بطريقة مشابهة للعمليات التي نفذها الإسرائيليون ضد مواقع ومراكز ومخازن حزب الله بالإضافة إلى ضرب وتصفية قياداته. فيما ستسعى بشكل واضح إلى لبننة سوريا، من خلال محاولاتها لإدخال المجتمع السوري في حالة من الانقسام المستمر والتجاذب والصراع على الوضع السياسي والوجهة السياسية التي ستعتمدها سوريا في مرحلتها الإنتقالية مع محاولات دائمة لتهديد وحدتها. بذلك تريد إسرائيل أن تنتج دولاً هشة وضعيفة في محيطها، مع سعيها الأكبر إلى القضاء على أي فكرة من أفكار “التنوع ضمن الوحدة” أو أن تبقى الدولة واحدة وموحدة ومتعددة في آن.
لا تقتصر الأهداف الإسرائيلية على سوريا ولبنان، بل حالياً تتركز الضغوط على العراق، بالاستناد إلى الأميركيين الذين يحاولون إحداث تغيير وتوازن على الساحة العراقية مع محاولة لتقويض وإضعاف دور الحشد الشعبي بالتعاون مع الحكومة، والمرجعيات وعلى رأسها السيد السيستاني الذي كان له موقف واضح في ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، بينما الحكومة تسعى إلى التمايز عن الموقف الإيراني أيضاً، مع المحاولات لإقناع الحشد الشعبي في عدم التورط والانخراط بأي عمليات عسكرية من شأنها أن تستدعي ضربات أو حرباً إسرائيلية. هنا تتوالد قناعة بأن محاولات تحجيم نفوذ إيران في المنطقة مستمرة، وسط خشية من أن يكون تحييد حلفاء طهران عن المعادلات العسكرية هو تمهيد لتوجيه ضربة إليها.
المدن
————————————
قاسم سليماني يموت مرتين/ مايكل هوروفيتز
آخر تحديث 15 ديسمبر 2024
يموت رجل الدولة مرتين: مرة بموته، ومرة بموت العالم الذي سعى لبنائه. والجنرال الإيراني قاسم سليماني قضىأول مرة عام 2020 عندما قتلته مسيّرة أميركية بأمر من الرئيس ترمب، ثم مات مرة ثانية هذا العام، عندما تهاوى البناء الذي تخيله، وعمل على إنشائه، أي “الممر البري” الممتد من إيران حتى البحر الأبيض المتوسط.
في هذا العام، مني”حزب الله”، حليف إيران في لبنان، بهزيمة كبيرة على يد إسرائيل. كما هُزمت “حماس” كقوة تقليدية، وما زاد الطين بلة أن بشار الأسد، وهو جزء رئيس من المبنى، غادر البلاد بلا مراسم إلى منزل ريفي في موسكو، فيما قوات المعارضة تتقدم من العاصمة السورية.
أشرف سليماني، كرئيس لـ”فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإيراني” منذ عام 1998، على فترة من الاضطرابات، ولكنها كانت في معظمها فترة توسيع “منطقة النفوذ” الإيرانية الجديدة. وهي الفترة التي حولت إيران إلى “مَلك على الأنقاض”.
فسقوط صدام حسين، والفوضى التي تلت ذلك في العراق، واندلاع الثورة السورية وثورات الربيع العربي (بما فيها الثورة في اليمن)، وصعود “تنظيم الدولة الإسلامية”، وعلاقات إيران مع “حزب الله” الذي كان يزداد ثقة بنفسه، شكلت جميعها الركائز التي قام عليها صرح سليماني. ومع بروز جهات فاعلة ذات بنية ما دون الدولة على أنقاض الأنظمة المنهارة أو الأنظمة السابقة، سارعت إيران إلى الاستفادة منها وتكوين صداقات معها.
وبحرص إيران على بناء علاقات مع الأقليات المتعاطفة معها، وإرسال المستشارين ودعم هؤلاء الوكلاء بالصواريخ والطائرات المسيرة، تمكنت إيران من كسر جدار حدودها، دون الحاجة إلى غزو أي دولة رسميا، وتمكنت من بسط سيطرة كبيرة على مساحات شاسعة من الأراضي في المنطقة، في هذا العصر الذي أصبح فيه النصر العسكري الحاسم أمرا بعيد المنال، ويجعل بالتالي من التوسع الإقليمي استثناء وليس القاعدة.
وقد ضمنت إيران بذلك حلفاء لها يمكن أن يقاتلوا بدلا عنها، ومن دون أن تتعرض الجمهورية الإسلامية نفسها للخطر. وأدى “حزب الله” و”الحوثيون” والعديد من الميليشيات العراقية ونظام الأسد البائد، بالإضافة إلى “حماس” و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني”، دورا في شبكة فضفاضة، ولكنها فعّالة، شكلت حينها جزءا من “محور المقاومة” الذي أسسه سليماني. وقد بُني هذا المحور على سردية أوسع من الهوية الشيعية الضيقة لإيران، وذلك لإدراك طهران أن هذه الهوية الدينية تضيق عليها طموحاتها. ويمزج “محور المقاومة” بين معاداة الإمبريالية، مع المشاعر المعادية للولايات المتحدة وإسرائيل، بينما يصور نفسه على أنه المدافع عن القضية الفلسطينية التي لا يكترث بها كثيرا.
حلقات النار والممرات الأرضية
كان سليماني هو من وضع اللمسات الأخيرة على “الممر البري” المهم، بعد أن تمكنت الميليشيات المدعومة من إيران من انتزاع السيطرة على الحدود العراقية السورية. ونتيجة لهذا، تمكنت إيران وحلفاؤها من فرض سيطرة كبيرة على منطقة متواصلة، تمر عبر العراق وسوريا ولبنان. وبعد ذلك، تمكن سليماني وحلفاؤه من العبور من جانب إلى آخر من الحدود،مثل جاسوس محترف، يخترق الجدران بيسر وسرية، إلىأن تعرض هو نفسه لضربة معقدة وعلنية.
وقد مثّل ذلك لإيران قوة كان تأثيرها أكبر من حجمها، فقد خلقت إيران، بكسرها جدران الحدود، قوة متعددة الاستخدامات ليست قادرة فقط على حشد العناصر والموارد من بلد معين، بل أيضا حشد وحدات وميليشيات من جميع البلدان التي تسيطر عليها إيران. وبات بوسع الميليشيات العراقية اليوم أن تقاتل بسهولة إلى جانب أعضاء “حزب الله” اللبناني مع “وحدات الدفاع المحلية السورية” المختارة، ومع اللاجئين الأفغان الذين تحولوا إلى جنود مشاة إيرانيين، وكل ذلك تحت إشراف سليماني.
لقد خلقت إيران بذلك عمقا استراتيجيا لها يتجاوز حدودها، مع ضمان أن لا تحمل إيران عبء شهيتها التوسعية، بينما يتكبد الآخرون خسائر فادحة. وتمكنت إيران، بتوسعها خارج حدودها، من ممارسة الضغط في ثلاثة بحار حاسمة: الخليج، الذي طالما كان الطريق البحري الرئيس الذي تمارس فيه إيران تأثيرها، والمحيط الهندي والبحر الأحمر. وما يثير حيرتنا الشديدة أن العام الذي انهار فيه صرح سليماني بشكل فعال، هو العام نفسه الذي شهدنا فيه أوضح استعراض للقوة الإيرانية، وكان أحدها القدرة على إغلاق نقطة تفتيش بحرية رئيسة تقريبا، باستخدام هجمات بالصواريخ والمسيرات. ولنتخيل الآن، ما الذي يمكن لإيران أن تفعله، وهي تسيطر على ثلاثة بحار، ويمكنها حتى أن تأمل في فعل الشيء نفسه، إذا لزم الأمر، في البحر الأبيض المتوسط. لقد تمكن نظاميتمتع بقوة عسكرية راسخةفوق برّه، أي الجمهورية الإسلامية، من تحقيق ما يتخطى وزنه بكثير، ولا سيما ونحن نعرف أن هذا النظام يواجه معارضة كبيرة من الإيرانيين أنفسهم.
هناك ميل لئلا نرى ما هو أبعد من هذا النجاح العسكري الاستراتيجي، بيدَ أن “الممر البري” مضى أبعد من ذلك. فبعد أن تعرضت إيران لضربة شديدة من العقوبات، سعت دوما إلى ضمان قدرتها على الوصول إلى العالم، أو إلى جزء منه على الأقل. كان “الممر البري” ضمانا طويل الأجل بأن إيران لا يمكن عزلها أبدا. فقد سيطرت على منطقة يمكن أن تكون ممرا للاستثمار والإيرادات، بمساعدة حلفائها من خارج المنطقة. فهذا الممر يقع في منطقة من العالم تشكل مفتاحا للجهود الراهنة التي ترمي إلى ربط العالم على نحو أفضل. كانت طهران تحرص علىأن تكون جزءا من الحوار كلاعب رئيس في المنطقة. قد يشكك الكثيرون (بحق) في قيمتها الحقيقية وإمكاناتها الاقتصادية، غير أننا لن نعرف ذلك أبدا، لفقدانها هذا “الممر البري”، لأن الميليشيات العراقية والقوات السورية المتمركزة في بلدة البوكمال الواقعة على الحدود السورية العراقية، سلكت الطريق الخطأ وفرت إلى العراق، بدلا من أن تذهب للقتال في سوريا.
كما أن سليماني هو أيضا من وقف وراء إنجاز رئيس آخر، ألا وهو إحضار روسيا إلى المعركة. ففي عام 2015، سافر إلى روسيا وروج هناك لفكرة التدخل الروسي في سوريا، فوافق بوتين في الحال، وسرعان ما ساعدت الطائرات الروسية الأسد وجيشا من وكلاء إيران. فتغيرت دينامية الحرب الأهلية السورية، من هزيمة بطيئة إلى “نصر” تدريجي، بيد أنه انتصار أجوف، كما رأينا. وقد مات هذا الإنجاز أيضا هذا العام، فقد بات الوجود الروسي في سوريا موضع تساؤل الآن، بعد سقوط نظام الأسد.
كما عمل سليماني أيضا، ببنائه هذا “الممر البري”، على تشكيل “حلقة نار” جديدة حول إسرائيل، ومن دون إشراك إيران على نحو مباشر. وفي هذا العام، أجبرت “حلقة النار” هذه إسرائيل على خوض حرب على سبع جبهات، إذ هاجمتها المسيرات والصواريخ قادمة من العراق وسوريا واليمن ولبنان وغزة، كما واصلت إيران تسليح الجماعات في الضفة الغربية، لا بل قررت حتى إطلاق ترسانتها الخاصة على إسرائيل.
فروع شجرة مجوفة
صحيح بالطبع أن مفتاح هزيمة إيران يكمن في استراتيجيتها نفسها. فالأطلال لا تصنع إلا ممالك رديئة. ولأن إيران قوة تدير الأقليات، فإن سيطرتها تعتمد على القوة الغاشمة وعلى تماسك القلة، وعلى إشاعة الفوضى والاضطراب عند البقية.
وإيران كانت (ولا تزال) عرضة لخطر حركات تاريخية كبيرة، كتلك التي رأيناها للتو في سوريا. وهي معرضة دوما لخطر تنفير الأغلبية، بتمكينها للأقليات، وحتى تمكين أقلية داخل الأقلية، ومنح من هم سواها قيمة ضئيلة. وتجلى هذا النفور في مجموعة من الاحتجاجات التي اشتعلت في جميع أنحاء لبنان والعراق في عامي 2019 و2020 للمطالبة بإصلاح “محور المقاومة”. لم تكن هذا الاحتجاجات تستهدف إيران مباشرة أو على نحو حصري، إلا أنها هددت النظام الذي سمح لإيران بالتوسع، ومن هنا جاءت حملة وكلاء إيران على تلك الاحتجاجات.
وقد نجحوا في قمعها، وهو ما خنق فرصة إصلاح كان من الممكن لها أن تساعد البلدين في القضاء على الفساد، وتجنب الأزمات العميقة. وهكذا ساهمت إيران أيضا في إذابة الاقتصاد اللبناني والعملة اللبنانية، وهو ما كانت له نتيجة مباشرة على النظام في سوريا، إذ استخدم لبنان كمنفذ رئيس إلى العالم وإلى احتياطيالسيولة النقدية.
في هذا العام، دفع الصراع في غزة إيران ووكلاءها إلى تصعيد هجماتهم على إسرائيل. ومع أن طهران كانت على الأرجح مدركة للمخاطر، فإنها لم تستطع على الإطلاق أن تظل على هامش الصراع في غزة، بعد أن بنت توسعها على نحو فعال على القضية الفلسطينية جزئيا. فسعت الجمهورية الإسلامية وكذلك “حزب الله”، وكيلها الأقوى، إلى إيجاد توازن دقيق بين إنشاء “جبهة إسناد” تظهر دعمهما لـ”حماس” وتجبر إسرائيل على التراجع عن هجومها، وبين تجنب المواجهة الشاملة. وقد استند ذلك إلى افتراض بأن إسرائيل، الدولة التي يزعم “محور المقاومة” غالبا أنها “أوهى من بيت العنكبوت”، لن تصعد الأمور، وستواصل اللعب بأمان وعلى نحو منضبط. إلا أن إسرائيل اقتربت من أعلى درجات التصعيد، عندما قررت إيران، وبعد أشهر من حرب الاستنزاف، أن تنخرط مباشرة في الصراع، وقد كان هذا رهانا محفوفا بالمخاطر، وأدى إلى نتائج عكسية، كما جدد ثقة الجيش الإسرائيلي بقدرته على توجيه ضربة حاسمة لـ”حزب الله” في أعقاب هجومه الانتقامي الفاشل على إسرائيل.
تصدعت ركائز الردع الإيراني واستعراض القوة في المنطقة، مثل فروع شجرة مجوفة. فقد تلقى “حزب الله” ضربات قوية، إذ تضررت ضررا كبيرا ترسانة الحزب من الصواريخ، التي تعد حاسمة في ردع إيران ضد إسرائيل، بينما أزيلت قدرته على شن هجوم مشابه لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول (الجزء الرئيس الآخر من ردع إيران ضد إسرائيل). وردت إسرائيل على الهجمات الإيرانية المباشرة بتدمير الدفاع الجوي الأكثر فعالية لدى إيران، بينما ألحقت أضرارا بأجزاء مهمة من برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، وربما حتى بجزء من برنامجها النووي السري. فمهدت إسرائيل بذلك الطريق لنفسها أيضا، كي تشن مزيدا من الهجمات التي يمكن أن تلحق أضرارا أكثر شمولا.
سقوط الأسد مأساة لإيران
ولم تأتِ الضربة القاضية من عدو إيران المعلن، إسرائيل، بل من المعارضة السورية، التي أنفق “محور المقاومة” أكثر من عقد من الزمان في محاربتها. وكان زعيم “حزب الله” الراحل حسن نصرالله قد حذر في بيان صدر عام 2015، من أن نظام الرئيس بشار الأسد لا يمكن أن يسقط، وإلا فإن “حزب الله” نفسه و”محور المقاومة” سوف يسقطان أيضا. وهذا التصريح، الذي أفاد حينها في إضفاء الشرعية على استمرار مشاركة “حزب الله” في الحرب في سوريا، كان ولا يزال صحيحا تماما. فسوريا هي من جعلت المحور بأكمله أكثر تماسكا، ليس فقط بوصفه فسيفساء من الميليشيات المختلفة، بل كمجال نفوذ متماسك محدد جغرافيا.
لعل طهران أصيبت بالذهول من السرعة التي سقط بها النظام، وهي ذاتها شهادة على خواء نظام الأسد، فحاولت استخدام الاتصالات الدبلوماسية عبر تركيا وروسيا للتأكد من أن المتمردين لن يتمكنوا من فعل ما فعلوه في النهاية. وعند اجتماع الدول الثلاث التي كانت جزءا من “صيغة آستانه” السابقة، كان الأوان قد فات كثيرا. فقد انتصر المتمردون في أكثر من عشرة أيام بقليل، بحرب استمرت أكثر من عقد من الزمان.
سقوط الأسد مأساة لإيران. فمن الناحية الجغرافية، تفكك “محور المقاومة” مرة أخرى. ولم يعد قادرا على إحداث تأثير أكبر من حجمه الفعلي، بجعله القوات في أجزاء مختلفة من “الممر البري” تعمل معا. أما روسيا، شريكة إيران في مخططاتها، فهي في طريقها إلى الخروج من سوريا. ومن غير المؤكد مطلقا إن كانت روسيا ستتمكن من الاحتفاظ بقاعدتها البحرية هناك، وأن توفر الطائرات الروسية بعد الآن غطاء جويا للميليشيات المرتبطة بإيران، وأن تقاتل القوات الخاصة الروسية، جنبا إلى جنب مع جنود المشاة الإيرانيين ووكلاء طهران، بما في ذلك “حزب الله”.
كما أنهى السقوط أي أمل في أن تستفيد إيران اقتصاديا في نهاية المطاف من الأزمة السورية. فقد أنفقت إيران ما بين 30 إلى 50 مليار دولار دعما للأسد. وكانت تخطط لاسترداد هذه التكلفة الهائلة، بل حتى أملت في توليد دخل لها، بالاستيلاء على عدد من المرافق في شرق ووسط سوريا، من النفط والفوسفات إلى البنية التحتية والاتصالات وحتى الزراعة. وليس من الواضح هل ستتمكن إيران من توليد عائدات كافية لتعويض كلفة تدخلها، غير أنه من الواضح أن كل هذه المشاريع وخطوط الإيرادات كانت تعتمد على بقاء الأسد في السلطة. وكان من الممكن أن يسيطر “الحرس الثوري” بنفسه وعلى نحو فعال على الكثير من هذه المشاريع، التي كان يمكن ضخها بعد ذلك مرة أخرى في آلة الحرب الإيرانية، وضمان استمرار العناصر الأكثر تطرفا داخل الجمهورية الإسلامية في ترسيخ سلطتها.
ما الذي يحمله المستقبل
فقدت إيران في غضون بضعة أشهر، بعض ركائز ردعها سواء في مواجهة إسرائيل أو في مواجهة قوى خارجية، كالولايات المتحدة. ولم يعد بوسعها الاعتماد على ترسانة “حزب الله” من الصواريخ، ولا على جيش مندمج من الميليشيات التي يمكنها أن تعمل معا عبر الحدود، مثلما فقدت أيضا بعضا من أكثر دفاعاتها الجوية كفاءة، وأظهرت أن ترسانتها الصاروخية غير كافية لتحل على نحو فعلي محل المكونات الرئيسة الأخرى. واحد من المكونات المتبقية لإيران هو موقعها الجغرافي الحاسم حول الخليج، وقدرتها على إغلاقه إذا لزم الأمر. كما يظهر “الحوثيون” قدرتهم على خنق عقدة عالمية أخرى، مما يعني أن إيران لا تزال تتمتع بروافع لنفوذها.
إلا أنه من المرجح أن يدفع موت إرث سليماني إلى إعادة التفكير فيما يمكن لإيران أن تفعله. ويتوقع البعض اندفاعا محموما منها نحو إنتاج القنبلة النووية، وهو أمر ممكن وإن كان محفوفا بالمخاطر، لأن إيران لم تكن قط أكثر عرضة للهجمات الأجنبية كما هي عليه اليوم. وبشكل عام، أظهرت الجمهورية الإسلامية صبرا استراتيجيا، وهي تبني “محور المقاومة”، وقد تظهر هذا الصبر مرة أخرى في إعادة بناء القطع المكسورة من المحور وإعادة ترتيبها. إلا أن نظام الملالي لم يواجه أيضا من قبل قط انهيار مشروع مهم مثل “محور المقاومة”، وقد يكون هناك الكثير من أصابع الاتهام في طهران، وقد يكون هذا الصراع الداخلي هو الذي سيشكل مستقبل إيران.
المجلة
—————————
عن الشرع وحكومته وغير ذلك../ عمر قصير
أشياء يجب أن تذكر وأن تناقش وأن توضع إشارات الاستفهام والتعجب أمامها، ومجدداً، اليوم أفضل من الغد وغداً أفضل من بعد غد.
على الهامش بداية.. السادة القراء الأفاضل، هذا حساب شخصي ينشر أراء شخصية إلى جانب نشره الأخبار والمتابعات اليومية سواء عن سوريا أو عن أي شأن آخر، ما أكتبه ليس ملزماً لأحد، وغير مفروض على أحد، لا ينال من عزيمة الأمة ولا من هيبة الدولة ولا يثير الفتن، وهو حق طبيعي لأي شخص، سواء كان رأياً صحيحاً أم خاطئاً، متفائلاً أو متشائماً، لست بصدد مناقشة أحد أو إقناع أحد، أعجبك ما قرأت؟ ضع لايك أو لا تضع هذا شأنك، لم يعجبك؟ ضع أغضبني أو أضحكني أو ألغ متابعة الحساب أو احظره وأرح نفسك منه ومن صاحبه.. لا تخون الكاتب لا تشبح على الكاتب، لا توزع صكوك غفران وثورية لا تقل له ما دخلك، لا تقل له حل عنا، لا تقل له إنت برا ونحن جوا، لا تخرج أحداً من الدين ولا تدخله للدين، لا يحق لك ذلك لا شرعاً ولا قانوناً ولا عرفاً، لا أمس ولا اليوم ولا غداً، يحق للجميع قول ما يشاؤون والمطالبة بما يشاؤون وقت ما يشاؤون، هذه الأمور ألف باء، وأنا آسف لكوني وصلت إلى مرحلة اضطررت فيها لاستخدام كلمة “لا تشبح” لأن الوضع بات مأساوياً رغم مرور 13 عاماً مذ بدأ نضال السوريين لأجل ضمان الحصول على أول هدف صرخوا لأجله “حرية التعبير”.
السطور السابقة موجهة للثوار الجدد أو المكوعين أو الثوار القدامى الذين يجهلون ما كان يحصل في مناطق معينة في سوريا أو أحبوا أن ينسوا ويسامحوا ويتجاوزوا أو الذين لم يكونوا يتابعون الأخبار أساساً واستفاقوا اليوم أو الذين يعتبرون أن الجميع مثلهم ويجب أن يعيشوا ويحكموا على طريقتهم فقط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أشياء يجب أن تذكر وأن تناقش وأن توضع إشارات الاستفهام والتعجب أمامها، ومجدداً.. اليوم أفضل من الغد، وغداً أفضل من بعد غد:
– معظم التصريحات التي تخرج عن الشرع وحكومته، تظهرها وكأنها وجدت لتبقى لا لتكون مؤقتة لفترة قصيرة، أحاديث عن قرارات اقتصادية وتغيير نظام اقتصادي وهويات شخصية جديدة، وعن إعفاءات أو مسامحات أو تحويلات وتبديلات أو بناء علاقات مع الدول، حديث عن أمور تحتاج سنوات للتخطيط لها وإنجازها لا لـ 100 يوم، هذا إن أردنا تجاوز حقيقة كونها غير شرعية بطريقة أو بأخرى ولا يجب للشرع أن يستأثر بتعيينها وأن يختارها فقط من الفصيل الذي يقوده.. هذه الحكومة إن تجاوزنا من اختارها أو كيف اختيرت، تجب أن تكون مهمتها “التسيير” فقط لا التخطيط ولا التغيير ولا بناء علاقات مع دول ولا فعل أي شيء لا يجب أن تفعله إلا جهة وطنية منتخبة وممثلة للجميع.
– الجولاني قائد / قيادي عسكري يمثل فصيلاً أو تحالفاً، هناك من يعتبره فصيلاً ثورياً وهناك من يعتبره فصيلاً إرهـ&## داخلياً وخارجياً، بالأدلة والبراهين، هناك من يحبه وهناك من يكره، هناك من يهتف برحيله سابقاً (في إدلب) وحالياً (في دمشق)، مهمته ليست دعوة الناس للنزول إلى الشوارع أو اتخاذ قرار بتحويل صيدنايا إلى متحف أو ملعب كرة قدم، أو العفو عن فلان ومحاسبة فلان أو حل الجهة الفلانية، أو إعادة دمج فلان بجيش أو ما إلى ذلك، هذه قرارات يفترض أن تتخذ لاحقاً من قبل قيادات منتخبة يختارها السوريون لا من “قائد عسكري” يتحدث وكأنه حاكم البلاد.
– يحق للجميع الفرح ولا يحق لأحد مصادرة حق الناس بالنزول إلى الشوارع وفعل ما يريدون أو المطالبة بما يريدون، في الوقت ذاته يحق لأي أحد أن يتساءل عن كيفية الاحتفال بتحرير ودعوة للبناء وهناك الكثير مما لم يحل بعد، وهناك احتمالات لنشوب حروب أخرى بين أطراف متنازعة في هذا البلد، كيف تمكن الدعوة للاحتفال والتحرير وهناك أمور عالقة ومهجرون وجرائم واعتداءات في الرقة ودير الزور والحسكة وعفرين؟ كيف تمكن الدعوة للاحتفال والتحرير وتوجيه دعوات ورسائل بذلك بدل من توجيه رسائل وتوضيحات للآلاف الذين ما زالوا يتساءلون عن مصير أبنائهم الذي يفترض أن يعرف أو يكشف عن طريق توثيق ما وجد في المعتقلات والسجون؟ كيف تمكن الدعوة إلى ما سبق وهناك أراض تقضم وأناس يهجرون يومياً في الجنوب؟
– عارض كثيرون وضع راية أخرى جانب العلم الوطني، اعتراض طبيعي ومحق وألف باء هو الآخر، ثم قام القائمون على ذلك بإزالة العلم الثاني وهذا أقل ما يمكن فعله دون حاجة لشكرهم أو تعظيمهم.. حسناً، بعد الانتهاء من هذه اللفتة التي اعتبرها كثيرون جميلة -وهذا حقهم- وإصغاء لمطالب الشعب، هل استمع أحد للتصريحات والوعود التي أطلقت في تلك المقابلة؟
– تحدث رئيس حكومة الشرع المشكلة بالكامل ممن يتبعون جهة واحدة عما كان يفعله النظام وكانت بعض الإجابات تتناقض مع ما قاله الشرع كالهدف الحقيقي من العملية عند إطلاقها، وعد البشير بكهرباء لمدة 24 ساعة وزيادة رواتب بنسة 300% رغم أن هذه الزيادة إن حصلت ستؤدي إلى أزمة تضخم مرعبة، وقد تهرب رئيس الحكومة من الإجابة على سؤال حول قدرة الحكومة على دفع الرواتب (هل يوجد دعم خارجي ما؟).
– لم يتحدث البشير عن التالي، ما التالي بعد نهاية وقت هذه الحكومة؟ لم يتحدث عن المرحلة الانتقالية ولا عن مشاركة أطراف أو فصائل أو أحزاب أخرى.
– قال الناطق باسم إدارة الشؤون السياسية للسلطة الحالية، عبيدة أرناؤوط إنه سيصار إلى “تشكيل لجنة دستورية للنظر في الدستور وإجراء التعديلات اللازمة”.. على أي أساس وبصفتكم ممثلين لمن ستشكلون لجنة دستورية وتعدلون الدستور؟ ألا يفترض أن يحدث هكذا أمر بعد إجراء انتخابات واختيار السوريين لمن يمثلهم ويمكنه اتخاذ قرارات باسمهم؟ في مقابلة أخرى سئل عن موعد إجراء انتخابات فقال إن الوقت مبكر للحديث عن ذلك، سئل عن الغارات الإسرا(…) فتهرب من الرد وتحدث عن احترام السيادة.
– تقول وكالة بلومبيرغ الأمريكية إن روسيا اقتربت من التوصل إلى اتفاق مع القيادة السورية الجديدة (يقصدون الشرع ببساطة) للاحتفاظ بقاعدتين عسكريتين حيويتين في سوريا، والحديث هنا عن طرطوس وحميميم.. إن صح هذا الأمر، بصفته من يتخذ الشرع هذا القرار، وهو قرار في صميم الأمن القومي الذي يفترض أن يصدر -مجدداً- عن هيئة سياسية مدنية منتخبة لا عن “قائد عسكري” لا يمنحه ارتداء زي مدني احتفالي الحق في ذلك.
– رداً على سؤال عما إذا كان الدستور السوري الجديد سيكون إسلامياً، قال البشير إن هذه التفاصيل سيتم توضيحها في عملية صياغة الدستور.. من سيصيغ هذا الدستور؟
– يقول أحد الدبلوماسيين في دمشق لوكالة رويترز إن هيئة تحرير الشام هي الفصيل الوحيد الذي يعقد اجتماعات مع البعثات الأجنبية، وقال دبلوماسي ثان إن هيئة تحرير الشام نقلت رسائل طيبة إلى الجمهور، لكن درجة الشمولية التي أظهرتها في الأيام الأخيرة كانت مثيرة للقلق.
– نقلت مصادر مسيحية عن المطران حنا جلوف النائب الرسول لطائفة اللاتين في دمشق قوله، إنه عقد اجتماع بالمطرانية بين 40 رجل دين مسيحي من كل الطوائف مع المسؤول السياسي عن الطوائف بشير العلي، لا أعرف من هو بشير العلي ولا أفهم وجود هكذا منصب “المسؤول السياسي عن الطوائف!
– تنقل المصادر ذاتها أن العلي قال لهم إن الدولة ستكون مدنية شرعية، وهذا يعني أن الشرع سيسود مع احترام حقوق الطوائف، مجدداً من الذي قرر كيف ستكون الدولة، على أي أساس وبناء على أية سلطة أو شرعية؟
– يضيف العلي أن الحرية يجب أن تكون مدروسة وغير مزعجة، وأن كل ما يتعارض مع الشرع غير مقبول، وحرية اللباس مكفولة بشرط أن تكون غير خادشة للحياء (من الذي سيقرر ما هو خادش وما هو غير خادش؟) وأنه لا وجود لضرائب “فقط المعامل والمنشآت يؤخذ نصف العشر من الأرباح من للمسلمين، بنفس الوقت مفهوم الجزية غير مطروح ولا صحة لما يتداول عن ذلك، ولم يطالبوا المسيحيين بشيء في إدلب”!
– الائتلاف / المجلس الوطني / المنصات / هيئة التفاوض / السياسيون الذين كانوا ممثلين مفترضين للسوريين أمام الدول الأخرى.. أين أنتم؟ هل تواصلتم مع سلطة الأمر الواقع الحالية؟ هل ستنزلون إلى سوريا لممارسة نشاطكم ومحاولة الاشتراك في ما يفترض أن تكون عملية انتقالية سياسية جارية؟ هل أنتم خائفون من السلطة هذه لذلك لم تعودوا بعد أم يئستم أم ماذا؟ هذه الأسئلة بحاجة إلى إجابات فورية ليعرف السوريون ما الموقف الذي سيتخذونه عندما يتعلق الأمر بكم وبما كنتم أو ما زلتم تمثلونه، سواء اتفقوا معكم أو اختلفوا.
كل ما سبق غير مبشر ولا يشي بخير على الأقل، وإن صح تماماً واستمر فلن يؤدي إلا لمزيد من السوداوية والتشاؤم وصولاً إلى تنصيب ديكتاتورية جديدة وصبغ المجتمع السوري المؤلف ليس من العرب فقط وليس من المسلمين فقط وليس من المتدينين فقط وليس ممن يحبون اتباع أحكام الشريعة فقط، بلون واحد وشكل واحد غصباً.
————————-
إسرائيل عدوة سورية الجديدة/ رندة حيدر
15 ديسمبر 2024
لم تنتظر إسرائيل طويلاً كي تقرّر أن سورية ما بعد الأسد وحكّامها الجدد أعداء لها. وقد شعَرت برعب عندما رأت نجاح فصائل المعارضة السورية المسلحة في إسقاط نظام بشّار الأسد خلال 11 يوماً، فسارعت إلى شن هجمات استباقية واسعة النطاق دمّرت، في ثلاثة أيام، ما تبقى من قدرات عسكرية للجيش السوري، الجوية والبحرية، خصوصاً منظومة المضادّات الجوية. وبحجّة القضاء على مخازن السلاح الكيميائي الذي أخفاها نظام الأسد، كثفت هجماتها على مراكز الأبحاث العسكرية في شتى أنحاء سورية. كما تذرّعت بالخوف من استيلاء قوى المعارضة السورية على المراكز التي انسحب منها الجيش السوري في الجولان، فتوغّلت في داخل هضبة الجولان السورية، وأعلنت انهيار اتفاق فصل القوات الموقع في 1974. باختصار شديد، أعلنت إسرائيل الحرب على سورية الجديدة وعلى حكامها الجدد، مستغلّة “الزلزال” السوري وانسحاب القوات الإيرانية وعدم التدخل الروسي لإنقاذ الأسد، لتقوم بضرباتها بذرائع أمنية وعسكرية، بينما تخفي أجندة أخرى، غرضها الأساسي إلحاق أكبر قدر من الأذى العسكري والسياسي والمعنوي بقادة سورية الجدد.
خاض الجيش الإسرائيلي، في السنوات الماضية، صراعاً ضد الوجود العسكري الإيراني والأذرع الإيرانية في سورية، وطبّق ما أسماها “المعركة بين الحروب”، وهي سلسلة ضربات جوية لأهداف عسكرية إيرانية وتابعة لحزب الله. حدث ذلك في الفترة التي سادت فيها نظرية “توازن الرعب” بين إسرائيل وحزب الله، وتجنّب إسرائيل مهاجمة حزب الله في الأراضي اللبنانية، خوفاً من استخدام الحزب ترسانته الصاروخية وصواريخه الدقيقة ضد جبهتها الداخلية. وبالطبع، سقط ذلك كله بعد العدوان الإسرائيلي أخيراً على لبنان، واضطرار حزب الله بعد الضربات القاسية التي تعرض لها والدمار الهائل الذي لحق بلبنان إلى القبول بوقف إطلاق النار.
طوال حكم الأسد الأب والابن، لم يتجرأ الجيش الإسرائيلي على ضرب الجيش السوري، وحافظ على الاتفاقات الموقعة معه. وخلال هذه السنوات، جرت محازلات لإجراء مفاوضات سلام مع سورية، آخرها في عهد نتنياهو في 2010. وبحسب مصادر إسرائيلية، أجرى الأخير مفاوضات سرّية من خلال الوسيط الأميركي، فريد هوف، مع بشّار الأسد بشأن اتفاق سلام تعهد فيه الإنسحاب من هضبة الجولان.
وفي الواقع، منذ بدء سنوات الحرب الأهلية في سورية، وقفت إسرائيل موقف المتفرّج، وكان شعارها “التعاون مع الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه”، في إشارة واضحة إلى الموقف الإسرائيلي الضمني الداعم لبقاء نظام الأسد في سورية. لكنها أيضاَ أقامت، في واحدةٍ من فترات الحرب، علاقات مع جماعات مسلحة سورية فتحت لهم حدودها وساهمت في معالجة مصابين وجرحى منهم. لكن هذه التجربة كانت محدودة جداً، ولا يمكن التعويل إسرائيلياً عليها في كيفية التعامل مع قوى المعارضة والحكام الجدد لسورية.
من يتابع ردات الفعل الإسرائيلية على التطورات في سورية في الأيام الأخيرة، تستوقفه الادّعاءات الإسرائيلية أن الفضل في سقوط نظام الأسد يعود إلى الضربات القوية التي مني بها محور المقاومة بقيادة إيران على يد الجيش الإسرائيلي. لكن الجميع في إسرائيل من الزعامات السياسية وقادة أحزاب ومسؤولين عسكريين يشعر بالقلق والتوجس، ومقتنع بأن ما يجري في سورية تداعيات كبيرة وعميقة، لا يمكن أن تكون إسرائيل في منأىً عنها.
في الأيام الماضية، كان الجميع في إسرائيل يحاول الإجابة عن السؤال: “هل سقوط نظام بشّار الأسد جيد لليهود”؟ ومن الخاسر الأكبر ومن الرابح؟ وكيف يمكن توظيف التغيرات في داخل سورية في خدمة الاهداف الاستراتيجية لإسرائيل، والتي يمكن حالياً تلخيصها بالتالي: استغلال الضعف الذي لحق بمحور المقاومة الذي تقودة إيران، من أجل ضرب أذرع إيران في المنطقة بأسرها، والتركيز منذ اللحظة على محاربة البرنامج النووي الإيراني، ومنع حزب الله من إعادة تسلحه وقطع الإمداد بالسلاح من إيران عبر سورية، وتعزيز قوة الردع الإسرائيلي.
لافت ومهم في هذا السياق أن إسرائيل تتعامل مع القوى السياسية الجديدة في سورية بوصفها عدوّاً محتملاً وشديد الخطورة، يمكنه، في أي لحظة، أن يشنّ عليها هجوماً مفاجئاً، مثل الذي شنه على نظام بشار الأسد. لذا، عليها استباق هذا ودرء الخطر بضرباتٍ قاصمة تشل أي قدرات محتملة لهذه القوى لمهاجمة إسرائيل في أي يوم. وليس واضحاً كيف بعد خروج القوات الإيرانية وقوات حزب الله من سورية أن يخدم ضرب الجيش السوري والغارات الإسرائيلية الاستراتيجية التي ذكرناها؟ وهذا يقود إلى استنتاج أن التوجهات الإسرائيلية العدوانية حيال سورية اليوم سببها أمران: أن القوى السياسية الإسلامية الجديدة في سورية تحمل الأيديولوجيا الإسلامية عينها لحركة حماس التي تعدّ فرعاً من جماعة الإخوان المسلمين. صحيحٌ أن “هيئة تحرير الشام”، وزعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) يأتي من خلفية جهادية سلفية أكثر راديكالية من “حماس” الإخوانية، لكن إسرائيل بعد التجربة التي خبرتها في صراعها مع “حماس” مقتنعة بعدم إمكانية التوصل إلى اتفاق مع “حماس” التي تمكّنت من القضاء عليها عسكرياً، ولكن من المستحيل القضاء عليها فكرةً، وأن عداء “حماس” لإسرائيل فكري- ديني- قومي.
الأمر الثاني الذي أملى على إسرائيل هجماتها العسكرية في الأيام الماضية، تداعيات الإخفاق الإستخباري والعسكري الإسرائيلي في 7 أكتوبر(2023). فوجئت إسرائيل بهجوم قوات المعارضة السورية، وبسرعة تقدمه ونجاحاته العسكرية. وربما وجدت في هذا الهجوم محاكاة للهجوم المفاجئ الذي شنته “حماس” في 7 أكتوبر، وشعرت بأن عليها أن تتحرّك بسرعة كي تمنع سيطرة قوات عسكرية سورية إسلامية سنّية متطرّفة على جبهتها الشرقية.
يبقى أمر أساسي يتعلق بالتوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية الذي قال وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إنه سيستمر خلال فصل الشتاء وربما أكثر. ما حدث هو تعدّي إسرائيلي سافر على سيادة الأراضي السورية، ويأتي بعد التوغل الإسرائيلي في الجنوب اللبناني وحزام الدمار والنار الذي فرضه الجيش العسكري في هذه المنطقة حتى انتهاء فترة وقف إطلاق النار المحددة بـ60 يوماً. وضمن هذا الإطار، يمكن أن تضاف المنطقة العازلة التي أقامتها إسرائيل في شمال القطاع مع أراضيها، وإجبار الجيش منذ أشهر سكان شمال غزّة على الرحيل والانتقال إلى جنوب القطاع في أكبر عملية تطهير عرقي ترتكبها إسرائيل أخيراً، وتشمل مئات آلاف من سكان شمال غزّة.
تمارس إسرائيل في غزّة والضفة الغربية احتلالاً إحلالياً، فهي لا تحتل الأرض فقط، بل تعمد إلى إحلال سكان يهود محل سكان الأرض من الفلسطينيين. أما في جنوب لبنان وفي الجولان السوري فهي تمارس احتلالاً عسكرياً سافراً، ضاربة في عرض الحائط كل القرارت الدولية. تجري هذه العربدة الإسرائيلة أمام أنظار الدول كلها، وفي ظل تواطؤ أميركي مجرم.
العربي الجديد
————————–
السجون في سورية: عن غاية تدمير النفوس البشرية/ فارس الذهبي
15 ديسمبر 2024
يثير الحيرة والألم معًا مدى تعلّق النظام السوري السابق بفكرة السجون، ورغبته الزائلة في بناء هذا الكم الهائل منها على طول البلاد وعرضها، فخلافًا للسجون التابعة لوزارة الداخلية المسؤولة عن الجرائم الجنائية والجنح التي يقترفها المواطنون، دَمَّكَ (من مداميك، حتى لا نقول شيّد وفيها إيجابية، أو بنى لارتباط المفردة بالعمارة والبنيان) النظام السابق عشرات السجون السياسية التي لا يقارن عددها بعدد السجون الجنائية، بدون أن يتنبه إلى أن مرتكبي جريمة تعاطي السياسة الممنوعة أقل بكثير من عدد من يرتكب جنح السرقة أو جرائم القتل، وهذه مهزلة حقيقية في بلد كان إعلام النظام يتغنّى ليل نهار أنه بلد الأمن والأمان، وهذه بالطبع كذبة من كذباته غير المنتهية التي بدأها بشعارات حزبه عن الوحدة والحرية والاشتراكية، ولم ينهها بكذبته الشهيرة بأنه يجيّش كل ما في الوطن من أجل تحرير الأراضي المحتلة.
دمّك نظام الأسد عددًا لا يحصى من السجون والمعتقلات السياسية التي لا هم لها سوى اعتقال النشطاء السياسيين وكل من يخالف فكر النظام أو يعترض على أي من ممارساته. في الحقيقة كانت هذه الهواية هي شغل النظام الشاغل التي اكتشفها أبناء الشعب السوري، واكتشفوا أن كل ما في سورية كان معدًا ومجهزًا لسبب واحد هو بقاء النظام وحمايته. لأجل هذا أقام الأسد الأب عشرات الأفرع الأمنية في دمشق، تحت مسميات عديدة، عسكرية وجوية وأمنية وسياسية، ولكل جهاز منها فرع في كل محافظة ومدينة وحتى بلدة، مدجج بالسجون والعناصر والسلاح، بالطبع لكل فرع سجنه الخاص، وأدوات تعذيبه، وسمعته المختلفة عن بقية الأفرع، بحيث يعرف السوري مصيره من اسم الفرع الأمني الذي يساق إليه. أما المهزلة الكبرى، فهي أن أحد أسوأ الأفرع الأمنية السورية يحمل اسم فرع فلسطين، الذي كان المواطنون يتجنّبون المرور من أمامه أو المرور من الرصيف المقابل لبوابته السوداء. وتحت هذه التسمية (فرع فلسطين) سُجّلت فظائع لا تصدق ولا تنسى بحق الشعبين السوري والفلسطيني من قتلٍ وتعذيبٍ واعتقال.
ومن المعروف اليوم أن أعداد السجون الهائلة التي فتحتها قوات المعارضة، وأطلقت السجناء منها في طول البلاد وعرضها، هي فقط تلك السجون المعروفة للعامة والإعلام، فبحسب مطّلعين هناك أعداد مرعبة من السجون السريّة المخفيّة التي دمّكها نظام البطش النازي البعثي، وأدارها بصمتٍ تحت إشراف رئاسة الجمهورية والفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد. يتحدث المراقبون عن مائة سجن سريٍّ غير مكتشفة حتى الآن، قُدمت شهادات من أفراد حولها عن سماعهم أصوات تعذيب وصراخ مبهمة طوال سنين، منها سجون أسفل جامعة دمشق، وسجون تحت ساحات وحدائق عامة، سبق للنظام أن حفرها بسرية وصمت ليكدّس داخلها معارضيه بدون أية محاسبة أو مراقبة مفترضة أو تسجيل ضمن سجلات الدولة، وبحسب الأمم المتحدة يتراوح عدد المعتقلين في سورية من 100000 إلى 250000، بين معتقل ومختف قسرًا.
حيث لم يكتف النظام بتحويل البلاد بطولها وعرضها إلى معتقل كبير مشدّد يتم تدقيق أوراق وثبوتيات المواطن فيه بشكل يومي، بدون أن يتمكن أي أحد من التصرف بحرية من دون مراجعات أمنية، بل دمّك عشرات السجون لاحتجاز من يعارضه.
في داخل هذه السجون والمعتقلات كانت هناك طبقات للسجناء، فعلى سبيل المثال في معتقل صيدنايا سيء السمعة الذي يعتبر الأسوأ في العالم المعاصر، يتدرج السجناء في ثلاث طبقات: السجن الأبيض وهو مخصص للسجناء المعارضين والسياسيين العاديين الذين قالوا لا فقط، وفيه يتم تعذيبهم بشكل يومي وفق منهاج محدد مسبق، أما السجن الأحمر فهو سجن بقسمين قسم ظاهر للعيان صبغت جدرانه بالأحمر، ومن هنا أتت تسميته، وقسم آخر متطور جدًا لم يستطع المسعفون دخوله حتى لحظة كتابة هذه السطور، بسبب وجود أبواب سرية متماهية مع الجدران فيه، لا يمكن فتحها إلا بواسطة أجهزة تحكم سرية لا يعرفها سوى السجّانون، وسبب إخفائه رغبة النظام في تقديم صورة جيدة للمرافق السجنية أمام منظمات حقوق الإنسان التي تقوم بزيارة السجن دوريًا بناء على تقارير منظمات حقوق الإنسان، لذلك فهم لا يشاهدون سوى عنابر السجن الأبيض، بينما الأحمر حيث عمليات الإعدام اليومية ومكابس البشر وغرف الملح وتقطيع الجثث مخفية فيه، ويعتقد بوجود محارق للجثث داخله، حيث أخفيت فيه أعداد غير محدودة من جثث المعتقلين السوريين، الذين لا سجلات لهم في قيود وزارة الداخلية أو الأفرع الأمنية، حيث يتم اعتقال المتظاهرين سابقًا ونقلهم إلى صيدنايا ليتم تعذيبهم وإعدامهم خلال أيام ومن ثم دفن جثثهم في مقابر جماعية، أو حرقها وإتلافها بالمواد الكيماوية لإخفاء أي دليل على وجودهم، وهذا ما حدث لولا شهادات أهاليهم وأصدقائهم عن معرفتهم باعتقالهم.
مسلخة صيدنايا…
بمشورة أمنية من ضباط نازيين فارين من الحكم الهتلري، دُمِّكَ سجن صيدنايا عام 1987، وفق نموذجٍ معماريٍّ معقّد؛ مميّز من الخارج ومرعب من الداخل.
أما اختيار المكان، فجرى بالاستناد إلى وعيٍّ شيطانيٍّ لئيم؛ فالمدينة تاريخية ومشهورة بكنيستها وديرها، وبوصفها مركزًا مسيحيًا أرثوذوكسيًا مهمًا في سورية، فهم، بالتالي، يحتمون بهذه المظلة الدينية الجامعة، ويحتمون بالأقليات إن تمّت مداهمة السجن/ المسلخة، أو تخريبه أو الاعتداء عليه، حيث كان من المقرر للسجن أن يكون مخصصًا للشؤون العسكرية والسجناء العسكريين، لكنه سرعان ما تخصص بالسجناء المتّهمين بالإرهاب، خصوصًا من التيارات الإسلامية، فكيف يمكن لبلدة لها قيمة أيقونية في الديانة المسيحية أن تأوي سجنًا مخصصًا للتيارات الإسلامية المعارضة التي ذاقت فيه أشد صنوف التعذيب والإعدام والتغييب؟ ليضم السجن لاحقًا كل من قال لا في سورية.
منفى تدمر…
السجن الآخر الذي يمتلك سمعة منحدرة في السوء والإجرام، هو سجن تدمر العسكري، الذي دُمِّكَ في عمق صحراء تدمر في عام 1966 (السنة التي انقلب فيها تيار صلاح جديد على الرفاق البعثيين وانفردوا بالحكم).
الانتهاكات التي اُرتكبت في المنفى الصحراوي العسكري جابت الآفاق وألّفت لها الكتب (“تدمر شاهد ومشهود” لِمحمد سليم حماد وغيره) والروايات (“القوقعة” لمصطفى خليفة وغيرها) وآلاف المقالات. إنها انتهاكات يصعب تصديقها، ويستحيل على العقل الإنسانيّ السويّ استيعابها وتخيّل استمرار حياته بعد اطلاعه عليها بالسوّية ذاتها والسلام ذاته.
وكما هي حال سجن صيدنايا، خُصص السجن بداية للعسكريين المتمردين على النظام ومنهم على سبيل المثال رغيد الططري، شيخ السجناء السوريين، الذي اعتقل بعد رفضه قصف حماة بالطيران رأفة منه بالمدنيين فاعتقله نظام الأسد الأب لـ44 عامًا حتى أفرج عنه الثوار في 2024 من سجن طرطوس.
وفيه حدثت مجزرة تدمر الرهيبة التي نفذتها حسب الشهادات وحدات من سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد، ضد معتقلي جماعة “الإخوان المسلمون” بُعيد محاولة فاشلة لاغتيال حافظ الأسد، حيث تقدر الأمم المتحدة عدد المنفذ بهم حكم الإعدام قرابة 4000 سجين في ثلاثة أيام.
بقيت سمعة السجن تزداد سوءًا وشكّلت رعبًا لجميع العسكريين وضررًا لسمعة المدينة التاريخية البديعة تدمر، إلى أن داهم تنظيم داعش الإرهابي المدينة واحتلّها، ونفذ فيها عمليات إعدام جماعية في الشوارع ومنهم عالم التاريخ خالد الأسعد. ومن ثم وعبر عملية استخباراتية خبيثة قام التنظيم بتفجير السجن بالكامل، مزيلًا كل الأدلّة وعلامات الإجرام التي تركها السجّانون وأدلّة العينات الجينية وبقايا المفقودين الذين أنكر النظام وجودهم في السجن، أو حتى معرفته بمصيرهم.
السجن الثالث الذي لا يفارق التاريخ السوري هو سجن المزّة العسكري، وهو سجن قديم بنيَ فوق تلّة تطل على جبال المزة، في الفترة الفرنسية.
وله كباقي سجون النظام سمعة سيئة وبارتباطه بالمعتقلين من كبار المعارضين السياسيين مثل شكري القوتلي وحسني الزعيم وأمين الحافظ ونور الدين الأتاسي. لاحقًا استخدمه حافظ الأسد كسجنٍ سياسي لأعضاء تنظيمات يسارية وشيوعية وإسلامية على حد سواء. وشهدت تلك الأيام انتهاكات فظيعة أدت إلى انتشار سمعته السيئة. الوريث بشار الأسد أغلق هذا السجن بناء على مبادراته التي ادّعى فيها تبييض السجون السورية، قبل أن يقوم ببناء المئات من السجون الأخرى في بقية المحافظات.
بقيت فكرة السجون في سورية تشكل رعبًا حقيقيًا للسكان، بحيث لا توجد عائلة في سورية لم يزر أحد أبنائها واحدًا من تلك السجون، أو الأفرع الأمنية. فإن كانت فكرة السجون في العالم قد خُلقت لإعادة التأهيل أو الاصلاح، فإن السجون في سورية خلقت لتدمير النفوس البشرية وسحق الإرادات والكرامات دون رأفة أو رحمة.
ضفة ثالثة
———————–
ظاهرة “المكوعين”!/ غطفان غنوم
مع تصاعد الجدل حول ظاهرة “المكوعين”، وتعاظم الضجيج الذي يحيط بهم، أطلّ تيار من الأصوات يتهمنا بالمبالغة، وكأنهم يخفون خلف تلك الاتهامات رغبة دفينة في تسطيح الجرح وتشويه الحقيقة. لكن، أي مبالغة تُرى في فضح من تلاعبوا بدماء الشهداء وساوموا على أحلام وطن؟ وأي غلوّ في الدعوة إلى محاسبة من ارتدى قناع الثورة بعدما أطفأ بيده نورها يومًا؟ إن توصيف هذا التيار بالمبالغة ليس إلا محاولة لإسكات النقد، بل هو سعي لشرعنة النفاق وتطبيع الانتهازية، وكأن العدالة باتت أمرًا ثانويًا يمكن المساومة عليه.
نتفهم أن يمتلك أي “مكوع” أسبابًا ومبررات قد تُسوّغ ظاهريًا ما بدا تراجعًا أو تبدلًا في الموقف، لكن الفرق الجوهري يكمن بين من تواطأ بدافع المصلحة والانتهازية، ومن انحنى أمام القهر والاضطرار. للتفريق بين الاثنين، يجب أن نعتمد على معايير دقيقة تُراعي الظرف وتُسلط الضوء على النوايا، مثل:
الموقف تحت الضغط: من كان مُجبرًا غالبًا ما يحافظ على صمته أو يكتفي بالحد الأدنى من التعاون مع الظالم، بينما المتواطئ يتعدى ذلك إلى ترويج الرواية الزائفة، أو المشاركة الفعالة في تقويض الثورة.
السلوك بعد زوال الخطر: عند انتفاء القمع، يبرز الفرق جليًا؛ من كان مجبرًا يسارع إلى الاعتراف والاعتذار بشفافية، بينما يتجنب المتواطئ الاعتراف، محاولًا الالتفاف على ماضيه لتبرير مواقفه أو حتى إنكارها.
التكلفة الشخصية: يُظهر المجبر غالبًا علامات المعاناة أو التضحيات التي تحملها نتيجة الضغط، مثل فقدان امتيازات أو عزل اجتماعي، بينما المتواطئ يستفيد من مواقفه، ويجني منها المكاسب.
توثيق المواقف السابقة: العودة إلى الخطابات، الكتابات، أو التصريحات خلال فترة الثورة تكشف الكثير. من كان مجبرًا يُظهر محاولة للابتعاد عن التورط العلني، في حين أن المتواطئ ينخرط بفعالية في دعم النظام أو الإساءة للثورة.
بالتالي، السبيل للتفريق ليس فقط في الإصغاء للأعذار، بل في التمحيص في أفعالهم، وتأثيرها على الثورة والمجتمع. فالاعتراف وحده لا يكفي، إذ يجب أن يترافق مع أدلة تُثبت أن الشخص لم يكن جزءًا من ماكينة القمع، وأنه دفع ثمنًا حقيقيًا لقاء نجاته من بطشها.
ظاهرة التكويع لا تقتصر على فئة بعينها، بل تمتد لتشمل كل من يتخذ من الانتهازية وسيلة للنجاة أو تحقيق المكاسب في ظل التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى. ومع ذلك، يبرز الفنانون بشكل أكثر وضوحًا في هذا السياق بسبب طبيعة مهنتهم التي تجعلهم دائمًا في دائرة الضوء، حيث يتشكل دورهم كمؤثرين على الرأي العام وكحراس للضمير الجمعي.
الفنانون ليسوا مجرد صانعي ترفيه، بل هم في كثير من الأحيان رمز للهوية الثقافية والقيم الأخلاقية للمجتمع. لذلك، عندما ينحاز الفنان إلى سلطة القمع أو يغيّر ولاءه عند أول منعطف، فإن الضرر يتجاوز شخصه ليطال الوجدان العام. هذه الطبيعة الخاصة لمهنته هي ما تجعل “تكويعه” أكثر إثارة للجدل، لأنه يضعف دور الفن كممارسة مقاومة تعبر عن صوت الشعب وآلامه.
لكن في ذات الوقت، لا يمكن إغفال وجود مكوعين في صفوف السياسيين، الأكاديميين، وحتى النشطاء الذين، مثل الفنانين، استغلوا اللحظة لصالحهم. ومع أن أفعال هؤلاء لا تظهر بنفس القدر من الوضوح، إلا أن آثارها على المجتمع قد تكون مدمرة بالقدر ذاته، إن لم تكن أكثر خطورة.
التكويع، إذًا، ليس مجرد ظاهرة فردية، بل هو مؤشر على أزمة قيمية تتطلب مواجهة شاملة، تتجاوز استهداف فئة بعينها إلى بناء وعي عام يُحصّن المجتمع ضد ثقافة النفاق والانتهازية.
ولفهم خطر “المكوعين”، يمكن الرجوع إلى تجارب ثورية بارزة في التاريخ. فعلى سبيل المثال، عانت الثورة الفرنسية (1789) من انقسامات داخلية خطيرة نتيجة بروز شخصيات انتهازية حاولت التكيف مع مسار الثورة لتحقيق مكاسب شخصية. كان هؤلاء “المتذبذبون” مسؤولين بشكل غير مباشر عن تعزيز الفوضى، مما أدى إلى ما يُعرف بـ”عهد الإرهاب”، حيث ساد العنف والشك بين أطياف الثورة. ورغم انتصار الثورة، إلا أن هذه الانقسامات أضعفتها داخليًا ومهدت لاحقًا لعودة الحكم الاستبدادي تحت قيادة نابليون بونابرت.
في سياق آخر، يمكن النظر إلى الثورة الروسية (1917)، حيث استغل بعض القادة الفرصة لتغيير ولاءاتهم بما يخدم مصالحهم الشخصية. هؤلاء الأشخاص لم يؤثروا فقط على مسار الثورة، بل ساهموا في بناء نظام سياسي قمعي يدّعي تمثيل الشعب، بينما كان يعيد إنتاج ثقافة استبدادية بشكل جديد.
الثورة السورية ليست بمنأى عن هذه الظاهرة. بعد انتصار الثورة، ظهر “المكوعون” الذين انقلبت مواقفهم من دعم النظام الديكتاتوري إلى ادعاء الولاء للثورة. لا يمكن فهم هذا التحول بمعزل عن الظروف التي دفعتهم إليه، لكن الاعتراف بالواقع لا يعني تبريره أو التغاضي عنه. بل إن هذه الظاهرة، إذا لم تُواجه بوضوح، ستضع المجتمع السوري أمام تحديات خطيرة:
١- تشويه الذاكرة الجماعية: يشكل “المكوعون” خطرًا على سردية الثورة ذاتها. إذ أنهم يُعيدون كتابة التاريخ بشكل يُلغي معاناة الضحايا ويُلمّع صورة من ساهموا في القمع. هذه السردية المشوهة تُهدد بتقويض تضحيات الشعب السوري وتُضعف من عدالة قضيته أمام العالم.
٢- تعزيز ثقافة الانتهازية: إذا لم يُحاسب “المكوعون”، فإن الرسالة التي تصل إلى المجتمع هي أن النفاق والانتهازية سلوكيات مقبولة. هذا يُفقد الثورة قيمتها الأخلاقية، ويضعف من قدرة المجتمع على بناء ثقافة قائمة على الصدق والعدالة.
٣-إضعاف الثقة بالمؤسسات: يُعد الفنانون والمثقفون جزءًا من النسيج القيمي لأي مجتمع. عندما يعتلي “المكوعون” المنابر الثقافية أو السياسية، فإنهم يُقوضون ثقة الجمهور بهذه المنصات، مما يعيق عملية بناء مؤسسات مجتمعية قوية وشفافة.
المطالبة بمحاسبة “المكوعين” ليست دعوة للانتقام، بل هي خطوة أساسية لترسيخ قيم العدالة وحماية الثورة من التلاعب. المحاسبة في هذا السياق تعني:
١-توثيق المواقف السابقة: كما حدث في جنوب إفريقيا خلال فترة العدالة الانتقالية، يمكن إنشاء لجان توثيق تعيد كتابة تاريخ الثورة بناءً على حقائق دقيقة، ما يضمن أن أدوار “المكوعين” لن تُنسى.
٢-إلزامية الاعتراف العلني: يجب أن يُطلب من هؤلاء الأشخاص الاعتراف علنًا بأخطائهم السابقة، بما يُعيد بعضًا من الثقة المفقودة بينهم وبين المجتمع.
٣-إعادة الاعتبار للضحايا الحقيقيين: من خلال تسليط الضوء على تضحيات من وقفوا مع الثورة منذ بدايتها، يمكن للمجتمع أن يُعيد بناء منظومة القيم الأخلاقية التي تُشكل عماد أي عملية تغيير.
٤-إقصاء المتلاعبين: مثلما حدث في الثورة الكوبية (1959)، حيث تم استبعاد الانتهازيين من المناصب القيادية لضمان حماية قيم الثورة، يمكن تطبيق استراتيجيات مماثلة لضمان عدم هيمنة “المكوعين” على المشهد الثقافي والسياسي.
إذا تُركت ظاهرة “المكوعين” دون معالجة، فإن الثورة السورية قد تواجه تبعات خطيرة، منها:
١-فقدان الشرعية الدولية: يشكّل صعود “المكوعين” إلى واجهة المشهد خطرًا على مصداقية الثورة أمام المجتمع الدولي. إذ قد يُستخدم هذا النفاق كذريعة للتشكيك في نزاهة أهدافها.
٢-تفشي الانقسامات الداخلية: يُغذّي تجاهل الظاهرة شعورًا بالظلم بين من دفعوا الثمن الأكبر للثورة، مما يؤدي إلى انقسامات اجتماعية تهدد استقرار المجتمع بعد التحرير.
٣-إضعاف الأجيال القادمة: غياب المحاسبة يخلق بيئة تُشجّع الأجيال الشابة على تبني سلوكيات انتهازية، ما يُضعف من قيم التضحية والنضال التي بُنيت عليها الثورة.
الثورة السورية ليست مجرد انتصار سياسي، بل هي فرصة لإعادة بناء مجتمع قائم على العدالة والكرامة الإنسانية. مواجهة ظاهرة “المكوعين” بحزم ليست خيارًا، بل ضرورة لضمان أن تكون الثورة نقطة تحول أخلاقية وثقافية حقيقية. إذا نجح السوريون في تجاوز هذه الظاهرة، فإنهم لن يُثبتوا فقط قدرتهم على إسقاط نظام ديكتاتوري، بل أيضًا على بناء مجتمع متماسك يحمل قيم الثورة في كل تفاصيله.
الفيس بوك
—————
عن العلم السوري/ نبيل سليمان
15 ديسمبر 2024
لأنها الجهالة السياسية، ولأنه التجهيل السياسي الذي مارستهُ الأسدية، أعيد نشر هذه المقالة حول العَلَم الذي بات رسميًا علَم الدولة.
لقد كتبت لي دكتورة في جامعة تشرين (اللاذقية) تلومني على أنني وضعت هذا العلم أيقونةً لي على الواتس، بينما هو بالنسبة إليها علم الدويلات الطائفية. وقد توالت أجيالٌ منذ حكم البعث سورية عام 1963 لا تعرف هذا العلم، فلعل هذه المقالة القديمة الجديدة أن تكون شمعةً في ليلٍ بهيمٍ بدأ يتبدد.
* * *
حملت افتتاحية جريدة “تشرين” (الحكومية السورية) بتاريخ 19 حزيران/ يونيو 2011 هذا العنوان: (العلم الانتدابي). وقد عنى الكاتب ـ وهو رئيس التحرير آنئذٍ: زياد غصن ـ بذلك العلمَ السوري الذي عُرِفَ بعلم الاستقلال، واعتمِد في سورية منذ جلاء الاستعمار الفرنسي 1946 حتى قيام الوحدة السورية المصرية في دولة (الجمهورية العربية المتحدة) عام 1958. وبعد تصّدع هذه الوحدة عاد علم الاستقلال عام 1961 ولم يطل به المقام إلا إلى الانقلاب الذي جاء بحزب البعث العربي الاشتراكي إلى الحكم عام 1963.
تبدأ الافتتاحية بالقول إنه كان لافتًا ومفاجئًا أن يلوّح بعض المحتجين بعلم يعود عمره إلى زهاء ثمانية عقود. ثم يندفع الكاتب إلى تمريغ ذلك العلم بقوله: “علمٌ أُحدث في زمن الاحتلال الفرنسي، وكان رمزًا لمرحلة قُسّمتْ فيها سورية تحت الانتداب إلى خمس ولايات، ومن ثم عاد ليتحول إلى رمز فترة رسخت انفصال الوحدة بين سورية ومصر”.
من المعلوم أن زمن التقسيم الفرنسي لسورية إلى خمس دويلات، يعود إلى زهاء تسعة عقود، أي إلى ما قبل ظهور العلم الذي أنزلت الافتتاحية غضبها عليه، وعلى المحتجين. ففي أول أيلول/ سبتمبر 1920 أقام المستعمر دولة العلويين، وبعد خمسة عشر يومًا أقام دولة حلب، ثم حدد حدود دولة دمشق بعد أقل من شهرين، كما أقام دولة جبل الدروز في 4/3/1921. وفي 28/6/1922 قامت دولة الاتحاد السوري من دولتي حلب ودمشق. ثم قررت فرنسا أن تكون هذه الدولة منذ 1/1/1925 هي الدولة السورية، وأن يُفَكّ لواء اسكندرون عن حلب ليتبع رئيس الدولة السورية.
* * *
كان لكل من تلك الدويلات ـ الصنائع الفرنسية علمها. أما العلم السوري الذي تسميه افتتاحية جريدة “تشرين” (العلم الانتدابي) زورًا و/أو جهلًا، فلم يكن قط رمزًا لمرحلة التقسيم، بل على العكس. وتبيان ذلك يقتضي قولًا آخر، أوله أن سورية ربما كانت الدولة الأولى في العالم في عدد مرات تبديل علمها.
وقد كان العلم الأول الذي رُفِعَ في دمشق بدلًا من العلم العثماني في 27/9/1918 هو علم الحكومة العربية في عهد الأمير فيصل، والمعروف بعلم الثورة العربية الكبرى وبالعلم العربي، وقد رفعه الأمير سعيد الجزائري فوق دار البلدية في دمشق قبيل دخول الأمير فيصل إليها.
أما بعده فقد جاء:
1- علم المملكة السورية، وهو العلم العربي نفسه بعد إضافة نجمة سباعية الرؤوس في مثلثه. وقد رُفِعَ يوم إعلان المملكة السورية في 8/3/1920، ومن مصادفات الأقدار العجيبة أن الانقلاب الذي جاء بالبعث إلى حكم سورية قد وافق يوم الثامن من آذار/ مارس، ولكن في عام 1963.
2- العلم الخاص بالملك فيصل، وهو علم المملكة السورية عينه، ولكن بعد تبديل نجمته السباعية بتاج الملك. وكان هذا العلم يرفع فوق قصر الملك فيصل الكائن في جادة العفيف، حيث تقوم السفارة الفرنسية في دمشق.
3- علم قوات ميسلون التي خاضت معركة ميسلون، أو علم يوسف العظمة، وهو علم المملكة السورية، ولكن بعد أنْ كُتبتْ على وجهه الأول العبارات التالية: “لا إله إلا الله محمد رسول الله… اللواء الأول للمشاة سنة 1338”. وكتبت على وجهه الثاني العبارات التالية: “بسم الله الرحمن الرحيم… وجاهدوا في سبيل الله… إن الله معنا… إنا فتحنا لك فتحًا مبينا”.
4- علم الاستعمار الفرنسي، وهو العلم العربي بعد أن وضع المستعمر في رأسه علمًا فرنسيًا صغيرًا، وقد رفع في 4/8/1920.
5- علم دولة دمشق، وقد رفع في 24/10/1920، وهو أزرق اللون وفي مركزه دائرة بيضاء، وفي زاويته اليسرى العلوية علم فرنسي صغير.
6- علم دولة حلب، وقد رفع في أيلول/ سبتمبر 1920.
7- علم دولة الاتحاد السوري، وقد رفع في 1/1/1925 بعد توحيد دولتي حلب ودمشق، ووضع علم فرنسي صغير في زاويته اليسرى الشمالية، كما في علم دولة حلب.
8- العلم السوري، وهو علم الجمهورية السورية في مرحلة الانتداب الفرنسي. وقد رُفِعَ في 12/6/1932. وهذا العلم هو نفسه علم الاستقلال الذي رُفِعَ في سورية بعد جلاء الاستعمار الفرنسي في 17/4/1946. كما كان هذا العلم علم الجمهورية العربية السورية بعد انفصالها عن مصر في 28/9/1961
9- علم الجمهورية العربية المتحدة، وقد رُفِعَ في مصر وسورية في 1/4/1958.
10- علم الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق، وقد رُفِعَ في 1/5/ 1963 في سورية والعراق، ولم ترفعه مصر.
11- علم اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسورية وليبيا، وقد رُفِعَ في 1/1/1972 وهو العلم السابق نفسه بعد استبدال النجوم بالعقاب. وهذا العلم هو ما نصّ عليه الدستور السوري لعام 1973، وذلك في المادة السادسة من الفصل الأول من الباب الأول: “علم الدولة وشعارها ونشيدها هو علم دولة اتحاد الجمهوريات العربية وشعارها ونشيدها”.
12- العلم الذي كان العلم الرسمي حتى 8/12/2024 هو نفسه علم الجمهورية العربية المتحدة. وقد رُفِعَ بعد تعديل المادة السادسة من دستور 1973 في 29/3/1980.
* * *
في احتفال درعا بجلاء الاستعمار الفرنسي يوم الأربعاء 17/4/1946 خطب مفتي حوران مشيرًا إلى أن العلم “علمنا هذا الذي هو رمز كرامتنا جميعًا، يناشدكم الله أن تحافظوا عليه، وتموتوا تحت ظله”. وفي احتفال درعا نفسه يخاطب مطران حوران وجبل الدروز للروم الكاثوليك العلم قائلًا: “إنك الوطن العزيز، نتطلع إليك، والمجد والفخر منسوب إليك (…) اخفقْ يا علم بانعطاف وحنان فوق قبور المجاهدين والشهداء، واسدلْ عليهم ظلك المجيد. إنْ مجدك اليوم إلا ثمرة جهودهم ودمائهم”. وإذا كان المطران قد رأى الوطن في العلم، ففي احتفال إزرع (قرب درعا) بالجلاء، يرى مدير المدرسة المضرية في اللجاة الجنوبية، عبد الله المصري الإدلبي، في علم الاستقلال والجلاء علم اليرموك، وعلم ذي قار، وعلم الوحدة الوطنية، حيث يخاطبه قائلًا: “أيها العلم السعيد: إنْ كان للنصارى عيد محدود ولليهود عيد مخصوص وللمسلمين عيد موعود، فأنت عيد الجميع، تخفق فوق رؤوسهم ما أفلتْ أرض وأظلت سماء (…) أيها الخفاق عزًا، أنت رمز للوطن، أيها الرفراف فوزًا، رغم آناف المحن. دمت للوحدة رمزًا. دمت ما دام الزمن، هزنا للمجد هزًا، والمعالي يا وطن، لونك الأخضر مجد، لونك الأبهى مضاء، لونك الأسود لحد، للأعادي وشقاء، والنجوم الحمر وَقْدٌ، من دماء الشهداء، نحن حراس وجند، لك فاخفق يا علم، رايةَ السوري سلامًا، أنت مجد وأمل”.
وأخيرًا، وليس آخرًا، هذا هو صوت المجاهد الشيخ صالح العلي، يملأ ثمانيةً وسبعينَ سنة بين يومنا هذا ويوم الجلاء عام 1946، إذ يخاطبنا وعيناه ترمقان علم الجلاء والاستقلال فيقول: “حيّوا معي هذا العلم الحبيب، واهتفوا باسم سورية الحبيبة”.
ضفة ثالثة
—————————————
“سوريا الحرة” اقتصادياً/ إياد الجعفري
الأحد 2024/12/15
مبشّرة للغاية، تلك المؤشرات الأولية بخصوص النهج الاقتصادي للحكومة السورية المؤقتة في دمشق، والتي باتت تسيطر على نحو 70% من الأراضي السورية. وإن كان من المبكر للغاية، الذهاب بهذا التفاؤل إلى أقصاه، إلا أنه انعكس بصورة دراماتيكية على سعر صرف الليرة، التي سجّلت ارتفاعاً قياسياً غير معتاد منذ سنوات.
ذلك التفاؤل الحذر لدى المتخصصين، تملّص من قيود عدم اليقين والخوف من اليوم التالي، لدى شريحة واسعة من السوريين، في الداخل. الأمر الذي انعكس في حراك ملفت بالأسواق. وبخلاف ما بات كالمسلمات التي لا ارتداد لها، في حياة السوريين البائسة، في العشرية الأخيرة، انخفضت أسعار السلع الأساسية، بصورة ملحوظة خلال الأيام الثلاثة الفائتة. وكان يمكن تسجّيل ما يؤكد ذلك في شهادات مصادر محلية، في أكثر من منطقة في البلاد، خصوصاً في دمشق وريفها.
ولا يرجع ذلك فقط إلى التأثير المعنوي لسقوط نظام الأسد، الذي انعكس بصورة فرحةً عارمة لدى غالبية السوريين، بل يرجع أساساً إلى الملامح الأولية للنهج الاقتصادي للحكومة الممسكة بزمام السيطرة في معظم الجغرافيا السورية، اليوم. وفي اجتماع عقده المسؤولون عن الملف الاقتصادي بتلك الحكومة، مع ممثِلي التجّار في سوريا، قبل أيام، كانت الرسائل مطمئنة للغاية.
ومن أبرز ما رشح عن هذا الاجتماع، أن الحكومة الجديدة ألغت القيود على أسعار البيع للمستهلك، والتي كانت حكومات النظام السابقة، تفرضها عبر ما كان يُعرف بـ”التموين”. وهي المؤسسة الاقتصادية-الأمنية التي أرهقت تجار سوريا على مدار عقود من حكم آل الأسد، عبر الرشاوى والفساد، من دون أن تحقق الغاية المُعلنة من نشاطها، وهي إجبار التجار على خفض الأسعار. إذ كانت وسيلة للابتزاز. وكان التجار يضيفون ما يدفعونه لدوريات التموين، على تكاليف البيع النهائية للمستهلك. أما الوجه الآخر المُظلم لعمليات “ضبط الأسعار” التي كان النظام السابق يدعي القيام بها، فهي قوائم الأسعار الرسمية، التي كانت الركيزة القانونية لابتزاز التجار. والتي كان التجار يشتكون من كونها تخالف واقع التكاليف، وتضطرهم لمخالفتها، كي يتمكنوا من الاستمرار في العمل.
هذه الدوامة انتهت، حسب ما رشح عن اجتماع مسؤولي الاقتصاد بالحكومة الجديدة مع التجار. إذ بات البيع من دون تسعير وفق سعر السوق التنافسي، “مع احترام الأخلاق والرحمة للمستهلك”. ولو التزمت الحكومة الجديدة بهذا البند من تفاهماتها مع التجار، إلى جانب البند التالي، وهو إلغاء الاحتكار والعمل بشفافية مع مرونة كبيرة للعمل التجاري والصناعي، فهذا يعني أن مجتمع الأعمال السوري سيكون مقبلاً على انتعاش نوعي، افتقده لعقود.
وفي ترجمة تنفيذية للبند الأخير، ألغت الحكومة السورية الجديدة منصة تمويل المستوردات سيئة الصيت، والتي كان النظام يعقّد من خلالها عملية الاستيراد، ويحصرها بفئات محددة من رجال الأعمال المقرّبين منه. والتي تسببت بفقدان الكثير من السلع في الأسواق، وارتفاع أسعارها، وباحتكار دائرة ضيقة من الأسماء لمعظم السوق، لصالح عائلة الرئيس المخلوع.
وفي تصريحات أدلى بها رئيس اتحاد غرف التجارة السورية ورئيس غرفة تجارة دمشق، باسل حموي، لوكالة “رويترز”، قال إن الحكومة الجديدة أبلغت التجار بأنها ستتبنى نموذج السوق الحرة القائم على المنافسة، وأنها ستعمل على دمج البلاد في الاقتصاد العالمي. وتمظهرت أولى ترجمات هذا التصريح، في تداول علني غير مقيّد للعملات الأجنبية، في أسواق دمشق. حتى على صعيد البيع والشراء. حتى أن بعض المحلات بدأت تبيع بالفعل، بالعملات الثلاث المتاحة للتداول اليوم، وهي الدولار والليرة التركية والليرة السورية. وحتى مع تعميم مصرف سورية المركزي، الذي بات خاضعاً للحكومة الجديدة، بأن الليرة السورية هي العملة المعتمدة للتداول، تعاملت الأسواق بأريحية غير مسبوقة، متحررة من المخاوف الأمنية التي لطالما ارتبطت بتداول الدولار سرّاً، والتسعير الخفي بموجب أسعار صرفه، لا بموجب نشرات الأسعار الرسمية للسلع.
تلك الدولرة السرّية، التي كانت قائمة بحكم الأمر الواقع، على مدار سنوات، ظهرت للعلن. لكن، وللمفارقة، لم ينعكس ذلك سلباً على سعر صرف الليرة السورية، بل على العكس. وحدث ما توقعه عدد من الاقتصاديين السوريين، لسنوات مضت، ممن كانوا يناشدون سلطات النظام برفع القيود عن التعامل مع الدولار. إذ أتاح ظهور الدولار للعلن، ورفع القيود عن تداوله، عرضاً أكبر له، مما أدى إلى خفض سعر صرفه. وذلك حتى قبل أن يصدر قرار رسمي بإلغاء تجريم التعامل بالدولار، الصادر عن الرئيس المخلوع.
وفي هذه اللحظات، تعيش “سوريا الجديدة” مبدأ الرأسمالية الأولي الشهير: “دعه يعمل، دعه يمر”. مبدأ لو التُزم به، مع مكافحة الاحتكار، سترجع سوريا تلك التي كانت في خمسينات القرن الماضي، واحدة من الاقتصادات الصاعدة بقوة في الشرق الأوسط، قبل أن تنتكس إلى عهود تدخل الدولة الكارثي في الاقتصاد. تدخّل صارم ومُختَل، حُكِم بالآيدلوجية شكلاً، وبطغمة طامعة فاسدة، مضموناً، وصولاً إلى قاع السنوات الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع، التي قارب فيها السوريون حافة المجاعة.
وفيما يرفض كثير من السوريين اليوم، الخوض في المخاوف من اليوم التالي، ويصرّون على الفرح والتفاؤل، يبدو قلق آخرين مبرراً. فسوريا المستقبل، تواجهها تحديات عدة. منها، مدى التزام سلطة الأمر الواقع القائمة اليوم في دمشق، بتعهداتها السياسية والاقتصادية. بصورة خاصة، مكافحة الاحتكار. لكن يبقى أن فسحة الأمل لدى السوريين، تزداد اتساعاً. والرهانات على مستقبل أفضل، تصبح أكبر.
المدن
—————————————
الدكتاتور المهان.. صورة الملك العاري/ رائد وحش
بينما اعتدنا رؤية الطغاة ينتهون على حبال المشانق أو مقتولين على أيدي خصومهم، جاءت نهاية الدكتاتور السوري بالوراثة، بشار الأسد، لتكون مفصلية في تاريخ الطغيان. فهذا الطاغية الذي أصر دومًا على تقديم نفسه كقائدٍ مهاب ومقاوم جسور، انتهى هاربًا بعد أن غدرَ بأقرب المقربين إليه، لكنه دون أن يدري ترك وراءه صوره بالملابس الداخلية لتحلّ محلّ كلّ الصور التي فرضها على المباني والشوارع، وكأن البلاد مجرد ألبومات شخصية!
إذن، لا نزعته السفسطائية، ولا ضحكاته البلهاء، ولا حتى مكانته الراسخة كـ”رئيس عصابة” تهريب كبتاغون، ستنافس ألبومات صوره العارية التي تشير إلى “فيتش” يستحق التحليل من أهل الاختصاص. وبذلك، عاد بشار الأسد مجرد ملك عارٍ، في أجمل تجسيد حرفيّ للحكاية الشعبية عن الملك الذي خدعه خياطه بتصميم ملابس لامرئية، ليُظهره أمام الشعب مكشوفًا ومجردًا من كل حلله وعباءاته الفاخرة، وعندما رأوه صاحوا: “الملك عارٍ”.
مع انتشار صور الدكتاتور العاري، أضاف السوريون إلى قائمة نهايات الطغاة درسًا جديدًا: الإذلال الجماعي. ونفّست هذه اللقطات التي تظهر الطاغية تافهًا ورقيعًا الكثير من ألم وغضب ضحاياه الذين عاشوا تحت الرعب والتشرد والجوع. أعادت هذه الصور نوعًا من التوازن بين الظالم والمظلوم، بين من صنع السجون ومن فقدوا أعزّ أحبابهم بين جدرانها العفنة، وبين من بنى قصورًا ومنازل فارهة ومن شُرّدوا من منازلهم البسيطة، وبين من بنى لنفسه أساطيل من السيارات ومستودعات من الطعام ومن حُرموا من أبسط مقومات الحياة.
تُذكّرنا هذه اللحظات بعقوبات الإذلال الكبرى التي عرفتها عصور الانتقام من الطغاة والجناة، بدءًا من تعريتهم ووضعهم على دواب بالمقلوب، لتسير بهم بين الجمهور حتى يُنكل بهم بالشتم والبصاق. لكن جمالية الإذلال السوري أنه اتخذ طابعًا رمزيًا تجاه دكتاتور سخيف، هرب من المواجهة، تاركًا وراءه حتى أقرب المقربين منه.
لم تكن صور الدكتاتور العاري لحظات إذلال لشخصه وحسب، بل للزيف الذي حاول نظامه تكريسه وإقناع العالم والسوريين به لعقود طويلة. أظهرت هذه الصور أن كل الشعارات الكبرى، من المقاومة والممانعة والسيادة، من “الفاعل الإقليمي” و”خالق التوازن مع العدو”، لم تكن سوى عباءات وهمية تساقطت سريعًا وكشفت عن جسد مهزول مثير للسخرية.
كما أظهرت الصور أن شخصية هذا الدكتاتور ليست إلا نتاج مزيجٍ غريب من النرجسية المرضية والبارانويا. فهو شخص غارق في أوهام القوة والعظمة والانتصار، مع أنه عاجز تمامًا، وهذا ما انعكس على جوهر حكمه، فكان ساديًا في الداخل وغدّارًا في الخارج.
ربما عاش المخلوع في عالم خاص، يعالج فيه الكبتاغون مختلف المشاكل، بدءًا من الشخصي إلى الاقتصادي، وحتى السيطرة على العالم.
صور كهذه تُنهي مرحلة بأكملها، ولا تترك أي مجال للألاعيب المستقبلية التي ربما يقوم بها أعوانه لقلب الحقائق أو تصويره كبطل تعرّض للخيانة. على العكس، ميزة هذه الصور أنها تقضي على أي إمكانية للحديث عن “شخصية قيادية”، أو تحريك التعاطف معه والتحسر عليه، لكونها تكشف بصراحة مطلقة أن من حكم سوريا لربع قرن لم يكن سوى شخص مهووس، غارق في أوهامه ومتعه الشخصية.
انتهى الدكتاتور عاريًا، مُجرّدًا من أي قيمة أو معنى، وغدت صوره التي التقطها في أجمل أيامه رمزًا لمرحلة من الانهيار لا يمكن طمسها.
لا شيء يقال بعد، فالدكتاتور السادي والغدّار انتهى مثل شحنة كبتاغون مُهرّبة على عجل.
الترا صوت
———————-
الوضع القانوني للاجئين السوريين في أوروبا بعد سقوط الأسد… ما الذي تغيّر؟
الأحد 15 ديسمبر 2024
يبدو أن الدول المضيفة للاجئين السوريين، خاصة تركيا وجاراتها في القارة الأوروبية، كانت على أهبة الاستعداد لاستثمار اللحظة لتمرير قرارات كان يصعب اتخاذها قبل سقوط الأسد.
في تركيا، سمحت السلطات بمضاعفة عدد المسافرين إلى سوريا، عبر فتح معبري “باب السلامة” و”جرابلس” على مدار الساعة، مانحة العائدين إلى سوريا تصريحاً لاصطحاب ممتلكاتهم وأثاثهم.
أما الدول الأوروبية، المثقلة بالتبعات الاقتصادية للحرب الروسية – الأوكرانية، والمهمومة دائماً بملف المهاجرين، فقد استثمرت لحظة النشوة السورية لتعليق طلبات تقدّم بها لاجئون سوريون للإقامة على أراضيها. وشملت قائمة الدول التي سارعت إلى اتخاذ هذا القرار: ألمانيا، والنمسا، والسويد، والنرويج، وفنلندا، وفرنسا، واليونان، وإيطاليا، والدنمارك، وبريطانيا، وسويسرا.
السؤال اليوم، هو ما الذي تغير في الوضع القانوني للاجئ السوري في أوروبا اليوم؟ وهل كابوس “الإعادة القسرية” وارد في هذه المرحلة أو المراحل المقبلة؟ وهل يختلف وضع طالب اللجوء عن الحاصل عليه؟ رصيف22 يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة في هذا التقرير.
حدث من قبل مع اللاجئين الأفغان
حاولت الدول الأوروبية التي أوقفت طلبات اللجوء السورية على أراضيها استخدام مصطلحات فضفاضة صاغها دبلوماسيوها المهذبون، مقدّمين تبريرات أقرب إلى قراءة نشرة جوية منها إلى تقييم وضع سياسي. وصفوا القرار بأنه ضرورة لانتظار أن “تنجلي ضبابية المشهد السوري” أو لعدم وجود “رؤية واضحة للواقع على الأرض”.
كان الاستثناء هو ما أوضحته وكالة الهجرة السويدية في بيانها بشأن تعليق طلبات اللجوء السورية، إذ قالت إن “هذا القرار مشابه للإجراء الذي تم اعتماده عند عودة حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان عام 2021”. بهذا التصريح، كشفت الوكالة عن الحقيقة التي تقف وراء القرار، وهي النظرة إلى محمد الجولاني وتصنيفه في الإطار الأفغاني. ولا يهم إن غيّر الجولاني اسمه إلى “أحمد الشرع” أو شذّب لحيته الطويلة.
كابوس العودة القسرية
في إجابته عن سؤال: هل تستطيع الدول المضيفة للاجئين السوريين إجبارهم على العودة القسرية؟ أوضح فادي القاضي، المتحدث السابق باسم منظمة هيومن رايتس ووتش في الشرق الأوسط: “الإجابة المباشرة والسريعة عن هذا السؤال هي: لا. وذلك بموجب ما يُعرف بـ’عدم جواز الإعادة القسرية’، الذي ينص على عدم جواز إعادة لاجئ أو طالب لجوء إلى المكان الذي فرّ منه خوفاً على سلامته وأمنه وصحته، أو بسبب ديمومة المخاطر التي دفعته للفرار والتي لا تزال قائمة حتى اللحظة. إزالة النظام السوري لا تعني بالضرورة زوال الخطر في سوريا”.
ويشرح القاضي لرصيف22 أن سقوط النظام السوري قد يكون البداية لإعادة ترتيب الأوضاع في سوريا على نحو يشجع السوريين أنفسهم إلى العودة، فالاستقرار وضمان زوال الخطر والحفاظ على السلامة الشخصية، هي المفتاح الحقيقي لإعادة اللاجئين. لافتاً إلى أن بعض السوريين عادوا طوعاً خلال السنوات الماضية من دول الشتات إلى سوريا، خاصة الأردن، متوقعاً أن تشهد سوريا عودة طوعية -وهي بدأت بالفعل بعودة لاجئين سوريين من تركيا- لكن لا يجوز اعتماد هذه الحالة كمرجعية في اتخاذ قرارات تفضي لإجبار السوريين للعودة في الوقت الراهن، فالقانون الدولي والإنساني واضح في هذه المسألة كل الوضوح.
“كنا لاجئين وأصبحنا مغتربين”
“مبروك، سقط الأسد… لم أعد لاجئة”. بهذه الجملة احتفلت خولة أبو سعدة، الأخصائية التربوية المقيمة في فرنسا بصفتها لاجئة سورية، بسقوط نظام بشار الأسد. تقول: “كان شعوراً جميلاً جداً. أول ما سمعت خبر سقوط النظام، أول جملة رددتها لنفسي كانت: أنا لم أعد لاجئة، صار عندي بلد. وصرت أرددها لكل أصدقائي وصديقاتي هنا في ليون، من العرب والفرنسيين”.
وتكمل أبو سعدة لرصيف22: “حتى لو قررت في أعماقي، البقاء هنا في فرنسا، ولم أرغب في العودة إلى سوريا إلا في إطار الزيارات، لكني استعدت بلدي. أنا اليوم في خانة المغتربين، ولست لاجئة. هذا الشعور أعاد لي ثقتي بنفسي؛ فإذا تجاوز أحدهم حدوده معي، فلدي وطن أعود إليه متى شئت. إنه شعور يشبه العودة إلى دفء المنزل، إلى العائلة، إلى الأب. شيء يشبه أن يكون لدي مكان بديل وخطة بديلة. بلد أعود إليه إذا ضقت بالمكان، مثل حائط أسند ظهري إليه… هذا ما أحسسته بالفعل”.
وتصف ألمى مصطفى عنتابلي، صحافية وإعلامية مقيمة بين ليون وباريس، مشاعرها لرصيف22 فور سماعها نبأ سقوط النظام السوري وفرار رئيسه بشار الأسد: “حتى الآن لم أستوعب ما حدث في سوريا. ساقاي لا تزالان ترتجفان، ولم أعد بعد إلى بيتي في ليون! خرجت منه إلى باريس والأسد لا يزال رئيساً، وها أنا عائدة إلى ليون بعد أن أصبح الأسد لاجئاً”.
منبر الشجعان والشجاعات
أما عتاب اللباد، اللاجئة السورية في ولاية تورنغن الألمانية، فتقول إن مشاعر الخوف لديها غلبت فرحتها بسقوط الأسد، خصوصاً بسبب ديانتها المسيحية، التي تجعلها متوجسة من التيارات الإسلامية التي باتت تمسك بزمام السلطة في البلاد. وتضيف لرصيف22 بأن قرار عودتها مرهون بما ستكشفه نوايا هذه الجماعات، فهي لن تعود إلى بلد تُعامل فيه كأقلية منقوصة المواطنة والكرامة، على حد تعبيرها.
“رِجل هون… ورجل هنيك”
وعند سؤال اللباد عن رأيها في قرارات بعض دول الاتحاد الأوروبي، بما فيها ألمانيا حيث تقيم، بشأن نيتهم تجميد طلبات لجوء السوريين والسوريات على أراضيها، تجيب بأنها الآن على “برّ الأمان”، إذ تمتلك إقامة لاجئة سارية المفعول لمدة ثلاث سنوات. وتوضح أنها تسعى لتجنب سيناريو الترحيل مستقبلاً من خلال البحث عن عمل يخرجها من تصنيف اللجوء السياسي أو الإنساني، الذي قد يكون عرضةً للمراجعة في حالة اللاجئين السوريين.
بدورها، تشير عنتابلي إلى أن توقيت إصدار قرار التجميد بالتزامن مع سقوط الطاغية كان سيئاً للغاية، ويحمل دلالات سلبية على الصعيدين السياسي والإنساني. وتوضح أن اللاجئين في أوروبا قد تعطّلت حياتهم بسبب القرار، فهؤلاء -الذين يُقدّر عددهم بالملايين- باتوا اليوم غير قادرين على العمل، أو تلقي العلاج، أو حتى استئجار شقق للسكن. تقول: “اللحظة السورية المتمثلة بسقوط النظام كانت فرصة قُدمت على طبق من ذهب لدول مثل فرنسا، التي تتحيّن الفرصة للتخلص من عبء اللاجئين وتبعاته الاقتصادية”. أما من الناحية القانونية، فترى أن هناك صعوبة كبيرة في إجبار اللاجئين السوريين على العودة القسرية.
وتوضح: “بالنسبة للاجئين القانونيين، ليس هناك إمكانية لإعادتهم قسراً، إذ يتطلب ذلك وفقاً للقانون دراسة كل حالة على حدة. ولا أعتقد أن فرنسا لديها ما يكفي من الموارد البشرية المتخصصة للقيام بهذا العمل في وقت قياسي. إلى جانب ذلك، فإن التنفيذ يحتاج إلى جهد إداري كبير، يتضمن إعادة إجراء المقابلات مع المحافظات ووزارة الداخلية، وهو أمر لا يبدو أن الفرنسيين لديهم القدرة الوظيفية لتحقيقه حالياً”.
ولكن العنتابلي تشير إلى أن فرنسا قد تضغط على اللاجئين حتى يقرروا بأنفسهم العودة طوعاً إلى بلادهم، مشيرة إلى أنها خلال إقامتها في فرنسا قابلت لاجئين ولاجئات ضاقوا ذرعاً بالبيروقراطية الفرنسية وبالشروط التعجيزية التي تُطلب أحياناً من اللاجئين، والتي تدفعهم إلى اتخاذ قرار العودة إلى بلدانهم.
وتختم العنتابلي: “الوضع ملتبس وضبابي في المرحلة المقبلة في فرنسا، فحتى الفرنسيين أنفسهم لا يعرفون ماذا ينتظرهم بسبب فوضى المشهد السياسي، فما بالك باللاجئ السوري؟”.
من جهتها تعلّق أبوسعدة على قرار تجميد طلبات اللجوء في فرنسا: “يا الله، فعلاً نحن تعترنا كثيراً، يعني لو هالنظام سقط بـ2015، ما كان هيك صار. كان وقتها نص السوريين أصلاً مش طالعين، أو اللي طلعوا كانوا يا دوب طالعين من فترة بسيطة. يعني، صراحة، نحن بطبعنا كسوريين ما منحب نسافر ولا نتغرّب”.
مناورات قانونية في المرحلة المقبلة
يقول لرصيف22 محمد شمّا، الصحافي المتخصص بحقوق الإنسان ومدير مكتب “المعهد الدنماركي لمناهضة التعذيب” في الأردن، إنه رغم إعلان الاتحاد الأوروبي في بيان صريح أنه لن يجبر السوريين المقيمين في بلدانهم على العودة القسرية إلى بلادهم نظراً لعدم استقرارها، إلا أن مجموعة من الدول الأوروبية أعلنت في الوقت نفسه تعليق طلبات اللجوء المقدمة من اللاجئين السوريين.
ويضيف :”المعادلة جاءت على النحو التالي: لن نضغط على اللاجئين السوريين المقيمين على الأراضي الأوروبية للعودة إلى بلادهم، لكننا سنوقف طلبات لجوئهم.” مشيراً إلى أن الخطوة التي أعلنتها تركيا بتوسيع مقدرة العبور من أراضيها إلى سوريا، من 3 آلاف سوري إلى 20 ألفاً يومياً، قد تدفع دول الاتحاد الأوروبي إلى تبني سياسات متباينة في تعاملها مع اللاجئين السوريين على أراضيها.
ويلفت شمّا إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد مناورات قانونية بين المنظمات الإنسانية العاملة في أوروبا والمنظومة الأوروبية الميّالة إلى إيجاد حلول لمشكلة الهجرة غير الشرعية. ويقول: “العودة إلى سوريا في هذا التوقيت أمر في غاية الصعوبة؛ فالدولة منهارة، وكثير من السوريين فقدوا منازلهم، وبالتالي ليس لديهم مكان أو مأوى إذا أُجبروا على العودة”.
ويختم: “نتمنى ألا يحدث تفلّت أمني في سوريا، لكن هذا السيناريو وارد. وفي حال وقوعه، ستلجأ الدول إلى قطع أو تقليص دعمها للمنظمات الإنسانية، مما سيؤثر على الخدمات المقدمة للاجئين ويقلص ميزانية دعمهم في الدول المضيفة… الأمر الذي قد يؤدي في النهاية إلى إجبارهم على العودة القسرية”.
لوين نرجع… ولمين؟
تقول أبوسعدة إنه فور إعلان فرنسا قرارها بتجميد طلبات اللاجئين السوريين، انتشرت موجة من القلق والخوف بين اللاجئين، وقد رصدت هذه المشاعر في غرف دردشة تضم لاجئين سوريين مقيمين في فرنسا على منصات التواصل الاجتماعي.
فقد بدأ اللاجئون يناقشون قانونية وجودهم، فمثلاً هناك قانون ينص على أن من تقل مدة إقامته في فرنسا عن 3 سنوات يمكن للدولة عدم تمديد إقامته، وبالتالي إعادته.
أما من تتجاوز مدة إقامته 5 سنوات، فيختلف وضعه، إذ يمكن تمديد إقامته أو تغيير مسماها، بل ربما منحه رخصة عمل إذا وجد فرصة عمل، أو أصبح في أمان من الترحيل في حال الزواج بشخص يحمل الجنسية الفرنسية.
تشير خولة من وحي انطباعاتها المستقاة من مجموعات التواصل الخاصة باللاجئين، إلى أن اللاجئين السوريين المحافظين والمتدينين الذين يواجهون صعوبة في التأقلم مع الحياة في أوروبا، ويعانون من العنصرية والتمييز، لا يفكرون في العودة إلى سوريا إلا في إطار زيارة المغترب.
والسبب، بحسبها، يعود إلى أن الدولة السورية لا تقدم ما توفره أوروبا لهم من ضمانات الأمان مثل التأمين الصحي والاجتماعي، والتعليم المجاني بجودته المعترف بها عالمياً، إضافة إلى فرص العمل والأجور المناسبة.
وتختم: “يا جماعة… يا عالم… نحن استثمرنا في اللجوء. معظم السوريين خسروا كل شيء بالفعل، باعوا كل شيء ليتمكنوا من دفع تكلفة قارب متهالك عبر البحر المتوسط للوصول إلى ضفاف أوروبا. أنفقوا جهداً في تعلم اللغة والاندماج. عندما تطلبون من اللاجئين العودة… إلى ماذا يعودون؟”
القول الفصل
في إطار التقييم القانوني لوضع اللاجئين السوريين وفقاً لأدبيات القانون الدولي، يؤكد الدكتور أيمن هلسة، أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان، أن التعريف القانوني- حتى اللحظة الراهنة- المشمول به السوريون في الدول المضيفة هو صفة “لاجئ”.
ويقول لرصيف22: “متى يتم نفي هذه الصفة عنهم؟ يتم ذلك عندما نتأكد أن الأوضاع في سوريا تحسّنت وأصبحت آمنة بما يشجع اللاجئين على العودة طواعية، بمعنى ألا يتم إجبارهم على العودة”.
ويشير هلسة إلى دور المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة: “القول الفصل يعود إلى المفوضية، فهي الجهة المعنية بإصدار الإرشادات اللازمة للتعامل مع ملف اللاجئين السوريين، وتحديد متى تكون العودة آمنة أو غير آمنة، لكن حتى اللحظة لم يصدر عنها أي شيء بهذا الخصوص”.
أما بالنسبة للساحة الأوروبية والخوف من استغلال أحزاب اليمين المتطرف سقوط النظام السوري كورقة ضغط على وجود اللاجئين السوريين في دولهم، أوضح هلسة: “الأمر شديد الصعوبة في أوروبا، فهناك عقبات قانونية تقف في وجه أحزاب اليمين. مسألة اللاجئين محكومة بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تمنع إعادة أي شخص إلى وطنه إذا كان هناك احتمال تعرضه للتعذيب لدى عودته، حتى ولو لم يكن لاجئاً من الناحية القانونية. فالحماية من التعذيب هي حماية شاملة وغير خاضعة للاستثناءات، وبالتالي تسد الثغرات الواردة في قانون عام 1951 الخاص بالاتفاقية المتعلقة بوضع اللاجئين، الذي يسمح بالإعادة القسرية في الحالات التي يُعتقد أنها قد تهدد الأمن القومي للدولة المضيفة وسلامتها الوطنية”.
وعن خطورة اللجوء إلى هذه الثغرة في المرحلة المقبلة، شدد هلسة على أن القانونيين يعتبرون أن هذه الثغرة عفا عليها الزمن، وتم استبدالها باتفاقية مناهضة التعذيب الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1984.
رصيف 22
———————–
أسبوع من دون الأسد… هنا دمشق/ زينة شهلا
الأحد 15 ديسمبر 2024
أشعر وكأنني أشاهد فيلماً… بل كأنني في عالم موازٍ، ستأتي لحظة وأستيقظ لأعود إلى عالمي ذاك، الذي كنت أظنه أو أعتبره “راسخاً ودائماً”، لكنه لم يكن سوى “صرح من خيال”.
عبارات تدور في رأسي على مدار الساعة، حتّى وأنا أحاول النوم، وهو أمر أعجز عن فعله منذ أسبوع. سقط النظام السوري، وهرب بشار الأسد، وأنا أعيد كل يوم مشاهدة ذلك الفيديو الذي انتشر من دمشق في الخامسة من صباح يوم الأحد، 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، والذي يصيح فيه رجل من فوق أحد الأبنية العالية وسط الظلام ويقول: “الله أكبر. الجبان هرب يا عالم. بشار الكلب. سقط بشار الكلب”، وفي الخلفية، تُسمع زغاريد نساء بينما أنا أشعر بالرجفة.
بين يوم وليلة، تحوّل شكل المدينة والبلد برمّته، بشكل جذري، ربما، غير قابل للعودة.
بعد ساعات من إعلان سقوط النظام ودخول قوات المعارضة المسلّحة إلى دمشق، أخرجتُ رأسي من شباك نافذتي، وسط أصوات إطلاق رصاص شديد لم تتوقّف منذ الرابعة صباحاً. خوف ممزوج بتوق هائل للخروج إلى الشارع، فأنا أعلم أننا نعيش لحظات استثنائية لم أتوقّعها يوماً.
المعارضة المسلحة في دمشق
شعرتُ ببعض الغيرة ممن أسقطوا تمثال الرئيس الراحل حافظ الأسد في ساحة عرنوس وسط المدينة مع ساعات الصباح الباكرة والشمس بالكاد تشرق. ودّدت لو تمكنت من المشاركة في هذه “العملية”. لديّ ثأر شخصي مع هذا التمثال الكبير، ربما لقباحته المفرطة وهو ينظر إلينا كل الوقت وأينما أدرنا وجهنا؟ ربما، وربما لأنني كلما مررت بجانبه، أتذكّر يوم تجمّعنا في الساحة وسوق الصالحية القريب عام 2011، مئات الشبان والشابات، ونحن نرتدي كنزات بيضاء ونمشي دون أن ننطق بأي كلمة، كتعبير عن رغبتنا السلمية في التغيير في بلدنا. تحت التمثال، جلس عشرات عناصر الأمن بوجوهٍ عابسة وهم ينظرون إلينا، ولا يدرون ماذا يمكن أن يفعلوا، فهذه ليست “مظاهرة” ولا أوامر واضحة بخصوصها. النهاية كانت بالطبع تفريقنا واعتقال العشرات.
تحطيم تمثال حافظ الأسد
في الثانية عشرة ظهراً خرجنا، رائحة البارود تملأ الأجواء، وإطلاق رصاص لا يتوقّف. سيارات كبيرة مموّهة بالأتربة الحمراء قادمة من إدلب وحلب، ومسلّحون منتشرون في الشوارع الرئيسية، وحالة من الفوضى تعمّ المدينة: معظم المحال مغلقة، دوائر حكومية ومخافر شرطة مفتوحة وأشخاص يُخرِجون كل ما فيها من أغراض ومحروقات ويأخذونها، بدلات وخوذ عسكرية ملقاة على قارعة الطريق، مفارز أمنية مكسّرة وفارغة من الجنود الذين اعتدنا رؤيتهم بداخلها، علم الثورة وأُغنياتها مثل “جنة جنة” أو “ارفع راسك فوق أنت سوري حر” تنتشر في الشوارع، وسيارات مدنية تجوب الطرقات احتفالاً.
هل هكذا تسقط الأنظمة؟
المشهد الأكثر غرابة بالنسبة لي كان لحظة دخولي منزل بشار الأسد ومكتبهِ، لحظة تجاوز الأبواب دون أي حراسة أو خوف. اعترتني الرجفة وأنا أسير فوق حطام ما تبقّى من أغراض ومقتنيات شخصية وأوراق وقد اختلطت بالمياه الخارجة من أنابيب مكسّرة في كل مكان، وأنا أسمع الشتائم تنهال على “بشار وأسماء”، وصورهما ممزّقة على الأرض والجميع يدوس عليها، ومن حولي مئات الأشخاص القادمين من كل مكان، ليعيشوا لحظةً لم يكن لملايين السوريين أن يتخيّلونها حتّى في أغرب أحلامهم. في كل خطوة كنت أسأل نفسي: “بهذه البساطة؟ إذاً لماذا حدث كل هذا؟ لماذا دفعنا هذه الأثمان الباهظة خلال 14 عاماً؟”. التقطتُ صورةً للذكرى مع نصف وجه أسماء الأسد. كان النصف الآخر مرميّاً في زاوية قريبة.
صور ومتعلقات أسماء الأسد
في الأيام التالية، بدأ سكان المدينة في الخروج من منازلهم لاستطلاع أحوال المدينة، وعادت الحركة تدريجياً: محال ومحطات وقود تفتح، حملات تنظيف للشوارع مع غياب عمّال النظافة، أشخاص مدنيون ينظمون حركة المرور، والمزيد من السيارات التي تجوب الطرقات بشكل احتفالي. احتفالات خاصّة في ساحة الأمويين أكبر ساحات المدينة، مع رمزيتها لكونها تضم مبنى الإذاعة والتلفزيون ومبنى قيادة أركان الجيش.
رصيف 22
——————————
من الثورة إلى الحرب الأهلية… سياق الاحتراب السنّي الشيعي في حلب ومآلاته/ وائل عصام
السبت 14 ديسمبر 2024
على نقطة حدود المصنع بين سوريا ولبنان، يتكدّس العديد من النازحين من قريتي نبل والزهراء الشيعيتين، الذين هجروا منازلهم في ريف حلب الشمالي بعد سيطرة “هيئة تحرير الشام”، آملين بحصولهم على الأمان في لبنان.
قرب مدينة السفيرة بحلب، يقول مقاتل من فصائل المعارضة لعشرات العائلات الشيعية النازحة التي فرت من القريتين “إحنا نستطيع نحطن كلن وندرزن (نطلق النار عليهم) متل ما هنّه سووا فينا. لكن إحنا مانّا مجرمين”.
هذه المشاهد ليست سوى فصل جديد في نزاع أهلي مذهبي بين بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين من جهة والقرى السُنّية المحيطة بهما في ريف حلب الشمالي… فكيف بدأت القصة؟
في صيف عام 2012، سيطرت فصائل المعارضة على مدينة حلب الشرقية بعد الريف الشمالي، وكانت مجموعاتها مكوّنة من مقاتلي الريف الحلبي السُنّي، لكن وسط هذا البحر من القرى المعارضة في الريف الحلبي، كانت هناك جزيرتان عاندتا التيار الهائج في محيطهما، بلدتان شيعيتان هما نبل والزهراء، رفضتا الانضمام إلى الثورة بل أعلنتا الولاء للأسد، وأُطبِق الحصار على البلدتين لنحو 4 سنوات، وتبادل الطرفان الخطف والقصف، وليس صدفةً أن يكون سكان نبل والزهراء من الشيعة، والقرى المعارضة من السُنّة، فالثورة السورية كشفت عن خطوط صدع مذهبية وعرقية في المجتمع السوري.
أقمت في الريف الحلبي الشمالي المجاور لنبل والزهراء نحو عامين، حتى صيف عام 2013، عندما وصلت موجة الخطف المتبادل بين القرى الشيعية والسُنّية ذروتها، حينها كان الخطف يتم على الهوية المذهبية بغض النظر عن انتماء الأفراد لقوى مسلّحة، فالهدف كان الحصول على أوراق تفاوض واستبدال الأسرى والرهائن لدى الطرفين.
“سرفيس الزهراء”
في ظل الحصار الخانق، كانت الطريقة الوحيدة تقريباً لنقل المساعدات العسكرية هي مروحية عسكرية للنظام تهبط بشكل شبه يومي في نبل والزهراء، وتتعرّض لإطلاق النار من مقاتلي القرى المجاورة، فأُطلِق على تلك المروحية تندّراً “سرفيس الزهراء”.
ومع الحصار، ظلّ القصف المكثّف على البلدتين وسيلة للضغط عليهما، وكثيراً ما كان النظام يرد القصف على القرى المجاورة، وأبرزها عندان. كانت بلدة عندان كبرى قرى الريف الشمالي، وانحدر منها الكثير من قادة فصائل المعارضة المسلّحة، ابتداءاً من أحمد الجانودي المنتمي لجبهة النُصرة والذي قاد “هجوم حلب” في صيف 2012، مروراً بقادة فصائل “الجيش الحر” مثل أحمد عفش وعلي بلو وأحمد الزعيم، وكان الأخير ينتمي لـ”لواء التوحيد” بزعامة عبد القادر صالح المعروف بـ”حجي مارع”.
ومن عندان، كان أيضاً نخبة من أبرز ناشطي الثورة في حلب، في مقدّمتهم أبو فراس الحلبي وقريبه صالح ليلى، والأصدقاء مراسل قناة أورينت مؤيد سلوم وياسين صعب (أبو رائد الحلبي) والناشط الصحافي محمد تيسير بلو.
صيف 2012، كان أحمد الرج الزعيم من بلدة عندان السُنّية منشغلاً بنصب الحواجز على الطرق وتفتيش الـ”سرافيس”، وبدا مهتماً باعتقال “شبّيحة” الجارتين نبل والزهراء أكثر من قتال النظام، حيث اعتبرهم “خنجراً بالخاصرة”، على حد وصفه. انضم أحمد للثورة بعد مقتل والده على يد النظام وقد كان زعيماً لبلدة عندان، الرج الزعيم، ومنه أخذ لقبه “الزعيم”.
في إحدى المرّات في نفس العام، نصب “الزعيم” حاجزاً طياراً وأوقف “سرفيساً”، واعتقل جندياً من بلدة الزهراء، أخذوه لغرفة الاعتقال، وأعطوه قازوزة بيبسي، وبدأوا الحديث معه: “لك مو كنا فاتحين لكم الطريق، ونخلي سرفيس نبل وسرفيس الزهراء يمر من غير تفتيش، عشان لا تصير طائفية، وبالأخير رحتوا صفيتوا مع النظام، لك ليش؟”. ثم دخل مقاتل من قرية ماير السُنّية المقابلة للزهراء، وأضاف: “أنت زهراوي ولا؟ مبين زهراوي”.
يعرف أهل “ماير” الزهراوين جيداً، فبين البلدتين نسب وزيجات مشتركة، وعلاقات ممتدة لسنوات، لكن حُمّى الحرب الأهلية دمّرت أواصر المصاهرة والنسب.
طبيعة هذه المجتمعات الريفية المحافظة في ريف حلب الشمالي جعلت التيارات الثورية ميّالة نحو التوجّهات الإسلامية. فأنت مثلاً لا تكاد تجد فتاة غير محجبة في قوى الريف، حتّى وإن خرجت إحداهن على “التقاليد المحافظة” والإجماع الثوري المعارض كالفنانة الشهيرة رغدة -التي تنتمي لعائلة نعناع من بلدة حريتان المجاورة أيضاً لنبل والزهراء- فستكون محل استهجان، ولذلك تعرّض والدها للخطف في حريتان وخرجت رغدة تتحدث في الإعلام عن تأييدها للأسد. وبالطبع كان لنشأة رغدة المبكّرة خارج بيئتها الريفية، دوراً في أن تأخذ موقفاً مغايراً وهوية مغايرة.
نسب وزيجات مشتركة قبل “الطلاق”
ويقول الشيخ عبد المطلب شمس الدين، وهو رجل دين شيعي من بلدة الزهراء، قاد مفاوضات تبادل الرهائن في سنوات الأزمة، إن أهل هذه القرى كانوا أحبّةً وجيراناً، وكان بيننا وبينهم (أي أهل القرى السُنّية) علاقات نسب ومصاهرة، لكن “الضخّ المذهبي وثقافة التكفير” عكّرا صفو هذه العلاقة.
ويتابع شمس الدين: “حتّى الآن، هناك من لا يعتبرنا مسلمين مثلهم”، مدافعاً عن موقف شيعة نبل والزهراء بالاصطفاف مع “الدولة السورية” باعتباره منسجماً مع الانتماء إلى صفوف “محور المقاومة”. ويضيف: “عندما كنّا نجتمع مع وجهاء القرى المجاورة محاولين إيقاف حالات الخطف وإدخال المساعدات الغذائية كان يُثار النقاش حول موقفنا المؤيّد للنظام، فكنت أسألهم: لماذا تطلقون علينا شبّيحة؟ أنا أفضّل أن أكون شبّيحاً لبلدي ورئيسي من أن أكون شبّيحاً للقطري والتركي”.
يذكر أحمد الزعيم من عندان، أنه التقى بالشيخ شمس الدين في إحدى المرّات خلال الأحداث، ويقول إنه كان يحذّره من مواجهة بشار الأسد “لأنه سيدمّر البلاد إن اهتز حكمه”.
ما بين العلن والسر
ولكن، وكما هي العادة في العلاقات بين الطوائف والمجتمعات المنقسمة، ما يقال في العلن يختلف عمّا يقال في السر. فالشيخ شمس الدين يقول إنه في عام 2013 زاره الشيخ يوسف الجانودي، أحد شيوخ عندان، في الزهراء، وصلّى ورفاقه خلف الشيخ السُنّي إماماً، فكان أن ردّ له الزيارة في عندان، وطلب وجهاء عندان والريف من الشيخ شمس الدين الشيعي أن يصلّي بهم إماماً. لكن عندما سألت الشيخ الجانودي عن تلك الحادثة، قال لي إنها كانت “مجاملة”، مردفاً “إحنا ما منشوفهم مسلمين أصلاً”. ذهب الشيخ الجانودي أبعد بالقول: “أخي، العلاقة بين الطرفين يمكن أن تعود جيدة، فقط إذا انتصرنا نحن، أما إذا انتصروا هم فسوف يذبحوننا”.
لم يكن الشيخ الجانودي سلفيّاً جهاديّاً، لكن أجواء التوتر المذهبي بعد الثورة، دفعت الكثيرين من أبناء الجيل الجديد في الثورة للذهاب لأقصى اليمين، فابن الشيخ الجانودي هو أحمد الجانودي، مؤسّس الخلايا الأولى لجبهة النصرة في ريف حلب الشمالي، وهو الذي قاد اقتحام حلب في صيف 2012، وقد قُتِل بعدها بشهرين في اشتباك مع قوات النظام.
معتقلات الجيران
في أحد أيام 2013، أخذني أحمد الزعيم إلى معتقلات فصائل المعارضة في الريف الشمالي حيث التقينا تاجراً من الزهراء اختُطِف مع ابنه وأصدقائه، كانوا بحالة جيدة، لكنهم مستاؤون، “لماذا نحن هنا، لسنا مسلّحين ولا علاقة لنا بالسياسة، نحن هنا فقط لأننا شيعة، حتّى يبادلونا بمحتجزين من قراهم”، وهو أمر لا ينكره أحمد الزعيم.
طلب التاجر الزهراوي سيجارة قبل مغادرتنا، فقال له الزعيم: “رغم أنها حرام والسلفية يحرمونها لكن راح نعطيك سيجارة”، فأجابه التاجر: “مكروهة وليست حرام”، حتّى في شأن السيجارة أُثير جدال مذهبي.
لم تكن سجون الفصائل للمخطوفين الشيعة فقط، بل من يتعاون معهم في القرى السُنّية، وخصوصاً من عائلة سُنيّة تُعرف بـ”بيت البج”، انحاز أفرادها للنظام ولم يجدوا مكاناً يأويهم في الريف الحلبي السُنّي سوى قرى الشيعة، في نبل والزهراء.
دخلت إلى سجن آخر مع علي بلو، مسؤول لواء “أحرار سوريا”، والتقيت مع أربعة شبّان من الريف السُنّي، أحدهم من عائلة البج، أقرّ سجّانوه أنه لم يرتكب ذنباً، وأن ذنبه الوحيد أن ابن خالته من “شبّيحة بيت البج”. رأيت شاباً آخر حزيناً قال إنه موجود في السجن ظلماً.
بعد مغادرة السجن، التقيت قائد لواء “أحرار سوريا”، أحمد عفش، الذي كان يجلس في فيلا فخمة معلّق على جدرانها التماثيل واللوحات الثمينة. كانت تلك الفيلات في حي راقي لأغنياء حلب من الأطباء والمقاولين، يُسمّى “قبر الإنكليزي”، نسبةً لضابط إنكليزي دُفن هناك إبّان الحرب العالمية الثانية، كما يتردّد، وقد استولى قادة الفصائل على معظم الفيلات واتخذوها مقرات قيادة لفصائلهم.
حدّثني عفش عن أحد المحتجزين لديه، والذين يتهمهم بـ”التشيّع”. أمسك عفش بقلادة على شكل سيف الإمام علي، وقال لي: “شوف شو لقيناه لابس، سيف علي، هاد متشيّع خالص، راح نُحيله للمحكمة الشرعيّة”.
نزاع الريف والمدينة أيضاً
لم يكن نزاع فصائل الريف فقط مع القرى الشيعية، فلقد صعدت للسطح أيضاً حساسية الريف والمدينة في حلب، ففصائل المعارضة كانت من الريف، واتخذ أهل حلب المدينة موقفاً أكثر تحفّظاً من الانخراط في الثورة في الأشهر الأولى.
“نحن لا مع هول ولا مع هول، إحنا مع الخبزة (لقمة العيش)”، هكذا كانت تصرخ سيدة حلبية تنتظر أمام مخبز وسط حلب المدينة، معبّرةً عن موقف أهل المدن الذي عمّه الحياد، بعبارات مثل “الله يطفّيها بنوره”.
تحت جسر دوار الشعار بحلب، ينصب أحمد الزعيم حاجزاً جديداً، هذا المرة يعود بجندي في صفوف النظام، ويقتاده إلى مكاتب محامين أمام دوار الشعار، حوّلها فصيله إلى مقرّات مؤقتة، وهناك يفرغ مقاتلوا الريف غضبهم بإبن المدينة، “لك أنتو أهل حلب شو قصتكم، لك قناة الدنيا آكله شقفة من عقلكم”.
فك الحصار عن نبل والزهراء
كان الطريق لفك الحصار عن نبل والزهراء طويلاً وعسيراً على قوات النظام، فبعد السيطرة على بلدة خناصر، عملت قوات سهيل الحسن على تطويق حلب الشرقية، فتقدّمت نحو اللواء 80 ثم الشيخ نجّار، إلى أن وصلت سجن حلب المركزي الذي صمدت فيه قوات النظام لسنوات تحت الحصار. وهنا، في منتصف 2014، أي قبل التدخّل الروسي بعامٍ كاملٍ، تمكّن النظام من إنجاز طوق شبه كامل على حلب الشرقية، والوصول إلى أقرب نقطة لنبل والزهراء.
ظلّت المعارك حتى شباط/ فبراير عام 2016 عندما وصل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ليقود عمليات فكّ الحصار، وبالفعل سقط الريف الشمالي بيد النظام وفك الحصار عن نبل والزهراء بعد نحو أربع سنوات، تحديداً 3 سنوات و8 أشهر.
منذ ذلك التاريخ، غادر أحمد الزعيم مدينته عندان مع معظم سكانها وسكان قرى الريف السُنّي المعارض، وتفرّق شملهم بين تركيا وإدلب ومناطق الهيمنة التركية شمال سوريا.
تعرّضت قرى الريف المعارضة للنهب والسلب. اعترف الشيخ عبد المطلب شمس الدين، شيخ الزهراء، بذلك، وقال محذّراً إن عودة سكان الريف لقراهم سيضعنا في “بوز المدفع” بسبب السرقات والنهب الذي حصل في القرى، وإن هناك بوادر نزاع خطير سيحصل مع أهل القرى حال عادوا. وهذا ما سيحصل بعد سنوات قليلة.
بعيداً عن بلدته عندان، وفي عفرين الكردية المحتلّة من تركيا، تولّى أحمد الزعيم قيادة فصيل جديد أسماه “رجال الله”، كان مرتبطاً بتركيا، وكان آخر لقاء لي معه في الريحانية التركية الحدودية عام 2023 عندما تحسّر على قضائه تلك السنوات بعيداً عن بلدته عندان.
وبنهاية تلك الحقبة، كان الكثير من أبطال قصّة تلك المرحلة قد قتلوا أو أصيبوا، علي بلو مسؤول لواء “أحرار سوريا” خُطِف على يد تنظيم داعش عام 2013 ولم يُعثر على جثّته لليوم، مراسل الأورينت مؤيد سلوم خطفه “داعش” أيضاً في نفس العام وظل مصير جثّته غامضاً أيضاً، الناشط الصحافي صالح ليلى قُتِل في انفجار مفخّخة، ياسين رائد الحلبي أُصيب في قصف جوي وتضرّرت يده بشدة، أما الناشط الصحافي العزيز محمد تيسير بلو، فقد قُتِل برصاصة قنّاص عند هضبة عبد ربه مقابل المخابرات الجوية عام 2013، وهو نفسه كان قد روى لي قصة مقتل قنّاص علوي في نفس الموقع الذي قُتِل لاحقاً فيه. كان القنّاص قد تترّس في موقعه ليومين وأنهك مقاتلي الفصائل، وعندما وصلوا له وقتلوه رماهم بقنبلة يدوية، وبعدها دخل محمد تيسير بلو بكاميرته ليصور المشهد، فوجد هاتف القناص، فقلّب في الرسائل الأخيرة، فوجدها مع والدته وهو يخبرها: “عم صيدن متل العصافير”، وهي تسأله في رسالة أخيرة: “طمني يا إمي”.
وبينما محمد بلو يمسك بهاتف القنّاص، فإذا بوالدة القناص تتصلّ بابنها، تردّد محمد في الرد على الاتصال، ثم قرّر أن يرد على الهاتف، فظنّت في البداية أنه ابنها وقالت “طمني يا إمي، صيدتن هالعصافير”، فأجابها محمد: “نحنا العصافير”. كم هي حزينة حروب أبناء البلد الواحد.
العودة
في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، دقّت ساعة العودة. اكتسح الجولاني حلب وريفها قبل أن يُسقط دمشق في 11 يوماً. أرسل لي أحمد الزعيم صورته من بيت والده الرج زعيم عندان، وقد أرسل للشيخ الشيعي رسالة: “هاد قد عدنا يا عبد المطلب”.
رصيف 22
————————
عن جيل جاكييه… والإعلام في “سوريا الأسد”/ وائل الحجار
15 كانون الأول 2024
لندن-“القدس العربي”: في يوم الأربعاء 11 كانون الثاني/يناير سنة 2012، كان رئيس النظام السوري بشار الأسد يظهر، وللمرة الأولى علانية وعلى الملء منذ بدء الثورة السورية ضد حكمه قبل أقل من عام، ليحيّي تظاهرات منظمة أقيمت لهذه المناسبة في ساحة الأمويين في دمشق.
تحدّث، فكرر كلامه عن المؤامرات وضرورة هزيمتها، حسبما يذكره تقرير ندى بكري في صحيفة “نيويورك تايمز” ذلك اليوم.
ولاقاه “المؤيدون” في التظاهرة بهتافات مثل “شبيحة للأبد، لأجل عيونك يا أسد”.
هزّت التظاهرات سوريا منذ أكثر من عام من ذلك التاريخ، وكان المطلب إسقاط النظام، ورمزه الأكبر بشار الأسد، وأبيه، وكان شعار يردّده المتظاهرون يقترح التالي: “حرية للأبد، غصبن عنك يا أسد”.
في اليوم نفسه، وفيما كانت مدينة حمص تعيش منذ أشهر قمعا متزايدًا من جانب قوات النظام و”الشبيحة” ضد المنتفضين والمتظاهرين، ويُقتل بعض هؤلاء ويشيّعون من المساجد، كان حدث آخر يجري في المدينة.
فقد أدى سقوط قذيفة في أحد أحياء حمص إلى مقتل جيل جاكييه الصحافي الفرنسي مراسل “فرانس 2”.
وأعطى مقتل جاكييه فرصة للنظام ليحوّل ما جرى إلى حملة دعاية ضد الثوار في سوريا، وهو ما عاد فأشارت إليه منظمة “مراسلون بلا حدود”.
لكن صحافيين سويسريين، باتريك فاليليان من مجلة “إبدو”، وسيد أحمد حموش من صحيفة “لا ليبرتي”، وكانا أيضًا في حمص، أشارا إلى مسؤولية ما للنظام السوري عن مقتل جاكييه.
فتح الادعاء الفرنسي تحقيقًا بالقضية، إلا أن الحكومة الفرنسية أطلقت تحقيقًا مستقلًا خاصًا بها، وذكرت خلاصات نسبت لوزارة الدفاع الفرنسية في تموز/يوليو من العام نفسه، أن جاكييه قُتل في هجوم نفذه متمردون مناهضون للأسد.
وفي حزيران/يونيو 2013 نشرت كارولين بوارون، أرملة جاكييه، كتابًا بعنوان “اعتداء سريع جدا” (Attentat Express)، بالتعاون مع فاليليان وحموش، يشير إلى دور لاستخبارات النظام السورية في مقتل زوجها.
الإعلام الخارجي
ويقول تقرير لـ”لجنة حماية الصحافيين” أعدته داليا الزين عام 2012 إن جاكييه والصحافي حموش كانا “من بين 15 صحافياً سمحت لهم السلطات السورية بدخول سوريا عبر تأشيرات سفر ساعدت على استصدارها الراهبة آغنس مريم الصليب” وأنها “ساعدت على ترتيب الرحلة الصحافية إلى حمص في 11 كانون الثاني/يناير، ومع ذلك امتنعت عن مرافقتهم قائلة إن غيابها سيساعدهم على التحرك بحرية”.
ويمضي التقرير بالإشارة إلى أن جاكييه أعرب “عن معارضته للتوجه إلى حمص، ورأى أن الرحلة غير آمنة، ولكن الراهبة آغنس حثته على الذهاب، وإلا فإنه سيفقد فرصة تجديد تأشيرة السفر بما يتجاوز الأيام الأربعة الأولى التي حددتها التأشيرة الأولى، حسبما أفاد حموش للجنة حماية الصحافيين وبما يتطابق مع تقارير إخبارية أخرى”.
وبمعزل عن هذين الاتجاهين في توجيه الاتهامات، أثار صحافيون كانوا موجودين في تلك الرحلة القاتلة، علنًا، أو في مراسلاتهم مع جهات التحقيق، وكذلك مع مؤسسات إعلامية أجنبية كان لديها ممثلوها في “رحلة الموت”، تساؤلات كبيرة بشأن الإدارة الإعلامية من جانب النظام لحربه على شعبه السوري.
ومن بين ما ساقوه، أن المشرفين على هذه “الرحلة” وسبق أن أشير إلى بعضهم، أشرفوا على فصل وفد الصحافيين المختارين الى فريقين، أحدهم كان فيه جاكييه، والآخر صحافيون آخرون.
وزاد هؤلاء، مطالبين صحافيين كانوا موجودين وقت مقتل جاكييه بتقديم شهادات صحيحة عما جرى لمساعدة التحقيق.
واتُهمت الأم آغنس، بأنها ساهمت في محاولات النظام السوري التسويق لنفسه للإعلام الخارجي بصفته ما يعادل حارس بوابة القيم الغربية في مواجهة “الظلاميين الإسلاميين”.
وقد بذلت جهدًا كبيرًا في الغرب، وفي أوساط الإعلاميين الغربيين والعاملين في مؤسسات إعلامية للغرب، ووصل بها الأمر إلى السفر لإسرائيل التي قصدتها في زيارة دينية، وأدلت بحديث صحافي دافعت فيه عن نظام الأسد، ونفت ارتكابه لمجرزة الكيميائي في الغوطة (حسب صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية 1 أيلول/سبتمبر 2013).
وخرجت الأم آغنس عبر الإعلام أخيرًا، نهار الجمعة 13 كانون الأول/ديسمبر عام 2024، عبر بيان لجمعية “أم الإنسان” فنّدت فيه اتهامات بحقها سيقت بعد سقوط النظام، وذكّرت بدور لها في زيارة السجون ومناصرة قضايا المعتقلين والمختطفين في سوريا، وقالت أيضا إنها نشرت مقالا عام 2011 تنتقد فيه الأسد بشكل مباشر.
الخبراء
وعدا عن الدائرة الدينية، التي تُمكن قراءة هواجسها في ظل تاريخ من العلاقات المعقدّة في سوريا، وإخضاع النظام للمؤسسات الدينية الإسلامية، والمسيحية، كانت دوائر أخرى تسوّق الرواية النظامية.
وكان أشخاص يقدَّمون “أكاديميين” و”محللين” و”خبراء”، وعدد آخر كبير من التسميات “المحايدة”، يخرجون لإدارة معركة النظام الإعلامية، وتفنيد كل مجزرة، أو انتهاك، ونفيها أو تحميل الثوار مسؤوليتها.
ومن بين هؤلاء، كان هناك عمداء وضباط احتياط ومتقاعدون في جيش النظام، أو حتى بعض النواب.
ويقول مدير في قناة إعلامية أجنبية مرموقة: “أولئك الذين نستضيفهم من دمشق عبر الأقمار الاصطناعية: الكتاب، الصحافيون وأساتذة الجامعات، يعبرون بقوة عن موقف السلطات السورية ورؤيتها، ولا ينبغي أن نلمح إلى أنهم محايدون”.
خلال سنوات الثورة والحرب في سوريا، كان ضيوف النظام الذين يطلّون عبر الأثير ليخاطبوا الغرب والمؤسسات الغربية بشكل عام، فضلًا عن بقية شرائح الجمهور، لا يطلّون عبر شاشات الرئيس فحسب، بل من يستفيدون من القيود المفروضة على خدمة “الستالايت ديسك” الذي لا حول له ولا قوة في إجبار المتعاقد الخاضع للمخابرات في دمشق، على السماح لشخصيات معارضة بالظهور صوتا وصورة.
كان المعارضون يظهرون غالبًا عبر الهاتف، أو “سكايب”، وفي معظم الأحيان، ومع اتساع النزاع المسلح، و”الأسلمة”، يطلّون من “مناطق المعارضة” وليس من دمشق.
ويصبح السؤال مشروعًا، أقلّه بما يتعلق بـ “الأكاديميين” و”المحللين” وأساتذة الجامعات”، و… هل كانوا يتقاضون أجورهم مقابل الظهور الإعلامي بوصفهم خبراء، وليس نشطاء سياسيين أو ناطقين غير مباشرين باسم النظام؟
ومع اتساع التسلّح، حاز هؤلاء تعاطفا في أوساط غربية لا سيما بتولي عدد من “الأكاديميين” الغربيين هذه المهمة.
وفي دراسة نشرها موقع “ميدل إيست آي” في شباط/فبراير 2016 وأعدّها كايل أورتون، يقول الباحث والمحلل إنه “بالنسبة للأسد، من المفيد أن يتم نشر دعاية نظامه ليس فقط من خلال المتحدثين الرسميين، بل أيضًا من قبل محللين مستقلين، وصحافيين، وأكاديميين، وسياسيين”.
ويضيف “منذ بداية الحرب في سوريا، قاد نظام بشار الأسد، بدعم من إيران وروسيا، حملة إعلامية متقنة للغاية لتصوير نفسه كضحية لمؤامرة دولية، حيث صُوّر خصومه على أنهم إرهابيون من القاعدة وفروعها يستخدمهم أجانب – بخاصة دول الخليج، وتركيا، وإسرائيل، والولايات المتحدة – للإطاحة بدولة مقاومة تتحدى الهيمنة”.
ويتحدث عن مثالين في سياق تناول الحركة الإعلامية لمؤيدي أسد: ستيفن كينزر، وهو صحافي مخضرم، بما في ذلك عمله في صحيفة “نيويورك تايمز”، الذي كتب في صحيفة “بوسطن غلوب”، وجيفري ساكس، وهو اقتصادي أكاديمي يعمل في جامعة كولومبيا، الذي كتب في “هافينغتون بوست”. ويقول إنه “من خلال الجمع بين نظريات المؤامرة وأنصاف الحقائق والأكاذيب الصريحة – وهي دعاية مضللة وفقًا للمصطلح القديم – روى كينزر وساكس نسخة من رواية النظام. ويستدرك “أسباب قيامهما بذلك معروفة لهما وحدهما”.
نموذج حماة
الروايات التي سوف تعتمد بعد ذلك في الإعلام الغربي، هي القائمة غالبًا على الحرب الأهلية السورية، بنقيضيها الأسد والمعارضة، وأزمة النزوح واللجوء التي تستدعي مصالحة مع نظام الأسد (الخطاب نفسه تردّد في تركيا في المرحلة التي سبقت سقوط بشار). ومن ثمّ ستغيب سوريا عن الحدث الإعلامي عندما يتعلق الأمر بالديكتاتورية.
ولم يكن الوسط الإعلامي وحده هو الذي تحكّم بهذه الرواية.
عمليا، كانت هذه رواية الدول الغربية التي فشلت في صدّ التوسع الروسي، والإيراني، في سوريا، في ظل الاتفاق النووي أيضًا، ورواية أحزاب كبيرة على اختلافاتها، ورواية يسار أوروبي وأمريكي متضامن مع “القومية العربية العلمانية” وحلفائها من الإسلاميين الحلفاء لإيران، ورواية دوائر دينية مؤثرّة أيضًا.
وفي قلب هذه الروايات، كانت الشيطنة المطلقة للإسلاميين الصاعدين في سوريا تسير باندفاع تغّطي على كل السياقات الأخرى، وكل العوامل الأخرى، من دون أي تفريق حقيقي موضوعي بين الجماعات المختلفة في أوساط الإسلاميين، أو تطورها، أو مواقفها من بقية أطراف المعارضة، أو موقفها من “داعش”.
وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يقال عن “هيئة تحرير الشام”، أو الفصائل الأخرى التي قد تتهم بأنها ارتكبت انتهاكات، فضلا عن الخصومة العقائدية مع الديمقراطية لدى طيف مهمّ منها، إلا أن الموضوعية في نقل الصورة كانت الضحيّة، إلا عند المنظمات الكبيرة المدافعة عن حقوق الإنسان.
وكما لم يكن ممكنًا أبدًا تصور أن محللي كيم جون أونغ سيحظون بهذه الفرصة الذهبية للدفاع عن نظام ينتمي إلى بؤر الرعب على هذا الكوكب، كان من البديهي أيضًا التصوّر النظري، ألا تفتح المنصّات بهذه الطريقة المخادعة لسماع صوت نظام ينتمي في أساليب التعذيب الخاصة به والمنهجية الممارسة على كل الشعب، إلى القرون الوسطى.
لقد أنجز الكثير خلال السنوات الماضية عن “جهاد النكاح” و”السبي” وقطع الرؤوس.. وحتى “الكبتاغون”، ألصقه بعض الإعلام الغربي في إحدى المرّات بـ”المعارضة السورية”، في الوقت الذي كان فيه معروفًا من يدير إمبراطورية “الكبتاغون”.
كما كان العالم يعرف، ما هو سجن صيدنايا، وأنجز الباحثون السوريون الكثير عن السجن وسواه، وكان معروفا جدا أنه مسلخ بشري، وخاصّة بعد تقرير “منظمة العفو الدولية” في 2017 عن آلاف أعدموا في هذا السجن سيء الصيت.
ولم يكن تراجع الغرب في وجه الأسد وروايته، الذي عكس بعضا من ملامحه التعاطي الإعلامي، سابقة في هذه البلاد.
كذلك لم يكن بشار الأسد مبدعًا خاصَا في نهجه الإعلامي. كل ما فعله أنه نفض الغبار عن تكتيكات والده وحزبه ونظامه في ثمانينيات القرن الماضي.
ويكتب ميشال سورا، الباحث الفرنسي، وهو نفسه ضحية لنظام الأسد وحلفائه الجدد، (سوريا الدولة المتوحشة – طبعة الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2017): “في شباط/فبراير سنة 1982، بينما كانت قوات الحرس الجمهوري للنظام السوري تقصف حماة، رابع أكبر مدينة في سورية بتعداد سكان يتجاوز ربع المليون نسمة، في عملية عسكرية كبيرة جدا انتهت بسقوط ما يقدر بعشرة آلاف قتيل (بين 7000 آلاف و15000 ضحية)، ويا لها من أرقام مروعة! ويا لدلالاتها! كانت الصحافة الغربية تقدّم ما يشبه التبريرات لذلك بصفته شرّا لا بدّ منه لإزاحة شبح الخمينية عن بلاد الهلال الخصيب من دون أن تنسى أن تشجب أعمال العنف بطبيعة الحال، فتلك كانت نوعا ما عملية جراحية ضد معقل الأصولية الإسلامية في سوريا”.
ثم يضيف سورا لذلك مقتطفا من افتتاحية “ماغازين ليتيرير” في عدد خاص عن الصحوة الإسلامية في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1983 (أي بعد أقل من عامين على مذبحة حماة)، “مع افتتاحية تليق بأجمل صفحات تاريخنا الاستعماري” (التعليق لسورا).
وفي هذه الافتتاحية ورد الآتي “إن عالمنا الغربي مهما كان يعاني النخر أو الفساد (ـ…)، ومع كل ما فيه من عيوب، فهو أيضًا عالم مقاومة النازية وعالم سيمفونيات بيتهوفن وعالم التحرر من الاستعمار، لكنه ليس عالم مجانين الله الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا جلادين وقتلة، هؤلاء المجانين الذين يكرهون الفكر والمثقفين والنقد، والثقافة، والحب، والجمال.. نحن نرفض تلك العقليات رفضا مطلقا”.
ثم يمضي سورا في تحليل طبيعة القوى الحاكمة في سوريا، وموقع المدينة والسنّة، مقابل الحامل الاجتماعي والطائفي لبعث سوريا.
لكن على الرغم أن كل هذه السنوات التي مضت على ما كتبه سورا، الذي أعدمته المنظمة التي كانت تعرف باسم “الجهاد الإسلامي” في منتصف ثمانينيات القرن الماضي بصقته “جاسوسًا”، إلا أن النقاش بشأن هذه الثنائية في المشرق لا يزال يثير انقسامات.
في الواقع، كان الجميع يعرف بالتفصيل ما يجري في سوريا منذ سنوات طويلة، لكن ذلك كان ثمنًا وشرّا لا بدّ منه للحؤول دون ظهور حكم إسلامي في سوريا.
معادلة معقّدة، أحد تفسيراتها قد يكون في فكرة تشترك فيها نخب “غربية” مع الخطاب البعثي الأسدي، وكذلك مع نخب عربية علمانية أو طائفية، خلاصته أن السوريين، مثلهم مثل بقية العرب، قدرهم المحتوم أنه لا يمكن أن يقدموا بناء ديمقراطيًا على طريقتنا، أو أن يبنوا دولة أو نظاما.. الآن هل هذه عنصرية؟ أم أنها “الهوة الثقافية” الكبيرة بين عالمين؟ أم أنّه الانتداب الدائم في الأفكار؟
———————–
الكفاح المسلح وجدليته في سوريا/ وسام سعادة
15 كانون الأول 2024
أكثر المقولات شططاً التي سيقت على مدار العشرية المنقضية أنه ما كان ينبغي رفع السلاح في وجه القمع الفئوي الدموي المتمادي لخروج السوريين على نظام “الما لا يُطاق”. وأنه كانت تجدر المحافظة بدلاً من ذلك على وتيرة التظاهرات السلمية، رغم كل أعمال التنكيل والبطش.
لقد أغفل روّاد هذه الملامة المتواصلة أوّلاً أنّ انحياز “الجيش” لرأس النظام قضى بنزيف داخله متزايد على مستوى العديد، وإلى استفحال عملية “تمليشه” وتمذهبه كجيش “عربي سوري”، وأنّه ليس هناك من حرب أهلية “من جانب واحد” يمكن أن تستمرّ كذلك من دون استجابة.
لو أنّ من استسهل معزوفة “ما كان ينبغي رفع السلاح” يعتنق اللاعنف عقيدة، لكان من الممكن أخذ كلامه على أنه في سياق تسويغ وسيلة ونمط كفاح وايثارهما على الكفاح المسلّح. المشكلة أن هذه المعزوفة بُثّت من قبل أناس ليس عندهم رفض منهجي لاستخدام العنف “الضروري” في مواضع أخرى، وبالذات في سياقات التحرير الوطني.
وهذا يجعل المشكلة مع المنطق الذين أرادوا الترويج له مزدوجة. أولا، ما الذي يسوّغ استثناء الشعب السوري من حقه في الدفاع عن نفسه بوجه السفاحين، بوجه نظام لم يرتدع عن استخدام سلاح الدمار الشامل بوجه السوريين، بوجه نظام مجبول بحقد فئوي خبيث ضد الأنسجة الأكثرية من المجتمع السوري، وبحقد لا يقل ضراوة تجاه شعوب المشرق الأخرى، وبالذات اللبنانيين والفلسطينيين؟ خاصة وأن رواد تقليعة “ما كان ينبغي حمل السلاح؟” هم أيضاً من جماعة رفض “حروب التدخل الإنساني”. إذا أقفلوها في أذهانهم مرتين. مرة على الكفاح المسلح الداخلي، ومرة على التدخل الامبريالي “الإنساني”. في الوقت نفسه طالبوا باستمرار التظاهر السلمي في وجه عدو للشعب يواصل أعمال البطش. الموقف الأكثر منطقية مقارنة بهم هو موقف من يدعو لعودة الناس إلى بيوتها وليس متابعة التظاهر بسلمية في وجه آلة حرب. هذه يمكن أن تصلح لأسبوع واثنين وثلاثة لكن بعد ذلك؟
ثانياً، منذ متى هذه القسمة الضيزى بين اعتبارات مواجهة الاستعمار واعتبارات مواجهة استبداد يطرح نفسه كاستعمار داخلي في الكثير من الأدوات والسياسات التي يستخدمها والذي يبدو فيها كما لو أنه يعامل ملايين السوريين كما لو أن مكانهم “ليس هنا”، أو أنه هو، كنظام، ينبجس من “عرق” أسطوري آخر؟
ثورة السوريين كانت إلى حد كبير معركة تحرير وطني لهم من ربقة استعمار داخلي، استقدم تدخلات خارجية معه، وضده، وبين بين، وليس فقط مجرد نظام سلطوي نمطي من الأنظمة الكالحة التي تعج بها خريطة “العالم الثالث”.
لم يكن من الواقعي حتى التمنّي بأن تستمرّ الثورة “سلمية” فقط بعد توجيه الآلة العسكرية الدموية بهذا الشكل المتواصل ضد المدن الثائرة، تضاف إليها مجاميع “الشبيحة”.
لا يعني ذلك أن العنف المضاد للنظام سلك الدروب الأكثر قدرة على تحقيق مراده، بالعكس.
انساق هذا العنف المضاد في الكثير من آلياته ومساراته إلى المطرح الذي كان يريد النظام له أن يكون.
باظهاره كعنف يحرّكه مخيال إبادي محتقن تجاه من يجري تصنيفهم “الأقليات” وعنف مرتبط بالحركات الإرهابية العابرة للبلدان.
والحال أن المشكلة السورية منذ عقود تكمن هنا: بين ضرورة عدم المكابرة على السمة الفئوية للنظام الأسدي، وبين ضرورة عدم اختصاره بها كما لو أنه لا يملك غيرها كسمة. بين ضرورة كسر آلة الاضطهاد “الأقلوي” للأنسجة الأكثرية، وبين ضرورة الحؤول دون قيام آلة “انتقام” أو “اضطهاد في الاتجاه المعاكس” ضد أطياف التعددية الدينية والاثنو-دينية والمناطقية السورية. تغدو المقاربة أقل تورّماً عند التمييز بين السمة المتكثرة، المتعددة، للأنسجة الأكثرية العربية – السنية من المجتمع وبين المفهوم الأحادي – المركزي لأكثرية يجري تخيلها ككتلة واحدة ولا يؤدي هذا التخيل والعمل على أساسها الا لتشطيرها وشرذمتها أكثر. تخيل الأكثرية كعصبية أدى إلى تحولها إلى عصائب، بحيث أن العنف المضاد جنح إلى التشتت في أرخبيل من الإمارات والكتائب الجهادية التي تستثمر فيها شتى أنظمة المنطقة.
مع هذا، ما كان مفرّ من حمل السلاح. ما كان من الممكن أن تبقى الثورة “سلمية، سلمية”. كان يمكن للخروج على الطاغية إما أن يخمد وإما أن يستمر بالعنف المضاد. أن يستمر سلمياً في ظل قمع دموي متواصل فهذا غير واقعي، وغير سياسي، ومكابر على ديناميات الحرب الأهلية. طبعاً المشكلة في المقابل أنه عندما تلجأ إلى السلاح لمواجهة السلاح النظامي الدموي عليك أن تقرّ بشكل أو بآخر أنك قبلت الدخول في الحرب الأهلية، وأن لا تكابر على هذا المفهوم كما لو أن مفهوم الثورة يدور في فلك، والحرب الأهلية في فلك آخر. ما من ثورة في التاريخ إلا ودفعت باتجاه الحرب الأهلية. لا يعني في المقابل أن كل ثورة كانت تحكم على نفسها إذاك بالضياع التام، في الحرب الأهلية. في سوريا أيضاً، تراجع منسوب الثورة لصالح معطى الحرب الأهلية، لكن فكرة الثورة لم تضمحل مع ذلك، لأن مناهضة السواد الأعظم لهذا النظام بدت طاقة مثابرة، لا ينجح شيء في جعلها تضمر. وحتى بعض من رفع شعار “ما كان ينبغي حمل السلاح” بكل ما في هذا الشعار من شطط فإنهم عبروا على طريقتهم عن مناهضة هذا النظام. وحتى بعض هذا النظام أو المحسوبين عليه ممن ضاق ذرعاً بالميليشيات الإيرانية في سوريا فإنه كان يساهم بضيقه هذا لا في إنهاء وجود هذه الميليشيات فحسب وإنما في تحلّل نظام، وهو تحلّل ما أفاده التطبيع النظامي العربي معه، هذا التطبيع الذي سمح للنظام من التحلل من كل ضغط يحمله إلى مناقشة خطط “مصالحة سورية” أو نظام دستوري جديد، وقد أدى هذا في نهاية المطاف إلى تلف النظام النهائي، وانهياره بمشهد هزلي للطاغية وأعوانه.
ما كان من الممكن لشعار “الشعب السوري واحد” أن يبقى متعالياً على السمات الفئوية للنظام وعلى واقع الانقسام الأهلي السوري العميق أكان حول النظام أو حول الثورة عليه. إنما في الوقت نفسه، لم يُحمَل السلاح بالشكل القادر على تأمين طريق تفلته من أحابيل النظام. حُمِلَ بالشكل الموافق لمخطط الأخير، في الاستنجاد بإيران وحرسها وميليشياتها، ومن ثم بروسيا وطيرانها ومرتزقة فاغنر. كذلك، كان لاذكاء الإسلاموفوبيا العالمية، وبخاصة مع تصدر التيارات الجهادية المتطرفة للمشهد السوري، وبالتوازي مع تدفق اللاجئين من سوريا باتجاه بلدان الاتحاد الأوروبي، أثر على تشكيل “لوبي ضاغط” بالتبرير للنظام الأسدي من داخل أروقة الأكاديميا والثقافة والإعلام في الغرب، الذين زاولوا لعبة أن سوريا بين شرّين، أحدهما نعرفه، وهو نظام مقاول في الإرهاب يسلّط فئة ويسلّم أخرى، والثاني من الأفضل الحؤول بينه وبين السيطرة على السلطة في سوريا. اندمج في هذا اللوبي المحابي للأسد، اليساري الشعبوي “عاشق الطغاة”، واليميني المتطرف، المنشرح لرؤية نظام يقوم بواجباته الاستعمارية ضد غالبية سكان سوريا. لكن الأخطر منهما كان المعتدلون في هذا اللوبي، من دبلوماسيين سابقين وأكاديميين، هؤلاء “أفتوا” بضرورة أن لا يسقط النظام، والاستثمار في ضعفه الشديد في الوقت نفسه. لا يسقط، ولا ينهض على ساقيه من جديد. فاتهم أن هذه الحالة لا يمكن أن تدوم إلى ما لا نهاية.
عدم قدرة الفصائل الإسلامية المختلفة على تنظيم خلافاتها وتوحيد استراتيجياتها، قاد لاحقا إلى تمكن الإيرانيين وملحقاتهم والروس عسكراً ومرتزقة من إخماد البؤر المتمردة تباعاً خلا الشمال الغربي السوري، هذا في مقابل نقل عشرات آلاف المسلحين بالباصات إلى هذه البقعة المحصورة من سوريا، إنما التي لا تبعد كثيراً عن مدينة حلب، بحيث أن أي وهن في شبكة الحمايتين الروسية والإيرانية للنظام يمكنها أن تؤدي إلى رجعة المسلحين إلى حلب، وهذا ما كان. في الوقت نفسه، تمكنت المعارضة من توحيد صفوفها أكثر في تجربة انحسارها في ريف إدلب وريف حلب، ومن ترشيد الخطاب والممارسة عند الحركات السلفية الجهادية، والادراك تحديداً أنه ما عاد من الممكن الاستمرار بنغمة “دمرنا أمريكا بطائرة مدنية”. عاد الجهاديون والحال هذه إلى النقطة التي كانوا عليها يوم انتهت الحرب الباردة. فإلى يومها كانوا يعلمون أنهم طرف في هذه الحرب، إلى جانب أمريكا ضد الاتحاد السوفييتي، هذا قبل أن ينقلوا إلى مواجهة أمريكا على امتداد ثلاثة عقود. فهل يكون بالمستطاع السير قدما في هذا الاتجاه خاصة بعد سيطرة الفصائل المعارضة تتقدمهم “هيئة تحرير الشام” على الشام؟
ما كان مفر من حمل السلاح، ولا مفر اليوم، حتى ونحن نرى نظام آل الأسد يتهاوى بهذا الشكل المستحق، أن نبطل “نقد” تجربة هذا السلاح الفعلية، العينية، ليس النقد من موقع أنه ما كان ينبغي رفعه، بل من موقع أنه لم يكن ثمة مهرب من رفعه، إنما المشكلة تبدأ في التعارض الذي فرض نفسه بين رفعه وبين القدرة على حمل مشروع لحل المسألة السورية في الوقت نفسه كمسألة لا يمكن حصرها بالاستبداد القائم، وإنما بكيفية تصفية الحساب مع قابلية مزمنة للاستبداد، لاستبداد يمكن أن يتخذ كذا مسار، ويكون من كذا صنف، ولا يمكن حصرها بمبحث الاستبداد نفسه معزولا عن مسألة القابلية لإدارة التعدد المتعدد الأشكال في سوريا، والمتفاوت في الأحجام والأوزان. ويضاف إلى القابلية المزمنة للاستبداد ومشكلة إدارة التعدد مشكلة القابلية للحكم، وقد رأينا في حالة النظام الأسدي قابلية لممارسة الطغيان أكثر بكثير من قدرة على الحكم. النظام انهار بالنتيجة من فرط تلفه، ونفور طابعه كنظام غير قادر على الحكم وغير قادر على التراجع عن الطغيان في الوقت نفسه قيد أنملة. لماذا تمسك هذا النظام بالمعتقلات؟ لأنه ما كان قادرا على الحكم إلا داخلها. ما كان قادرا على الحكم خارجها وإنما مائلا إما إلى ترك الناس يتدبرون أمرهم بأنفسهم وإما إلى إرهابهم.
لسنا في زمن كان يمكن فيه التعويل أن يتسلح تمرد عسكري منبثق من انتفاضة شعبية ضد نظام دموي بالماركسية اللينينية مثلا، على ما كانت الحال قبل نصف قرن مثلا. كانت الحركية الإسلامية أوفر حظا من البداية لالتقاط لحظة صيرورة الصراع عسكريا لصالحها. المشكلة أن إسلاميتها مالت سريعا للضرب عرض الحائط بالكيانية السورية، واحتسابها على النظام، ومفهوم الديمقراطية، واحتسابه على النظام، على افتراض ان الديمقراطية كما الديكتاتورية يتحدران في النهاية من مبدأ طاغوتي واحد وهو تعبيد الناس للناس بدل تعبيدهم لرب الناس. هل غادرت الفصائل الأساسية للمعارضة المسلحة هذه الأفكار؟ المؤشرات التي تحاول اعطاءها لا يمكن أن تكون كافية ما لم يجر الاقتراب من مبدأ المساواة القانونية بين مختلف المواطنين، وما لم يجر إظهار كيفية تكريس الحريات العامة والخاصة، وما لم يجر الإقرار بحق كل ألوان التعدد الاثني والديني والمناطقي السوري بالتفتح، وما لم يجر إظهار سياسة حسن جوار واعتراف باستقلال لبنان دون لبس، وما لم يجر إظهار الرغبة في الخروج من دوامة “الاحتراب المتبادل” وطرح رؤية مزدوجة، للسلام في سوريا ككل ولتخفيض النزاعات بشكل متدرج وممنهج في منطقة الشرق الأوسط. عام 2012 ما كان ينبغي حمل السلاح، أما الآن فقد آن الوقت للرؤية السورية الشاملة، القادرة أيضاً على التأليف بين الحاجة للعدالة وبين الحاجة للمصالحة، بين الحاجة للحقيقة وبين الحاجة للغفران. لسوريا اليوم إمكانية صياغة سردية ملحمية عن ثورتها وانتصارها. المهم أن تبقى الملحمية هنا قادرة على التصالح مع “مبدأ الواقع”. والواقع هو واقع مجتمعات دمرها تكالب الاستبداد والاستعمار في هذه المنطقة من العالم، وخواء الأفكار أو تبلدها. لم يكن صحيحا أنه ما كان ينبغي حمل السلاح، إنما اليوم، كل شيء يتحدد بناء على الاستعداد على الذهاب إلى مكان جامع وتعددي لكل السوريين يصار في نطاقه إلى… إخراج السلاح من المعادلة الصراعية الداخلية، وطي صفحة الحرب الأهلية السورية.
القدس العربي
—————————-
سورية إذ تتحرّر من الطغيان/ لميس أندوني
15 ديسمبر 2024
لعلّ مشهد آباء وأبناء يدكّون الأرض الإسمنتية في سجن صيدنايا، بحثاً عن زنازين أخرى تحتها، بعد أن لم يجدوا أحباءهم في المعتقل الرهيب، وخروج النساء وأطفالهن الذين يدلفون من عتمة الجدران إلى نور الشمس، أو العيون الزائغة لمن فقد ذاكرته تحت التعذيب وفي العزلة، لعله يختزل مرحلة آل الأسد في سورية. لكن المشهد لا يعبر تماماً عن وجع السوريين ومعاناتهم، فمن خطفٍ من الأمن، وعقود من الخوف أُلجمت الألسنة، واضطُرّ كثيرون إلى النفاق للنجاة من السجن أو الموت؛ فخنق النفوس والأرواح هو رحلة فقدان حتى لمن لم يكن في السجن.
أصعب شيء أن يجد السوري أنّ ألمه يُغَضّ النظر عنه أو يُنكَر لأسباب أيديولوجية أو تحت شعار المواجهة الذي تحوّل إلى “الممانعة”، وهو وصفٌ غريب، أو “المقاومة”، فيما بقيت خطوط التماس في هضبة الجولان المحتلة، عقوداً، هادئة مثل القبور.
أقول بأسى: لا لتبرير القمع الدموي باسم “فلسطين”، فالشعب السوري ليس له ذنب في العدوان الإسرائيلي الذي دمّر معظم الترسانة العسكرية، واحتل مدناً وقرىً، وليس له ذنبٌ إذا تكالبت في المستقبل القوى الإقليمية والاستعمارية عليه للهيمنة، فالاستبداد هو الذي يفتح الثغرة، كما نعرف من التاريخ، يحفر الثغرة التي يدخل من خلالها الغزاة.
لم يختر الشعب عائلة الأسد طواعية، وحتى لم يختر هيئة تحرير الشام التي دخلت بسهولة نسبياً، لأن الجيش السوري بكل بساطة لم يقاتل ولم يدافع عن نظام لم يعد له صلة بأغلب السوريين. … وللسوريين في مناطق معينة ذكريات جرائم، ارتكبتها جبهة النصرة التي أعادت إنتاج نفسها في هيئة تبدو أكثر اعتدالاً، وكأنه أُعيد تأهيلها. وها هو قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) باعتدالٍ مثير للدهشة، من الحفاظ على حياة المدنيين، وطمأنة الأقليات وعدم المسّ بها، لكن الطريق في أوله، وحكم سورية يحتاج ائتلاف جميع القوى وإرساء دولة القانون والمواطنة الحرّة والمتساوية.
لا أتحدّث هنا عن “الديمقراطية المزيّفة” التي تتشدق بها أميركا والدول الغربية، فهذه أصبحت شعاراً للتدخل والسيطرة على الشعوب، فطالما كانت أميركا ولا تزال داعمة للطغاة بشرط التبعية شبه المطلقة، ولن أستشهد بالدمار الذي ألحقته بالعراق فحسب، فآثار الحروب والمجازر الأميركية والكولونيالية الأوروبية طاولت شعوباً ودولاً في آسيا وأفريقيا والسكانَ الأصليين داخل أميركا وفي بقاع مختلفة من الأرض، بل أتحدّث عن حق الشعب السوري بأن يتحرّر من نير الديكتاتورية. ما يؤلم أنّ من خافوا على النظام السوري السابق من منطق خوف حقيقي من الهيمنة الإسرائيلية أو من منطق أيديولوجي، يصرخون بأن “القادم أسوأ”.
نعم، أنا مثل هؤلاء، لا أثق بأميركا، بل أعتبرها عدو حريات الشعوب، ولا بقوى إقليمية وأنظمة عربية، لكن ذلك لا يبرّر عدم فهم مشاعر الشعب السوري وتفهّمها، فمن لم يعش تلك التجربة، واكتفى بشعار النظم الأسدي “بالمقاومة وتحرير فلسطين”، فقد لا يستطيع أن يفهم، وإذا كنا خائفين على سورية، يجب أن نساند الشعب السوري بحق.
حين انطلقت قوات هيئة التحرير الشام، فوجئ السوريون بصمت جيش بلدهم، وفوجئوا بأن الهيئة، بالرغم من سجل جبهة النصرة لم تمسّهم، فانطلقوا في الشوارع فرحين، هم يريدون التنفس، ببساطة يريدون التنفس، لا يستطيعون التفكير بشيءٍ آخر، وآلاف هرعوا إلى السجون بحثاً عن أبنائهم وبناتهم وذويهم. هذا هو الواقع السوري، ولا يمكن إنكاره لأي سبب وبأي ذريعة، ولنتذكّر أن الجميع، حتى الجيش، لم يدافع عن النظام، وليتدبّر من يشاء في أسباب ذلك.
سياسياً، الوضع خطير، والقادم أخطر، فتحرّك إسرائيل السريع مستغلة الفراغ يدل على أنها تتعامل مع سورية مثلما تتعامل مع الفلسطينيين. ووفق المفهوم “الأميركي” الكاذب لقيام “دولة فلسطينية”، فهي تريد أن تكون دول الطوق منزوعة السلاح وتابعة، لتحتلّ إسرائيل الأراضي كما تشاء، وتفرض اتفاقياتٍ لنهب ثرواتٍ من طاقة وموارد طبيعية.
لا يوفّر النهج الكولونيالي العنصري الاستيطاني العنصري شيئاً، فالجولان ما زال محتلاً، وإسرائيل صارت تسيطر على “المنطقة العازلة” وتعدّتها، فهي لا تريد لسورية بناء اقتصادها وقوتها.
الأسوأ في المشهد دولٌ عربيةٌ متواطئةٌ مع إسرائيل وأميركا، كانت تقوم بدور الوسيط بين بشّار الأسد وأميركا للابتعاد عن إيران والتضييق على حزب الله والتطبيع مع إسرائيل، وستحاول الضغط على الحكومة السورية القادمة للمصالحة مع من يحتلّ جزءاً من الأراضي السورية. ويبدو أن بشّار كان قد بدأ بأخذ خطواتٍ في هذا الاتجاه، فهدفه الدائم كان البقاء على رأس الحكم على حساب سورية، وحتى كل أجهزة الدولة، وهذا ما يبدو أن الجيش السوري قد فهمه، فلم يتحرّك العسكر لحماية نظامهم، وهذا ما فاجأ كلاً من إيران وروسيا. ووفقاً للمحللة الروسية إلينا سبونينا، المقرّبة من الكرملين، اكتشفت موسكو أن لا وجود للجيش السوري، وكانت قبلها قد حذّرت، في أكثر من مقابلة تلفزيونية، من أن روسيا لن تحارب بدلاً من الجيش السوري، دفاعاً عن الأسد.
إعلان روسيا وإيران بشكل منفصل إجراء اتصالات “مع جميع الأطراف السورية” يعني أن لديهما حرصاً على مصالحهما في سورية في سياق صراع النفوذ في المنطقة. بينما بدأت أميركا بوضع شروطها، بحجة حرصها على حماية الأقليات، ولكنها تريد أن تضمن علاقة تبعية تخدم أهدافها وإسرائيل.
أميركا، التي يضع وزير خارجيتها بلينكن شروطه للاعتراف بالحكومة السورية القادمة، يريد التأكد أنها “تحفظ حقوق الأقليات وتعزّز الاستقرار وتفكك الأسلحة الكيميائية ولا تشكل أي تهديد لجيران سورية (يقصد إسرائيل)”، هي ذاتها أميركا التي رسّخت الانقسام والإثنية الطائفية والعرقية في العراق.
الشعب السوري دائماً يجد نفسه وحيداً في أتون صراع القوى الدولية والإقليمية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني. لم تحاول أي من القوى، عظمى أو إقليمية وعربية، مجتمعة أو فرادى، الانخراط في محاولة جدّية لوقف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، فيما بقي الشعب السوري عقوداً من دون أن ينال حرّياته، استخدمت أميركا، بكل صفاقة قضية “حقوق الإنسان في سورية” ذريعة للضغط على النظام السابق ليبتعد عن إيران، ليس خوفاً على السوريين من إيران، بل خدمة لسياستها، فيما تستمر بالمشاركة بحرب إسرائيل لتشريد الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم.
الحرّيات لا تتجزأ، أكانت الحرية من النظام الدموي أم الاحتلال الوحشي. من لم يفهم معاناة السوريين، حان الوقت لأن يفهم، ويتذكّر أن نظام عائلة الأسد ارتكب المجازر واعتقل وأخفى وقتل عديدين من الفلسطينيين في لبنان وسورية، بل أن نطالب بالحرية والتحرّر للشعبين الفلسطيني والسوري وكل الشعوب العربية المظلومة.
العربي الجديد
——————————-
ما تركه الأسد وراءه/ فاطمة ياسين
15 ديسمبر 2024
في ليلة واحدةٍ، تهاوى النظام الملتصق بكرسيّه، فركب رئيسه طائرةً نقلته على مرحلتين إلى موسكو، مروراً بقاعدة في اللاذقية تدعى حميميم، تسيطر عليها قوات روسية. لم يتأخّر الوقت كثيراً حتى أظهرت وسائل الإعلام أماكن بشار الأسد الخاصة، وصالات استراحته، ومنازل أفراد عائلته، وصورهم في لحظاتهم الخاصة. وظهرت قوائم طعامه وخزائن ملابسه، ومحتويات مطابخه إلى العلن. هرب الخدم والحشم والحرس والحواجز، وتركوا كل شيء شواهد صادقة على ما كان يدور في هذه الأمكنة. أشياء تُظهر شخصية ساكنيها وميولهم، وأذواقهم، كلها كانت واضحة من خلال أسلوب معمار البيوت والقصور والمكاتب، وطريقة ترتيب الأثاث في الغرف والممرّات الطويلة، وحتى في شكل الحدائق وأنواع الأشجار. ظهر من الديكتاتور جانبٌ مخفيٌّ مع حجم المكتشفات الهائل الذي يعبّر بصراحة عن شخصية هذا الرجل، غير التي تعامل بها مع الشعب السوري في سنوات الثورة الطويلة.
كان يبلغ الرابعة والثلاثين عندما عدّل أصحابُ والده من “ممثلي الشعب” الدستور، ليصبح الوريثُ قادراً على اعتلاء كرسي الديكتاتور. وتظهر تلك اللحظة خللاً عضوياً يكتنف هذه الشخصية، التي لم تجد غضاضة في تزوير الأوراق الرسمية والعبث بالدستور، حتى يصبح رئيساً، من دون إحكام الوعي لدى عصبة المسؤولين أولئك بخطورة هذه الحركة الاحتيالية المنافية لكل عرف سياسي محترم، نُفّذت هذه المؤامرة المبكّرة التي كرّسته رئيساً برعاية أجهزة الأمن المسلّطة على رقاب الجميع، وهو يدرك ذلك جيداً، فقد ترأس بنفسه تلك الأجهزة وأشرف عليها من قرب، ولا بد أنه أضاف لمساته إلى أسلوب عملها، وقد ظهرت تلك اللمسات في ما اكتشف في سجن صيدنايا.
جلس بشّار بشخصية المراهق الفجّة في القصر الجمهوري، وقمع أول تحرك سياسي في ربيع دمشق، وأعاد القبضة الحديدية التي فرضها والده حتى لحظة الخامس عشر من مارس/ آذار في عام 2011. حين أعلن بشّار صورته الدموية على مدى 13عاماً الماضية، مارست فيها جماعته القتل العشوائي والتهجير والقمع، وأدار ظهره لنصائح وتوصيات عديدة، مصرّاً على عدم التخلي عن كرسيه، ورغم معاناة الجميع، حتى من حاضنته داخل سورية، من شحّ الموارد والحالة المعيشية الصعبة. تجاهل كل شيء وبقي في موضعه، واحتمى بقوى خارجية أباح لها سورية على طولها وعرضها في سبيل أن يبقى… ظهرت خلال تلك السنوات شخصية الديكتاتور الحقيقية، الذي أغلق أبواب الحلول كلها، وانكفأ إلى الداخل، بعد أن قوطع وأصبح مطلوباً للعدالة الدولية، حين ظهرت جرائمه التي تفاخر ببعضها، وارتقى كثير منها إلى التصفية الجماعية والتطهير بأسلحة تحرّمها الإنسانية.
مما أظهرته الكاميرات من قصوره ومكاتبه وبيوته، تبيّن أنه شخصٌ نهم يريد ابتلاع كل ما يجده في طريقه، فالصالات واسعة ورحيبة من دون لمسات من الذوق أو الفن، والأشياء مكدّسة بكثرة، وبعضها لا فائدة منه، وفي غير أمكنته الصحيحة. أظهرت الأماكن التي عاش فيها قلة الذوق الشخصية والافتقار إلى الإحساس بالجمال، أو أي عناوين تثير الإبهار، فقد خلت الجدران من رسومات فنية، ولم نشهد سقوفاً عالية أو مزخرفة في قصوره ومنازل أسرته. في المقابل، رأينا طوابق سفلية، وسراديب طويلة تحت الأرض، في هندسة تعكس فعلاً شخصية رجال المافيا المستعدّين دائماً والمرتابين طوال الوقت. ولتكتمل صورة الديكتاتور البائس، أفصحت تقارير عن سلوكه في لحظاته الأخيرة، فقد أخفى نيته بالهروب عن الجميع، حتى عن شقيقه وشريكه في الحكم، وموّه خطته على مدير مكتبه الذي أخبره بأنه عائد إلى المنزل. ومارس مراوغة من نوع آخر، عندما اتصل بمستشارته بثينة شعبان، وطلبها إلى منزله كي تكتب له خطاباً سيلقيه، ولكنها جاءت ولم تجد أحداً، فقد ذهب على عجل وترك خلفه إرث 55 سنة وجيشاً محطّماً، ومؤسّسات متهاوية، وطائفة حائرة، وألبومات صور سيتندّر السوريون عليها قرناً.
العربي الجديد
————————–
ما بعد حكم الأسد/ حسن مدن
15 ديسمبر 2024
كان من المتعيّن أن يسقط حكم الرئيس السوري السابق بشار الأسد في عام 2011، شأن رؤساء عرب آخرين في المشرق والمغرب العربيين: زين العابدين بن علي، حسني مبارك، معمّر القذافي، علي عبدالله صالح، في موجة السقوط المدوي يومذاك. توفّر للأسد ما لم يتوفر لسواه من أوجه دعمين، إقليمي ودولي، فرضها موقع سورية الجيوستراتيجي المهم جداً بالنسبة للداعمين. يمكن وصف ما جرى في سورية، أخيراً، بأنّه النسخة المؤجلة من أحداث 2011.
أكثر من عقد مرّ. متغيّرات كثيرة وازنة جرت في الجوار وفي العالم. روسيا انشغلت بالحرب في أوكرانيا وتغيّرت لديها، بالتالي، الأولويات. صحيح أنّ وجود قواعدها على الساحل السوري مهمّ لها، لكن لا مقارنة بين هذا الوجود ونفوذها على حدودها مع دول حلف الناتو. ونتج عن زلزال 7 أكتوبر (2023) تبعات حاسمة، قلبت المعادلة في المنطقة أو كادت، خاصة مع شنّ الحرب الإسرائيلية على لبنان مستهدفة البنية التحتية لحزب الله، وقادته، وفي مقدّمتهم أمينه العام حسن نصر الله، ولم يعد الحزب المنشغل بالدفاع عن نفسه في وجه عدوان إسرائيل أن يظلّ، كما كان، سنداً قوياًّ لنظام الأسد في وجه المعارضة المسلحة، المدعومة، هي الأخرى، إقليمياً، من تركيا خاصة.
ليست المستجدّات الدولية والإقليمية السبب الوحيد الذي أدّى إلى ما وُصف بالسقوط السريع لحكم الأسد، وهو سقوطٌ فاجأ خصومه ومعارضيه قبل أن يفاجئ حلفاءه ومناصريه، فلقد كان للعامل الداخلي دور حاسم في ما جرى. أصيبت المؤسّسة العسكرية والأمنية للنظام بالوهن الشديد، بسبب انهيار المعنويات واستشراء الفساد، وسيادة الشعور بلا جدوى الدفاع عن نظام متهاوٍ فاقدٍ للشرعية، كان بوسعه تفادي السيناريو الأسوأ لو أنه مكّن من بدء حوار وطني ربما وفّر على سورية معاناة ثقيلة.
هذا ما يفسر حال البهجة الحقيقية التي عمّت سورية من أقصاها إلى أقصاها بعد سقوط حكم الأسد، بما في ذلك في المناطق الساحلية، ذات الأغلبية العلوية، التي جرى تصويرها، ظلماً، مؤيدة للأسد، ولكنها دفعت، كسواها، ضريبة الوضع المأزوم في سورية، وفي بعض الأوجه كانت ضريبتها أكبر من سواها، ولم تحل الخشية من سيناريو مجيء حكم إسلامي متشدّد في سورية، حكما من تجارب عربية وغير عربية أخرى، لدى قطاعات ليست قليلة من السوريين، من التعبير عن فرحهم الغامر بسقوط حكم الأسد، الذي عانى من حكمه الجميع، إذا ما استثنيت البطانة الضيقة المحيطة به.
من حقّ السوريين بتكويناتهم كافة أن يفرحوا بنهاية الديكتاتورية. والآن؛ بعد الفرحة تأتي الفكرة. فالنضالات والتضحيات التي أدت إلى سقوط حكم الأسد العائلي الذي استمرّ أكثر من نصف قرن، يجب أن تفتح لسورية أفقاً آخر، لا يعيد إنتاج أيٍّ من صور الديكتاتورية، عسكرية أم إسلاموية، فسورية بعمقها الحضاري وموقعها الاستراتيجي، وما هي عليه من تنوّع في الأديان والطوائف والاتجاهات، لا يليق بها سوى نظام ديمقراطي، علماني بالضرورة، قاصدين هنا تحقيق الفصل بين الدين والدولة، وهي أهلٌ لأن تشكّل نموذجاً نحتاجه عربياً، بعد أوجه الإخفاق والفشل الكثيرة التي رأيناها ونراها.
يُرسل من أصبحوا في موقع القرار في دمشق اليوم تطمنياتٍ حول ذلك، لكنهاغير كافية. يكتب سوريون كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي مشيدين بتلك التطمينات، ولكنهم يطالبون بأن تقترن الأقوال والأفعال. مُعلقة على التطمينات التي توجّه إلى المسيحيين في سورية، كتبت الشاعرة السورية رشا عمران على حسابها على “فيسبوك”، متسائلة: “لماذا يحدُث التطمين للأقليات كما بطلقون عليها ولا أحد يطمئن الأكثرية؟ هل يعتقد أي شخصٍ مثلا أن سنّة سوريى هم كتلة متجانسة ومتشابهة، وبالتالي يناسبها كلها شكل الدولة الذي يتكلمون عنه فلا يحتاج منها أحد إلى تطمين؟”، ويبدو لنا أن هذا القول هو لسان حال كثيرين وكثيرات جداً في سورية اليوم.
لا يمكن أن نختم هذا المقال من دون الوقوف عند الحيرة الناشئة عن الصمت الغريب، من ماسكي القرار اليوم في دمشق، تجاه الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على سورية، والتي لم تبدأ الآن فقط، ولكنها ازدادت في الأيام الماضية، بل بلغ الأمر حدّ احتلال مساحاتٍ شاسعة من الأراضي السورية، من دون أن نسمع ولو كلمة إدانة؟
العربي الجديد
————————
هل تودِّع سورية الاستبداد السياسي؟/ محمود الوهب
15 ديسمبر 2024
(1)
يفكِّر الإنسان، في أحيان كثيرة، بحدسه.. والحدس لا يأتي تلقائيّاً مثل نبوءة أو كشف ما.. إنه تراكم لقراءات دقيقة للواقع، ولاستيعابه. هكذا كان أغلبنا ينظر إلى النظام المنهار في سورية في سنيِّه الأخيرة، على أنه هشّ، ومتفسخ، وأن أيامه غدت معدودة تنتظر “الشعرة التي ستقصم ظهر البعير..”، فكل فرد سوري لديه الكثير من الأسباب التي تستوجب مجيء اللحظة الحاسمة.. ومهما يكن من أمر ما حدث، وممن ساهم فيه، فقد استنفد النظام شروط بقائه سواء بالزمن الذي تجاوز دولة الأسرة إلى الدولة الحديثة أو بالأسلوب الذي حكمت فيه تلك الأسرة.. الأسلوب الذي لن يمحى من ذاكرة السوريين لما خلَّفه من آلام وأحزان.
(2)
بقوة الشعب، لا بغيره أبداً، اندحر نظام الاستبداد السياسي، اندحر بكل تسلّطه وشموليّته على الفكر والاقتصاد والمال والمجتمع.. وبقوة الشعب لا بغيره، انتهى حكم الطاغية الذي حوَّل سورية إلى مزرعة له ولأسرته.. أقول بقوة الشعب السوري، لأنَّ المدن السورية جميعها استقبلت فصائل تحريرها بالغبطة والفرح، وبكلّ الحب لدى مقابلتها سلام الفصائل وطمأنتها.. صحيح أنها معجزة كبرى! لكنها حدثت. وقد لخصت عمق القهر والذل الذي عاناه الشعب السوري 54 عاماً. نعم بقوة الشعب الذي أرغم رئيس الدولة على الفرار فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 الذي أظنه سيغدو عيداً وطنيّاً لسورية، وقد فرَّ مدحوراً من دون عينين يقابل بهما الشعب، ومن غير لسان يخاطبه. الشعب الذي كان قد صبر على ظلمه، وعسف أبيه من قبله، 54 سنة، حتى إنه حين حاصرته أفعاله لم يجد أحداً من شعبه “المتجانس” يقف إلى جانبه.
(3)
على الرغم من توسط عديد من الدول العربية والإقليمية التي اجتمعت مساء اليوم السابق لفرار بشار الأسد، في الدوحة، وقد قيل، وفق تسريبات، أنها طالبته بالتنحي، وإسناد مهمته “الوظيفية” لنائبه، والسعي إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي، كما ينصّ قرار مجلس الأمن 2254، وعلى الرغم أيضاً من رسالة تضمنت الطلب نفسه، أرسلها إليه 50 من أعضاء سابقين في مجلس الشعب. حقناً للدماء.. وعلى الرغم، كذلك، من إشارات تلقَّاها من دول كبرى تشير إلى الأمر ذاته، أبى واستكبر، ولا أقول خجلاً، بل استهتاراً بالشعب السوري، وبدمه، فمن أين له الخجل، وقد أهدر قبلاً دماء مئات الآلاف من المواطنين الأحرار، ومثلهم أذاق جلَّادوه المعتقلينَ مرارة القهر والإذلال، وقد أخرجت “لجان الدفاع المدني” وفصائل التحرير من تبقى منهم أشباه أموات..
(4)
سورية اليوم حرّة، متحررة بعد 13 عاماً من عمر الثورة السورية.. اليوم يعود الفرح ليعمّ الأرجاء السورية.. فرح يجيء في أعقاب شكوكٍ من بعضهم.. فرح أثاره دخول هيئة تحرير الشام، وفصائل من الجيش الوطني، كانت الغلبة فيها لقيادة أحمد حسين الشرع الذي تبين من قيادته عملية التحرير أنه قد تسلَّح بوعي خاص لما يقوم به، على عكس ما رسخ عنه في أذهان الناس، إذ بدت الفصائل أكثر حرصاً على سلامة المدنيين.. لكنَّ حذراً ما لم يزل كامناً في ضمير الناس بشأن أخطاء ارتكبت، خلال عهد جبهة تحرير الشام، في محافظة إدلب، أخطاء، ربما، كان لها علاقة بمواقفها من قضايا اجتماعية محددة.. قضايا لها علاقة بخصوصية بعض فئات المجتمع.
(5)
يعرف أن جرائم كثيرة، وفظيعة ارتكبها النظام قبل الثورة السورية، وبعدها. فهو أساساً قام على الجريمة، وقد تفاقمت نسبتها، بعد أحداث عام 2011 إذ أخذت شكل المجازر، وتكشف السجون المحرّرة كم كان يحدث فيها من جرائم لا يمكن لأحد أن يعبر عنها، ولا يوجد لغة تسعفه، إذ تتكشف وحشية ما كان يحدث من جرائم، فلا يمكن لأي كائن بشري أن يتصور مدى فظاعتها، ولعلَّ ما كتبه ميشيل سورا في كتابه “سورية الدولة المتوحشة” (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017) غيض من فيض، فقد وجدت في سورية ظاهرة قتل القاتل، أي التخلُّص من “الشاهد على الجريمة” تلك التي كان يفعلها المعز لدين الله الفاطمي، الملقب بالحاكم بأمره” حتى إن أخته تخلصت منه خشية منه على نفسها ، ومعروف أنَّ عبارة ساخرة درجت على ألسنة السوريين هي: “انتحر بثلاث رصاصات في الرأس..”.
(6)
أوَّل ما يهم الشعب السوري اليوم، هو الحفاظ على وحدة بلده أرضاً وشعباً، وإعلاء راية الوطن الواحد الموحّد، والانتماء إليه، والعمل على تمتين عرى روابط المكونات السورية، لا على أساس المحاصصة التي تتقاسمها زعامات سياسية تتعيش على حساب الطوائف! بل وفق مبادئ ديمقراطية، وعقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع، عقد تصونه قوانين واضحة تكفل حقوقاً متساوية في كل ما يخص شأن المواطن السوري، وبذلك فقط يمكن الانتهاء من قضية تحرير سورية من ربقة الاستبداد.
الأمر الثاني في غاية الأهمية، بل هو الذي يعطي الثورة السورية شرعيتها، فهو التنمية المستدامة التي تقوم على أسس علمية تحاكي حضارة اليوم، وتستفيد من إمكانيات البلد الطبيعية سواء تعلَّق الأمر بالصناعة أم بالزراعة أم بالسياحة أم بأي مجال متوفر يساهم في نقل سورية من عالم التخلف إلى عالم يليق بالحرية التي يقف السوريون اليوم على أعتابها.. فالعلاقة بين التنمية والحرية جدلية ترتقي بالعمل المبدع، وتفسح في المجال لوجود حال من التنافس البنَّاء لما فيه خير الوطن والإنسان.
(7)
أخيراً يمكن القول: إنه منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، سقطت الأيديولوجيات بكل مفاهيمها. بمعنى سقوط ما كان يعرف بنظام الحزب الواحد الأبدي، وسقطت معظم الدول التي كانت تدور في فلكه، وانتقل بعضها إلى بناء الدولة الحديثة، ولأن النظام الذي كان في سورية مشابهاً، لا يمكن أن يكون نشازاً في عالم شديد التواصل والتأثر فيما بين دوله وشعوبه، ولدى قيام الثورة السورية رفع بعضهم شعار: الأسد أو نحرق البلد.. احترقت البلد.. ومن هنا كانت فرحة الشعب يوم الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري على أمل الانتقال إلى نظام تشاركي حقيقي.. يلبّي حاجات شعبه ويودع الاستبداد السياسي إلى الأبد.
العربي الجديد
——————————–
من غزة إلى لبنان إلى سورية… الامتحان نفسه/ عباس بيضون
15 ديسمبر 2024
من غزة إلى لبنان إلى سورية، ولا ندري إلى أين بعد، إنما يظل يواتينا شعور بأن هذا التسلسل تمّ ببداهة وتلقائية غير منكَرة ولا مستغربة. كأنّ هذه الجهات خرجت، بعضها من بعض، رغم الفرق بينها، وهو فرق في كلّ شي. هناك الرابط الإيراني لكنه لا يكفي ليصل بين بلد محتلّ كغزّة، وآخر متعدّد كلبنان، ودولة محكومة من نصف قرن ويزيد من عائلة واحدة. ثمّة ما يجمع بين غزّة ولبنان، لكن الحدث السوري يبدو وكأنه المعنى البعيد لكل ذلك، يبدو وكأنه حلقة في مسلسل لا نعرف أين ينتهي، وما هي حلقته التالية. لنقل إن هذا المسلسل لا يبدو أنه سيبقى وقفاً على هذا المحور، أو أنه سينتهي هنا.
إذا قرأناه أبعد من تَتابُعه السياسي، وحتى الجغرافي، سيتراءى لنا أن قراءة عربية لما جرى مُمكنة، وأن الصدى العربي لما جرى قائم بارز، أن هذا المسلسل لن يبقى في محلّه، ولن يقف عنده. لا بد أن ما حدث هو، وإن تحت عناوين مختلفة، لا يستطيع أن يبقى في حدوده الجغرافية، إنه بدون شكّ عودٌ على مسار عربي، في جملته وفي ركيزته وفي أفقه. يكفي أن نتكلّم عن فلسطين، لنفهم أننا لا نزال هنا، حيال ما اعتبر باستمرار قضية العرب.
ليست حرب غزّة وحرب لبنان سوى هذا التجلّي الفلسطيني، ولا نفكّر كثيراً حتى نجد فلسطين في قلب الحدث السوري. لكن العنصر الفلسطيني هو الآن في مرحلة أُخرى، أو قد يكون انقلاباً على مراحل أُولى. انقلاباً على المسألة نفسها، أو صدى سلبياً لها، لكن مع ذلك تبقى في العمق الإيديولوجي العربي، عنواناً وركيزة لما يُمكن أن نسميه بالإيديولوجية العربية المعاصرة.
ما سُمِّي في حينه الربيع العربي الذي اجتاح العالم العربي، كان محاولة انقلاب على هذا المسار. لقد استُبعد فيه ما يرتدّ إلى الحلم القومي وعنوانه الفلسطيني، لتحلّ محلّه قُطرية ومشاريع من ذات الصنف. هذا الانقلاب لم يكن وجد قوى كافية، لتتراجع عن الإرث الإسلامي نحو المشروع الديمقراطي للدولة القُطرية. لم يغب الإرث القومي إلّا ليحلّ محلّه تطلُّع أسبق وأكثر رسوخاً هو التطلّع الديني. في سورية مثلاً لم تلبث الموجة الليبرالية أن انحسرت أمام مدّ إسلامي، كان الوريث، ليس فقط للدعوة الدينية، بل أيضاً للدعوة القومية التي تلقّت الهزائم، بدءاً بفشل الوحدة المصرية ـ السورية، وانتهاء بسقوط 1967، مروراً بفشل محاولات وحدوية أُخرى. لم يكن المدّ الإسلامي بحاجة إلى أكثر من ذلك، ليزدهر ويسود. لم يطلب منه الانتصار، معركتُه لم تكن الآن، لقد انتصر ولا يزال منذ عشرات القرون. كان يحتاج فقط، فوق الإيمان، إلى ركيزة إيديولوجية قدّمتها القضية الفلسطينية.
وجد الشيعة، وهم ورثة الظلم التاريخي في هذه القضية، ما يتماهى مع مظلوميتهم السالفة، فأسّسوا عليها، وجعلوا منها ركيزتهم الإيديولوجية. كانت كل ما يحتاجون إليه لاسترجاع زخمهم الموروث، وبناء مسألة وجود واسم آخر وعمق استراتيجي. كانوا في هذا ينسجون على غرار السنّة، ويضيفون إلى ذلك رعفاً تاريخياً ونزوعاً استشهادياً، وإلحاحاً استراتيجياً. كان للشيعة هذا المرجع الذي يحتاج إلى مزيد من التضحية، مزيد من الخسارة، لكي يعودوا “جند الله” و”جند الإمام”. هُم بالتأكيد جعلوا من ذلك واقعاً راهناً، وإن عاد إلى عشرات القرون، لكن إسلاماً كهذا لم يكن له ما أمامه. السنّة كان لهم تاريخ أسبق في العمل الإسلامي، كان الإسلام بالنسبة لهم صالحاً بتفاصيله وجزئيّته لكل يوم، لكن المعارك الطويلة التي خاضوها ودفعوا خلافها دماً وخسائر، كان لا بدّ أن تدعو، في يوم ما، إلى نوع من مراجعة، إلى قدر أكبر من التحديث.
انتظر هذا كلّ ذلك الوقت ليصل إلى تجارب، منها ما نراه في دول الخليج، ليصل بعد ذلك إلى أحمد الشرع في سورية. لا نعرف مليّاً أفكار واتجاهات الرجل، لكنّنا فوجئنا به، منذ اليوم الأوّل، لا يغيّر اسمه فحسب، بل يلوّح بحلّ تنظيمه. ذلك لم يُتح لنا أن نستخلص منه بعد، لكنه يدعونا إلى أن نفكّر بإسلام ديمقراطي. إسلام على غرار المسيحية الديمقراطية في الغرب. هل يُمكن أن ننفذ إلى العصر عن طريق الإسلام، هل نحن أمام إسلام حديث حقّاً، هذا سيكون امتحان الأيام القادمة.
العربي الجديد
————————-
هل ترى إسرائيل في أقوال الشرع تهديداً مبطناً؟/ يوآف ليمور
ما حصل في الشرق الأوسط نهاية الأسبوع يسمى في عالم كرة القدم “جس نبض”. تلك المرحلة الأولية من المباراة التي يفحص فيها أحد الفريقين الآخر قبل اتخاذ القرار في كيفية التقدم.
وصلت محاولات جس النبض تقريباً من كل جهة ممكنة. من سوريا، حيث أوضح زعيم الثوار أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) بأن ليس لمنظمته نية للدخول في نزاع مع إسرائيل، وأضاف بأنه لا سبب بأن تعمل إسرائيل عسكرياً بعد ابتعاد إيران. بالتوازي، توجه مندوبه في الأمم المتحدة بطلب لانسحاب الجيش الإسرائيلي من المواقع التي استولى عليها خلف حدود فصل القوات في الجولان السوري.
يمكن قراءة أقوال الشرع كمد يد (وإن كان في إطار اتفاق بارد من عدم القتال)، شيء ما في صيغة: إذا تركتم سوريا بهدوء، سنترككم بهدوء. وكأننا نرى فيها تحذيراً مبطناً بصيغة: إذا لم تتركوا سوريا بهدوء فلن نترككم بهدوء. هذه محاولة لشراء الهدوء له ولمنظمته كي ينظموا المنطقة التي احتلوها دون أن تعرقلهم الجهة القوية والسائدة في المنطقة – إسرائيل.
محاولات جس النبض جاءت من لبنان أيضاً. زعيم حزب الله، نعيم قاسم، اعترف في خطابه أمس بأن منظمته فقدت طريق التموين من إيران، لكنه أوضح بأنه مرن لإيجاد حلول أخرى. وقال إن منظمته تمتنع عن رد على “مئات الخروقات” لاتفاق وقف النار من جانب إسرائيل، وشرح بأن هذا يتم “للمساعدة في تنفيذ الاتفاق”.
قاسم، زعيم ضعيف وعديم الكاريزما، تحدث لعدة جهات بالتوازي: الأولى للثوار السوريين؛ الذي أمل ألا يتوصلوا إلى تفاهمات مع إسرائيل تفسر بأن عليها التوجه للسيطرة على لبنان أيضاً؛ أما الجهة الثانية فهي إسرائيل، التي وعدها بأن تكون منظمته “ولداً طيباً” وتنفذ التزاماتها؛ وأساساً للموالين له في الطائفة الشيعية في لبنان، ممن يتساءلون عن مستقبلهم وطالبهم بأن يتنفسوا عميقاً لأن المقاومة ستستمر.
وجاءت محاولات جس النبض مؤخراً من غزة أيضاً، مع نشر أشرطة حماس التي تستهدف تحدي إسرائيل في مسألة المخطوفين. فالمنظمة تبدي مرونة أكبر مما في الماضي، تفسر كاستعداد للوصول إلى صفقة. ولدى الجانب الإسرائيلي تفاؤل (حذر) في وجود احتمال لخطوة تعيد قسماً من المخطوفين في إطار “صفقة إنسانية” تتضمن النساء وكبار السن والمرضى.
المنشورات استهدفت فحص الأرضية
سطحياً، مطلوب التساؤل عم سبب تواصل إسرائيل التصرف وفقاً لمنحى صفقة على ثلاث مراحل، ولا تعمل على إعادة كل المخطوفين الأحياء والأموات في صفقة واحدة شاملة. كما يذكر، إن من بادر إلى التقسيم إلى مراحل هو نتنياهو؛ كي لا يكون ملتزماً بوقف تام للحرب برعاية القوى العظمى. والآن، مطلوب منه أن يوضح إذا كان بعض من المخطوفين سيبقون في غزة للسبب ذاته رغم هزيمة حماس عسكرياً.
إلى محاولات جس النبض هذه تضاف أيضاً إلى الأنباء التي نشرت في واشنطن تفيد بأن الفريق الذي يعد إدارة ترامب يفحص إمكانية هجوم على منشآت إيران النووية. هذا الموضوع كان على جدول الأعمال في أواخر ولاية ترامب السابقة، وسيطرح الآن على خلفية تقدم ممنهج لإيران نحو القنبلة، وأساساً خوفاً من أن يؤدي تفكك محور الشر بقيادتها إلى قرار منها لاقتحام النووي.
يبدو أن المنشورات هنا تستهدف أيضاً فحص الأرضية وربما لخلق ظروف للحوار. يفضل الغرب التوصل مع إيران إلى اتفاق نووي جديد ومتصلب يبعدها عن القنبلة لعشرات السنين، ويسحب منها أيضاً قدرات متطورة في مجال الصواريخ والإرهاب. التهديد المبطن من أوساط ترامب – إلى جانب منشورات مختلفة تتعلق بتسريع الاستعداد في إسرائيل لهجوم في إيران – ينبغي أن ترى كاستمرار لمحاولات جس النبض في اتجاه تواصلها في الفترة القريبة القادمة.
إسرائيل اليوم 15/12/2024
القدس العربي
———————
مؤرّخان إسرائيليان: إسرائيل تفوّت فرصة تاريخية في سوريا وتتعامل مع ثورتها بقصر نظر/ وديع عواودة
15 كانون الأول 2024
الناصرة-“القدس العربي”: يوجه مؤرخّان إسرائيليان انتقادات لاذعة لإسرائيل ويتهمانها بقصر نظر ومشاهدة المنطقة عبر فوهة البندقية فحسب فتفوّت فرصة استراتيجية في مجمل تعاملها مع الثورة السورية واستعداء السوريين. ويقول المؤّرخ الأديب آفي شيلون إن سقوط سوريا، إلى جانب وقف إطلاق النار الذي تمت المحافظة عليه أمام حزب الله الجريح، إلى جانب الأحاديث عن صفقة – جزئية كما يبدو- لتحرير المخطوفين من غزة، كلها أمور تضع إسرائيل للمرة الأولى، ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، في موقع تفوّق استراتيجي. كما يقول شيلون في مقال تنشره صحيفة “هآرتس” إن كان يبدو الوضع في بداية الحرب وكأن الحديث يدور بشأن حرب الأيام 1967 العربية، حين فقدت إسرائيل جزءاً من قوّتها بعد أن تمت مهاجمتها من الشمال والجنوب والشرق، فإن الأمور الآن يبدو أنها انقلبت، والسؤال الآن هو: “ماذا يمكن أن نفعل في ظل هذا التفوّق الاستراتيجي؟ بعد هذا التساؤل يرى شيلون أن إسرائيل كانت سابقاً أمام تفوق كهذا، لكن لم يتم استغلاله كما يجب: في 2011، بدأ الربيع العربي، الذي دفع إلى سقوط دول عربية، ووجدت إسرائيل نفسها كجزيرة من الاستقرار في منطقة مزعزعة، وحينها، غرق حزب الله في الحرب الأهلية السورية، وبدلاً من استغلال الوضع وضرْبه، فقد فضّلت إسرائيل الانتظار، إلى أن تمكّن من تعزيز قوته، وهاجمها في نهاية المطاف. ويمضي في نقده الارتجاعي: “كانت هناك أيضاً فرص كامنة سياسية في الربيع العربي، لكن بدلاً من الدفع قُدُماً بترتيبات مع الفلسطينيين عندما كنا في موقع قوة والعالم العربي ضعيف، فقد اختار نتنياهو أن يتفاخر حينها بما أطلق عليه اسم الجيل الذهبي لإسرائيل، واتهم معارضيه بأنهم نكديون. صحيح أن القضية الفلسطينية تراجعت إلى الهامش حينها، لكنها انفجرت في وجهنا لاحقاً وبوحشية في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وبذلك، تكون إسرائيل لم تستغل الربيع العربي لمصلحة مستقبلها أبداً، باستثناء اتفاقيات أبراهام التي كانت إلى حد بعيد بفضل إدارة ترامب”.
بين الجولاني والسادات
ويرى المؤرخ والأديب الإسرائيلي أنه على إسرائيل هذه المرة استغلال ضعف المحور الشيعي واستعادة قوة الردع والمبادرة من أجل ترجمة الإنجازات العسكرية إلى أرصدة سياسية. ويتابع “عملياً، أول ما يجب القيام به هو أن نطمح إلى صفقة شاملة في غزة تعيد المخطوفين في مقابل وقف الحرب، إلى جانب تبديل حُكم حماس المفكك أصلاً بالسلطة الفلسطينية الواعية إلى جانب وجود دول عربية هناك. وفي الوقت نفسه، يجب التوجه إلى الفلسطينيين باقتراح لتجديد محادثات السلام. نعم، في هذا الوقت تحديداً، من الواضح أن حماس فشلت، وأعداء إسرائيل في حالة ضعف، ويجب تحريك المسار السياسي مرة أُخرى. هذا سيساعدنا أيضاً في تحسين صورتنا في العالم”. كذلك يرى أنه يمكن أيضاً التفكير في مبادرة شجاعة مقابل سوريا الجديدة، فمن هذه اللحظة، بدأ الإيرانيون والروس والأتراك والأمريكيون يحاولون الحصول على تأثير في النظام. ويتساءل ما المانع من مفاجأة الجولاني بدعوته إلى زيارة القدس، وضِمنها الصلاة في الأقصى، بصورة شبيهة بزيارة أنور السادات سنة 1977؟ يبدو هذا خيالياً، لكن هذا يمكن أن يكون مبادرة أهم من زيارة السادات. وإذا وافق الجولاني، فيمكن أن تكون هذه الزيارة إشارة مصالحة مع العالم العربي أهم من زيارة السادات، وليس فقط مع دولة.
دعم الأكراد والدروز
كذلك وفي إطار استراتيجية عدم إبقاء الجغرافيا السورية سليمة يقترح شيلون أيضاً، عدم اكتفاء إسرائيل بوقف إطلاق النار مع حزب الله، بل أيضاً عليها أن تعمل على تحقيق اتفاق سلام مع لبنان، في الوقت الذي يفقد فيه حزب الله من قوّته وتأثيره وفي هذا السياق، يمكن التفكير في دعم حُكم ذاتي ثقافي للدروز في سوريا، وتقوية التحالف مع الأكراد. ويعتقد المؤّرخ الأديب الإسرائيلي أن هذا كله ممكن بسبب دخول ترامب البيت الأبيض والتاريخ يشهد أن نهاية الحروب مربوطة دائماً بفرص لتغيير الواقع، ولا يوجد وقت أفضل من الآن للتفكير بتغيير وجه الشرق الأوسط. من هنا يخلص للقول إن المطلوب هو قيادة لا تكتفي بالخطابات بشأن الإنجاز الاستراتيجي العسكري، وهو “إنجاز لن يبقى منه شيء إذا لم نستغل الوقت التاريخي الملائم”.
قصر نظر
ويتقاطع مع شيلون زميله المؤرخ الإسرائيلي درور زئيفي بقوله إن لسقوط النظام السوري أهمية في تاريخ الشرق الأوسط، فسوريا هي حجر الزاوية للعروبة، ومنها بدأت الثورة العربية في نهاية الحقبة العثمانية، وفيها أقام قائد الثورة العربية الكبرى الملك فيصل مقر حُكمه في نهاية الحرب العالمية الأولى، وفيها تبلورت الفكرة القومية مع تأسيس حزب البعث في الأربعينيات. في مقال نشرته “هآرتس” يرى زئيفي أن سكان المنطقة يعرفون الأهمية الرمزية لبلاد الشام، وما يجري هناك يؤثر في المنطقة كلها وإن تصريحات الزعماء الإسرائيليين وأفعالهم مؤذية بصورة خالصة. ويعلل رؤيته بالقول “يوجد بين المتمردين الذين سيطروا على سوريا سلفيون، وجهاديون، ومعتدلون، وموالون لتركيا، وأعضاء في تنظيمات كردية، ودرزية، وإسلامية – سنّية، لكن جميعهم يعلنون ولاءهم لسوريا في حدودها الحالية، وهُم يحاولون في هذه الأيام أن يرسموا للشعب السوري مستقبلاً من دون بشار الأسد وأعوانه، والجميع ينادي بالديمقراطية، حتى التنظيمات الراديكالية تبدي انفتاحاً”. ويوضح أن زعيم المتمردين أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) يعلن من على كل منبر سعيَه لإقامة نظام تمثيلي ومتسامح، حتى إزاء العلويين الذين يتماهون مع النظام السابق، ومن الممكن أن يَظهر لاحقاً كـ”إرهابي” يقود أنصاره في هجوم ضد إسرائيل، لكن الهستيريا في هذا الشأن مبالغ فيها؛ فإسرائيل أقوى من كل هذه التنظيمات، ومنذ قيام سلاح الجو بضرب وسائل القتال الكيميائية والسلاح الاستراتيجي، لم تعد لدى هذه التنظيمات القدرة على تهديد إسرائيل، وأكثر من ذلك، فإنهم مدينون بنجاحهم في إسقاط النظام إلى حد بعيد إلى الجيش الإسرائيلي والمعركة ضد حزب الله وإيران، وهم يعلمون ذلك.
المشروع الإيراني
وطبقا لزئيفي يشكّل وجود نظام ديمقراطي في سوريا أو قريب من الديمقراطي، ويعارض التدخل الإيراني، ميزة مهمة بالنسبة إلى إسرائيل؛ فهو سيضمن عدم انتقال السلاح إلى حزب الله، وسيطرد الميليشيات الإيرانية التي استقرت في سوريا، ويقتلع المشروع الإيراني للعمل المشترك المتعدد الجبهات للقضاء على إسرائيل من جذوره، كما سيفتح الباب نحو السلام في المستقبل. ويقول في هذا المضمار إن الأزمة السورية تفتح أبواباً؛ فاستقرار سوريا هو مصدر قلق مشترك لإسرائيل وتركيا، الأمر الذي يسمح لهما بالجلوس معاً والتحاور فيما بينهما، كما يمثل ذلك مصلحة مهمة لروسيا والولايات المتحدة، الأمر الذي يضع إسرائيل في موقع مؤثر إزاء الدول الكبرى. بالإضافة إلى ذلك، يرى المؤرخ الإسرائيلي أنه بعد الضربة المباشرة التي تلقتها إيران وانهيار أذرعها، توجد في إيران أطراف قوية يهمها فحص السياسة العسكرية. صحيح أن المرشد الأعلى علي الخامنئي يعارض خطوة كهذه، لكن صوت المجموعات المعتدلة آخذ في الارتفاع.
النظر للمنطقة عبر فوهة البندقية
وضمن نقده لسياساتها يقول إنه في مواجهة هذا كله، تتصرف إسرائيل بعنف وقِصَر نظر؛ فهي تحتل أراضيَ، وتضع نفسها من البداية في موقع معادٍ لسوريا. ويرى أنه بدلاً من ذلك، فإنه فور سقوط النظام السوري، كان يتعين على قادة إسرائيل تهنئة الشعب السوري على الإطاحة بالنظام، وإعلان سرورهم لإقامة علاقة سلام وأُخُوَّة. ويرى أنه من شأن التفكير الاستراتيجي الذكي أن يحضن سوريا الجديدة ويدعوها إلى الانضمام إلى الكتلة المعتدلة، وإن توجهاً كهذا كان يمكن أن يساعد في إعادة صوغ “الحلف الإبراهيمي”، وفي التقرب والتطبيع مع السعودية، والتخفيف من العداء في العالم ضد إسرائيل، لكن مع قِصَر النظر في المستوى السياسي، فإن من يوّجه السياسة هو المنظومة الأمنية، ويجب على قادة هذه المنظومة أن يتوقفوا عن رؤية كل التطورات عبر فوهة البندقية، وأن يفكروا في طريقة استراتيجية.
القدس العربي
———————
دريد لحام وبشار الأسد وتكلفة الاستبداد الفادحة/ مصطفى عبد السلام
15 ديسمبر 2024
لخص الفنان السوري، دريد لحام، أمس السبت، فترة حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد، التي دامت نحو ربع قرن، وتكلفة الاستبداد الفادحة التي لحقت بسورية، قائلاً إن “فروع مخابرات الأسد كانت أكثر من عدد المدارس في سورية، وإن الأسد حوّل سورية إلى الرأي الأوحد بلا أي معارضة”. وفي إشارة إلى أولويات واهتمامات نظام الأسد وحرصه على إغراق السوريين في الأزمات المعيشية وتغييبهم عن الوعي، قال لحام إنه “يريد سورية بدون مصانع كبتاغون تابعة للسلطة”، مؤكداً بأسلوبه الساخر والتهكّمي الهادئ “لو كنت تماديت في انتقاد بشار الأسد لاستخرجتم عظامي من سجن صيدنايا”.
ولمن لا يعرف الكبتاغون فهو مخدر كان ينتجه نظام بشار الأسد والمليشيات التابعة له ورجال الأعمال المحسوبون عليه، لترويجه داخل الأسواق المحلية، وإغراق الدول المجاورة به، ومنها دول الخليج وتركيا والأردن والعراق، وغيرها من دول العالم.
بل وحول نظام الأسد هذا المخدر إلى تجارة رابحة ونشاط تصديري يتربح منهما ملايين الدولارات التي تعوّضه عن تراجع حصيلة النقد الأجنبي، بسبب تهريب الأموال إلى الخارج وتهاوي أنشطة الصادرات والسياحة وتحويلات المغتربين والاستثمار الأجنبي وغيرها.
دريد لحام الذي كان من أشد الداعمين لنظام الأسد، الأب والأبن، لخص سمات الحاكم الطاغية وحكم الفرد المطلق، فآخر ما يهم هذا الحاكم المفروض على شعبه بقوة السلاح هو إقامة المدارس والجامعات والمستشفيات ودور الرعاية الصحية ومؤسسات البحث العلمي، وتحسين الخدمات العامة من تعليم وصحة ورواتب وأجور وبنية تحتية وشبكات طرق وكهرباء ومياه وصرف صحي واتصالات.
فكل ما يهم هذا الحاكم هو دعم حكمه، وبشكل مطلق، ونشر ثقافة الرعب والترهيب بين المواطنين، وإقامة مزيد من السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة، ولذا فإن الجزء الأكبر من مخصصات الدولة السورية كان يوجه لتحقيق هذا الهدف وأهداف أخرى، منها قتل السوريين المعارضين وسجنهم، وتحسين أحوال داعمي النظام من منتمين للمؤسسات الأمنية والإعلام والقضاء، وذلك على حساب تحسين الأحوال المعيشية للمواطن، وكبح الغلاء، ودعم استقرار الأسواق، وتحسين الرواتب، وتقوية العملة المحلية الليرة، وتوفير فرص عمل لملايين الشباب، ومكافحة البطالة والعشوائيات.
ونتيجة تكلفة الاستبداد الفادحة هي انهيار نظام الأسد في أيام معدودة، وهروب بشار إلى روسيا، تاركاً خلفه حزباً يتهاوى بسرعة البرق، ونظاماً قمعياً ينهار بين ليلة وضحاها، بعد أن قضى ووالده خمسة عقود في الحكم. كما ترك خلفه اقتصاداً متهاوياً، وبنية تحتية متردية، وخدمات لا تليق بمواطن يعيش في العصور الوسطى، وديوناً ضخمة، وتبعية للحلفاء، ورهن مقدرات الدولة.
الاستبداد والطغيان والديكتاتوريات المطلقة لن تحمي وطناً، بل تضيّع دولاً وأوطاناً وإمبراطوريات كبرى كما يخبرنا التاريخ، والأمثلة كثيرة، أين الاتحاد السوفييتي، وألمانيا هتلر، وإيطاليا موسوليني وغيرهم من القوى العالمية الكبرى التي انهارت بسبب الطغيان وحكم الفرد؟، وما هو مصير طغاة أمثال ستالين ولينين وعيدي أمين وهوشي منه وبول بيا وغيرهم؟
الاستبداد لا يصنع استقراراً حقيقياً، بل يصنع استقراراً مزيفاً وهشاً أقرب إلى بيت العنكبوت، وتكون نتيجته النهائية هي الفوضى، وكذا لا يحمي الاستبداد الحاكم الفرد من السقوط المدوي والسريع مهما بلغ جبروته. والوطن هو من يتحمل تكلفة الاستبداد في النهاية.
وقد تفوق تكلفة الاستبداد وكلفة الطغيان أعباء الحروب الأهلية، خاصة إذا ما صاحبه انتشار أمراض خطيرة، منها القلق والغموض السياسي واللايقين، وهذه الأمراض لها انعكاسات شديدة على كل شيء، بداية من الوطن واقتصاده، ونهاية بمناخ الاستثمار، فالحروب لها بدايات ونهايات، منتصر يسعى إلى وضع نهاية سريعة للحرب وتعظيم مكاسبه، ومهزوم يسعى لطي تلك الصفحة حتى يحصي خسائره، ويقلل منها ويحجّمها.
أما المستبد فلا يهمه تهدم دولته، وآخر ما يشغله قضايا من عينة بناء وطن وتحسين حال المواطن وتقوية الاقتصاد، ولا يعنيه انهيار دولة ومقوماتها، سواء الاقتصادية أو الجغرافية أو حاضرها ومستقبلها، كل ما يهمه هو أن يظل في السلطة وللأبد، لذا يوجه معظم ثروات ومقدرات الدولة نحو زرع ثقافة الخوف في قلوب الناس، وتغييب الوعي، ونشر الفساد. وهذا ما فعله بشار الذي كان كل ما يشغله هو نشر ثقافة القتل والتخويف، والاختفاء القسري، وتغييب الوعي.
العربي الجديد
————————–
القوميون: صدمة وراء صدمة/ صلاح الدين الجورشي
15 ديسمبر 2024
ما كُشف عنه في مراكز الاعتقال في سورية فاق الخيال وهزّ الوجدان وأذهل الأطفال الرضّع. ما الذي فعله هؤلاء المساجين حتى يتعرّضوا لمثل هذه الوحشية. لقد انهار حزب البعث منذ أصبحت الانقلابات وسيلته المفضلة لاغتصاب السلطة، وملاحقته المثقفين الأحرار، وحرمان معارضيه جميع حقوقهم، وتجريم الاختلاف في صفوفه، وترهيب القوميين الحقيقيين، والشروع في تأليه الحاكم بأمره.
كنتُ أناقش صديقاً من القوميين العرب في تونس. واستغربت دفاع حزبه المستميت عن بشّار الأسد ومساندته المطلقة سياسات “البعث” السوري، رغم كونه ناصرياً، فأجابني بأن الواجب كان يقتضي الوقوف إلى جانب سورية باعتبارها المعقل الأخير للتصدي للهجمة الصهيونية، وطرفاً أساسيّاً في جبهة الصمود والممانعة. أيّدته في هذه المسألة، رغم أن الأسد قبل عملياً باحتلال إسرائيل هضبة الجولان، وتجنّب الاشتباك معها. لكن المشكلة تبقى أعمق من ذلك. لا أفهم أن يكون المرء مدافعاً في بلاده عن الحرّيات وحقوق الإنسان، ويندّد بالانتهاكات التي تقوم بها السلطة، عندما تعتقل مواطناً من دون احترام الإجراءات القانونية، فيما يُسكَت عن مجازر نُفذت ضد معارضين في بلدٍ يحكم باسم القومية العربية، بحجّة أن الأولوية تقتضي تعزيز صموده في وجه إسرائيل، بل وتصديق اتهامه معارضيه بأنهم إرهابيون أو عملاء للإمبريالية.
هل يُعقل اليوم أن يستمرّ الدفاع عن الحقبة السابقة لنظام الأسد رغم الجرائم التي ارتكبها في حق السوريين؟ على القوميين وغيرهم في تونس وفي البلاد العربية التخلّص من الازدواجية المقيتة التي وجدوا أنفسهم يعانون منها، فالواجب السياسي والأخلاقي يفرض عليهم أن يراجعوا أنفسهم، وأن يصحّحوا مساراتهم في ضوء التحولات الجارية، وأن يتخلّصوا من الحرب الدائمة ضد الإسلاميين، وهي العقدة التي دفعت بعض القوميين واليساريين إلى تأييد تجريد هؤلاء الخصوم من حقهم في الحياة والحرية والكرامة، فالحقوق لا تتجزأ، ولا تقبل الاستثناء، فتمنح لبعض ويُحرم منها آخرون. على كل ديمقراطي متصالح مع نفسه تجنّب الوقوع في التناقض على صعيدي الخطاب والممارسة.
تغير المشهد بالكامل في سورية، ومع ذلك لم يغيّر بعضهم من مواقفهم السياسية والأيديولوجية، رغم أن الرجّة كانت قوية، وهذا ما يفسّر انكفاء الأحزاب والجماعات القومية وتردّدها في إصدار بياناتٍ تعكس تقييمها هذا الحدث الضخم الذي فاجأهما كما فاجأ الجميع. والسؤالان هنا: هل سيتحرّرون من ماضيهم؟ وهل سيدينون التجربة السورية كما سبق لبعضهم أن انتقد بوضوح التجربة الناصرية، فيتبرأوا من جوانبها المظلمة وخفاياها المقرفة؟
ليس الهدف من هذا القول إدانة التيار العروبي، الذي يبقى تياراً وطنياً أصيلاً ومتجذّراً في البيئة المحلية عربياً وتونسياً، بل الغرض مساعدة كثيرين من أبناء هذا التيار على ممارسة النقد الذاتي، والاستفادة من أخطاء الماضي، والتخلّص من الرهانات الخاطئة والتحالفات السياسية والأيديولوجية مع أنظمةٍ فقدت مصداقيتها منذ عشرات السنين. كذلك، إن هذا الحديث لا يرمي إلى إنهاء الصراع مع الإسلاميين، فذلك صراعٌ تاريخيٌّ له مبرّراته الفكرية والسياسية، وقد يشكل، في حد ذاته، واحداً من مظاهر الحيوية داخل النخبة العربية. وفي المقابل، يجب إبعاد هذا الصراع عن الأجواء المشحونة التي ترمي إلى الإقصاء المتبادل، فتكون النتيجة خسران الجميع، والأخطر تسميم الأجواء وتعميق الكراهية وتثبيت قواعد الاستبداد، والتورّط في حروب وهمية، فالحدث سوريٌّ بامتياز، لكن ما يجري في الفضاء الافتراضي يشبه، في حدّته ومصطلحاته وردود أفعاله، أجواء حرب أهلية طاحنة دون سلاح. وفي غياب العقلانية، يتوقف الوعي، وتنتفي الرغبة في الاستماع إلى الآخر المختلف.
تداركت السلطة التونسية الخطأ الذي ارتكبته قبل أيام قليلة من انهيار نظام الأسد عندما أصدرت وزارة الخارجية على عجل بياناً غريباً، ساندت فيه النظام السابق، ووصفت المعارضين له بالإرهابيين. وعندما حصل السقوط، عدّلت الموقف، واعترفت بالوضع الجديد. والمطلوب حالياً أن يراقب التونسيون ما حدث في سورية، ويتعاملوا معه بواقعية وحكمة، وأن يتهيأوا نفسياً وسياسياً للتعامل مع النظام الجديد ورموزه بحذر، ولكن بروح بنّاءة ورغبة جادّة لبناء الثقة من جديد.
العربي الجديد
——————————
إسرائيل وسورية الجديدة/ محمد أبو رمان
15 ديسمبر 2024
بالرغم من أنّ إسرائيل لم تكن على علاقةٍ جيدةٍ بالرئيس السوري السابق، بشّار الأسد، وبالرغم كذلك من تزامن تهديد بنيامين نتنياهو له مع انطلاق عملية “ردع العدوان” (أتت على نظام الأسد وأنهته)، إلا أن علاقة إسرائيل بسورية الجديدة أكثر تعقيداً أو تركيباً مما يظن أو يحاول بعضهم تبسيطه، خاصة من النخب السياسية العربية التي تعاملت مع الأمر وكأنّه انتصار إسرائيلي. ولست هنا في وارد مناقشة هذه النخب، إنما من المهم أن نحلل دور العامل الإسرائيلي في المرحلة المقبلة.
عندما نقول العامل الإسرائيلي، من الضروري أن نأخذ في الاعتبار أن إسرائيل تعني أيضاً المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وهذه مسألةٌ لم تعد بحاجةٍ إلى البرهنة أو التأكيد عليها، ولا يوجد أكثر تأكيداً وتعزيزاً لهذه الدعوى من الحرب على غزّة والموقف الأميركي فيها، ثم التصريحات الأميركية المرتبطة بسيطرة المعارضة على الحكم في سورية، التي لم تخلُ من التأكيد على أمن إسرائيل وتبرير احتلال الأخيرة أجزاء جديدة وواسعة من الجنوب السوري بذريعة حماية الذات، وهو الأمر الذي لم يتوان مستشار الأمن القومي الأميركي، جاك سوليفان، عن إعطاء المبرّرات لإسرائيل بهذا العمل العدواني الصارخ، وحتى بتدميرها مخازن الأسلحة الاستراتيجية وسلاح البحرية والجو السوري، بلا أي رقيب ولا حسيب!
لماذا وصفنا علاقة إسرائيل بالأسد وبالثورة السورية بالمركّبة؟ لأنّه بالرغم من العداء التاريخي بين نظام الأسد وإسرائيل، ودور الأسد المعروف بدعم حزب الله وعلاقته العضوية بحزب الممانعة الإقليمي، بقيادة إيران الذي أصبح يمثل في الأعوام الأخيرة أحد أبرز مصادر تهديد الأمن الإسرائيلي؛ إلاّ أنّ هنالك ضمانات وتفاهمات ضمنية وعُرفية بين الأسد وإسرائيل، ليست جديدة، بل تمتد إلى عقود طويلة، وتتمثّل في الحدود الآمنة والمستقرة بين الطرفين، ولا أبالغ أو أتجاوز في القول بأن “العامل الإسرائيلي” لعب لصالح الأسد خلال الربيع العربي من خلال وصول الإدارة الأميركية، في مرحلة باراك أوباما، إلى قرار عدم التدخل لإسقاط الأسد، بذريعة الخشية من “البديل الإسلامي” أو الأصولي.
اختلف الوضع بصورة كبيرة بعد الحرب على غزّة، عندما دخلت إسرائيل بصورة مباشرة، للمرّة الأولى، في حربٍ كبيرة مع إيران ومع أذرعها، فتكوّنت نظرية جديدة في الأمن الإسرائيلي ذات طابع جيو استراتيجي تقوم على ضرورة إنهاء النفوذ الإقليمي الإيراني، والخاصرة الرخوة كانت في هذه المعادلة هو بشار الأسد، الذي كان لديه إدراك شديد بأنه سيكون أول من يدفع الثمن في هذه الحرب الإقليمية، لحجم هشاشة نظامه السياسي. لذلك حاول وحرص على أن يكون محايداً، مما أزّم وضعه أكثر مع كل الأطراف، وكان أحد الخارجين الأوائل من اللعبة الإقليمية الجديدة!
في المقابل، لا يعني ذلك أن إسرائيل كانت ترحّب أو ترغب في التغييرات الجوهرية التي حدثت بإسقاط الأسد. وما يبدو من السلوك العدواني الإسرائيلي أن حكام تل أبيب لم يكونوا متوقعين هذا السيناريو، ربما كانت لديهم معلومات استخباراتية، وربما كانوا على علم بوجود ترتيبات إقليمية تركية وسورية داخلية، لكن حجم الانهيار الفوري والسريع لنظام الأسد، أدخل المخطّطات والتصوّرات الإسرائيلية في مأزق حقيقي، لأنها لا تعرف الكثير عن البديل الجديد، ولا عن الإسلاميين الثوريين والمسلّحين. لذلك سارعت إسرائيل إلى اتخاذ خطوات عسكرية وتدمير الترسانة السورية العسكرية، التي لم تعد في “أيد أمينة”، قبل أن تتشكّل قواعد جديدة للعبة. من هنا يأتي الرهان على زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، والأدوار، التركي والقَطري والإقليمي عموماً، لتأطير المشهد السوري في سياقٍ لا يشكل تهديداً للأمن الإقليمي، وفي الوقت نفسه، تضمن إسرائيل عدم وجود تيارات إسلامية معادية على حدودها!
لماذا لم يردّ أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع (حالياً) على الاحتلال الإسرائيلي؟ من يتخيّل أن هذه الجماعات تعيش في الفراغ أو خارج سياق الحسابات السياسية والواقعية، فهو لا يعرفها مطلقاً. هي تتحرّك في سياقات واقعية وتأخذ في الاعتبار الأبعاد الداخلية والإقليمية، والجولاني يدرك تماماً ماذا تعني إسرائيل لأميركا، وهو مرتبط بالتحالفات الإقليمية، وقبل أن يتواجه مع الاحتلال الإسرائيلي فإن أولويته (وهذا تفسير وليس تبريراً) تأمين الحالة السورية الداخلية التي تواجه مخاطر وتحدّيات كبيرة، قد يكون بينها التقسيم أو الحرب الداخلية.
————————
سوريا وأولوية الدفاع عن الثورة/ صبا مدور
الأحد 2024/12/15
أسئلة السوريين أقل كثيراً من الآخرين. السوريون منشغلون منذ انتصار الثورة بفرحة الخلاص من الاستبداد، وبالبحث عن عشرات الآلاف من أحبائهم المختفين في سجون النظام، العلنية والسرية. منشغلون بالفخر، والأمل، واستيعاب اللحظة التي لم تكن في وارد حسابات أحد.
وفي خضم ذلك، ينشغل الآخرون بحسابات “اليوم التالي”، وبالأسئلة الطويلة عن نوايا “الفاتحين”، وما يضمره أحمد الشرع ورفاقه، ومن يقف وراءهم، وكيف تسنى لهم أن يفاجئوا العالم بالقضاء على نظام الأسد في عشرة أيام؟ أسئلة كثيرة بلا إجابات عن انهيار جيش النظام، وشبيحته والعشرات من الميليشيات والأفرع الأمنية واختفائها كأنها قد ذابت في الأسيد.
وسط هذه الأسئلة ذات الأهداف الخبيثة في معظمها، لا يمكن ان يغفل أحد، حذر الجميع من انتقاد الثورة أو فاعليها. حتى ايران وتوابعها ابتلعت الهزيمة كالسم وصمتت، أو انها على الأقل لم تتشبث بميراث الأسد الذي كانت هي جزءاً منه، فيما انتقلت دهشة العالم من منظر النصر السريع والحاسم للثورة، إلى مشاهد القدرة والنضج والمسؤولية والرحمة والتعامل بمنطق الدولة، حتى بدأت دول مجاورة بالمقارنة السريعة بين سلوك الثوار السوريين بعد سقوط الاستبداد، وبين تجارب قريبة سقطت فيها النظم الحاكمة فسادت الفوضى، وروح الانتقام، وتهديم المؤسسات، وصراع السلطة.. وهو ما بات يحرج أصحاب تلك التجارب، ويقدم الثورة السورية بنمطها الملهم بعد النصر، مثلما كانت عندما انطلقت أول مرة.
سوريا الملهمة هذه، هي ما يشغل قوى وحكومات، ويجعلها تخشى من انتقال “عدوى” الثورة إليها، كما يجعلها تسعى لتجنب أسئلة عن الإخفاق في أن يكونوا مثلما فعل السوريون، أو مثلما سيكونون بسرعة ومن دون إبطاء، ولذلك نسمع عن اجتماعات لأجهزة مخابرات دول معينة، لبحث المخاوف من استلهام نجاح الثورة في سوريا، في بلدان أخرى.
هذا الأمر هو ما يحفز الكثيرين للنيل من سوريا وثورتها، لأنهم باختصار، لا يريدون نجاحاً يقارن بفشلهم في الحكم، ولا ثورة صبورة وعنيدة يمكن أن تمنح الشعوب المقهورة في منطقتنا حافزاً للأمر ذاته. فما دام نجح في سوريا، فلماذا لا يحصل الأمر ذاته مع دول أخرى حولها.
هذه المخاوف لا تشغل السوريين، فهم في وسط لحظة تاريخية كبرى، وما لديهم من أولويات يفوق أوهام الآخرين أو قلقهم، أو انزعاجهم من نجاح الثورة وسقوط الطاغية، وغالبيتهم كان من مناصريه أو ممن حاولوا إعادة إنتاجه، ورسموا حوله أماني وأهداف، من دون حساب لما فعل من شرور كبرى بحق شعبه، وما زال، حتى جاءتهم صاعقة سقوطه السريع من حيث لم يحتسبوا.
كان ذلك السقوط لوحده كارثة شملت دولاً عدة، اختلفت في أسباب دعمه. أما طريقة سقوطه وهروبه المهين، فذلك زاد في كارثة الرهان على قاتل علني، ومنحه المنابر ليكذب على الناس علناً، قبل أن يظهر الثوار الذين أسقطوه، بشكل لا يبقي فرصة حتى لانتظار “اختبارهم” على طريقة الأميركيين المولعين بممارسة دور المرشد العالمي، رغم أنه مارس الدور نفسه في العراق قبل 21 عاماً وتسبب بكارثة لذاك البلد وحمام دم، ما زالت آثاره وتداعياته حاضرة بقوة حتى اليوم.
غير أن عدم اكتراث السوريين بما يخشاه أصحاب “الكبائر” من فضائلهم، لا يتوجب أن يبعدهم عن النظر لما يمكن أن يفعلوه ضدهم، أو للنيل من ثورتهم وأمننهم، سواء بالدعاية والتضليل، أو بدعم قوى معادية للثورة في الداخل من بقايا النظام المخلوع، أو بتدبير اختراقات أمنية يمكن أن تجبر القيادة الجديدة على إجراءات أكثر حزماً لحفظ الأمن، فيستغلها هؤلاء لمزيد من الدعاية والتضليل.
كل ذلك متوقع منهم. فهم ما زالوا في مرحلة الصدمة، ويبقى أسوأ من عهد الأسد، الذي لا يوجد ما هو أشد سوءا منه، هو إضاعة هذه الفرصة التاريخية التي توفرت للشعب السوري لبناء دولة المواطنة والمساواة والكرامة. وهي فرصة قد لا تتكرر. لذلك من المهم أن يعرف السوريون أن الدفاع عن الثورة ليس بأقل صعوبة وأهمية من القيام بها، وأن منع الثورة المضادة المقبلة من الخارج بأدوات داخلية، أولوية مطلقة لحماية منجزنا التاريخي.
المدن
————————-
عندما تحكم العصابة بلداً: تعذيب ومقابر جماعية ومصانع مخدرات/ وليد بركسية
الأحد 2024/12/15
بعد أسبوع على سقوط النظام السوري، عادت وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية إلى البلاد التي كانت أشبه بثقب أسود، نتيجة التعتيم الإعلامي المفروض عليها وبشأنها من قبل نظام الأسدين منذ سبعينيات القرن الماضي. واليوم بات المراسلون والصحافيون يتنقلون في جولات سريعة من سجن تحت الأرض إلى معتقل سيئ السمعة إلى مركز للتعذيب. ويمرون في طريقهم بعدة مقابر جماعية، ويختمون جولتهم بأحد معامل الكبتاغون والمخدرات التي أغرقت الشرق الأوسط، أو في أحد أنفاق القصور الفاخرة التي عاشت فيها العائلة الحاكمة البائدة، منصدمين في النهاية من وكر المافيا الذي كان يطلق عليه تسمية “سوريا الأسد”، وتم تقديمه على مر السنوات على أنه دولة حضارية علمانية، ضمن الخطاب الرسمي.
والصدمة التي تنقلها وسائل الإعلام من ذلك “الاكتشاف” يمكن ملاحظتها في مواقع التواصل، حتى بين السوريين أنفسهم، ممن كرروا أنهم كانوا يدركون وجود تلك الانتهاكات لكن “ليس بهذا الحجم”، وغيرها من العبارات التي تعطي انطباعاً بأن كل ما كان يكتب من قبل الصحافيين المستقلين والمثقفين السوريين والمنظمات الحقوقية العالمية، لم يكن يصل إلى أحد، خصوصاً ما يخص موضوع التعذيب والمعتقلين الذين كانت صورهم تملأ الفضاء العام طوال الأسبوع، إثر تحريرهم من معتقلات أبرزها “سجن صيدنايا العسكري” الذي وصفته منظمة العفو الدولية “أمنستي” العام 2017 بـ”المسلخ البشري”.
ومنذ العام 2016 أصدرت “أمنستي” تقارير مطولة عن سجن صيدنايا، بما في ذلك تجارب ثلاثية الأبعاد حاولت فيها شرح الرعب هناك بالاستناد لشهادات الناجين القلائل، ومنذ عقود تتحدث المنظمات الحقوقية العالمية عن ممارسات النظام السوري القائمة على الاعتقال والتعذيب بحق المعارضين والصحافيين والمثقفين تحديداً، رغم أن تلك الممارسات تطال أفراداً لا ينشطون حتى في السياسة والثقافة لمجرد خلافات مع ضباط نافذين أو لزواج أحدهم من امرأة يهودية، وغيرها.
وتنتشر اليوم تبريرات تفسر عدم قدرة الصحافة على التأثير في الموضوع السوري، بالقول أن مشاهدة الصورة تختلف عن قراءة كلمات مكتوبة، ورغم أن ذلك صحيح جزئياً إلا أن الحدث السوري شهد حالة بصرية صادمة، حتى في موضوع المعتقلين، بدليل تسريب 55 ألف صورة لـ11 ألف سجين قتلوا تحت التعذيب، وقدمها المصور “قيصر” وعرضت في قاعات الكونغرس الأميركي منذ العام 2014.
وفي العام 2012 اعتبر نظام الأسد الثورة ضده “فبركة إعلامية” وطرد وسائل الإعلام العربية والعالمية من البلاد معتمداً على “الإعلام الوطني المقاوم”. علماً أن العقود السابقة لذلك لم تكن أفضل حالاً حيث كان النظام يتحكم بالمعلومات من دون وجود لإعلام مستقل، وحتى الإعلام العالمي على قلته كان يعمل تحت إشراف وضغوط، حسبما تظهر تتبع بيانات لمنظمات حقوقية متخصصة بحرية الصحافة.
ولعل قبول نظام مجرم مثل نظام الأسد طوال عقود وتقديمه كنظام شرعي لعدم وجود ثورة ضده بنفس حجم ثورة العام 2011، كان يعطي انطباعاً بالاستقرار في سوريا بوصفها دولة آمنة تتواجد فيها انتهاكات قليلة هنا وهناك، وأن المشاكل الحقيقية بدأت فقط بعد العام 2011، وهي سردية رائجة في كثير من التغطيات الإعلامية التي تقدم نضال الشعب السوري للحرية كحراك قصير منذ العام 2014 وليس كنضال مستمر عانى من القمع والتنكيل منذ 54 عاماً.
واعتمد النظام السوري المخلوع على الدعم الدولي لتثبيت صورته كدولة علمانية مستقرة، بينما كان يمارس أبشع أنواع القمع في الداخل، مستفيداً من تحالفاته مع قوى مثل الاتحاد السوفياتي ثم روسيا، التي ساهمت في تقديمه كحليف استراتيجي ضروري للمنطقة بوصفه حارساً للبوابة من الجهاديين والإسلاميين، الذين بحسب البروباغندا الأسدية يمكن أن يتدفقوا على أوروبا والغرب، فيما كرس نظام الأسد فكرة أنه دولة مركزية مؤثرة يتم استهدافها بسبب مواقفها الأخلاقية والثابتة.
طبعاً، كان ذلك التوصيف، يجافي الواقع، لأن سوريا الأسد نفسها بالموازين السياسية والاقتصادية والثقافية لم تكن دولة مؤثرة إلى حد تجاهل مأساتها الإنسانية، حيث لا تسهم في الاقتصاد العالمي بموارد ضخمة، ولا تقدم مراكز أبحاث علمية متطورة ولا حتى تنتج أفكاراً تنويرية عبر الفنون والآداب والعلوم الإنسانية (إلا على مستوى أفراد وبجهود ذاتية، وغالباً ممن غادروا البلاد واستفادوا من مناخ الحريات الغربية)، مع الإشارة إلى سوريا، الدولة التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن طوال تاريخها القصير، سوى عقبة صغيرة ضمن نظام التجارة العالمي القائم على المبادلة الحرة والعولمة والاقتصاد المفتوح.
ومنذ سنوات طويلة أدرك قادتها المحدودون ذلك، ربما، ليحولوا البلاد إلى دولة مُصدّرة للأزمات إلى الجوار، وحولوها بذلك الى ورقة ضغط وحيدة وثمينة من أجل بقائهم كنظام واستمرارهم في السلطة، عبر ديناميكيات مع القوى الإقليمية والدولية، بما في ذلك تجارة الأسلحة والتهريب في الثمانينيات والتسعينيات، أو دعم الجهاديين والتسامح معهم كما كان الحال إبان غزو العراق، وصولاً إلى تجارة المخدرات وتصنيع الكبتاغون وانتهاكات حقوق الإنسان، التي كانت مجرد أوراق للضغط من أجل البقاء في السلطة، وربما لهذا السبب يجب رفع شعارات تدعو العالم ككل للتوقف عن التفاوض مع المبتزين والمجرمين والخاطفين وزعماء العصابات، حتى لو كانوا يأتون بصورة رؤساء لدول.
وعدم أهمية سوريا بالتحديد، هو ما أبقى النظام المخلوع على قيد الحياة لمدة 54 عاماً، حيث كان النظام مستعداً للمغامرة عسكرياً ضد شعبه وتجاوز الخطوط الأميركية الحُمر باستخدام الأسلحة الكيماوية، لأن المنطق الواضح يقول أن أحداً لم يكن على استعداد لتدخل عسكري ضده على غرار إطاحة صدام حسين العام 2003، وهو الحدث الذي كان مخيفاً للنظام السوري حينها، إلى حد أنه بعد اغتياله لرئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، اضطر للانسحاب من لبنان والانفتاح قليلاً على الغرب، ولو لم يستمر ذلك طويلاً.
ويعني ذلك أن كثيراً مما كان يكتب لم يكن مؤثراً، ربما بسبب أن سوريا ليست تلك الدولة المؤثرة والتي مهما صدرت قيادتها السياسية المخلوعة صورة عنها كدولة مركزية تبقى مجرد دولة هامشية لا تحظى باهتمام يتجاوز الأمنيات بمستقبل أفضل، خصوصاً بالنسبة للجمهور العالمي، خصوصاً مع تقديم الموضوع السوري قبل سقوط النظام وبعده، كجزء من الأخبار الدولية التي تجري في مكان بعيد، بدلاً من تقديمها كما هي عليه بوصفها جزءاً من فيلم رعب طويل امتد طوال 54 عاماً، وكتراجيديا محزنة يجب أن تشعر البشرية ككل بالعار على استمرارها طوال تلك العقود.
والتعتيم الإعلامي الرسمي والتغطية الإعلامية الخارجية التي كانت تعطي الشرعية للنظام بوصفه جزءاً من الاستقرار الإقليمي مثلاً، شكلت انعكاساً للسياسات الرسمية بهذا الخصوص، وأسهمت في إطالة أمد الانتهاكات عبر تجاهل الجرائم المرتكبة والتي ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية بحسب “هيومن رايتس ووتش” و”أمنستي”، من قبل المجتمع الدولي الذي كان يدرك حتماً حجم المأساة.
وبهذا التناقض بين المواقف السياسية والصحافة الشجاعة القليلة التي كانت تشير إلى المشكلة عبر السنوات بصراحة ووضوح، انخلق انطباع بالاستقرار والشرعية بالنسبة لكثير من أفراد الجمهور، حتى من السوريين أنفسهم، بحيث كانت الأنباء التي تنشرها صحف إقليمية من بينها “المدن” منذ العام 2013 أو تقارير من “أمنستي” و”هيومن رايتس ووتش” و”مراسلون بلا حدود”، تقابل بالتهميش بوصفها الاستثناء لا القاعدة، إن لم يتم تكذيبها من أساسها ووصفها بالمبالغة والكذب والعمالة الخارجية، خصوصاً من قبل داعمي النظام المخلوع في محور الممانعة تحديداً.
وفيما يبقى الجانب السياسي مهماً عند الحديث عن مستقبل سوريا وحاضرها، إلا أن الجانب الفردي يبدو اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، لأن قصص الأفراد والعائلات الذين عاشوا تحت حكم عصابة متنكرة بصفة دولة، هي ما يهم. كيف عاشوا وكيف تم فصلهم وتعذيبهم وقتلهم وتصفيتهم؟ وكيف أثر ذلك على عقلية ونفسية المجتمع السوري ككل، وكيف تم خلق نموذج الخوف كأسلوب للحكم؟ وغيرها من التفاصيل التي يجب ألا تتكرر في سوريا، ولا في أي مكان آخر، مع الإشارة إلى أن التغطيات السياسية المجردة قادرة بحد نفسها على تجريد أبطال القصص الحقيقية، من إنسانيتهم وتحويلهم إلى أرقام وعناصر قابلة للاستبدال.
ولعل أهم ما يمكن أن يجب أن يركز عليه السوريون اليوم هو الانفتاح على الإعلام والاستماع إلى الصحافيين والناشطين ممن كانوا يخاطرون بحياتهم وحياة عائلاتهم لإيصال معلومات عنهم، إليهم وإلى العالم. والعقود الماضية أثبتت ماذا يمكن أن يحصل في الخفاء عندما يتم قمع الإعلام وتسييسه من قبل السلطة الفاسدة التي قد يتم تعويمها أو إعادة خلقها وتشكيلها خصوصاً في هذا التوقيت من عدم الاستقرار، خصوصاً من قبل دول مؤثرة لطالما تدخلت في الشؤون الإقليمية بعد ثورات الربيع العربي التي أطاحت بدكتاتوريات عربية راسخة العقد الماضي.
المدن
—————————–
القادمون الجدد إلى حكم سوريا: “الشرعية الثورية” واستحقاقات التغيير/ جديع دواره
الأحد 2024/12/15
من الطبيعي أن “القادمين الجدد” للسلطة في سوريا سيعملون على إعادة إنتاج سلطتهم. فهذه هي الوظيفة الأولى “الغريزية” لأي كيان يُسمى سلطة أينما وُجد. وطالما كان تحقيق هذه الوظيفة يتمّ إما بوسائل قهرية همجية أو ديمقراطية حضارية، أو ما بينهما، فإن النجاح يتوقف دائمًا على ثلاثة مستويات:
1- كفاءة أدوات السيطرة والضبط (الخشنة والناعمة) التي تمتلكها السلطة وتتحكم بها.
2- البيئة الحاضنة التي يتم فيها إعادة إنتاج السلطة، وهنا نتحدث عن علاقة السلطة بالمحكومين، وما يملكه هؤلاء من أدوات وقوى مدنية فاعلة في أي مواجهة محتملة أو أي مشاركة لهم بالسلطة، كأفراد أو جماعات منظمة.
3- علاقة السلطة بمحيطها باعتبارها كيانًا سياسيًا على أرض اسمها سوريا. أي علاقتها الإقليمية والدولية بصفتها لاعبًا سياسيًا في منطقة حساسة تشهد استقطابات حادة.
اليوم، لدينا سلطة تملك قوة عسكرية، وسيطرة على الموارد الاقتصادية، وأدوات دعاية وإعلام، و”شرعية ثورية”. فما الذي يمنعها من إعادة إنتاج نفسها و”تأبيد” سيطرتها؟
هل سيستمع الحكام الجدد إلى رسائل ونصائح المثقفين والنشطاء التي تنهال على القائد العسكري أحمد الشرع، كي يحول أحلامهم وأحلام السوريين بالحرية إلى دولة مدنية-ديمقراطية، تقوم على قوانين حضارية لتداول للسلطة؟ وهل تكفي الوعود والكلام المعسول لرجال الدين المسيحيين ومشايخ الطوائف؟ أم أن وجود أرقام هواتف لتلقي الشكاوى سيحل مشاكل عدم الانسجام بين سلطة لا تزال “أحادية” وتنوع وتعدد صيغ الكتل البشرية على الأرض السورية؟
هل الصورة سوداوية إلى هذا الحد؟ سوريا تخرج للتو من حقبة سوداء قامت على شطب الآخر وإلغائه. والسوريون المتعبون من الحرب والتهجير وبؤس الواقع الاقتصادي والخدمي، لن ينتظروا طويلًا للاستيقاظ من نشوة “الشرعية الثورية”. هذه الهالة لن تصمد كثيرًا، ومع تراجعها يصبح بحث السلطة عن جسور مع البيئة الحاضنة لتثبيت أقدامها على الأرض، واستقطاب دعم خارجي قوي ضرورة وليست خيارًا. وهذا ما بدأت به فعلًا عبر اتصالات المبعوثين العسكريين مع السكان، ورسائلها للفاعلين خارجياً.
التحدي الأهم سيكون هنا، في هذه المساحة وهذا الملعب، المتعلق باستحقاق الشرعية الصاعدة من الأسفل إلى الأعلى (الانتخابات، التمثيل، والتوافقات). هذا ما سيحاول “القادمون الجدد” الاتجاه إليه في أسرع وقت ممكن، قبل أن تتبلور تعبيرات في القاع، وتصبح عصية على السيطرة والاحتواء. نحن نتحدث عن ثلاثة أشهر تقريبًا تمّ الإعلان عنها للحكومة الحالية. وبعدها، إذا ذهبت السلطة إلى نوع من الانتخابات والتوافقات مستغلة “الزخم الثوري” الذي كسبته بفضل للإطاحة بسلطة الأسد، وعدم وضوح خيارات السوريين بعد صدمة التغيير المفاجئ لإرث دام 54 سنة من سلطة البعث، فمن المرجح أنها ستنجح في كسب الأغلبية والحصول على ما تبحث عنه، لتثبت حكمها بصيغ دستورية مفصلة على مقاسها لسنوات مقبلة.
أما إذا لم تنجح في مسعاها ذاك يبقى لدينا احتمالان:
الأول نهوض سريع لقوى المجتمع وتعبيراته، وتمكنها من فرض نُظم حكم ديمقراطية ومؤسسات على “القادمين الجدد” للسلطة، بما يقطع عليهم الطريق إلى تأبيد سيطرتهم، ويؤدي بالمحصلة يؤدي إلى انتقال آمن لسوريا إلى نوع من الاستقرار والنمو.
والثاني رفض أطراف مؤثرة في المحيط الإقليمي والدولي (بما في ذلك إسرائيل وأميركا) لصيغ الحكم لسبب أو لآخر، وتغذية أي نزوع إلى المقاومة والرفض لدى أقليات عرقية أو طائفية، مما يعيد إشعال دورة الصراع على مستقبل سوريا.
المدن
——————————
متى تعتذر المؤسّسات الدينيّة إلى الشعب السوريّ؟/ أسعد قطّان
الأحد 2024/12/15
سقط الطاغوت في الشام، وانقضّ علينا الزمن الآخر.
الذين سكتوا عن الجرائم، وباركوا القمع، وألقوا الخطب الرنّانة متغزّلين بالطاغية ومعدّدين مآثره، يدركون اليوم أنّهم كانوا يقفون على الضفّة الخاطئة من مجرى التاريخ، هذا إذا أردنا التفاؤل بذكائهم. بعضهم يبحث عن حفرة يطمر فيها وجهه. وبعضهم قرّر تغيير لونه كما تعلّم من أمّه الحرباء. وبعضهم شرع يدبّج السرديّة الجديدة التي سيلقيها على مسامع الناس سعياً إلى التملّص من مسؤوليّة التهليل والتبريك للسفّاح “قاتل الأطفال”، كما تسمّي الليتورجيا البيزنطيّة هيرودس الملك، الذي سفك دماء أطفال بيت لحم بحسب رواية الإنجيليّ متّى.
المؤسّسات الدينيّة الرسميّة تمتلك ناصية هؤلاء الذين بخّروا للطاغوت وأزلامه وتشدّقوا بإحساناته وتغرغروا بمفاتنه. مسؤوليّتها مضاعفة لأنّها تعتبر ذاتها مؤتمنةً على الأخلاق، ومسؤولةً عن تفقيه الناس وإرشادهم إلى مكامن الخطأ والصواب. بعضها ما زال يلتزم الصمت من فرط الصدمة. وبعضها يلجأ إلى عذر أقبح من الذنب قوامه أنّ النصّ الدينيّ يحتّم “إكرام الملك”، وأنّ “إعطاء الكرامة والتعاون مع السلطات (…) يُبنيان على أساس مخافة الله” (من بيان صادر عن بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس بتاريخ 12-12-2024)، وأنّ المعنيّين ما كانوا يعلمون بما كان يجري في الزنازين والمسالخ البشريّة: “الكنيسة تقف أمام تطوّرات هذه الأيّام التي كشفت عن حجم الاستبداد وأزاحت عتمة الظلم عن عيون أبناء هذا الوطن الشرفاء” (من البيان ذاته). أيّ مخافة لله هي هذه التي تقف مع الجلّاد ضدّ الضحيّة؟ أيّ انكشاف هذا الذي تتحدّثون عنه يا أصحاب الغبطة والسماحة والنيافة كأنّ الأيّام تبدي لكم اليوم ما كنتم تجهلونه بالأمس (رحم الله طرفة بن العبد)؟ أين كنتم حين كانت مؤسّسات حقوق الإنسان الثقات ترفع التقرير تلو التقرير منذ اندلاع ثورة السوريّات والسوريّين السلميّة ربيع العام 2011؟ ماذا عن معذِّبي الرجال ومغتصبي النساء الذين سلكت حكاياتهم طريقها المتعرّج حتّى بلغت محاكم ألمانيا وفرنسا وبلجيكا؟ ماذا عن آلاف الصور التي وثّقت التعذيب؟ ماذا عن روائح المحارق البشريّة والأسلحة الكيماويّة وبراميل المتفجّرات التي حصدت رؤوس الأطفال؟ أين قرأتم أنّ إعطاء الكرامة للحاكم يكون على حساب المستضعفين في الأرض، الذين يقف الله إلى جانبهم وينتصر لهم في كتبه المقدّسة جميعها.
لكن ما لا يقلّ فداحةً من خطاب التبرير باسم الجهل والتأويل المغلوط للكتب الدينيّة المرجعيّة، الالتجاءُ إلى لغة حقوق “الأقلّيّات” و”مكوّنات” الوطن السوريّ لا على ألسنة بعض قادة المؤسّسات الدينيّة فحسب، بل لدى بعض مَن استلم اليوم دفّة الحكم في دمشق أيضاً. بالأمس، وقبل بضعة أيّام من انهيار نظام حزب البعث في سوريا، كان أحد بطاركة الشرق يزور هنغاريا ويتباحث مع رئيس وزرائها فيكتور أوربان، المغالي في يمينيّته الخرقاء، في كيفيّة حماية “المسيحيّين المضطهَدين”، وذلك بغية استدرار العطف.. والمال طبعاً. يبدو أنّ المقاربات لم تتغيّر كثيراً لدى بعض العقول بالرغم من الزلزال الذي ضرب السياسة والعسكر في بلاد الشام. فثمّة مَن يريد اليوم لسوريا الجديدة نظاماً يحمي حقوق الأقلّيّات كأنّ الجماعات الدينيّة قطعان تؤخذ بالجملة. لقد بحّ حلق أحد الأصدقاء وهو يردّد أنّ الحقوق ليست للطوائف، ولا هي للأقلّيّات والأكثريّات، بل للمواطنين الأفراد. أمّا الجماعات الدينيّة والإثنيّة التي تشعر بالمظلوميّة بفعل تاريخها، فيمكن منحها ضمانات كتلك المعطاة للأقلّيّة الدانماركيّة في ألمانيا مثلاً. لكن وحده الرجوع إلى مفهوم المواطنة الحقّ بعيداً من منطق الغالبيّة والأقلّيّة، وما يمكن أن يستدعيه هذا المنطق من تحالفات مشبوهة وانجذاب إلى الحمايات ذات النكهة الكولونياليّة، كفيل بأن يشكّل شبكة أمان وخشبة خلاص لا للوطن السوريّ فحسب، بل لدول المشرق العربيّ جميعها. وقد آن الأوان أن يخرج القادة الدينيّون من تكوّمهم على مؤسّساتهم التافهة، وأن يتحوّلوا إلى صوت صارخ يدافع لا عن حقوق جماعاتهم، بل عن ضرورة استعادة المواطنة بوصفها القاعدة التي ينبغي أن تبنى عليها مجتمعاتنا بعد كلّ ما تعرّضت له من تنكيل وتخريب وتفكيك.
لكن، قبل ذلك، حريّ بقادة المؤسّسات الدينيّة أن يعتذروا إلى السوريّات والسوريّين عن صمتهم وتلكّؤهم وتخاذلهم وتقوقعهم، ووقوفهم أحياناً في هياكل الطاغية مبجّلين مبخّرين مكبّرين. وحريّ بهم أن يندموا، وأن يستغفروا علانية، وأن يطلقوا ورشةً تصالحيّةً حقيقيّةً مع الناس وفي ما بينهم، وأن ينصرفوا إلى محاربة الفساد الذي ما زال يعيث فساداً في مؤسّساتهم، والذي لم تزده الحرب السوريّة إلّا تفاقماً وفداحة.
لقد تهاوت الأصنام في بلاد الشام، يا سادة، وانقضّ عليكم الزمن الآخر. فحذارِ من نصب أصنام جديدة باسم الدين والطائفة والعرق والإثنية. ومن له أذنان للسمع فليسمع.
المدن
————————————–
سوريا ولبنان ومصيرهما المشترك: المخاطر الإسرائيلية واللامركزية والإسلاموية/ منير الربيع
السبت 2024/12/14
ما بين لبنان وسوريا مخاوف كبيرة وهواجس كثيرة. تحكم الجغرافيا السياسية والمسارات السياسية أن يتأثر لبنان بما يجري في سوريا، أو أن يكون مؤثراً فيها. ينتظر لبنان إعادة تشكيل السلطة فيه بشكل متوازن. وهو ما تنتظره سوريا أيضاً بعد سقوط نظام بشار الأسد. تحديات كثيرة تواجه البلدين معاً، واستحقاقات كثيرة تنتظرهما، ولا بد من النظر إلى وقائعها وتداعياتها، ومنها:
مطامع إسرائيل
تواجه سوريا توغلاً إسرائيلياً في الجنوب ومحاولات لقضم مناطق ومساحات جغرافية وفرض أمر واقع عسكري وسياسي. المواجهة نفسها تنطبق على لبنان في ظل المطامع الإسرائيلية والتوغل الذي حصل لبضعة كيلومترات ومحاولة فرض شروط سياسية أو أمنية وعسكرية لتأمين شروط الانسحاب من المناطق التي دخلتها.
وجهت إسرائيل ضربات قوية جداً لمقدرات الجيش السوري ولكل بنية سوريا العسكرية. كذلك فعلت مع حزب الله وقدراته العسكرية والصاروخية ولا تزال تصرّ على منعه من إعادة بناء نفسه.
بناء القدرات العسكرية
تحديات إعادة بناء القدرات العسكرية بدمجها وتوحيدها من خلال إعادة بناء الجيش في سوريا وتوحيد الفصائل ضمنه، وهو ما يقابله تحديات لبنانية في تعزيز قدرات الجيش اللبناني لتحقيق الاستقرار والحماية في الجنوب وعلى كل الحدود، بالإضافة إلى إيجاد صيغة ملائمة لمسألة سلاح حزب الله عبر استراتيجية دفاعية.
الحفاظ على الوحدة
تجابه الإدارة السورية الجديدة في مرحلتها الانتقالية تحديات كثيرة، بينها الحفاظ على وحدة سوريا وإعداد الدستور والعمل على إنجاز الاستحقاقات بدءاً بانتخابات رئيس للجمهورية وتشكيل للحكومة. لبنان أيضاً ينتظر إنجاز استحقاقه الرئاسي وتشكيل الحكومة.
لدى البلدين مهام صعبة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية في ظل الانهيار المالي والاقتصادي، وسط حاجاتهما إلى مساعدات مالية كبيرة لن تتوفر إلا من قبل قوى دولية وإقليمية واستثمارات ستكون مرتبطة بشروط سياسية قاسية.
لا يمكن إغفال تحديات الحفاظ على الوحدة الوطنية ووحدوية الكيان أو بنية الدولة، وسط دعوات كثيرة في سوريا إما للانفصال أو للحكم الذاتي. وهناك أصوات أيضاً تتعالى في لبنان، حول الانفصال أو الفيدرالية في حال عدم الاتفاق على صيغة سياسية، والذي بحال توفر فهناك دعوات نحو توسيع هامش اللامركزية.
تقدم الإدارة السياسية الجديدة في سوريا بعض المؤشرات والمواقف الإيجابية تجاه الفئات والبيئات الأخرى، فمع الأكراد هناك مفاوضات جدية تجري وسط تقاطع أميركي تركي على الوصول إلى نقاط وقواسم مشتركة. تصرّ الإدارة الجديد على وحدة سوريا وعدم حصول أي انفصال أو تقسيم، في المقابل هناك مطالبات كردية بما يشبه الحكم الذاتي، وسط طروحات تتعلق باللامركزية ولكن تحت كنف الدولة السورية الموحدة، وعنوانها الجمهورية السورية. يرسل القائد العام للإدارة السياسية أحمد الشرع رسائل كثيرة للعلويين، الشيعة، والمسيحيين في إطار تعزيز التنسيق والتعاون، لإعادة بناء سوريا والإقلاع عن أي فكرة انتقامية من شأنها إعادة تعزيز الشرخ المذهبي والطائفي. هناك تعميق للتواصل مع المرجعيات المسيحية المختلفة في حلب ودمشق وريفها للاتفاق على سوريا الموحدة، كذلك الأمر بالنسبة إلى العلاقة مع الدروز المعروفين بمواقفهم المؤيدة للوحدة السورية التاريخية على الرغم من محاولات إسرائيلية كثيرة لزرع الشقاق وتوسيع الشرخ.
سوريا الجديدة ولبنان
مخاطر كثيرة قد تعصف في ظل هذه التطورات والتحديات، قد تتشابك فيها جهات إقليمية أو دولية في محاولة لإضعاف سوريا أكثر أو إبقائها في صراع وفوضى، وهو ما لا يغيب عن بال المعنيين، وهنا لا بد من الترقب والحذر أمام المحاولات الإسرائيلية للمشاركة في صياغة “سوريا الجديدة” بعد العمليات العسكرية التي نفذها الإسرائيليون لضرب الجيش وإضعافه بشكل كامل، فإسرائيل تريد لسوريا ككل أن تبقى ضعيفة أو غارقة في فوضى وصراعات سياسية أو طائفية أو ذات توجهات مختلفة. ولا بد للإدارة الجديدة من مراجعة التجارب في دول أخرى ولا سيما في مصر أو في ليبيا، كي لا تتعرض لأي انقلاب أو الغرق في فوضى والتي قد ينتجها التضارب والتصارع الإقليمي والذي قد يفضي إلى حكومتين وجيشين ويتجدد الصراع في سوريا وعليها.
يترقب لبنان لكل المآلات السورية وهو على يقين بحجم الارتداد والتأثر:
ففي حال طغى الخيار الإسلامي وتعزز في الدستور والممارسة السياسية، فإن لبنان سيصاب بمثل هذه الموجة.
أما بحال ارتفعت أصوات الانفصال أو التقسيم في سوريا، أو الصراع ما بين الأقليات والأكثرية، فإن هذه النزعات ستتعزز في لبنان أيضاً.
أما في حال اختيار النهج الأكثر عقلانية في الارتكاز على دولة مدنية وطنية، تشترك في بنائها وإدارتها كل المكونات من خلال صيغة تلائم الجميع وتحفظ أدوارهم وتأثيرهم وقد يكون ذلك من خلال لامركزية متوازنة يتحقق بموجها التوازن السياسي وفي الحقوق والواجبات، فإن ذلك سيكون حلاً أمثل لسوريا ولبنان معاً.
المدن
———————————–
مستقبل سوريا تقرّره القراءة الصحيحة للأحداث/ إياد أبو شقرا
15 كانون الأول 2024
يظل المرء مُقصِّراً مهما حاول أن يفيَ التغييرَ الجذريَّ، الذي شهدته سوريا خلال الأسبوع المنقضي، حقَّه.
إنهاءُ حكمِ عائلة الأسد بعد أكثرَ من نصف قرنٍ من الزمن حدثٌ كبير، بل كبيرٌ جداً. وهو سيكون أبلغَ وأبقى في الذاكرة والضمائر، إذا ما نجح الحكمُ البديل في قهر التحديات، وتخييبِ ظنّ المتشائمين الذين استسهلوا القول بأنَّ شعوبَنا لا تستحقُّ الديمقراطية، وبالتالي، ليس أمامها سوى خيارين: تسلّط السلاح… أو تسلّط التزمّت الديني.
شخصياً، سواءً من منطلق رغبتي في التفاؤل أو من محبتي الغامرة لسوريا ومعرفتي بكثرة من عقلائها… أودُّ التفاؤلَ هذه المرة.
لقد كانَ الاختبار المأساويُّ الذي ضرب «انتفاضة» الشعب مع نهايات 2011 وعام 2012 درساً قاسياً، أستبعد أن ينساه أيُّ ناشطٍ في الشأن السوري مهما طال الزمن.
ولنتذكّر، هنا على عجالة، كيف كان المشهد…
في مارس (آذار) 2011 انتفض الشعب السوري في أجمل وأشجع انتفاضة من نوعها فيما عُرف بـ«الربيع العربي». ولقد انطلقتِ الشرارة الأولى من حوران في أقصى جنوب البلاد.
كانت انتفاضة شعبية تلقائية، شارك فيها السوريون والسوريات من مختلف الأعمار والأديان والمذاهب والأعراق، تطالب بالحرية والكرامة قبل أن يدفعَها القمع الدموي بالرغم منها نحو العنف.
بعدها أسهم انشقاق ضباط الجيش وعناصره، وكذلك وحشية رد فعل النظام في تصدّيه لهم وللمظاهرات السّلمية، في «عسكرة» لم يخترها المواطن… الذي لم يعتبر في يوم من الأيام أنَّه في خندق وجيشه في خندق مقابل.
الشَّعب السوري لم يسعَ مختاراً إلى صبغ انتفاضته بالفئوية، أو الثأر، أو التقسيم والانفصال.
إطلاقاً لم يسعَ إلى هذا. وهنا أتذكّر روايات جاءت لتدحض ما سوّقه النظام من تُهم «طائفية الانتفاضة»؛ نظراً لأن العديد من المظاهرات كانت تخرج من المساجد بعد صلاة الجمعة.
ولقد أبلغني صديق عزيز، ذات يوم، موضحاً أن كثرة من المسيحيين كانوا يتجمّعون أمام أبواب المساجد، بانتظار إخوتهم المسلمين للسير معهم، آملين في أن يتردد جلاوزة الأمن وعصاباتُ النظام المسلحةُ في إطلاق النار على مصلّين خارجين من مسجد.
إنَّ السوادَ الأعظمَ من تجمّعات «الانتفاضة» – أو «الثورة» – خلال الأشهر والسنوات الأولى ضمّ كلَّ أطياف الشعب السوري، قبل أن تتسلّلَ مصالح محلية وإقليمية ودولية… لتبث الشك، وتزرع الخوف، وتحاول الاحتكار عبر تشجّع على التطرّف والمزايدة فيه.
ولكن على الرغم من كل هذا لم يفقد معظم السوريين البوصلة.
على الرغم من محاولات عدد من الجهات «ركوب» الحراك، وإبعاد المنافسين، والاستئثار بغنائم ما كانت بعد قد توافرت، وظهور جماعات مشبوهة تسلب الشعارات وترتكب التجاوزات… استمرت الانتفاضة.
وعلى الرغم من تنامي القمع – بالتوازي مع تنامي الغضب أو حتى استباقاً له – لم يفقدِ السوريون البوصلة ولا الأمل في التغيير.
وأيضاً، على الرغم من الخذلان الدولي – بما فيه «خطوط باراك أوباما الحمراء» – فلا الغازات السامة، ولا البراميل المتفجرات، ولا غارات الطيران الحربي الروسي، ولا «المؤتمرات الإلهائية» التضليلية، تمكّنت من أن تفتَّ في عضد السوريين الصابرين والمؤمنين بأن الكرامة والحريات والحقوق كلٌّ لا يتجزّأ.
لقد راهن السوريون على «مرور الزمن»، وربحوا رهانهم ضد سلطة تعيش خارج الزمن، مستفيدة لعقود من «تقاطع» مصالح الخصوم والجيران. وحقاً، من أجل البقاء – بأي ثمن – استمرأت تقديم التنازلات لهم جميعاً، مقابل بخلها على شعبها بالحد الأدنى الذي يستحقه من حرية وحقوق.
ومن ثم، مع تبدّل أولويات المصالح الدولية، سقط العديد من نقاط «التقاطع»، فاهتزت السلطة الهشة المفتقرة إلى ثقة الشعب ومحبته، وما عاد العسكريون مستعدين للقتال دفاعاً عن بقاء سلطة ما عادت تعني لهم شيئاً.
ثم إنَّ ظروف المقاتلين الوافدين من خارج الحدود – وبالذات من لبنان – تغيّرت جذرياً خلال الأشهر القليلة الفائتة، بينما صعّدت الحرب الإسرائيلية ابتزازها الإقليمي بغية تحقيق أكبر قدر من المُنجزات قبل تسلم الإدارة الأميركية الجديدة في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل.
وهكذا، أمام ذهول العالم تساقطت خلال أيام معدودات حواضر سوريا واحدة تلو الأخرى… وتحقّقت الغلبة إقليمياً لضلع أو اثنين من «المثلث» الإقليمي على حساب الضلع الثالث!
مع هذا، لا بد من إدراك حقائق أساسية، أبرزها:
أولاً، أن إسقاط نظام ما لا يضمن بالضرورة نجاح النظام البديل، ولا سيما أن جهات كثيرة كانت حتى الأمس القريب رافضة التعامل مع الجهة التي حققت التغيير.
ثانياً، أن سوريا تظلّ مطمعاً لعدد من القوى الإقليمية، تماماً كما تظل «قطعة شطرنج» مهمة على رقعة الصراع الدولي في المنطقة.
ثالثاً، في حقبة «سقوط الهويّات والحدود» وعصر «انزلاق القوميات إلى متاهات العنصرية»… لا يجوز ارتكاب أخطاء في الحسابات تقوم على سوء القراءة والتقدير.
رابعاً، اختلال العلاقات الدولية – بين القوى الكبرى – له تداعياته الأكيدة في منطقة الشرق الأوسط. وسوريا الآن تعيش حقبة تأسيسية هشَّة ستتأثر حتماً بهذا الاختلال، وستؤثِّر في كيانات الجوار… ما لم تبادر هذه الأخيرة إلى وعي المخاطر وحماية الكيان السوري، والتفاهم على استراتيجية صيانته والأطر المناسبة لـ«دولته»!
الشرق الأوسط
———————————-
هل دمشق الجديدة ضد محور إيران؟/ عبد الرحمن الراشد
15 ديسمبر 2024 م
الجميع يبحث في ماهية السياسة الخارجية المحتملة للنظام الدمشقي الجديد وتحديداً تجاه إيران. إن اتَّضح أنَّه ضدها فهو تطور مهمٌّ وربَّما يغيّر وجه المنطقة.
المظاهر الأولى توحي بانطباعات قد تكون مضلّلة، والأيام المقبلة ستهدينا الإجابات.
نظرياً، يفترض أنَّ النّظام السوري الجديد، تحت قيادة «هيئة تحرير الشام» وزعيمها أحمد الشرع، سيتبنَّى سياسة تختلف مع سياسة نظام الأسد البائد. ووفقاً لذلك يراهن كثيرون على تضادّها مع محور طهران الذي كانَ يقاتلها في سوريا، ويشمل العداء أطرافَ المحور مثل العراق و«حزب الله» اللبناني.
ولو سار زعيمُها الشرع على هذا الطريق يمكن أن نرى نهاية المشروع الإيراني التوسعي، خاصة بعد أن نجحت إسرائيلُ في تدميرِ معظم قدراته الخارجية.
إنَّما هناك محركات سياسية إقليمية قد تدفع رياحُها دمشق في اتجاهات أخرى مختلفة، علاوة على أنَّ السياسةَ لا تسير وفق «كتالوج» دائم. ففي مطلع الألفية كان يُعتقد أنَّ «حماس» خَصم لإيران حتى تبيَّن لاحقاً أنَّها من وكلاء طهران، ومثلها «الجماعة الإسلامية» السنية في طرابلس اللبنانية. وكذلك لعبت جماعة الإخوان الأممية دورَ حصان طروادة لطهران تحت مسميات التآخي الطائفي والعداء لإسرائيل.
في حال استمرّت إسرائيل في استغلال فرصة الانهيار في سوريا لتعزيز وجودها هناك، قد يفاجئنا ذلك بتحالفِ دمشق الجديدة مع طهرانَ وبغداد وعودة الإيرانيين إلى السيدة زينب. الأمرُ يعتمد كثيراً على رؤية الشَّرع وحكومتِه للصراع مع إسرائيل.
لم أجد كثيراً فيما توفّر من خطب ومقابلات يعطي الانطباعَ الكافي ويدلُّنا على فلسفته وربَّما سياسته المقبلة.
في الجغرافيا السياسية تركيا لاعبٌ إقليمي مهمّ، والسؤال الآن: هل تملك نفوذاً كبيراً على نظامِ دمشق الجديد، خاصة حيال الصراع مع إيران؟
في الفترة الحالية قد يكون دورها مفيداً لمنعها من الانزلاق نحو التطرف الديني والسياسي، ومساعدتها للخروج من العقوبات الأميركية. أمَّا في إدارة دمشق لشؤونها الخارجية هناك روايتان، «هتش» لصيقةٌ بأنقرة وتدين لها بالفضل في السنوات التي تلت عام 2018، وفي انتصارها الأخير، وستتحالف معها. الرواية الثانية أنَّ الطرفين على علاقة جيدة إنَّما سياساتهما ليست متطابقة، ويؤكد ذلك سنان أولجن من مركز كارنيغي الذي يقول: «من الخطأ افتراض أنَّ تركيا تسيطر على هيئة تحرير الشام».
إنْ تعمَّقت العلاقة، ستكون سياسة دمشق مرآة عاكسة لسياسة تركيا، وبالتالي من المستبعد أن تتبنَّى دمشق سياسةً معادية لمحور طهران، لكنَّ التوتر مع العراق فعلى الأرجح أنَّه سيستمر لاعتبارات مختلفة.
لإقليم بلاد الرافدين ديناميكيته، التنافس بين دمشق وبغداد سياسي وطائفي. بعد سقوط نظامي صدام والأسد، وبوصول جماعاتٍ دينية تحكم العاصمتين، نظرياً، حكومتا العراق شيعية وسوريا سنية. وبعد وصولِ «هيئة تحرير الشام» إلى دمشق عمَّ الغضب بغداد وراجت أدبيات الثأر التاريخية بين متطرفي الطائفتين على «السوشيال ميديا»!
سياسياً وعسكرياً، طهران وبغداد و«حزب الله» يشكلون طوقاً خطيراً على بديل الأسد، وقد استقبل العراق آلافاً من الفارين من قيادات وعسكر النظام بعد سقوط العاصمة السورية.
ومن المتوقع أن يعيدَ المحور ترتيبَ أولوياته بعد النكسات الهائلة التي مُني بها هذا العام، من تدمير «حماس»، والقضاء على قيادات «حزب الله» وقواته، والآن إنهاء نظام الأسد الحليف.
في تصوّري سيسعى محور طهران للعمل على مسارين؛ التقارب السياسي مع الشرع وفريقه، تحت عنوان العداء لإسرائيل. والثاني نسج تحالفاتٍ داخل سوريا وفي محيطها للضغط على دمشق.
طهران، المسكونة من أربعين عاماً بنظرية أنَّ واشنطن تخطط لإسقاط نظامها، تعيش أكبرَ قلق في تاريخها. تؤمن وتردد أنَّ ما حدث في دمشق تم بترتيبات إسرائيلية أميركية، وأنَّها مستهدفة بذلك. اليوم ربَّما هي محقَّةٌ من حيث الخطر على وجودها.
الشرق الأوسط
————————-
ماذا نفعل بهذه الجيوش «القويّة»؟/ حازم صاغية
15 ديسمبر 2024 م
فيما كان الجيش السوريّ يتداعى كالكرتون في مواجهة «هيئة تحرير الشام»، وعشيّة إقدام الإسرائيليّين، وبإصبع واحد، على تدمير بُنيته العسكريّة التحتيّة، كان ممانعون لبنانيّون يواصلون دعوتهم إلى جيش «قويّ» في لبنان(!) هو وحده شرطهم لنزع سلاح «حزب الله».
وبغضّ النظر عن كونهم لا يقصدون ما يقولون، يبقى أنّ الأحداث السوريّة الأخيرة تطرح مجدّداً هذه المسألة ومعها مساءلة الجيوش في منطقتنا، ومن ورائها مبدأ القوّة ذاته. فقد تكون بلداننا بحاجة إلى جيوش، إلاّ أنّ المؤكّد أنّ الجيوش «القويّة» آخر ما تحتاجه.
لقد بدا مؤلماً أن يفعل الإسرائيليّون ما فعلوه بسوريّا غير عابئين بما قد تحمله الظروف الناشئة عن انهيار الأسد. فالدولة العبريّة، وخصوصاً بعد «طوفان الأقصى» الكارثيّ، تتصرّف بأنانيّة محض تجعل أمنها المطلق همَّها المطلق، لا تثنيها عنه تحوّلات سياسيّة ومناشدات دوليّة وضغوط من أيّ نوع. وما دام الوضع السوريّ الجديد غامضاً، رأيناها تبادر وتغتنم فرصتها.
لكنْ يبقى أنّ سيرة الجيش السوريّ تخفّف الشعور بالخسارة من جرّاء ما فعله الإسرائيليّون، سيّما وأنّ بعض هذه الخسارة أسلحةٌ كيماويّة سبق أن أحرقت سكّان الغوطة السوريّين. وقد ارتبط اسم الجيش المذكور، وأكثر من أيّ جيش، بالانقلابات العسكريّة، فأهدى شعبه قادة كحسني الزعيم وأديب الشيشكلي وعبد الحميد السرّاج، قبل أن يبادر ضبّاطُه إلى إذابة بلدهم في «جمهوريّة عربيّة متّحدة». أمّا الهدية المسمومة الأثمن فكانت حافظ الأسد، الذي كان وزير الدفاع لدى احتلال الجولان في 1967، فأعلنه التأريخ الرسميّ والعسكريّ اللاحق «بطل الجولان»، وهذا قبل أن يُطوَّب «بطل [حرب] تشرين».
فالمؤسّسة العسكريّة كانت إذاً مصنعاً لتحالف القهر والكذب. ومنذ انقلابها الأوّل في 1949، حصدت سوريّا هزيمتين كبريين في 1967 و1973، ولم يحل اتّفاق «فضّ الاشتباك» عام 1974 دون مهانة معتبرة في لبنان عام 1982. ورغم استدعاء دمشق اللاحق القوّاتِ الإيرانيّة والروسيّة و»حزب الله» حمايةً لنظامها، ساد غضّ النظر حيال الانتهاكات الإسرائيليّة الجوّيّة والبرّيّة، وبعد 7 أكتوبر انحطّ صمت الضبّاط ليغدو صمت قبور.
ومع هبوط أغلبيّة السوريّين الساحقة إلى ما دون خطّ الفقر، ظلّ الجيش عبئاً على اقتصاد لا ينمو إلاّ انكماشه وتضاؤله واعتماده على تصنيع الكابتاغون. وإلى المؤسّسة العسكريّة أضيفت ميليشيّات محلّيّة مُنحت استقلاليّة متزايدة مكّنتها من نهب الموارد المتواضعة لمناطق عبَثَها وامتهان التهريب والخطف لتحصيل العوائد.
مع هذا كان الجيش السوريّ «باسلاً» حقّاً في ما يتعلّق بأعمال تتّصل بالسجون والتعذيب واستخدام القنابل العنقوديّة والأسلحة الكيماويّة واقتحام المدن في سنوات الثورة ثمّ الحرب الأهليّة.
وبدوره يوفّر التاريخ العراقيّ الحديث حُكماً آخر على تجربة جيوش المشرق «القويّة». فتقليديّاً أعادت الروايةُ الرسميّة الأسطورةَ المؤسّسة لذاك الجيش إلى حركة رشيد عالي الكيلاني التي دعمتها ألمانيا النازيّة في انقلابها عام 1941. ومنذ الاستيلاء العسكريّ على السلطة في 1958 حتّى احتكار صدّام حسين الحكم في 1979، حصلت أربعة انقلابات ناجحة وعدد يصعب حصره من محاولات فاشلة. لكنّ العمل العسكريّ الأوّل الذي شنّه النظام العسكريّ الأوّل، مع عبد الكريم قاسم، كان الحملة على الكرد العراقيّين في الشمال، وهي المهمّة التي استمرّت بتصاعد مع البعثيّين لتتوّجها مآسي الأنفال وحلبجة. وفي هذه الغضون زجّ صدّام بجيشه في الحرب المدمّرة مع إيران التي استغرقت قرابة عقد وحصدت مليون ضحيّة. ولم تكد تنتهي الحرب تلك حتّى غزا جيش صدّام الكويت، فما إن حرّرها تحالف دوليّ عريض حتّى تولّى العسكر المهزوم سحق انتفاضة في الجنوب وحاول سحق انتفاضة أخرى في الشمال.
مع هذا فحين سقط صدّام وطرح المعارضون والأميركيّون فكرة حلّ الجيش، وهي طُرحت بخفّة وارتجال، هبّت أصوات المتذرّعين بمحاربة إسرائيل. ذاك أنّ حلّ الجيش، كما رأوا، خدمة صافية للدولة العبريّة التي يخيفها الجيش المذكور. وبالفعل حوفظ على تلك المؤسّسة التي ما لبثت أن انهارت، عام 2014، في الموصل، لكنّ الانهيار لم يكن أمام إسرائيل بل أمام داعش. وبدورها عالجت تلك التجربة نواقصها بالميليشيات، فولد «الحشد الشعبيّ» مظلّةً ميليشيويّةً لتنفيذ أدوار ترى بغداد وطهران أنّها هي الأدوار الاستراتيجيّة التي لا يؤتمن عليها الجيش.
خلال تلك المسيرة أتيحت لنا، في 1973، مشاهدة لحظة العمل «القوميّ» المشترك بين جيشي المشرق الكبيرين، وذلك حين أرسلت بغداد قوّات إلى دمشق إبّان حرب تشرين. يومذاك قالت القيادة السوريّة إنّ العراقيّين لم يأتوا إلاّ لتنفيذ انقلاب، ورأت القيادة العراقيّة أنّ السوريّين فبركوا تلك التهمة كي يقيّدوا حركتهم ويمنعوهم من مقاتلة إسرائيل.
والحقّ، بالنسبة لإسرائيل، أنّه بات يُستحسن أن تُحذف الجيوش والمقاومات من برامج الصراع معها، وأن يُفكَّر في صيغ وأدوات تستبعد القوّة التي لا يزال يصرّ بعضنا في لبنان على أنّ الدولة العبريّة لا تفهم إلاّ لغتها.
الشرق الأوسط
—————————–
هل تحافظ الثورة السورية على مكتسباتها؟/ د. ممدوح المنير
15/12/2024
لا شك أن نجاح الثوّار في سوريا في إسقاط الطاغية بشّار الأسد وإنهاء حكمه هو انتصار كبير للسوريين وللربيع العربي، الذي تعثّر لسنوات؛ بسبب الثورات المضادة ووكلائها في الإقليم وخارجه.
وإذ نحيّي الشعب السوري على نجاح ثورته في إسقاط الطاغية وتحرير البلاد من نير الظلم والظالمين، فإننا في ذات الوقت ندرك حجم التحديات التي على الثوّار والثورة مواجهتها في الفترة القادمة.
وقد التزمت منذ بدء عملية “ردع العدوان” الصمت دون تعقيب على الأحداث، حتى أفهم وأستوعب ما يحدث في العملية الأخيرة، رغم أنني أستطيع الادعاء أنني متابع جيّد للثورة السورية، إلا أن تعقّد الوضع الحالي – ولا يزال- دافعًا للصمت المشوب بالقلق، والاكتفاء بالدعاء بتمام النصر.
لكن بعد سقوط بشّار وسيطرة الثوّار على دمشق، أصبح من الواجب الحديث عن مآلات ومستقبل الثورة، وما ينبغي فعله للسير على جمر تعقيدات المشهد الداخلي والخارجي.
قراءة في المشهد الراهن
يمكن للمتابع أن يشعر بالفرحة العارمة لسقوط بشّار، أو لتحرير أسير، أو عند تحرير مدينة، أو عودة لاجئ إلى بيته. ولكن ينبغي أن نتذكر هنا – من باب الاستفادة من دروس الماضي- أن نجاح أي ثورة لا يُقاس بالإطاحة برأس النظام الحاكم، بل بمدى قدرتها على بسط السيطرة على الأرض، وتحييد الأعداء والخصوم، وبناء بديل سياسي واجتماعي قادر على تحقيق أهداف الثورة والحفاظ على مكتسباتها.
أسئلة المآلات الحاسمة
الحديث عن المستقبل السوري لا يمكن أن يغفل تساؤلات جوهرية تتعلق بالمستقبل، وهي أسئلة مزعجة بطبيعتها، ولكن لا بد أن تُطرح، ومنها:
كيف نضمن أن تختلف نتائج الحراك الحالي عن نتائجه في دول الربيع العربي الأخرى أو حتى فلسطين، والعدو واحد، سواء كان إقليميًا أو دوليًا؟
هل سيعلن الثوّار السوريون دولة ديمقراطية علمانية ليس لها صلة بفلسطين، ويثبتون ذلك بكل طريقة ووسيلة، حتى لا يتم استهدافهم كغزة؟
هل سيحافظ الثوّار على نهج إسلامي معتدل ومنفتح تقبل به إسرائيل وأميركا والغرب؟
هل هناك تصوّر واضح لمن سيحل محل بشّار الأسد لقيادة المرحلة القادمة؟
وهل يتوقعون أن يسلم هذا القائد الجديد – أيًا كان- من عداوة الإيرانيين والروس وتنظيم الدولة وقسد وإسرائيل وأميركا؟
لو افترضنا أن المعارضة اجتمعت على قلب رجل واحد وتناغمت فكريًا وحركيًا كفصائل غزة، فهل لديهم السلاح الكافي والنوعي لمواجهة كل هؤلاء الفرقاء الذين تتباين مصالحهم؟
هل ستقوم القيادة الجديدة بإسناد غزة بدلًا من حزب الله؟ أو هل ستمنع أحدًا من القيام بذلك أم لا؟
هل ستنسق مع إسرائيل أو واشنطن لضمان سلامة الحدود، ومنع دخول السلاح إلى لبنان عبر سوريا؟
هل إذا رفضت التنسيق سيتركهم الكيان وواشنطن والغرب في حالهم؟
هل ستتخلى إيران عن مليشياتها أو الأراضي التي تسيطر عليها في سوريا، أم أنها ستمتص الضربة وتعود مجددًا كما حدث مع ثورات أخرى؟
هذه التساؤلات لا تنبع فقط من مخاوف داخلية، بل من التعقيدات الإقليمية كذلك. فروسيا ترى سوريا أحد مفاتيح أمنها القومي، إذ تحافظ بها على وجود متقدّم على البحر المتوسط لمواجهة الناتو، وإيران تعتبر خسارة سوريا أسوأ من خسارة أجزاء من أراضيها، كما يجمع على ذلك خبراؤها، وإسرائيل وأميركا تنظران إلى الحراك السوري من زاوية مصالحهما ومخاوفهما الإستراتيجية، وهما تعتبران سوريا حديقة خلفية ودولة حاجزة لخصوم إقليميين ودوليين.
تشابهات ومفارقات مع تجارب الربيع العربي
يقدم ما جرى في دول الربيع العربي الأخرى دروسًا وعبرًا للثوار في سوريا. في مصر مثلًا، كان واضحًا غياب الرؤية الإستراتيجية للمستقبل بعد سقوط النظام.
وفي تونس، قدمت حركة النهضة تنازلات كبيرة لضمان القبول الدولي والمحلي، فحالفت أعداء الأمس، لكن الأمر انتهى بهم أيضًا إلى انقلاب دستوري نفذه الرئيس وزج بأغلبهم في السجون.
أولئك الذين لم يتحملوا حركة إسلامية قدمت كل التنازلات في دولة لا تحظى بأهمية سوريا الإستراتيجية، هل يتوقع أن يتقبلوا بسهولة جهاديين إسلاميين، مهما قدموا من تنازلات؟ وهل يطمئنون بوجودهم على مرمى حجر منهم؟ إنّ فهم سلوك اللاعبين الإقليميين والدوليين مهم جدًا لفهم المآلات المتوقعة.
مركزية الخطر الإسرائيلي
يجب أن يعي ثوّار سوريا أنه لا استقرار ولا رخاء ما دام الجولان محتلًا، والصراع في غزة وفلسطين مشتعلًا، فالاحتلال الإسرائيلي هو السبب الرئيسي لكل تخلّف ومشاكل المنطقة من فساد واستبداد. ونتنياهو صرّح أكثر من مرة قبل ذلك، بأن إسرائيل لن تقبل في محيطها الإقليمي إلا بدول صديقة.
حتى هذه اللحظة، كان هناك التقاء مصالح غير متفق عليه بين ثوار سوريا من ناحية، وبين أميركا وإسرائيل من ناحية أخرى، فسيطرة الثوار على المدن والبلدات التي كانت تمثل المنفذ البري للأسلحة التي تصل إلى حزب الله، هو من صميم الأهداف الأميركية والإسرائيلية، وإيران وحزب الله تمثل عدوًا مشتركًا.
وليس مستغربًا في هذه الحالة، أن إسرائيل التي كانت تضرب عشرات الأهداف يوميًا داخل سوريا في الأشهر الأخيرة، وقصفت مليشيات إيرانية تحركت من العراق لدعم النظام، لم تقم في المقابل بأي استهداف لقوات “ردع العدوان” أو الثوّار!
ولكن ها هي بعد يوم من دخول الثوار إلى دمشق تتحرك سريعًا لتحتل مناطق سورية جديدة لتكون منطقة عازلة تحمي بها وجودها في الجولان السورية المحتلة.
تحدّي “قسد”
تسيطر المليشيات الكردية “قسد” على نحو ربع مساحة سوريا، وتحديدًا على الأجزاء الغنية بالنفط والغاز قرب الحدود العراقية والتركية، أو ما يسمّونه “سوريا المفيدة”، وهي تحظى برضا إسرائيلي ودعم أميركي بالسلاح والغطاء الجوي، وخططها التي أعلنت مؤخرًا بالتوغل في الأراضي السورية لتشكيل حزام أمنيّ أوسع لا يمسّ تلك المليشيات على الإطلاق. فما الذي يمكن فهمه؟
جلي أن واشنطن وتل أبيب تسعيان إلى إقامة دولة كردية في الشرق السوري، مهمتها أن تناكف وتستنزف تركيا، وتكون دولة حاجزة لإيران ونفوذها في العراق، وتمثل جنبًا إلى جنب مع إسرائيل والولايات المتحدة طوقًا يحيط بالنظام السوري الجديد، وتواصل حرمانه من الأسلحة المتقدمة، وتتركه نهشًا لصراع الفصائل، فيما تعربد إسرائيل في سمائه وأرضه.
ولا ننسى أن سجون قوات “قسد” تحوي نحو 10 آلاف مقاتل من تنظيم الدولة، ويمكن وقت الحاجة إطلاق سراح هؤلاء ليشكلوا مصدر خطر مسلح على النظام السوري الوليد الذي تؤسسه المعارضة، كما أنهم سيمنحون مبررًا دوليًا لاستدعاء التحالف الدولي للواجهة من جديد، لينقض – بحجة وجودهم – على الثورة ومكتسباتها.
ما الحل؟
الحفاظ على مكتسبات الثورة السورية يتطلب إستراتيجية متعددة الجوانب، تراعي تعقيدات المشهد المحلي والإقليمي، وهي تضم النقاط التالية:
الحفاظ على الفوضى المنظمة: والمقصود بها ألا يتم التعجل في إنهاء الحالة الثورية بحثًا عن الاستقرار والنظام.. وهذا خطأ وقعت فيه معظم ثورات الربيع العربي، فقد ظنت أن سقوط الطاغية هو نهاية العهد بنظامه، وأن الساعة لن ترجع للوراء، فسعت بسرعة إلى العودة للأوضاع الطبيعية، وكبلت نفسها بقيود الالتزام بقوانين لا يلتزم بها الخصوم.الفوضى المنظمة تتيح للثوار مساحة حركة يحتاجونها للتعامل مع فلول النظام السابق، والمخاطر التي تحيط بالنظام الوليد. وهي مساحة لا يوفرها التطبيع السريع للأوضاع، فالأخير يقيد حرية الحركة، ويضع الثوار قيد المساءلة.. وهكذا، فلو بادر الثوار إلى حل الفصائل أو دمجها في الجيش أو وزارة الداخلية سعيًا وراء الاستقرار والتنمية، لما أمكن لهم التحرك بذات السرعة والكفاءة لو داهمهم خطر من مخاطر المرحلة الأولى.
التصدي لتغول إسرائيل: الضربات الجوية العديدة التي تنفذها إسرائيل بشكل متكرر على أهداف في سوريا، هي اختبار حقيقي للثوار. إذ عليهم أن يجعلوا من سماء سوريا خطًا أحمر، فيوقفوا التمادي الذي يهدف إلى تدمير أسلحة سوريا الثقيلة، واحتلال مساحات جديدة من أراضيها.
التقارب مع روسيا: علاقة روسيا ببشار الأسد لا تعني أن الطريق بينها وبين الثوار السوريين مقطوع، فروسيا دولة براغماتية إلى أقصى درجة. ففي السودان مثلًا عملت مع حميدتي، ثم انقلبت عليه بعد أن عقدت صفقة مع الجيش السوداني، واستقبلت قادة حماس نكاية في واشنطن، وطبعت علاقاتها مع طالبان عدوها التاريخ اللدود ورفعتها من قائمة الإرهاب، وبدأت بالمشاركة في جهود إعادة الإعمار.
صحيح أن لروسيا خطاياها الكبيرة في سوريا، ولكن تحييدها أو كسبها إلى صف الثورة ضروري في ظل الخطر الأميركي الإسرائيلي المحدق على الحدود. وبراغماتية الروس تجعل التفاهم معهم ممكنًا.
شراكة إستراتيجية مع تركيا: للحفاظ على مكتسبات الثورة، لا بد من دولة وازنة. تركيا تريد إعادة السوريين إلى بلدهم، وهي ورقة يراهن عليها الرئيس وحزبه في الانتخابات القادمة. كما تحتاج إلى بيئة تضمن عدم انطلاق موجات هجرة جديدة إليها. وهي كذلك تريد نظامًا يساعدها في تحقيق أهدافها لمنع قيام دولة كردية برعاية أميركية على حدودها.ثوار سوريا في المقابل، سيحتاجون إلى صديق يملك الخبرة والمصلحة، ليشارك في مهام إعادة الإعمار، وتدريب الجيش والشرطة وإنشاء القواعد العسكرية، وتأهيل الحكومة، إضافة إلى اتفاقات دفاع مشتركة، فمن شأن هذا أن يمنح غطاء سياسيًا وعسكريًا للنظام الناشئ الذي تحيط به المخاطر.
عدم استعداء إيران وحزب الله: مهما بلغت العداوة مع هذين الطرفين، فإن الانشغال بالصراع معهما سيكون خطرًا. وإذا كانت قيادة “ردع العدوان” قد أمّنت قيادات النظام وجنوده الذين قتلوا وعذّبوا وأفسدوا في سوريا طيلة خمسين عامًا على أنفسهم، فما المانع من معاملة إيران وحزب الله على نفس القاعدة؟! أبدى الثوار فهمًا لفقه الأولويات عندما أدركوا أن الوقت ليس مناسبًا للانشغال بتصفية الحسابات الداخلية ونكْء جراح الماضي البعيد والقريب. وأبدوه وهم يتحاشون التورط في معارك كلامية أو عسكرية مع إسرائيل قبل أن تستقر أقدامهم على الأرض، وهم من ذات المدخل قد يجدون في إيران وحزب الله خطرًا أقل من الخطر الإسرائيلي والأميركي، بل وربما يجدون أشكالًا من التعاون معهم في وجه عدوهما المشترك الذي يجسد الخطر الأكبر.
حكومة توافقية مشروع وطني جامع: يجب أن تكون هناك رؤية سياسية واضحة تجمع مختلف الفصائل والتيارات تحت مظلة واحدة. تحقيق ذلك يتطلب تنازلات متبادلة، ولكنها ضرورية لضمان وحدة الصف.
إذن، وكما أسلفنا، فإن أخطر ما يمكن أن تقع فيه الثورة السورية، هو الظن أن سقوط النظام يعني نهاية الثورة. تجارب الربيع العربي أظهرت أن ذلك يجعلها هدفًا سهلًا للقوى المضادة.
الثورة السورية تحتاج إلى رؤية بعيدة المدى تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الداخل والخارج، وتضع مصلحة الوطن أولًا. وتحتاج لتحقيق تلك الرؤية، إلى إبقاء آليات الثورة وأدواتها، كإطار سياسي واجتماعي قادر على تحقيق تطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة.
مدير المعهد الدولي للعلوم السياسية والاستراتيجية في أسطنبول. رئيس الأكاديمية الدولية للدراسات و التنمية . خبير ومدرب دولى فى مجالة التنمية البشري
الجزيرة
——————————-
اليوم التالي…تحديات تواجه سوريا المحررة/ رامي الشاعر
15 ديسمبر 2024 م
لا شك أن المشاهد المؤثرة للاحتفالات الشعبية الواسعة في دمشق وحلب وحمص واللاذقية وعدد من المدن السورية ستُحفر في ذهن ووعي وإدراك المواطن السوري والعربي إلى الأبد.
لقد عكست في وجدان المراقب الطريق الشاق والطويل الذي عبرته الثورة السورية، لتصل إلى تلك اللحظة التاريخية الفارقة.
ولكننا راقبنا مثل هذه المشاهد سابقاً، في تونس ومصر وليبيا وغيرها. لا شك أن الوضع السوري مختلف؛ فهو أعقد وأكثر اشتباكاً، وفوق هذا وذاك فقد ارتوت الأرض السورية بأنهار من دماء الشهداء، وعرف الشعب السوري كل ألوان المآسي، مروراً بظلمات السجون والتعذيب والزلازل المدمرة، وانتهاءً بشظف العيش وانقطاع المياه والكهرباء وسائر المرافق واللجوء إلى شتى بقاع الأرض. ناهيك من كمِّ الدمار الذي لحق بالمدن والقرى.
ولا ننسى أن نظام بشار الأسد نجح وأجهزته الأمنية القمعية نجاحاً منقطع النظير في أن يجعل الشعب في حلب وحماة وحمص، وحتى دمشق، وربما اللاذقية، يستقبل أي قيادة بديلة بالزهور.
فقد طال انتظار السوريين للحرية. وما نراه اليوم من مظاهر الترحيب بالثوار وقادتهم رد فعل طبيعي.
كنتُ على مدى سنوات من القريبين جداً من الملف السوري بكل تعقيداته. وشاركت في مفاصل مهمة مختلفة في توجيه رسائل مباشرة إلى النظام، بما في ذلك من خلال كتابين، حمل الأول عنوان «سوريا المكافحة»، والثاني «سوتشي 2018… طريق السلام».
وفي كل ما كُتِب، على مدى سنوات، لم تنقطع الدعوة للقيادة السورية السابقة إلى ضرورة فتح قنوات الحوار، والجلوس إلى طاولة مفاوضات، التزاماً بقرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة رقم «2254». ولم تتوقف المساعي لحث النظام على تفعيل العمل في إطار اللجنة الدستورية المصغّرة؛ الأمر الذي كان يمكن أن يسفر عن تجنُّب الانفجار، ووضع آلية هادئة للانتقال السلمي.
لقد أصبحت المعارضة السورية المسلحة، بقيادة أحمد الشرع، ورئيس وزرائه محمد البشير، في مقعد القيادة اليوم. وخرج السوريون بغالبيتهم الساحقة ليحتفلوا بأولى نسمات الحرية… خرجوا ليحتفلوا بزوال الطغيان. لكن اليوم التالي هو ما يحدِّد مصير سوريا، وليس فقط مشاهد كنس الشوارع وشعارات «بدنا نعمرها»… مع أهمية هذا وذاك بكل تأكيد.
اليوم التالي، والزمن وحده هو ما سيحكم على مصير سوريا والقائمين عليها؛ حيث تواجه سوريا – القيادة الانتقالية الحالية تحديات غير مسبوقة. فقد تغوَّل الاحتلال الإسرائيلي في جنوب البلاد، واخترق حدودها، بعد أن دمَّر القواعد والدفاعات العسكرية السورية، بذريعة أنه «يؤمّن» نفسه، و«يدافع» عن حدوده. ولم يعد الحديث الآن يدور عن مصير الجولان فحسب، بل يدور حول الدفاع عن سوريا وحمايتها من مخطَّط التوسُّع الإسرائيلي الصهيوني في المزيد من أراضيها، وهو ما يثير مخاوف في غاية الخطورة بشأن وجود الدولة السورية ضمن حدودها المعترَف بها دولياً.
وهذا الوضع حذَّرت موسكو منه لسنوات، ولم يتم التعامل معه بجدية كافية، جراء التعنُّت والصلف. لكن هذا التحدي يجب التعامل معه عبر مراكمة جهود والانفتاح بقوة على المحيط العربي والتعامل على ترتيب وضع السلطة الانتقالية في مسار قانوني مستقر. وداخلياً، لا بد من إجراء محاكمات انتقالية عادلة وشفافة ومعلَنة، مع إصدار العفو والسماح عمَّن لم تتلوث أيديهم بالدماء.
الشعب السوري اليوم يقف أمام معضلة وجودية، ولا بد من الخروج سريعاً من الدائرة المفرغة التي تكرَّست خلال سنوات.
في الوقت نفسه، لا بد من توجيه رسائل طمأنة لمن يخشى سيناريو الحرب الأهلية. لا شك أن سوريا أبعد ما تكون عن سيناريو أفغانستان، والشعب السوري والقيادة الحالية يبدون قادرين على تجاوز كل مخلَّفات نظام القمع والاستبداد والطائفية التي عانى منها خلال العقود الأخيرة.
لا شك أيضاً أن المشاهد التي خرجت اليوم من سوريا مطمئِنة إلى حد بعيد، لكنها حتى الآن ليست أكثر من صورة إعلامية مشرقة، نتمنى أن تكتمل بأفعال وإجراءات على أرض الواقع. أولها فيما أحسب العودة إلى قرار مجلس الأمن رقم «2254»، مع اقتراح تعديلات مناسبة، وضمان أن يكون تنفيذه قائماً على دمج جميع مكونات الشعب السوري بعملية سياسية نزيهة تضمن سيادة الشعب السوري على كامل ترابه الوطني، ومنح كل السوريين بجميع أطيافهم وأعراقهم وعقائدهم الحقَّ في التعبير عن إرادتهم الحرة.
وفي رأيي الشخصي المتواضع، أرى أنه يتعيَّن على الأمم المتحدة ومبعوثها الشخصي، بيدرسن، بالدرجة الأولى، وفوراً، السعي لإلغاء جميع العقوبات الاقتصادية على سوريا، والبدء بتقديم المساعدات، خصوصاً الوقود والغذاء والدواء، حتى يتعافى الاقتصاد السوري الذاتي، الذي تتوفر لديه جميع إمكانيات الاستقلال الذاتي، من أجل النهوض بسوريا وتطوّرها ورفع مستوى معيشة شعبها الذي يقدِّس قيم العمل والاجتهاد والدأب والعطاء والكرامة والحرية.
أما عن روسيا، وبينما لم ينقشع الضباب بعد عن تفاصيل العملية التي جرى بموجبها فرار الأسد من المشهد، فأعتقد أن روسيا نجحت للمرة الثانية في أن تُجنِّب سوريا وشعبها نير الحرب الأهلية الواسعة. وحتى مع عدم تفهُّم بعض السوريين لذلك في الوقت الحالي، وهو ما أسفر عن تعرُّض البعثة الدبلوماسية الروسية لتهديدات في دمشق، نتيجة لجوء بعض الشخصيات التي استغلَّت فرصة الفراغ الأمني للقيام بتصرفات مدانة. مع ذلك، فإن المستقبل سوف يكشف، عاجلاً أم آجلاً، كلَّ ما قامت به روسيا من أجل الدفاع عن إرادة ومقدَّرات وموارد الشعب، كما ستكشف روسيا يوماً، وأنا على يقين من ذلك، تفاصيلَ عمَّن ارتكبوا جرائم بحق الشعب من جميع الأطراف، ولا يمكن لروسيا أن تحتفظ أو تساعد أشخاصاً لهم سوابق مثبتة ضد الشعب السوري، ولو على أرفع المستويات.
وقد برز خلال الأيام الأخيرة سؤال ملحّ حول مستقبل الوجود الروسي العسكري في سوريا. يجب التأكيد على أن روسيا لا تتمسك بأي وجود عسكري لها على الأراضي السورية، ولا على أراضي أي دولة خارج حدود الأراضي الروسية. والوجود الروسي كان بطلب محدَّد من الحكومة السورية السابقة، وبالتوافق مع قرارات مجلس الأمن لمحاربة التنظيمات الإرهابية، وفقاً لتصنيف المجلس التابع للأمم المتحدة. ولا أستبعد أن تتضح الأوضاع في القريب العاجل، وكذلك طبيعة العلاقات بين سوريا وروسيا، وأن يتم التخلي عن/ أو تقليص القواعد العسكرية الروسية في حميميم وطرطوس. وقد غادرت السفن العسكرية الروسية التي كانت ترسو في ميناء طرطوس، وانسحبت جميع دوريات الشرطة العسكرية الروسية من مواقعها، وعادت إلى مراكز تجمعها. وأعتقد أنها قد بدأت في مغادرة الأراضي السورية بالتنسيق مع مجموعة آستانة، بعد أن كانت وظيفتها الحفاظ على نظام التهدئة وعدم الاقتتال في سوريا.
ويجب ألا ننسى أن القيادة الروسية أرسلت إلى الأسد عدة مبعوثين في مراحل مختلفة لحثه على أن يبدأ فوراً بعملية الانتقال السياسي السلمي. وقد وعد الأسد مراراً، لكنه لم يحول وعوده إلى أفعال.
العنصر الثاني الذي ينبغي الالتفات إليه هنا أن الأسد لم يقم بما فعله الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، الذي يُحسَب له أنه لم يترك فراغاً في السلطة، وسلَّمها للجيش المصري؛ ما ساعد في تسريع وتيرة عودة الاستقرار.
الآن، أصبحت السلطة الحقيقية في يد الشعب السوري، وأكرِّر ثقتي العالية بالقيادة التي ستلبي طموحات الشعب السوري، واليوم يجب أن يعترف الجميع بأنها السلطة الواقعية والحاكم الفعلي للبلاد، وأشير هنا إلى تجربة هذه السلطة في إدارة شؤون محافظة إدلب من قبل، بكل ما مرَّت به من نجاحات وحتى إخفاقات، ربما، لكنها أدارت المحافظة على الرغم من حرب النظام السوري ضدها. ولا شك في أهمية أن تنضم إليها مكونات من الشعب السوري المصنفة كمعارضة للنظام السابق في دمشق.
وأنا على ثقة من تعاون المنطقة العربية والمجتمع الدولي لإقالة سوريا من عثرتها، حتى يكتب السوريون بدمائهم ومعاناتهم وبحروف من ذهب مواد دستور سوريا المستقبل، الذي سيسطر فيه الشعب السوري نظام الحكم وشكل الدولة وحقوق المواطن الحر في دولته الحرة المستقلة.
أنطلق من الثقة الكاملة بأن سوريا لن تسقط في هاوية المواجهات الداخلية ولا في فراغ دستوري.
* مستشار سياسي في روسيا
الشرق الأزسط
—————————————
تنظيم الدولة ومخاطر عودته إلى سوريا الجديدة/ فراس فحام
15/12/2024
عاد إلى الواجهة الحديث عن تجدد نشاط تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا، على وقع التطورات التي غيّرت الواقع الميداني وخريطة السيطرة في البلاد، الثابتة منذ بداية عام 2020.
فمع انهيار قوات نظام الأسد بالكامل أمام تمدد فصائل الثورة في المحافظات السورية، وانحسار سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن بعض مناطق نفوذها، حذّر مظلوم عبدي قائد قسد -في 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري- من ظهور نشاط التنظيم للعلن بعد أن كان مخفيا.
وأشار إلى أن تنظيم الدولة بات يدخل إلى مناطق سيطرة قواته، ولم يعد يقتصر نشاطه على البادية، مستغلا التطورات الميدانية في سوريا وزوال سيطرة النظام المخلوع.
وتأخذ تصريحات عبدي منحى جدّيا، لأنها تصدر من قائد القوات التي حظيت بدعم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة منذ 2015، لمكافحة تنظيم الدولة الذي كان قد فقد السيطرة الجغرافية بشكل كامل في سوريا أواخر عام 2019 بعد خسارته منطقة الباغوز في دير الزور، ولم تبق له إلا بعض الخلايا المبعثرة في البادية السورية.
فما مدى قوة وحضور خلايا تنظيم الدولة في سوريا، وكيف يتوقع أن تتعامل معه السلطات الجديدة، وما موقف القوى الدولية المنخرطة في التحالف الدولي لمكافحته، وكيف يؤثر على الخريطة السياسية للقوى المؤثرة في الملف السوري؟
نطاق نشاط تنظيم الدولة
وفقا لمصادر في فصائل سورية مسلحة تتخذ من قاعدة التنف التابعة للتحالف الدولي في البادية السورية مركزا لها، فإن نشاط خلايا تنظيم الدولة مرتفع منذ بداية عام 2024، وليس صحيحا أن نشاطها ازداد فقط بعد سقوط الرئيس المخلوع بشار الأسد وانهيار قوات نظامه، لكن بعض الهجمات كان لها أثر إعلامي كونها استهدفت حقل شاعر للغاز، مما أدى إلى مقتل مدير محطة الغاز في الحقل.
المصدر نفسه يقدّر عدد عناصر الدولة في سوريا بقرابة 1200 عنصر، متوزعين على محافظات الحسكة ودير الزور وحمص، من بينهم 800 عنصر تقريبا في منطقة البادية السورية، ويتوزعون في جبل البشري وجبل العمور ومحيط تدمر والسخنة، بالإضافة إلى شمال دير الزور، كما ينشط قرابة 400 عنصر في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
ويعمل تنظيم الدولة هذه الفترة وفق نظام الخلايا الأمنية المبعثرة، ويبتعد عن أسلوب السيطرة الجغرافية، وقد بلغت هجماته على المليشيات المدعومة من إيران -منذ بداية عام 2024 حتى انسحاب هذه المليشيا من سوريا مطلع الشهر الجاري- حوالي 100 هجوم، تركزت في البادية السورية، وتعرضت قوات النظام المخلوع إلى 300 هجوم من الدولة خلال الفترة الزمنية ذاتها، كما طال قوات سوريا الديمقراطية 300 هجوم أيضا.
أميركا باقية في التنف
ومنذ بدء هجوم فصائل الثورة السورية المسلحة على قوات نظام الأسد أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تحركت القوات الأميركية لمنع ترك المجال أمام تصاعد نشاط خلايا الدولة مجددا، خاصة على الحدود السورية العراقية.
وتفيد المعلومات، التي حصلت عليها الجزيرة نت من مصادر على اتصال مع قوات التحالف الدولي التي تنشط في سوريا والعراق، بأن القيادة المركزية الأميركية، التي تتزعم قوات التحالف في المنطقة، لا تفكر حاليا بالانسحاب من قاعدة التنف في البادية السورية، أو من قاعدة عين الأسد غرب العراق، حتى إن اتجهت مستقبلا لإجراء عملية إعادة انتشار، نظرا للدور المهم الذي تساهم فيه القاعدتان في تقويض نشاط خلايا الدولة، فقد كانتا منطلقا لعمليات مهمة استهدفت قيادات بارزة في التنظيم منذ يونيو/حزيران إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
ودفعت القوات الأميركية المتمركزة في قاعدة التنف لانتشار فصيل “جيش الثورة” المحسوب على الفصائل المسلحة للثورة السورية في منطقتي تدمر والقريتين، بمجرد أن بدأت الفصائل العراقية المدعومة من إيران بالانسحاب من سوريا تحت الضغط الأميركي، والهدف هو ملء الفراغ وتجنب ترك مجال أمام الدولة للتحرك بحرية.
ورجحت مصادر مقربة من “جيش الثورة” للجزيرة نت أن يزداد الاعتماد الأميركي على هذا الفصيل في الأيام المقبلة، بحيث يفسَح المجال له أمام استقطاب المزيد من العناصر لتوسيعه، في ظل الإصرار التركي على مطلب إنهاء قوات سوريا الديمقراطية، والمرونة التي تبديها واشنطن أمام هذا المطلب، حيث ضغطت على هذه القوات لمغادرة منبج ودير الزور، وقد تدفعها أيضا للخروج من مناطق أخرى في الفترة المقبلة.
وفرضت قوات التحالف الدولي، التي تنشط شمال شرق سوريا، رقابة على السجون الموجودة ضمن مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، خاصة في محافظة الحسكة، حيث يتم احتجاز قرابة 8 آلاف مقاتل سابق من الدولة مع عائلاتهم فيها، خشية أن يتمكن هؤلاء من التسرّب من السجون والعودة للانخراط في العمل الميداني.
الدور التركي
وأفادت للجزيرة نت قيادات في الجيش الوطني السوري، مقربة من القوات التركية المنتشرة على الأراضي السورية وتدعم عمليات مكافحة الإرهاب، بأن الجانب التركي أكد للولايات المتحدة استعداده لأن يتولى عملية مكافحة ظهور تنظيم الدولة، بما فيها الإشراف على المعتقلين، لضمان ألا تعرقل واشنطن العمليات العسكرية التي تستهدف إنهاء سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وإخراج عناصر حزب العمال الكردستاني المرتبطة بها من سوريا.
ونشطت القوات التركية المنتشرة شمال غرب سوريا مع الأجهزة الأمنية التابعة للجيش الوطني السوري طوال السنوات الماضية في مكافحة تنظيم الدولة، وتمكنت من القبض على خلايا عديدة خلال الأعوام الماضية، وهو ما وفّر قاعدة بيانات مهمة أتاحت تقويض خلايا التنظيم في شمال سوريا عموما، حيث انحسرت عملياته حتى اقتربت من مستوى الصفر.
وتمتلك أجهزة الأمن التركية تنسيقا فعالا مع نظيرتها العراقية فيما يتعلق بمكافحة الدولة، حيث يتبادل الجانبان المعلومات حول نشاط الخلايا، وتحركات قياداتها، وشبكات التمويل التي يستخدمونها، وتم تتويج هذا التعاون بتوقيع اتفاق أمني، في أغسطس/آب 2024، يتضمن بنودا عديدة أهمها تطوير التعاون في مجال مكافحة الإرهاب.
ومن المحتمل أن تساهم حالة الاستقرار في سوريا، وانحسار سيطرة قوات سوريا الديمقراطية عن المناطق العربية، في تخفيض العنصر البشري الذي ينتسب إلى تنظيم الدولة، حيث يلتحق كثير من الأفراد بالتنظيم في إطار ردّ الفعل على الممارسات التي يتعرضون لها من قوات سوريا الديمقراطية.
كما استعانت بعض المجموعات العشائرية العربية شمال شرق سوريا بالدعم الإيراني منذ بداية عام 2021 ردا على الانتهاكات بحقها من هذه القوات، وهذا ما أشار إليه مرارا معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى الذي أوصى قوات التحالف بالضغط على قوات سوريا الديمقراطية لتعديل سلوكها مع المكونات العربية في المنطقة.
المصدر : الجزيرة
————————————
حكومة الإنقاذ في إدلب والطريق لحكم دمشق/ علاء الدين الكيلاني
15/12/2024
تستعد الدوائر والمؤسسات الرسمية السورية للعودة إلى مسار عملها الطبيعي، مع بداية مرحلة جديدة، وذلك بعد إعلان القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع عن تكليف رئيس حكومة الإنقاذ في الشمال السوري محمد البشير بتشكيل حكومة تصريف أعمال، تقود مرحلة مؤقتة في البلاد.
ولقيت عملية الانتقال السلس ارتياحا شعبيا وسياسيا، لسرعة سيطرة إدارة العمليات العسكرية على الوضع الداخلي، وحماية البلد من الفوضى التي كان يخشى من انتشارها في حال فراغ السلطة.
وضمت حكومة تصريف الأعمال، شخصيات تسلّم أغلبها مناصب وزارية في حكومة الإنقاذ السابقة، التي مضى 8 أعوام على تشكيلها في مناطق شمالي سوريا، حيث أشرفت على إدارة إدلب وريفي حلب وحماة المتاخمين لها.
وعلى الرغم من وجود فروق واضحة، من حيث المهام والمسؤوليات، بين تجربة حكومة الإنقاذ المحدودة في مناطق الشمال السوري خلال الفترة السابقة، وتجربتها الجديدة المتوقعة في إدارة عموم البلاد، فإن الشرع أكد أن لدى حكومة البشير خبرات تدعم قدراتها على تسيير شؤون البلاد -في المرحلة الحالية- وإعادة الهدوء والاستقرار.
وفي هذا السياق، أقر البشير أن حكومته ورثت من النظام المخلوع تركة إدارية ضخمة فاسدة، ووضعا ماليا سيئا للغاية، حيث لا يوجد غير الليرة السورية، وهي عملة لم تعد تساوي شيئا مقابل العملات الأخرى، ووعد في تصريحات إعلامية، بمواجهة هذه التحديات، وتخطيها، والنجاح في تحسين الأوضاع مع مرور الوقت.
التجربة والتحديات
تراهن حكومة تصريف الأعمال في إدارتها للفترة الانتقالية، على تجربة حكومية سابقة امتدت لـ8 سنوات داخل المناطق المحررة، وهي تجربة كانت تخضع في الواقع لتقييمات مختلفة، لم تثنها -كما يرى محللون- عن هدفها الرئيس، وهو الرقي بمناطق حكمها وتحسين مستوى الواقع المعيشي والتعليمي، وصناعة مجتمع منتج لا مستهلك.
لكن تلك التجربة كانت تصطدم بمعوقات، أدت إلى تأخر نضوج ثمار خططها، ويمكن تلخيصها في 4 قضايا مهمة:
وجود تعقيدات عاشتها المنطقة على خلفية تدخلات دولية وتجاذبات داخلية.
مواصلة قوات النظام وحلفائه هجماتها اليومية.
انهيار سبل الحياة نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية وانخفاض قيمة الليرة السورية.
تراجع الدعم الذي كانت تتلقاه من المانحين الدوليين.
ومما يزيد من حجم التحديات وجود 4.1 ملايين شخص، يعتمد غالبيتهم على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، بحسب تقارير الأمم المتحدة، منهم نحو 80% من النساء والأطفال، إضافة إلى معاناة أكثر من 3.2 ملايين شخص، من انعدام الأمن الغذائي.
في الطريق إلى المؤسساتية
لجأت حكومة الإنقاذ إلى توحيد المؤسسات والمجالس المدنية المحلية في جميع المناطق التي خضعت لإدارتها، واستبدلت بعض القائمين عليها، بوجوه جديدة، وفق سياسة تدعو للحفاظ على حالة من الاستقرار.
كما تسلمت إدارة المعابر الحدودية التي تربط مناطقها بتركيا، ومناطق النظام في الداخل، وأشرفت وزاراتها على القطاع الخدمي الذي كان يعاني من تدهور واضح في أدائه، إلى جانب قطاعات التعليم العالي والتربية والنقل والكهرباء والمياه والزراعة.
ويرى الناشط السياسي من إدلب سليم الأحمد أن ما ساعد حكومة الإنقاذ على أداء عملها تأييد الحاضنة الشعبية لهيئة تحرير الشام التي عملت على الحد من تجاوز الحركات والفصائل المسلحة في المنطقة، بعد أن منعت مظاهر التسلح داخل المدن والبلدات، وسعت للتقرب من الوجهاء والعشائر من أبناء المنطقة ومن ممثلي النازحين إليها، وكذلك المؤسسات الأهلية.
ورغم ذلك، فقد أربك الوضع الحياتي المتدهور في المنطقة نتيجة خفض المساعدات الأممية، وارتفاع الأسعار، وانتشار الفقر والحاجة، الحكومة ووضعها في مواجهة حالة من التذمر، انتهت باحتجاجات شعبية داخل إدلب وبلدات أخرى، طالب المحتجون فيها بإعادة تقييم سياساتها وخاصة ما يتعلق منها بالشأن الاقتصادي العام.
ورصدت جهات محلية وقتئذ أهم المطالب:
شمل جميع النازحين في المساعدات التي تصلها.
معالجة ارتفاع الأسعار، وأسعار الخبز بالذات.
التخفيف من احتكار استيراد الوقود والبضائع.
خفض الضرائب والرسوم والغرامات التي تفرضها الوزارات على المواطنين.
لكن مصادر في الحكومة أرجعت معاناة السكان من الضغوط الاقتصادية والحياتية إلى تراجع صرف الليرة التركية -العملة المتداولة- والتضخم الاقتصادي العالمي، وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأولية، وارتفاع أسعار الوقود.
ووجه وزير الاقتصاد والموارد في حكومة تصريف الأعمال باسل عبد العزيز رسالة طمأنة للسكان، وتحدث عن قدرة الحكومة على تجاوز المصاعب، ودفع عجلة النمو الاقتصادي نحو الأمام، مشيرا إلى دور المشروعات الحيوية التي نفذتها وتنفذها الحكومة، ومن بينها المدينة الصناعة التي تضم 50 منشأة منتجة و80 أخرى قيد الإنتاج، في تأمين فرص عمل كبيرة، وتحسين مستوى الحياة المعيشية للسكان.
وأكد أن وزارته تسعى بشكل جاد لاستقطاب استثمارات جديدة، في مختلف القطاعات، بعد أن قدمت الحكومة تسهيلات للمستثمرين، ووفرت بيئة تحتية مؤهلة، وبيئة قانونية مشجعة، ومحاكم مختصة تحمي حقوقهم. من شأنها أن تعزز النهوض الذي تشهده المنطقة.
القبضة الأمنية
وكانت أكثر السياقات التي وجد المحتجون ذريعة فيها من أجل تصعيد احتجاجاتهم، ازدياد القبضة الأمنية للهيئة، واعتقال عشرات العناصر والقادة بتهمة التعاون مع روسيا ونظام بشار الأسد، إلى جانب اعتقال من وصفتهم التقارير بأصحاب رأي فقط، وعدم إطلاق سراحهم.
وأجرت حكومة الإنقاذ وقيادة الهيئة على خلفية تلك الاحتجاجات لقاءات مع النخب المجتمعية ووجهاء البلدات والقرى، أبلغتهم فيها بتبني مطالبهم، والبدء بتنفيذها، في مسعى جاد لاحتواء الأزمة وارتداداتها، وصدرت قرارات شملت تخفيض بعض الرسوم والضرائب، والعفو عن جميع السجناء وغيرها.
واستخدمت الحكومة سياسة الاحتواء والتقرب من المجتمعات المحلية المؤثرة، ومعالجة قضاياها بصورة هادئة، هدفت من ورائها إرسال رسالة تؤكد احترامها لحرية التعبير والانتقاد، في أجواء لم تكن متوفرة في المناطق التي كانت تقع تحت سيطرة نظام الأسد المخلوع.
إنجازات
على الرغم من مصادرها المحدودة استفادت حكومة الإنقاذ -وفق خبراء اقتصاديين- من عائدات المعابر التي تشرف عليها، والضرائب والرسوم المفروضة على السكان، في تلبية احتياجات مجتمعاتها المحلية، وتنفيذ مشاريعها الخدمية.
قطاع الخدمات
أنجزت الحكومة -وفق موقعها الإلكتروني- مشاريع تأهيل وتعبيد لطرقات محورية وعادية، ومرافق خدمية واضحة للعيان، يجري استخدامها منذ سنوات.
وقامت بعد مرحلة التأسيس التي ركزت فيها على هيكلة مؤسسات خدمية قادرة على تلبية احتياجات المناطق التابعة لها بإيصال التيار الكهربائي إلى كل بيت، ونفذت مئات المشاريع تنوعت بين صيانة الطرق، وتركيب الإنارة في الساحات والشوارع، وتأهيل ومد شبكات جديدة لمياه الشرب والصرف الصحي.
وأنجزت في عام 2023 نحو 710 مشروعات طرقية بطول 50 كيلو مترا، و1854 مشروع تمديد صرف صحي بطول 4 كيلومترات، و185 مشروع إنارة وتجميل وصيانة.
التعليم
وفي مجال التعليم، أدارت وزارة التربية والتعليم، ووفرت الدعم اللوجيستي -وفق المصدر ذاته- لـ1658 مدرسة، بلغ عدد طلابها 474 ألف طالب وطالبة، يتلقون التعليم، إلى جانب 410 مدارس جرى إنجازها في مخيمات النزوح، و571 مدرسة للتعليم الخاص، تضم 109 آلاف طالب وطالبة. جرى تشغيل الأخيرة بمبادرات محلية.
لكن ظاهرة تسرب الطلبة تركت أثرا سلبيا على مخرجات العمل التعليمي، لاضطرار كثير من الأطفال ترك مدارسهم -وفق تقرير أصدره مكتب أوتشا- لمساعدة ذويهم، وتأمين احتياجات أسرهم الأساسية، مما نتج عنه وجود أكثر من مليون طفل وطفلة -على المستوى العام- خارج نطاق عملية الدراسة.
الصحة
كما دعمت الحكومة برامج الرعاية الصحية الأولية، وزودت المراكز الصحية بما تحتاجه من أدوية ومستلزمات، في ظل ظروف الحرب والتهجير وانتشار الأمراض والأوبئة، مما حمّلها مسؤوليات كبيرة، على صعيد تأمين ما تحتاجه من أدوات وأدوية.
ومع ذلك بقيت مناطق الشمال السوري تشكو عدم وجود مراكز وأطباء وتجهيزات قادرة على التعامل مع الأمراض الخطيرة، مثل السرطان والكلى والتشوهات، والأمراض العصبية والقلبية وغيرها.
وبحسب منظمة أطباء بلا حدود، فإن ثلث المرافق الصحية في إدلب وريف حلب أوقفت أنشطتها، أو علقتها جزئيا، بسبب نقص التمويل.
وأوضحت المنظمة، في بيان لها، أن الدعم المالي الدولي للنظام الصحي شمالي سوريا يشهد تراجعا، في حين تتجاوز الاحتياجات الطبية في المنطقة الخدمات الطبية المتاحة بكثير، ويتحمل السكان العبء الأكبر بسبب الدعم المحدود الذي نجم عنه إغلاق بعض المشافي والمرافق الصحية.
نجحت ولكن
من جهته، ربط المعارض السياسي السوري عماد غليون -المقيم في باريس، في تصريح للجزيرة نت- نجاح أداء حكومة الإنقاذ، بالنظر إلى ما تعيشه مناطق مجاورة، حيث أدارت مناطقها ضمن قوانين جرى استخلاصها من مبادئ الشريعة الإسلامية، واجتهادات هيئة تحرير الشام، في حين افتقر غيرها لهذه المركزية التي تقودها جهة واحدة وبمبادئ واضحة.
وأشار إلى أن الحدود المفتوحة مع تركيا، ساعدتها في مجالات عديدة، حيث ضمنت لها حركة تجارية وصناعية متواصلة، وأسهمت في اتساع نطاق الخدمات التي تقدمها، كما باتت الحركة الاقتصادية والتجارية أكثر حرية وديناميكية من مناطق النظام البائد، وبدأ يظهر نمط اقتصادي مزدهر في المنطقة، شكل علامة فارقة على اعتبارها منطقة صراع.
بيد أن نجاح حكومة الإنقاذ في إدلب ضمن نطاق جغرافي محدود، بشكل مقبول نسبيا، وفق غليون، يختلف تماما عن تجربتها الراهنة على مستوى سوريا التي تدار وفق دستور وقوانين وعلاقات دولية.
وقال إن طريقة تعاطي القائد العام للقيادة السورية الجديدة أحمد الشرع مع القضايا الداخلية والعلاقات الخارجية، يبدو أنها ستنجح في رفع اسم الهيئة عن قائمة الإرهاب، وفي إلغاء قانون قيصر، مما يسهم في تدفق المساعدات والاستثمارات الخارجية بعد توقف دام أكثر من عقد.
المصدر : الجزيرة
——————————–
هكذا فازت تركيا بالحرب الأهلية السورية: سقوط الأسد نعمة لأردوغان أقله في الوقت الحالي/ غونول تول
الأحد 15 ديسمبر 2024
سقوط بشار الأسد منح تركيا بقيادة أردوغان نفوذاً كبيراً عبر دعم المعارضة الإسلاموية، لكن على رغم الفرص الاقتصادية والسياسية تواجه أنقرة تحديات انتشار التطرف وعدم استقرار محتمل، مما يهدد مصالحها الإقليمية ويكبدها مسؤوليات إضافية.
أثارت أنباء سقوط الرئيس السوري بشار الأسد قلقاً هائلاً في معظم عواصم الشرق الأوسط. إلا أن أنقرة ليست واحدة منها. فبدلاً من القلق في شأن مستقبل سوريا بعد صراع دام أكثر من عقد من الزمن، يرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن ثمة فرصة في مرحلة ما بعد الأسد. ولتفاؤله هذا ما يبرره، ذلك أن أنقرة تتميز بين جميع اللاعبين الأساسيين في المنطقة، بأنها تملك أقوى قنوات الاتصال و[أطول] تاريخ عمل مع الجماعة الإسلاموية التي تتولى السلطة الآن في دمشق، مما يجعلها في وضع يسمح لها بجني ثمار سقوط نظام الأسد.
إن “هيئة تحرير الشام” التي تعد من كبريات القوى المتمردة التي وضعت حداً لحكم الأسد، هي جماعة سنية إسلامية كانت تابعة في السابق لتنظيم القاعدة، وقد صنفتها تركيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة كمنظمة إرهابية. وعلى رغم هذه التصنيفات، فقد قدمت تركيا مساعدات غير مباشرة لـ”هيئة تحرير الشام”. كما أن الوجود العسكري التركي في مدينة إدلب في شمال غربي سوريا قد وفر الحماية لهذه الجماعة إلى حد كبير من هجمات القوات الحكومية السورية، مما سمح لها بإدارة المحافظة من دون إزعاج لسنوات. وتمكنت تركيا من إدارة تدفق المساعدات الدولية إلى المناطق التي تديرها “هيئة تحرير الشام”، الأمر أمَّن شرعية المجموعة لدى السكان المحليين. وكذلك وفرت التجارة عبر الحدود التركية الدعم الاقتصادي للمجموعة.
وقد أعطى هذا كله تركيا نفوذاً على “هيئة تحرير الشام”. في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي ألغى أردوغان خططاً لشن هجوم للمتمردين في حلب، لكن أطلقوا حملتهم في أواخر الشهر الماضي فإنها جرت بموافقة أردوغان، على الأغلب. بقي الأسد يماطل لأعوام، بينما سعى أردوغان إلى إصلاح العلاقات مع دمشق وإعادة ملايين اللاجئين السوريين الذين قوض وجودهم في تركيا الدعم لحزبه الحاكم. ومع إضعاف حلفاء الأسد الإقليميين بسبب الحملة الإسرائيلية في غزة ولبنان، وتشتت انتباه روسيا بسبب الصراع في أوكرانيا، رأى أردوغان فرصة سانحة لإجبار الزعيم السوري على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
كان نجاح المتمردين بمثابة مفاجأة. والآن، وقد أصبح الأسد خارج الصورة تماماً، يستعد أردوغان للاستفادة من استثماره الذي استمر لأعوام في المعارضة السورية. ولقد كُسرت شوكة كل من إيران وروسيا، وهما المنافسان الرئيسان لتركيا في سوريا. وقد تشكل حكومة صديقة لتركيا قريباً في دمشق، تكون على استعداد للترحيب باللاجئين العائدين. وربما يفتح رحيل الأسد نافذة حتى أمام القوات الأميركية المتبقية لمغادرة المنطقة، وتحقيق هدف طويل الأمد تسعى إليه أنقرة. وإذا تمكنت تركيا من تجنب الأخطار المحتملة في المستقبل، فقد ينتهي بها الأمر إلى تحقيق فوز واضح في الحرب الأهلية السورية.
بداية صعبة
كان طريق أردوغان إلى الظفر بالنفوذ في سوريا وعراً. وبعد اندلاع الانتفاضة في البلاد عام 2011، أصبحت أنقرة مؤيدة متحمسة للمعارضة المناهضة للأسد، إذ قدمت المساعدات المالية والعسكرية للجماعات المتمردة، بل وسمحت لها معه باستخدام الأراضي التركية لتنظيم وشن الهجمات. كانت أنقرة تأمل في أن يتوسع نفوذ تركيا الإقليمي مع وجود حكومة يديرها الإسلامويون في دمشق، ولكن استمرار الحرب الأهلية السورية سبب مشكلات لتركيا. وأدت جهود أنقرة الرامية إلى الحث على تغيير النظام إلى توتر في علاقاتها التي كانت في السابق ودية مع دول إقليمية. فقد اختلفت مع كل من مصر والعراق والأردن والسعودية والإمارات العربية المتحدة، وأيضاً مع أقوى داعمي الأسد، إيران وروسيا. ودفعت هذه العزلة كبير مستشاري أردوغان السياسيين في ذلك الوقت، إبراهيم كالين، إلى الإشارة عام 2013 لالتزام تركيا دعم المعارضة السورية والقضية الإسلاموية على أنه كان سياسة خارجية لتحقيق “عزلة نفيسة”.
والأكثر أهمية هو أن الصراع السوري قد أدى أيضاً إلى تحويل علاقات تركيا المشحونة سلفاً مع الولايات المتحدة إلى كابوس استراتيجي. كان قرار الولايات المتحدة عام 2014 بإسقاط الأسلحة جواً لوحدات حماية الشعب الكردية السورية، وهي المجموعة التي تعدها أنقرة منظمة إرهابية، بمثابة نقطة تحول في العلاقات بين البلدين. ومن منظور الولايات المتحدة، أصبح دعم وحدات حماية الشعب ضرورة استراتيجية بعدما فشلت المساعي التي قامت بها على مدى أشهر لإقناع تركيا ببذل مزيد من الجهد لإخضاع تنظيم “داعش”. ولم تجد واشنطن، التي كانت تشعر بالإحباط على نحو متزايد إزاء اللامبالاة التركية الواضحة تجاه نشاطات “داعش” داخل حدودها، خياراً أفضل. ومن جانبها، شعرت أنقرة بالخيانة بسبب قرار حليفتها تسليح عدوها.
وفيما كانت مشكلات تركيا مع الولايات المتحدة آخذة بالتفاقم، استفادت روسيا من الوضع. فقد تدخلت موسكو في سوريا عام 2015 من أجل إنقاذ نظام الأسد، مما وضع مصالحها على طرفي نقيض مع مصالح أنقرة. وكانت لروسيا اليد العليا الواضحة في سوريا، ولم ير أردوغان أي خيار آخر أمامه سوى التعاون مع الرئيس فلاديمير بوتين. وما كان التوغل التركي العسكري عام 2019 في شمال سوريا للحد من التقدم الكردي هناك ممكناً إلا بعدما حصلت على ضوء أخضر من موسكو، علما أنها خطوة اعتبرها أردوغان ضرورية من أجل تعزيز تحالفه المحلي مع القوميين الأتراك. وهناك بعض التكهنات التي تقول إن قرار أردوغان بشراء أنظمة الدفاع الصاروخي الروسية “أس-400″، جاء بهدف تأمين موافقة موسكو على ذلك [التوغل]. ولقد تسببت صفقة شراء الأنظمة الدفاعية تلك في خلاف مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو).
مكافأة كبيرة
أما اليوم وقد مضى الأسد، فإن ميزان القوى هذا قد تحول على وجه السرعة وأصبح في مصلحة أردوغان. إن خسارة روسيا لا تعطي تركيا حرية أكبر في سوريا فحسب، بل إنها ستلحق الضرر أيضاً بمكانة موسكو في مناطق أخرى حيث يتنافس البلدان على النفوذ. مثلاً، أفريقيا هي واحدة من هذه المناطق. إن التدخل في سوريا قد ساعد بوتين على إعطاء روسيا صورة قوة عظمى جديرة بالثقة لجهة تقديم الدعم. وقد استغل هذه السمعة لتطوير علاقات وثيقة مع حكام أفارقة مستبدين، وخصوصاً في منطقة الساحل، في حين سعت تركيا إلى تقديم نفسها بديلاً لموسكو. إن انهيار الأسد من شأنه أن يشوه صورة روسيا تلك ويشكل تهديداً لشراكاتها. ومن دون أن يكون لها موطئ قدم عسكري في سوريا، سيتعرض دعم روسيا اللوجيستي لعملياتها في أفريقيا، ولا سيما في ليبيا، إلى الخطر، مما قد يترك فراغاً يمكن لتركيا أن تملأه.
وإن سقوط الأسد من شأنه أن يعزز موقف تركيا بما يتصل بعلاقتها مع إيران أيضاً. كثيراً ما كانت الدولتان متنافستين إقليميتين. وفي سوريا، نسقت القوات المدعومة من إيران مع وحدات حماية الشعب في إطار محاربة “داعش”، مما أفضى إلى تهميش القوات المدعومة من تركيا في بعض المناطق. وأسهمت الميليشيات المدعومة من إيران داخل قوات الحشد الشعبي، وهي وحدات شبه عسكرية ترعاها الدولة العراقية، في زيادة التعقيد الذي يتسم به قتال تركيا ضد حزب العمال الكردستاني، الجماعة الانفصالية المسلحة التي تنشط في تركيا وقد صنفتها كل من أنقرة وواشنطن على أنها منظمة إرهابية تتخذ من شمال العراق مقراً لها. وفي جنوب القوقاز، سعت أنقرة وطهران إلى تحقيق أجندات متضاربة. فقد عززت تركيا تعاونها مع أذربيجان بطرق تراها إيران تهديداً، في حين تحافظ إيران على علاقات ودية مع أرمينيا، التي تشكو علاقتها بتركيا من الخلافات.
غير أن إيران أصبحت ضعيفة، أولاً جراء الحرب الإسرائيلية في غزة، التي وجهت ضربة إلى “محور المقاومة” الذي تقوده طهران، وثانياً نظراً إلى أن الأسد قد أطيح، وهو كان حليفاً قوياً لطهران. وقد لعبت سوريا دوراً مهماً في استراتيجية إيران التي تتصل بدعم الجماعات المتشددة والوكلاء في مختلف أنحاء المنطقة. وكانت بمثابة جسر بري تمكنت طهران من خلاله أن تنقل الأسلحة وغيرها من الإمدادات إلى “حزب الله” في لبنان. وسوف تؤدي خسارة سوريا إلى الحد من قدرة إيران على فرض قوتها، مما سيمنح تركيا مساحة أكبر للمناورة، من العراق وسوريا إلى جنوب القوقاز.
ومن المرجح أن يوفر سقوط نظام الأسد لأردوغان فائدة أخرى هي فرصة المصالحة مع واشنطن. والواقع أن الوجود العسكري الأميركي في سوريا والتعاون مع وحدات حماية الشعب الكردية قد تسببا في توتير العلاقات الثنائية وتعقيد العمليات التركية في المنطقة. ففي عام 2019، بعد أيام من إعلان الرئيس دونالد ترمب انسحاب القوات الأميركية من سوريا، أمرت أنقرة بشن حملة عسكرية ضد حلفاء واشنطن من الأكراد السوريين. وفرض حينذاك ترمب الغاضب عقوبات على تركيا كما تعهد بالإبقاء على “عدد صغير” من القوات في أجزاء من سوريا من أجل حماية المنشآت النفطية. وكثيراً ما أرادت أنقرة أن تنسحب القوات الأميركية، وقد أحيا انتخاب ترمب لولاية ثانية الآمال في أنه أخيراً سيعيد القوات المتبقية إلى الوطن. وربما سيجعل رحيل الأسد هذه النتيجة ممكنة أكثر مما مضى، إذ في اللحظة التي وصل فيها المتمردون السوريون إلى ضواحي دمشق لاقتحام معقل نظام الأسد، أصر ترمب على أن الولايات المتحدة “لا ينبغي أن يكون لها أي صلة” بمعركتهم. وعندما يباشر مهامه كرئيس، قد يوافق على إبرام صفقة تلتزم فيها تركيا احتواء “داعش” وتسحب الولايات المتحدة قواتها من سوريا، ومن ثم يهيئ لأنقرة إقامة علاقة مثمرة مع الإدارة الأميركية الجديدة.
الحذر واجب
على رغم أن سوريا في مرحلة ما بعد الأسد توفر فرصاً لأنقرة، فإن هناك أيضاً أخطاراً لا يمكن تجاهلها وتتمثل في أن القوى التي يقودها الإسلامويون والتي أطاحت الديكتاتور يمكن أن تعزز عدم الاستقرار والتطرف. نادراً ما تكون انتقالات سلطة من هذا النوع سلسة. فبعد 13 عاماً من الانتفاضة في ليبيا بدعم من حلف الـ”ناتو”، التي أطاحت معمر القذافي، لا يزال هذا البلد غارقاً في الصراع والفوضى، ويعاني سكانه على رغم ثروته النفطية الوفيرة. وبعد إسقاط صدام حسين عام 2003، كافح قادة العراق الجدد بهدف ترسيخ الديمقراطية وتحملت البلاد موجة عنف وحشي. وتواجه سوريا اليوم تحديات لها حجم مماثل لتحديات العراق، أو ربما أكبر، بعد أن عانت لأكثر من عقد من الزمن من الحرب الأهلية التي تسببت في دمار واسع النطاق وعمقت الانقسامات الاجتماعية والسياسية.
ومن غير المؤكد أن الجماعات التي حلت محل الأسد ستكون قادرة على معالجة هذه المشكلات. فقد أعلن المتمردون عن تعيين رئيس وزراء موقت، بيد أن سيطرة الحكومة الجديدة لم تتوطد بعد بصورة كاملة. وإن تمكنت تركيا من التحرك بهدف المشاركة في جهود إعادة الإعمار الضخمة التي تحتاج إليها سوريا الآن، سيكون لها بالتأكيد دور ما تلعبه فيها. إن دعمها المجموعات التي تمسك بزمام المسؤولية، والحدود الطويلة التي تشترك فيها مع سوريا، ووجودها العسكري في البلاد يمنحها نفوذاً كبيراً. ومع ذلك، لن تكون أنقرة قادرة على إملاء كيفية حكم القادة الجدد في دمشق.
لم يقدم تحالف المتمردين الذي تقوده “هيئة تحرير الشام” كثيراً من التفاصيل حول الخطط التي وضعها لحكم سوريا، بيد أن الدول الغربية والعربية تخشى أن يحاول إقامة نظام إسلاموي متشدد. ومع ذلك، حاولت “هيئة تحرير الشام” في بعض النواحي تقديم وجه معتدل. وقد نأى زعيمها بنفسه عن الإرهاب الدولي علناً. وبعد إسقاط الأسد، تعهدت المجموعة بعدم تدمير مؤسسات الدولة وتعهدت باحترام التنوع العرقي والديني في البلاد.
ومع ذلك، هناك أسباب وجيهة للتشكك. إن حكم “هيئة تحرير الشام” في إدلب لم يكن ديمقراطياً على الإطلاق. وقد تدفع تركيا الحكومة السورية الجديدة إلى ضمان حقوق المرأة والأقليات، جزئياً لأن ذلك سيساعدها على إرضاء الغرب والفوز باستحسانه. إلا أن هذا لا يعني أن المتمردين سيصغون إليها. ومن المستبعد أن تسعى تركيا إلى توفير شروط سخية لأكراد سوريا، خصوصاً أنها ترفض منح سكانها الأكراد حقوقاً أساسية. إن المشكلة الكردية من شأنها أن تؤدي إلى استمرار عدم الاستقرار في شمال سوريا، مع إمكانية انتقال بعض آثار هذه الحالة إلى تركيا. وإذا فشل المتمردون في ترسيخ الحقوق المتساوية لجميع السوريين في القانون والممارسة، فقد لا تبدو سوريا الجديدة مختلفة كثيراً عن تلك القديمة. ولن تكون هذه النتيجة جيدة بالنسبة إلى أنقرة. يريد أردوغان أن يعود اللاجئون السوريون المقيمون الآن في تركيا إلى بلادهم طواعية. وفي ظل غياب ضمانات بمستقبل ديمقراطي، قد لا يرغب كثر في ذلك.
وهناك أيضاً الخطر الذي يتمثل في عودة “داعش”. وسيواجه قادة سوريا الجدد كثيراً من المهام التي ينبغي التعامل معها في العام المقبل. كما سيكون على الميليشيات الكردية السورية التي تؤمن الآن السجون ومراكز الاحتجاز التي تؤوي عشرات الآلاف من مقاتلي “داعش” أن تفكر في مستقبلها أيضاً. إن استغلال هذه الفترة من الفوضى قد يسمح للجماعة الجهادية أن تحاول تكوين نفسها من جديد. وتركيا معرضة خصوصاً للهجمات الإرهابية، لأنها موطن لشبكات “داعش” النشطة. ففي هذا العام وحده، اعتقلت السلطات التركية أكثر من 3 آلاف عضو مشتبه فيه في “داعش” في عمليات تستهدف ضرب هذه الشبكات.
إن التطور السياسي في سوريا في الأمد القريب لن يعتمد فقط على نيات الحكومة الجديدة وقدراتها، بل أيضاً على تصرفات القوى الخارجية للمساعدة في استقرار البلاد وإعادة بنائها. وسوف تحتاج سوريا إلى الاستثمار الأجنبي في البنية التحتية، والمساعدات الإنسانية، والتخفيف من العقوبات، ودعم عودة اللاجئين، والمساعدة في نزع سلاح الميليشيات وإعادة تدريب الأجهزة الأمنية. ولكن إذا تجاهل التحالف الذي تقوده “هيئة تحرير الشام” الضغوط الدولية للوفاء بوعده بتشكيل حكومة جامعة ومؤسسات مدنية، فسينبذه العالم، وقد تعود سوريا المعزولة بسهولة إلى الفوضى العنيفة. وستضطر تركيا بعد ذلك إلى التعامل مع جار تعرض للتدمير الاقتصادي تتناتفه جماعات مسلحة متنافسة.
وباعتبارها الوسيط القوي الذي أدت أفعاله إلى سقوط نظام الأسد، فإن تركيا ستتحمل مسؤولية مشكلات سوريا. ولقد سارع كثر في أنقرة إلى إعلان النصر بعد فرار الأسد من البلاد. والواقع أن وجود حكومة صديقة في دمشق قد يفتح الأبواب بالفعل أمام أردوغان. فهو يريد أن يعود اللاجئون إلى سوريا، ويرغب أن يكون حلفاؤه من العاملين في قطاع البناء في تركيا، بين المشاركين في إعادة إعمار سوريا. إن هذا الفوز في سوريا قد جعل مكانة أردوغان مرموقة، وهو ما يأمل في أن يستغله من أجل تدعيم علاقاته مع الغرب ومع بلدان في المنطقة. ولكن إذا انزلقت سوريا إلى الفوضى مرة أخرى، وصارت أرضاً خصبة للإرهاب وعدم الاستقرار، لربما يدفع هذا مزيداً من اللاجئين إلى عبور الحدود [نحو تركيا]، وقد يصل الأمر بالرجل القوي في أنقره إلى الندم على النجاح الكارثي الذي حققه المتمردون.
غونول تول هي مؤلفة كتاب “حرب أردوغان: صراع الرجل القوي في الداخل وفي سوريا” ومديرة الدراسات التركية في “معهد الشرق الأوسط” للبحوث.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 11 ديسمبر (كانون الأول) 2024
المزيد عن: الحرب في سورياتركيارجب طيب أردوغان
————————–
المراهق الذي أشعل شرارة الثورة في سوريا وعاد ليختمها/ بيل ترو
كان معاوية الصياصنة في الـ16 من عمره عندما اعتقل عقب كتابته عبارات مناهضة للأسد على جدار مدرسته، وأثار اعتقاله تظاهرات أفضت إلى حرب أهلية
الأحد 15 ديسمبر 2024
معاوية الصياصنة مراهق أشعل الثورة السورية بعبارة بسيطة على جدار مدرسته. بعد أعوام من الحرب والمعاناة، يطمح لمستقبل أفضل لأطفال سوريا بعيداً من العنف والقمع والاعتقال.
مدفوعاً بغضبه من الحياة في ظل حكم بشار الأسد خط
معاوية الصياصنة الذي كان بعمر الـ16 مع أصدقائه أربع كلمات على جدار في ساحة المدرسة.
أربع كلمات تنم عن التحدي أدت إلى اعتقال المراهقين وتعذيبهم طوال أسابيع، فأشعلت فتيل التظاهرات الأولى التي خرجت في سوريا بداية عام 2011.
وهي أربع كلمات فجرت ثورة تحولت إلى إحدى أكثر الحروب الأهلية دموية في تاريخنا الحديث.
أربع كلمات بسيطة “إجاك الدور يا دكتور”.
حملت العبارة إشارة إلى الأسد الذي كان طبيب عيون في لندن قبل عودته إلى سوريا لإكمال مسيرة عائلته ونظامهم الوحشي.
ويقف معاوية أمام الجدار نفسه في مدينته درعا، ويعود بالذاكرة قائلاً “قضينا 45 يوماً تحت التعذيب داخل السجن بسبب هذه الكلمات. وكان الوضع يفوق الوصف وكنا أطفالاً، علقنا وضربنا وصعقنا بالكهرباء”.
يضع على كتفه بندقية. فقد قاتل في نهاية المطاف في صفوف الجيش السوري الحر قبل أن ينضم بعد ذلك بأعوام إلى فصائل الثوار الذين لم يطردوا قوات النظام من درعا الأسبوع الماضي فحسب، بل كانوا في طليعة الفصائل التي دخلت العاصمة دمشق واستولت عليها.
ويقول لـ”اندبندنت”، “بعد انطلاق الثورة عام 2011، طالبت المنطقة كاملة بعودها أبنائها. ونحن فخورون بما فعلناه لأن البالغين عجزوا عن فعله”.
5
معاوية الصياصنة
يبلغ معاوية الآن الـ30 من عمره وأصبح أباً بدوره، إنما كان من المستحيل أن يتوقع في شبابه أن تصرفه البسيط الذي نبع عن إحباط مراهق سيخلق تأثير كرة الثلج كما حصل.
ولم يكن ليتخيل أبداً أنه بعد مرور 10 أعوام، وبعد فراره من قصف النظام العنيف على درعا وتحوله إلى لاجئ، سيعود ويتبع ثوار غرفة عمليات الجنوب إلى دمشق، فيؤدي إلى سقوط نظام الأسد.
“حدثت معركة درعا بسرعة، وقد تفاجأنا بها. ففي غضون لحظات استولينا على المدينة وبعدها على دمشق وكانت المرة الأولى التي أدخل فيها العاصمة على الإطلاق”، كما يقول فيما يريني صورته التي يبدو فيها مذهولاً وهو يحمل بندقيته في ساحة الشهداء داخل العاصمة.
ويتابع بقوله “عندما كتبنا تلك الكلمات منذ أعوام عديدة لم نعتقد أنها ستفضي إلى هذا الوضع، وبصراحة لم نعتقد أنها ستؤدي إلى انتفاضة تعم درعا وسوريا بأكملها. لكننا طالبنا بحريتنا ونحن باقون الآن على تراب وطننا”.
وأكمل “كانت الحرب قاسية. وأصيب فيها كثر ولقي كثر حتفهم وفقدنا عدداً كبيراً من أحبتنا، لكننا نشكر الله. فدماء الشهداء لم تذهب سدى. وانتصر الحق وانتصرت الثورة”.
وقعت الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل كل هذه الأحداث في هذه المدينة الجنوبية الصغيرة التي لم يكن كثر سمعوا بها قبل 2011، وكانت درعا التي تبعد أميالاً قليلة من الحدود السورية-الأردنية تضم 117 ألف نسمة فقط قبل الحرب، وكانت الحياة صعبة قبل الثورة.
ويلوم معاوية وصول عاطف نجيب رئيس فرع الأمن السياسي الجديد إلى المنطقة مطلع القرن الحالي. وذاع صيت الرجل بسبب قمعه وقوانينه الصارمة وإشرافه شخصياً على سجن معاوية وأصدقائه.
ومع بداية عام 2011 كانت طرقات المنطقة تعج بحواجز الشرطة. ويتذكر معاوية تلك الفترة فيقول “لم يكن من الممكن الدخول أو الخروج [من المنطقة]، وكنا نتابع التظاهرات في مصر وتونس وسقوط الأنظمة هناك. لذلك كتبنا ’إجاك الدور يا دكتور‘ وحرقنا نقطة تفتيش تابعة للشرطة”.
ألقي القبض بعدها على 15 صبياً في الأقل من عائلات مختلفة، وتعرضوا لأبشع صور التعذيب. وأفادت تقارير عن مقتل أحدهم تأثراً بجراحه.
ويتذكر معاوية كيف قالت السلطات لذويهم “انسوا أمر أولادكم وأنجبوا غيرهم، وإن لم تستطيعوا فاجلبوا نساءكم إلينا”.
وبحلول مارس (آذار) الماضي، بدأ الآلاف -وبعدها عشرات الآلاف- يحتشدون بوتيرة منتظمة في محيط مسجد العمري المحايد في المدينة ويطالبون بعودة الأطفال، مما تسبب باندلاع تظاهرات لمواطنين غاضبين في كل أنحاء البلاد.
وأوضح “تفاجأنا بالأحداث. طالب الجميع بعودة الأطفال، العائلات في درعا طالبت كما في كل أنحاء سوريا [أيضاً]”.
ويقول إيهاب قطيفان وهو يبلغ من العمر 50 سنة، وكان بين جموع المتظاهرين في ذلك الوقت إن اعتقال الأطفال كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
ويقف خارج المسجد نفسه بعد 13 عاماً على الأحداث، فيتذكرها ويقول “كان وضعنا مزرياً كما رأيت بأم العين، السجون والمعتقلات وآلات التعذيب. وتعرضنا للقمع على يد كل جهاز من أجهزة السلطة”.
لكن السلطات قابلت التظاهرات بالعنف وبعد ذلك تفاقمت الأمور. ودار القتال طوال سبعة أعوام قاسية دمرت خلالها قوات النظام درعا. وكان والد معاوية أحد القتلى ولقي مصرعه بقذائف النظام عام 2014 بينما كان متجهاً إلى صلاة الجمعة.
وبحلول عام 2018 استسلم الثوار وأرغموا بناء على الاتفاق الذي توصل إليه على إجلاء المنطقة والتوجه إلى إدلب في شمال غربي البلاد. وكان معاوية أحد العناصر الذين فروا من المكان، واتجه إلى تركيا التي قاسى فيها مصاعب حياة اللجوء.
وبعد ذلك، عاد الشاب المفلس واليائس إلى بلدته عبر قنوات التهريب وانضم خلال وقت سابق من الشهر الجاري -فيما اكتسحت قوات المعارضة من إدلب مدن حلب وحماة وحمص- إلى شباب درعا الغاضبين، الذين انقلبوا مرة جديدة على نظام الأسد. وتفاجأ الجميع بأن جنود النظام الذين بثوا في قلوبهم الخوف طوال عقود من الزمن، تبخروا على ما يبدو.
وفي درعا، يشهد الخراب والدمار المنتشر في المدينة على أعوام القتال. ويلعب الأطفال كرة القدم أمام هياكل المباني السكنية، فيما تحاول العائلات أن تعيد بناء بعض المآوي الموقتة داخل هياكل منازلها المدمرة.
ولم يعرف المراهقون في هذه المنطقة سوى الحرب.
ويقول فتى يبلغ من العمر 16 عاماً وهو يشاهد أصدقاءه يلعبون كرة القدم قرب مدرسة معاوية حيث أشعلت كتابة على الجدار فتيل كل الأحداث اللاحقة، “دمر منزلي وغيب أبي قسرياً وقتل أخي. لا أذكر شيئاً من الماضي سوى القتال”. ويضيف بأسى “أول ما أذكره هو قيام جنود النظام بإطلاق النار على الناس”.
لكن معاوية الذي يبلغ ابنه ستة أعوام من العمر لديه أمل، ليس لنفسه إنما للشباب.
ويقول وهو يمسك ببندقيته الهجومية “نريد لسوريا مستقبلاً أفضل من الماضي، لكنني صراحة خسرت مستقبلي بالفعل. ما يهم هو مستقبل الجيل المقبل”.
وختم قائلاً “أدعو لهم ألا يتعرضوا للتعذيب مثلنا وألا يحملوا السلاح وألا يعيشوا حروباً مثلما عشنا، وأن يتمتعوا بالأمان والأمن الذي نستحقه جميعاً”.
© The Independent
—————
النظام السوري وقضية فلسطين… لمن صك المقاومة؟/ خليل موسى
محللون: تراوحت العلاقة بين الأسد وعرفات ما بين مد وجزر تحركها رغبة زعيم “البعث” بامتلاك قرار “منظمة التحرير”
الأحد 15 ديسمبر 2024
النظام السوري اشترط على الفصائل الفلسطينية التزام سياسته مقابل احتضانها ودعمها، مما أدى إلى رفع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شعار “القرار الوطني المستقل” في وجه تلك السياسة السورية.
أدت رغبة النظام السوري في الإمساك بـ “الورقة الفلسطينية” لأهميتها المعنوية والسياسية في تأرجح العلاقات بين دمشق وحركة “فتح” بين “التحالف الفاتر” و”الخصام الفاتر” أحياناً والدموي في محطات تاريخية عدة منذ انطلاقة الحركة عام 1965.
فالنظام السوري اشترط على الفصائل الفلسطينية الالتزام بسياسته مقابل احتضانها ودعمها، وهو مما أدى إلى رفع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شعار “القرار الوطني المستقل” في وجه تلك السياسة السورية.
وأدى التدخل السوري في لبنان عام 1976 إلى دخول العلاقة بين حركة “فتح” والنظام السوري إلى “مرحلة دموية” بدأت بمجزرة مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين مروراً باجتياح إسرائيل لبنان وحرب المخيمات.
من “فتح” إلى “حماس”
ومع أن النظام السوري تمكن من تأسيس علاقة قوية تصل إلى درجة التبعية مع بعض الفصائل الفلسطينية الصغيرة مثل “الجبهة الشعبية- القيادة العامة”، و”الصاعقة”، فإن علاقاته بأقوى حركتين (“فتح” و”حماس”) مرّت بكثير من التقلبات والمد والجزر.
بعد فتور العلاقات بين حركة “فتح” والنظام السوري إثر توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 توطدت العلاقات بين دمشق وحركة “حماس” على رغم تبعيتها لجماعة الإخوان المسلمين.
ومثلت زيارة زعيم حركة “حماس” أحمد ياسين دمشق عام 1998 بداية العلاقة بين الجانبين واتخاذ الحركة دمشق مقراً لمكتبها السياسي، وانتقال قادتها إلى العاصمة السورية بعد طردهم من الأردن.
لكن تلك العلاقة قطعت بعد 12 عاماً حين أغلقت السلطات السورية مكاتب “حماس” في دمشق عام 2012 بسبب تأييد الحركة “تطلعات وأماني الشعب السوري بما يحفظ استقرار سوريا وتماسكها الداخلي”.
ولم يلق موقف الحركة قبول النظام السوري، الذي أراد منها إعلان التأييد الصريح له في مواجهة الثورة، كما فعلت التنظيمات الفلسطينية في سوريا و”حزب الله” اللبناني.
وعلى رغم أن دمشق منعت حركة “حماس” من العمل العسكري عبر جبهة الجولان، واقتصر عملها على العمل السياسي والإعلامي، فإن حركة “فتح” أطلقت عملياتها المسلحة انطلاقاً من سوريا مطلع عام 1965.
وأتاح النظام السوري في عهد صلاح جديد لحركة “فتح” إقامة المعسكرات والمكاتب في سوريا، مما أسهم في وصول شحنة للأسلحة من الجزائر إلى مطار المزة العسكري قرب دمشق عام 1965.
وبعد هزيمة 1967 ازدادت الهجمات المسلحة لحركة “فتح” انطلاقاً من جبهة الجولان، ومن جنوب لبنان عبر سوريا.
لكن تلك الهجمات توقفت كلياً بعد حرب 1973 وتوقيع اتفاق فض الاشتباك بين تل أبيب ودمشق، حينها انتشرت الاستخبارات العسكرية على طول جبهة الجولان.
في المستنقع اللبناني
“الخلافات بين النظام السوري وياسر عرفات بدأت فعلياً مع الدخول السوري إلى لبنان عام 1976، وفق المؤرخ الفلسطيني صقر أبو فخر. ويرجع ذلك إلى وقوف عرفات ضد هذا التدخل الذي جاء “استجابة لطلب اليمين المسيحي خشية هزيمته الساحقة على يد الحركة الوطنية”.
وأوضح أن الرئيس السوري حافظ الأسد أراد من تدخله في لبنان “قطع الطريق على دخول إسرائيل لدعم اليمين المسيحي منعاً لهزيمته”، إضافة إلى “السيطرة على الملعب اللبناني كحديقة خلفية لسوريا”.
وأشار أبو فخر إلى أن الحكام السوريين منذ شكري القوتلي “لا يريدون علاقات مع لبنان تقوم على حسن الجوار لكنهم يريدون السيطرة عليه”. لكن العلاقة بين الأسد وعرفات تحسنت إثر توقيع القاهرة وتل أبيب اتفاق “كامبد ديفيد” عام 1978، ورفضهما ذلك الاتفاق الذي دعمه اليمين المسيحي في لبنان.
بعد أربع سنوات عادت تلك العلاقة لتسوء من جديد، مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، واتهام عرفات الأسد بعدم فعل اللازم للتصدي للإسرائيليين، بحسب أبو فخر، مضيفاً أن نظام الأسد دفع باتجاه الانشقاق الكبير داخل حركة “فتح” لإضعاف عرفات، وحارب عودة الأخير إلى طرابلس بعد خروجه من بيروت عام 1982.
وكانت حرب المخيمات عام 1985 مرحلة جديدة من المواجهة الدامية بين عرفات والأسد، بهدف منع الزعيم الفلسطيني من إعادة تأسيس وجود فلسطيني مسلح في المخيمات الفلسطينية في لبنان.
ويرى أبو فخر أن اغتيال إسرائيل القيادي في حركة “فتح” خليل الوزير (أبو جهاد) عام 1988 أسهم في تحسن العلاقة بين الجانبين، حين زار عرفات دمشق بعد أيام والتقى الأسد وتحسنت العلاقات بينهما.
ويشرح أبو فخر أن ذلك التحسن يعود إلى خروج حركة “فتح” من لبنان، وتمركز قيادة منظمة التحرير في تونس، “ولم يعد الجانبان على الأرض نفسها فانتهى الاحتكاك بينهما”.
عهد الانتفاضة الأولى
أسهمت الانتفاضة الأولى في تحسن إضافي في العلاقات بين الجانبين حتى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة “بيرزيت” أحمد جميل عزم أن العلاقة بين حركة “فتح” ونظام آل الأسد مرت بمراحل غلب عليها “التحالف الفاتر” أحياناً و”الخصام الدموي” أحياناً أخرى.
وبحسب عزم فإن النظام السوري كان “حريصاً للغاية على الورقة الفلسطينية، واشترط لدعم الفصائل الفلسطينية التزامها السياسة السورية تصعيداً أو تهدئة”. مشيراً إلى أن حركة “فتح” رفضت “الاحتواء السوري أو التبعية” مما أدى إلى صك عرفات شعار “القرار الوطني المستقل”.
وأوضح أن التوتر الكبير في العلاقة بين الجانبين جاء بسبب الصمود الأسطوري في 1982، وتمويل الانشقاق الكبير في حركة “فتح” ومعارك طرابلس ثم حرب المخيمات.
واعتبر القيادي الفلسطيني السابق في حركة “فتح” نبيل عمرو أن الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد “تطلع إلى السيطرة على القرار الوطني الفلسطيني”. وبحسبه فإن النظام السوري رعى الانشقاق الكبير في حركة “فتح” بتمويل ليبي في ثمانينيات القرن الماضي.
وأشار عمرو إلى أن الأسد “لم يكن راضياً عن النفوذ الفلسطيني في لبنان وعمل على القضاء عليه”. لكنه أوضح أن العلاقة بين بشار الأسد والرئيس الفلسطيني محمود عباس “تحسّنت وزالت منها رواسب الخلافات القديمة بين حافظ الأسد وعرفات”.
————————–
هل ما حدث في سوريا حسم مرحلة أم بداية تسوية حقيقية؟/ محمد بدر الدين زايد
احتمالات التقاتل بين الفصائل المسلحة عندما يستقر الأمر كبيرة والمقايضات بين الأطراف الخارجية قد تسفر عن ترتيبات تستمر بعض الوقت
الأحد 15 ديسمبر 2024
هل سيقتصر النفوذ الأجنبي في سوريا على تركيا والغرب وتدخلات إسرائيل أم ستتاح الفرصة لتدخلات عربية وازنة، لا تبدو في الأفق حتى الآن، لكنها قد توفر مخرجاً لمنع سيناريوهات الاقتتال وتقسيم البلاد على أسس أخرى.
من المؤكد أن الأسئلة أكثر من الإجابات في محاولة فهم ما جرى وما هو قادم بعد أن تسارعت الأحداث وسقط النظام السوري في أقل من أسبوعين، وهرب بشار الأسد إلى موسكو التي منحته اللجوء الإنساني هو وأسرته.
جاءت هذه الخطوة بعد قرابة عام أو يزيد قليلاً على قرار العالم العربي إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، لكن الرئيس الأسد أخفق مرة أخرى في فهم هذه الفرصة مثلما أخفق في فهم الفرصة السابقة عندما نجح بمعاونة روسيا وإيران و”حزب الله” في البقاء بمنصبه ومواصلة السيطرة على غالب الأراضي السورية، فقد تسرع في المرتين وأعلن النصر، وتحدث صراحة عن أن هذا دليل على صحة سياساته، وفي المرتين كان مخطئاً وفاقداً الحكمة.
سياق دولي وإقليمي
في الحقيقة إن سوء التقدير بأن معركة سوريا قد حسمت كان محل اقتناع، ليس فقط من النظام السوري، لكن أيضاً من حلفائه، بخاصة “حزب الله” وإيران، بل كانت هذه أيضاً تصورات حلفاء “حزب الله” في الساحة اللبنانية. المدهش أن وجهة النظر هذه كانت تغفل أن هذا النصر غير كامل منذ البداية، ولم تكن الأمور حسمت، وتجاهلت عجز هؤلاء المنتصرين عن مواصلة استعادة السيطرة على كل البلاد، وأن هناك مساحات ضخمة من سوريا تحت سيطرة قوى أخرى.
منذ البداية وحتى قبل تدخل الروس كانت الولايات المتحدة قد أنشأت قواعدها الـ10 في شمال غربي البلاد بالمناطق الكردية، التي يسيطر عليها حلفاء واشنطن من تنظيم سوريا الديمقراطية، الذي تأهب مع التحالف الدولي ضد “داعش” آنذاك، ونجح في طرد هذه الميليشيات المتطرفة خارج المناطق الكردية، ووفر علاقة حماية متبادلة مع القوات الأميركية والغربية الموجودة معها في هذه القواعد، من ناحية ضد ميليشيات “القاعدة” و”داعش”، ومن ناحية أخرى ضد قوات الجيش السوري نفسه، وشكلت هذه المنطقة منذ الأيام الأولى لتقدم الجيش السوري وحلفائه مانعاً دون اكتمال هذا النصر المزعوم.
على صعيد آخر جرت مطاردة الميليشيات المتطرفة بواسطة “حزب الله” وروسيا وبدور أضعف للجيش السوري نفسه، فاندفعت هذه شمال غربي إلى محافظة إدلب الحدودية، لتحظى بحماية تركيا الداعم الرئيس لها، التي دفعت أيضاً بوجود عسكري، وربما نحتاج إلى تذكر هذه المرحلة التي شهدت تجاذبات شديدة وتهديدات متبادلة، ونجحت تركيا في احتوائها من خلال تفاهمات أستانة التي كانت تتضمن قيام تركيا بفرز العناصر المتطرفة من تلك المعتدلة، وأن تنزع منها الأسلحة الثقيلة، وكان ذلك في ظل دعاية تركية وغربية كثيفة حول احتمال تعرض المدنيين للأخطار في إدلب الكثيفة السكان، التي توجد بها أعداد كبيرة من النازحين السوريين أيضاً، ولم يحدث أي من هذه الالتزامات.
لكن الموقف العسكري تجمد، واستطاعت تركيا تحويل هذه المنطقة إلى امتداد جغرافي، لنفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي ومستودع إدارة عملياتها في المنطقة التي نقلت منها مجموعات من هؤلاء الميليشيات إلى ليبيا خلال عدة مواجهات مفصلية هناك، في المرة الأولى عام 2014 للسيطرة على مطار طرابلس، والثانية لإنهاء حصار الجيش الليبي للعاصمة طرابلس، وإجباره على الانسحاب والتراجع شرقاً.
إذاً لم يحدث أبداً عند توقف العمليات العسكرية، وتجمد الصراع المسلح أن فرضت دمشق سيطرتها على كل البلاد، وكان هناك وجود عسكري أميركي – غربي وآخر تركي وسيطرة للميليشيات المتطرفة في أجزاء من البلاد. في مقابل وجود عسكري روسي وإيراني ومن “حزب الله” ومن ميليشيات شيعية عراقية وأفغانية. أي فقدت الدولة السورية جزءاً كبيراً من سيادتها، أو أصبحت هذه السيادة منقوصة ومشوهة، ولم يكن النصر الذي أعلنه بشار الأسد سوى انتصار استمراره في حكم دمشق، وأجزاء من البلاد فترة من الوقت، وليس نصراً لحماية بلاده أو مصالح شعبها وسيادتها.
كنت من المؤيدين لعودة سوريا إلى مظلة الجامعة العربية، على أمل أن تساعد هذه العودة النظام السوري على اليقظة وعودة الشرعية والبحث عن صيغة قانونية طبيعية لإخراج كل الوجود الأجنبي والخروج من التبعية لإيران، والتركيز على إعادة الإعمار والمصالحة الداخلية.
لكن هذه المراهنة لم تكن بمقدور هذا النظام بآلياته وتاريخه وفي النهاية لم يكن هذا ممكناً. وواصل الحكم السوري خطاياه التي كان في مقدمها ليس فقط سياسات القمع، إنما قصر النظر المخجل فيما يتعلق بملف عودة النازحين، إذ صدرت تصريحات غير مرحبة بعودتهم وتنزع عنهم صفة الولاء الوطني، متناسين أن مرور الوقت يعقد الأمور، ولا يحلها، وبالطبع كان هذا الموقف مرتبطاً بتدهور الوضع الاقتصادي وغياب أفق إعادة الإعمار والبناء في ظل موقف سياسي لا يشجع لا قوى خارجية أو رجال الأعمال السوريين ذاتهم على الاستثمار في بلادهم. وإضافة إلى ذلك حاولت تركيا التفاعل وفق تقارير كثيرة واضعة شروطاً حول ضرورة المصالحة الداخلية في سوريا وعودة النازحين من أراضيها، لكنها لم تجد آذاناً سورية مصغية.
حلقة في صراع لم ينته
المقاربة السابقة ركزت على اعتبار النصر الروسي – الإيراني سابق الذكر منقوصاً ومجرد مرحلة في صراع دولي وإقليمي حول سوريا لا يزال مستمراً، ووفقاً لهذا فإن تركيا قد ربحت الجولة الثانية، ونجحت من خلال حلفائها في تصفية نظام الأسد، هذه تصفية نهائية ليس من الممكن تغييرها على الأرجح، فما خلفه النظام وما سيتكشف أكثر لا يمكن معه تصور ناتج آخر، لكن المشهد أعقد من ذلك، ويرجح أن ما حدث حلقة في صراع قد يستمر.
خريطة المنتصرين يتصدرها الجولاني زعيم تنظيم أحرار الشام المنتمي إلى “القاعدة” يعود بثوب جديد باسمه الحقيقي أحمد الشرع، ويدلي برسائل معتدلة مطمئنة للداخل والخارج، والأهم طبعاً الشعب السوري بأقلياته المتعددة، إلا أن احتمالات التقاتل بين الفصائل المسلحة عندما يستقر الأمر كبيرة وليست مجرد محتملة، وأهم من كل ذلك السؤال الصعب حول مصير السلاح خارج الدولة، بخاصة بعد أن سقط الجيش بهذه الصورة المروعة.
وإذا كان المتوقع خروج إيران والميليشيات الشيعية في أقرب وقت ممكن، إن لم يكن معظمها قد خرج بالفعل من الأراضي السورية، فإن المعضلة الباقية في وجود قوات أميركية وروسية وتركية لن تخرج غالباً إلا في ظل وجود حكومة منتخبة قوية، ومع ذلك فإن التفاعلات والمقايضات بين الأطراف الخارجية في الساحة السورية قد تسفر عن ترتيبات تستمر بعض الوقت.
وتظل المعضلة الأكبر في المسألة الكردية، وما حققه الأكراد في مناطقهم الشمالية من مكاسب وشبه حكم ذاتي، سيجعل تصور تنازلهم عنها أمراً بالغ الصعوبة، وهنا الصدام المحتمل بين تركيا وفصائلها التابعة لها وفصائل أخرى قد يندلع في أي لحظة، وقد يؤجل على أساس مراهنة تركية بوصول حكومة حليفة أو تابعة في دمشق، وهي مراهنة صعبة في ظل التركيبة السكانية والحضارية للشعب السوري حتى بكل النفوذ الذي تتمتع به تركيا حالياً لدى أوساط سنية ريفية ونازحة بصورة خاصة. والواضح أن الدور الأميركي سيكون حاسماً في هذه الترتيبات، التي بدأها بالفعل بوساطة منبج بين الفصائل الموالية تركيا وتلك الكردية.
فضلاً عن معضلة السلاح، فإن التحديات التي تواجهها سوريا بعد بشار لا تقتصر على ما كان موجوداً خلال حكم بشار من أوضاع اقتصادية صعبة، وعودة النازحين وإعادة الإعمار ومصالحة سياسية بين قوى مشتتة، فهناك الكثير للتأكد من أن بمقدور أحمد الشرع أن يقدم القيادة الوازنة على استنقاذ سوريا من متاهاتها الراهنة.
ومن ناحية أخرى هناك معضلة إسرائيل التي تعيث فساداً وتدمر ما تبقى من كرامة ومقدرات البلاد ونتائج تدخلاتها واضحة في مساحات تضمها وتدمير ممنهج لقدرات الجيش السوري ومقدرات الدولة. وفي المرحلة الراهنة سيتوقف كثير على ترتيبات المرحلة الانتقالية، وما إذا كان النفوذ الأجنبي سيقتصر على تركيا والغرب وتدخلات إسرائيل أم ستتاح الفرصة لتدخلات عربية وازنة، لا تبدو في الأفق حتى الآن، لكنها قد توفر مخرجاً لمنع سيناريوهات الاقتتال وتقسيم البلاد على أسس أخرى. وفي هذه الحالة الأخيرة سيحمل المستقبل تحول النصر الجديد إلى مرحلة أو جولة أخرى في الصراع حول سوريا.
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق
—————————
اللاجئون السوريون في لبنان… بين فرحة “النصر” والخوف من العودة/ فايزة دياب
تحديات ما بعد الأسد
آخر تحديث 15 ديسمبر 2024
بيروت- “لأول مرة منذ 11عاما أشعر أنني أكره خيمتي، حلمي الآن أن يأتي باص وينقلني من هنا إلى سوريا، اشتقت لأهلي وعائلتي كثيرا”. تقول أم ياسر المرأة الخمسينية التي تقطن مع أولادها الأربعة في خيمة لا تتعدى الثلاثة أمتار، تصف لـ”المجلة” لحظة سقوط النظام السوري بـ”حلم كل السوريين” لتعود بالذاكرة إلى العام 2013والمعاناة التي عاشتها مع أهالي الغوطة، الذين حوصروا من قبل النظام لأنّهم “إرهابيون”. “بسبب الجوع اضطررنا أكثر من مرة أن نأكل عدسا مليئا ببراز الجرذان، كانت أياما قاسية، إلى أن نجاني الله واستطعت الهروب بالصدفة، بعدما انزعج أحد العساكر من صوت النساء الجائعات، المطالبات بالخروج إلى دمشق، وقرر إطلاق الرصاص الحي عليهن، قتل عددا كبيرا منهن أمام أعيننا في مخيم الوافدين، هربت ونجوت بأعجوبة، قصص قهرنا وذلنا من هذا النظام كثيرة”.
أما عن قرار العودة، فحالها حال كثير من اللاجئين السوريين في لبنان، ينتظرون أن تتضح الأمور أكثر، خصوصا أنّها لا تملك بيتا بعدما تم تدمير قراهم، مؤكدة أنها لا تشعر بالخوف أو القلق أبدا من العودة، أو أن تعيش ظلما شبيها بالذي عاشته من قبل النظام السابق، ولكن “إلى أين أذهب؟ أنتظر أن أؤمن منزلا لي ولأبنائي لأعود إلى بلدي، أتمنى أن يسمحوا لي بأن أحمل خيمتي وأنصبها مكان بيتي لأعود اليوم قبل الغد”. تختم أم ياسر.
كذلك هو حال أم علي، التي هربت من سوريا عام 2011بسبب خوف والدها عليها وشقيقتها، من الحرب وقصص الاغتصاب، والتعديات وكثرة الظلم التي كانت تقع هناك. ولكن تلك المراهقة باتت اليوم زوجة وأمّا لطفلة، عبّرت لـ”المجلة” عن خوفها من العودة… “الأمر لا يتعلق لا ببيت ولا بغذاء، خوفنا الوحيد هو من الوضع الأمني، لا أستطيع المخاطرة بطفلتي، حتى لو كانت تعيش هنا في خيمة، لكننا نشعر بالأمان، تصل إلينا أخبار أن الطريق إلى مدينتي حمص ليس آمنا، وهذا سبب تأجيل قرار عودتنا إلى سوريا”.
وتضيف: “رغم أن الخوف من المستقبل لا يزال يطاردنا نحن السوريين، ولكن ليس هناك لحظة في التاريخ أعظم من لحظة سماعنا بسقوط الأسد. ما عشناه من ظلم وقهر وذل بسبب هذا النظام لا يمكن أن يتصوره عقل، ولكن الآن أصبحت أخجل من الحديث عن مرارة الغربة والعيش في خيمة والحرمان بعدما شاهدت المقاطع المصورة من سجن صيدنايا، لا معاناة تضاهي معاناة السجناء الناجين، وقهر الأمهات والزوجات والإخوة الذين ينتظرون على باب السجن لمعرفة مصير أبنائهم”، لتختم أم علي: “حلمي الآن أن نطوي تلك الصفحة لتعود سوريا أفضل ونعود إليها”.
يبدو أن القلق من المستقبل أو من طبيعة الحكم الجديد عند اللاجئين حتى من الذين يقطنون الخيم، أكبر بكثير من حلم العودة الذي أصبح حقيقة. هنا أطفال لا يعرفون ما معنى دفء المنازل، ولدوا وكبروا في خيم بلاستيكية، تتسرب إلى داخلها حرارة الصيف والبرد القارس، لترهق أجسادهم الصغيرة. في تلك المخيمات، دفنت أحلامهم وطفولتهم، عاشوا الحرمان والفقدان إلاّ أن فقدان شعور الأمان والخوف الذي عاشه أهاليهم في بلدهم الأم يدفعهم إلى التريث لاتخاذ قرار العودة، خصوصا أنّ غالبية من يقطنون الخيم، هم من أبناء قرى دمرت جراء الحرب بالكامل، بحسب الناشط السوري في مجال الإغاثة الإنسانية في البقاع شرق لبنان، حسين الحسين.
رئيس بلدية المرج البقاعية منور الجراح، التي تضم مخيمين للاجئين السوريين، ويقطنها نحو 20 ألف لاجئ سوري، أكّد لـ”المجلة” أنّ “عدد العائدين إلى سوريا لم يتخط أكثر من 10عائلات، وغالبية اللاجئين لم يعبّروا عن نيتهم العودة إلى سوريا، الأمور هنا لا زالت على حالها، ويبدو أن هناك حذرا كبيرا لدى اللاجئين، وقرار عودتهم ينتظر اتضاح الأمور أكثر في سوريا”.
عودة مؤجلة
في هذا السياق، يؤكد الحسين لـ”المجلة” أنه ومجموعة من الناشطين “بدأوا بإعداد دراسة شاملة في كل مخيمات البقاع، وفي مناطق لبنانية مختلفة، وما شاهدناه ليس هناك تخوف من العودة بقدر ما هو قلق بسبب انعدام مقومات الحياة الأساسية في سوريا، هناك مناطق عديدة في سوريا غير قابلة للحياة، وبالتالي استحالة عودة اللاجئين إليها، مثلا الريف الغربي لحماة المتاخم للقرى العلوية، أثناء الحرب لجأ النظام لتدميره بالكامل. فكيف يمكن لأهله أن يعودوا إذ لا توجد مياه ولا كهرباء ولا متاجر ولا مدارس… أيضا الريف الشرقي لحمص مدمر بالكامل، مع كثير من الأحياء داخل حمص مثل بابا عمرو والبياضة وغيرهما، أيضا الريف الشرقي لحماة وريف إدلب، لذلك لا نستطيع الحديث عن عودة النازحين إلى بيوت مهدمة قبل إعادة الحياة إلى هذه المناطق”.
وأضاف: “غالبية اللاجئين الذين قرروا العودة إلى سوريا، عندهم منازل أو لهم أقارب يستطيعون المكوث عندهم في مناطق لا تزال فيها مقومات حياة كالعاصمة دمشق أو مدن أخرى كدرعا، والرقة وحلب، وغيرها.أمّا بالنسبة لأبناء القرى المدمرة فعودتهم غير ممكنة حاليا، خصوصا أننا على أبواب فصل الشتاء، والأطفال بدأوا عامهم الدراسي. أيضا الوضع الاقتصادي يؤثر على اتخاذ قرار العودة، فحتى لو أن مئات الآلاف من النازحين يعيشون في مخيمات لجوء، فإن تأمين مفوضية اللاجئين، الطبابة والتعليم والماء والكهرباء بشكل مجاني إضافة إلى المساعدات المالية والتدفئة وغيرها من الخدمات، تجعل غالبيتهم يتريثون في اتخاذ قرار العودة، فكل هذا غير موجود الآن في سوريا، إضافة إلى سوق العمل، الذي انصهر فيه اللاجئ في لبنان”.
ولكن هل هناك إمكانية في نقل المخيمات من لبنان إلى الداخل السوري، يقول الحسين: “هذه الفكرة هي إحدى الأفكار التي نطرحها، لكن الردود التي تأتي من سوريا، هي أننا لسنا مضطرين لدرجة أن نعمل على نقل المخيمات من لبنان إلى سوريا، بما أن المخيمات أصلا موجودة داخل لبنان يمكننا الصبر 3 أو 6 أشهر لتأمين عودة كريمة للاجئين إلى قراهم المدمرة. أيضا علينا أن نبني ثقة مع المجتمع الدولي لكي نستطيع الحصول على مساعدات، وأن تستطيع “مفوضية اللاجئين” الدخول إلى سوريا ونقل مساعداتها إلى هناك، وأعتقد أن هذا يحتاج وقتا وجهدا من الحكومة الجديدة” يختم الحسين.
وفي هذا السياق تقول ليزا أبو خالد، المتحدثة باسم “مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” في لبنان لـ”المجلة”: “إن المفوضية تعمل على أن تكون جميع عمليات العودة طواعية وكريمة وآمنة”. وتضيف: “لا أرقام دقيقة عن عدد العائدين، ولكن بحسب معلومات المفوضية، ثمة تقارير تفيد بعودة لاجئين سوريين من لبنان إلى سوريا عبر معبر المصنع الحدودي في البقاع. ونحن ندرك أن المعابر الحدودية الرسمية في شمال لبنان مغلقة حالياً، بينما يتم الإبلاغ عن عمليات عودة عبر المعابر غير الرسمية في مناطق مثل وادي خالد. ووفقاً للمديرية العامة للأمن العام اللبناني، تم الإعلان عن تدابير لتسهيل العودة إلى سوريا”.
وتابعت: “لا يزال الوضع داخل سوريا يتكشف مع محاولة الكثير من السوريين تقييم عواقب تطورات الأسبوع الماضي على الوضع داخل سوريا، وما إذا كانت الظروف آمنة والوقت مناسباً لهم للعودة أم لا. أيضا هناك مخاوف اقتصادية مع تدمير البنية التحتية، واعتماد أكثر من 90 في المئة من السكان في سوريا على المساعدات الإنسانية”.
وهذا بالفعل ما يؤكده عدد من السوريين الذين التقتهم “المجلة”، بينهم مهند، شاب سوري في بداية العشرينات هرب مع عائلته قبل 13 عشر عاما من سوريا- أي عندما كان طفلا- خوفا عليه وعلى أشقائه من التجنيد الإجباري، يصف لحظة سقوط النظام بالحلم، والتخلص من التجنيد فرحة ثانية لا يوازيها شيء، ويؤكد: “لم نكن نتوقع أن يكون التحرير بهذه السرعة، لم نستطع النوم في تلك الليلة، الصدمة والفرحة كانت كبيرة، أخيرا نستطيع العودة لبلدنا بعد سنوات من التهجير، ولكن هذا القرار لن يكون الآن، سننتظر حتى تنجلي الصورة، وأن تتحسن الظروف الاقتصادية في البلد، حتى نأخذ قرار العودة، فالأمر ليس بالسهل، نحن هنا نعمل ونستطيع تأمين الحد الأدنى من احتياجاتنا، ولكن إذا قررنا العودة لا نعرف كيف ستكون الظروف هناك، خصوصا أن سوريا تحتاج إلى وقت طويل لتتعافى من آثار الفساد والفقر، والتدهور الاقتصادي الذي خلفه النظام”.
أما أبو عبدو صاحب متجر في إحدى القرى الشرقية، فهو أيضا هرب من سوريا منذ 11 عاما خوفا من التجنيد الإجباري، لأن المجند في سوريا- بحسب قوله- يرى كل أنواع الذل والقهر والطائفية، خصوصا إن كان من الطائفة السنية، يقول لـ”المجلة”: “أنا لا أنتمي لأي طرف في سوريا، بنظري الطرفان متورطان بدم الشعب السوري، ولكن أتمنى أن يكون هذا التغيير خيرا على بلدي، والشيء الوحيد الذي يفرحني بالتحرير، هو أنني أستطيع زيارة حلب التي اشتقت إليها كثيرا، ولكن ليست لدي أي خطة للعودة النهائية، فأنا أسست عملي في لبنان، ومتزوج من لبنانية، وأبنائي ترعرعوا هنا، فأمر العودة لبلدي لن يكون خيارا صائبا، خصوصا أن وضعي الاقتصادي هنا يعتبر جيّدا، ولا أستطيع المخاطرة بعائلتي”.
وفي هذا السياق تؤكد ليزا أبو خالد أن “المفوضية تقف على أهبة الاستعداد لدعم اللاجئين العائدين عندما تسمح الظروف بذلك، مع التأكيد على ضرورة إمهال السوريين خلال فترة عدم الاستقرار هذه، لتقييم الظروف التي سيعيشونها عند العودة، مثلاً من خلال زيارات مسبقة لمعاينة الوضع على الأرض”.
نزوح جديد إلى لبنان
اجتاحت موجة نزوح جديدة الأراضي اللبنانية، بعدما كان متوقعا عودة النازحين إلى بلدهم، فمنذ سقوط النظام السوري تسود حالة من الفوضى والزحمة معبر المصنع الحدودي.
وهذا ما تؤكد ليزا أبو خالد أنه: “رغم مشاعر الفرح والارتياح والأمل التي تعمّ بطبيعة الحال أوساط اللاجئين، ومع رصد المفوضية عودة آلاف السوريين إلى بلدهم من الدول المجاورة، نشهد فرارا لمئات الآلاف خوفاً على حياتهم، سواء داخل سوريا أو عبر الحدود. والمجموعتان بحاجة إلى الحماية والدعم”.
لكن الجدل يثور الآن في لبنان حول تداول أخبار عن دخول بعض المسؤولين السوريين السابقين أو عبورهم إلى دول أخرى من لبنان، ومن بينهم مدير إدارة المخابرات العامة للنظام السوري السابق، علي مملوك الذي أدين سابقا من قبل القضاء اللبناني بالقيام بـ”أعمال إرهابية” في ملف “مسجدَي التقوى والسلام”.
مصادر وزارة الداخلية أكدت لـ”المجلة” أنه: “بحسب معلومات الأجهزة الأمنية اللبنانية فإن علي مملوك ليس موجودا في لبنان، وهو لم يدخل من أي من المعابر الشرعية. والأجهزة الأمنية الاستخبارية تفيد بأنه غير موجود في أي من الأراضي اللبنانية”.
وتابعت المصادر: “كما أنه لم يدخل أي مسؤول أمني من النظام السوري السابق عبر المعابر الشرعية بخلاف بعض العائلات، ورجال الأعمال الذين دخلوا إلى لبنان، عبر المعابر الشرعية، لانطباق وضعهم مع التعليمات المشددة الصادرة عن الأمن العام اللبناني، ولكنهم غير مطلوبين بأي مذكرة عدلية أو دولية. وفي المعلومات أن أغلبهم غادر عبر المطار”.
وختمت المصادر: “الأجهزة الأمنية والاستعلامية والاستقصائية تتابع باستمرار ما يتم تداوله بوجود مسؤولين آخرين للتحقق من مدى صحته وفي المناطق اللبنانية كافة. إن الأجهزة الأمنية اللبنانية تعمل تحت سقف القانون، وستعمد إلى توقيف كل المطلوبين بموجب مذكرات لبنانية أو دولية”.
كما أن المعلومات عن المعابر الرسمية وغير الرسمية تتحدث بأن هناك عددا كبيرا من الوافدين إلى لبنان، هم من عائلات شيعية قادمة من منطقة السيدة زينب، وهي المحطة التي جمعت عائلات شيعية سورية من مختلف القرى التي هجروا منها سابقا.
وبالفعل مع بداية الأحداث الأخيرة في سوريا، بدأ الكثير من السوريين بالتوافد إلى الحدود اللبنانية– السورية للدخول إلى لبنان، بسبب الهواجس والخوف من الحكم الجديد.
وفي حين انتشرت معلومات عن أن أعداد النازحين الجدد الذين دخلوا إلى لبنان تصل إلى عشرات الآلاف، فإن الأرقام الرسمية الوحيدة التي صدرت هي عبر بيان للأمن العام اللبناني بأن “السوريين الذين دخلوا في الفترة السابقة إلى لبنان من أصحاب الإقامات القانونية، وتتوفر فيهم الشروط بلغ عددهم 8400 شخص”.
وهذه الشروط هي حيازتهم للإقامات أو لديهم أوضاع إنسانية أو يُعد لبنان بالنسبة إليهم بلد عبور للسفر إلى الخارج. وأكّدت المديرية العامة للأمن العام، أنها تمنح إذن دخول لمدة أسبوع، أو أسبوعين أو شهر (استثنائيا) وفقاً لكل حالة تتوفر فيها الشروط الإنسانية، للدخول إلى لبنان.
المجلة
————————–
سوريا… أخيرا فُتح الباب/ عالية منصور
عدت رغم كل شيء… وسقط الأسد
آخر تحديث 15 ديسمبر 2024
عدت ولم أفقد يوما الأمل في العودة، عدت إلى طرطوس مدينتي التي ولدت فيها وتربيت، بعد غربة قسرية استمرّت 19 عاما.
قبيل آخر مرة زرت طرطوس مدينتي، كنت مع أستاذي جبران تويني في مكتبه بمبنى “النهار”، يومها ضحكنا وتواعدنا أن تكون الزيارة المقبلة معا… استشهد جبران. اغتاله نظام الأسد ورفيقيه نقولا فلوطي وأندريه مراد. صدر إعلان دمشق بيروت. أوقفت في مطار بيروت ولم أعد إلى سوريا إلا بعد 19 عاما.
19 عاما… 6 أعوام سبقت الثورة السورية، حرمت خلالها من هوية وجواز سفر، ولم يخالجني الشك يوما أن لهذا الظلم نهاية وأن الأسد سيسقط لا محالة.
كانت الثورة السورية أعظم ما حدث، بكيت في أيامها الأولى كما لم أبكِ في حياتي، أنا التي انتظرت هذه اللحظة لم أستطع حتى أن أشارك في مظاهرة واحدة داخل سوريا، وجميع ما فعلناه في الخارج لا يساوي مظاهرة واحدة نردد خلف الساروت “جنة يا وطنا”.
خسرت أصدقاء كثرا، هُددت كثيرا في لبنان، لوحقت كثيرا، ولا أذكر أني كنت أغادر مطار رفيق الحريري للذهاب إلى اجتماعات للمعارضة التي انتميت لها من أيام المجلس الوطني ومن ثم الائتلاف، دون أن يتم التضييق علي.. اعتقل والدي وهو المحامي المعروف، وضع بالانفرادية ليقايضوه بأن أسلم نفسي، ولم ينجحوا.
أوقف جدي وأخبرني أن صور قيصر ليست سوى جزء بسيط من حقيقة النظام. كنت محظوظة أن أبي وجدي رحمهما الله، رغم كل ما تعرضا له، رغم كل التضييق والملاحقة التي تعرض لها والدي، ورغم كل ما خسره من أصدقاء وغيره، لم يكونا يوما سوى داعمين لمواقفي ولحق السوريين في الخلاص من نظام الأسد.
اليوم بعد رحيلهما عدت، عدت بالمبادئ نفسها التي لم أبدلها أو أتنازل عنها أو أساوم لحظة واحدة رغم كل الضغط على عائلتي في سوريا، رغم كل الملاحقة في لبنان رغم محاولة اتهامي بالإرهاب مرة والعمالة لإسرائيل مرة، وآخرها مداهمة منزلي والتحريض علي وعلى زوجي وأطفالي، عدت رغم كل شيء وسقط الأسد.
سقط بدماء مئات آلاف السوريين، بآهات عشرات آلاف المعتقلين، بحناجر وجهود ملايين المقهورين والمشردين، بسواعد عشرات آلاف المقاتلين الذين لم يرضوا كل هذه السنين بالضغوط لإعادة تعويم الأسد.
عبرت معبر العريضة مشيا على الأقدام، فقد دمرته إسرائيل، حملنا أولادي وعبرنا بهم ليزوروا بيت جدهم لأول مرة، ولكن جدهم لم يكن بانتظارهم هناك كما كان يحلم.. زرت ضريح “بابا”، زاروا ضريح “جدو”، وأخبرناه أننا عدنا إلى بيته، البيت الذي بناه ليتسع لنا جميعا.
سقط الأسد وعدنا، سقط الأسد وبقينا نحن السوريين.. طرطوس تشبه تلك المدينة التي تركتها، نجح النظام في تشويهها عمرانيا، هي أطماع النظام وأزلامه، أطماع آل مخلوف وأسماء الأسد وغيرهما، بناء عشوائي، مشاريع شيدت وبعضها هدمت بعد تشييدها بسبب خلافات بين أزلام النظام على تقاسم الحصص، ولكن هذه المرة ورغم كل شيء كانت البسمة على وجوه السوريين.
نقمة على الأسد من أبناء الطائفة العلوية، وسؤال واحد يكررونه، إن كان مستعدا للهرب، فلماذا زج بنا في الحرب لمدة 14 عاما، قتل أبناءنا وخلق هذا الشرخ بين السوريين؟
أصدقاء لم أرهم منذ 19 عاما، وغرباء لا أعرفهم، فرحون يعبّرون عن خلاصهم بعد قهر استمر أكثر من 53 عاما… لم يشاركوا في الثورة كما فعل السوريون في محافظات أخرى لحساسية المدينة وتنوعها الطائفي الشديد.
عدا عن سعادة الناس والتشوه الكبير الذي أصاب المدينة، يبدو أن هناك إصرارا من أهلها على الحفاظ على تنوعها، كما قال لي أحد الفاعلين اليوم في إدارة شؤونها، هوية المدينة في تنوعها ونحن نريد الحفاظ على هويتها.
ما يبث على لسان ما بقي من محور الممانعة عن انتهاك حريات وأسلمة لم أرَ له أي دليل على الأرض… كما خرجت قبل 19 عاما عدت.. ولم أرَ سوى الابتسامة على وجوه شباب القيادة العسكرية على الحدود أو أمام المراكز العسكرية… في المدينة لا مظاهر مسلحة، عجقة الأعياد وإن خفيفة ولكنها ملاحظة والحياة طبيعية.
يدرك الجميع حساسية المرحلة، يدركون أن هناك الكثير من المتربصين… لم يمر سوى أسبوع على سقوط الأسد وهروبه… من حقنا جميعا أن نتوجس ونراقب ولكن إن أردنا أن نطلق الأحكام فلتكن بناء على ما نرى لا على ما نسمع.
لقد سقط بشار الأسد، سقط رغم كل شيء، ولكن الشعب السوري أسقط أيضاً المشروع الإيراني في المنطقة لا في سوريا فحسب.
اليوم آن أوان بناء الدولة، سوريا لجميع أبنائها، جميعنا تحت سقف قانون واحد وعلم واحد ودستور واحد، وإن كنا نريد هذه الـ”سوريا” فعلى كل من استطاع إليها سبيلا العودة إليها.
المجلة
————————————
هل تملك “قسد” عوامل الاستمرار؟/ محمد خالد الرهاوي
2024.12.15
سيطرت ما تعرف بـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على أجزاء واسعة من الأراضي السورية في حلب والحسكة والرقة ودير الزور، قاربت ثلث مساحة سوريا تقريباً، بعد بدء التحالف الدولي المعارك ضد تنظيم الدولة (داعش) في العراق وسوريا.
وأُخرجت من بعض المناطق في ريف حلب وريف الرقة، لكنها ما زالت تسيطر على مساحات واسعة حتى الآن، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا التوقيت بعد انهزام نظام الطاغية البائد وتفكك جيشه وقوات الأمن المختلفة، وانتصار الثوار وسيطرتهم على معظم الجغرافية السورية:
قبل أن أجيب عن السؤال أود أن أشير إلى مسألة في غاية الأهمية؛ وهي أن “قسد” ليست الكرد، والكرد ليسوا “قسد”، فالكرد أهلنا وأبناء المنطقة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، أما “قسد” فخليط عربي كردي آشوري أميركي أوروبي تجمعهم المنافع الرخيصة.
شخصياً ومن معرفتي بمنطقة الجزيرة السورية أكاد أجزم أن وجود “قسد” مسألة وقت لن يطول كثيراً، وأنها لا يمكن أن تظل مسيطرة على المنطقة ألبتة، لجملة أسباب سأذكر بإيجاز شديد، وهي تسعةَ عشرَ سبباً فقط:
1- المناطق التي تسيطر عليها ولا سيما دير الزور والرقة عربية خالصة ليس فيها حاضنة كردية أو عربية مؤيدة لها، فالكرد قبل العرب عانوا وما زالوا يعانون منها، وكثير منهم ينعتها بداعش الكرد.
وإذا كانت أميركا بقوتها وجبروتها لم تستطع أن تصمد في البلدان التي احتلتها رغم استعانتها بميليشيات محلية وصناعتها لجيوش من تلك البلدان بأعداد كبيرة وبأسلحة حديثة كما في العراق وأفغانستان، فهل تستطيع “قسد” ما عجزت عنه راعيتها أميركا؟
2-المناطق التي تحكمها “قسد” بقوة السلاح الأميركي لا بقوتها الذاتية تغلي الآن غليانا نتيجة لممارساتها وانتهاكاتها المتعددة المختلفة على مدار سنوات، وزادتها غليانا تحالفاتها مع نظام الأسد البائد وسرقتها للأسلحة من مستودعات الجيش في دير الزور، وقتلها للمتظاهرين وغير ذلك كثير.
وقبل ذلك ما ارتكبته من الجرائم داخل السجون وخارجها كثير جدا، وكثير من أهالي هذه المناطق ثارت ضدهم، فمن أحرق بيته أو قتل ابنه أو سُجن ظلما لن ينسى هذه المظالم والانتهاكات.
3- سكان هذه المناطق في معظمهم من المسلمين عربا وكردا، أما الفكر المسيطر على “قسد” فهو الفكر الماركسي والإلحادي، وقد ظهر ذلك في ممارساتها وتشريعها لجملة من القوانين التي تصطدم والإسلام الذي يؤمن به أهالي هذه المناطق، ومن ذلك مثلا: تجريمهم لتعدد الزوجات، تجريمهم للنقاب، المساواة بين الأديان حتى، سواء أكانت سماوية أم وضعية، فالإسلام والزرادشتية مثلا عندهم سواء، والإسلام وعبادة النار أو الشيطان عندهم أيضا سواء، وأيضا تأسيس (مؤسسة الإسلام الديمقراطي) للترويج لأفكارها وإضفاء نوع من الشرعية على ممارساتهم ووجودهم، لكن لم يؤسسوا مؤسسة الزرادشتية الديمقراطية، ولا مؤسسة الشيطان الديمقراطية، وغير ذلك من القرارات التي لا يمكن أن يقبل بها مسلم حتى إن لم يكن ملتزما.
4- سبع سنوات من السيطرة على هذه المناطق رسخت قناعة لدى أهالي هذه المناطق أنهم لا يمكن أن يقبلوا باستمرار “قسد” في حكمها، وهم ليسوا أهلا لإدارتها وتمثيلها، فهي تحكم المنطقة بعقلية الميليشيات لا بعقلية الدولة، وقد أحرقت منذ أيام قليلة منازل المنشقين عنها، وهذا يذكرنا بممارسات نظام الطاغية البائد مع المنشقين عن جيشه دفاعا عن أهلهم ورفضهم قتلهم في بداية الثورة وعلى مدار سنواتها الثلاث عشرة.
5- الشعارات التي ترفعها “قسد” من نحو المساواة وحقوق المرأة والعدالة وما إلى ذلك لا تعدو أن تكون حبرا على ورق وشعارات جوفاء لا وجود لها على أرض الواقع إلا في بعض الأمور الجزئية التي لا أثر لها في حياة الناس.
6- “قسد” كانت وما تزال تقصي كل من يخالفها في توجهها مع أنها تحمل (قوات سوريا الديمقراطية) المختصرة بـ”قسد”، وإقصاؤها ليس للعنصر العربي فحسب بل للعنصر الكردي السوري أيضا، وليس أدل على ذلك من إقصائهم للمجلس الوطني الكردي.
7- “قسد” تدعي الديمقراطية وحماية الحريات، لكن تصرفاتها مع المظاهرات السلمية تكذب تلك الادعاءات وتدحضها، فما من مظاهرة خرجت ضدها في الرقة ودير الزور إلا جوبهت بالرصاص الحي، فكانت في ذلك كالنظام في تعامله مع المظاهرات السلمية في بداية الثورة السورية.
8- “قسد” التي تسمي نفسها ديمقراطية أبعد ما تكون عن ذلك، فهي تقوم على فكرة الرجل الأوحد، فها هو مظلوم عبدي يكمل عامه السابع وكذلك القيادات الأخرى التي دونه، ولا تقبل بحال من الأحوال تغييره، فما الذي تختلف فيه عن الأنظمة القمعية التي حكمت لعقود ثم أسقطتها شعوبها ذليلة مهانة.
9- “قسد” ليست صاحبة قرار، بل هي أداة تنفيذ لقوى خارجية معروفة للجميع، وهي لا تخفي ذلك، بل تصرح به جهارا نهارا.. ثم على المستوى الداخلي فيها فإن العناصر صاحبة التأثير والقرار داخل قسد نفسها هي عناصر من عصابات جبال قنديل المصنفة إرهابيا حتى عند داعميها؛ أعني الولايات المتحدة الأميركية نفسها، أما بقية العناصر العربية والكردية فليست أكثر من أعداد مكملة أشبه بأعداد الرفاق البعثيين في الفرق والشعب الحزبية يتصارعون على فتات من الأمر، ولا وزن لهم ولا تأثير.
10- طريقة “قسد” في إدارة المناطق على مدار سنوات تدل بما لا يدع مجالا للشك أنها غير مؤهلة لقيادة دولة أو جزء من دولة، فهي تعتمد على ما تسميه الإدارة المشتركة، فأي إدارة أو مؤسسة لها مديران: رجل وامرأة، بحجة إعطاء المرأة حقوقها، وهذا نموذج متخلف في الإدارة لا مثيل له على امتداد الزمان والمكان.
11- العناصر التي انضمت إليها لم تكن على قناعة أو عقيدة أو فلسفة أو أيديولوجية (ما عدا عناصر قنديل) بل كانت مجبرة من أجل تمثيل مناطقها أو مكرهة تحت ظروف اقتصادية طاحنة تعيشها المنطقة، فالراتب أساسي لهم لتيسير أمور أسرهم، وكثير منهم ينضم مع من يدفع أكثر.
12- “قسد” لا تمتلك الكوادر المؤهلة لإدارة هذه المناطق، فليس لديها من المؤهلات الأكاديمية في التخصصات المختلفة، ولم تستفد من المؤهلات الموجودة، بل عملت جاهدة على إقصائها وتقديم من لا مؤهلات لهم ليسهل السيطرة عليهم، وبالقوة العسكرية وحدها لا يمكن إدارة منطقة وبناؤها.
13- “قسد” لم تستطع خلال السنوات الماضية رغم تعاونها الوثيق مع نظام الأسد البائد بناء مؤسسات تعليمية معترف بها ولا مؤسسات تمكن سكان هذه المناطق من استخراج وثائق رسمية لهم من جوازات سفر ووثائق وتسجيل مواليد جدد وعقود زواج أو تصديق أي وثائق، أما الوثائق التي تصدرها فلا أحد يعترف بها حتى أقرب الحلفاء والداعمين لـ”قسد” أنفسهم.
14- الموارد المالية لـ”قسد” كانت من تصدير النفط والغاز إلى نظام الأسد البائد وللميليشيات الإيرانية، وعدم تعاونها مع الحكومة السورية الجديدة ضمن شروط الحكومة ربما سيؤدي إلى عدم شراء تلك المواد النفطية، ومن ثَمَّ خسران قسد لأهم مصدر مالي لها.
15- “قسد” سيطرت على مناطق عائمة على بحر من النفط والغاز والثروات الطبيعية فضلا عن أن المنطقة تعد السلة الغذائية لسوريا، ومع ذلك لم يظهر أي أثر لذلك كله على حياة سكان مناطقه، بل كانت أسوأ بكثير على ما كانت عليه هذه المناطق أيام كان الجيش الحر في المنطقة.
16- الظروف الدولية ودول العالم لا يمكن أن تقبل بحكم “قسد” لهذه المناطق، والمتغطي بأميركا عريان، وعلى أصدقائها أن يحذروا منها أكثر من أعدائها، وإذا كانت أميركا قد خذلت كردستان العراق في محاولة الاستقلال مع أن كردستان تتوفر فيها كل مقومات الدولة، فكيف يمكن أن تدعم من لا يملك أي مقومات للدولة؟ ألا يتعظون من تجربتهم في منبج وتل أبيض وشمالي حلب وغيرها من المناطق؟ أليس فيهم رجل رشيد ينصح لهم بأن الموجة أكبر منهم، فإما أن يسيروا معها وإما أن يغرقوا؟ أليس فيهم رجل رشيد ينصح لهم أن القمع والاستبداد وحكم الناس بالنار والحديد لا يمكن أن يستمر مهما طال به الزمن؟
17- تركيا تعد وجود “قسد” خطرا حقيقيا يهدد أمنها القومي، ولا يمكن أن تسمح به بأي حال من الأحوال وتحت أي ظرف من الظروف، نعم يتأخرون أحيانا في تنفيذ تهديداتهم لكنهم لا ينسون، ولا يتوانون عن استغلال الظروف متى أتاحت لهم فرصة للانقضاض عليهم.
18- من يتابع منشورات العقلاء من إخوتنا الكرد ونصائحهم المستمرة لقسد بالتفاوض مع دمشق وأن الحل في دمشق؛ للحفاظ على بعض المكتسبات قبل أن تغرق بهم السفينة ويفوتوا فرصة ربما لن تتكرر.
19- بلغني من أهالي المنطقة في دير الزور خاصة أن عناصر “قسد” لا يجرؤ أحد منهم على الخروج ليلا من مقارهم خوفا ورعبا.
والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه هنا ويتضمن إجابة عن السؤال الذي بني عليه هذا المقال هو: هل تستطيع “قسد” أن تحمي نفسها -فضلا عن إدارة المناطق- إذا رفعت أميركا يدها عنها ولو لساعة من نهار؟
تلفزيون سوريا
————————-
الحاجة إلى العمل التطوعي المنظم في سوريا الجديدة/ أحمد جاسم الحسين
2024.12.15
يشكل العمل التطوعي في عدد كبير من دول العالم أحد القطاعات الهامة التي تسهم في تغطية مجالات عدة، ليس بصفته بديلاً عن العمل المأجور، بل بصفته لوناً من ألوان النشاط الفردي الذي يخدم المجتمع. ويدخل العمل التطوعي في السيرة الذاتية للمتقدمين للعمل في دول الرعاية الاجتماعية كإشارة إلى الرغبة بخدمة الآخرين وكذلك إلى الجانب الإنساني لدى المتقدم لوظيفة ما ويؤخذ بعين النظر إبان التقييم.
العمل التطوعي نوع من أنواع العمل المدني المجتمعي الذي ينم على حالة وعي كبيرة وشعور بالمسؤولية تجاه الذات والمجتمع، ويمكن تحويل الجهود الرائجة في مجتمع ما من جهود مشتتة إلى جهود منظمة واعية.
لا يدير العمل التطوعي قطاعات الإنتاج الرئيسية بل يدير قطاعات مكملة، لكنها ضرورية، ويقوم به أشخاص ليس لديهم عمل إبّان قيامهم به، أو تقاعدوا، أو شباب متحمسون لخدمة مجتمعهم في أوقات فراغهم، وكذلك عدد كبير من العاملين في أوقات فراغهم كنوع من المتعة والمشاركة الاجتماعية.
وقد شهدنا ألواناً عدة من العمل التطوعي في مجتمعاتنا بخاصة في الأرياف، إبَّان مواسم قطاف القطن أو دراسة القمح أو كدادة السواقي المائية أو الأعراس والولائم أو الأفراح والتعازي أو الولادة، إضافة إلى ألوان أخرى متمثلة في مساعدة المحتاج أو دفع سيارة في الطريق أو جرها أو إغاثة الملهوف عامة. وكذلك في الجمعيات الخيرية وتوزيع مساعدات على الناس، غير أن منع العمل المدني كان أحد الأسباب الرئيسية التي جعلته مشلولاً ومقتصراً على مبادرات واستجابة بسيطة فطرية تحمل كثيراً من الطيبة والنبل.
ما يتسم به العمل التطوعي في البلدان الأوربية ويمكن الإفادة منه في المشهد السوري اليوم هو التنظيم بحيث يتحول من عمل يقوم على الاستجابة الانفعالية أو السريعة أو اللحظية أو الموسمية إلى عمل منظم واضح الأهداف والخطوات، ويتمثل ذلك أولاً بإيجاد جهة ما تتولى التنظيم والتنسيق والترتيب، ويقتصر دور تلك الجهة على التنسيق بين الراغبين بالعمل التطوعي والراغبين بالاستفادة منه جهات وأفراداً.
الخطوة الأولى تتمثل بإيجاد هيئة تطوعية مهمتها مراسلة الجهات التي تحتاج إلى مساعدة تطوعية، أو تقديم اقتراحات لجهات يعتقد فريق العمل أنها بحاجة إلى مزيد من الاهتمام من مثل الاعتناء بالحدائق أو نظافة الشوارع أو المظهر الجمالي للمدينة والاهتمام بحيواناتها الشاردة، وكذلك تنظيف أقنيتها المائية أو توعية الناس بسلوك ما يؤثر على قطاع معين. إضافة إلى جهود أخرى لها علاقة بمساعدة المحتاجين في قطاع ما (مرضى، أو كبار سن، أو أطفال).
والخطوة الثانية مراسلة الجهات التي يتبين أن قصوراً ما في عملها قد حدث نتيجة لقلة العاملين لديها، أو لأن طبيعة عملها تقتضي جهوداً جماعية لأن أي مؤسسة لا يمكنها أن تقوم به، دون وجود مساعدة اجتماعية من مثل نظافة المدينة.
والخطوة الثالثة تتمثل في وجود بنك معلومات للراغبين بالتطوع وتحديد الأوقات الملائمة لهم والمجالات التي يمكن أن يتطوعوا بها ومهاراتهم المؤهلة لهم.
ونظراً لضرورة أن يكون العمل التطوعي منظماً فإنه لا بد أن يكون هناك فريق مدرب ومختص يدير العمل التطوعي، والانتقال به من فكرة “التخجيل” إلى فكرة “الرغبة الحقيقة والحماس للقيام به”، ومن حسن الحظ أن عدداً كبيراً من الشباب السوريين قد عملوا في هذا المجال في أوربا وصارت لديهم أدوات العمل ومنهجياته وكيفية نجاحه في تحقيق أهدافه.
في الأيام الماضية، وقد شعر عدد كبير من السوريين أنهم استعادوا بلدهم، تواصل عدد كبير منهم ببعضهم قائلين: نريد أن نقدم شيئاً لبلدنا، لكن كيف؟ وها هنا بدأ السؤال كيف؟ ومع من نتواصل؟ وما هو الأسلوب الأمثل؟
هذا يستدعي تشكيل هيئة عليا للعمل التطوعي، يمكنها أن تنظم تلك الجهود وتنسقها وتشرف عليها وتكون صلة وصل بين الراغبين والقطاعات المحتاجة.
سوريا الجديدة بحاجة إلى جهود كل أبنائها، خاصة أن البلد أصابه كثير من التدمير والخراب خلال خمسة عشر عاماً إضافة إلى الخراب الديكتاتوري الممتد نصف قرن وأكثر، بحيث من الضرورة أولاً استعادة الإنسان السوري ورغبته بالحياة والتميز وتقديم الدعم للمحتاجين.
لعل من أبرز تشويهات العمل التطوعي في سوريا هي المنظمات الشعبية التي كان يساق إليها الناس، وقد أخرجت عن دورها لتغدو مهمتها التشبيح على السوريين والإساءة لهم أو التسبيح بحمد الديكتاتور القاتل.
وحين أدركت زوجة الديكتاتور السابق أن العمل التطوعي أو التعاون مع المنظمات الدولية يجلب كثيراً من النقود عملت على السيطرة عليه وإقامة مشاريع لا تعبر عن حاجة البلد وأسست مؤسسة خاصة بها تتبع للقصر الجمهوري كي تستولي على أموال التعاون الدولي، واليوم الجهود الإغاثية الدولية بحاجة إلى تنظيم قد تتولى جوانب منه تلك الهيئة التطوعية خاصة ما يتعلق بالصليب الأحمر الدولي أو أطباء بلا حدود في القطاع الصحي مثلاً.
قد يقول قائل: إن أبرز مثال على نجاح العمل التطوعي في سوريا هو منظمة الخوذ البيضاء وهي مثال متميز على أهمية العمل الأهلي، وهذا توصيف دقيق، لكن واقع سوريا الجديدة يفترض بالخوذ البيضاء أن تتحول إلى منظمة تابعة للحكومة لأن الجهود المنتظرة منها وما تقدمه بحاجة إلى أن يصبح جزءاً من الدولة، لكن بالتأكيد خبراتها في هذا المجال هي الأساس الذي يبنى عليه.
العمل التطوعي هو انتقال من: همتكم يا شباب، ومنصورين بعون الله إلى منصورين بعون الله عبر التخطيط والتنظيم وتتابع الجهود والتحول من النوايا الحسنة وهي مهمة جداً إلى العمل المخطط المنظم.
انتشر السوريون في السنوات الأخيرة في مختلف دول العالم، وبنوا خبرات مذهلة وخاضوا تجارب مختلفة، وهم اليوم يحدوهم الأمل أن يشاركوا في بناء بلدهم مسلحين بالإرادة الشديدة غير أن ذلك يحتاج إلى تنظيم سريع لتلك الجهود وفتح الباب لها مؤسساتياً عبر أجهزة سوريا الجديدة، فمن سيبدأ بالخطوة الأولى ويحاول تنظيم الجهود التطوعية تلك؟ هذا ما ستكشفه الأسابيع القليلة القادمة.
العمل التطوعي في جانب منه “علمني أن أصطاد بدل أن تعطيني سمكة”، أما تمويله فيمكن أن يكون من منظمات دولية، وكذلك قد يكون من المشاركة الاجتماعية للقطاع الصناعي ورجال الأعمال بحيث بدلاً من أن يقوم بتلك المهمة بنفسه يقدم ما يريده إلى مؤسسة مختصة تقوم بالمهمة بدلاً منه، وكذلك في جانب منه يقوم على تنمية فكرة التطوع والمساعدة لدى الأفراد والمؤسسات، خاصة أن لدينا بذوراً مادية منه يمكن توظيفها متمثلة بالزكاة والصدقة، وفي الوقت نفسه هناك قيم عربية عدة تتمثله أو تعبر عنه من مثل: مساعدة المحتاج والإيثار والمشاركة الاجتماعية ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه!
من الطرائف أن عدداً من النسوة السوريات المقيمات في هولندا، اكتشفن أنَّ من يدربهن على قيادة الدراجة الهوائية (البسكليت) ذات يوم قائد الشرطة في أمستردام، وهو يقوم بذلك في يوم عطلته لتحقيق شيء من الراحة النفسية والخروج من العمل الوظيفي وضغوطاته، وهذا مألوف في مجتمع تعد قيمة العمل ومساعدة الآخرين فيه هي إحدى أعلى القيم.
——————-
حول أمويّة سوريا/ فارس الذهبي
2024.12.15
اندفع الطوفان البشري في شوارع سوريا، معلناً نهاية حكم الأسد، وحكم الثورة الإيرانية التي كان الأسد غطاءً غير مستترٍ لها. تُحدِّثنا شاشات التلفزة عن فرحة الشباب والرجال والنساء بهذا النصر في يوم جمعة النصر بانتهاء عصر الطغيان والقمع والموت، إذ إن معظم من حضر في ميادين سوريا ركز على عودة الروح إلى الشعب والبلاد، وعودة هوية سوريا الأموية. فهل سوريا أموية؟
تعود سوريا، من شمالها إلى جنوبها، إلى أمويّتها، والأموية لا تعني، هنا، مذهبا دينياً بعينه، بل هي فكرة ثقافية متوسطية، هي تحالف للعرب مع المسيحيين اليونانيين. يوحنا الدمشقي وقبله جدّه منصور بن سرجون ومن يمثلون مع الفاتحين العرب. تعني موقفاً ثقافياً منفتحاً على مختلف طوائف سوريا الغنوصية الفلسفية الموغلة بالتاريخ.
حيث، وبكل تأكيد، لم تكن تلك البلاد فارغة على عروشها ساعة الفتح العربي، بل كانت مدائن الشام عامرة شامخة برجالها ونسائها وفلاسفتها وملوكها وقصصها الضاربة بالتاريخ، وما كان دخول العرب إليها سوى تحالفاً كبيراً، بين قبائل الغساسنة التي استوطنت جنوبي سوريا حتى دمشق بشكل أساسي، وبين العرب الباحثين عن نقطة انطلاق لحلمهم الكبير بتغيير الشرق والعالم بعد سنوات طويلة من الموت والحرب والاقتتال على أرضنا بين الفرس والروم.
كانت الدولة الأموية تكويناً قومياً سورياً استفاد، بشكل من الأشكال، من راية العرب وقوتهم الصاعدة لبناء صيغة حضارية عظيمة متّكئة على التجربة الآرامية والخزّان الحضاري الضخم للسريانية والهيلنستية، لتمتزج مع التوحيد الذي أتى مع العرب، فتتفاعل وتنتج ما عرف بالحضارة العربية الإسلامية، التي تقاطعت مع قرارات مجمع خلقيدونية 451 م، الرافضة طرْح النسطورية حول أنسنة الإله. طرد نسطور من القسطنطينية وانتقل أتباعه إلى وادي الرافدين (ميزوبوتاميا) حيث انتشر مذهبه وتمدد.
كانت الأموية تحالفاً حضارياً بين الأقليات الفيثاغورثية الغنوصية التي عاشت في كنف التحالف العربي مع السوري، بعيداً عن سردية المشاحنات بين الصحابة والخلفاء، والصراع على الحكم الذي استمرت تداعياته حتى يوم الثامن من كانون أول 2024، وهو اليوم الذي أعتقد أنه نهاية الصراع الطائفي في الشرق.
وفي المقلب الآخر لم يكن العداء الذي تكنّه الدول في الشرق أو المطامع التي تكنّها الدول في الشمال لهذه الأرض، مرتبطة بالصراع العربي الفارسي الرومي، بل كان صراعاً امتد إلى ما قبل الاسلام، بخلاف أديان المنطقة أو طوائفها. كتب التاريخ تحدثنا عن حروب كثيرة لا تنتهي بين سكان المنطقة في شرق المتوسط أو غرب آسيا، وبين الامبراطورية الفارسية، ومنها، على سبيل المثال، معركة الفرما بين الفرس والمصريين 343 قبل الميلاد، مروراً بمعارك سوريا وفلسطين، ومعارك العراق (ذي قار 609 م)، وحتى القادسية 634 م.
تمثّلت رغبات شعوب المنطقة بتأسيس كيان مستقل يشمل دول الشرق العربي مع الجزيرة العربية، بعيداً عن هيمنة الفرس أو الروم، واستمرت هذه الرغبة تشتعل في قلوب أبناء المنطقة حتى سقوط الدولة العثمانية واتفاقية الشريف حسين مع البريطانيين لتشكيل الدول العربية الممتدة من حلب حتى اليمن.
عادت سوريا أموية حضارياً، وليس دينياً، لتكوّن تفاعلاً حقيقياً بين الشرق والغرب، منهية سطوة الحالمين بالتوسع من الشرق في البلاد العربية. هي لحظة مفصلية في تاريخ الشرق، وربما العالم، فانتصار الثورة السورية أعاد للمواطنة معناها، وأعاد للشعب اتصاله بثقافته الممتدة من الجزيرة السورية وحتى البحر، ومن جرابلس حى نصيب في أقصى الجنوب، بعد أن كانت مستعمرة تكنّ الشر لدول الجوار العربي، رافعة شعارات تحريرية في استغلال سافر للمشاعر العربية.
بعد نجاح التجربة الأموية حضارياً مشكّلة الامبراطورية الأكبر في عهد العرب، وناقلة العرب والسوريين إلى مفهوم الدولة لأول مرة بعيداً عن مفهوم الحكم البسيط الراشد، دولة متعاضدة مترامية الأطراف تحكم ملايين البشر متعددي الأديان والمذاهب والطوائف، من أقصى الشرق حتى الأندلس، أقول بعد كل هذا وذاك، استطاب للسوريين تسمية أنفسهم بالأمويين، تذكيراً منهم بتلك الفترة الناصعة التي كانت سوريا خلالها مركز العالم، وحواضرها أهم حواضر الدنيا. بعض الحاقدين الطائفيين كان لهم رأي آخر منطلقين من زاوية أخرى في تفسير الموقف الحضاري، ومتّخذين من ذلك منطلقا لتدمير البلاد على رؤوس أهلها في سوريا ولبنان وحتى العراق وفلسطين.
عادت سوريا إلى وجهها الحضاري الذي تريده، فإن رغبت أن تعيش في الماضي الذي اتكأت عليه وعلى أمجاده كي تحشد انتصار شعبها، فلن تنجز شيئاً في الطريق إلى المستقبل، ولن تحجز لنفسها مكاناً فيه.
تلفزيون سوريا
———————-
واشنطن تعيد اكتشاف سوريا، ترامب أيضاً/ محمد قواص
ديسمبر 15, 2024
فيما بدت عواصم العالم حذرة في مقاربة الحدث السوري الكبير، سحب بنيامين نتنياهو كرسيّاً، جلس إلى طاولة التسوية السورية، فارضاً إسرائيل شريكاً حاضراً في مستقبل…..
أعربت واشنطن عن قلقها من مشاركة “هيئة تحرير الشام”، المصنّفة إرهابية، في الهجوم الشامل الذي شنّته فصائل المعارضة المسلّحة قبل أيام. بدا هذا المدخل ضروريّاً…
في 26 تشرين الثاني الماضي، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في معرض تعقيبه على اتّفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل أنّ “الولايات المتحدة لا…
لا يرى المفكّر الروسي ألكسندر دوغين ما جرى في سوريا إلّا من باب مؤامرة معقّدة الحلقات في العالم، هدفها الأوّل إضعاف روسيا ونصب فخاخ للرئيس المنتخب دونالد ترامب. أخطأ الغرب كثيراً عندما اعتبر دوغين “عقل بوتين”، فيما لا يوجد في خطب الرئيس الروسي وتصريحاته أيّ استعارة من أفكاره. والأرجح أنّ دوغين هو أداة من أدوات السلطة وليس ملهمها. في المقابل كان إيفان إيلين، مُنظّر الفاشية الروسيّة، هو المرجع النظريّ الأهمّ لبوتين، الذي استشهد بمقولاته مراراً في خطابه السنوي أمام الجمعية الفدرالية وفي خطابه عن حالة الأمّة.
لا يبدو بالمقابل أنّ فرانسيس فوكوياما، أحد أشهر المفكّرين الأميركيين وصاحب النظريّة الشهيرة حول “نهاية التاريخ”، يرى مؤامرة تحوكها إدارة جو بايدن الحالية ضدّ إدارة ترامب المقبلة. يعتقد أنّ الولايات المتحدة تمرّ حالياً بحالة من عدم اليقين مع انتخاب دونالد ترامب، لأنّه لا يؤمن بالأفكار الليبرالية. وهذا الأمر “سيحدث ضرراً كبيراً للديمقراطية الأميركية”. يلتقي فوكوياما مع القلقين في العالم بشأن ما قد يحدثه ترامب من عبث في سياسة بلاده الخارجية، ومنها ما يتعلّق بالشرق الأوسط ومستقبل سوريا.
قبل أسابيع من سقوط النظام السوري، وبعد أيام من انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، نُقل عن ترامب تبرّمه المستمرّ من وجود حوالي ألف جندي أميركي في سوريا، متسائلاً: “ماذا نفعل هناك؟”. وكان، أثناء ولايته الأولى، عبّر، في تشرين الأوّل 2019، عن موقف قال فيه إنّه “حان الوقت لتخرج الولايات المتحدة من الحروب السخيفة التي لا نهاية لها في سوريا”. وكان قبل ذلك، في كانون الأوّل 2018، أمر بسحب القوات الأميركية من هناك، فاستقال وزير دفاعه، جيم ماتيس، ولم يتمّ الانسحاب.
قبل أسابيع من سقوط النظام السوري، وبعد أيام من انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، نُقل عن ترامب تبرّمه المستمرّ من وجود حوالي ألف جندي أميركي في سوريا
واشنطن شريكة بإسقاط النّظام
على الرغم ممّا عبّر عنه ترامب إثر اندلاع التطوّرات السوريّة الأخيرة من أنّ “سوريا ليست معركتنا.. فلا تتدخّلوا”، فإنّ الولايات المتحدة بدت (جزءً) جزءاً من عوامل كثيرة أدّت إلى سقوط النظام. فالعقوبات الأميركية، ومنها “قانون قيصر”، قوّض على نحو موجع أعمدة من قوى النظام، فيما تمسّكها بشرط تنفيذ القرار الأممي 2254 لأيّ تطبيع مع دمشق قاد موقفاً جماعياً لم تحِد عنه كلّ المنظومة الغربية.
غير أنّ كشف صحيفة واشنطن بوست عن دعم أوكراني لـ”هيئة تحرير الشام” بالمسيّرات والتدريب، يكشف أيضاً عن ضلوع أميركي في أمر لا تستطيعه كييف من دون موافقة واشنطن.
قد يتحمّل ترامب، وإن لم يقصد ذلك، مسؤولية إطلاق الفصائل لعملياتها العسكرية شمال سوريا من إدلب باتّجاه أرياف حلب. لا نعرف ما إذا كان مخطّطاً للأمر أن يسقط النظام في دمشق أم انزلق نحو أفق لم يكن محسوباً. والأرجَح أنّ تركيا أرادت من خلال غضّ الطرف عن إطلاق هذه العملية ورعايتها من الخلف ترتيب وضع في شمال سوريا يكون أمراً واقعاً أمام إدارة ترامب. فلطالما أبدى الرجل، في ولايته الأولى، تفهّماً لهواجس تركيا وانحيازاً لمطالبها، حتى على حساب حلفاء الولايات المتحدة الأكراد.
لا نعرف ما إذا كان مخطّطاً للأمر أن يسقط النظام في دمشق أم انزلق نحو أفق لم يكن محسوباً
بايدن يستطلع
غير أنّ الوضع في سوريا تغيّر، وهو أمر واقع تاريخي لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهله أيّاً كان رئيسها. وإذا ما نسي بايدن ذكر اسم سوريا خلال سنوات عهده، فإنّه استيقظ على وجودها بعد سقوط النظام، وأفرد لها خطاباً، وأرسل وزير خارجيّته أنتوني بلينكن إلى المنطقة، مستطلعاً، دافعاً دول المنطقة إلى التموضع إيجابياً لاحتواء الحدث وضبط إيقاعاته.
لن يحيد ترامب عن هذا التوجّه الذي بدا استراتيجيّاً في توجّهات واشنطن الإقليمية والدولية. بل إنّ التطوّر السوري يصبّ في المصالح العليا لبلاده في العالم، ويتقاطع مع ما راح يَعِد به خلال حملته الانتخابية الأخيرة. ويجوز هنا تسليط الضوء على العوامل التالية التي ستدفع ترامب لأن يعتبر الحدث أميركياً يتناقض مع موقف سابق قال فيه: “ليس شأننا”:
أوّلاً: يُضعف إسقاط النظام في سوريا قوّة إيران في المنطقة بعد خسائر مُنيت بها أوراقها في غزّة ولبنان، وبعد ضربات عسكرية شنّتها إسرائيل داخل الأراضي الإيرانية يتكشّف أنّها كانت بنيوية موجعة. وفيما يلمّح ترامب إلى خيار عسكري محتمل ضد إيران معطوفاً على استعداده لإبرام صفقة معها، فإنّ الحدث السوري يأتي ليرفد أوراق ترامب على طاولة أيّ صفقة عتيدة.
الوضع في سوريا تغيّر، وهو أمر واقع تاريخي لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهله أيّاً كان رئيسها. وإذا ما نسي بايدن ذكر اسم سوريا خلال سنوات عهده
الحدث يُضعف روسيا
ثانياً: يُضعف الحدث نفوذ روسيا في سوريا حتى لو توصّلت مع “العهد الجديد” إلى تفاهمات تبقي قواعدها العسكرية في هذا البلد. والأرجح أنّ موسكو لن تجد في “سوريا الجديدة” بيئة حاضنة كانت تمتّعت بها منذ مرحلة الاتحاد السوفيتي. ومن شأن هذا الاختلال في موازين القوى أن يساعد ترامب على إقناع روسيا، من موقع قوّة، بالتوصّل إلى صفقة وعد بها لوقف الحرب في أوكرانيا لا تلبّي، وفق ذلك الاختلال، شروط بوتين وإملاءاته.
ثالثاً: الواضح أنّ الحدث يشكّل قطيعة عقائدية للنظام السوري الجديد مع سوابق أدرجتها داخل معسكر الشرق أو محور الممانعة. الأمر سيرجّح أن تربط “سوريا الجديدة” بعد تأهيلها اقتصادها بالمنظومة الدولية، وأن ترتبط منظوماتها الدفاعية بالمعسكر الغربي، وهو ما من شأنه أن يغري ترامب بـ”البيزنس” المطلّ من سوريا وتحوّلاتها على خرائط الاصطفافات الدولية.
قويّاً ضدّ الصّين…
رابعاً: يأتي الحدث السوري ليحمل المياه إلى طاحونة ترامب الذي ما فتئ، منذ ولايته الأولى، يقود حملة لتقويض قوّة الصين اتّساقاً مع توجّه استراتيجي أميركي منذ ولاية باراك أوباما. ومن يريد أن يكون قويّاً ضدّ الصين، عليه أن يكون قويّاً في أوروبا ضدّ روسيا، وقويّاً في الشرق، وفي سوريا بالذات بصفتها مكان تحوّل على حساب تحالف الصين وروسيا وإيران.
خامساً: أهملت واشنطن “المسألة السورية” واعتبرتها دائماً “ملفّاً إسرائيلياً”، غير أنّ ترامب، حتى في ما وعد به من حلّ لـ”قضيّة الشرق الأوسط”، حسب تصريحاته في حديثه عن القضية الفلسطينية، يستنتج أنّ سوريا لم تعد فقط شأناً إسرائيلياً. بل باتت، وفق تحرّك إدارة بايدن التي تنسّق مع إدارته، شأناً أميركياً بامتياز تعيد خلط أوراق الولايات المتحدة في العالم، وترتيبها وفق ما يصبو إليه ترامب من طموحات في الشرق الأوسط.
إقرأ أيضاً: دمشق: الانفتاح العربيّ على إيقاع أميركا وتركيا
يقرأ ترامب جيّداً “زلزال” سوريا. ولا شكّ أنّه نادم على تقويمه حين اعتبر صراعها “من الحروب السخيفة التي لا نهاية لها”. بدا أنّ سوريا أنهت حرباً. أسقطت نظاماً. وأيقظت واشنطن، من بايدن إلى ترامب، على حسابات جديدة.
اساس ميديا
————————–
يدُ تركيا الممدودة..الى السوريين والعرب/ ساطع نورالدين
ديسمبر 15, 2024
يوما بعد يوم، يثبُت، من دون أدنى شك، أن تركيا التي ساهمت باطلاق هجوم “هيئة تحريرالشام” وحلفائها على مدينة حلب، في 27 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، هي أكثر دولة فوجئت بانهيار الجيش السوري، وهروب ضباطه وجنوده، ثم بتساقط المدن السورية وصولا الى العاصمة دمشق، ثم بسقوط النظام الاسدي، وفرار رئيسه تحت جنح الظلام الى روسيا..وهي أكثر دولة تبحث عن معالم “اليوم التالي” لسوريا المفتوحة على حدودها الجنوبية، وعن النظام المقبل، وكيفية تشكيله وإكسابه الشرعية الداخلية، والدولية، وبناء مؤسسات الحكم السياسية والعسكرية والاقتصادية.. باختصار:عن إعادة بناء الجمهورية السورية من نقطة الصفر التي تقف عندها اليوم.
ولكي لا يساء الظن كثيراً بتركيا، لا بد من التسليم بأن خطاب “هيئة تحرير الشام”، وزعيمها أحمد الشرع ، يختلف تمام الاختلاف عن خطابها عندما كانت تحكم إدلب وريفها، وعندما كانت تدير المعابر الحدودية مع تركيا. وهو أمر يدركه السوريون جميعا، وليس فقط الذين عاشوا نحو ثماني سنوات تحت حكم الهيئة، واشتبكوا معها وتظاهروا ضدها، وهتفوا باسقاط زعيمها.
الخطاب الآن جديد كلياً، وهو يوحي بأنه كتب في أنقرة، لا في إدلب، وتمت صياغته على عجل، لكي يواكب التوسع التام لسيطرة الهيئة، التي تحولت في خلال 11 يوماً من مليشيا تعرض حل نفسها، والاندماج بالجيش الوطني السوري المرتقب تشكيله، الى مركز للسلطة المؤقتة، التي باتت تغطي كامل مساحة الجمهورية تقريبا، يدين لها الخصوم المحليون جميعا، ويسلم بتفويضها المؤقت العالم أجمع، بغض النظر عن ماضيها المنسوب الى تنظيم القاعدة، وعن حاضرها المنهمك بالحصول على فرصة شبيهة بالفرصة التي نالتها حركة طالبان لحكم أفغانستان.
وهو خطاب تمليه الحاجة الى حماية الامن الداخلي السوري، في ضوء الانتشار المسالم، والمثالي، للهيئة في مختلف انحاء سوريا، والى منح أنقرة الوقت الكافي لاقناع جميع السوريين أنها مرجعية لعملية سلام وتغيير واستقرار، وليست قيادة لحركة انقلابية قسرية..ولاقناع العالمين العربي والإسلامي أنها تمد للمرة الثانية خلال أقل من عشرين عاماً، يد الانفتاح والصداقة والشراكة والتجارة، مع جيرانها الجنوبيين، بعدما سبق ان مدتها بواسطة الرئيس المخلوع بشار الأسد نفسه..
اليد التركية الممدودة، قوبلت حتى الآن بالكثير من التحفظ العربي (والدولي) المفهوم والمبرر. فالاستجابة لتلك الدعوة الى احتضان الهيئة وزعيمها، تحتاج الى أكثر من تبديل الأسماء والصفات والأعلام، المرتفعة الان في سماء سوريا، التي وقعت فجأة تحت مسؤولية تركيا الحصرية. وهو عبء ثقيل جداً على الاتراك، أكثر مما كان في الماضي، عبئاً ثقيلاً على إيران ثم روسيا اللتين سبق أن غادرتا سوريا بلا رجعة، محملتين بالكثير الخسائر السياسية والديون المالية المطلوبة من دمشق.
في اجتماعات مدينة العقبة بالأمس، جرت ترجمة التحفظ العربي (المغطى بتحفظ أميركي ودولي مماثل) الى بيان، أو قرار بإعتماد الأمم المتحدة كمرجع وحيد لتحديد مستقبل سوريا، وتنظيم العملية السياسية بناء على قرار مجلس الامن الرقم 2254، وتوسيع فريق ومهام المبعوث الدولي غير بيدرسن، وصولا الى تشكيل “حكم ذي مصداقية”، جرى تحويله الى مجلس انتقالي للحكم، يتولى إدارة المرحلة الانتقالية، وكتابة الدستور الجديد وإجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية المنشودة..
وهي مهمة صعبة جداً، وتكاد تكون مستحيلة، لأن المرجعية التركية لم تقدم حتى الآن عرضاً انتقالياً مغرياً ، أو بتعبير أدق ليس لديها فريق انتقالي غير”هيئة تحرير الشام”، وزعيمها، كما ليس لدى أي بلد عربي (أو أجنبي)، فريق أو هيئة أو حتى كتلة، تمثل “المكونات” السورية، تستطيع ان تدخل المرحلة الانتقالية وتكسبها المصداقية والشرعية اللازمة. الفراغ الذي خلفه النظام الاسدي، لم يقتصر على محيطه وبيئته، بل يبدو اليوم، وكأنه سِمة سورية، تؤجل موعد ظهور النظام الجديد، وتفسح المجال لخطايا مثل إعلان أحمد الشرع ترشحه لرئاسة الجمهورية، إذا طلب منه السوريون أو المحيطون..الذين يرجح أنهم من غير الأتراك.
بيروت في 15/12/2024
————————
==================