سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
بيان حول حرية الصحافة في سوريا بعد الأسد
صادر عن مؤسسات إعلام المصلحة العامة السورية المستقلة: الجمهورية، آرتا، عنب بلدي، روزنة
16-12-2024
مدخل
شنَّ نظام الأسد طوال أكثر من خمسة عقود حملة وحشية استثنائية ضدّ حرية الصحافة، استعمل فيها الترهيب المتواصل لإسكات الاعتراضات وكمِّ أفواه كل من يتجرأون على نقل الحقيقة. تعرَّضَ الصحفيون-ات والإعلاميون-ات للملاحقة والتعذيب والإخفاء القسري والسجن والنفي، فيما تعرضت عوائلهم-ن للمضايقة والابتزاز والترهيب.
في خضمّ ذلك كلّه، نجحت الثورة السورية منذ عام 2011 في إطلاق قطاع إعلامي بديل ومستقلّ ومُزدهِر. ونتيجة التضحيات الكبرى والشجاعة لمن عملوا فيه، نجح هذا القطاع في تحطيم جدار الصمت الذي تمترسَ وراءه النظام لعقود. ورغم تَواصُل العُنف والتضليل والتشويه والتخوين الذي طال الأصوات الناقدة لنظام الأسد، وكذلك طال كل من يُسيء استعمال السلطة التي بين يديه، بقي الصحفيون المستقلّون والصحفيات المستقلّات يعملنَ على تسهيل التبادُل الحرّ للمعلومات. قاموا وقُمنَ بتجميع السرديات، والتحقُّق من الوقائع المتعلقة بالاحتجاجات السلمية والأنشطة المدنية وجهود الحكم الذاتي، وتوثيق الاشتباكات والفظائع وجرائم الحرب، وقدّموا للأحداث السريعة والمُتلاحقة سياقها الذي يُساعد على شرحها، ووضعوا الأدلة والمصادر في تصرّف الجمهور. كان عملهم سعياً حثيثاً لمحاسبة جميع الجُناة على أقوالهم وأفعالهم، وصوتاً عالياً يمدّ يده إلى الأصوات غير المسموعة. وكانوا يفعلون كل ذلك بقصد الإحاطة بالتجربة الإنسانية الشاسعة التي كانوا يحاولون التقاطها ونَقلها، بكل حُزنها المُريع وحُسنها بالغ الأثر، فأصبحوا بذلك مُؤرِّخي آلام الشعب وشهوداً على مَنَعَتِه في وجه المصائب.
كانت تكلفة مساعي البحث عن الحقيقة، ومُشاركتها، مَهولة بالنسبة لمن تجرّأوا على العمل في الصحافة والإعلام. منذ بداية الثورة وثّقَت رابطة الصحفيين السوريين والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وغيرهما، آلاف الانتهاكات التي ارتكتبتها الأجهزة العسكرية والأمنية للدولة بحقّ الصحفيين-ات والإعلاميين-ات ومؤسساتهم-ن. أما مُراسلون بلا حدود فقد وثّقت مقتل 283 صحفياً وصحفية قُتلوا بسبب ممارستهم الصحافة، منهم 161 على يد نظام الأسد، والعشرات الباقية على يد قوى أخرى مشغولة بقمع الحقيقة. بالإضافة إلى ذلك، تَعرَّضت أعدادٌ لا تُحصى من المراسلين-ات للإيذاء البدني أو النفي أو الإسكات، وخُرِّبت بيوت بأكملها بسبب الاضطهاد الذي لا يرحم. ولكن كل هذه الخسائر الفادحة لم تردع الإعلام السوري المستقلّ يوماً، فقد ظلّ ثابتاً في عزمه على كشف الحقيقة ومُحاسبة كل من يقف معترضاً على ذلك العزم.
إسقاطُ نظام الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024 شكّلَ لحظة محورية في تاريخ سوريا، جاءت نتيجة شَجاعة وتضحيات شعبها التي لا تَلين. وكانت وسائل الإعلام السورية المستقلة في طليعة من وثَّقَ هذا التحوّلَ التاريخي. ففي عمله طوال السنوات الثلاثة عشرة الماضية، نما هذا القطاع وخرَّجَ أفراداً يمتلكون المهارات والكفاءات اللازمة ليتحوّلوا من مواطنين شهودٍ عيان إلى صحفيين محترفين. وعلى أساس هذا التحوّل، سيواصل هؤلاء الصحفيون-ات والإعلاميون-ات دورهم في مستقبل لا يكون قمعُ الحقيقة فيه ممكناً، ولا يُهيمن فيه أي نظام سياسي على قصة الشعب. هكذا يمثّل الإعلام السوري المستقل علامة ونتيجة للكفاح الثوري المتواصل من أجل الكرامة والعدالة والحرية.
مطالبات من أجل حرية الصحافة
تؤكد وسائل الإعلام المستقلّة المُوقِّعة أدناه إيمانها أنَّ السلطة تكون الديكتاتورية نتيجةَ أفعالها وتَقاعُسها عن واجباتها، وليس نتيجة هوية الشخص الذي يترأّسها فحسب. على ذلك، وانطلاقاً من إيمانها بأن الصحافة الحرة احتياج جوهري ولا جدال فيه، تدعو وسائل الإعلام المستقلة الموقعة أدناه إلى حماية الصحافة الحرة في كافة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الناشئة في سوريا ما بعد الأسد.
إن الإعلام الحرّ الحقيقي يتطلّب:
1- العدالة والمُساءلة: يجب أخذُ جميع مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين-ات والإعلاميين-ات إلى المحاكم، بما في ذلك المسؤولين عن حالات الاختفاء القسري والتعذيب والقتل خارج نطاق القضاء. ويجب إطلاق سراح جميع الصحفيين-ات والإعلاميين-ات المحتجزين، وعدم إظهار أي تَسامُح مع أوضاع الإفلات من العقاب، خصوصاً فيما يخصّ الاعتداءات على العاملين في الإعلام.
2- إلغاء وزارة الإعلام: وأيضاً كافة أشكال الرقابة على وسائل الإعلام، وبدلاً من ذلك يجب إنشاء هيئة رقابية مُستقلّة من خلال عملية تَشارُكية تضمُّ المؤسسات الإعلامية السورية، ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحرية التعبير والإعلام، والصحفيين-ات والعاملين-ات في المجال بشكل مستقل، وبإشراف خبراء محليين ودوليين، وذلك بهدف منع السلطة التنفيذية من التدخُّل في العمل الإعلامي الرقابي.
3- الحماية القانونية لحرية التعبير والصحافة: ترتبط حرية الصحافة ارتباطاً وثيقاً بحرية التعبير. لذلك يجب إلغاء القوانين التي تتعارض مع أيٍّ منهما فوراً، بما في ذلك القانون رقم 20 لسنة 2022 (قانون الجرائم الإلكترونية)، والقانون رقم 19 لسنة 2012 (قانون مكافحة الإرهاب)، ومشروع قانون الإعلام الأخير لعام 2024، وكلها تتلاعب بشكل صارخ بالمبادئ القانونية من أجل إسكات المُعارَضة. ويجب أيضاً تطوير تشريعات حديثة تتماشى مع المعايير الدولية ومبادئ القانون الدولي، بما يضمن التنظيم المتكامل وحماية الحقوق والحريات، وبما يعزز بيئة آمنة ومواتية للعمل الإعلامي. وبدلاً من القوانين المُلغاة، يجب إنتاج إطار قانوني يضمن المبدأ الأساسي من مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريةَ اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاءَ الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تَقيُّد بالحدود الجغرافية». لذلك يجب أن يتمتع الصحفيون بحرية البحث عن الحقيقة ونشرها دون خوف من الاضطهاد، ويجب أن يتحرّروا من أعباء الإكراه الحكومي وغير الحكومي، ومن الرقابة، ومن النفوذ السياسي غير المُبرَّر. كما يجب وضع ضمانات لمنع الدولة من إجبار الصحفيين-ات على الكشف عن مصادرهم، وذلك بما يمكّنهم-ن من مُساءَلة الحكومة بطريقة لا تُلحِقُ الضرر بأي شخص يشارك في جهود كشف الحقيقة، بما في ذلك الصحفيون والصحفيات أنفسهم.
4- الضمانات الدستورية: يجب دمج الحقوق والحريات الإعلامية المكفولة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، وبشكل لا لبس فيه ولا رجعة عنه، في نص الدستور، مع تضمين إشارات واضحة إلى الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
5- مشهد إعلامي حرّ وتعدُّدي: لا يجوز للدولة أن تحتكر عمليات تَبادُل المعلومات، بل يجب أن تتخذ جميع الخطوات اللازمة لتسهيل ومنح فرص متساوية لأيِّ وكلِّ مؤسسة إعلامية أو عامل-ة في المجال بما يسمح بالوفاء بمتطلبات العمل.
الأولويات الانتقالية العاجلة
حظرُ الرقابة: يُمنَعُ منعاً باتاً فرضُ أي رقابة على وسائل الإعلام أو الصحفيين المستقلين، أو مصادرة صحيفة أو إيقافها أو إغلاقها. لا يجوز السماح بالاستثناءات إلا في حالات مؤقتة ومُحدَّدة بشكل ضيق، وبما يتوافق مع القيود الموضحة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
الحماية القانونية للآراء والتقارير: لا يجوز أبداً استخدام آراء الصحفي-ة أو الإعلامي-ة أو التقارير العيانية أساساً لاتخاذ إجراء قانوني بحقه أو بحقها، ويجب عدم إجبار الصحفيين على الكشف عن مصادرهم.
حماية حقوق الصحفيين: يجب حماية الصحفيين من أي انتهاك للكرامة أو السلامة الجسدية أو المكانة الأخلاقية بسبب أعمال منشورة، ولا يجوز مقاضاة الصحفي أو الصحفية نتيجة التعبير عن آراء أو نشر معلومات خلال عمله أو عملها المهني.
الحرمان من الحرية: لا يجوز فرض عقوبة الحرمان من الحرية على أي جرائم مُتعلِّقة بالنشر، إلا في الحالات التي تنطوي على التحريض على العنف أو الكراهية، ولا يتم ذلك إلا من خلال الإجراءات القانونية الواجبة واللجوء إلى العدالة.
حماية مواد العمل الصحفي: لا يجوز استخدام الوثائق والبيانات والمواد الأخرى التي يحتفظ بها الصحفيون والصحفيات كأدلة ضدهم في التحقيقات الجنائية، ما لم تُشكِّل حيازُتها أو الحصول عليها جريمة بشكل مستقل.
الحماية من التفتيش غير القانوني: لا يجوز تفتيش أو احتجاز أو استجواب الصحفي-ة نتيجة نشاط مهني، إلا في حالات الجرائم الصارخة. بالإضافة إلى ذلك، لا يجب أن تكون أدوات العمل – مثل أجهزة الكمبيوتر المحمولة والكاميرات والوثائق – عُرضَة للمصادرة.
حق الحصول على المعلومات العمومية: يجب أن يتمتع الصحفيون والصحفيات بضمان الوصول إلى المعلومات العامة، سواء كانت تشريعية أو قضائية أو حكومية أو إدارية، ويجب أن يتمتعوا بحرية نشر هذه المعلومات دون قيود.
المساواة في الوصول إلى المعلومات: لا يجوز إعاقة الوصول إلى المعلومات أو نشرها بأي شكل. ويجب ضمان تكافؤ الفرص لجميع أشكال الإعلام ووسائله، بما في ذلك المطبوعة والإلكترونية والمرئية والمسموعة.
التيسير المؤسسي: يجب على الهيئات الحكومية والمؤسسات العامة إنشاء آليات – مثل المكاتب أو المواقع المخصصة – لتسهيل وصول الصحفيين إلى المعلومات.
حماية المصادر: يجب حماية المصادر والأشخاص المُساهمين في إنتاج العمل الصحفي. ولا يجوز انتهاك السرية إلا بموجب إذن قضائي مُلزِم، وحصراً في الحالات التي تنطوي على جرائم تشكل تهديدات كبيرة للسلامة العامة، وفقط في حالة عدم وجود وسيلة بديلة للحصول على المعلومات.
حرية النشر ونزاهة الترخيص: يجب أن يكون النشر حراً وغير خاضع لترخيص مسبق. يجب أن تتولى عمليات الترخيص والاعتماد هيئةٌ تنظيميةٌ مُستقلّة، فقط لأغراض الحفاظ على نزاهة المهنة وضمان سلامة العاملين فيها. ويجب عدم التلاعب بالترخيص، وعدم تحويله إلى أداة بيروقراطية لتقييد حرية الصحافة.
إلغاء القيود اللغوية: الإلغاء والإبطال الفوري لجميع القيود اللغوية في لوائح الإعلام، والتي كان يستخدمها نظام الأسد لانتهاك الحقوق الثقافية للإثنيات السورية المتنوعة. لقد أعاقت هذه القيود أيضاً عمل الإعلام والصحفيين-ات المستقلين-ات العاملين باللغات الكردية والسريانية والأرمنية وغيرها، ولا بدَّ من إزالة هذه القيود لتعزيز بيئة إعلامية استيعابية وكريمة.
ضمان الحرية والسلامة للصحفيات: ضمان حرية وسلامة الصحفيات والإعلاميات في أداء واجباتهنّ المهنية دون أن يخفنَ التحرُّشَ أو التمييز أو العنف. وهذا يستلزم آليات قانونية ومؤسسية قوية لمعالجة التهديدات القائمة على النوع الاجتماعي، وتوفير فرص متساوية للتقدم الوظيفي في قطاع الإعلام.
رفع القيود المفروضة على التمويل: يجب إزالة التدابير التقييدية المفروضة على مصادر التمويل الأجنبية والوطنية، وتمكين المؤسسات الإعلامية من تلقي المِنَح والتبرُّعات وتجميع أرباح الإعلانات، وهو أمر ضروري لإعادة بناء قطاع إعلامي حيوي ومستقر.
خاتمة
لا ينبغي لانهيار نظام الأسد أن يكون فقط طيّاً لزمن الخوف والقمع، بل أيضاً بدايةً لصفحة جديدة في تاريخ البلاد. ينبغي أن تكون هذه الصفحة ناصعة في موقفها من الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية. إن حرية الصحافة ليست فقط حجر زاوية المجتمع الديمقراطي، بل هي قلبه النابض، وحبل نجاته المُتمثّل في الحقيقة والمُساءَلة والذاكرة الجماعية للشعب. وبدون حرية الصحافة، ستتعثر الديمقراطية، وسيجد الطغيان أرضاً خصبة لإعادة غرس نفسه.
نحن الموقّعين أدناه نناشد جميع السلطات في سوريا – القائمة بحكم الأمر الواقع أو المستقبلية – الارتقاء إلى تاريخية هذه اللحظة. لتكُن لحظة تتكرَّسُ فيها حرية الصحافة بوصفها قضية مقدّسة، وتُحمَى فيها حقوق الصحفيين والصحفيات بعنفوان، وتُحمَى فيها الحقيقة من السكوت والإسكات. ليُسجِّل التاريخ هذا المنعطف لا بوصفه استراحة عابرة، بل ولادةً حقيقية لسوريا حرة وديمقراطية.
موقع الجمهورية
——————————————-
ما الذي يمكننا الدفاع عنه في سوريا اليوم؟/ صادق عبد الرحمن
كي لا تضيع لحظة الانعتاق من حُكم الأبد
16-12-2024
خاضَ مئاتُ آلاف السوريين نضالاً ملحمياً للصعود إلى مسرح السياسة والتاريخ، والمشاركة في تقرير شؤونهم وسياسة حياتهم، وقد تحطّمَ حكمُ الأبد الأسدي قبل أيام قليلة فقط، وانفتحَ بابُ التاريخ والسياسة على مصراعيه أمامنا.
والأولويةُ اليومَ هي وقفُ القتل وإغلاق باب الحرب والبدء بترميم شروط الحياة، وهو ما لا يَسعُ السوريين وحدهم تحقيقه، فنحن بحاجة إلى منع تجدد المعارك ثم السعي إلى أمن غذائي وبنية تحتية ومدارس وطبابة وعودة للمُهجّرين والنازحين واللاجئين، الأمر الذي لا يمكن إنجازه دون «مساعدة العالم». لكن إنجازه غير ممكن أيضاً بلا سياسة سورية، بلا انخراط أكبر عدد ممكن من السوريين والسوريات في نقاش شؤونهم والتقرير بخصوصها، وإلا فإننا نغامر بتسليم بلادنا وحياتنا لأبدٍ جديدٍ يُغلق باب التاريخ مرّة أخرى.
وليس ثمة ضمانةٌ سوى نضال السوريين والسوريات أنفسهم، وعلى هذا فإن أول ما يمكن الدفاع عنه هو أوسعُ انخراط ممكن لأكبر عدد ممكن من السوريين والسوريات في العمل المدني والسياسي والإعلامي والفكري بكل أنواعه ومستوياته، ونستطيع جميعاً أن نرى بوادر لا تُخطئها عين على هذا الصعيد، إذ بدا واضحاً أن لحظة سقوط الأسدية كانت لحظة انعتاق آلاف الطاقات والأصوات والطموحات والتوجهات.
وبديهيٌ أن الطيفَ السوري متنوّعٌ إلى درجة أنه يضمُّ مروحة واسعة من التوجّهات والتصوّرات، تمتد من طلب دولة إسلامية إلى طلب دولة علمانية وما بينهما من تدرُّجات بشأن علاقة الدين بالدولة، ومن تصوّرات شديدة المُحافِظة اجتماعياً إلى تصوّرات شديدة التحرّر فيما يتعلق بالحريات الشخصية، ومن تصوّرات اقتصادية ليبرالية إلى تصوّرات اقتصادية اشتراكية، وإلى آخره ممّا يمكن أن يختلف بشأنه الناسُ بخصوص الدولة والمجتمع وإدارتهما؛ لكن ما الذي يمكن أن يجمع هذا كله اليوم؟ أو بكلمات أخرى؛ هل يمكن أن يكون هناك نقطة لقاء بين هذه التوجهات، بحيث لا يؤدي تناقضها وانفجار صراعاتها إلى استمرار الصراع أو قيام دولة طغيان جديدة.
نستطيع أن نُجيب على السؤال بالعودة إلى أصل الحكاية، ذلك أن ما كانت تفعله الأسدية هو استباحة حياة معارضيها بقتلهم أو سجنهم عند رفضهم العلني لسلطتها أو عند انتظامهم سياسياً في مواجهتها، وهو ما قامت الثورة السورية ضدّه أساساً في 2011، وعلى هذا فإن نقطة التوافق الممكنة هي السعي الحثيث إلى دفن هذا الشكل من السلطة، إلى طيِّ صفحة القتل والاعتقال لأسباب سياسية. تحريمُ سفك الدم والاعتقال لأسباب سياسية هو ما يمكنُ الاتفاقُ عليه والنضالُ المشترك بشأنه، لأنه إذا وافقَ واحدنا على سحق خصومه السياسيين بالقتل أو الاعتقال، فإنه يقبل عملياً بحكم دموي جديد.
لدينا جميعاً بكل أطيافنا وتوجّهاتنا السياسية فرصة تاريخية لكسر هذه الدائرة، وسنهدرها بحماقة إذا أصرّ واحدنا على مطلب قيام سلطة تلبّي كلّ تطلعاته اليوم، لأن هذا هو عينُ المستحيل. وقد يبدو للوهلة الأولى أن الإسلاميين هم المعنيون الوحيدون بما أقوله، لأنهم الأكثر قدرة على فرض تصوراتهم بما لديهم من قوى مُسلحّة، ولأن واحداً منهم قاد معركة إسقاط الأسدية الأخيرة منذ انطلاق «ردع العدوان» ويقود اليوم سلطة الأمر الواقع في دمشق، لكن الجميع معنيون به في الحقيقة، بمن فيهم أولئك الذين لديهم قواعد اجتماعية ضيقة وقوة سياسية محدودة. الأخيرون معنيون به أكثر من غيرهم، لأن القفز فوق الوقائع والذهاب إلى دفاع عنيد عن التوجهات الإيديولوجية الخاصة قد يُساهم في تعميق الخلافات بينهم ودفن إمكانية العمل المشترك، ما سيترك الباب مفتوحاً أمام أصحاب السلاح لفرض دولتهم وسلطتهم.
دعونا نتذكر أن عدمَ الالتفاف حول مطلب الديمقراطية، والغرقَ في الاستقطاب الإسلامي العلماني، كان أحد أبرز العوامل التي ساهمت في فشل الانتقال الديمقراطي في مصر وتونس. قد يؤمن الواحد منّا مثلاً أن سوريا يجب أن تكون دولة إسلامية، لكن هذا لن ينجح على الأرجح، وهو إذا نجح فإنه تأسيسٌ لاستبداد جديد وسجون جديدة وآلام جديدة. وقد يؤمن الواحد منا على النقيض بأن سوريا يجب أن تكون دولة علمانية، لكن هذا لن ينجح اليوم، وهو خلافاً لسابقه ليس لديه أي فرصة للنجاح على ما تقول لنا موازين القوى الراهنة. وحتى إذا تخيّلنا فرصة لنجاحه (وهو ما يحتاج خيالاً جامحاً جداً)، فإنه لن يكون ممكناً بدوره دون معارك وسجون وقمع. أما ما يمكن أن ينجح فعلاً فهو دولة مُواطنين بالحد الأدنى، نستطيع فيها جميعاً أن نعيش ونتكلم ونكتب وننتظم سياسياً، دون أن نخشى الموت أو «الذهاب وراء الشمس» حسب تعبير سوري شديد الشيوع.
هذا زمنٌ انتقالي، ينبغي أن ننتقل فيه من دولة الأسديين إلى دولة جديدة، وفي الأزمنة الانتقالية لا فائدة من التشبّث بضرورة فرض تصوراتنا الإيديولوجية فوراً على النظام القادم، بل نحتاج إلى قدر من التوافق الذي ينزل فيه كلُّ طرف عن تنفيذ شطر من تصوّراته اليوم، ويحتفظ في الوقت نفسه بالحق في الكلام والعمل السياسي العلني لأجل هذا التصورات الآن وفي المستقبل. وهذا هو الأهمّ في الحقيقة، إذ لا ينبغي أن يُفهَم التوافق على أنه تنازلٌ عن الحق في حرية القول والكتابة والعمل السياسي السلمي لأي أحد، بل على العكس تماماً، إذ يجب أن يكون احتفاظُ الجميع بحقهم هذا ركناً أساسياً في أي توافق.
هذا زمنٌ انتقالي، وينبغي لهذا الانتقال أن يكون نحو الديمقراطية، وإلا فإنه بالضرورة انتقالٌ إلى طغيان جديد، وعلى هذا فإن المؤمنين بالديمقراطية، أو لنقُل بحق الجميع في ممارسة العمل السياسي العلني دون خشية الموت أو الاعتقال، مدعوون للالتفاف حول هذا المطلب، وليختلفوا على غيره قدرَ ما يشاؤون. وحده انتقالٌ كهذا يمكن أن يسمح لنا بالاختلاف دون أن يُقتَلَ بعضنا ويُعتقَلَ بعضُنا الآخر، وينسحب غيرهم خارج العمل السياسي، ويستأثر آخرون بسلطة استبدادية.
والديمقراطية طرحٌ إيديولوجي بدورها وليست تَطهُّراً من الإيديولوجيا كما قد يظن البعض، وعلى ذلك فإن المؤكّد أنها ليست محطَّ اتفاق الجميع لأن هناك قوى غير ديمقراطية في المجتمع، لكنها قاسمٌ مشتركٌ أكبر نظرياً على الأقل بين أغلب القوى والاتجاهات، وهي طرحٌ ليس لدينا غيره من أجل استقرار البلد وإعماره وسلام أبنائه وبناته، بها يمكنُ أن يكون هناك فرصة لإغلاق باب الحرب الأهلية، وبها يمكن أن نمضي في برامج للعدالة وإنصاف الضحايا وعائلاتهم، وبها يمكن أن تستعيد عجلة الاقتصاد السوري دورانها، وبها يمكن أن نأمل حياة معقولة بالحدّ الأدنى في بلد مزّقته آلامٌ لا تُحتمَل، وبها يمكن بناء دولة قادرة على التصدي للتحدي الذي تُشكّله إسرائيل وسلوكها العدواني.
ثمة شرطٌ ليس في يدنا كي نمضي في هذا الطريق، وهو أن تكون قيادة الفصائل التي دخلت دمشق مستعدة لترك باب الشراكة مفتوحاً، وأن تكفّ الدولُ ذاتُ النفوذ عن دعم أتباع مسلحين لها، وليس لدينا إشارات واضحة بهذا الشأن حتى الآن، بل تأتي إشارات متضاربة من أصحاب سلطة الأمر الواقع «المؤقتة» في دمشق، يُشير معظمها إلى رغبتهم في الانفراد بالسلطة ويشير بعضها إلى إدراكهم أنه ليس في وسعهم حكم البلد وحدهم. لكن إذا كان هذا ليس في يدنا تماماً، فإنه ليس صحيحاً أنه لا تأثير لنا عليه، وترجعُ كلمة «لنا» هنا على عموم السوريين غير المنضوين في فصائل مسلحة وتشكيلات سياسية ذات نفوذ حقيقي، ذلك أنّ تَضامُننا المُطلَق في الدفاع عن حقنا جميعاً في ممارسة السياسة، مهما اختلفنا سياسياً، سيكون حاسماً على هذا الصعيد.
حرية التعبير والانتظام السياسي في سوريا ليست ترفاً سياسياً يمكن تأجيله، بل هي الشرطُ الشارطُ لبناء بلد جديد أفضل، وهي ليست كافية لوحدها لكن غيابها سيعني إغلاق باب التاريخ مجدداً في آخر الأمر.
موقع الحمهورية
—————————
«وردة» مصاصة دماء/ صبحي حديدي
16 كانون الأول 2024
في العدد الأخير من أسبوعية The Spectator البريطانية يتساءل دافيد كريستوفر كوفمان، الكاتب والمعلّق الأمريكي ذائع الصيت؛ إنْ كانت أنّا ونتر، رئيسة تحرير مجلة “فوغ” الشهيرة و”ملكة الموضة” كما تُلقّب، سوف تعتذر من الشعب السوري في أيّ وقت قريب. وهو، بالطبع، يشير إلى عدد سابق من المجلة، يعود إلى سنة 2011، نشر مادة مفصلة عن زوجة رأس النظام آنذاك بشار الأسد؛ امتدت على 8 صفحات، كتبتها جوان جولييت بَك رئيسة تحرير النسخة الفرنسية من المجلة (11,7 مليون قارئ).
النصّ حمل عنوان: “أسماء الأسد: وردة في الصحراء”، واحتوى على إطراء صارخ لخصالٍ ومزايا ومحاسن، وتلفيق فاضح لأدوار “إنسانية” و”إصلاحية” تلعبها تلك “الوردة” في حياة سوريا.
بعد أسابيع قليلة أعقبت انطلاق الانتفاضة السورية ونشر مقالة “فوغ”، كانت سوريا تعدّ 5,000 قتيل برصاص جيش الأسد وأجهزته الأمنية وميليشياته، في عدادهم مئات الأطفال؛ فجوبهت المجلة بحرج شديد اضطرّت معه إلى سحب المادّة من الموقع الإلكتروني، لكنّ التحرير لم يعتذر البتة (حتى الساعة في الواقع)، وعلى منوالهم امتنعت كاتبة المقال عن أيّ تعليق يفيد الأسف أو الاعتذار.
كذلك اقتصر دفاع التحرير على القول بأنّ الغرض من نشر المقالة كان “فتح نافذة على هذا العالم”.
وفي آب (أغسطس)، من ذلك العام، تكشفت معلومة تقول إنّ مجموعة الضغط الأمريكية براون لويد جيمس، المتخصصة في العلاقات العامة، كانت تقبض من النظام السوري 5,000 دولار أمريكي شهرياً، لقاء ترتيبات نشر المادة في “فوغ” والإبقاء عليها ما أمكن.
ولا عجب، والحال هذه، أن تسير الفقرة الأولى من مدائح “فوغ” هكذا: “أسماء الأسد، سيدة سوريا الأولى الديناميكية، على رأس مهمة لخلق منارة من الثقافة والعلمانية في منطقة هي برميل بارود، وأن تسبغ على نظام زوجها وجهاً حديثاً.
أسماء الأسد متألقة، شابة، وبالغة الأناقة، الأنضر والأشدّ جاذبية بين السيدات الأوائل. أسلوبها ليس بريق الأزياء والمجوهرات السائد في الشرق الأوسط، ولكن النأي المتعمد عن التبجيل.
مجلة ‘باري ماتش’ تقول عنها: “عنصر الضياء في بلد طافح بالمناطق الداكنة.
إنها سيدة سوريا الأولى”.
نفاق “فوغ”، مدفوع الأجر دائماً، كان مجرّد عيّنة عن حملات تلميع صورة الأسد الابن، في وسائل إعلام غربية عموماً وأمريكية بصفة خاصة؛ شهدت إسباغ الألق على “الحاكم الشاب”، “طبيب العيون”، “خرّيج المشافي البريطانية”؛ ثمّ معه أو من بعده، زوجته “الأنيقة”، “صاحبة الابتسامة الرقيقة”، “وردة الصحراء” التي ترعرعت في بريطانيا… وكانت هذه العدوى قد انتقلت من الصحافيين والساسة والخبراء إلى أناس يصعب أن ينتظرهم المرء في هذا المقام. ففي أواخر العام 2009 كانت الطائرة الخاصة للمخرج الأمريكي الشهير فرنسيس فورد كوبولا قد مُنعت من الهبوط في مطار بيروت، تنفيذاً لبنود مقاطعة إسرائيل؛ لكن الأسد سمح لها بالهبوط في مطار دمشق، وبعدها استقلّ كوبولا طائرة رئاسية خاصة نقلته إلى بيروت، بعد وليمة رئاسية دافئة حضرتها “الوردة” إياها، حيث عجز كوبولا عن إخفاء مديحه لـ”الرؤيا” التي يحملها الأسد عن سوريا! طريف إلى هذا أنّ كاتبة مادة إطراء أسماء الأسد وقعت في حيص بيص حين فرّ الأخير من سوريا، وكانت زوجته قد سبقته إلى موسكو؛ فلم تجد ما تعلّق به على الحدث في وسائل التواصل الاجتماعي، سوى… استعادة الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، وقصيدته “الإله يتخلى عن أنتوني”! وهذا، كما هو معروف، نصّ يستوحي محنة القائد الروماني الشهير قبيل إقدامه على الانتحار، بعد هزيمته النكراء أمام جيوش أوكتافيوس، وخسران الإسكندرية؛ ومطلعها يقول: “بغتة، عند منتصف الليل، تصغي/ إلى مرور موكب غير مرئي/ تصحبه موسيقى شجية، وأصوات/ فلا تعلنّن الحداد على حظك المائل الآن”… ويصعب التكهن حول أغراض بَكْ من استحضار كافافيس، وهل أرادت الشماتة أم الشفقة أم التضامن مع الطاغية؛ ما خلا بالطبع أنّ سوريا التي فرّ منها الأسد الابن ليست الإسكندرية، ولم يخسرها مجرم الحرب لأنّ الآلهة خذلته، بل لأنّ أربابه في طهران وموسكو تخلوا عنه وقذفوا به إلى سلّة مهملات التاريخ.
الأكيد، مع ذلك، أنّ قصيدة كفافيس ليست اعتذاراً عن مقالة المدائح الرجيمة الهابطة، ولا تنوب عن تحرير المجلة في واجب الاعتذار من سوريا وشعبها؛ خاصة وأنّ كوفمان، في مقالته المشار إليها أعلاه، يذكّر بأنّ الحال لم تكن هكذا حين تعالت موجة الأصوات المطالبة بإنصاف السود، في الولايات المتحدة أوّلاً، فكتبت رئيسة تحرير “فوغ” اعتذاراً صريحاً جاء فيه أنّ المجلة: “لم تجد سُبُلاً كافية للارتقاء ومنح المساحة للسود من المحررين، والكتّاب، والمصوّرين، والمصممين وغيرهم من المبدعين. ارتكبت المجلة الأخطاء، فنشرت صوراً ومواضيع مؤذية أو غير متسامحة. وإنني أتحمل مسؤولية كاملة عن تلك الأخطاء”.
بافتراض أنّ المرء لا يأنس في نفس بَكْ تعاطفاً ضمنياً مع أسماء الأسد، وطمعاً وحسداً ولعاباً سائلاً، لأنّ طائرة الفرار إلى موسكو لم تفلح في تحميل كامل نفائس الماس والذهب والأزياء والأحذية الفاخرة التي كدّستها “وردة”/ مصاصة دماء.
القدس العربي
———————————-
الجولاني… أحمد الشرع الذي عاد سوريّاً/ سمر يزبك
16 ديسمبر 2024
ليس من شخصيّةٍ محوريّة تجسّدت في هذا السياق السوريّ المُعقّد، المُمتدّ في مساحة 14 سنةً مضت (عُمر الثورة السوريّة)، كما الشخصيّة المُتسيّدة (الآن) ولفترةٍ ستمدّ على ما يبدو في المشهد السوريّ برُمّته، أحمد الشرع، المعروف بلقبه الحركيّ السابق أبو محمد الجولاني.
وُلِد الشرع لعائلةٍ ميسورة، ودرس الطبّ قبل أن تجتذبه أحداثُ 11 سبتمبر (2001)، وأيديولوجيا الجهاد العالمي، لينضمَّ لاحقاً إلى تنظيم القاعدة في العراق تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي. تلك المرحلةُ التي كانت نقطةَ انطلاقِ مسيرته في عالم الجهاد المُسلّح لم تكن سوى بداية سلسلةٍ من تحوّلاتٍ عبّرتْ عنها صورُهُ التي كانت تتبدّل في كلّ مرحلةٍ بما يتطابقُ مع تغيير تَموضعاته وأهدافه وتحوّلاته الفكرية.
يظهر الجولاني في صورةٍ أولى كاشفاً وجهه للمرّة الأولى في الساحة السورية في 2013، كان ذلك في إطار قيادة جبهة النصرة. يظهر في الصورة مرتدياً زيّاً عسكرياً وعِمامةً بيضاءَ، مُستهدِفاً جمهوراً محلّياً ودولياً يتوقّع منه التمسّك بالمظاهر الدينية والعسكرية، التي تدعم شرعيته في إطار صراعات الهُويَّة الدينية. كان هذا النمطُ من الظّهور ضرورياً في تلك المرحلة لإظهار الالتزام بالمشروع الأيديولوجي العالمي المُرتبط بتنظيم القاعدة، إذ تُعزّز الرموز البصرية مثل العمامة والزيّ العسكري صورةَ القائد المُتماسك مع رسالته، وليبرز رمزاً أيديولوجياً مُتقشّفاً يُعبّر عن الانفصال عن الحياة المادية. تترك الصورة انطباعاً بأنّنا أمام قائدٍ عقائديٍّ تقليدي. النظرة الجادّة والخلفية التي تحمل نصوصاً عربيةً تُوحي بجوٍّ مهيب وبرسالة موجّهة إلى جمهورٍ مُحدَّد. إنّها صورةٌ تصرخ بالنقاء الأيديولوجي، ذلك النقاء الذي يعتبره بعضهم ضرورياً لكسب الحرب. بمعنى آخر، هو إعلانُ موقف عقائديٍّ لا يحتمل الحياد.
في المقابل، تُظهِر الصورة الثانية الرجل نفسه، ولكن في مظهرٍ مُختلفٍ تماماً. يرتدي ملابسَ مدنيّةً بألوانٍ عسكريّةٍ تنتمي إلى عالم الثوار الحداثيين، الذين امتلأ بهم خيال اليسار في منتصف القرن الماضي؛ ملابسَ بسيطةً تُعطي انطباعاً عن شخصٍ مُتواضعٍ وعمليٍّ وحازمٍ في موقعٍ ميداني. الأجواء المُحيطة به تُضفي طابعاً أكثر جدّية وخطراً، وكأنّها محاولةٌ لإظهار جانبٍ مُختلفٍ من الشخصيّة، جانبٍ أكثرَ حزماً. مُحاطاً برجاله، نشعر أنّه يتحدّث عن “المعركة”، كما يستطيع فقط أن يفعلَ شخصٌ جاهزٌ للموت في صُفوفها الأولى. إنّه ينظر في البعيد، ربّما هنا بدأت السياسةُ والتفاعلات الاجتماعيّةُ تبدو أمامه لعبةً طويلةً الأمد، لعبة تُشبه رميَ الكرة على مرمىً بعيدٍ وانتظار النتيجة، أكثر من أن تكون معركةً حاسمةً من المرّة الأولى. وهذا ما يُضيف طبقةً أخرى من التعقيد إلى المشهد المُعقّد أصلاً في شرقنا البائس، فالسياسة هنا تعمل بمنطق أن الفائز يكسب كلّ شيء، أو يخسر كلّ شيء.
يبقى هناك خيطٌ مُشترك بين الصورتَين، فكلتاهما انعكاسٌ لشخصيّةٍ تبدو خطرةً، حادّةَ الإرادة، قادرةً على استخدام المطرقة على الرأس عندما يتطلّب الأمر. يقودنا ذلك إلى تساؤلٍ عميق: هل تُهيمن القوة فقط، أم أن هناك مكاناً للمرونة ولبعض السياسة في الطريق نحو الأهداف في أعماق هذا الرجل؟ أيّ صورةٍ تمثّل الحقيقة؟ هل هو القائدُ العقائديُّ الحازمُ، أم الرجلُ الميدانيُّ العمليُّ؟… ربّما تكمن الإجابة في مكانٍ ما بين الاثنين. التناقض بين الصورتَين لا يُعبّر عن شخصية واحدة، بل عن المشهد السياسي والاجتماعي المُتبدّلِ بأكمله في المنطقة.
تعكس مسيرةُ الجولاني من الجهادية العالمية إلى السورية التعقيدَ والتشابُكَ اللذين اتّسمت بهما الثورة السوريّة، من بدايته قائدَ فصيلٍ مُتطرّفٍ مُرتبطٍ بتنظيم القاعدة، حتّى تحوّله زعيماً يسعى إلى تقديم نفسه جزءاً من الحلّ السياسي في سورية. ظهرت جبهة النُّصرة بدايةً إحدى أقوى التشكيلاتِ المُعارِضة للنظام السوري، المُرتبطة بتنظيم القاعدة، واعتمدت خطاباً أيديولوجياً صارماً يُركّز في إقامة حُكمٍ إسلامي. في تلك الفترة، كان الهدفُ الأساسي للجماعة بناءَ هياكلها الداخلية، وتحقيق أهدافها المُعلَنة، بغضّ النظر عن قَبولها محلّياً أو دولياً. إلّا أن الصراعات الداخلية أدّت إلى إعادة تشكيل أهداف جبهة النصرة. رفض الجولاني الاندماج مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في خطوةٍ أثارت مُواجهةً مفتوحةً بين الطرفَين. هذا القرار كان بدايةَ مسارٍ طويلٍ من الاستقلال التدريجيّ عن القاعدة، وإنْ كان في البداية تكتيكياً أكثر منه أيديولوجياً، لكنّه سيعبّر عن ولادة نزعةٍ وطنيّةٍ ستظهرُ في الإجراءات التي سيعتمدها لاحقاً في سياق محاربة النظام السوري.
اعلن الجولاني، في عام 2016، انفصال جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة نهائياً، وتشكيل جبهة فتح الشام. لاحقاً، اندمجت الجبهةُ مع فصائلَ أخرى لتشكّل هيئة تحرير الشام. لم يكن هذا التحوّلُ مُجرَّد تغيير في الاسم، بل عكَس محاولةً لإعادةِ تقديم الهيئة قوّةً محلّيةً تسعى لتحرير سورية من النظام بدلاً من أن تكون جزءاً من شبكةٍ جهاديةٍ عالميةٍ. بدأت الهيئة تسعى إلى تحسين علاقتها مع السكّان المحلّيين في الشمال الغربيّ لسورية، وأظهرت استعداداً أكبر للتفاوض مع القوى الإقليمية والدولية، خاصّةً تركيا، التي أصبحت لاعباً رئيساً في المشهد السوري.
الحروبُ طويلةُ الأمد لا تُغيّر موازين القوى فقط، بل تعيد تشكيل الأفراد والجماعات بطرقٍ غير متوقّعةٍ، إذ يعاد تفكيك روايات الهُويَّة الصلبة وتشكيلها. بالإمكان هُنا فهمُ التحوّلات التي خاضها الرجل عمليةَ إعادة بناء شرعيةٍ جديدةٍ تستند إلى الواقعية السياسيّة ومدفوعةً برغبةٍ أوّليةٍ لتصعيد التعبير عن الذات السورية. فبعد اعتماده على رأس المال الرمزي المُستمَدّ من الدين والجهاد، حين يُخاطبُ قاعدةَ دعمٍ محدّدة، أخذ يسعى إلى رأس مالٍ رمزيٍّ جديدٍ من خلال تقديم نفسِهِ زعيماً وطنياً قادراً على التواصل مع الفئاتِ المُختلفةِ من الشعبِ السوري المُطالبةِ بإسقاط النظام، ومع القوى الدولية في الوقت نفسه، فأنشأت هيئةُ تحرير الشام (تحت قيادته) حكومةَ الإنقاذ السورية، وبدأت في تقديم خدماتٍ أساسيةٍ للمُجتمع في إدلب، محاولةً تحويل مناطقِ نفوذها نموذجاً للإدارة المحلّية الناجحة. ورُغم هذه الخطوات، استمرّت “الهيئةُ” تُواجهُ تحدّياتٍ كُبرى في إقناع المجتمع الدولي بصدقيّة هذا التحوّل، خصوصاً مع استمرار الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان وقمع المعارضة من جهة، والصّعوباتُ التي تُواجهها من الحرس القديم (الرافضِ للتغيير) في صفوف الهيئة من جهةٍ أُخرى، فالقادةُ الذين يقودون تحوّلاً جذرياً غالباً ما يُواجهون تحدّياً مُزدوجاً؛ إقناعَ مُؤيّديهم الأصليّين بالتّحول، وكسبَ قَبول القوى الخارجية. في حالةِ الجولاني، يبدو أن تحوّلهُ (حتّى تلك اللحظة) ما يزال قيد الاختبار.
يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وفوراً لحظةَ إعلان وقف إطلاق النار في لبنان، أعلنَت فصائلُ المعارضة السوريّة بقيادة هيئة تحرير الشام عمليةً عسكريةً تحت اسم “ردع العدوان”، بـأهدافٍ تمثّلت بوقف اعتداءات قوات النظام والطيران الروسي على منطقة خَفضِ التّصعيد في إدلب، وما لبثت (بعد يومين فقط) أن دخلت قواتُ المعارضة مدينةَ حلب. تعاقبَت الأحداثُ بسرعةٍ مُذهلةٍ، ولمّا يستفق السوريون من فرحة تحرير حلب، حتّى كانت المدنُ المحرّرةُ تتراصفُ بعضها بجانب بعض. في غفلةٍ عن اليأس، تكاملَت خريطةُ الترابِ السوريّ وهرب الأسد. لقد كانت أجنحةُ التاريخ ترفرفُ فوق السماء السورية.
تُجسّد الصورة الثالثةُ لأحمد الشرع أمام الجامع الأمويّ أحدَ أبرز تجلّيات المشهد السوريّ المعاصر، اللحظة السوريّة الأكثر أهمّية بعد الاستقلال، وربّما في التاريخ السوريّ الحديث. بعد 14 سنة من الثورة، ومئات آلاف الشهداء، و14 مليون لاجئٍ ومُهجّر، استطاع السوريّون إسقاطَ النظام الذي استبدّ بسورية 50 عاماً. ساعات معدودات بعد إعلان سقوط النظام، كان أحمد الشرع، القائد العام لإدارة العمليات العسكرية، حاضراً في عاصمته دمشق، يستعدّ لدخول الجامع الأمويّ بذراعَين مفتوحتَين عن ثقةٍ بامتلاك المكان، وبلباس عسكري يحاكي (للمفارقة) لباس الرئيس الأوكراني. الحشودُ المحيطةُ به تعكس نوعاً من “القبول الحذر”، يوحي حضورها بأنّ الشرع نجح في خلق مساحةٍ جديدةٍ له بين المكوّنات السورية، لقد مثّلت هذه اللحظة بين الحشود التي تحلّقت حوله إشارةً مُزدوجةً، خطابيةً تسعى إلى إيجاد اتصالٍ رمزيّ مباشرٍ مع الجمهور، وسياسيةً تدلّ على زعامةٍ ميدانية ترفض الانكفاء وتصرّ على ممارسةِ دورٍ قياديّ ٍملموسٍ، لقد نجحَ هذا الشابّ الذي بدأ حياته منتظماً في أطرٍ جهادية تُعاكس التاريخ السياسي للعالم، بكسر الحواجز المرسومة أمام قَبوله شخصيةً شرعيةً مقبولةً، وممثّلاً طموحات السوريين.
ينجح الجولاني، باستخدام اسمه الحقيقيّ (أحمد الشرع)، بتبنّي هُويَّةٍ أكثر توافقاً مع ما تحتاج إليه المكوّنات السورية المتنوّعة، ومع ما يريده المجتمع الدولي، يتّضح هذا في اعتماد خطابٍ عن حقوق الأقلّيات، ومحاولة كسب شرعيةٍ من خلال التركيز في قضايا حياتية هي في طبيعتها ما يهمّ المواطن السوري، ولا شيء غيرها، وهو تنازلٌ عن الخطاب الجهادي التقليدي، الذي تورّط فيه في بداية حياته، لصالح لغةٍ أقرب إلى ما يسمّيه يورغن هابرماس “العقلانية التواصلية”، إذ يكون الهدف هو بناء جسور مع الآخرين من خلال لغة سياسية وعملية. وبالتأكيد لغة أكثر وطنية. لكنّه لا يزال تحت مجهر التساؤل الشعبي المشروع. هل هذا التحوّل أصيلٌ أم مُجرَّد قناعٍ سياسيٍّ عابرٍ؟
من المفيد الإشارة إلى أن هذا التحوّل ليس فريداً في تجارب التحرّر لدى الشعوب، حيث يمكن مُقاربة تحوّل الشرع بتشبيهها بتحوّلات قادةٍ آخرين، مثل جيري آدامز في أيرلندا الشمالية، الذي انتقل من قيادة حركةٍ مسلّحةٍ إلى زعيم سياسي يسعى إلى السلام، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا. وعلى اختلاف ظروف التجربة، ورغم الفوارق في هذه السياقات، تشكّل كلّها أمثلةً على كيفية انتقال القادة من العمل المسلّح إلى البراغماتية السياسية. وليس من شيءٍ مُهمٍّ هنا سوى التأكيد أنّ النجاح في هذه التجارب كلّها كان مشروطاً بامتلاك الدعم الشعبي، الذي حافظ عليه كلٌّ من مانديلا وجيري آدامز حتّى النهاية.
صورةٌ أخيرةٌ كان لا بدّ منها لاكتمال المشهد، يظهر “القائدُ العامُّ” في الجمعة الأولى بعد التحرّر، يدعو السوريين إلى الخروج احتفالاً بالنصر، بلباسٍ مدنيٍّ المرّة هذه، وفي محاولةٍ للسيطرة على ملامح الفرح الطفولي الذي ظهر في وجهه، وبدعوة السوريين إلى العمل لبناء دولتهم، هذه الدولة التي ينبغي لها أن تفتح الباب مكانة المستقبل من الزمن، بعدما ظنّ الجميع أن لا مُستقبل.
العربي الجديد
——————–
عن تحدّيات عملية استعادة الدولة السورية ومجتمعها/ سميرة المسالمة
16 ديسمبر 2024
تُعدُّ التجربة السورية واحدةً من أغرب التجارب المأساوية وأعمقها في العصر الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، نسبة لما خلّفه النظام الحاكم من إرث موغل في الفساد، على المستويات والمجالات المجتمعية والاقتصادية والسياسية والتشريعية والأمنية، مع أخطبوط الفرق العسكرية وأجهزة المخابرات التي تغوّلت على الدولة والمجتمع، وأيضاً، نسبة للانهيار المريع والمفاجئ للنظام المخلوع، بتداعياته وتعقيداته، وهو ما يجعل من عملية الإصلاح واستعادة الدولة عمليةً شاقّةً وغاية في الصعوبة، نسبة للكارثة التي أنزلها النظام بالسوريين، من قتل واعتقال وتدمير وتشريد، سواء الذين كانوا تحت سيطرته، أو في الشمال في مناطق النزوح، أو في بلدان اللجوء.
القصد أن عملية استعادة الدولة والمجتمع تستلزم المضي إلى ما بعد نشوة الانتصار على مؤسّسة القمع الأسدية، بالبدء ببناء أساسيات، أو مستلزمات، المرحلة الانتقالية، ما يتطلّب إصدار إعلان دستوري مؤقّت خطوةً أساسيةً لتحديد القواعد العامّة لإدارة شؤون البلاد، مع ضمان التوافق الوطني، عبر إشراك جميع القوى السياسية والمجتمعية في صياغته. وبالتوازي، يُحضَّر لحكومة شاملة تعمل لإصلاح المؤسّسات التي كانت أدواتَ النظام السابق، مثل القضاء والإعلام والجيش، وتفعيل العدالة الانتقالية من خلال هيئة مستقلّة تحقّق في الجرائم والانتهاكات، مع التركيز في التسامح والمصالحة الوطنية، بدلاً من الانتقام، والعيش في نوازع الماضي. وتالياً، نزع مشاعر الكراهية والتعصّب والانغلاق التي زرعها النظام بين السوريين.
إن إدارة التنوّع في سورية الجديدة لا تعني الالتفات إلى منح مكوّن ما مزايا معيشية لا يحظى بها آخر، بل يعني العودة إلى مبدأ المواطنة المتساوية، فقد استهلك مصطلح “حماية الأقلّيات” زمناً طويلاً، ما يجعلنا اليوم أمام مسؤولية حماية بعضنا بعضاً دستورياً وتنفيذياً، مواطنين أحراراً ومتساوين، فما مرّت به سورية يؤكّد أن نصيب “الأكثرية” من الظلم والاعتداء على حقوقهم لا يقلّ عما أصاب أقلّيات ومذاهب عديدة في سورية، بل كان للأكثرية “السنّية” (وعذراً لاستخدام المصطلح) نصيب الأسد من الأسد المتوحّش، من القتل والاعتقالات والتغييب والتشريد، ما يفرض على السلطة اليوم أن تضع نصب عينيها ما عاناه الشعب خلال 54 عاماً من حكم الأسدَين (الأب والأبن)، وصولاً إلى لحظة الخلاص في 8 ديسميبر/ كانون الأول 2024، والتي يريدها الشعب انفصالاً تامّاً عن استبداد السلطة وأبديتها.
إطلاق حوار وطني شامل يضم المكوّنات العرقية والدينية والسياسية كافّة أحد المهمات التي تقع على عاتق السلطة الحالية لتحديد مستقبل البلاد، مع التركيز في معالجة آثار الحرب ودعم ضحايا النزاع ضمن مبادرات المصالحة الوطنية. المرحلة الانتقالية في سورية، رغم تعقيداتها وصعوباتها، يجب أن تكون مدفوعةً بإرادة قوية للتغيير، وبمشاركة واسعة من جميع الأطراف السورية، إذ لا يمكن لأيّ عملية سياسية أن تنجح إذا تجاهلنا الواقعين، الاجتماعي والسياسي، اللذين خلّفتهما سنوات الحرب. أيضاً لا بدّ من إيجاد بيئة تشجّع على المصالحة الحقيقية، فتقدّم التعويضات للضحايا، والمساعدات في إعادة بناء حياتهم. كما أن التركيز في تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها في المستقبل سيكون أساساً لضمان عدم العودة إلى أساليب القمع السابقة.
من ناحية أخرى، لا يمكن بناء دولة ديمقراطية من دون إصلاح حقيقي للنظامين، التعليمي والإعلامي، فالتعليم وسيلة لتغيير العقلية المجتمعية، وتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي، بينما الإعلام أداة لنشر الحقيقة ومكافحة خطاب الكراهية والتطرّف، ما يتطلّب إعادة بناء هذه المؤسّسات بما يتماشى مع معايير الشفافية والمهنية.
الشعب السوري، الذي عانى (وذاق) مرارة القمع والتدمير، هو المحرّك الأساس لهذا التغيير، وهو يحتاج من الهيئة الحاكمة لإرادة سياسية حقيقية وإدراك عميق بأن مستقبل سورية مرهون بتجاوز الانقسامات الطائفية، والأيديولوجية، لمصلحة بناء وطن موحّد وآمن للجميع.
من جهة أخرى، من شأن تمهيد الطريق أمام الدول لفتح سفاراتها في دمشق، في هذه المرحلة، لعب دور حيوي في دعم العملية الانتقالية، إذ يعكس ذلك اعترافَ المجتمع الدولي بالوضع الجديد، ويمنح الشرعية للسلطات المؤقّتة، ما يعزّز الثقة الداخلية والخارجية بمسار التحوّل السياسي، ويسهّل قنوات الاتصال بين سورية والدول الأخرى، كما يسهّل تنسيق الدعم المالي والتقني والإنساني المطلوب لإعادة الإعمار، ويعزّز التعاون الدبلوماسي في مجالات مثل مكافحة الإرهاب، وعودة اللاجئين، ودعم بناء مؤسّسات الدولة الجديدة.
بيد أن تلك الخطوات كلّها يفترض أن تتمحور حول صياغة دستور جديد لبناء الدولة الجديدة، وبالتوازي، تسهيل عملية بناء نظام سياسي تعدّدي من خلال السماح بتشكيل الأحزاب السياسية، فقوة السلطة من وجود من ينتقدها، ويراجع أخطاءها، كما يساندها ويقيّمها، ما يعني أن الأحزاب الناشئة ليست بالضرورة مؤيّدة، بل قد تدفع معارضتها السياسية والسلمية إلى بناء متين للدولة الديمقراطية، وفتح المجال للإعلام الحرّ، مع ضمان استقلال القضاء والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. ولعلّ تجاوز ما كان في الماضي من حكم مركزي مستبدّ وفاسد، عمل على إعاقة التنمية المناطقية عقوداً من الزمن، يجعل من التوجّه إلى اعتماد نظام حكم لامركزي ضرورةً تنمويةً لمنح المجتمعات المحلّية القدرة على إدارة شؤونها بمسؤولية وفعّالية.
ومع وجود تلك الطموحات كلّها التي أنعشها تحرير سورية من براثن الأسد، لا يمكن إنكار وجود تحدّيات كبيرة أخرى تواجه بناء الدولة الجديدة، أبرزها مقاومة بعض عناصر النظام السابق الفاسدة التي قد تسعى إلى عرقلة العملية الانتقالية من خلال تلوّنها، وإعلان ولائها الكاذب للحكم الجديد، كما يأتي ضمن ذلك إيجاد الطرائق لكبح الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية.
————————–
كل هذا التوحش في سوريا الأسد/ بشير البكر
الإثنين 2024/12/16
تعجر اللغة عن وصف الخراب الذي صنعه حكم عائلة الأسد ل 54 عاماً في سوريا. كنا نرى ونسمع الكثير عن القمع والتجاوزات والفساد، وحتى الإعدامات الجماعية، التي حصلت في بعض السجون، أو خلال أحداث حماة وحلب عام 1982، لكن ما ظهر من توحش مخفي بعد سقوط النظام في الثامن من الشهر الحالي، لا يكاد يقارن بكل ما سبق. لقد تكشف قدر من الأهوال يحتاج إلى أعوام من العمل من أجل معالجة آثاره المباشرة، وغير المباشرة.
هناك من يتحدث عن أكثر من 100 ألف مفقود في سجون النظام، لم يعثر لهم أحد على أثر. ليس هناك أي معلومات أو تفاصيل حول المصير الذي انتهو إليه. من المؤكد أن الأرض لم تنشق ذات ليلة وتبتلعهم. ومن الصعب أن يكون النظام نقلهم إلى جهة أخرى قبل أن ينهار. وقد أمضى الآلاف من أهالي هؤلاء عدة أيام، وهم يتنقلون من سجن إلى آخر، يبحثون عنهم. لقد جاؤوا من مختلف المحافظات السورية يفتشون عن ذويهم الذين اعتقلهم النظام في فترات مختلفة، بعضهم مضى على غيابه اكثر من اربعين عاماً، وهناك عدد كبير ممن تم اعتقالهم خلال المظاهرات التي شهدتها سوريا في أعوام الثورة الأولى. ويبدو أن الكثير من الشباب الذين لم يفلحوا في الهرب من المناطق التي سيطر عليها النظام، صاروا في عداد المفقودين.
كان من الصعب استيعاب ما جاء من تفاصيل عن الرعب في رواية مصطفى خليفة “القوقعة”، أو كتاب الشاعر فرج بيرقدار “خيانات اللغة والصمت” عن تجربة 16 عاما من السجن، واعتبر الكثير منا أن خيال الكاتب فعل فعله ليبني من تفاصيل عادية أساطير عن التعذيب والإذلال وتحطيم المعنويات في أقبية التعذيب لدى اجهزة المخابرات أو السجون التابعة لها، وخاصة سجون تدمر وصيدنايا وفرع فلسطين والمخابرات الجوية.
حين التقينا بعض الأحياء الذين عادوا من ذلك العالم، الذي يحده الموت من كل الجهات، أحسسنا بأننا نلتقي مع بشر ظفروا بحياة ثانية، وكثيراً ما حدثني السجين السابق محمد برو، الذي نجا مصادفة من الإعدام في سجن تدمر عن فاصل في زمنه بين حياتين، ما قبل وما بعد النجاة من الإعدام، وسجل في كتابه “ناج من المقصلة”، تلك المشاعر المختلطة لفتى حين ساقوه المشنقة في ذلك الصباح، وشفع له أنه حدث تحت سن ال18، فأعادوه الى الزنزانة، وبقيت في ذهنه حتى اليوم، صور شركاء سجن تدمر، الذين قضى معهم عدة أعوام، وهم معلقين على حبال المشانق في الساحة العامة للسجن.
أكثر من 100 ألف مفقود اختفوا كليا. صحيح أن أهاليهم يمارسون كل أصناف الضغط من أجل العثور عليهم، وهناك مطالبات من أجل إحضار مدراء السجون وتسليم الخرائط الخاصة ببعضها، وخاصة الأقبية السرية الموجودة تحت الأرض، كما هو الحال في سجن صيدنايا، الذي يلقبونه بالأحمر كناية عن الإعدام، لكن عمليات البحث التي قامت بها فرق الدفاع المدني لعدة أيام، تفيد بأن نسبة الأمل ضعيفة جدأ في العثور على سجناء آخرين ناجين، بعد أن تم إخلاء السجون كافة، في حلب وحماة وحمص ودمشق، التي تحتوي على أهم السجون والأفرع الأمنية.
تبين أن السجون ليست مخصصة لفئة بعينها، فهي تضم الشباب وكبار السن وحتى الأطفال، الذكور والإناث، ومن كافة أنحاء سوريا، واعدادأ قليلة من اللبنانيين والأجانب، من بينهم الصحافي الأميركي اوستن تايس، الذي كان معتقلا لدى القوى الجوية منذ عام 2012، وقالت والدته قبل سقوط النظام أن لديها معلومات بأنه على قيد الحياة، ولكن لم يظهر له أثر بعد تبييض السجون، وحسب تقديرات بعض المتابعين فإن الأحياء الذين تم العثور عليهم على قيد الحياة هم ثلاث فئات. الأولى تضم اولئك الذين اعتقلوا بعد عام 2018، والثانية تتكون من المبرمجين على لوائح الإعدام، وقد صادف أن 50 من هؤلاء كان مقرر إعدامهم نهار سقوط السجن. والثالثة من المنسيين والمهملين وفاقدي الذاكرة، الذي نسوا اسماءهم وعناوينهم وزمان وسبب اعتقالهم. وهؤلاء فئة من المرضى، الذين فارق بعضهم الحياة مجرد أن خرج من السجن ورأى الضوء في الخارج، واستنشق الهواء الصافي، وهناك حالات أخرى حركت قدرا من ردود الفعل الغاضبة، ومن هؤلاء الشخص الذي أفرج عنه من سجن صيدنايا، ونُقل إلى الأردن على أساس انه المعتقل الاردني أسامة البطاينة، الذي اختفى عن الانظار في سوريا عام 1986، وبعد أن نُقل للاردن قامت عائلة البطاينة بفحض الحمض النووي، وتبين أنه ليس ابنها، واعادوه إلى سوريا. وعلقت مصادر أردنية على الحادثة بالقول إن البطاينة ليس الحالة الوحيدة لمواطنين أردنيين اختفوا في سوريا. فقد اعتقل النظام السوري آلاف الأشخاص خلال العقد الأخير السورية، حيث يُعتقد أن العديد منهم فقدوا في السجون، دون أن تتمكن عائلاتهم من معرفة مصيرهم.
وحين كان يأتي الحديث عن المسؤولين عن الانتهاكات في العقدين الأخيرين، يتم التوقف أمام رمزين كبيرين للجريمة من المخابرات الجوية، هما اللواء جميل حسن والضابط عبد السلام محمود. وحسب بيان وزارة العدل الأميركية فهما متورطان بممارسة معاملة قاسية وغير إنسانية مع معتقلين مدنيين، وانهما جلدا وركلا وصعقا بالكهرباء وأحرقا ضحاياهم، وقاما بتعليقهم من معاصمهم لفترات طويلة من الزمن؛ فضلاً عن تهديدهم بالاغتصاب والقتل؛ وإخبارهم زوراً أن أفراد أسرهم قُتلوا.
المدن
——————————
سقوط الأسد: الانتصار الخاطف وتعقيدات النهوض
تمكنت فصائل المعارضة السورية المسلحة من إسقاط الأسد في ظرف وجيز، وباتت تواجه عدة تحديات رئيسية: استعادة وحدة البلد، وبناء نظام سياسي يستند لقاعدة شعبية عريضة، وبناء مؤسسة دفاعية قادرة على بسط الأمن. لكن تحقيق هذه الأهداف يجري في سياق نزاع خارجي شديد على التحكم في العملية الانتقالية.
16 ديسمبر 2024
بدأ تحالف قوى المعارضة المسلحة في المنطقة المحررة من محافظة إدلب سلسلة من العمليات، فجر 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. مع الساعات الأولى من صباح 8 ديسمبر/كانون الأول، أُعلن في دمشق عن سقوط نظام أسرة الأسد وهروب بشار الأسد وأعوانه وحاشيته من العاصمة، دمشق، إلى عدد من الجهات.
التوقعات بأن تواجه قوى المعارضة معركة مريرة للسيطرة على حلب، عاصمة الشمال السوري وثاني أكبر مدن سوريا، لم تتحقق، بعد أن انهارت مقاومة جيش النظام خلال ما لا يزيد عن يومين من القتال، الذي انحصر في مواقع معدودة. وعندما قررت قوات المعارضة الاندفاع جنوبًا، نحو حماة وحمص ودمشق، كان من المتوقع أن تشهد حمص، على الأقل، قتالًا طاحنًا، نظرًا لأهمية المدينة الإستراتيجية وحجم الحشد الذي نظمته وزارة دفاع نظام الأسد. ولكن، وما أن أدرك الضباط والجنود المكلفون بحماية حمص أن مجموعات مسلحة من المعارضة قد أخذت بالفعل في دخول أحياء دمشق الغربية والجنوبية حتى انهارت معنوياتهم بصورة مذهلة وغادروا مواقعهم تاركين خلفهم سلاحهم ومعداتهم.
حُرِّرت مدينة حمص، بعد اشتباكات محدودة في ريفها الشمالي، بدون قتال يُذكر. وقد بدأت قوات المعارضة المسلحة الدخول إلى مركز حمص، المدينة التي عُرفت بعاصمة الثورة في سنوات الانتفاضة الشعبية الأولى، مساء 7 ديسمبر/كانون الأول، وفي الساعات الأولى من 8 ديسمبر/كانون الأول. في الوقت نفسه، كانت عناصر المعارضة المسلحة قد أخذت في الانتشار في العاصمة السورية، ومعها أعداد من الصحفيين الذين رافقوا اندفاعتها من الشمال وعملوا على نقل أول مظاهر احتفال السوريين بحريتهم في ساحتي الأمويين والعباسيين.
بعد ظهر اليوم، دخل أحمد الشرع، القائد العام لإدارة عمليات المعارضة، العاصمة، دمشق؛ وذكر أنه أجرى اتصالًا برئيس حكومة النظام، محمد الجلالي، وطلب منه البقاء في منصبه إلى حين الاتفاق على حكومة تتسلم منه مقاليد الحكم خلال المرحلة الانتقالية الأولى، الحكم المركزي والحكم المحلي على السواء. في اليوم التالي، 9 ديسمبر/كانون الأول، جرى اجتماع بين الشرع والجلالي، بحضور المهندس محمد البشير، الذي كان يقود حكومة الإنقاذ الوطني في إدلب المحررة منذ 2022. والمؤكد أن الشرع أخبر الجلالي أن البشير سيتسلم رئاسة حكومة تسيير الأعمال الجديدة، معربًا عن أمله بتعاون وزراء الجلالي مع وزراء الحكومة المقبلة في نقل السلطة. وقد بدأت حكومة الجلالي بالفعل في تسليم ملفاتها إلى حكومة البشير في اليوم التالي، 10 ديسمبر/كانون الأول. وقد أكد الناطق باسم الهيئة السياسية لعملية “رد العدوان”، كما البشير نفسه، أن حكومة تسيير الأعمال ستدير شؤون الدولة السورية لفترة لا تزيد عن ثلاثة أشهر. كيف حققت قوى المعارضة المسلحة هذا الانتصار السريع على أحد أشد أنظمة العالم شراسة وبطشًا، النظام الذي أخفقت المعارضة في إسقاطه طوال ثلاثة عشر عامًا من الثورة؟ ولماذا وجد النظام الأسدي نفسه وحيدًا خلال أيام المواجهة العشرة، وهو الذي تمتع بدعم لا حدود له من إيران وروسيا والفصائل المسلحة الموالية لإيران من كل صنف منذ اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011؟ وأية تحديات بات على المنتصرين التعامل معها لتحقيق وعودهم في إعادة بناء الدولة السورية وقيادتها نحو الاستقرار والتنمية؟
من ردع العدوان إلى إسقاط النظام
تتشكل غرفة العمليات، التي قامت بإطلاق العملية الخاطفة التي انتهت بسقوط نظام الأسد، من عدة مجموعات مسلحة من المعارضة السورية كانت اتخذت من إدلب المحررة مركزًا لها. وتعتبر هيئة تحرير الشام القوة الرئيسة في تحالف القوى المعارضة، وتسلم قائد الهيئة، أحمد الشرع، مسؤولية قيادة إدارة العمليات والقيادة الفعلية للتحالف.
تعود هيئة تحرير الشام في جذورها إلى جبهة النصرة، التي ارتبطت بالقاعدة في سنوات وجودها الأولى في سوريا. ولكن، منذ أن نجحت قوات نظام الأسد المدعومة من حزب الله والإيرانيين والقوات الجوية الروسية، في إيقاع الهزيمة بالمعارضة وإخراجها من شرق حلب، في 2016، فك الشرع ارتباطه بالقاعدة، ووسَّع منظمته لمجموعات أخرى، وانضوت جميعها تحت مظلة هيئة تحرير الشام. ومنذ 2017، عمل الشرع على التخلص من العناصر الراديكالية في الهيئة وتحرك تدريجيًّا نحو تبني خطاب إسلامي وطني، وأخذ في طرح تصور لمستقبل سوريا.
نجحت الهيئة في البروز باعتبارها القوة الرئيسة بين قوى المعارضة المسلحة الموجودة على الأرض السورية؛ وعملت بالتالي على تشكيل حكومة إنقاذ وطني لإدارة شؤون إدلب المحررة؛ وهي الحكومة التي أشاد بأدائها حتى أولئك الذين لم يخفوا معارضتهم للشرع والهيئة.
تفيد مصادر المعارضة السورية بأن الهيئة وحلفاءها من القوى المعارضة بدأت الإعداد لعملية عسكرية ضد قوات النظام منذ صيف 2023على الأقل، ولكن تركيا، التي تتواجد قوات جيشها في محيط إدلب، والتي كانت وقَّعت اتفاقية تحدد مناطق سيطرة المعارضة وخطوط فصلها عن مناطق سيطرة النظام، مارست ضغوطًا على المعارضة لمنعها من القيام بعملية هجومية لأكثر من مرة، سيما أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان وحزب الله. ولكن اعتداءات قوات النظام المتكررة على المناطق المحررة، وتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في لبنان، نزع من يد الأتراك مسوغ الاعتراض على مخطط المعارضة؛ ما أتاح للمعارضة إطلاق عملية “ردع العدوان”.
والأرجح أن عملية “ردع العدوان”، التي حمل اسمها دلالة واضحة إلى أن المقصود بها كان الرد على اعتداءات قوات النظام على المنطقة المحررة، كانت تقتصر على تحرير ما تبقى من أراضي محافظة إدلب، وهي المناطق التي كانت قوات النظام سيطرت عليها بعد اتفاقية عدم التصعيد، ومحاولة تحرير مدينة حلب، أو على الأقل قطاعها الغربي. ولكن الانهيار المفاجئ لقوات النظام في حلب، وقوات حزب الله المتواجدة في المدينة، والسهولة التي تم بها تحرير بلدات إدلب الجنوبية-الشرقية ودحر قوات النظام المتواجدة فيها، دفع إدارة عمليات قوات المعارضة إلى تطوير العملية.
أمرت قيادة إدارة العمليات قوات المعارضة، مباشرة بعد تحرير حلب، في 9 ديسمبر/كانون الأول، بالتوجه جنوبًا باتجاه حماة وحمص ودمشق. ولكن التقدم السريع على الطريق من حلب جنوبًا ولَّد أيضًا عددًا من التطورات في مناطق أخرى. ففي شمال حلب الشرقي؛ حيث تسيطر قوات سورية الديمقراطية، وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني، بحماية أميركية على منطقتي تل رفعت ومنبج، بدأت قوات من جيش سوريا الوطني، المرتبط بالجيش التركي، عمليات لإخراج القوات الكردية من الأراضي التي تحتلها غرب الفرات منذ 2016، والتي هي أصلًا مناطق أغلبية عربية. في شرق سوريا، حيث ظهرت بوادر على انهيار قوات النظام، سارعت قوات سوريا الديمقراطية إلى بسط سيطرتها على الرقة ودير الزور والقامشلي وعلى المعابر الحدودية مع العراق.
أما في درعا، حيث كانت سيطرة النظام أصلًا هشة، فقد تشكلت غرفة عمليات الجنوب من عناصر من الثوار كانت قد انخرطت في المصالحات التي أشرفت عليها القوات الروسية بعد 2016، وأخرى لجأت للأردن، وسارعت إلى العودة إلى المحافظة الجنوبية، وبدأت تحركات لتحرير محافظة درعا من قوات النظام. والأرجح، أن غرفة عمليات الجنوب قد شُكِّلت باتفاق مع غرفة إدارة العمليات في إدلب، التي أطلقت التحرك الأساسي وقادته حتى أدى في النهاية إلى سقوط نظام الأسد. ولكن عددًا من المجموعات المختلفة التي انضوت في غرفة عمليات الجنوب عُرف بارتباطه بالأردن والإمارات.
في السويداء المجاورة، حيث انطلقت حركة احتجاجية درزية ضد النظام منذ أكثر من عام ونصف العام، بدأ ناشطون دروز، أعلنوا تأييدهم لغرفة عمليات إدلب، تحركًا على مستوى المحافظة بهدف السيطرة على المراكز والمؤسسات الحكومية والأمنية، وعلى مكاتب حزب البعث. ما ساعد على تحرير درعا والسويداء، على أية حال، كان سحب وزارة دفاع النظام معظم قواتها المتواجدة في المحافظتين إلى دمشق، بهدف الدفاع عن العاصمة.
اضطراب حلفاء النظام
نظرًا لعلاقة تركيا بقوى المعارضة السورية، ساد اعتقاد متسرع، خصوصًا في أوساط نظام الأسد وحلفائه، بأن تركيا تقف خلف عملية ” ردع العدوان”، وأن أنقرة تستطيع إيقاف العملية وقوات المعارضة إن أرادت. وهذا ما دفع وزير الخارجية الروسي إلى مهاتفة نظيره التركي، مباشرة بعد انهيار قوات النظام في حلب، ثم تابعه حديث الرئيس بوتين مع الرئيس أردوغان في اليوم التالي. كانت موسكو قد أعلنت صراحة أنها تعتبر قوى “ردع العدوان” مجرد جماعات إرهابية، وأعادت التوكيد على وقوفها إلى جانب الدولة السورية.
ولأن الواضح أن مباحثات القادة الروس مع نظرائهم الأتراك لم تفض إلى إيقاف قوى المعارضة، فقد أعطيت الأوامر إلى القوة الجوية الروسية في قاعدة حميميم بتقديم العون الجوي لقوات النظام. ولكن حجم القوة الروسية الموجودة في سورية كان محدودًا، بعد أن تم سحب معظم الطائرات المقاتلة والطيارين بعد اندلاع الحرب على أوكرانيا. ولذا، فإن عمليات القصف التي شنَّها الروس على قوات المعارضة المتقدمة ومعاقل المعارضة في إدلب كانت غير كثيفة، وغير فعالة نسبيًّا.
التحرك الأبرز جاء من طهران، التي تعتبر سوريا الأسد ركيزة إستراتيجية بالغة الأهمية لنفوذها المتسع في المشرق العربي. فما أن أدركت طهران جدية العملية التي أطلقتها قوى المعارضة حتى بدأ وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، جولة مكثفة في الجوار الإقليمي. في 1 ديسمبر/كانون الأول، وصل عراقجي دمشق والتقى الأسد، وفي اليوم التالي انتقل إلى أنقرة واجتمع بنظيره التركي، حاقان فيدان، وعقد معه مؤتمرًا صحفيًّا؛ وفي 6 ديسمبر/كانون الأول، حل عراقجي ببغداد للالتحاق بلقاء ثلاثي جمعه بوزيري الخارجية، العراقي والسوري، والتقى من ثم برئيس الحكومة العراقية.
والواضح أن جهد وزير الخارجية الإيراني، الذي يبدو أنه أدرك مبكرًا عجز قوات الأسد عن الدفاع عن النظام، انصب على محاولة إيقاف هجوم المعارضة، وعلى تشجيع الحلفاء في الإقليم على التحرك لدعم نظام الأسد. ولكن ما ألمحت إليه كلمات الوزير الإيراني ونظيره التركي خلال مؤتمرهما الصحفي المشترك أن خلافات عميقة فصلت بين مقاربتي تركيا وإيران للمسألة السورية، وأن أنقرة تحمِّل الأسد مسؤولية انفجار الوضع السوري، وأنها ترفض الضغط على المعارضة لإيقاف عمليتها الهجومية.
أما في العراق، فيبدو أن الحكومة العراقية قررت، حتى قبل وصول عراقجي، النأي بالنفس عن الوضع السوري؛ وأن رئيس الحكومة العراقية، بوصفه القائد العام للقوات المسلحة، اختار ألا يسمح لقوات الحشد الشعبي بالتحرك إلى سوريا لمد يد العون لقوات الأسد. ولم يكن غريبًا أن يأتي بيان لقاء وزراء الخارجية الثلاثة باهتًا، خاليًا من أية استجابة للضغوط الإيرانية سوى توكيد وزير الخارجية العراقي على رغبة العراق في لعب دور الوسيط لمساعدة الأطراف السورية على الحوار.
الاستجابة الوحيدة لاستدعاء حلفاء إيران جاءت، كما يبدو، من حزب الله، الذي أشارت تقارير إلى أن ما يقارب ألفين من مقاتليه قد تحركوا إلى مدينة القصير، غرب حمص والقريبة من الحدود اللبنانية-السورية، والتي كان حزب الله قد سيطر عليها في الأشهر الأولى من الثورة السورية بعد معركة صعبة. ولكن -كما سبق- انسحبت الأعداد القليلة من قوات الحزب الموجودة في حلب برفقة قوات النظام. فقد أكدت تقارير في اليوم السابق على فرار الأسد، أن عناصر الحزب في القصير بدأت في إخلاء المدينة متجهة إلى البقاع اللبناني.
إيران نفسها لم تكن على استعداد لإرسال قوة عسكرية إلى سوريا، أولًا: لأن تدخلها في الشأن السوري كان مقتصرًا من البداية على المستشارين والخبراء، الذين اعتمدوا في دعم نظام الأسد على قوات مشاة من الفصائل المسلحة العربية وغير العربية الشيعية؛ وثانيًا: لأن طهران أدركت أن الوضع الدولي والإقليمي لا يسمحان بتدخل إيراني كثيف في الشأن السوري؛ وثالثًا: لأن الإيرانيين وجدوا أن الروس لم يعد باستطاعتهم توفير الدعم الجوي القادر على تحويل مسار المواجهة؛ ورابعًا: وهو الأهم، أن المسؤولين الإيرانيين، سواء من كانوا بالفعل في سوريا، أو زاروها بعد اندلاع المواجهة، توصلوا إلى الاستنتاج بأن الجيش السوري لم يعد قادرًا، لا معنويًّا ولا عسكريًّا، على القتال دفاعًا عن النظام.
عندما وصل عراقجي إلى الدوحة لاجتماع دول الأستانة الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، صباح السبت 7 ديسمبر/كانون الأول، كان وزير الخارجية الإيراني، كنظيره الروسي، قد فقد الأمل كلية في إمكانية إنقاذ نظام الأسد. ويبدو أن عراقجي ولافروف، مباشرة بعد انتهاء الاجتماع الثلاثي مع حاقان فيدان، وربما أثناء الاجتماع التالي، الذي ضمَّ ثلاثي الأستانة مع وزراء خارجية خمس دول عربية (قطر، ومصر، والأردن، والسعودية، والعراق)، حاولا في اتصالات مع دمشق دفع الأسد إلى إعلان قبوله بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، والقبول بمجلس عسكري يبدأ حوارًا مع المعارضة السورية لتشكيل حكومة انتقالية، فيبدو أن الأسد اقتنع أن حليفيه لن يسارعا إلى إنقاذه، فسارع إلى الهروب من العاصمة، دمشق، في وقت ما من أواخر ليل السبت أو أوائل صباح الأحد 8 ديسمبر/كانون الأول.
المواقف الخارجية بين التحذير والتأييد
كان للانتصار السريع لقوى المعارضة، الممثلة في إدارة العمليات وهيئتها السياسية، بأقل درجة ممكنة من العنف والخسائر البشرية، وسيطرتها السريعة على العاصمة، دمشق، وسلوكها بالغ الانضباط في التعامل مع بقايا نظام الأسد ومؤسسات الدولة السورية، ومع كافة الأقليات الدينية والطائفية، ردود فعل متباينة في الإقليم والعالم.
كافة الأطراف، المؤيدة لثورة الشعب السوري أو تلك التي اختارت الوقوف إلى جانب النظام، فوجئت بالسرعة التي انهارت بها مقاومة النظام والتي استطاعت فيها قوات المعارضة التقدم إلى دمشق بعد انتصارها في حلب. ولكن، وما أن نجحت قوات المعارضة في بسط سيطرتها على دمشق، وبدأت التحضير لحكومة تسيير الأعمال التي ستستلم الحكم من آخر حكومات نظام الأسد حتى أخذت القوى المختلفة في تحديد مقاربتها للوضع السوري الجديد.
عربيًّا، سارعت الرياض إلى تعديل موقفها من الحدث السوري، الذي كان سابقًا يرفع العزلة العربية عن نظام الأسد، إلى تأييد طموحات الشعب السوري والإعراب عن الأمل في أن تستعيد سوريا استقرارها ووحدتها في أسرع وقت ممكن.
أما الإمارات، التي كان يُعتقد أنها تقوم بوساطة بين النظام وإدارة بايدن، بهدف فك ارتباط سوريا الأسد بإيران مقابل رفع العقوبات الأميركية والدولية المفروضة على نظام الأسد، فقد حذرت بعد سقوط النظام من الفوضى والحفاظ على المؤسسات الوطنية. أما العراق والأردن ولبنان، الدول المجاورة لسوريا والأكثر تأثرًا بتطورات الموقف السوري، فقد تصرفت بدرجة من الحياد، وبدا أنها تنتظر تطورات الموقف.
تركيا، التي كانت إحدى أوائل الدول المؤيدة للثورة السورية، والتي استقبلت الكتلة الأكبر من اللاجئين السوريين، بما في ذلك كافة هيئات المعارضة السورية السياسية في الخارج، والتي تربطها صلات من مستويات متفاوتة بالتنظيمات التي تشكلت منها غرفة إدارة عمليات “ردع العدوان”، بدت مؤيدة للعملية واحتفت بانتصار قوى المعارضة وسقوط نظام الأسد. كانت أنقرة، كما هو معروف، قد مدت يدها لبشار الأسد طوال العام السابق على انطلاق عملية “ردع العدوان”، معربة عن رغبتها في التفاوض معه حول حل مسائل الخلاف وعودة اللاجئين السوريين والإسراع في مسار الحل السياسي للمسألة السورية. ولكن الأسد، الذي اطمأن لبقائه في الحكم والشعور المبكر بالنصر بعد أن قام أغلب الدول العربية بتطبيع العلاقات مع نظامه، وبعد أن دُعي إلى القمة العربية في الرياض، لم يستجب للمبادرة التركية.
أعادت تركيا التذكير برفض بشار لكافة محاولات التقارب ومقترحات الحل السياسي، وحمَّلته والدول الداعمة له مسؤولية اندلاع الصراع في سوريا من جديد، مشيدة بتصميم الشعب السوري على مواصلة النضال من أجل حريته، ومؤكدة على وحدة سوريا ورفض التدخلات الأجنبية في شؤونها. كما أعلن المسؤولون الأتراك، بمن في ذلك الرئيس أردوغان، أن مستقبل سوريا سيقرره الشعب السوري وحده، وأن تركيا لن تتردد في تقديم الدعم الاقتصادي، والسياسي، والعسكري إلى أن تستطيع الدولة السورية الجديدة الوقوف على قدميها. ولم يكن موقف الدوحة، التي رفضت طوال السنوات الأخيرة التطبيع مع نظام الأسد، مختلفًا عن موقف أنقرة. كما سارعت الخارجية القطرية، مباشرة بعد سقوط نظام الأسد، إلى الإعلان عن عزمها فتح سفارتها في دمشق.
روسيا وإيران، اللتان ظلَّتا حتى الساعات الأخيرة من عمر نظام الأسد، تصفان قوى المعارضة بالإرهابية، وبأن عملية “ردع العدوان” ليست أكثر من مؤامرة خارجية لإطاحة نظام حكم شرعي، أخذت هي الأخرى في تغيير لغتها تجاه الوضع السوري وقادة سوريا الجدد، وإن بقدر بالغ من التردد والارتباك.
والواضح أن طهران تحاول التكيف مع الوضع الجديد وإعادة تقييم شاملة لسياستها في المشرق العربي، سيما في سوريا ولبنان، بهدف احتواء الخسارة الإستراتيجية التي تسبب فيها انهيار نظام الأسد، ومحاولة حماية ما تبقى من مواقعها ومنع حصار حزب الله. أما موسكو، التي يبدو أنها استلمت تطمينات عامة من قوى المعارضة السورية، فالمؤكد أنها فتحت خطوط اتصال مع قادة دمشق الجدد، أولًا بصورة غير مباشرة، ثم بصورة مباشرة. والمؤكد أن المسألة الرئيسة في هذه الاتصالات تتعلق ببقاء القاعدتين، الجوية والبحرية، الروسيتين في سوريا.
يسعى قادة هيئة تحرير الشام والحكومة الانتقالية بكافة السبل لرفع الهيئة من قوائم الإرهاب الأميركية والأوروبية وتلك المعتمدة لدى الأمم المتحدة، وإلغاء العقوبات التي فُرضت على سوريا خلال النظام السابق. ويعتقد قادة الهيئة أن مثل هذا الإجراء سيعزز شرعية نظام الحكم الجديد، ويعزز جهود إعادة توحيد البلاد، ويصب لصالح تعافي الاقتصادي السوري. ولكن المؤشرات الصادرة من واشنطن والأمم المتحدة لا توحي بأن مطالب قادة دمشق الجدد ستتحقق سريعًا.
دول أوروبية، مثل إيطاليا، أعادت فتح سفارتها في دمشق والتقت مسؤولي الحكومة السورية الجديدة. وكانت تصريحات صدرت من إسبانيا وإيطاليا تدعو إلى رفع الهيئة من قوائم الإرهاب وإلغاء العقوبات التي فُرضت على سوريا خلال حكم الأسد. ولكن تصريحات المسؤولين الأميركيين، كتصريحات مبعوث الأمم المتحدة لسوريا، تبدو وكأنها تضع شروطًا ليس من السهل على دمشق الجديدة تحقيقها جميعًا في المدى القريب، مثل ضمان حقوق الأقليات، والتعهد بمحاربة الإرهاب، والتخلص من السلاح الكيماوي، وإقامة نظام حكم جامع لكافة المكونات والقوى السياسية. وتشير تصريحات المسؤولين الأميركيين، إلى أن واشنطن ستستخدم تصنيفات الإرهاب والعقوبات لتحصيل أكبر قدر من التنازلات من القادة السوريين لصالح السياسة الأميركية في سوريا والشرق الأوسط.
أما مشكلة دمشق الجديدة الأكبر فتتعلق برد الفعل الإسرائيلي بالغ العدوانية تجاه سقوط نظام الأسد وانتقال الحكم إلى قادة عملية ” ردع العدوان”. فبعد ساعات قليلة فقط من فرار الأسد وظهور المسلحين التابعين لإدارة العمليات وقائدها العام في دمشق، أطلقت إسرائيل سلسلة من مئات الغارات الجوية على مراكز بحوث عسكرية، ومواقع تخزين سلاح وذخائر، وعلى قواعد جوية وبحرية، وقواعد عسكرية أخرى، في كافة أنحاء سوريا بما في ذلك دمشق ومحيطها.
في الوقت نفسه، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية أن انسحاب قوات الجيش السوري من خط فصل القوات والمنطقة منزوعة السلاح في الجولان السوري يعني أن اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974 بين سوريا وإسرائيل انهارت وأن التوغل الإسرائيلي مؤقت. وفي الساعات التالية، تقدمت القوات الإسرائيلية بعمق لا يقل عن 20 كيلومترًا في بعض المحاور للسيطرة على قطاع واسع من المنطقة السورية منزوعة السلاح على طول خط فصل القوات، بل وتقدمت شمالًا إلى الجانب السوري من الحدود السورية-اللبنانية.
لم يُدْلِ القادة السوريون الجدد بأية تعليقات على، أو تحديد موقف واضح من، العدوان الإسرائيلي المستمر عقب بعضة أيام على سقوط النظام السابق؛ مما عرَّضهم لانتقادات داخل سوريا وخارجها. أعقب ذلك تصريح الشرع خلال ندوة صحفية، وصف فيها الإجراءات الإسرائيلية بأنها خرق لاتفاقية فك الاشتباك وأضاف أن الوضع الحالي لا يسمح بالدخول في صراعات جديدة. لكن ليس من الواضح عمليًّا كيف سيجري التعامل مع التحدي الإسرائيلي العدواني. سياسيًّا، لم يُعيَّن وزير للخارجية السورية في حكومة البشير بعد، وليس ثمة مؤشرات على أن وزارة الخارجية السورية في دمشق لم يزل باستطاعتها العمل. ولكن ثمة تقارير، أيضًا، تفيد بأن تركيا على الأقل، بين الدول المؤيدة للثورة السورية، تقوم بدور نشط لإيقاف العدوان وانسحاب القوات الإسرائيلية المتوغلة في الجانب السوري من خط فصل القوات في الجولان.
في 12 ديسمبر/كانون الأول، وصل رئيس جهاز المخابرات التركي إلى دمشق في زيارة مفاجئة، واجتمع برئيس الحكومة السورية الانتقالية ومسؤولين سوريين آخرين. والمؤكد أن مسألة العدوان الإسرائيلي كانت إحدى أهم المسائل محل البحث في هذه الاجتماعات. استقبلت أنقرة وزير الخارجية الأميركي، الذي كان أجري مباحثات في عمَّان تتمحور حول تطورات الوضع السوري؛ بينما التقى سكرتير مجلس الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، نتنياهو في اليوم نفسه. وذكرت تقارير أن نتنياهو أخبر سوليفان بأن توغل القوات الإسرائيلية داخل الأرض السورية هو عمل مؤقت إلى أن تستطيع الحكومة السورية الجديدة تشكيل جيش قادر على حفظ الأمن في المنطقة السورية منزوعة السلاح. ولكن المصادر الأميركية لم تشر إلى ما إن كان نتنياهو قدَّم تسويغًا لحملة القصف الهائلة لمواقع ومقدرات سوريا العسكرية.
وليس ثمة شك في أن السؤال الملحَّ الذي يواجه دمشق الجديدة اليوم، هو ما إن كان توجه دولي كاف سيتطور ليفرض على إسرائيل إيقاف العدوان والانسحاب من الأرض التي توغلت فيها، أو أن السوريين سيعانون من احتلال مناطق جديدة في بلدهم.
تحديات الحكم وبناء الدولة الجديدة
تزدحم الساحة السورية السياسية، سيما في المنفى، بالقوى والجماعات السورية التي نشطت ضد النظام السابق، أهمها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والهيئة السياسية لتجمع القوى المسلحة في إدلب المحررة، التجمع الذي تعد هيئة تحرير الشام قوته الرئيسة. ولكن هناك أيضًا عديد من الجماعات الأصغر، والشخصيات، خارج هاتين الكتلتين، والتي شاركت في نشاطات المعارضة والثورة خلال السنوات منذ 2011؛ علاوة على فصائل كانت ضمن “الموك” اختصارًا لمركز العمليات العسكرية بإشراف الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وبعض الدول الخليجية. أما الجيش الوطني، الذي تعهد مهمة إخراج الفصائل الكردية المسلحة من تل رفعت ومنبج، فيرتبط بالجيش التركي. ولم يزل هناك وجود وإن هامشيًّا لتجمعات وقوى سياسية ليبرالية ويسارية لم تقف مع النظام، ودافعت عن مطالب السوريين بالإصلاح والتغيير.
كما أن سوريا نفسها كانت، خلال السنوات العشر السابقة، دولة مقسمة بين مناطق تسيطر عليها الجماعات المعارضة المسلحة، التي عُرفت بالمناطق المحررة، ومناطق الشريط الحدودي، التي تخضع لسيطرة الجيش التركي، ومناطق واسعة من شرق وشمال شرق البلاد تديرها قوات سوريا الديمقراطية التي تقودها قوات حماية الشعب الكردية الذي تتهمه تركيا بدعم حزب العمال الكردستاني). ما تبقى من سوريا، أو حوالي نصف مساحة الأرض السورية، كان تحت سيطرة نظام الأسد.
بسقوط النظام وانهيار جيشه وأجهزته الأمنية، فرضت إدارة عمليات “ردع العدوان” سيطرتها على دمشق ومعظم المحافظات السورية التي كانت تعد ضمن مناطق النظام. وشرعت في بسط حكمها على القوى المسيطرة في درعا وهي تلك المرتبطة بغرفة عمليات الجنوب. وكذلك على السويداء التي يسيطر عليها مسلحون محليون دروز يرتبطون بالحركة الشعبية المشتعلة ضد النظام في جبل الدروز منذ أكثر من عام. في شرق سوريا، حاولت قوات سوريا الديمقراطية توسيع نفوذها إلى دير الزور والمنطقة الحدودية من العراق؛ ولكن أهالي دير الزور مدعومين بثوار موالين لدمشق الجديدة أخرجوها من المدينة. وتنقل تقارير أن القوة العشائرية التي تعرف بجيش سوريا الحرة، وتتلقى الدعم من الأميركيين، هي التي سيطرت على تدمر ومحيطها.
تمثل هذه الصورة من مساعي بسط إدارة عملية ” ردع العدوان” على كافة المناطق السورية وتعدد الفصائل المسلحة تحدي التشظي السياسي والعسكري الذي سيكون أولوية رئيسية في جهود إعادة بناء الدولة السورية. وتفرض هذه الصورة ارتباطًا وثيقًا بين ملفات استعادة وحدة البلاد، والتعامل مع التعددية السياسية، وبناء نظام يتمتع بدعم وتأييد أكبر قاعدة سياسية وشعبية ممكنة، وإعادة بناء المؤسسة الدفاعية الكفيلة بفرض الأمن والسيادة وحراسة الحدود والسماء والمقدرات.
بدون تقدم ملموس في هذه الملفات معًا، ستظل هناك أسئلة تتردد حول القوة، أو القوى، التي يحق لها قيادة المرحلة الانتقالية، وحول الأسس التي تستند إليها شرعية هذه القيادة. وبدون تقدم ملموس في هذه الملفات سيصعب تنصيب حكومة انتقالية مستقرة نسبيًّا، تتمتع بقدر كاف من الشرعية، تبدأ العمل من أجل وضع مسودة دستور جديد، وتقود الحوار حول مسائل هذه الدستور الرئيسة، مثل طبيعة نظام الحكم، وهوية الدولة، وعلاقة الدولة بشعبها، وسبل التعامل مع المكون الكردي.
ولكن هناك تحديات أخرى ذات طابع خارجي وداخلي معًا. أولها بالطبع هو الحرص المبالغ فيه من قبل قيادة “ردع العدوان” على الحصول على الاعتراف الدولي، سيما الأميركي والأوروبي، بالوضع الجديد في دمشق، وإلغاء تصنيفات الإرهاب المتعلقة بالقوى السورية، ورفع العقوبات المفروضة. والمؤكد، أن تحقيق هذه المطالب سيكون مشروطًا بتنازلات محددة في الساحة الداخلية، وفي الطريقة التي ستنتهجها دمشق الجديدة لبناء الدولة وتوحيد البلاد، وربما حتى بالعلاقة بين سوريا الجديدة وإسرائيل.
ويكشف البيان الذي صدر السبت، 14 ديسمبر/كانون الأول، عن اجتماع ما سُمي بلجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن سوريا، الذي عُقد في العقبة بدعوة من الأردن، عن الاشتراطات الخارجية على سوريا الجديدة. بين النقاط السبع التي احتواها البيان، اتفق المجتمعون على “دعم عملية انتقالية سلمية سورية جامعة”، والدعوة “إلى إنشاء بعثة أممية لدعم العملية الانتقالية”. بمعنى أن المجتمعين في العقبة يريدون إشرافًا دوليًّا على عملية إعادة بناء سوريا الجديدة.
يشير ذلك إلى أن أمام سوريا طريقًا معقدًا، وربما طريقًا طويلًا، قبل أن ترتسم ملامح دولتها الجديدة ويستقر فيها نظام حكم ديمقراطي، ويتبلور فيها الإجماع الكافي، والضروري، لتوفير الشرعية للدولة الجديدة وقواها الحاكمة. كافة التحديات الأخرى المتعلقة بالإعمار وعودة اللاجئين والنهوض بالاقتصاد وضبط الشأن المالي للدولة، كما بكيفية تعامل الحكم السوري الجديد مع الشرائح الاجتماعية الاقتصادية السورية، هي بالتأكيد تحديات متوسطة المدى، وتحتل المكانة الثانية لمسائل الوحدة والدولة والدفاع والسيادة.
انقلاب الموازين الإقليمية
احتل الصراع على سوريا، منذ وُلِد النظام الإقليمي الحديث في المشرق بعد الحرب العالمية الأولى، موقع القلب من الصراع على الشرق الأوسط. خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أن سوريا كانت وَقَعَت، منذ 1920، تحت الانتداب الفرنسي، عادت بريطانيا وغزت سوريا لمنع حكومة فيشي وألمانيا النازية من تحويلها إلى قاعدة للتوسع في الإقليم. في الخمسينات والستينات، أصبحت سوريا ساحة صراع دولي وإقليمي على النفوذ، انخرطت فيه بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وإسرائيل وتركيا ومصر والعراق الهاشمي والسعودية.
لعقدين أو ثلاثة، وبتوظيف قدر هائل من العنف في سوريا وخارجها، جعل حافظ الأسد من سوريا لاعبًا إقليميًّا. ولكن، ومنذ بداية الألفية، واندلاع الثورة السورية على الخصوص، عادت سوريا هدفًا لتدافع القوى الإقليمية والدولية. ما يبدو اليوم، أن انهيار نظام الأسد سيزيد من حدة هذا التدافع، ليس بالضرورة لأن النظام ترك خلفه دولة أضعف بكثير مما كانت عليه في أواخر القرن الماضي، دولة مكشوفة على الجهات الأربع، ولكن أيضًا لأن انتصار الثورة السورية صنع انقلابًا هائلًا في موازين القوى في المشرق، سياسيًّا وإستراتيجيًّا وفكريًّا.
أوقع هذا الانقلاب خسائر فادحة بمشروع التوسع الإيراني في المشرق العربي، عقب احتلال العراق في 2003. وعلى الرغم من أن من المبكر توقع طبيعة العلاقات التركية-السورية، سيما أن ملامح الدولة السورية الجديدة ونظام حكمها لم يتكشف بعد، إلا أن من المؤكد أن انهيار نظام الأسد يصب لصالح تعزيز الأمن التركي ولصالح توكيد الموقع التركي في ميزان القوى الإقليمي. ولأن تقلبات المشرق وتدافعاته خلال مئة عام الماضية تقاطع فيها السياسي بالجيو-إستراتيجي والأيديولوجي، فلابد أن يطرح الانتصار الذي حققته الثورة السورية بقيادة إسلامية بحتة مراجعة في التيارات الأيديولوجية بالمنطقة، خاصة في الخطابات التحذيرية من مخاطر التيارات الإسلامية السياسية.
ولكن هذا كله عليه أن ينتظر قليلًا، إلى أن تتضح كيفية حسم تحديات التدافع الخارجي والداخلي وعواقبه في سوريا الجديدة.
————————-
«بيان العقبة»: دعم عربي أم وصاية أممية؟
16 كانون الأول 2024
صدرت دول عربية، إضافة إلى تركيا، بيانا ختاميا بعد اجتماعها في مدينة العقبة الأردنية لمناقشة «اليوم التالي» على سقوط نظام بشار الأسد. بعد البند الأول في البيان، الذي أعلن وقوف المجتمعين إلى جانب الشعب السوري «وتقديم كل العون والإسناد له» و«احترام إرادته وخياراته» جاء البند الثاني ليطالب بعملية انتقالية سياسية سورية جامعة «ترعاها الأمم المتحدة والجامعة العربية، وفق مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254 وأهدافه».
صدر القرار الآنف في كانون الثاني/يناير 2016، وكان مشروعا أمريكيا صوّت عليه أعضاء مجلس الأمن الـ15 بالإجماع، ودعا حينها ممثلي النظام السوري والمعارضة للمشاركة في مفاوضات رسمية بشأن مسار الانتقال السياسي.
يسعى البند المذكور للارتكاز على نقطة اجتمع فيها أطراف الصراع الدولي في سوريا، لكنّه يتجاهل مسألتين مركزيتين، الأولى (والتي جعلت اجتماع العقبة ممكنا وذا معنى) هي انهيار النظام السوريّ، والثانية هي الخراب العامّ الذي تسبّب به هذا النظام.
يترتّب على السقوط الشامل لنظام الأسد، الذي أضحى رئيسه المخلوع «لاجئا إنسانيا» في روسيا، التعامل المباشر مع «حكومة تيسير الأعمال» في دمشق، للدفع في اتجاه تشكيل هيئة حكم انتقالي مدنية.
ويترتّب على الأزمة الشاملة التي تعاني منها البلاد إعلان سوريا «بلدا منكوبا» تعرّض لكارثة إنسانية تحتاج تدخّلا فوريا لإنقاذ السكان، الذين بدأوا، بعد فتح السجون، التفتيش عن قرابة 160 ألف شخص اختفوا قسريا، فيما سلّم كثيرون بالمصائر المؤسفة لأقاربهم وأخذوا بتأكيد مقتل العشرات من عائلاتهم.
بدأت، مع أنباء سقوط النظام تتكشف تفاصيل طغيانه المهولة، من المقابر الجماعية التي دُفن فيها عشرات الآلاف، إلى حفلات الإعدام الروتينية في سجون مثل صيدنايا وتدمر، وباقي المعتقلات العلنية والسرّية، مرورا بالتقارير الدولية الموثقة، عن الثروات الهائلة للأسد وأقاربه مثل شاليش ومخلوف، وعن شبكة مصانع المخدّرات، وأحدها كان في فيلا لماهر الأسد.
توقع السوريون أن تعلن البنود الواردة في بيان مجموعة الاتصال العربية مبادرة كبيرة وعاجلة لمساعدة السوريين في الخروج من أوضاعهم المأساوية، وهم يجمعون أشلاء قتلاهم ويفتشون عن جثامينهم وعظامهم، ودعمهم ماليا واقتصاديا لتحقيق انفراجة تجعلهم يحسّون فعلا أنهم «شعب شقيق» كما وصفهم البيان، ومدّ أيديهم إلى ثوار المعارضة الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم، وواجهوا واحدا من أبشع الأنظمة في التاريخ الحديث، وتمكنوا، خلال 11 يوما، من جمع أشلاء سوريا نفسها، بربط الشمال والوسط والجنوب، لأول مرة منذ بدء الصراع المسلّح.
مفهوم طبعا أن سقوط النظام السوري بدا، بالنسبة للبعض ضمن النظام العربي الراهن، إمكانية لاستعادة احتمالات الربيع العربي الموؤود، وهو ما أثار مخاوف عبّرت عنها تصريحات عربية وإسرائيلية.
من جهة أخرى، فإن هذه «المخاوف» لا تستطيع أن تتجاهل أن أحد الإنجازات الكبرى التي نجح فيها السوريون، بإسقاطهم الطغمة الوحشية لعائلة الأسد، أنهم صالحوا سوريا مع محيطها العربي، وفتحوا بذلك مجالا لتصالح العرب مع أنفسهم.
المطلوب، ضمن السياق المعقّد الآنف، هو دعم عربيّ سريع، وهو الأمر الذي سيؤهل السوريين، في المرحلة المقبلة، لخوض «عملية انتقالية سلمية سياسية سورية ـ سورية جامعة، تتمثل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية السورية» كما جاء في بيان «العقبة».
القدس العربي
———————————-
سوريا تفككت: التداعيات والتحديات والمجابهات/ عصام نعمان
16 كانون الأول 2024
في أقل من عشرة أيام انهار النظام السياسي في سوريا، واختفى معه كبار الممسكين بمفاتيح سلطاته وأجهزته. انهياره السريع أذهل أصدقاءه كما أذهل أعداءه، وفتح مستقبل سوريا على مخاطر شتّى. لا غلوّ في القول إن انهيار النظام خلّف بلاداً مفككة وشعباً مشرذماً على نحوٍ يمكن توصيفه بأنه أخطر حدث في تاريخ عالم العرب، خصوصاً هلاله الخصيب والكئيب، منذ نكبة فلسطين بقيام «إسرائيل» سنة 1948. سوريا هي قلب المشرق العربي ومفتاحه الجيوسياسي والاستراتيجي. لها حدود طويلة مع كلٍّ من لبنان وفلسطين والأردن والعراق، ولها ساحل على شرق البحر الأبيض المتوسط يتصل بساحل تركيا شمالاً ولبنان جنوباً. يزخر البحر قبالة ساحلها بمكامن غنية بالنفط والغاز، شأن بادية الشام الغنية بمكامن الذهب الأسود. سوريا هي «قلب العروبة النابض»، كما كان يحلو لجمال عبد الناصر أن يدعوها. عروبتها هوية وليست عصبية، ذلك أنها تحتضن 26 طائفةً وإثنية تعتمد كلٌ منها عصبية خاصة بها، العروبة كهوية تعلو على العصبيات الطائفية والإثنية.
الجيش السوري كان العمود الفقري للجسم السياسي السوري، استطاع بفضل عقيدته العروبية وتنظيمه العسكري الصارم أن يكون مصهراً وطنياً لكل جنوده وضباطه. وهو، كعمودٍ فقري للجسم السياسي السوري، كان فعلياً السلطة المركزية للبلاد والسياج الحامي لوحدتها الوطنية، ليس أدل على ذلك من أن كل الانقلابات العسكرية التي شهدتها (وعانتها) سوريا لم تتسبّب بانقسام البلاد والشعب، لأن الجيش بقي متماسكاً ومتحداً، ما حال دون تصدّع الوحدة الوطنية وكيان الدولة. لذا لم يكن مستغرباً أن ينهار النظام السياسي وتتفكك البلاد، بعدما فَقَد الجيش السوري تماسكه ووحدته وإرادة القتال نتيجَة تدنّي الرواتب وشظف العيش.
ثمة أسباب أخرى لانهيار نظام الأسد، أهمها أن الولايات المتحدة كانت فرضت على سوريا «قانون قيصر»، الذي حظّر على جميع الدول والمؤسسات والأفراد في العالم التعامل اقتصادياً مع سوريا، ما تسبّب بأزمة اقتصادية شديدة وضائقة معيشية خانقة أضافتا إلى معاناة اقتصاد البلاد أعباء حربٍ مزمنة مع متمردين إسلاميين متطرفين تُصنّفهم الولايات المتحدة إرهابيين، ومع ذلك تُغرقهم بالمال والسلاح والعتاد. هذه الأزمات والتداعيات رافقتها ونجمت عنها تحديات عدّة أبرزها واخطرها ثلاثة:
*أولاً: توحيد سوريا وتوطيد استقرارها
سوريا حاليّاً مقسّمة وشعبها مشرذم، هناك أربع مناطق تحكمها «سلطات» متعددة ومنطقة خامسة تحتلها «إسرائيل». في شمالها، شرقيّ نهر الفرات، تسيطر منظمة «قسد» الكردية (قوات سوريا الديمقراطية) المصنّفة إرهابية من قِبَل تركيا والولايات المتحدة، وتضع يدها على آبار النفط في محافظة الحسكة وتستثمرها بحماية قوة عسكرية امريكية متمركزة في جوارها. في محافظة دير الزور في وسط سوريا الشمالي، منطقة سيطرت عليها «قسد»، ثم تمرّد عليها مسلحون من أبناء العشائر العربية وانحازوا إلى «هيئة تحرير الشام» بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً). هذه المنطقة الملأى بحقول النفط وآباره تحميها قوة عسكرية أمريكية تموضعت في جوارها وأتاحت لـ»قسد» استثمار مواردها. في محافظة إدلب، غربيّ البلاد، منطقة يسيطر عليها خليط من المنظمات المعادية للنظام السابق، أبرزها واقواها «هيئة تحرير الشام». من محافظة دمشق جنوباً صعوداً إلى محافظات حمص وحماه وحلب شمالاً، تمتد منطقة شاسعة تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام»، وقد أعلن احمد الشرع بوصفه قائداً لإدارة العمليات العسكرية، قيام حكومة مؤقتة فيها يُفترض أن تديرها، بالإضافة إلى محافظات الحسكة ودير الزور وإدلب واللاذقية وطرطوس. في جنوب البلاد، احتل الجيش الإسرائيلي المنطقة العازلة بين الجولان المحتل والجولان المحرر، بالإضافة إلى بلدات وقرى تابعة لمحافظات درعا والسويداء والقنيطرة، بما في ذلك قمة جبل الشيخ، فأصبح العدو على بعد نحو 20 كيلومتراً من دمشق. يمكن الاستنتاج أن هذه التطورات والانقسامات والاضطرابات، التي عصفت وتعصف بسوريا باتت الآن التحدي الأول والأخطر الذي يستوجب المجابهة ومعالجة تداعياته وأضراره وذلك بتوحيد البلاد وتوطيد الأمن والاستقرار وتعزيز جهود الإنماء والإعمار وترسيخ الطمأنينة والسلام.
*ثانياً : إعادة بناء سوريا دولةً ومؤسسات وجيشاً
انهيار الجيش السوري بما هو العمود الفقري للجسم السياسي، أسقط نظام الأسد وبالتالي الدولة، بما هي إطاره الدستوري والإداري، ذلك يستدعي بلا إبطاء مبادرة القوى الوطنية، بشتى انتماءاتها السياسية وفعالياتها على أرض الواقع، إلى التلاقي للبحث في التحديات الخطيرة السائدة والتوافق تالياً على النهج والآليات اللازمة للخروج من حال الانقسام والاضطراب إلى المباشرة بإعادة توحيد البلاد وتوطيد الأمن والاستقرار والطمأنينة فيها من خلال التدابير الآتية:
ـ تأليف حكومة توافق وطني انتقالية جامعة، تضمّ ممثلين للمكوّنات والجماعات والتيارات كافة في الوسط الشعبي، بغية توفير متطلبات الأمن والمعيشة من جهة، ومن جهة أخرى وضع الترتيبات اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة ينبثق منها مجلس نواب يتولى السلطة التشريعية في البلاد، وتكون أولى مهامه وضع دستور جديد للدولة على أن يجري إقراره في استفتاء شعبي، ويصار بعد ذلك إلى تأليف حكومة وطنية جامعة لاستكمال مهام بناء الدولة، ولاسيما جيشها الوطني وسائر مؤسساتها وأجهزتها الإدارية والأمنية والاقتصادية.
ـ التواصل مع الدول الصديقة في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي بغية تأمين أعلى مستويات التضامن مع سوريا في سعيها إلى إنهاء احتلال «إسرائيل» لأراضيها بلا شروط، والتفاوض مع تركيا وإيران لتسوية الخلافات والنزاعات العالقة معهما بما يؤمّن توطيد الأمن الإقليمي.
ثالثاً: ترسيم وترسيخ دور سوريا في الصراع العربي ـ الإسرائيلي
تسيطر «إسرائيل» حاليّاً على مناطق واسعة من أراضي سوريا لا تقل مساحتها عن خُمس المساحة الإجمالية للبلاد، بعد قيامها بإلغاء اتفاق وقف الاشتباك المعتمد بينهما بعد الحرب سنة 1974، وتدمير نحو 70% من مجمل أسلحة وقواعد وذخائر وتجهيزات الجيش السوري، البرية والجوية والبحرية، في جميع أنحاء البلاد. ولوحظ أن الحكومة السورية المؤقتة برئاسة محمد البشير لم تتخذ، حتى كتابة هذه السطور، اي موقف شاجب للاحتلال الإسرائيلي، أو تقديم إشعار بشأنه إلى مجلس الأمن الدولي. إن هذا التطور الأمني البالغ الخطورة لا يشكّل تهديداً لأمن سوريا القومي وسيادتها فحسب، بل يمثّل أيضاً تهديداً خطيراً للأمن القومي العربي، الأمر الذي يتطلب ارتفاع المسؤولين عن إدارة شؤون البلاد في الوقت الحاضر وحكومتها العتيدة بعد الانتخابات المقبلة إلى مستوى الأخطار المصيرية المحدقة بسوريا، كما بالأمة واتخاذ المواقف والتدابير الكفيلة بمواجهتها والتغلّب عليها.
إلى ذلك، يقتضي أن يدرك قادة سوريا حاضراً ومستقبلاً جسامة الخطر الصهيوني الماثل والدعم الزاخم والدائم، الذي توفّره الولايات المتحدة لكيان الاحتلال الإسرائيلي على نحوٍ لا يهدد سوريا فحسب، بل يهدد ايضاً شعوب فلسطين ولبنان والأردن والعراق ومصر، ما يستوجب ترسيم وترسيخ دور سوريا الأساسي في الصراع العربي ـ الإسرائيلي بإطار استراتيجية متكاملة للدفاع العربي المشترك عن شعوب الأمة وحقوقها ومصالحها وصون ترابها الوطني. التحسّب للأخطار الماثلة شرط أساس لصدّها والتغلّب عليها.
*كاتب لبناني
القدس العربي
————————–
سقوط نظام الأسد… وإرهاصات نظام شرق أوسطي جديد؟/ د. عبد الله خليفة الشايجي
16 كانون الأول 2024
بدأ بشار الأسد حكمه الدموي باستخفاف كلي بالشعب السوري بتعديل مجلس الشعب الدستور خلال دقائق ليتطابق مع سنه حينها. لم يعرف جيلان من الشعب السوري، حوالي 75 في المئة من الشعب سوى حكم البعث تحت حكم الوالد والولد، وقد تسبب حكمهما وخاصة بعد عسكرة الثورة السورية منذ عام 2011 ـ حسب احصائيات الأمم المتحدة بقتل أكثر من 600 ألف مدني وإجبار 6 ملايين سوري على اللجوء للخارج وأكثر من 7 ملايين سوري إلى النزوح داخل سوريا، بعد تدخل إيران وميليشياتها الطائفية منذ عام 2013 وخاصة حزب الله والميليشيات العراقية وميليشيات فاطميون وزينبيون الشيعية الباكستانية والأفغانية، وأعقب ذلك تدخل روسيا في الثورة السورية منذ عام 2015 ـ والمساهمة بقمع الثورة ـ وإطالة مأساة السوريين.
منح الأسد روسيا قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية موطئ قدم الساحل السوري على البحر الأبيض المتوسط. وأدخل روسيا لمنطقة الشرق الأوسط من بوابة سوريا. واليوم أولوية روسيا بعد سقوط وفرار الأسد وعائلته ومنح بوتين له اللجوء السياسي لأسباب إنسانية-الإبقاء على القاعدتين بالتفاوض مع حكم المعارضة والفصائل العسكرية المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام التي اكتسحت ونجحت بعملية «ردع العدوان» العسكرية، على مدى 11 يوماً من السيطرة على مدن ومحافظات سوريا الرئيسية إدلب وحلب وحماة وحمص وفصل الشمال عن الجنوب والساحل عن البادية حتى وصلت الفصائل إلى دمشق من ريف دمشق الشمالي ومن ريف دمشق الجنوبي والشرقي من درعا إلى دمشق العاصمة ودخلتها فجر الثامن من ديسمبر، وسبق ذلك فرار بشار الأسد وسقوط نظامه إلى الأبد… وحسب تقرير لوكالة رويترز ـ «خدع الأسد الجميع من كبار المسؤولين والدائرة المقرّبة منه بمن فيهم مستشاروه وقادة الجيش».
واليوم يبرز مأزق حقيقي حول كيفية تعامل دول المنطقة والنظام العربي وجامعة الدول العربية وحتى القوى الغربية مع الوضع الجديد، خاصة أن إدارة ترامب السابقة صنفت هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية أجنبية ـ وصنفت واشنطن أبو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام الذي استخدم اسمه الحقيقي بعد سقوط نظام الأسد «أحمد حسين الشرع» ـ إرهابيا منذ عام 2013. ووضعت إدارة ترامب فدية على رأسه بقيمة 10 ملايين دولار منذ عام 2018. برغم انتقال الشرع من تنظيم القاعدة ـ إلى تنظيم داعش، قبل أن ينشق عنها ويشكل ويقود «حركة تحرير الشام» التي قاتلت مقاتلي القاعدة وداعش في سوريا. واتهمت وزارة الخارجية الأمريكية عام 2020 هيئة تحرير الشام بارتكاب تجاوزات خطيرة بالتعدي على «الحريات الدينية» بالقتل والخطف وتجنيد قصّر داخل سوريا تخضع لسيطرتها».
والمعضلة اليوم كيف تتعامل إدارة بايدن والحلفاء الأوروبيون مع أحمد الشرع وحركته المصنفة منظمة إرهابية أجنبية. والملفت تلميحات الرئيس بايدن وإدارته ووزير الخارجية بلنكين ودول أوروبية وخاصة ألمانيا وبريطانيا على إعادة النظر بتصنيف هيئة تحرير الشام والشرع.
علّق الرئيس بايدن «وأخيراً سقط نظام الأسد» ـ ووصفها «باللحظة التاريخية المحفوفة بالمجهول على ما يمكن أن نشهده، لكننا سنتعامل مع القوى داخل سوريا ومع شركائنا وجيران سوريا». لكن ما يهم الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب هو عدم عودة تنظيم داعش (شنت أمريكا بعد سقوط نظام الأسد 75 غارة على أهداف لداعش) وتدمير أسلحة الدمار الشامل السلاح الكيمياوي والبيولوجي ـ وتدمير قدرات القوات المسلحة والجيش السوري.
شنت إسرائيل أكثر من 500 غارة استباقية وعدوان وحشي، ودمرت سلاح الطيران والمضادات الأرضية السورية والأسطول البحري السوري ـ واحتلت المنطقة العازلة في جبل الشيخ داخل الأراضي السورية في اعتداء سافر على سيادة سوريا بعد احتلال الجولان وخرق لاتفاقية وقف إطلاق النار لعام 1974. وتأكيد وزير الدفاع الإسرائيلي بقاء جيشه في فصل الشتاء! برغم تأكيد نتنياهو وبلينكن أن الوجود الإسرائيلي (الاحتلال) مؤقت!
عيّن الشرع محمد البشير رئيسا لوزراء حكومة انتقالية لمدة ثلاثة أشهر وتعليق الدستور والبرلمان، والعمل على صياغة دستور جديد، وبذل الشرع وفصائله جهوداً واضحة ليغير الصورة النمطية عن التنظيم بربطه بالتطرف والإرهاب ـ برغم نجاح الفصائل السورية بقيادة «هيئة تحرير الشام» سياسة الاندماج وطمأنة الأقليات العلوية والمسيحيين وأنصار وحلفاء الأسد وأفراد وقيادات الجيش بتجنب الاعتداء والانتقام منهم بشكل ممنهج. مع التوعد بمحاكمة ومعاقبة من نكّلوا بالسوريين تحت حكم الأسد. استمرار ذلك النهج يرسّخ صورة إيجابية مطمئنة لمستقبل حكم سوريا الجديد. لكن هناك من يشكك بمصداقية وواقعية حكم التنظيمات المسلحة المتشددة التي تصور بارتباطها بتنظيمات القاعدة وداعش والسعي لإفشال الثورة وحتى خطفها بثورة مضادة!
عدّد وزير الخارجية بلينكن شروط إدارة بايدن للتعامل مع الحكم السوري الجديد: احترام حقوق الأقليات، وعدم تحول سوريا لقاعدة لأنشطة التنظيمات الإرهابية، وعدم تهديد سوريا لجيرانها (إسرائيل) وتدمير مخزون أسلحة الدمار الشامل-كيمياوية وبيولوجية، وحماية الحلفاء الأكراد، وحراسة مخيمات معتقلي تنظيم داعش شمال شرق سوريا. وعدم تشكيل سوريا لجسر تنقل إيران سلاحها عبره لحزب الله في لبنان، وبقاء حوالي 900 عسكري أمريكي حول منشآت سوريا النفطية، وقد حاول الرئيس ترامب سحبهم مرتين في رئاسته الأولى.
لا شك أحدث القضاء على نظام الأسد زلزالا سياسيا بارتدادات، وانتكاسة لروسيا، وإيران ليكون عام 2024، الأكثر كارثية على إيران ومحورها. الواضح أننا نشهد تغيرا كبيرا في موازين القوى وتغير تحالفات إقليمية، وصعود قوى وتراجع قوى أخرى، وهذا يدفع إلى تشكيل نظام شرق أوسطي جديد ومختلف؟
أستاذ في قسم العلوم السياسية ـ جامعة الكويت
القدس العربي
——————————
جانب من خفايا سقوط نظام الأسد/ صادق الطائي
16 كانون الأول 2024
السقوط السريع وغير المتوقع لنظام بشار الأسد في سوريا، أثار ويثير العديد من الأسئلة التي ما زال أكثرها حتى الآن دون أجابات دقيقة ومؤكدة. يوم السبت 7 كانون الأول/ديسمبر، بينما كان المسلحون يقتربون من العاصمة دمشق، قال مصدر لشبكة (CNN) الأمريكية، إن الأسد لم يكن موجودا في أي مكان في العاصمة. كما قال المصدر إن الحرس الرئاسي للأسد لم يعد منتشرا في مقر إقامته المعتاد، كما كان ليحدث لو كان هناك. هذا الأمر أثار التكهنات بأنه ربما يكون قد هرب. في البداية، نفى المكتب الرئاسي السوري أن يكون الأسد قد غادر دمشق، أو سافر إلى دولة أخرى، قائلاً إن بعض وسائل الإعلام الأجنبية «تنشر شائعات وأخبارا كاذبة». لكن بعد أن استولى المسلحون على العاصمة، قالوا إنه فر وإنهم يبحثون عنه. وقال مصدر مقرب من المتمردين لشبكة (CNN)، إن الرئيس المخلوع غادر دمشق تحت الحماية الروسية، وذكر مصدر منفصل إنه سافر إلى اللاذقية في الساحل السوري، حيث تمتلك روسيا قاعدة أحميميم الجوية حيث سيتم نقله خارج البلاد.
وبينما كان السوريون يحتفلون بنهاية نظام الأسد، انتشرت شائعات حول مكان وجود الرئيس المخلوع. وبعد يوم واحد فقط، تم حل اللغز عندما أكدت وسائل الإعلام الروسية الرسمية أنه هبط في موسكو. الخبر قال؛ «وصل الأسد وعائلته إلى موسكو». وأشار مصدر في الكرملين لوكالة تاس الرسمية إلى أن روسيا، ولأسباب إنسانية، منحت الرئيس المخلوع وعائلته حق اللجوء.
تفاصيل أحداث الساعات الأخيرة لنظام بشار الأسد في سوريا أخذت تتكشف تدريجيا، إذ أن الرئيس المخلوع لجأ إلى السرية والتمويه من أجل الفرار، فقد أخفى قرار فراره عن أقرب مساعديه ومسؤولي حكومته وحتى أقاربه، فلم يكن يعلم بخطة الهروب سوى دائرة ضيقة جدا من أفراد عائلته الصغيرة، حسبما قاله أكثر من عشرة أشخاص على دراية بالأحداث، لوكالة رويترز. وكان آخر اجتماع حضره الأسد قبل ساعات من هروبه إلى موسكو فجر الأحد 8 ديسمبر، إذ لم يشر خلاله إلى نيته بالتنحي وتسليم الأمور إلى رئيس وزرائه ليقوم بدوره بمهمة تسليم واستلام مقاليد الحكم للمسلحين السوريين. تمويه الأسد تمثل أيضا بطلبه من مستشارته الإعلامية الدكتورة بثينة شعبان القدوم إلى منزله لكتابة كلمة له، وهو ما راج فعلا يوم السبت 7 ديسمبر حول عزمه توجيه كلمة قيل إنه سيعلن خلالها تنحيه. سرية قرار هروب الأسد استثنت فقط الدائرة الضيقة جدا من عائلته الصغيرة، وحسب مصادر تحدثت لوكالة رويترز، وأشارت إلى أن بشار لم يبلغ حتى شقيقه الاصغر ماهر بخطة هروبه. علما بأن قرار الهروب لم يكن وليد تطورات اللحظات الأخيرة، إذ يبدو أن القرار كان قد اتخذ قبل ذلك بحوالي أسبوعين، إذ تجلت أولى ملامح قرب انهيار النظام بعد زيارة الأسد إلى موسكو في الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، أي بعد يوم واحد من بداية هجوم الفصائل المسلحة على مدينة حلب، حينذاك قام بشار الأسد بزيارة سرية لموسكو حمل فيها دعوته للروس للتدخل العسكري السريع إنقاذا للموقف، لكنه لم يستطع حتى لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما لم يلق آذانا صاغية من القادة العسكريين الروس الذين التقاهم. وتقول مصادر رويترز إنه عند هذه اللحظة بدأت نوايا الفرار تتشكل لدى الأسد، الذي أخفى حقيقة الموقف عن مساعديه، وخدعهم قائلا، إن الدعم العسكري الروسي مقبل، كما يقول مصدر داخل الدائرة المقربة من الرئيس المخلوع.
من جانب آخر يبدو أن قصة سقوط نظام الأسد ابتدأت قبل الأحداث الأخيرة، إذ أشارت تسريبات إعلامية إلى أن اجتماعاً عُقِد في مدينة غازي عنتاب التركية، حيث توجد غرفة العمليات الأساسية لفصائل المعارضة السورية المسلحة. ضم الاجتماع رئيس جهاز الاستخبارات التركية إبراهيم كالن، ورئيس جهاز أمن الدولة القطري خلفان الكعبي، ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، وممثلين عن أجهزة استخبارات خليجية، بالإضافة إلى ممثلين عن فصائل المعارضة السورية المسلحة. وقد بحث الاجتماع النقاط الآتية:
أولا: أن يكون انتقال السلطة في سوريا سلميا، وأن يكون الحرص على إبقاء مؤسسات الدولة متماسكة لتسهيل العملية السياسية. ثانيا: أن تضمن الدول المعنية عدم تحول سوريا بعد بشار الأسد ملاذا للمتطرفين والإرهابيين. ثالثا: الحرص على مدنية الدولة في سوريا، وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين من تركيا ولبنان والأردن والعراق إلى بلادهم تدريجيا مع استتباب الأمن.
لحق هذا الاجتماع السري، اجتماع علني في الدوحة، تم قبل يوم واحد من سقوط نظام الأسد، ويبدو أن الاتفاق على اللمسات الأخيرة لاستلام وتسليم السلطات في سوريا قد تم في هذا الاجتماع الذي ضم من جانب الدول العربية وزراء خارجية كل من: دولة قطر، المملكة العربية السعودية، المملكة الأردنية الهاشمية، جمهورية مصر، جمهورية العراق. فيما شارك من جانب مسار أستانا وزراء خارجية كل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والجمهورية التركية وممثل عن روسيا الاتحادية. موقف حلفاء الأسد الاساسيين، روسيا وإيران، كان واضحا قبيل وبعد سقوط النظام مباشرة، إذ أشارت التسريبات الإعلامية إلى أن الروس كانوا قد أبلغوا الأسد أثناء زيارته موسكو أن عليه ترتيب الخروج من السلطة، أو الإقدام على خطوات سياسية سريعة لترتيب الوضع مع المعارضة. وهنا فهم الأسد أن الكرملين لم يعد مستعدا للدفاع عنه. وقال كونستانتين كوساتشوف نائب رئيس مجلس الشيوخ الروسي، في رسالة على قناته على تيليغرام، إن أولوية روسيا هي إجلاء مواطنيها ودبلوماسييها وعسكرييها من سوريا. وأضاف أن الحرب الأهلية «لن تنتهي اليوم، لكن من غير المرجح أن تستمر روسيا في تقديم الدعم لحكومة دمشق. سيتعين على السوريين التعامل معها بأنفسهم».
أما الورقة الثانية التي ظلت بيد الأسد حينها فكانت إيران، لكن نقلا عن اثنين من المسؤولين الإيرانيين الكبار، فإن الاسد لم يطلب مطلقا من طهران نشر قوات في سوريا خوفا من أي ردة فعل هجومية من إسرائيل التي كانت ستجدها ذريعة للتدخل. الموقف الإيراني بدوره تبدى عبر بعض التسريبات الإعلامية التي أشارت إلى أن مستشار المرشد الإيراني علي لاريجاني كان قد زار دمشق بعيداً عن الإعلام مساء الجمعة 6 ديسمبر، وأبلغ الأسد قرار إيران سحب المستشارين العسكريين من سوريا، وأن المرشد يرحب بالأسد إن قرر اللجوء إلى إيران. كما أشارت بعض التسريبات التي رشحت من اجتماع الدوحة إلى أن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، كان قد أبلغ الدول المعنية في اجتماع مسار أستانا أن طهران لا يهمها التمسك بالأسد بقدر ما يهمها عدم انفلات الوضع في سوريا وحماية الأقليتين الشيعية والعلوية، وأنها قد تحجم عن إطالة أمد الحرب السورية إذا ما ضُمنت سلامة الأقلية الشيعية والمقامات الدينية. هذا الأمر دفع الجانب التركي لفتح تواصل بين إيران و(هيئة تحرير الشام) بقيادة أحمد الشرع المعروف بالجولاني، ليبعث رسالة تطمين إلى الجانب الإيراني تؤكد ضمان سلامة وأمن الأقليتين الشيعية والعلوية وأمن المقامات الدينية هناك.
*كاتب عراقي
القدس العربي
—————————-
استباحة سوريا لضمان الأمن الإسرائيلي/ د. سعيد الشهابي
16 كانون الأول 2024
من المؤكد أن الكثير من أهل سوريا كان يأمل في التخلص من حكم بشّار الأسد، وقدّم الناس تضحيات كثيرة على مدى أكثر من نصف قرن، باحثين عن نظام حكم رشيد يأخذ البلاد إلى برّ الأمان. وطوال هذه الفترة لم يعبأ الغربيون باستغاثات المظلومين في الدول العربية، بل كان تعاملهم مع الأنظمة عاديّا.
شعب سوريا لم يكن يتوقّع أن تصبح بلده مستباحة من قبل الإسرائيليين بالمستوى الذي حدث. قد يطرح البعض أن الحماس الغربي لسقوط النظام كان مدفوعا بعشق «الديمقراطية» وانطلاقا من الاهتمام بحقوق الإنسان. لكن الوقائع لا تدعم هذا الطرح. فليس سرّا القول إن السوريين ثاروا ضد نظام الحكم في بلدهم مرارا، كان آخرها في فترة «الربيع العربي» ولكن تحركاتهم لم تحقق النتيجة التي كانوا يصبون إليها. وعندما تعرّضوا، كما تعرّض المشاركون في الثورات العربية الأخرى، للقمع والاضطهاد والاعتقالات الجماعية، لم يكن هناك تفاعل حقيقي مع قضيتهم. وهذا ليس أمرا جديدا، فمتى تحمّس الغربيون للتحوّل الديمقراطي في المنطقة العربية؟ فالوضع محكوم بتوازن قلق مع وجود كيان الاحتلال الذي يرى في ذلك التحوّل تحدّيا له وتهديدا لوجوده.
وعندما تتحرر الشعوب العربية من الاستعباد والهيمنة والتبعية ستتولد لديها رغبة جامحة للوقوف مع إخوتهم الفلسطينيين الذين يعيشون الألم والشقاء في ظل الاحتلال، بل أصبح المرابطون في غزّة يتضورون جوعا في الفترة الأخيرة بسبب الحصار الجائر المفروض عليهم، ومنع وصول الغداء والدواء إلى أراضيهم. وحين تمتلك الشعوب العربية قرارها فستقف على خط الدفاع الأول عن الأشقّاء في البلدان التي تضطهدهم، وستجد استغاثات أهل غزة أصداء في العواصم العربية الأخرى.
فما الذي تغيّر فجأة ليظهر هؤلاء الغربيون «تعاطفا» مع أهل سوريا؟ إنّ من الصعب الحكم على النوايا، إلا أن استعراض ما جرى خلال الأسبوع الذي مضى منذ سقوط النظام السوري يساهم في توضيح الموقف بشكل أدقّ. فلم يحدث في أي بلد من بلدان العالم أن استبيحت أراضيه كما يحدث لسوريا. فأهلها ليسوا اللاعبين الأساسيين في مشروع إعادة بناء دولة جديدة على أنقاض نظام الأسد. بل ربما كانوا الطرف الأقل شأنا في المنظور الاستراتيجي. فأنظمة الحكم تأتي وتذهب، ويتداول على كراسي الحكم أصناف البشر، ولكن تبقى البلدان ومصالحها أهمّ من أشخاص حكّامها. ومع أن هؤلاء الحكام قد يتركون بصماتهم على أمن البلاد واستقرارها، ولكنهم لا يستطيعون تقرير مصائر الشعوب وإن حاولوا ذلك. فكل بلد في العالم، سواء محكوم بالديمقراطية أو الاستبداد، لديه إمكاناته الذاتية وثرواته وقدراته التي يقاس بها بين الدول الأخرى. ومع تطور الإمكانات العسكرية أصبحت الدول تسعى لامتلاك نصيب كبير منها لضمان أمنها الخارجي في الأساس. بعض الانظمة العربية يكدّس السلاح ليضمن هيبته أمام جماهيره.
وقد أظهرت التجربة أن هذا السلاح نادرا ما يُستخدم لصدّ الاعتداءات التي تأتي من الخارج، ولكن ما أكثر استخدامه للقمع الداخلي. وتكفي الإشارة الى ما حدث في مصر في الأيام الخمسة الأولى من حرب حزيران 1967، فقد تم تدمير سلاح طيرانها بشكل كامل عندما باغتها الإسرائيليون، فحسمت الحرب بهزيمة الجانب العربي بشكل ساحق. كما استخدمت قوات سوريا لقمع انتفاضة المواطنين بمدينة حماة في العام 1982. وبعد الاجتياح الأمريكي للعراق تم تدمير ترسانته العسكرية بشكل شبه كامل، ودمّر مشروعه النووي وما لديه من مصانع أسلحة بالإضافة للطائرات والدبابات.
من هنا لا يمكن استيعاب الدعم الغربي للتغيير في سوريا بدون أخذ هذه الحقائق في الحسبان. فعلى مدى قرابة العقود الستة كانت سوريا في الخط الأمامي من المواجهة مع كيان الاحتلال. وتميّزت ماضيا وحاضرا بنزعاتها القومية التحررية، فوجد المناضلون العرب فيها ملاذا من حكامهم، واحتضنت اللاجئين من اليمن والعراق والسعودية والبحرين، ولم تضق ذرعا بما تعرّضت له من مقاطعات سياسية من الحكومات العربية أو التهديدات العسكرية الإسرائيلية. فهي مهد الثقافة القومية ومنها ظهرت النخب المثقفة قبل مائة عام لبثّ المشاعر القومية والمساهمة في غرس روح ثورية في نفوس الشباب العربي الذي شعر بالغضب تجاه القوى الاستعمارية منذ عشرينيات القرن الماضي. هذا لا يعني أن أنظمتها السياسية كانت مفعمة بالمبادئ والقيم الإنسانية، بل ما أكثر الاضطهاد الذي تعرض له السوريون بسبب انتماءاتهم السياسية وأطروحاتهم الإصلاحية. لقد كان النظام السوري قمعيّا بجدارة، ولكن بقيت له ميزة الصموده أمام التهديدات الصهيونية ورفض التطبيع مع «إسرائيل» واستمراره في دعم القضية الفلسطينية وإيواء المئات من عناصر المقاومة ضد الاحتلال، بكافة أطيافهم الأيديولوجية. ومن منطق سياسي وأيديولوجي تقارب النظام السوري مع إيران فكانت أراضيه معبرا لما كانت طهران تبعثه من سلاح لقوى المقاومة خصوصا في لبنان. لذلك لم يكن غريبا أن يتحمّس الإسرائيليون ليس لإسقاط النظام السوري فحسب، بل استباحة البلد واستهداف كافة إمكاناته العسكرية، سواء في مجال التسلح أم التصنيع.
فماذا يعني أن يتباهى الجيش الإسرائيلي باعتدائه على سوريا علنا؟ أين هي سيادة البلد؟ لماذا تنتهك علنا بلا وازع أو خشية من رد فعل دولي؟
وفي غضون يومين بعد سقوط نظام الأسد أعلن جيش الاحتلال أنه استخدم مئات الطائرات المقاتلة والقطع الجوية التابعة لسلاح الجو ليوجّه ضربة للأسلحة الأكثر استراتيجية في سوريا وعلى رأسها الطائرات المقاتلة والمروحيات القتالية، وصواريخ سكود، والطائرات المسيّرة من دون طيار وصواريخ كروز، وصواريخ ساحل بحر، وصواريخ أرض جو، وصواريخ أرض أرض والرادارات والقذائف الصاروخية وغيرها. كما استهدف قواعد للقوات الجوية السورية ومنها مطار «T4» الواقع في منطقة شمال دمشق حيث تم داخله تدمير سربين تابعين لسلاح الجو السوري، هما سرب SU-22 وسرب SU-24». واستُهدف كذلك «مطار «بلي» الذي كان يؤوي ثلاثة أسراب قتالية. وعلى بعد حوالي 1.5 كيلومتر عن هذه القاعدة، تمت كذلك مهاجمة موقع لتخزين صواريخ أرض أرض وقذائف صاروخية. كما استهدف جيش العدو مواقع إنتاج وتخزين مركزية، من بينها موقع في منطقة حمص. يعتبر الرائد في مشروع صواريخ سكود ومن أهم البنى التحتية في مركز البحوث للصناعة العسكرية.
ما يهم الكيان الإسرائيلي إبقاء الدول والمجموعات العربية منزوعة السلاح، لتبقى في حالة خوف ورعب دائمة من الانتقام الإسرائيلي. ولا يمكن استيعاب ما قامت به تل أبيب في العام الأخير من استهداف رموز المقاومة في فلسطين ولبنان إلا ضمن مشروعها لكسر شوكة من تعتقد أنهم أعداؤها. فالحرب النفسية أساس مهم في الاستراتيجية الإسرائيلية، تمارسه دائما لكي تحتفظ بالتفوق على الجانب العربي.
التغيير السياسي في سوريا كان حتميّا، ولكن يجب أن لا يؤدي لإخراج البلد من دائرة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فهذا ما تريده «إسرائيل» وداعموها، وما استباحة سوريا وتدمير قواها العسكرية إلا ضمن الخطة الهادفة لإحكام النفوذ الإسرائيلي ـ الغربي على المنطقة، وتطويعها لضمان أمن الاحتلال.
كاتب بحريني
القدس العربي
———————–
حول موقف الجولاني من الاعتداءات الإسرائيلية/ إحسان الفقيه
16 كانون الأول 2024
الذين يدورون في فلك أنظمتهم العربية مِن سياسيين وإعلاميين وعلماء دين، هم أكثر الفئات تشغيبا على الثورة السورية، ونجاح المعارضة في إسقاط نظام بشار الأسد. فهناك مخاوف من انتقال عدوى الحرية إلى الشعوب، وتأجيج تطلعاتها لإسقاط الأنظمة القمعية الجاثمة على الصدور، وقلق من اعتبار سوريا نموذجا ملهِما لتلك الشعوب.
هذه الفئات التي كانت تغض بصرها عن جرائم بشار ضد شعبه، أطلقت مع بداية معارك «ردع العدوان» تحذيراتها المحمومة للشعب السوري من مغبة الفوضى، التي سيخلفها إسقاط النظام، ونعتت مقاتلي المعارضة بأنهم إرهابيون يعملون وفق أجندات صهيونية وأمريكية وتركية لتقسيم سوريا، وحثتهم على الاصطفاف خلف بشار لمواجهة هذا الحراك الإرهابي.
وبعد أن سقط النظام، شرع هؤلاء يخوفون الشعب السوري من أن في انتظاره مستقبلا مظلما في ظل حكم الإرهابيين، وأن سيطرتهم على سوريا تعني احتلال الكيان الإسرائيلي.
هؤلاء قد هشّوا وبشّوا بعد بدء الغارات الإسرائيلية، التي طالت مواقع عسكرية وأمنية، وفرض الاحتلال سيطرته على مناطق حدودية، ودمرت غاراته الأسلحة الاستراتيجية التي كان يملكها النظام السابق لمنع وقوعها في أيدي جماعات متطرفة، وفقا لوصف وزير خارجية الاحتلال جدعون ساعر، وفي هذا إقرار صريح بأن بشار الأسد لم يكن يمثل خطورة على الكيان الإسرائيلي، خلافا لما روج أتباعه ومؤيدوه. وجد هؤلاء ضالتهم في عدم حدوث أي ردة فعل عسكرية من جانب المعارضة السورية، ردا على العدوان الإسرائيلي، واتخذوا من ذلك ذريعة للتأكيد على عمالة المعارضة للإسرائيليين والأمريكيين. بعض الغيورين وأصحاب النوايا الحسنة أيضا انتقدوا صمت القائد العام لإدارة العمليات العسكرية في سوريا أحمد الشرع (الجولاني) على الانتهاكات الإسرائيلية، واعتبروها نذير شؤم لأداء الإدارة السورية المقبلة حيال العدو الصهيوني. أهم ما جاء في تصريحات الشرع لتلفزيون سوريا مؤخرا، حول الاعتداءات الإسرائيلية: التأكيد على أنه ليس هناك مبرر للإسرائيليين في العدوان بعد خروج الإيرانيين، ودعوة المجتمع الدولي إلى التدخل وتحمل مسؤوليته تجاه هذا التصعيد، ثم التأكيد على أن الوضع المنهك الذي خلفه نظام بشار في سوريا، لا يسمح بالرد على العدوان، وأن الأولوية لإعادة البناء والاستقرار. هذه التصريحات قوبلت بتهلل أسارير أعداء الثورة، وبامتعاض من قبل مؤيديها الذين رأوا فيها سمة الضعف والانهزامية.
من ينظر في تصريحات أحمد الشرع بموضوعية، يجد نفسه أمام عقلية ناضجة حيال مراعاة متطلبات الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، والنظر الثاقب في المآلات حال الانخراط في صراع مع الكيان المحتل في تلك المرحلة الانتقالية الحرجة، التي تستلزم نقل السلطة كاملة للثورة، وصياغة دستور للبلاد وبناء مؤسسات الدولة من جديد والعمل على توفير الاحتياجات الأساسية للجماهير التي طحنتها سياسات النظام السابق.
الشرع يعلم أن الاحتلال يستغل الأحداث لفرض واقع حدودي وتدمير ترسانة الأسلحة، التي كان يمتلكها جيش بشار، حتى لا تقع بقبضة النظام المقبل، كعلمه تماما أن الرد العسكري والدخول في صراع غير متكافئ في هذه الفترة الحرجة، سوف يعيد الثورة إلى الوراء، ويدفع المدنيون ثمنه غاليا تحت وطأة القصف الهمجي على غرار ما يحدث في غزة، وما يتبعه من تأثير بالغ على الشعب، من نقص الغذاء وعودة النزوح الجماعي، الأمر الذي قد يترتب عليه تمرير مخطط التقسيم.
لقد أحسن قائد إدارة العمليات العسكرية برمي الكرة في ملعب المجتمع الدولي إزاء الاعتداءات الصهيونية ـ رغم العلم المسبق بأنه لن يتحرك ضد العدو الصهيوني – لإثبات وتسجيل الحالة، وتوجيه رسالة بأن الرجل يلجأ إلى المسارات السلمية والقانونية، لأن هذا هو المناسب في هذه الفترة الحرجة، وليس العنجهية وال«حماس» المتهور، فالأسلحة يمكن تعويضها بعد استقرار الدولة، والواقع الحدودي الذي فرضه الكيان المحتل يمكن التعاطي والتعامل معه بعد ذلك سياسيا ودبلوماسيا، بل عسكريا تحت غطاء قانوني.
ربما يعترض البعض على موقفي هذا لأنه مغاير لموقفي المؤيد لانطلاق طوفان الأقصى، فالأمر مختلف تماما، في فلسطين أنت تتحدث عن احتلال لمعظم أرجاء فلسطين، على مدى عقود، لم تفلح كل المحاولات السياسية والدبلوماسية والقانونية لإنهائه، وليس للفلسطينيين دولة ذات سيادة، رغم أن الأرض أرضهم، فمن ثم ليس هنا خيارات أمام الفلسطينيين لبناء دولتهم سوى المقاومة.
أما في الحالة السورية، فإن الإسرائيليين لا يحتلون سوى مناطق حدودية، أما الدولة فهي للسوريين، الفرصة سانحة أمامهم لإعادة البناء لأن يكون لديهم جيش واقتصاد قويان، دولة مؤسسات وحقوق لا تخضع لحكم طائفي، فالاحتلال الإسرائيلي لم يكن هو العقبة في بناء سوريا الجديدة، إنما العقبة كانت في نظام بشار الفاشي القمعي. ولكن ماذا لو غامر الجولاني ووجّه القوات للدخول في حرب مع الإسرائيليين؟ لا شك في أننا سنسمع ونرى حينها السياسيين والإعلاميين أعداء الثورة يتهكمون على ذلك المختل الذي لا يفهم في السياسة شيئا، ويقامر بالشعب السوري في مواجهة محسومة لصالح الإسرائيليين، وأن مثل هؤلاء لا يصلحون سوى لإدارة الجماعات لا الدول، بينما يتحرك أصحاب العمائم وعلماء السلطان لنقد هؤلاء الصبية المتعالمين، الذين لا يفقهون شيئا في فقه المصالح والمفاسد، ولا قراءة الواقع في ضوء قواعد الفقه والتشريع الإسلامي، ويتعجلون الجهاد دون إعداد العدة. مما يثير الدهشة، أن نظام بشار الذي كان مدعوما من حلفائه الروس والإيرانيين، ولديه ترسانة أسلحة متطورة من صواريخ وأسلحة كيميائية وغيرها، لم يوجه رصاصة واحدة تجاه العدو الصهيوني الذي يحتل الجولان، ولم تطالبه الفئات سالفة الذكر بتحرير الأرض بالدخول في حرب مع الكيان الإسرائيلي، وفي كل مرة يتعرض فيها للقصف الصهيوني، لا يزيد عن قوله: «نحتفظ بحق الرد». لكنهم اليوم يطالبون حكومة انتقالية تدير البلاد على أنقاض الخراب الذي تركه بشار، بالرد على الاعتداءات الصهيونية وتحرير الجولان، وبالقضاء على «قسد»، وطرد الروس وتفكيك قواعدهم في سوريا، والتصدي لنفوذ الأمريكيين واستيلائهم على النفط من خلال قوات سوريا الديمقراطية.
سوريا عادت للسوريين، والطريق أمام إعادة البناء طويل وشاق، والمخاوف من المستقبل قائمة، لكن لا أعتقد أن السوريين سيواجهون واقعا أكثر بشاعة من وجود نظام بشار، وعليهم أن يلتفوا وراء القيادة الجديدة أيا كانت عناصرها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
*كاتبة أردنية
القدس العربي
——————————-
سوريا في المفترق/ طوني فرنسيس
القرار (2254) لا يزال صالحاً لإنجاز انتقال البلاد من الاستبداد إلى نظام ديمقراطي جامع
الاثنين 16 ديسمبر 2024 1:01
الكلام الإيراني والنيات التركية والمشاريع الإسرائيلية تكشف جانباً من جبل التحديات التي تواجه سوريا الآن، والتي لا يمكن لشخص أو فصيل مسلح أن يتحمل وحده مسؤولية الانتقال بها من حكم الأسد إلى المشروع الوطني الديمقراطي السوري الأرحب، الذي يحفظ وحدة شعبها واستقلاله وسيادته على أرضه.
إنه شيء يشبه مناماً مريحاً، هذا الذي جرى في سوريا قبل هرب الرئيس القائد تحت جنح الظلام إلى موسكو، وخلال الأسبوع الذي أعقب ذلك الهرب.
لقد سقط الرئيس بشار الأسد ونظامه في سرعة لا يتخيلها عقل، ومعركة الأيام الـ 10 التي أنهت حكم السلالة الأسدية عاكست نظرية “المسيرة الطويلة” الصينية الضرورية لـ “الوصول إلى الحكم”، وقالت أيضاً بانتهاء عصر “الحرب الشعبية الطويلة الأمد” نحو سلطة لا “تنبع إلا من فوهة البندقية”، وكشفت الحال السورية أن قمعاً موروثاً استمر أكثر من نصف قرن لا يمكنه الاستمرار إلى الأبد مهما زرع من تدجين داخل حدوده وفي خارجها.
انتصر السوريون بالخلاص من نظام القتل والبراميل وإهانة الإنسان، ومن دول وميليشيات ناصرته، ودخلوا بسرعة وبسلاسة تُسجل إلى مرحلة انتقالية حساسة لا يمكنها، كي تنجح، سوى أن تكون نقيضاً لمبدأ القمع المستند إلى نظام طائفي ومذهبي يستند إلى نظام مصالح دولي وإقليمي، طائفي في عمقه وتجلياته، بهدف إرساء نظام نقيض يقوم على العدالة والإنسانية والمساواة.
يراقب جيران سوريا ودول العالم بدقة أفراح ومخاوف السوريين، مثلما يتابع السوريون فرداً فرداً وحارة حارة، خصوصاً أصحاب الرأي منهم في الداخل والمنافي، تطورات بلادهم، وهم الذين دفعوا أثماناً غالية في مواجهة زنازين الأسد وأساليب حكمه المعادية لأبسط حقوق البشر، وتزداد القناعة لديهم ولدى الحريصين على سوريا أن مستقبل البلد في أيدي السوريين أنفسهم إذا أحسنوا التصرف، وأن هذا المستقبل سيبقى مهدداً لو رضخوا للحسابات الإقليمية والدولية التي رعت مرحلة الاقتتال والانقسام التي سادت منذ أكثر من 10 أعوام.
على السوريين مجتمعين تقع مهمة صياغة النظام الجديد الذي يجمعهم، نظام يقوم على نقض نهج وأساليب النظام السابق، يستعيد وحدة الدولة السورية ذات السيادة على أساس دستور جديد يقوم على المواطنية، ويتيح تداولاً للسلطة في انتخابات حرة.
سوريا تستحق استقراراً بعد عقود من الانقلابات العسكرية وتجربة نصف قرن من الاستبداد قضت على بدايات تجربة ديمقراطية ترعرعت منذ أيام الانتداب والاستقلال قبل أن تنهيها طموحات العسكرة وعبادة الأشخاص، وقبل الاستقلال وتحت الاحتلال الفرنسي تمكن فوزي الغزي وهاشم الأتاسي ونخبة من السوريين من وضع الدستور السوري الأول عام 1928، أيام النفي في جرود لبنان (دوما البترون)، والآن أيضاً سيمكن ويجب على النخب السورية أن تنجز ذلك الأمر، ووضع دستور جديد يأخذ بعين الاعتبار واقع الشعب السوري وتحولات قرن عابق بالتجارب المريرة.
الدستور مسألة أساس في سوريا الجديدة، بسبب الانقسامات القائمة وتعدد فصائل مناهضي النظام البائد، وتوزع الأرض بين مناطق نفوذ واحتلال، ولم يكن صدفة أن تتبنى الأمم المتحدة أولوية إنجاز صياغة الدستور المفترض وتتابعها على مدى أعوام إلى أن أفشلها الأسد، فهذه العملية جزء أساس من القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي رقم (2254) الذي يرسم خريطة طريق للتسوية في سوريا.
ولم يسقط هذا القرار بسقوط أحد طرفيه، بل هو الآن بمثابة مرجعية قانونية دولية يمكن للسوريين الاستناد إليه لإعادة بناء مؤسساتهم ودولتهم وضمان الدعم الدولي لثورتهم وبلادهم، وهو في صلب المداولات العربية والأوروبية والدولية الدائرة بنشاط حول التطورات في سوريا،
——————————
هل ستتخلى أميركا عن حليفتها “قسد” بعد تغير الخريطة في سوريا؟/ طارق الشامي
التهديد بالعودة المحتملة لـ”داعش” سيكون أكبر من أن يتحمله ترمب
الاثنين 16 ديسمبر 2024 14:45
ربما يتعين على الإدارة الأميركية أن تراقب “هيئة تحرير الشام” التي قد تحاول الاستيلاء على ممتلكات “قوات سوريا الديمقراطية” إذا شعرت بالضعف، وهو السيناريو الذي من شأنه أن يعرض القتال ضد “داعش” للخطر.
مع إعلان أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) قائد العمليات العسكرية في سوريا وزعيم “هيئة تحرير الشام” عزمه على حل جميع الفصائل العسكرية في سوريا، واعتراف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن الولايات المتحدة أجرت اتصالات مباشرة مع الهيئة، وتصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بضرورة التخلص من وحدات “حماية الشعب الكردية” التي تعد عصب “قوات سوريا الديمقراطية” “قسد”، يبدو مستقبل “قسد” على المحك، فما الذي يمكن لإدارة الرئيس جو بايدن أن تفعله وما توجهات إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب إزاء “قسد”؟ وهل ترتبط علاقة واشنطن مع “قسد” بوجود القوات الأميركية في سوريا من أجل مواجهة “داعش”؟ أم ستترك الولايات المتحدة مواجهة “داعش” للسلطة الجديدة في دمشق؟
“قسد” في أزمة
في وقت تسعى فيه الحكومة الموقتة التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” إلى إعادة تنظيم الجيش العربي السوري ووزارة الدفاع لدعم المصالحة مع عناصر النظام السابق، مع اتخاذ خطوات نحو حل جميع الفصائل المسلحة في سوريا، تواجه “قوات سوريا الديمقراطية” المعروفة اختصاراً باسم “قسد” تحديات جديدة تضاعف من أزمتها الحالية التي تكشفت بعد انهيار نظام الرئيس بشار الأسد.
فبينما يحاول قائد “قسد” مظلوم عبدي الحفاظ على القاعدة الكردية لقواته وتوحيدها في شمال شرقي سوريا لمعالجة التهديدات التي تواجه المجتمع الكردي، بدأت المجتمعات العربية في دير الزور والرقة في الانشقاق عن “قسد” والدعوة إلى إنهاء حكمها في المناطق العربية، مما يعني أن التحالف الكردي – العربي الهش الذي ساعدت الولايات المتحدة في تأسيسه قبل سنوات يوشك على التفكك إن لم يكن عقده قد انفرط بالفعل.
التهديد التركي
لكن أخطر ما يهدد “قسد” هو التهديد التركي المتكرر بتدمير “قوات سوريا الديمقراطية”، إذ كرر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان تعهدات بلاده بالقضاء على “قوات سوريا الديمقراطية” و”حزب العمال الكردستاني” و”وحدات حماية الشعب” التي تعدها أنقرة شيئاً واحداً بتسميات مختلفة وتصنفها كإرهابية، مما يعني أن أي وقف لإطلاق النار بين “قسد” والجماعات المدعومة من تركيا وعلى رأسها الجيش الوطني السوري سيكون موقتاً على رغم إعلان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في زيارته الأخيرة لأنقرة أن هناك توافقاً على وقف القتال ضد “قسد”.
ومع ذلك، من غير الواضح متى ستستأنف العمليات الواسعة النطاق ضد “قسد”، وهو ما تراقبه واشنطن بقلق كبير، في ظل انتشار أنباء عن إعدام المقاتلين المدعومين من تركيا مقاتلين مصابين من “قوات سوريا الديمقراطية” في المستشفيات في شمال سوريا، ونهبهم مناطق مدنية في منبج، مما يهدد بإشعال فتيل العنف بدوافع عرقية وإزعاج الاستقرار النسبي الحالي في سوريا، بخاصة إذا دخل المقاتلون المدعومون من تركيا المناطق الكردية وبدأوا في قتل المدنيين الأكراد بحسب ما أشار إليه معهد دراسة الحرب الأميركي في واشنطن.
تأثير الانسحاب الروسي
وما يزيد من أزمة “قسد” احتمال أن يؤدي انسحاب روسيا الأخير من قواعدها في شمال سوريا وخسارتها نفوذها في سوريا إلى تعريض “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة لاستمرار الهجمات التركية في شمال سوريا، إذ انسحبت روسيا من سلسلة من القواعد في منطقتي منبج وكوباني في شمال سوريا وسط الهجوم المستمر الذي تدعمه تركيا ضد قوات “قسد”.
ومن المرجح بصورة كبيرة أن تنسحب روسيا من آخر قاعدة كبيرة لها في القامشلي بشمال سوريا، لأن تركيا والمجموعات التابعة لها على الأرض بما في ذلك “هيئة تحرير الشام” والجيش الوطني السوري لا يبدو أنها مستعدة للسماح لروسيا بالبقاء هناك، فوفقاً لبعض التقارير وافقت جهات غير محددة على السماح لروسيا بالبقاء في طرطوس وحميميم لكنها لم تذكر القامشلي، كما عرض وزير الدفاع التركي دعم توطيد استمرار روسيا في حميميم وطرطوس، مما يشير إلى أن تركيا لن تدعم وجود قواعد روسية أخرى في أنحاء شمال سوريا، مما مكن موسكو في السابق من معارضة ومنع الهجمات المدعومة من تركيا في تل رفعت ومنبج، وهما منطقتان سيطرت عليهما القوات المدعومة من تركيا في الأيام الأخيرة.
وتشير خسارة وجود روسيا المادي ونفوذها في شمال سوريا إلى أن الحاجز الأساس الذي كان يمنع في الماضي أي عملية تركية أو مدعومة من الأتراك للاستيلاء على مزيد من المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، أو محاولة القوات التركية مباشرة تدمير “قوات سوريا الديمقراطية” بصورة مباشرة، لم يعد موجوداً.
مخاوف أميركية
وبالنسبة إلى الأميركيين فإن قتال “قسد” ضد تركيا ووكلائها سيجعلها غير قادرة على دعم أهداف السياسة الأميركية في سوريا، إذ تنظر واشنطن إلى “قسد” باعتبارها الشريك الرئيس للولايات المتحدة في سوريا ضد “داعش”، وأنها وحدها قادرة على تنفيذ عمليات فعالة ضده في المناطق التي تسيطر عليها، نظراً إلى أن “هيئة تحرير الشام” والجماعات الأخرى منشغلة حالياً بتأمين المناطق الخاضعة لسيطرتها حديثاً.
كما تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” على مخيم “الهول” للنازحين وشبكة من السجون التي تضم الآلاف من أنصار “داعش” ومقاتليها، وتخشى الولايات المتحدة أن يؤدي اندلاع القتال العنيف بين تركيا وحلفائها ضد “قسد”، بما في ذلك التهديد بالقتل بدوافع عرقية، إلى دفع “قسد” إلى حشد قواتها ضد الجماعات المدعومة من تركيا، ولن تستطيع في هذا الوضع تنفيذ عمليات هجومية ضد “داعش”، كما أنه من غير الواضح ما إذا كانت ستكون قادرة على تأمين المرافق الرئيسة إذا واجهت تهديداً خطراً من القوات المدعومة من تركيا للمناطق المدنية الكردية.
تعقيدات ومصالح
وعلى عكس “هيئة تحرير الشام” التي يبدو أنها تحاول تجنب الصراع مع “قوات سوريا الديمقراطية”، يظل الجيش الوطني السوري معادياً للوجود العسكري الكردي، لكن في حين يبدو للبعض أن الفوضى وتعقيد الموقف قد يدفعان البعض إلى الاعتقاد أن الولايات المتحدة يجب أن تظل غير منخرطة، إلا أن إدارة جو بايدن الحالية تعتقد أن القيام بذلك سيكون خطأً مكلفاً، على اعتبار أن مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة ستخدم بصورة فضلى إذا اتخذت واشنطن دوراً استباقياً في مساعدة قوات المعارضة السورية المنقسمة على الانتقال إلى حكم سلمي وشامل، وهو ما تأكد خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى المنطقة وتأكيده عقب لقاء عدد من وزراء الخارجية العرب ووزير الخارجية التركي أن هناك اتفاقاً على مطالب واشنطن بحكومة انتقالية شاملة تمثل كل التيارات والطوائف والأعراق في سوريا، ولا تسمح بجعل سوريا موطناً للإرهاب أو تهدد جيرانها، وأن تُدمر الأسلحة الكيماوية للنظام السابق إن عثر عليها.
وربما ترى واشنطن أنه ينبغي على جماعات المعارضة المتعددة في سوريا، وبخاصة “هيئة تحرير الشام”، والجيش الوطني السوري، و”قوات سوريا الديمقراطية”، أن تتحد لتشكيل حكومة سورية جديدة، وهو ما أشار إليه مظلوم عبدي قائد “قسد” وغيره من كبار المسؤولين في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي تسيطر عليها “قسد” عن استعدادهم للتفاوض على دور في الحكومة السورية، ومن دون ذلك، سيكون من السهل اندلاع جولة جديدة من القتال، وبخاصة بين الجيش الوطني السوري و”قوات سوريا الديمقراطية”.
وفي ضوء التصريحات العلنية لقادة “هيئة تحرير الشام” في شأن الإدماج، تتجه الولايات المتحدة إلى جعل شطب الهيئة من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية مشروطاً بتلبيتها هذه الشروط والتزامها، وإذا لم تفعل ذلك فيمكن إعادة إدراج الهيئة مرة أخرى في قائمة المنظمات الإرهابية وربما يتم استهدافها بالقوة، بموجب تفويض الكونغرس لعام 2001 لاستخدام القوة العسكرية الأميركية.
هل تقبل الهيئة “قسد”؟
تركت التطورات المستمرة التي تحرزها “هيئة تحرير الشام” حدوداً طويلة تتقاسمها مع قوات “قسد”، ونظراً إلى هدف الجولاني المتمثل في إقامة سوريا موحدة في ظل تفسير الهيئة للشريعة الإسلامية، فمن غير المرجح أن تقبل “هيئة تحرير الشام” استمرار وجود “قوات سوريا الديمقراطية” العلمانية، في الأقل ليس ككيان مساو يتمتع بالحكم الذاتي بالكامل.
حتى الآن أبدت الهيئة ضبط النفس تجاه الأكراد، مؤكدة أنهم جزء لا يتجزأ من المجتمع السوري وفتحت الباب أمام التوصل إلى تسوية تفاوضية، ومع ذلك، يتوقع الباحث المتخصص في مكافحة الإرهاب بمعهد “واشنطن” لسياسة الشرق الأدنى إيدو ليفي صعوبة أن توقع الهيئة اتفاقاً لا يحل “قوات سوريا الديمقراطية” أو ينزلها إلى وضع تابع، وأنه في غياب التسوية، قد ينفجر الصراع المسلح، بخاصة أن “هيئة تحرير الشام” قد تشعر بضغوط إضافية للتوسع في الأراضي التي تسيطر عليها “قسد” إذا استمر الجيش الوطني السوري في اكتساب الأرض، وهو ما قد يؤدي إلى إشعال شرارة صراع على الأراضي في الشمال الشرقي للبلاد.
تحد عسكري
وفي هذا السيناريو قد تشكل “هيئة تحرير الشام” تحدياً عسكرياً خطراً لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، بعدما استثمرت الهيئة بصورة كبيرة في تحسين قدراتها العسكرية على مدى السنوات القليلة الماضية، وأظهرت احترافاً متزايداً وتكتيكات مبتكرة أثناء هجومها ضد قوات الرئيس بشار الأسد، بما في ذلك الاستخدام الماهر لطائرات “الدرون” في القيادة والسيطرة والمراقبة والاستهداف والهجمات المضادة للدروع، وهو أمر لم يواجه الأكراد مثله منذ حرب 2014-2019 ضد “داعش”، ولولا تدخل الولايات المتحدة في كوباني قبل عقد من الزمان لكانت قوات “قسد” قد دمرت تماماً.
————————
مرحلة ما بعد “الأسد”.. ما هي التحديات الكبرى التي تواجه الإدارة السورية الجديدة؟/ فراس فحام
2024.12.16
تشهد سوريا أجواء من السعادة والتفاؤل بعد هروب بشار الأسد إلى موسكو قبل نحو أسبوع، حيث تزايدت الآمال بتحسن الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تفاقمت خلال فترة حكمه، بما في ذلك قمع الحريات، والانهيار الاقتصادي، وتقسيم السيطرة بين القوى المختلفة. أدى ذلك إلى انقطاع التواصل بين نحو خمسة ملايين سوري يقطنون الشمال مع ذويهم في باقي المحافظات، إضافة إلى منع ملايين اللاجئين من العودة خوفاً من الانتقام الأمني.
شرعية السلطة
أعلنت هيئة تحرير الشام التي قادت عملية “ردع العدوان” عن تشكيل حكومة انتقالية تستمر حتى نهاية الثلث الأول من عام 2025، مع إقرار قرارات إستراتيجية تشمل إعادة هيكلة الجيش وتأسيس أجهزة أمنية جديدة ورفع رواتب الموظفين.
في المقابل، دعت المعارضة السورية الرسمية، ممثلة بهيئة التفاوض المنبثقة عن الائتلاف السوري المعارض، إلى إطلاق حوار مع دمشق لوضع دستور جديد وبناء دولة المواطنة لكل السوريين، متوافقة مع مخرجات مؤتمر العقبة الذي عقد منتصف ديسمبر الجاري ودعا إلى انتقال سلمي وفق قرار مجلس الأمن 2254.
زار المبعوث الأممي غير بيدرسون دمشق والتقى أحمد الشرع، قائد الإدارة الجديدة، لمناقشة تنفيذ القرار الأممي. طالب الشرع بتعديل القرار نظراً لتغير الظروف بعد سقوط نظام الأسد. تظهر أزمة الشرعية كأحد أبرز التحديات في حال استمرار الإدارة الانتقالية لفترة أطول دون توافق وطني ودولي واسع.
استعادة موارد الدولة السورية
رغم استعادة السيطرة على مناطق استراتيجية مثل تل رفعت ومنبج ودير الزور، لا تزال حقول النفط الرئيسية كحقل العمر والتنك تحت سيطرة تنظيم قسد. كانت الطاقة الإنتاجية لحقول النفط السورية تتجاوز 300 ألف برميل يومياً قبل عام 2011، مما يجعل استعادتها أولوية قصوى لإعادة الإعمار ودفع عجلة الاقتصاد.
يتطلب حل هذه المعضلة إنهاء سيطرة قسد وإيجاد صيغة لإشراك المكون الكردي في العملية السياسية. لكن استمرار الوجود الأمريكي في شمال شرق سوريا يعيق الحسم العسكري والسياسي، مما يعقّد إدارة الموارد الوطنية ويجعل الإدارة الانتقالية تعتمد على المساعدات الدولية.
ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” في 15 ديسمبر عن تحركات إماراتية وأردنية ولبنانية تعارض “هيمنة الإسلاميين على الحكومة الانتقالية”، وهو ما يتسق مع مخرجات مؤتمر العقبة التي رآها سياسيون سوريون خطوة نحو فرض وصاية دولية على سوريا.
إسرائيل أبدت قلقها من الوضع الجديد، حيث دعا وزير خارجيتها جدعون ساعر إلى دعم الأقليات وإنشاء حكم فيدرالي في سوريا، كما شن الجيش الإسرائيلي حملة جوية واسعة استهدفت مخازن الأسلحة السورية لمنع القوى الجديدة من السيطرة عليها.
من المتوقع أن تزداد حالة الاستقطاب الإقليمي والدولي حول سوريا، في ظل تنسيق تركي-سعودي-قطري داعم للتغيير، مما قد يعيد سيناريو الصراع المطول الذي شهدته ليبيا بعد سقوط القذافي.
فوضى السلاح
لا يزال السلاح منتشراً بشكل كبير في سوريا، خاصة في مناطق الساحل والعاصمة دمشق التي كانت معقلاً لضباط الجيش والأمن في عهد الأسد. التزم العديد من هؤلاء الضباط منازلهم محتفظين بكميات من الأسلحة.
أطلقت الإدارة الجديدة عملية “التسوية” لضمان تسليم السلاح وتسوية أوضاع المسلحين، لكن لا يبدو أن هناك تجاوباً واسعاً قبل التوصل إلى حل سياسي شامل يحقق توافقاً وطنياً حقيقياً.
تلفزيون سوريا
——————————————
رسامون سوريون رافقوا المآسي في سجون الداخل والمنفى/ مهى سلطان
الفن التشكيلي شاهد على تشويه صورة الانسان وعلى وحشية الجلادين
الاثنين 16 ديسمبر 2024
مع السقوط المدوي للنظام الأسدي في سوريا تتجه أنظار العالم للكشف عن مصير المفقودين في سراديب السجون، وتتصدر المشهدية العالمية مشاهد التعذيب وجرائم ضد الانسانية ارتكبها النظام بحق المدنيين من مختلف الجنسيات. والفنانون الذين بحثوا في أماكن اللجوء وفي المنافي والشتات عن سوريا التي كانت ضائعة وأسيرة في عتمة الزنزانات والمعتقلات والسجون، ووثقوا صراخها وأوجاعها طوال فترة الحرب وما قبلها، أصبح بإمكانهم أن يرفعوا الصوت ويكشفوا فضائح النظام الذي ارتكب بحق أبناء سوريا أبشع الجرائم. فإلى أي حد استطاع الفن التشكيلي السوري أن يعكس الصورة القاسية للعذابات المرتبطة بثيمة الجسد وتشويهه، خصوصاً وأن فنانين كثراً قضوا نحبهم جراء التعذيب في سجون النظام بسبب استخدامهم للفن كأدوات للمعارضة..
في كتاب “معتقلون ومغيبون: الفن يوثق والأرشيف يتحدث” الصادر حديثاً عن دار رياض الريس (478 صفحة) والعاملين على تجميعه وتوثيقه، بالتعاون مع مجموعة من المؤسسات الداعمة، نصوص وجداول بأسماء مخطوفين ومعتقلين وصور ووثائق من تجارب فنانين معاصرين ورسامي كاريكاتور وكتاب وشعراء وفنانين وسينمائيين وفناني فيديو وشهادات ناجين، تعكس الصورة الحية ليوميات المثقفين السوريين قبل الحرب وخلالها، في “شتاء طويل” من بكاء العيون، كما يصفه الشاعر السوري المعتقل سابقاً في سجن صيدنايا مفيد نجم.
يطرح الكتاب في مقدمته مفهوم السجن بصفته منظومة عنيفة، واعتباره كائناً حياً لأنه في تطور مستمر وتوسع، أما بذرة هذا الكائن فهي تعود للعام 1949 وما حملته فترة الخمسينيات من تغييرات أدت إلى انهيار قيم الاستقلال مع صعود الأحزاب الأيديولوجية المخابراتية التي أدت إلى وصول حزب البعث العربي الاشتراكي لسدة الحكم.
عمران يونس- يوميات الموت السوري- رسم بقلم رصاص وأقلام ملونة- 2013- من كتاب التدميرية تشكيلياً.png
لوحة للرسام السوري عمران يونس ( من كتاب “التدميرية تشكيلياً” )
وُلد السجن كائناً حياً مع الأسد الأب (من عام 1970 حتى عام 2000) واستمرت مع بشار الابن منذ ذلك التاريخ حتى أضحت سوريا سجناً كبيراً، إذ يحمل هذا النموذج مجموعة من الصفات والعوامل المساعدة في استمراره، وأبرزها حضور السجن في الجسد الفيزيائي والجغرافي أمام السوريين، أي مرحلة “سجن الأبد” أو “الإبادة” كهوية أو كأداة قهرية ضد المجتمع السوري بحواضنه المعارضة، ووسيلة الحكم بالقهر والخوف، إذ إن الحضور الكبير للسجن يظل ماثلاً في أجساد المدن والقرى السورية، وكذلك في أجساد المعتقلين السابقين التي تحتفظ بآثار التعذيب والتشويه.
إنه أرخبيل السجن العملاق الذي يرعاه النظام بأدواته ومخابراته العسكرية وأجهزته الأمنية وقواته المسلحة التي ارتكبت منذ السبعينيات أبشع جرائم القتل الجماعية من دون عقاب، في مرحلة ما قبل عدسات التصوير والبث عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي حولت المساحات العامة في المدن السورية إلى أماكن لتعذيب المعتقلين أو لدفن القتلى جماعياً، مثل الحديقة العامة في حلب وتحت أشهر الفنادق في حماه والوادي الأحمر في تدمر وغيرها كثير.
thumbnail_من محترف النحات خالد ضوا- زعيم البراميل -صفحة الفنان.jpg
“زعيم البراميل ” للنحات (صفحة الفنان – فيسبوك)
طوال 50 عاماً وسردية السجن تولد كموجات متجددة مع كل عفو رئاسي أو حملة اعتقالات تتجدد فيها موجة الحكايات المروعة عن جحيم تدمر أو صيدنايا، وهي الأضخم بين المؤلفات في عناوينها وأحداثها، إذ إنه لا يمكن اعتبارها سردية تخص الضحايا وتجاربهم الذاتية وحسب، ولكنها سردية الجلادين وعلاقتهم بضحاياهم الذين نالوا فرصة تسجيل هذه التجربة ونشرها.
ولم يمنع ذلك السوريين من التحرك ضد السجن وضد النظام، بدءاً من أطفال درعا الذين كانوا أول من طاولتهم حملة الاعتقالات التي رسمت ملامح الثورة والاحتجاجات عام 2011، والاعتقالات لشعراء وكتاب وممثلين معروفين ومثقفين وصحافيين عرب وأجانب، ومخرجين سينمائيين وفنانين تشكيليين، بينهم الرسام نجاح البقاعي وبعض رسامي الغرافيت وأبرزهم أحمد الخانجي ونور حاتم زهرا. كما ظهرت أعمال إبداعية تضامناً مع الحراك الشعبي في سوريا لفنانين من أمثال النحات خالد ضوا فضلاً عن المصورين الفوتوغرافيين جابر العظمة وشادي ابو كرم وريما بدوي، ورسامي الكاريكاتور وبينهم ياسر أبو حامد وكاميران شمدين، ويُذكر أنه في الـ 13 من أغسطس (آب) 2018، أفردت صيحفة “ليبراسيون الفرنسية” في تقرير حمل عنوان “دمشق: بيروقراطية الموت” خمس صفحات كاملة للوحات أنجزها الفنان والمعتقل السابق نجاح البقاعي بعد نجاته من الاعتقال، عكس فيها ويلات الاعتقال وأساليب التعذيب والقتل والوحشية في أقبية السجون السورية الشبيهة بالمسالخ البشرية.
من تجارب المعتقل
شكلت تجربة الاعتقال والموت من التعذيب وقهر السجون ومآسي أهالي المعتقلين والمخفيين والسجناء أبرز الثيمات التعبيرية التي ميزت رسوم يوسف عبدلكي بطابعها المأتمي والتذكاري، والموصوفة بتراجيديا إنسانية معاصرة، ولا سيما وأن الفنان ذاق مرارة الاعتقال أكثر من مرة.
وعلى غرار مأساوية عبدلكي يذهب عمران يونس إلى المشهدية الجنائزية في تجسيد الهلع والموت وأشكال مقابر الأطفال التي تنبح فوقها الكلاب، مع تفاقم موجات التدمير وارتفاع وتيرة المجازر، خصوصاً امام صعوبة إقامة الحداد بسبب اختفاء الجثث، ومع تفاقم الكوارث على سوريا في ضلوع تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) بارتكاب جرائم ضد الانسانية، استمر النظام الأسدي بحملات الاعتقال والخطف وقتل الصحافيين واعتقال الفنانين من رسامين ونحاتين ورسامي كاريكاتور، فمنهم من قضى نحبه تحت التعذيب مثل وائل قسطون ومحمد خضر طليمات وفادي عبدالله مراد وأكرم رسلان، ومنهم من أفرج عنه، ومنهم من لا يزال مصيره مجهولاً، فقد سجل عام 2014 اعتقال المخرج السينمائي محمد ملص والفنانة التشكيلية عتاب الحمود اللذين أفرج عنهما لاحقاً، وقد بلغ أعمال “أرشيف ذاكرة إبداعية” الموثقة ضمن مشروع معتقلون ومغيبون لعام 2016 قرابة 144 عملاً، من بينها سرديات حول وقائع المعتقلات وشهادات عن اغتصاب النساء في سجون “داعش” وسجون النظام السوري، وكثير من الأفلام والفيديو التي أنجزتها فنانات سوريات مثل ديمة نشاوي وميريام سلامة ولينا شقير، فشكلت نافذة على عذابات السوريات في سجون الأسد، مع التنويه بفيلم “العنف الجنسي بقوة السلاح” لمؤسسة دولتي، وفيلم “عيوني” للمخرجة ياسمين فضة.
تطول قافلة الفنانين الذين عمدوا إلى إخفاء هوياتهم الحقيقية عند المجاهرة بالجرائم، خصوصاً في مجال تصوير أفلام الفيديو أو الأعمال التسجيلية لشهادات الناجين الذين غالباً ما تكون مرتجلة وبلا مونتاج حفاظاً على صدقيتها، عدا عن الملصقات والصور والافلام المتداولة على صفحات “فيسبوك” والصور المنشورة على المنصات التي أنشأها الناشطون وأهالي المفقودين.
thumbnail_الفنانة عزة أبو ربعية- ثورتنا على جزمة حاكمنا- رسم أسود وأبيض.jpg
لوحة للرسامة عزة أبو ربعية (صفحة الرسامة – فيسبوك) .
ونتوقف عند تجربة ميريام سلامة وتنصيباتها النحتية عن عذابات النساء في السجون عبر عملها التجهيزي “الداخل مفقود والخارج مولود”، وكذلك أعمال عبير وابراهيم فرهود وملصقات يارا النجم عن سجن تدمر، ولوحات هشام مروان والوجوه المشوهة التي رسمها أسعد فرزات، ورسوم بشار العيسى التي تستحضر ذاكرة العنف والمحرقة، ناهيك عن مظاهر المجون والتهتك في أعمال غيلان الصفدي بطابعها الرمزي، والصور المأتمية لنساء في الحرب في لوحات خالد تكريتي، وغياب الديموقراطية وسلب الإرادة في أعمال عبدالكريم مجدل بك.
الجسد بين العدمي والمطلق
إنه الجسد ومراياه المكسورة وهو يبزغ مفككاً مكلوماً ومبعثراً وممزقاً، لا يكف عن غزو الواقع والمخيلة، إنها أيضاً المرآة المخضبة بالدم في مواجهة السطح الطافح بالقلق حين لا تصدق العيون ما تراه، وحين تصبح الصورة شاهدة وشهيدة ومستعصية على الإدراك، وحين لا تعود الجثة تشبه نفسها من شدة الغرابة، وقد تكون الغرابة الجثثية أيضاً من غرابة الصورة، ففي كتاب “صور من لحم ودم: الجسد في الواقع السوري 2011 – 2021″، شواهد فنية تندرج ضمن أبواب الجسد المعذب والمتشظي والمقتول، متمثلة في رسوم أو صور ضوئية أو رقيمة، نذكر من بينها صور جابر العظمة “جنة جنة”.
فرضت اللقطة المشهدية نفسها كقانون ضمني لكتابة الحقيقة من خلال الصورة الرقمية التي لجأ إليها عدد كبير من الفنانين، وفي هذا السياق نسلط الضوء على الصورة الرقمية للفنان عمران وفي التي جسدت ما يمكن تسميته بـ “البورتريه التدميرية”، وهي عبارة عن تمثال نصفي لرأس بشار الأسد، مكونة من حطام أبنية ومنازل مهدمة تحيل جميعها إلى ملامحه من موقع اتهامي، فوجه الطاغية يجسد الحطام بصفته ممثلاً لسوريا الحديثة. أما الرسام محمد عمران المقيم في فرنسا فقد اتجهت أعماله نحو التورية في الاتهام والسخرية والتشويه الـ “غروتسكي” (الشيطاني) ولا سيما حين يستبدل الاعضاء الانسانية بآلات القتل، ومن أبرز أعماله رسم بعنوان “عالم الرجال”، وهو عبارة عن تكاوين لأجساد تبدو متناسخة لرجال كأنهم مجرمين وقتلة.
وتشكل صورة السلطة أهم المواضيع التي اشتغل عليها النحات خالد ضوا الذي عاش تجربة الاعتقال في سجن النظام قبل أن يستقر في فرنسا، إذ اكتشف مأساة الجسد العدمي رفقة الجثث حتى بات يشعر بأنه جثة حية، فتتقاطع حالات الجسد عند خالد ضوا خصوصاً في منهجي التدمير مع ما سماه سيغموند فرويد “نزعة الموت”، وتهجس منحوتاته المصنوعة غالباً من الصلصال بأجساد بدينة وقبيحة محكومة بقانون الخمول في وجه دينامية معاكسة هي الثورة، وتظهر التدميرية بشكل جلي حين يهدم أجساده المنحوتة بكسر أطرافها وحَفر ثقوب فيها كما يظهر في سلسلة: “هشاشة” و”عرشك نعشكَ” و”ملك البراميل” و”زعيم الكلاب”، إشارة إلى بشار الذي يستخدم البراميل المتفجرة لقصف السوريين ويحشد كلابه لترويعهم. والمفارقة أن شخصية المستبد الأثيرة في أعمال ضوا ليست مصنوعة من مواد معمرة كما جرت العادة من الرخام، بل من الطين، وهي مادة هشة لا تعمر طويلاً.
يتخطى جسد الأنثى مفاهيم التحريم والمحاذير ويتعداها إلى مسائل وجودية وأخرى متعلقة بالهوية والانتماء في تجارب بعض فنانات سوريا المعاصرات، ومن بينهن تجربة نور عسلية التي خاضت في جسد الأنثى ككيان فني ارتبط بالهشاشة، ولا سيما مع العمل التركيبي الذي حمل عنوان “رسالة من فرجينيا وولف”، وهو منبثق من تجربتها الشخصية في منفاها الباريسي وعلاقتها بهشاشة البنية الأدبية في رسالة الكاتبة البريطانية قبيل انتحارها، فقد وضعت الفنانة داخل صندوق خشبي منحوتات لرؤوس وأيد بشرية مقطعة وملفوفة بقماش، تشير إلى الإغماضة الجماعية لوجوه الموتى بين الخلود والفناء.
وفي وصف استثنائي متحرر من شوائب التحفظ تطرح ليلة مريود عبر المنتج الفوتوغرافي العلاقة الحسية لجسد المرأة مع محيطها في ثنائية الوجود والمظهر، من خلال نساء مع ضمادات وسجينات القناع الاجتماعي وسجينات الصمت والآلام، أما مجموعة “المسلخ” لهبة الأنصاري فهي تعكس العلاقة التبادلية بين الجسد الحي والجسد الميت، بحضور جسد الفنانة مباشرة داخل الصورة الفوتوغرافية وهي تتعامل مع الأشلاء الإنسانية.
وتبدو تجربة الفنانة عزة أبو ربعية مميزة في تأكيد رغبتها في الحياة، فتدعونا دُميتها المتبسمة التي صنعتها في السجن من خيوط بطانيتها البالية إلى التفكير بالدينامية التي يمثلها فعل مقاومة العنف، أما معركتها مع الأسود والأبيض فهي رسومها التي أنجزتها للتذكير بتجربة الاعتقال والخوف والترهيب والاستجواب بعد خروجها إلى الحرية.
——————————
شعراء سوريون واجهوا السلطة وعانوا الاضطهاد والنفي/ شريف الشافعي
قصائد جديدة إنسانية النزعة مشحونة بالمآسي والشوق إلى الحرية والحب
الأحد 15 ديسمبر 2024
مسارات متنوعة للشعر السوري الجديد، حفرها شعراء من أجيال مختلفة، داخل سوريا وفي المنفى، منذ اندلاع الثورة عام 2011، حتى سقوط نظام الأسد اخيرا. وعلى اختلاف هؤلاء الشعراء في أساليبهم ومعالجاتهم، فإنهم قدموا معاً في منجزاتهم الفردية المستقلة، وعبر تشكلاتهم وتجمعاتهم غير الرسمية، تجارب إبداعية، ذات اهتمامات مشتركة وملامح خاصة في التعبير واللغة.
تأتي حركة الشعر السوري الجديد المواكبة للثورة بمثابة متنفس مغاير، متحررة من ربقة السلطة على المستويات كافة، في رؤاها وتوجهاتها وصيغها ومضمونها المناوئ للسياسات الحاكمة، وفي انعتاق شعرائها أيضاً بطبيعة الحال، من النشر المؤسسي في الاتحادات والهيئات الرسمية التابعة للدولة. فهم ينشرون أعمالهم في الدور الخاصة غير الحكومية، أو خارج البلاد، ويديرون أنشطتهم بصورة ذاتية أو من خلال الكيانات والتكتلات البديلة، مثل اتحاد الكتاب والأدباء السوريين الأحرار، ورابطة الكتاب السوريين، والمواقع والصفحات الإلكترونية الكثيرة التي تشكل واقعاً موازياً.
على مدى 13 عاماً تعانقت إسهامات شعراء الداخل السوري، والخارج/ المنفى، لتنتج منظومة إبداعية تتعاطى بجسارة، مع الحراك الأرضي ومستجدات الواقع، وتتقصى مواقف السوريين من بلادهم وأنفسهم، ونظرة العالم إليهم. وتأتي قصائد هؤلاء الشعراء، قريبة من قضيتها وأناسها وبيئتها التي تنبع منها، فهي جوقة أنفاس ملتهبة، مشحونة بمآسي الحرب والقتل والسجن والتهجير والتشريد، وممسوسة بالتعطش إلى الحرية والحب والعيش الكريم. وهي، في الوقت نفسه، ذات نزعة إنسانية وفلسفية عميقة، إذ توسع مفهوم الجرح المحلي لتجعله شأناً عاماً، يخص كل مكان وزمان. هنا استطلاع لآراء مجموعة من الشعراء السوريين الذين رافقوا الثورة وكتبوا من قلبها وفي صميمها.
نوري الجراح: تخليد الطرواديين العصريين
“ما من مخلوق رأى حزن الشجرة، إلا وحمل النار بعيداً عن الغابة/ لكن مسوخاً ولدتهم أمهاتهم في جرار سوداء/ نزلوا إلى المدن، وأضرموا النار في الأسرة”. هي الحرائق الملعونة في دمشق، التي تستهدف البشر والنهر والنهار والأشجار، إذ “لا حرب في طروادة”، بحد عنوان مجموعة الشاعر نوري الجراح، المقيم في لندن.
دواوين نوري الجراح الصادرة بعد 2011، ومنها “يوم قابيل والأيام السبعة” و”يأس نوح” و”قارب إلى ليسبوس” و”نهر على صليب” و”لا حرب في طروادة” و”فتيان دمشقيون في نزهة”، تستوعب ليس فقط المشاهد المباشرة للثورة السورية، وثورات الربيع العربي، وإنما تنفذ بطابعها الملحمي وروحها التأملية الفلسفية إلى ما سرده التاريخ، وما روته الأساطير، وما سجلته الحضارات الإغريقية والفرعونية والفينيقية والسومرية والآشورية والبابلية والكنعانية والعربية وغيرها.
هو ناسج تراجيديا إنسانية كبرى من لحم الحالة السورية التي باتت أسطورة بحد ذاتها، تستحق التخليد. هو يقرأ أرضه القريبة جاعلاً منها أرضاً كونية لمواجهة البطش والعنف والقمع، فلا أرض سواها، حتى وإن نبضت يده الهامدة في أرض أخرى، في المنفى البعيد. وهو يعتني كثيراً بالملحمي، وفق حديثه إلى “اندبندنت عربية”، من أجل مضاهاة واقع عصي على التعريف، ومقاربة مأسوية ما يحدث للناس الذين ينتمي إليهم “أولئك الذين هدم الطغيان أرضهم، وأحالهم بحروبه المهولة إلى أمة ممزقة، فباتوا طرواديي العصر الهائمين على وجوههم في البحر واليابسة، وفي أربع جهات الأرض، في عالم مخطوف العقل ومعطوب القلب وميت الضمير”.
تحركت قصائد نوري الجراح وعينها على أن “توازي تحرك السوريين، منتفضين على نظام عسكري متوحش ومبتذل، ظن أنه محصن من الثورات، معتداً بجبروته. نظام أقام للناس كهفاً مظلماً يخيم عليه الصمت وينتشر فيه الرعب”.
ولأن قصيدة نوري الجراح منحازة إلى الثورة على الأرض، فهي لا يمكنها إلا أن تكون قصيدة ثورية في أبجدياتها الفنية، فهي هادفة دائماً إلى كسر آفاق التوقع، وخلخلة حواس التلقي وإحداث الدهشة، برؤيتها المدعومة بالمعرفة، وبنيتها الجدلية والدائرية والسردية والحوارية، وتعدد مستوياتها بين الغنائية والدرامية والملحمية والأنا المتشظية. وبحد تعبيره “لا قصيدة من دون مواجهة شرسة مع اللغة، تعكس طبيعة علاقة الشاعر بذاته وبالعالم، ومن دون شيفرة وراثية، وأسرار تتخلل الصياغات والتراكيب والإيقاعات والموضوعات، وتتسلل إلى التأملات والهواجس والانفعالات والتهيؤات والمواقف”.
رشا عمران: تحول شعري لافت
“ثقلت حتى صرت التراب ذاته، التراب الجاف ذاته، التراب المالح ذاته، وهو يحاول أن يلملم بقايا دمشق، التي هوت عن أحضاننا، وتمزقت كالورق”. تنفتح تجربة الشاعرة رشا عمران، المقيمة في القاهرة، على الثورة السورية المتأججة، وتوجعات الاغتراب والوحدة في ليل التمزقات والجفاف، الذي لم يكن يقوى على أن يزيله إلا شعاع التحرر.
وترى صاحبة “التي سكنت البيت قبلي” و”بانوراما الموت والوحشة” و”زوجة سرية للغياب” في حديثها لـ”اندبندنت عربية” أن هناك تحولات شعرية لافتة أنجزها تيار الشعر السوري الجديد منذ عام 2011، بشقيه الداخلي (في الميدان) والخارجي (في المنفى). ومن أبرز ملامح هذا التيار الجديد “استخدام الشعراء لغة أكثر بساطة في التعبير عن يوميات الحرب والمنفى. هذه اللغة لم يعرفها الشعر السوري من قبل، إذ تتخفف كثيراً من المجازات، وتقترب من مناخات رواد المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. لغة تسكنها المفردات الصريحة المعبرة عن المشهد: الموت، القتل، الدماء، القذائف، الرصاصات”.
وشعراء هذا التيار الثوري السوري، خصوصاً الشباب، وفق رشا عمران “يمتلكون خيالات جديدة مبتكرة في رؤيتهم العالم، وفهمه، وإدراك مكان السوريين من العالم، ونظرة العالم إليهم. وذهبت نصوص الشعراء إلى الاختزال والتكثيف، والتركيز على جوهر المحنة، والتحلل من الاستغراقات والاستعراضات البيانية لمصلحة الأفكار والمعاني والدفقة الشعورية الحادة لحظة الكتابة”.
وتوضح الشاعرة السورية أن من أهم مكاسب تيار الشعر الثوري “أن الشعر لم يعد نخبوياً مثلما كانت الحال مثلاً لدى الشعراء السوريين في أعقاب 1967، حين عبروا عن الهزيمة باللجوء إلى الأقنعة والإسقاطات. فلقد صار الشعر الجديد، المكتوب في الميدان، أرضياً بامتياز، نابعاً من ذات الشاعر ونفسه، ومتوجهاً إلى ذوات الآخرين القريبين ونفوسهم، وصارت الكتابة نوعاً من الشفاء من آثار القتل المادي والمعنوي. وبدا الشعر المكتوب في المنفى أيضاً مختلفاً عما كان يكتبه شعراء المهجر في القرن الماضي، لأن الذين تركوا سوريا هاجروا مضطرين، من دون خيار، وبلا رغبة، فافترستهم العزلة، وألم بهم الإحساس بالقهر والعجز”.
مرام المصري: الحرية تصل عارية
“تصل عارية، الحرية، إلى جبال سوريا وسفوحها/ وفي مخيمات اللاجئين/ أقدامها تنغرس في الوحل/ أيديها تتشقق من البرد، والتعذيب/ ولكنها تتقدم”. توازن الشاعرة مرام المصري، المقيمة في باريس بين تفاعلها المباشر بالكتابة الشعرية عن تفجرات الحالة السورية الثورية، واهتمامها بتجارب الشعراء السوريين في كل مكان، تلك التجارب التي دققتها وجمعتها في أنثولوجيا من إعدادها بعنوان “الحب في زمن الحرب”، وترجمتها إلى الفرنسية.
وفي كتابتها الذاتية وانتقاءاتها نصوص الشعراء الآخرين تراهن مرام المصري على الجرأة والمشاكسة، معتبرة أن تحرير الذات والجسد وجه من وجوه الحرية المنشودة للوطن، وأن الإصرار على الحب هو إصرار على الخلاص من الحرب وشرورها، وبلوغ الأمل في عالم يصير أكثر نبلاً وجمالاً.
وتوضح مرام المصري لـ”اندبندنت عربية” أنها اكتشفت من خلال بحثها أن الشعر السوري الجديد حاضر بصورة فعالة، وأن الثورة فجرت الخيال الحسي لدى الشعراء، وأفرزت تياراً يحكي عن الحرب وعن الحياة معاً، ويستحضر الحب أيضاً في مفردات جديدة. وهكذا “لم تعد القصيدة مصطنعة، بل اتجهت بكل لقطاتها إلى الواقع لترسمه، وإلى المكان والجغرافيا لتظللهما بفيئها الإنساني والفني”.
وتصف الشاعرة السورية قصائد التيار الثوري بأنها قطرات الدماء والدموع التي نزفها الشعراء. فالشعر “تعويذة للتطهر مما كابده الشعب من ظلم وألم وعذاب، والشعر صديق الإنسان الذي لا يخيب ظنه أبداً، والشعراء يتجهون بقلوبهم ونصوصهم نحو النور كعباد الشمس”. وتضيف مرام المصري “آمن هؤلاء الشعراء بأن لديهم واجباً تجاه أرضهم، وأن عليهم حفظ كل ما يجري في هذه اللحظات الحاسمة. فلتتسع قصائدهم المقبلة للفرح، فلقد وصلت الحرية، وكان الثمن غالياً”.
زياد عبدالله: تجارب منفردة
“نحن خائفون، أما أنتم فلا! فما رأيكم بأن نقتلكم قبل أن تقتلونا؟”. الشاعر والروائي زياد عبدالله، هو مؤسس حركة “أوكسجين” الإلكترونية الإبداعية، كفضاء للتجريب ومنصة للمهمشين. وإلى هذه التجربة يعزى توفير متنفس جديد للإبداع الحر المتمرد، وتعزيز حضور الشعراء السوريين الثوريين والمغامرين خلال الأعوام الماضية، إذ تطمح كثافة الأحلام إلى تلبية متطلبات الشارع السوري والعربي المحتج غضباً، والتخلص من كثافة الواقع الكابوسي الخانق.
وعن ملامح الشعر السوري المنغمس في تجليات الثورة السورية، يوضح زياد عبدالله لـ”اندبندنت عربية” أنه “يمكن الحديث عن تجربة الشاعر نوري الجراح ورسوخها وتراميها، ومنعطفها الكبير نحو الميثولوجيا والتاريخ السوري بعد الثورة السورية والتراجيديا السورية. ويمكن التوقف عند تجارب قيمة، مثل تجربة الشاعر منذر مصري، التي لها نسقها ومقترحها وخصوصيتها. وتحضر أيضاً في هذا السياق أسماء شعراء وشاعرات يمكن وصفها بالتجارب المميزة أو الجميلة”.
ويتصور زياد عبدالله أن الشعر كائن بطيء وهش، له أن يحبو، بينما كل ما حوله متسارع ودراماتيكي. ويرى أن النطاق الزمني لبلورة تيار للشعر السوري الثوري هو زمن قليل بمقاييس الشعر، إذ لا يتجاوز 13 عاماً، ويقول “كلي قناعة بأن المعطيات والمتغيرات والمنعطفات التاريخية لم تعد تفضي إلى تيارات شعرية أو فنية جديدة في زمننا هذا، كما حصل في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى كمثال. ولم يكن ذلك من مشاغل الثوريين، إذ إن شعراء كثراً تركوا الشعر وأصبحوا ناشطين أو معلقين سياسيين. وربما هناك أصوات منفردة، أصدرت مجموعات شعرية متصلة بالحدث السوري، وهي في الغالب من الشتات السوري، ولكنها لا تقدم مقترحاً جمالياً متكاملاً وجديداً في قصيدة النثر السورية”.
بسمة شيخو: الحراك النشط
“سأغني، حتى نتصالح مع الزمن، نكف عن لعنه، ويكف عن إتلافنا”. الشاعرة بسمة شيخو، التي تتحدى العطب والزوال في ديوانها “شهقة ضوء”، ترى أن الثورة السورية التي انطلقت عام 2011، كان لها أثر عميق في حياة الناس، على صعد مختلفة، ولا يستثنى الشعر من ذلك، بل يتصدر القائمة. ولذا، فمن المهم محاولة الإحاطة بالتغيرات التي طرأت عليه، لتأطير المسار الشعري الذي نشأ خلال الثورة بما يخالف السائد من قبل.
لقد تجاوب الشعر السوري مع الحراك الثوري النشط، وفق بسمة شيخو، من ناحية المواضيع. أما الشكل الشعري فلم يتأثر كثيراً. وتقول الشاعرة السورية في تصريحها “جاء تناول المواضيع وفق أربعة محاور أساس، داخلها أصوات شعرية مكرسة، وأخرى جديدة برزت خلال الثورة. فهناك، أولاً، من استجاب بصورة كاملة، لتكون رد فعله واضحة وعنيفة، ولا يترك بشعره مجالاً للتأويلات. فالكلمات مباشرة، والأمور مسماة بأسمائها. وإن حوت القصيدة رموزاً فهي واضحة بسيطة، تجعله تحت المساءلة. لذا اضطر إلى مغادرة سوريا، وصار يكتب عن الأحداث كمراقب خارجي، مستعيداً ما عاصره قبل خروجه، وكاتباً ما يعيشه من منفاه كلاجئ. وبذلك، أدخل موضوعاً جديداً تحت العنوان العريض: الثورة”.
وفي المحور الثاني، تضيف “هناك من كتب عن الثورة والبلاد وأحوال الناس، ولكنه اعتمد على الإزاحة التي تفرضها ثقافة الخوف. فهو يكتب كلمة ويقصد أخرى، تاركاً مدلولها الراسخ في الذاكرة الجمعية للمجتمع، معتمداً على ثقافة المتلقي وتحليله. وقصائد هذا المحور مليئة بالرموز والشيفرات، التي وإن فهمت بصورة صحيحة من قبل النظام السابق، لن تكون دليلاً واضحاً، فهي تثير الشكوك حوله لا أكثر. وهذا المحور هو الصورة الأصدق للشعر السوري الذي أفرزته الثورة، لأنه كتب من معاينة التجربة والالتصاق بالمحيط”.
أما المحور الثالث، تستطرد الشاعرة السورية، فهو “لمن امتطى صهوة الثورة في الخارج من أنصاف المواهب، وتاجر بمعاناته على المنابر، وبهذا حاز اهتمام بلاد اللجوء ومؤسساتها الثقافية، وبوجوده شوش على شعراء سوريا في المحورين السابقين”. أما المحور الأخير، فهم “شعراء البلاط، وشعراء الطائفة، ممن يمجدون الطاغية وانتصاراته الوهمية، ولذا يسافرون في وفوده، ويتصدرون مهرجاناته، ويظهرون على شاشات قنواته طوال الوقت. وموقفهم يجعلنا لا ننشغل كثيراً بما يكتبونه من شعر”.
وهناك خارج هذه المحاور “شعراء لا يعنيهم ما يحصل في أبراجهم العاجية، فيكون شعرهم ذاتياً بعيداً عما يلتصق بظروف الثورة والحرب من معاناة، ومواضيعهم لا تخرج عن الجمال والغزل والوصف، وربما من الأنسب أن يكون هؤلاء محوراً شعرياً ثابتاً، لا يتغير وفق تغير المعطيات”.
خلود شرف: اتجاهات منفلتة
“سؤال يسيل من فزاعاتنا/ كثيف هذا الليل، بخيوط رعبنا، مسفوك بالظلام”. كواحدة من الشاعرات والشعراء الشباب، الذين آمنوا بالثورية، واحتضنتهم دور النشر المستقلة الجريئة، قدمت الشاعرة خلود شرف مجموعتها “رفات فراشة” عن “دار التكوين” السورية، مراهنة على قيم الجمال والحرية والانفلات التي لا تبلى.
وتشير الشاعرة السورية، المقيمة في فيينا، إلى أنه برز في الشعر الثوري السوري تنوع الاتجاهات الشعرية، على صعيد الداخل السوري، والمنفى. وقد “توزعت هذه التمظهرات بين قضايا الجسد والحرية والقتال اليومي من أجل الكرامة ولقمة العيش. ومن السمات البارزة التي تميز بها شعر الثورة: التيار النسائي، الذي كان جريئاً وصريحاً في تناول موضوعات الجسد والحرية، مع سعيه إلى خلق عالم يعكس الصراع اليومي للمرأة السورية في مواجهة القمع المجتمعي والسياسي. وهذا التيار يفضح النظام المستبد والمجتمع الذي يسعى إلى تأطير المرأة ضمن حدود الأخلاق العرفية”.
كيف جعل الشعراء السجون مختبرات للأغنية السياسية؟
ومن ناحية أخرى، كما تصرح الشاعرة السورية لـ”اندبندنت عربية”، فقد “شهدت الثورة أيضاً ظهور تيار شعري يعبر عن الحياة اليومية ومشاعر النضال ضد الجوع والفقر، بطريقة ساخرة ومتحدية. كما ظهرت القصيدة المحكية باللهجات المحلية، وتميزت بقدرتها على تحفيز المتظاهرين، وتفعيل روح المقاومة في التظاهرات السلمية التي رفعت المتظاهرين على الأكتاف بينما غنوا الشعر الذي ارتجلوه”.
وتستطرد صاحبة “هجرة السلمون” و”من أنا” و”يوميات لا شأن لي بها”، قائلة “لعلني في تجربتي أنتمي إلى تيار المرأة وتفعيل الذاكرة الجمعية، مستحضرة الأساطير والرموز القديمة لتحريك الحاضر وتقديم صورة عن الحرب التي لا يمكن أن تطغى على قيم الجمال والحرية”.
أصوات متحققة
وتبقى الإشارة إلى أن هذه التموجات الخصيبة كلها، بأجيالها وأسمائها وأطيافها المتنوعة، هي أمثلة دالة على فضاء حافل بالثورية الشعرية، في داخل سوريا وخارجها، على مدى 13 عاماً من التخليق الابتكاري المتفجر بالبارود والأخيلة والكلمات. ولا تتسع مساحة محدودة بطبيعة الحال للتوقف عند عشرات التجارب الباذخة الزاخمة، التي احتضنت الاشتعالات السورية في مهدها، وكبرت معها يوماً بعد يوم.
ومن أصحاب هذه التجارب، التي لا يمكن إغفالها، الشاعر علي سفر في “الفهرس السوري”، و”يوميات ميكانيكية ـ يوميات على هامش الحريق السوري”، والشاعرة هالا محمد في “قالت الفراشة” و”أعرني النافذة يا غريب” المهداة إلى السوريين في الشتات، والشاعر منذر مصري في “لمن العالم؟ وسيرة مشبوهة أخرى”، والشاعر عماد الدين موسى في “الطفل الذي في قلبي” و”حياتي زورق مثقوب” و”كسماء أخيرة” و”أن تتعطر بقليل من البارود”، والشاعرة نور طلال نصرة في “جدران عازلة للصوت”، و”بريق من مروا من هنا” للشاعر حسين درويش وغيرهم من الأصوات المتحققة والمؤثرة.
———————–
أكاديميون يقرأون سقوط الأسد: لحظة تاريخية للانخراط في مستقبل البلاد/ 16 ديسمبر 2024
ألقى سقوط نظام بشار الأسد بظلاله على جميع السوريين بكافة أماكن وجودهم، بعد 53 عاماً من حكم حافظ ثم بشار الأسد بالاستبداد والقمع. ومع سقوط الأسد ودخول سورية مرحلة جديدة غير واضحة الملامح وما يرافقها من تخوفات من المستقبل المقبل، انطلقت نقاشات سياسية واجتماعية عديدة حول هذا المستقبل شملت التفاؤل والحذر أيضاً. التقت “العربي الجديد” مجموعة من الأكاديميين السوريين المقيمين في المملكة المتحدة، لاستطلاع آرائهم حول هذه النقاشات، ومتطلبات المرحلة المقبلة في سورية، وأولويات العمل، ودور المثقفين والفاعلين السياسيين.
تفاؤل حذر بعد سقوط الأسد
أستاذة علم الاجتماع السياسي في جامعة كامبريدج زينة العظمة، عبّرت عن تلقّيها خبر سقوط الأسد بالقول: “قبل ليلة سقوط النظام بأربعة أيام، كنت ألقي محاضرتي الأخيرة لهذا العام لمقرر بعنوان “الإمبراطورية، الثورة، والمنفى”. وبمحض الصدفة، كانت المحاضرة بعنوان “الأمل السياسي في أوقات الأزمة”. وأضافت: “وصلت فصائل المعارضة إلى مشارف حماة، وبات من الواضح أن أيام النظام أصبحت معدودة. اعتبرت هذه المصادفة في التوقيت مصدر تفاؤل وأمل، فألقيت محاضرتي بحب وحماس لم أعهدهما من قبل”.
وأضافت العظمة، في حديثها لـ”العربي الجديد”: “سأذكر هذا الإحساس وأستقي منه دائماً. سقوط الطاغية غيّر كل شيء على المستويات العملية، الوجودية، السياسية، والنفسية. لكنه أيضاً بداية مرحلة مختلفة، وربما مرهقة، من حيث مسؤوليتنا الاجتماعية والسياسية للعمل في المجال العام. كل شيء بحاجة إلى إعادة ترتيب، بما في ذلك على الصعيد الفردي. هذه ليست إلا البداية لطريق طويل قد يؤدي إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي نادى بها السوريون ملء حناجرهم منذ مارس/آذار 2011 وسرّاً قبل ذلك بكثير”.
وعن التخوفات التي ترافق الفرحة عند الشعب السوري، قالت الباحثة المتخصصة في علم الاجتماع الثقافي: “أخشى أن تتحول التخوفات، وكثير منها مشروع ولكن أحياناً سابق لأوانه، إلى سبب للتقاعس عن المشاركة في العمل السياسي. أعتقد أنه من الطبيعي تماماً أن نجمع اليوم بين التفاؤل والتشاؤم، أو أن نتراوح بينهما. من المفيد أن نتصالح مع هذا التراوح في أنفسنا ولدى الآخرين أيضاً، فلا ننقسم على أساس تكهنات بالمستقبل لا يمكن أن يكون لها أساس متين في هذه المرحلة المبكرة. الأمر الأهم هو ألا يتحول التشاؤم إلى تقاعس أو تخوف من المشاركة في العملية السياسية والتعبير عن الرأي في عملية التفاوض”.
وأضافت: “المرحلة الحالية بعد سقوط الأسد هي مرحلة تفاوض اجتماعي، ربما تشبه أزمة هوية جمعية، وستساهم نتائجها في رسم العقد الاجتماعي الجديد. هذه التعددية ليست فقط بين مشاعر وتفضيلات الفئات المختلفة، وإنما أيضاً ضمن كل واحد منا صحية، وبرأيي لا مفر منها في ظرف كهذا. هي جزء من عملية التفاوض وهي سليمة طالما أنها حيوية، وواعية للتدخلات الجيوسياسية، ومتقبلة للتنوع الذي يميز النسيج الاجتماعي السوري”.
وعن خريطة الطريق الأنسب في الظروف الحالية لتدخل سورية نحو مرحلة انتقالية تسعى لتحقيق نظام ديمقراطي في المستقبل، اعتبرت العظمة أن الخطوة الأهم في هذه المرحلة هي صياغة الدستور، قائلة: “المفاوضات الاجتماعية التي ذكرتُها جزء من هذه العملية. من نحن؟ ما هو تاريخنا؟ من نريد أن نكون؟ كيف نريد أن نعيش؟ ما هي القاعدة العريضة من السمات الأساسية لهويتنا المشتركة؟ وما هي التبعات الدستورية للإجابات التي سنتوصل إليها؟ مسألة التمثيل في آلية هذه المفاوضات مهمة للغاية”. وأضافت: “تلي هذه المرحلة مسألة تشكيل الأحزاب. ومن المهم هنا أن نتجاوز تجربتنا المُرّة مع الأحزاب السياسية طوال العقود الخمسة السابقة، كي لا نتردد تجاه السياسة المنظمة عند دخول هذه المرحلة. فالأحزاب خطوة أساسية وتعتمد عليها الخطوة التي تليها، أي إجراء الانتخابات الديمقراطية؛ الهدف الذي قدّم عموم السوريين من أجله أثماناً قد تعجز اللغة عن وصفها، لكننا ندركها بكل ما أوتينا من ألم”.
ورأت العظمة أن تركيز معظم المثقفين على العمل الفكري أو السردي على حساب العمل السياسي المنظم خلال سنوات المنفى، كان له أثر سلبي على مصير الثورة من الناحية السياسية، على حدّ تعبيرها. وأعربت عن اعتقادها بأن “كل شيء اختلف الآن، وربما الإحساس بإعادة امتلاك الوطن، الذي دفع عموم السوريين للنزول إلى الشوارع والمشاركة في تنظيم الحياة العامة اليومية في بلداتهم ومدنهم، سيدفع بالمثقفين (وعموم السوريين كذلك) للمشاركة، كل بطريقته، في العمل السياسي. هذا الانخراط ضروري لتجنب إعادة إنتاج علاقات السلطة التي أوصلتنا أساساً إلى الجحيم السياسي الذي كنا نعيش فيه حتى وقت قريب
هوية وطنية جامعة
الباحث وطالب الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة ساسِكس، نيروز ساتيك، اعتبر هذه اللحظة على الصعيد الشخصي لحظة فرح وشعور بالأمان “بأن يكون لديك بيت ووطن تستطيع أن تعود إليه بعد سنوات من أحداث وتحولات عالمية والعيش في الخارج في أكثر من بلد. أمّا على الصعيد الأكاديمي، تفرض هذه اللحظة إعادة اختبار سؤالي البحثي في الدكتوراه: كيف أثّر الفضاء الثوري على أجساد اللاجئين السوريين، بالتفكير في ذلك في مرحلة انتصار الثورة”.
وقال ساتيك، في حديثه لـ”العربي الجديد”، إن سقوط الأسد حدث تاريخي كبير يفتح الباب في سورية لبناء نظام سياسي حرّ ديمقراطي على الرغم من التخوفات. ورأى أن “التحولات الجارية لا تنفصل عمّا قبلها من ثورة وحرب. جرّب الناس الثورة واختبروا معنى الثورة في عام 2011، حيث خروج الناس بأعداد كبيرة للفضاءات العامة في الشوارع بهدف التغيير، كما جرّبوا الألم والمعاناة خلال الحرب بمراحلها المختلفة، وكلاهما انعكسا في مشاعر وأفكار الناس والمواقف السياسية ليلة سقوط النظام. إن إسقاط النظام هو انتصار لسردية الثورة على حساب سرديات الحرب، بمعنى انتصار فكرة الثورة وتتويج لهذه المرحلة التاريخية”.
وعن التخوفات التي ترافق فرحة سقوط الأسد عند الشعب السوري، اعتبر ساتيك هذه القضية مرتبطة بالمسألة الأيديولوجية لـ”هيئة تحرير الشام” وكيفية شكل النظام المقبل، قائلاً: “هل ستُفرض أيديولوجيا هيئة تحرير الشام على المجتمع السوري وتهيمن على بنية النظام المقبل؟”. واعتبر أن هناك العديد من الأمور المطمئنة حصلت الأسبوع الأخير على صعيد الخطاب والممارسات “لكن تبقى هناك مصادر قلق متعلّقة بغياب مفردات الحرية والديمقراطية عن خطاب الحكّام الحاليين، وبسبب الأيديولوجيا السلفية والتخوف من فرضها اجتماعياً او سياسياً”. وأكد أنه لا بد من التشديد على أن الهدف النهائي من إسقاط النظام هو بناء نظام ديمقراطي طالب به السوريون منذ عام 2011. وأشار ساتيك إلى تخوف آخر هام هو ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في التوغل واحتلال أراضي سورية بشكل مستمر، من دون أن تكون هناك قدرة على ردّ فعل محلي لردع العدوان الإسرائيلي.
وعن خريطة الطريق الأنسب في المرحلة المقبلة في سورية، قال ساتيك: “من خلال قراءتي للتحولات السياسية في العالم العربي أعتقد أن النظام البرلماني هو الأنسب لسورية، ولبلد فيه الكثير من التنوعات الاجتماعية والتوجهات السياسية. أعتقد أن النظام البرلماني هو الأنسب لهذا التنوع ويخلصنا من فكرة الرئيس والشخص الأوحد التي عهدناها خلال عقود في سورية عبر النظام الرئاسي”. وأوضح أنه “في النظام البرلماني يصعب الانفراد بالسلطة، لأن الأحزاب دائماً بحاجة إلى تحالفات لتشكيل كتل برلمانية، والذي يتيح المساومة على القضايا الاجتماعية والسياسية”. وأكد أن النظام البرلماني “سيشمل ضمنه التنوعات الاجتماعية والسياسية المختلفة التي تتبدل، ما يتيح مشاركة سياسية أوسع بشكل أكبر من النظام الرئاسي”.
وأكد ساتيك “وجود دور هام للمثقفين السوريين وضرورة ملحّة للانخراط في الشأن السياسي، وليس فقط التنظير في هذه المرحلة”، داعياً إلى “العودة إلى سورية والمشاركة في صنع الحدث كي لا يُترك فقط للفاعلين الحاليين. يجب على المعارضة السورية أن تبقى على حوار مع الذين يقودون عملية التغيير”. ودعا إلى أن يكون هناك حوار على شكل الحكم “الذي لا بد أن يكون ديمقراطياً حراً، تُكفل فيه الحرية الاجتماعية والسياسية والعدالة الانتقالية ضمن مسارات متوازية”.
لا أحد يريد استبدال ديكتاتور بآخر
الأكاديمي والباحث السوري عزام القصير المقيم في لندن قال، في حديث لـ”العربي الجديد”، حول ما تعنيه هذه اللحظة بالنسبة إليه على الصعيد الشخصي: “ما يحدث الآن يُجسّد موضوع رسالة الدكتوراه (جامعة لندن) التي أنجزتها منذ أكثر من ثلاث سنوات، والتي درست فيها التحولات التي مرت بها جبهة النصرة وكيف انتقلت إلى مرحلة هيئة تحرير الشام. اليوم، أجد ما يحدث اختباراً لفرضياتي، وأشهد نجاح بعضها وفشل بعضها الآخر”. وأضاف: “الواقع هو أفضل مختبر للباحثين في حقول السياسة والمجتمع. وأشهد اليوم كيف أن ديكتاتورية الأسدين الأب والابن أفقرت الشعب وحرمته من أبسط حقوقه وجعلته يصفق لأي مجموعة قادرة على استبدال النظام وتحقيق شيء من الأمان وهامش بسيط من الحرية”.
واعتبر القصير أن مشاعر الفرح الممتزج بالقلق بعد سقوط الأسد مبررة ومفهومة عند الشعب السوري، قائلاً: “من ناحية أولى، انزاح عن صدر الشعب السوري عبء ثقيل كان لفترة قريبة حلماً بعيد المنال. لكن مع انهيار النظام وفرار الأسد وسيطرة مجموعة إسلامية مسلحة موضوعة على قوائم الإرهاب، من الطبيعي انتشار تخوّف من الفترة المقبلة. فلا أحد يريد استبدال ديكتاتور بآخر. والمشكلة الأخرى هي غياب أي معارضة قوية وأي مجتمع مدني متين للوقوف في وجه هيئة تحرير الشام وضبط ومراقبة تصرفاتها”.
وحول خريطة الطريق الأنسب في الظروف الحالية بعد سقوط الأسد كي تدخل سورية نحو مرحلة انتقالية تُحقق نظاماً ديمقراطياً، دعا القصير إلى تفعيل النشاطات الأهلية وإحياء مؤسسات المجتمع المدني، بعد عقود من هيمنة مؤسسات الدولة وأجهزة النظام. واعتبر أن نشاط المجتمع المدني “ضروري لموازنة المشهد وممارسة الرقابة والضغط على هيئة تحرير الشام وقادتها، وإلا سيعود الاستبداد من نافذة أخرى”. كما قال إن للسوريين في المغترب “دوراً محورياً اليوم، فعليهم نقل الخبرات لسورية في شتى المجالات، ويمكن للتنظيمات السياسية والمبادرات التي نشأت في المهجر، أن تدخل المعترك السياسي وتفرض نفسها كلاعب قوي ومنظم ومدافع عن التعددية والديمقراطية”.
أمّا عن دور المثقفين والفاعلين السوريين في مرحلة ما بعد سقوط الأسد وأولويات العمل، فاعتبر الباحث المقيم في لندن أن سورية عانت لأكثر من نصف قرن “من الاستبداد وقمع حرية التعبير، ولم يكن للفكر الحرّ مجال للتأثير في وعي الناس”. وأضاف أن هناك فرصة للمثقفين اليوم “للعب دور تنويري، وللانخراط في حوارات جدّية وحقيقية وشفافة حول مفاهيم الهوية الوطنية والانتماء والعلاقة بين الدين والسياسة وغيرها”. كما رأى أن للمثقفين دوراً لتشجيع الفكر النقدي الحر “الذي سيُسهم في طيّ صفحة الحزب الواحد والأيديولوجيا الواحدة. لكن ذلك الدور مرهون بقدرة ورغبة المثقفين السوريين في الاندفاع بشجاعة لملء فراغ السياسة والفكر، ولمنع محاولات التيارات الدينية احتكار تلك المساحات”.
——————————
سورية 1920 – 1958: إرث دستوري مُلهم للحاضر والمستقبل/ محمد م. الأرناؤوط
15 ديسمبر 2024
من مفارقات التاريخ السوري والإقليمي أنّ انقلاب 8 آذار/مارس 1963، الذي شاركت فيه قوى عسكرية متعدّدة (بعثية وناصرية ومستقلّة)، أصبح يُسمّى، بعد تصفيات نيسان/إبريل 1963، “ثورة 8 آذار” بِاسم الحزب الحاكم (البعث). وهكذا بات هذا التاريخ عيداً قومياً على حساب عيدٍ أهمّ هو إعلان استقلال “المملكة السورية العربية” في 8 آذار/مارس 1920، والذي كان يُحتفل به في سورية والأردن؛ باعتبار أنّ الأخير كان ضمن “المملكة السورية العربية” حتى عام 1963.
لم يكن عدد سكّان سورية يتجاوز ستّة ملايين نسمة عام 1963. وتضاعف هذه العدد قرابة أربع مرّات حتى 2011 (أكثر من 23 مليون نسمة)، وأصبح معظم السوريّين لا يعرفون سوى 8 آذار 1963 ورئيسَين فقط خلال 53 عاماً؛ هُما حافظ الأسد وابنه بشّار.
في هذا السياق، كان من الغريب أن تُنظّم جامعةٌ أردنية عام 1988 ندوةً إقليمية لمناسبة الذكرى الثمانين لإعلان “الحكومة العربية” في دمشق عام 1918، والتي تُوّجت بإعلان استقلال “المملكة السورية العربية”، وأن يُنظّم “منتدى الفكر العربي” ندوة إقليمية في عمّان عام 2020، بحضور الأمير الحسن، حول مئوية الاستقلال والدستور السوري الأوّل، بينما لا يُشار إلى ذلك في دمشق التي لم يبق فيها من شاهد على ذلك التاريخ سوى “شارع الملك فيصل”، بعد أن هدم “حزب البعث” في عام 1969 مبنى بلدية دمشق في ساحة المرجة، من دون أيّ اعتبار للقيمة التاريخية لهذا المبنى الذي أُعلن من شرفته استقلال “المملكة السورية” عام 1920.
كان أهمّ ما حدث خلال عهد “الحكومة العربية” هو انتخاب “المؤتمر السوري” عام 1919، والذي كلّفه الأمير فيصل بوضع دستور للبلاد، وقد تحوّل المؤتمر بعد إعلان الاستقلال إلى مجلس نيابي تطلُب أوّل حكومة بعد الاستقلال الثقة منه. وخلال ذلك، بدأ أعضاء المجلس، منذ 20 أيار/مايو 1920، في مناقشة “القانون الأساسي”؛ أو الدستور السوري المقترح مادّةً مادّة، بعد أن رُفض الاقتراح بالتصويت عليه دفعة واحدة لوضع “عصبة الأمم” أمام الأمر الواقع، بعد أن قرّرت وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي. كانت النخبة السورية، آنذاك، تعتقد أنّ إعلان الاستقلال واعتماد دستور سوري متقدّم يحمي الأقلّيات، سيقطع الطريق على أيّ تدخُّل من الخارج بحجّة “حماية الأقلّيات”.
أثار ذلك انزعاجاً فرنسياً؛ إذ هدّد الجنرال هنري غورو بالتقدّم نحو دمشق، بينما تابع أعضاء المؤتمر السوري مناقشة بنود الدستور السوري حتى 17 تمّوز/يوليو 1920، أي حين اقتربت القوّات الفرنسية من ميسلون؛ حيث جرت المعركة المعروفة في 24 تمّوز/يوليو من ذلك العام، والتي كرّست الاحتلال الفرنسي باسم “الانتداب”. ولذلك، فإنّه ليس مستغرباً – كما كشفت المؤرّخة الأميركية إليزابيث ف. تومبسون في كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب: المؤتمر السوري في عام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي – الإسلامي فيه” (أصدر “المركز العربي والأبحاث ودراسة السياسات ترجمته العربية عام 2022) – أنّ القوات الفرنسية التي احتلّت دمشق كانت مكلَّفةً بالسيطرة على مقرّ المؤتمر السوري ومصادرة كلّ ما فيه من وثائق، بهدف تغييب هذه التجربة الرائدة في وعي السوريّين.
استعادة الإرث الدستوري
مع تطوّر الحركة الوطنية المناهضة للانتداب الفرنسي، برزت توجُّهات ملكية وجمهورية، إلى أن حُسم الأمر في دستور 1928 (الذي أقرّه المفوّض الفرنسي عام 1930) باختيار النظام الجمهوري. وبالاستناد إليه، جرى انتخاب محمد علي العابد أوّلَ رئيس للجمهورية عام 1931. ومع إعلان استقلال سورية عام 1943، أُجريت أوّل انتخابات في صيف 1943، وفاز فيها شكري القوتلي بموجب الدستور نفسه، ثمّ أُعيد انتخابه مرّةً ثانية عام 1947. وبعد سلسلة من الانقلابات العسكرية، جاء دستور 1950 الذي اعتُبر الأحسن لعدّة اعتبارات؛ منها إقرار مشاركة المرأة لأوّل مرّة في الانتخابات.
ولكن بعد عدّة سنوات من ذلك، غمرت سورية “الدساتيرُ المؤقّتة” التي بدأت خلال عهد الوحدة مع مصر (1958 – 1961)، ثمّ بعد احتكار “حزب البعث” للسلطة؛ حيث صدر الدستور المؤقّت الأول عام 1964، والثاني عام 1969، والثالث عام 1971، بينما فُصّل الدستورُ الرابع عام 1973 لإعطاء حافظ الأسد صلاحيات مطلقة لا حدّ لها، وتكريس “البعث” باعتباره “القائد في الدولة والمجتمع”؛ إذ يحصر الدستور في القيادة القُطرية للحزب حقَّ ترشيح من تراه مناسباً، ومن ثمّ يجري الاستفتاء على هذا المرشّح.
وبعد اندلاع الانتفاضة الشعبية عام 2011، جرت محاولة لاحتواء المعارضة بإجراء تعديلات في 2012 على دستور 1973؛ فأُلغيت المادّة الثامنة التي تؤكّد دور “البعث” بوصفه “القائد في الدولة والمجتمع” واستُبدلت بـ”التعدّدية السياسية”. لم تمسّ هذه التعديلات جوهرَ النظام الحاكم، ولم تُقدّم جديداً في واقع الحال.
وبدا هذا واضحاً في سلوك النظام مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي رسم خريطة طريق واضحة للانتقال السياسي كان يمكن أن تُجنّب البلاد كلّ المآسي التي لحقت بها خلال عشر سنوات (2015 – نهاية 2024). والآن مع سقوط هذا النظام، ولضمان الانتقال الآمن إلى الحكم الديمقراطي، لا بدّ من إعلان واضح بالالتزام بمخرجات هذا القرار الدولي الذي يعطي مصداقية للحكم الديمقراطي الجديد في سورية أمام العالم.
العودة إلى الأصل
في هذا السياق، يحقّ للسوريّين أن يفتخروا بما لهم من إرث ديمقراطي، خصوصاً دستور 1920 الذي أرسى قاعدتَين مهمّتين حتى اليوم: تتمثّل الأُولى في نظام حُكم مدني بحسب البند الأوّل (حكومة ملكية مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين ملكها الإسلام)، والثانية في نظام حكم لا مركزي لضمان تمثيل الأقلّيات وتمكينها من الحكم المحلّي في مناطقها.
ولأجل ذلك، نصّ الدستور على أنّ العلاقة بين الدين والدولة تتمثّل فقط في دين رأس الدولة (الملك فيصل). أمّا في ما يتعلّق بالأقليات، فقد قسّم البلاد إلى مقاطعات وحدّد مساحة وعدد سكّان كلّ مقاطعة في الحدّ الأدنى، وجعل البرلمان يتألّف من غرفتين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ الذي يعيّن رأسُ الدولة نصفَ أعضائه، ويُنتخَب النصفُ الآخر في المقاطعات، وجعل لكلّ مقاطعة مجلساً منتخباً وحكومة محلّية.
ومن هنا، يُفترض باللجنة المختصّة التي ستتولّى وضع الدستور الجديد (كما يرشح من التصريحات) أن تأخذ بعين الاعتبار هذا الإرث الدستوري الغني لسورية، ابتداءً من أفضل دستور عربي وُضع في 1920 حتى دستور 1950 الذي اعتُبر إنجازاً مهمّاً في وقته، وأن تضمن آلية التصويت عليه مشاركة غالبية السوريّين.
* مؤرخ وكاتب كوسوفي سوري
—————————-
بحثاً عن خاتمة/ يزن الحاج
15 ديسمبر 2024
يبارك السوريّون بعضهم بعضاً وكأنّهم في عيد. ليست التبريكات محض كلام منطوق بحُكم العادة أو التهذيب أو رسالة جماعية لجميع جهات الاتصال، بل هو كلام القلب للقلب، إذ انزاحت الغمّة بعد أكثر من نصف قرن. انتهى عصر الأسد، وسورية الأسد، ويرى معظم السوريين أنّ هذه النهاية تستحق تبريكات لا تُحصى من دون انشغال بالتفكير بما سيحدث لاحقاً، وكأنّ السوريّين يدركون أنّ الأسوأ قد انقضى، أسوأ ما يمكن عيشه أو تخيّله أو تصوّره، ولن يكون الغد قاتماً للمرة الأولى منذ عقود مديدة، بل ثمة غدٌ أصلاً، وإمكانية حلم؛ غدٌ كان يقع في خانة التفكير المستحيل، فغد سورية الأسد كحاضرها وماضيها، دائرة عنف وشرّ وقهر عصيّة على الانتهاء.
ويبارك لنا عرب من بلدان عديدة بعضُها لم يزرها بشار ولا أبوه، وربما لا يعلمان بوجودها؛ ألم يحذف وزير خارجيّة الابن أوروبا عن الخريطة؟ يباركون لنا بصدق وبفرح، في مواقع التواصل وفي الشوارع وفي محلات البقالة. تنهمر التبريكات ما إن يعلموا بأننا سوريّون، وكأنّ سوريّتنا لم تكن لتكتمل لو لم يتبدّد الكابوس. أيّ كابوس عشناه! أيّ كابوس عاشه حتّى من لم يعرفه! أردّ على التبريكات بمبروك علينا كلّنا، فهذا الكابوس عابر للقوميات وللدول، مثل طاعون القرون الوسطى. تلك نهاية الكابوس، ولكن هل هي خاتمته؟
لا تستلزم النهايات بدايات جديدة بعدها بالضرورة، فالمهم هو الخلاص مما كان، لا الشّروع بما سيأتي. بينما الخاتمة نهاية من نوع آخر، نهاية مرتبطة ببداية بالضرورة، نهاية مرحلة وبداية أُخرى. ولو استعرنا القاموس السيكولوجيّ، تفترض الخاتمة نهاية مرحلة تخبّط أو قلق أو غموض، تمهيداً لـ “المضيّ”، لـ “الاستمرار”، لـ “المواصلة”. ولقد شهدنا نهايةً في سورية اكتفى بها معظم الناس، غير أنّ ثمة من لم يصل إلى خاتمة همومه بعد، ولذا فهم ما يزالون عالقين في برزخ مرعب؛ لا هم قادرون على الفرح كما الجميع، ولا هم راغبون بإشاعة حزن كي لا يخرّبوا فرح الآخرين. برزخ قاتل تمرّ فيه الدقائق ببطء يسحق القلب والأعصاب.
ليس البرزخ مرتبطاً بما سيحدث في “اليوم التالي”، فهذا موضوع شائك طويل يحاول السوريّون اليوم تأجيله. البرزخ الذي أعنيه هنا، برزخ شخصيّ، جوّانيّ، جسديّ، عقليّ، لا يمكن أن يكون فيه “يوم تالٍ”، لأنّ أصحابه ما يزالون عالقين في هذا اليوم، في الحاضر، كما كانوا قبل رحيل الكابوس. برزخ المسالخ البشرية التي رأتها الكاميرات للمرة الأولى منذ عقود. كُسرت الأقفال وكانت دفقة الأدرينالين مرعبة من فرط قوّتها إلى درجة أنّها أعمتنا جميعاً عن جوهر وجود هذا النّظام. كنّا نظنّ، أو نأمل (فالمناسبة مفرحة وما عاد للحزن مكان في سورية الجديدة) أن تُكسَر الأبواب وتنقلب التراجيديا إلى حكاية خرافية تجتمع فيها العائلات بمفقوديها الذين اختفى بعضهم منذ عقود.
كُسر باب المسلخ فلطمتنا الحقيقة المرّة. ما من مسلخ يبشّر بحكاية خرافية، فنحن هنا أمام الحقيقة العارية: نظامٌ سجّانٌ يُقفل على كنزه بقوة، كنزه الذي ليس إلا أجساد مواطنيه كي يقايض أو يساوم حين تُتاح له الفرصة، وكي يتخلّص منهم حين يُمحى جوهر وجوده. إنْ سقط السجّان، سيحترق السّجن بما وبمن فيه. من بين عشرات الآلاف لم يخرج إلا مئات رضي أهلهم بنهاية حزينة، برغم القهر والألم وآثار مرور النّظام على أجساد أبنائهم.
تواصلت الاحتفالات والتبريكات، وإنْ بمعزل عن عشرات الآلاف الذين ما عاد لهم أثرٌ واضح، وتركوا أحبّاءهم في برزخ القلق والترقّب المرّ. ما يزال معظم المعتقلين بلا أثر، فلا خاتمة لأحبائهم. سيبقون عالقين بانتظار ما لا يعرفون، وقد أنهكهم الأمل أكثر مما أنهكتهم سنوات القهر. هل بقيت أبواب لتُكسَر أصلاً؟ وهل للأمل باب نكسره ونختتم ألمنا؟
ووُجِد بعضهم جثثاً، ولكن أهي خاتمة حقاً؟ أيّ خاتمة تلك حين بات مدمنو فيتيش الدم والأجساد المشوّهة يعيدون نشر الصور وكأنها صور ورود؟ أيّ خاتمة لمازن الحمادة وأهله مثلاً، وقد تذكّروا انكساره وهو حيّ، وانكساره وقد تأكّد موته اليوم، وانكسار جسده الممزّق، وانكساره حين ظنّ أنّه نجا وسعى إلى خاتمة عبثية، فنبذته أوروبا كما نبذته بلاده، وباتت الخاتمة برزخاً في ذاتها، برزخاً لانهائياً من الأوجاع.
تمنّى البعض لو أنّ كسر الأقفال كان قبل أسبوع، إذ كان مازن حياً حينها، غير أنّ نظراته التي تخترق الشاشات والذاكرة تؤنّبنا كيلا نزرع أملاً عبثياً يشلّ أحبابه. هو محكوم بلعنة برزخ لا خاتمة له، كمدينته دير الزور، كأهلها، كباديتها القاحلة المرمية عند كتف نهر. مرمية هناك في الشرق، حيث لا خاتمة. مرمية هناك في الفرات الذي نسي أيام جبروته وبات هو أيضاً عالقاً في برزخ ما كان، لا ما سيكون.
* كاتب ومترجم سوري
العربي الجديد
—————————-
ما بعد الأسد… إجابات سورية عن أسئلة فلسطينية/ حسام أبو حامد
16 ديسمبر 2024
لم يقلّ فرح الفلسطينيين السوريين عن فرح أشقائهم السوريين بسقوط نظام بشّار الأسد، إذ يتشاركون معهم حلم عودة إلى سورية حرّة، بعد رحيل ديكتاتورها ونظامه الدموي، وتساؤلاتٍ بشأن ما إذا كانت المرحلة المقبلة ستحقّق أهداف ثورة السوريين التي انطلقت في العام 2011، تضاف إليها أسئلة فلسطينية مركّبة، وهي أسئلة اللاجئ الفلسطيني الذين تعوّد حمل همومٍ مضاعفةٍ، همّ قضيته وهموم الشعوب المستضيفة.
من تلك الأسئلة ما كان حاضراً، حضور اللجوء الفلسطيني في سورية منذ 1948، ومنها ما استجدّ مع وصول نظام البعث إلى السلطة في سورية، ومنها ما احتدم بعد الثورة السورية، وتعقّد مع انطلاق “طوفان الأقصى”، في 7 أكتوبر/تشرين الأول (2023)، وتباين مواقف السوريين منه، بين مؤيّد يراه مشروعاً مقاوماً فرضه واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال، ومخطّطات تحاك ضدّهم في المنطقة، ومعارض يراه لحظة إيرانيةً في صراعها مع إسرائيل، إذ أصبح كثيرون منهم يرون في إيران (بحكم تجاربهم معها في حماية نظام بشّار الأسد) مشروعاً أشدّ خطراً من المشروع الصهيوني. وبعد سقوط النظام في سورية، تفرض تلك الأسئلة الفلسطينية نفسها بوصفها أيضاً أسئلةً سوريةً، أو لنقل إن الإجابة عنها مرهونةٌ بمستقبل سورية السياسي ما بعد الأسد، وفي ظلّ سعيهم إلى بناء سورية ديمقراطية، دولة مدنية لجميع مواطنيها. وهي لحظة ليس في مصلحة السوريين والفلسطينيين التغافل عنها، حتى إن كان من السابق لأوانه تقديم إجابات واضحة عنها، لكنّ النقاش فيها ضروري من أجل استعادة الثقة بين الشعبين، وتعايش مشترك هو في أقله مفروض على الطرفَين.
واجبات كاملة وحقوق منقوصة
بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في سورية في العام 2011، بحسب سجلّات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، 570 ألف لاجئ، سكن 45% منهم في المخيّمات، بينما تشابك النسيجان الاجتماعيان الفلسطيني والسوري خارجها. ومنذ لجوئهم بعد نكبتهم الأولى، عقدت الحكومة السورية اتفاقاً (28 أغسطس/ آب عام 1947) مع المبعوث الأممي الكونت برنادوت يسهّل دخول الفلسطينيين إلى سورية، وتأمين الظروف الملائمة لهم. كما صدر القرار رقم 450 لعام 1949، المتعلّق بإحداث المؤسّسة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب في سورية، مسؤولة عن تنظيم وإدارة شؤونهم. وتوالت القرارات التي تنظم الوجود الفلسطيني في سورية، منها قرارات بين عامي 1948 و1952، تمنع الفلسطينيين من مزاولة بعض الوظائف، مثل المرسوم التشريعي رقم 33 للعام 1949، الذي منع الفلسطينيين من الحصول على الوظائف في مؤسّسات الدولة وإداراتها، كما منع مرسومٌ تشريعي حمل الرقم 51 للعام 1952 الفلسطينيين من مزاولة مهنة المحاماة. ألغيت هذه القرارات بالقانون رقم 260 الصادر عام 1956، الذي منح الفلسطينيين حقوقاً مدنيِّة في التجارة، والتعلّم، والتوظيف، ومزاولة المهن الخاصة، والانتساب إلى النقابات، كما حصل الفلسطيني في وقت لاحق على حقّ استصدار وثيقة سفر تمكِّنه من التنقّل بحرّية. عومل الفلسطيني معاملة المواطن السوري، لكن ذلك لم يشمل الحقوق السياسية، في الانتخاب والترشّح لمجلس الشعب، أو للمناصب السيادية، كما قُيّدت ملكيته (استقر الأمر عند أن يتملّك الفلسطيني منزلاً واحداً فقط، بعد موافقات إدارية وأمنية). وفي مقابل حقوق منقوصة، ترتّبت على الفلسطينيين واجبات كاملة، بما فيها خدمة العلم (في جيش التحرير الفلسطيني الذي أصبح خاضعاً لقيادة الأركان السورية)، كما اقتُطع من راتب الموظّف الفلسطيني 5% لصالح منظمة التحرير الفلسطينية، ذهبت خلال سنوات طويلة إلى جيوب نظام الأسد (الابن والأب) حتى سقوطه.
واجه ديكتاتور دمشق السابق حافظ الأسد، بالحديد والنار، معارضةً إخوانيةً مسلّحةً ضدّ نظامه في السبعينيّات والثمانينيّات، فوسّع السجون ومراكز الاعتقال، تحوّلت معه البلاد مسلخاً بشرياً كبيراً، كانت مدينة حماة أبرز ضحاياه. تراجعت المعارضة السورية الشعبية إلى داخل البيوت وبين جدرانها، وتلاعب حافظ الأسد بالقضية الفلسطينية شعاراً في حروبه مع إسرائيل في أراضي الآخرين (لبنان تحديداً)، وورقةً لتثبيت حكمه، فخاض مغامراته السياسية والعسكرية لاحتكار القرار الفلسطيني وإخضاع منظّمة التحرير الفلسطينية، وانحصرت المعارضة السياسية السورية في يسار سوري، في معظمه مثقّفون من أبناء الأرياف السورية و”الأقلّيات”، ومعهم شريحة واسعة من المعارضين الفلسطينيين، شكّلوا معظم نزلاء سجون ومعتقلات الأسد المُحدّثة اعتباراً من الثمانينيّات. أخضع الأسد (الأب) السوريين، وسادت الشارعَ رغبةٌ في النجاة عبّرت عن نفسها صمتاً عاماً تجاه تصفية الأسد حساباته مع “أعداء الداخل”، في مقابل فروسيته المتوهمّة تجاه “أعداء الخارج”. وكثيراً ما قوبل الفلسطيني الناقد النظامَ بالمثل الشعبي: “قاعد بحضنا وعم تنتف بدقنا”. وكان فرع فلسطين (الفرع 235) التابع للمخابرات العسكرية السورية، في دمشق، الذي أُسّس في عام 1969، همزة وصل بين الحكومة السورية ومختلف الجهات الفلسطينية المسموح لها العمل في سورية، وكان على أيّ فلسطيني يريد السفر أن يحصل على إذن من هذا الفرع سيئ السمعة (ألغي إذن السفر في عهد بشّار الأسد، واستبدل به إذن سفر في حالات معينة عبر إدارات الهجرة والجوازات)، ويعتقد أن الفرع المذكور كان أحد مراكز الاعتقال التي استعانت بها الولايات المتحدة للمشتبه في انتمائهم إلى منظّمات إرهابية، في واحدةٍ من صفحات مناورات نظام بشّار الأسد لتوطيد حكمه للسوريين. بقي بطش فرع فلسطين مسلّطاً على رقاب العباد، فلسطينيين وسوريين.
اللاجئون الفلسطينيون والثورة
انخرط اللاجئون الفلسطينيون في سوق العمل، ولم يكونوا عالةً على مضيفيهم، بل شاركوا في العملية الإنتاجية في القطاعين العام والخاصّ. وشهدت مخيّماتهم نشاطاً سياسياً وثقافياً عُدَّ متقدّماً بالنسبة إلى الحالة السورية، وإضافة إلى سوريين انضمّوا إلى صفوف الثورة الفلسطينية مقاتلين، انضمّ إلى الحراك المذكور في المخيّمات مثقّفون سوريون، وجدوا فيه متنفّساً بعد احتكار النظام مجالهم العام. مع ذلك، بقيت المخيّمات الفلسطينية تحت المراقبة الأمنية المشدّدة، سادت معها النظرة الأمنية في التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين، وكان الجميع، فلسطينيين وسوريين، متّهمين حتى يثبتوا الولاء للنظام بطرائق شتّى.
تشابك النسيجان الاجتماعيان الفلسطيني والسوري مجدّداً، وهذه المرة داخل المخيمات، فبعد انتعاش مخيم اليرموك (أكبر تجمعات الفلسطينيين في سورية) اقتصادياً مطلع التسعينيّات، أصبح بيئة جاذبةً للسكن والاستثمارات الاقتصادية، وربّما تجاوز عدد السكّان السوريين في أحياء المخيّم المستحدثة (وتوسّعه) عدد لاجئيه من الفلسطينيين.
مع انطلاق الثورة السورية في العام 2011، خشي الفلسطينيون السوريون من أن يشهدوا مصيراً مشابهاً لمصير فلسطينيي الأردن (أيلول الأسود 1970-1971)، أو مصيرهم في أتون الحرب الأهلية اللبنانية (1976-1990)، التي تخلّلتها اجتياحات إسرائيلية وسورية، ثمّ مصيراً مشابهاً لبني جلدتهم في الكويت بعد الغزو العراقي (1990)، ثمّ العراق إبان الاحتلال الأميركي (2003). لكن تجمّعاتهم وقعت في براثن استقطاب حادّ بين المعارضة والنظام، كان معه الحياد مستحيلاً، وتورطوا في الثورة السورية، إنسانياً أولاً، بدءاً بإيوائهم سوريين نازحين هاربين من بطش النظام من بلدات ريف دمشق الملاصقة لمخيّم اليرموك، وبدأت التظاهرات المناهضة للنظام تمتدّ في داخل المخيّم، بينما شكّلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة ما سمّتها “لجاناً شعبية” مسلّحة لمنع دخول هؤلاء النازحين، والحيلولة دون مزيد من التظاهرات. المجزرة التي نفّذتها طائرات النظام السوري (ديسمبر/ كانون الأول 2012) بحقّ المصلّين والنازحين في جامع عبد القادر الحسيني كانت نقطة تحول دراماتيكية في مصير المخيّم. غادره كثيرون، قبل أن يُطبِق النظام ومليشيات فلسطينية حصارها عليه. حصار طاول 18 ألفاً، قُتِل خلاله مئتان من سكّانه جوعاً ومرضاً، وهو ما اعتبرته منظّمة العفو الدولية جريمة ضدّ الإنسانية، ناهيك بعشرات المعتقلين.
تفتيت المجال السوسيولوجي الفلسطيني
بسيطرة النظام وعملائه على مخيّم اليرموك، خلا من سكّانه، وأعلن النظام مخطّطات “إعادة إعمار” تُبقي 40% من أحياء المخيّم القديم، وتحوّله حيّاً دمشقياً، مع تعويضات هزيلة لسكّان المناطق الخاضعة للتنظيم الجديد. شهدت المخيمات لاحقاً عودةً محدودةً لبعض السكّان عبر بوابات أمنية. بكل حال، فُتّت مجال الفلسطينيين السوسويولوجي في عموم سورية، وغادرها معظم الفلسطينيين الذين شاركوا سوريين قوارب موت أبحرت بهم نحو أوروبا، أو عبروا معهم المنافذ البرّية الرسمية وغير الرسمية تحت زخّات رصاص حرس حدود دول الجوار. وبقي منهم في العام 2022، بحسب تقديرات، 40 ألفاً عاش 3% منهم في ما تبقى من مساحات في مخيّماتهم المدمّرة، وتقاسم الباقون عموم الجغرافيا السورية. توزّع سكّان مخيّم اليرموك (وفق موافقات أمنية مدروسة) بين مناطقَ في أرياف دمشق وضواحيها. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قُتِل 3207 لاجئين فلسطينيين بيد قوات النظام ما بين مارس/آذار 2011 وأكتوبر/ تشرين الأول 2022، ووثّقت مجموعة العمل لأجل فلسطينيي سورية اعتقال النظام السوري السابق أكثر من 3085 فلسطينياً، من بينهم 127 امرأة و45 طفلاً، ما بين عامي 2011 و2014 فقط. وقد يكون العدد أكبر من ذلك إذا ما أخذنا بالاعتبار من أعتقل بعد تلك المدّة. وكشفت السجون المحرّرة بعد سقوط النظام، بحسب “المجموعة”، مصير 42 منهم فقط، منهم من لا يزالون يبحثون عن ذويهم من دون أن يجدوا لهم سبيلاً، أو يعلموا في أيّ أرض يقيمون.
الفلسطينيون في حُكم الأجنبي
في السنوات اللاحقة للثورة السورية، وإضافة لتشديد المراقبة الأمنية، شعر الفلسطينيون بتوجّهات تنتقص من وضعيتهم القانونية، فأزيلت عبارة “من في حكمهم” التي كانت تأتي معطوفة في القرارات السورية على كلمة “السوريين”، واستثنوا من حقّ التقدّم لأيّ وظائف حكومية، وحرمهم القرار رقم 1011 الصادر عن مجلس الوزراء السوري عام 2021 من حق المليكة، حين نصّ على تعديل الفقرة (ب) من المادة الأولى من قانون تملّك الأجانب العقارات، لتصبح “يقصد في عبارة غير السوري أيّ شخص طبيعي أو اعتباري لا يحمل الجنسية العربية السورية”، من دون استثناء اللاجئين الفلسطينيين من نصّ القرار الذي كشفه ناشطون حقوقيون من دون إعلان رسمي من حكومة النظام البائد. وأيضاً، لم يعد بإمكان من هم في خارج البلاد منهم توكيل ذويهم في الداخل السوري لتسيير أمورهم، كتلك المتعلّقة ببيع ممتلكاتهم أو تقديم استقالاتهم، ونحوها.
قبل سقوط النظام، خشي الفلسطينيون من أن تسوية سياسية هشّة، تفرضها القوى الدولية في سورية تنهي الصراع، قد تدفع باتجاه استقرار ظاهري مؤقت يبقيهم تحت رحمة مناورات سياسية داخلية وخارجية، خصوصاً بعد رسائل إيجابية وجهتها شخصيات سورية معارضة إلى الاحتلال الإسرائيلي، تقابلها أخرى من رموز النظام السوري، تمثّلت في مقولة رامي مخلوف الشهيرة “أمن سورية من أمن إسرائيل”. كما خشي اللاجئون الفلسطينيون من أن ينتهي الصراع بتفكّك الدولة السورية، فيصبحوا ضحيّة إعادة تعريفهم وتموضعهم طائفياً وديمغرافياً، ليبقى مصيرهم معلّقاً بهوية النظام السياسي المقبل في سورية.
سقط النظام، وتحتاج مؤسّسات الدولة السورية إلى إصلاح. لكنّ الفلسطينيين لمسوا خطوات مبشّرة تشي بانتباه السلطات القائمة حالياً إلى وجودهم، فأزيلت حواجز النظام البائد الأمنية من مخيّم اليرموك، وأصبحت حركتهم منه وإليه حرّةً، كما سُمح للفلسطينيين السوريين، بحسب ما توارد من أخبار، بالعبور من لبنان إلى سورية من دون جوازات سفر اكتفاء بهويتهم الشخصية السورية (تذكرة الإقامة المؤقتة للاجئين الفلسطينيين التي منحتها لهم السلطات السابقة). وهناك تقارير (لم تتأكد صحتها) عن اجتماع أمني عقدته الإدارة العسكرية السورية الحاكمة سوريةَ حالياً مع فصائل فلسطينية، بهدف نقاش تسوية وضع معسكرات الفصائل الفلسطينية وأسلحتها الموجودة في الأراضي السورية.
طبعاً، لا يحتاج الفلسطينيون في سورية إلى أسلحة، ولا يريدونها، بل يطالبون بمحاسبة من نكلّ بهم بسلاحه، سواء حمل هذا السلاح فلسطينيون أو سوريون، فهم يتوقون كما يتوق السوريون إلى عدالة انتقالية يستحقّونها، تشمل تقصّي وكشف الحقائق والملاحقات القضائية والتعويضات (مادّياً ومعنوياً)، وتدابير منع تكرار الانتهاكات من جديد، بما فيها الإصلاح الدستوري والقانوني والمؤسّسي، وتقوية المجتمع المدني… إلخ.
خاتمة
إذاً، في ظلّ وحدة المصير، ستجيب المرحلة السورية المقبلة عن تساؤلات فلسطينية، تتعلّق بوضعيّتهم الاجتماعية القانونية، هل سيعودون إلى وضعية واجبات كاملة في مقابل حقوق منقوصة؟ أم سيعاملون باعتبارهم أجانب؟ أم لاجئين؟ ما يعني أن تطبّق عليهم القرارات الدولية بخصوص اللاجئين التي تلزم سورية بوصفها عضواً في الأمم المتحدة، وهل ستمنح أجيال اللاجئين الفلسطينيين بعد 76 عاماً من الإقامة والعمل الجنسيةَ السورية (ولا يتعارض هذا مع حقّ العودة)، كما منح اللاجئون السوريون الجنسية في دول أوروبية بعد إقامتهم فيها مُدداً تتراوح بين خمس وعشر سنوات؟… تمكُّن السوريين (ومعهم الفلسطينيين) من تحقيق أهداف الثورة السورية بدولة المواطنة يعني إجابات مقنعة عن الأسئلة الفلسطينية، أمّا خلاف ذلك (وهو ما لا يتمنّاه كلُّ مُحبٍّ لسورية)، فيعني تفكيك المجال السوسيولوجي الفلسطيني في سورية من غير رجعة.
صحيح أن الفلسطينيين انقسموا بين موالاة ومعارضة، فإلى جانب فصائل وقفت مع النظام (وهي تاريخياً لم تتردّد في حمل السلاح في وجه أشقائهم الفلسطينيين الذين لم يرضَ عنهم نظام الأسد أباً وابناً، وزجّت في سجونه آخرين)، هناك فلسطينيون أفراد شاركوا في الثورة المسلّحة ضد النظام، حتى حركة حماس، قاتل 300 من عناصرها النظامَ في مخيّم اليرموك، واتهمها نظام الأسد بمساعدة الثوار في غوطة دمشق في حفر الانفاق وصناعة العبوات المتفجّرة… نقول، صحيح أن الفلسطينيين انقسموا بين موالاة ومعارضة، لكن حالهم في ذلك حال السوريين، فالفلسطينيون في نهاية المطاف جزء من نسيج المجتمع السوري.
كما آن أوان حسم الجدل بشأن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يثبت باحتلاله مزيداً من أراضٍ سورية أنه عدوٌ ليس للفلسطينيين فقط، بل لأيّ شعب يريد التحرّر من الاستبداد، الاستبداد الذي يحميه الاحتلال ويحتمي به. والدرس السوري يقول إن طريق القدس لا يمرّ عبر تثبيت قوى القهر والاستبداد، فما من معنى للتحرير من دون حرّية، بل هل هو ممكن؟… في الأحوال كلّها، وبعد أكثر من عام على “طوفان الأقصى”، ندرك أن إيران كانت عائقاً أمام حلم السوريين بالحرّية، حين حمت النظام سنوات، لكنّها لم تحمِ الفلسطينيين في غزّة، ولا حليفها حزب الله في لبنان. ولم تقاتل إسرائيل كما استشرست في القتال إلى جانب الأسد، وتبدو الطريق ممهّدة اليوم لضرب المشروع النووي الإيراني أميركياً وإسرائيلياً، وربّما إسقاط النظام في إيران (مع أن من يناط به ذلك هو الشعب الإيراني). صحيح أن إسرائيل استفادت من سقوط النظام في سورية، وتصفية الوجود الإيراني فيها، وقطع الذراع الإيرانية الممتدّة إلى حزب الله، لكن ذلك لا ينبغي أن يعكّر فرحة السوريين، وفرحتنا، بسورية حرّة من دون استبداد. دعم القضية الفلسطينية لا ينبغي (ولم يكن ينبغي) له أن يكون على حساب الشعوب الأخرى، تنعدم قيمة هذا الدعم أخلاقياً، وحتى براغماتياً. الحرّية والتحرّر من الاستبداد والاحتلال والتبعية مسؤولية شعوب المنطقة متمتّعةً بالحرّية، تحكم نفسها بنفسها، مواطنين لا رعايا، وستبقى إسرائيل العدو الأول للسوريين والفلسطينيين واللبنانيين وللإنسانية جمعاء، ومشروعاً عنصرياً إحلالياً، ينبغي توفير الأدوات والإمكانات الذاتية لمواجهته.
هل يفرز اللاجئون الفلسطينيون ممثليهم من أجل حوار وطني سوري فلسطيني في سورية؟
العربي الجديد
—————————–
بين نير الاستبداد والتوق إلى الحرّية/ معين الطاهر
16 ديسمبر 2024
أعترف أن ثمّة صخرة كبيرة جثمت على صدري، وازداد ثقلها مع حرب الإبادة الجماعية التي شنّها الاحتلال على قطاع غزّة، ثمّ خف الثقل مع الصمود الأسطوري للمقاومة الذي حافظ على شرف الأمّة، وعاد ليزداد مع تجويع أهل غزّة المترافق مع الموقف العربي الرسمي المتردّي والصامت عن سياسات القتل والتدمير الممنهج في فلسطين ولبنان. وبعد مسلسل التفجيرات والاغتيالات التي امتدّت من طهران إلى بيروت، وانتهت، بعد قتال ضارٍ، بفكّ ارتباط الجبهة اللبنانية بجبهة فلسطين. وعلى الرغم من صعوبة الموقف في المدى القصير، لم ينقطع الأمل يوماً، إذ إنّ الإيمان بحتمية النصر وتوفّر أسبابه الذاتية والموضوعية لم يتزعزع. في ظلّ هذا الواقع الصعب والمرير، أطلّت علينا الأخبار المفرحة عن شمس قد أشرقت في سماء دمشق، بعد أن اندحرت تلك الغيوم السوداء المتراكمة، وأن الياسمين الدمشقي قد فاحت رائحته من جديد، وانتشرت مع نسيم الحرّية الذي ملأ أجواءها.
أحسنت المعارضة السورية، بعد تحرير دمشق وسط ترحيب شعبي لافت، في حرصها على الانتقال السلمي للسلطة، وعدم لجوئها إلى الثأر والانتقام، على الرغم من الألم والمعاناة التي عاناها الشعب السوري في أعوام الاستبداد الطويلة، وإعلانها عفواً عامّاً عن المجنّدين في الجيش السوري. لكن ثمّة سؤال مركزي يتردّد صداه عما إذا كان ياسمين دمشق سينعش الحرّية والديمقراطية، ويوفّر الأمان والمساواة للشعب السوري كلّه في مختلف مناطقه، وينجح في إنجاز مصالحة وطنية، ويحافظ على وحدة التراب السوري، أم سيُنتج نموذجاً مغايراً للاستبداد والتفرّد، وقمع الحرّيات، والتمييز بين المواطنين، وهل ستسود الرغبة في الثأر والانتقام، أم روح التراحم والمحبّة والتسامح؟ وهل ستُبنى سورية حديثة حرّة وديمقراطية لتكون نموذجاً للتغيير أمام العالم العربي كلّه، أم ستشكّل نموذجاً للانطواء والتخلّف والعزلة؟… ثمّة قرارات حاسمة ينبغي اتخاذها بسرعة، وهي تتعلّق بقدرة المعارضة على فرض الأمن، وتوفير لقمة العيش، وإجراء مصالحات وطنية، وإشراك قطاعات واسعة من الشعب السوري في إدارة الدولة، وتشكيل حكومة ائتلافية، والمحافظة على الجيش السوري، وعدم تكرار النموذجين العراقي والليبي، والنأي بنفسها عن المحاور الإقليمية.
ثمّة تحدٍّ رئيس وجوهري أطلّ برأسه بعد تحرير دمشق، تمثّل في مئات الغارات الصهيونية التي استهدفت مواقع الجيش السوري ومخازن أسلحته وصواريخه وطائراته وقطعه البحرية كافّة، بهدف إنهاء القدرة القتالية للجيش السوري وتدميرها، ومنع انتقالها إلى المعارضة. كما تمكّن الاحتلال من السيطرة على ما تبقّى من الجولان وجبل الشيخ، والتقدّم باتجاه ريف دمشق، وأصبح على مسافة 25 كيلومتراً منها، وترافق ذلك مع إعلان وزير الأمن الإسرائيلي أن جبهة رابعة قد فُتِحت في الأراضي السورية، وأن هذه العمليات ستستمرّ، ووفق تصريحات متلاحقة لمسؤولين صهاينة، أن سورية لن تكون موحّدةً، مذكّرين بالمخطّط الصهيوني السابق عن حلف الأقلّيات في المنطقة.
تحتاج مواجهة هذا العدوان الصهيوني الجديد أولاً تعزيز الوحدة الوطنية في سورية، والوقوف صفّاً واحداً في مواجهة هذا العدوان، وترتيب الوضع الداخلي، ونبذ دُعاة التطبيع والاستسلام من بين الصفوف. يستغلّ العدو الظرف الذي تمرّ فيه سورية هذه الأيام، لكن استمرار العدوان سيقيم الظروف المناسبة لمواجهته، ويثبت من جديد أن العدو الرئيس لسورية وشعبها، كما هو حال الأمة العربية كلّها، هو العدو الصهيوني الذي ينبغي حشد جميع القوى ورصّ الصفوف لمواجهته.
“طوفان الأقصى” وسقوط نظام بشّار الأسد قلبا وجه المنطقة، وأوجبا (وسيوجبان) على دولها وقواها تغيير مقارباتها السابقة، وصوغ رؤى جديدة تتلاءم مع الوقائع المستجدّة، وتعيد النظر في سياساتها السابقة، أفلا يوجب ذلك على حزب الله، مع التقدير الكامل لمقاومته ضدّ العدوان الصهيوني على لبنان، أن يعيد تقييم مشاركته مع النظام في سورية، وأن يستخلص أن المقاومة لا تستقيم مع الاستبداد والظلم والوقوف في مواجهة الشعوب؟ ألا يتوجب على ما عُرف بمحور المقاومة أن يخلص إلى أن هذا المحور لا يمكن أن يتشكّل إلّا على قاعدة أن فلسطين قضيته المركزية، وليس على قاعدة الحروب والصراعات الداخلية في الدول العربية؟ وهل التغيير الكبير في الخطاب الإيراني، بعد انهيار النظام السوري، وحديث المسؤولين في إيران عن ابتعاد الرئيس السوري عن شعبه، والنصائح التي وُجهت إليه على لسان قاسم سليماني بضرورة الالتفات إلى الشعب السوري، كافية، أم ثمّة حاجة ملحّة لتقييم السياسة الإيرانية في المنطقة، التي أدّت عملياً إلى عزلها عن الجزء الوازن من الجمهور العربي، والتورّط في صراعات جانبية لم يكن بالإمكان تفسيرها بعيداً عن أيديولوجيات ذات بُعد مذهبي يضرّ بوحدة الأمة في مواجهة عدوها؟ بل قد نكون عملياً قد تجاوزنا مرحلة تقييم هذه السياسات إلى رؤية الوقائع الجديدة في الأرض في سورية ولبنان والعراق، وهذا يوجب سياسات تصالحية أكثر اتحاداً والتصاقاً مع الإقليم وشعوبه ودوله.
نحن الآن على مفترق طريق ستتحدّد ملامحه عبر مسألتَين؛ الأولى كيف سنواجه اليوم التالي لما بعد حرب الإبادة الجماعية في غزّة، وندعم الشعب الفلسطيني في صموده في أرضه؟ والثاني يتعلّق بمسار الثورة السورية، فهي إمّا أن تكون فاتحة “ربيع عربي” جديد مشرق ومزدهر، يستفيد من التجارب السلبية السابقة ودروس الثورات المضادّة ليتجنّبها، ويفتح باب الأمل أمام الشعوب العربية، ويعيد إليها ثقتها بقدرتها على التغيير، أو أن تفشل هذه التجربة المضيئة، فتتكرّس أنظمة الاستبداد وسيلةً وحيدةً للمحافظة على شكل الأوطان، بعيداً من حرّيتها وحرّية شعوبها.
العربي الجديد
—————————
جرائم تفوق التصوّر/ محمود الرحبي
16 ديسمبر 2024
كان مصدرنا في السابق لمعرفة جرائم النظام الأسدي (الأب ثمّ الابن) رواية مصطفى خليفة “القوقعة … يوميات متلصّص”، (دار الآداب، بيروت، 2008)، والتي شهدت رواجاً عربياً أولاً، ثمّ تُرجِمت إلى عدة لغات. وهي تسرد قصة الكاتب نفسه، إلى جانب رفيق له، كما صرّح الكاتب بعد نشرها.
يأتي بطل الرواية من باريس في زيارة إلى سورية، فيُلقى عليه القبض بسبب وشاية مخبر، ذات سهرة جمعته بأصدقاء في باريس، اتهمه بأنه سخر خلالها من الرئيس حافظ الأسد. ورغم أن البطل هنا مسيحي، يُحشَر مع معتقلين مسلمين، وفي أثناء التحقيق يعترف بأنه ملحد، لا مسلماً ولا مسيحيّاً، علّ هذا الاعتراف يكون في صالحه فيخفّف عنه العذاب، ولكنّ هذا الاعتراف يكون سبباً في إضافة عذاب نفسي إلى العذاب الجسدي المستمرّ، حين ينفر منه السجناء بسبب إلحاده، ما يجعله يعيش في قوقعةٍ يرسمها في ذهنه، ويركن إلى الصمت والمراقبة و”التلصّص”، وإحاطة نفسه بعزلة تامّة، استطاع في أثنائها أن يرصد صنوف العذاب التي يعانيها المساجينُ في أكثر من سجن سوري، إبّان فترتي الأسد الأب، ثمّ الابن، إذ تنكشف الآن جرائمهما الفظيعة في حقّ المساجين الذين يتعرّضون للسجن ثمّ للموت لأيّ سبب، حتى إن كتبوا منشوراً في صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي ضدّ النظام. ومن أبرز هذه القصص الحقيقية، قصّة مازن الحمادة الذي لم يمهله القدر لأن يرى سورية وقد تحرّرت من كابوس خانق، كان حتى وقت قصير يظنّه الجميع أبدياً، فبدأت مختلف الدول التطبيع معه.
عديدة الاعترافات التي قرأها كاتب هذه السطور عن سجون عربية أشبه بأقبيةٍ لا إنسانية، بعضهم يُحشَرون في غرف طينية مظلمة وضيّقة مقيّدي الأرجل والأيادي بالسلاسل فترات طويلة. وإن كانت تلك حالات فردية قياساً بما حدث في سورية من عقاب يكاد يكون جماعياً، نظراً إلى كثرة ضحاياه، إلى جانب الممارسة المستمرّة للتعذيب وعدم الاكتفاء بالعزل والسجن، فما رأيناه من ضحايا سجون الأسد يفوق الوصف، خاصّة ما كشف عنه سجن صيدنايا من قصص مرعبة، لم تُكشَف تفاصيلها الدقيقة بعد، فبعض المساجين ما زالوا يستحون ويتحرّجون من ذكر أدقّ التفاصيل، خاصّة في جانبها الجنسي.
عاش الشعب السوري في أثناء حكم الأسد في ظلّ مجموعة من السجون، بداية من سجن الخوف والإهانات والتنكيل، ثمّ السجن الحقيقي، حين يُحشر الناس ومن مختلف الأعمار في أقبية لا إنسانية، ينتظرون أن يأتيهم الموت في أيّ لحظة، والناجي من هذه السجون إن خرج سليم الجسد، فإنه يكون مُثقلاً بذكرى مريرة، سواء لما مرّ به شخصياً من عنف وعذاب وإهمال، أو لما رآه من صنوف التعذيب والتنكيل لنزلاء آخرين تعرّف إليهم. ستخرُج علينا الآن مجموعة من القصص المريرة لسجون الأسد، كلّ قصة منها تستحقّ أن توثَّق في قصّة طويلة أو رواية أو حتى سيرة تفصيلية أو فيلم سينمائي، سواء كانت هذه السيرة ذاتيةً أم غيرية. فسورية تحرّرت أخيراً من خوف الحديث عن هذا الجانب، فقائد عصابة السجّانين في سورية صار الآن هارباً ولاجئاً وربّما تنتظره محاكمة، فقد هرب في ليل من سورية، تاركاً بلاده لتقلّبات الرياح. ولكن آلاف المساجين سواء من قضى منهم أومن لم يزل حيّاً، لن ترتاح أرواحهم قبل أن يروا الجلّادين وآمريهم يحاكمون وينالون عقوبتهم، وكلّ من شارك وساعد في رسم هذه البشاعة البشرية، التي رأينا منها صوراً مفزعة في الأيّام الماضية. صور لمنسيّين في الظلام، قضى بعضهم عشرات السنين من دون أن يتمكّنوا من الدفاع عن أنفسهم، وما كان لهم أن يروا نور الشمس بسهولة، لولا أن نال التوفيق الثوار فدخلوا دمشق فاتحين (للبلد، وللسجون أيضاً).
وإذا كانت القصص (في أثناء كتابة هذه السطور) تروى عن فظائع هذه السجون، فلا شكّ أن قصصاً أخرى كثيرة ستروى، فكثير من المساجين ما زالوا تحت سيطرة الصدمة واحتباس الكلام، ستهدأ أحوالهم رويداً رويداً ويستطيعون حينها أن يسردوا لنا تفاصيل دقيقةً، عمّا حصل لهم في أقبية وظلمات أشدّ الأنظمة عنفاً ولا إنسانيةً في العصر الحديث.
————————-
موسكو حليفة بشّار… ولكن/ سامح راشد
16 ديسمبر 2024
تساؤلات كثيرة أثيرت (ولا تزال) عن موقف حلفاء بشار الأسد، ومدى خذلانهم له، في الأيام التي سبقت هروبه خصوصاً. ولمّا كانت إيران الحليف الإقليمي الأوّل والأوثق تمرّ بفترة شديدة الصعوبة، على وقع ضربات متتالية تلقّتها خلال الأشهر الماضية، فإن موقفها أكثر قابليةً للفهم والتفسير، خاصة بالنظر إلى ما تناقلته تسريباتٌ عن شكوك ساورت طهران بشأن حقيقة موقف دمشق، أو بالأدقّ دورها في تمرير معلومات خطيرة إلى إسرائيل، أسهمت في نجاح موجة الاغتيالات المتتالية لقيادات حزب الله.
الجدير بالتأمل والنظر هو سلوك روسيا الحليف العالمي الرئيسي لدمشق، والقوة العالمية الأكثر استفادة من عدم زوال نظام بشار الأسد طوال العقد الماضي، فلروسيا مصلحة حيوية في الحفاظ على الوجود العسكري الذي منحه إياها نظام الأسد. لذا، فإن التخلّي عن دعم ذلك النظام، وعدم مساندته في مواجهة فصائل المعارضة، مسألة يشوبها غموض كبير.
كانت موسكو تتابع تطوّر استعدادات الفصائل السورية المسلّحة، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام، وتحضيراتها للهجوم الشامل الذي شنّته على مواقع سيطرة الجيش النظامي السوري، فقد استغرقت تلك الاستعدادات ما يقارب ستة أشهر، بين مراكمة أسلحة وذخائر، وإعادة انتشار للقوات والمجموعات المسلّحة، في مساحات شاسعة من الأراضي السورية، ثمّ إجراء الترتيبات اللوجستية، والتنسيق السياسي مع القوى المجتمعية الداخلية. وإن لم تحصل موسكو على معلومات استخباراتية مباشرة على الأرض، فلابد أن هذه الترتيبات كلّها كانت مرصودة بالأقمار الاصطناعية.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا “باعت” موسكو بشّار الأسد؟… الإجابة أن الأسد هو من باع الجميع أولاً. فقد تعامل مع حلفائه، على قلّة عددهم، بالقطعة، وظنّ أنه بإرضاء كلّ منهم جزئياً، أو في مسألة ما، أو خلال وقت محدّد، سيحافظ على تحالفاته معهم جميعاً، ويستمرّ في تحصيل دعمهم بلا توقّف. ولم يكن يتعامل مع الحلفاء، بمن فيهم إيران وروسيا، بثقة. فقد كان يسمع ولا يستمع، يتلقّى النصائح والاقتراحات، ثمّ ينفّذ شيئاً آخر، أو يتّخذ إجراءات لا تتسق مع تلك النصائح، بل أحياناً معاكسة لها.
وبعد عشر سنوات من التواجد العسكري الروسي المباشر في الأراضي السورية، والحصول على قاعدتَين عسكريتَين هناك، فإن موسكو لم تعد تحصل من دمشق على كثير، بل العكس هو الصحيح، إذ صار نظام بشّار الأسد (بمرور الوقت) عبئاً ثقيلاً على موسكو، خصوصاً على المستوى العملياتي، فحين تدخّلت روسيا عسكرياً في سورية، كانت تتوقّع أنها لن تحتاج لاحقاً سوى إلى إمداد الجيش السوري بالسلاح والخبرات الفنّية، من دون تكرار التدخّل المباشر بقوات روسية. غير أن موسكو فوجئت بعجز الجيش السوري عن الوفاء بمهامّه الأصلية جيشاً نظامياً، حتى في المناطق التي يسيطر عليها النظام. والأكثر مأساوية، هو انتشار الفساد وسط صفوف الجيش وانشغال أفراده بأنشطة تهريب وابتزاز. وبالطبع، لم يكن لدى عناصر الجيش السوري جاهزية ولا إرادة للتدريب على الأسلحة التي قدّمتها موسكو إلى نظام الأسد طوال عشرة أعوام. ومن ثمّ، وجدت روسيا نفسها مطالبةً بالدفاع عن دمشق أمام أيّ خطر جوهري، وفي الوقت نفسه، عليها أن تتحمّل عناد بشّار الأسد وعقليته المتصلّبة، كما حدث حين توسّطت موسكو للتقريب بين دمشق وأنقرة، حيث توقّف المسار بسبب رفض بشّار التفاهم الذي رعته روسيا.
لقد تخلّت موسكو عن بشار الأسد، لأنه أراد دعماً عسكرياً وغطاءً سياسياً وحمايةً أمنيةً من روسيا، من دون مراعاة مصالحها، وإنما بشروطه هو. لقد اغترّ الأسد، ولم يدرك معنى التحالف وأن لكلّ شيء ثمناً مقابلاً، وحاول أن يُرضي حلفاءه ظاهرياً لا عملياً، فلم يُرضِ أحداً.
العربي الجديد
—————————
كيف نهب بشار ثروات سورية تحت عنوان “مكافحة الفساد”؟/ مصطفى عبد السلام
16 ديسمبر 2024
تثبت الأيام والحقائق أن بشار الأسد لم يكن مجرد حاكم طاغية مستبد وقاتل ومصاص دماء يعشق القتل حيث قتل مليون سوري بدم بارد خلال الحرب الأهلية، بل لص سارق عتيّ الإجرام المالي وله خبرة طويلة ليس فقط في ارتكاب جرائم غسل الأموال القذرة وتهريبها إلى الخارج، بل في كل أنواع الجرائم المالية من رشى وفساد واحتكارات والتربح من المال العام والإثراء غير المشروع والسمسرة في أصول الدولة. كما حقق الأسد ورموز نظامه عائدات ضخمة من الاتجار الدولي بالمخدرات وتهريب الوقود، وفقا تقارير غربية.
وربما تقف زوجته أسماء الأخرس، المصرفية السابقة في بنك “جي بي مورغان” الاستثماري الأميركي، في مقدمة مهندسي تلك العمليات المالية القذرة التي نجح بشار الأسد من خلالها في نهب ثروات سوريا وسرقة مليارات الدولارات من أموال السوريين الذين عانوا خلال فترة حكمه من ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة، وانهيار في كل شيء بداية من العملة المحلية ونهاية بالرواتب والأجور.
أمس الأحد، كشف تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز”، أن نظام الأسد نقل 250 مليون دولار على متن طائرات إلى روسيا خلال عامي 2018 و2019، في وقت كانت فيه الدولة السورية تعاني من انهيار حاد في موارد النقد الأجنبي، ولا يوجد دولار واحد في خزينة البنك المركزي، ووجدت الحكومة نفسها عاجزة عن تدبير السيولة الدولارية المطلوبة لاستيراد سلع أساسية واحتياجات الأسواق مثل القمح والأغذية والبنزين والسولار وغاز الطهي. وأعقب عملية التهريب شراء أسرة الأسد أصولاً وعقارات في روسيا، خاصة في حي المال والأعمال “موسكو سيتي” الشهير.
وأظهرت سجلات حصلت عليها الصحيفة البريطانية أن نظام الأسد الذي كان يزعم أنه يعاني من نقص شديد في العملة الأجنبية، نقل أوراقاً نقدية تزن نحو طنين من فئتي 100 دولار و500 يورو، عبر مطار فنوكوفو في العاصمة موسكو، لإيداعها في بنوك روسية خاضعة للعقوبات الغربية.
والملفت أنه في العامين الذين هرب بشار الأسد خلالهما ربع مليار دولار لبنوك روسيا من ثروات السوريين خرجت علينا وسائل الإعلام السورية وقتها بعناوين براقة، أبرزها إطلاق النظام الحاكم حملة “محاربة للفساد”، مؤكدة أنّ من يقف خلف الحملة هو بشار الأسد وزوجته، وكان أول ضحايا الحملة وزير التربية السوري هزوان الوز وزوجته؛ اللذين تم اتهامهما باختلاس أموال عامة، ثمّ توسّعت الحملة لاحقاً لتشمل شركات مملوكة لابن خال بشار وهو رجل الأعمال رامي مخلوف، صاحب شركة اتصالات سيريتيل وأكبر الداعمين للأجهزة الأمنية.
ووصل الأمر إلى حدّ الحجز على أموال رامي وأيمن جابر وعددٍ من رجال الأعمال المحسوبين على النظام، بعد أيام من إجراءٍ مماثل استهدف طريف الأخرس، ابن عم فواز الأخرس والد أسماء.
ووفق البيانات الرسمية، فقد أصدرت وزارة المالية في العام 2019، نحو 600 قرار بالحجز الاحتياطي على أموال 10315 شخصاً. لكن تبين لاحقا أن هذه الحملة وغيرها كانت مجرد غطاء لنهب بشار ثروات سورية وتحويل الناتج عن عملياته غير المشروعة للبنوك الخارجية.
وفي الوقت الذي كان فيه مصرف سورية المركزي يحول ملايين الدولارات من أموال وثروات سورية لأرصدة وحسابات عائلة بشار الأسد في روسيا كان النظام يسبق تلك الخطوة بالتنازل عن أهم أصول الدولة لحلفائه والمحتلين الجدد، حيث تنازل عن مرفأ طرطوس لصالح روسيا بموجب عقد تأجيرٍ لمدة 49 عاماً، وقبلها أسند إدارة مرفأ اللاذقية لإيران، وبعدها واصل رهن أصول الدولة وبيع مقدراتها للقوى التي ساهمت في منع نظامه من السقوط والانهيار، منها منح عقود طويلة الأجل لاستثمار أنشطة استخراج الفوسفات والغاز والنفط.
تميز 2019 أيضا بأنه كان عام الصدمات الاقتصادية والأزمات المعيشية العنيفة في سورية، حيث شهد أزمات الوقود الخانقة، وأسوأ انهيار لليرة السورية، وأعلى معدلات التضخم، وضعف القوة الشرائية في تاريخ الدولة، مع ندرة المعروض من السلع والبضائع في الأسواق، وعجز مالي لخزانة الدولة، وإقرار قانون سيزر الأميركي.
وبحسب الأرقام وقتها، فقد بلغت نسبة الفقراء السوريين، بحسب الأمم المتحدة، 83% من إجمالي السكان. وبلغ معدل البطالة رقماً خيالياً هو الأعلى على مستوى العالم، يراوح بين 50% و78%، وفق تقديرات أممية.
ببساطة، صبت إيرادات الاقتصاد السوري في جيوب وخزن آل الأسد بدلاً من الخزانة العامة للدولة طوال فترة حكم هذه الأسرة، و
كان بشار ينهب المزيد من أموال وثروات السوريين ويحولها للخارج حيث أرصدته وحساباته المصرفية وعقاراته وذهبه وأسهمه وسنداته وذلك بمساعدة مصرف سورية المركزي وتحت رعاية وهندسة أسماء الأسد، في الوقت الذي كان فيه النظام يطلق حملات خادعة من عينة مكافحة الفساد وتجفيف منابعه رغم أنه كان المنبع الأول للفساد طوال سنوات حكمه، ويوعز إلى إعلامه بأن الهدف من تلك الحملات هو التخفيف عن رجل الشارع، وتحصيل أموالٍ وإيرادات من شأنها المساعدة على تدارك انهيار الاقتصاد ووقف تهاوي الليرة وعلاج أزمة التضخم والغلاء، ويتاجر بآلام السوريين وأزماتهم المعيشية، بل ويزعم أن الارهاب تسبب في “تصفير” خزينة البنك المركزي من السيولة الدولارية، رغماً أن تلك الخزينة كان بها ما يزيد عن 20 مليار دولار قبل سنوات الحرب الأهلية، وأنه يجري اتصالات مكثفة بحلفاء سورية للحصول على قروض ومنح لتمويل شراء واردات الدولة من الدقيق والزيوت والأرز والسكر.
العربي الجديد
——————————-
أدونيس وخيانة مهيار الدمشقي/ زياد بركات
16 ديسمبر 2024
ليس مطلوباً من الكاتب أو المثقف أن يكون معلّقاً سياسياً. هذا ليس دوره في الأساس، وينطبق الأمر على أدونيس، ولكن التعليق السياسي ليس “الموقف” مما يحدث، وبعضه مفصلي في حياة الشعوب والدول، ومنه أن رئيساً وصل إلى الحكم بالوراثة، وبقوة السلاح و”البعث” والأجهزة، لا بالانتخابات، فرّ إلى موسكو، وأن السوريين وهم من أعرق شعوب المنطقة والعالم، ثاروا عليه منذ عام 2011، فقُتل منهم نحو نصف مليون، وهجّر نحو 12 مليوناً ما بين لاجئ ونازح.
شأن كهذا ليس حدثاً سياسياً عابراً، ليس مظاهرة يتيمة وانتحارية لطلاب من جامعة دمشق في ساحة الأمويين، بل سيرورة وصيرورة طويلة ووعرة ودامية، تتعلق بالمصائر الفردية والجماعية لشعب صدف أن أدونيس، وهو شاعر مهمّ بالمناسبة، كان منه.
في تعليقه على خلع بشار الأسد، كرّر أدونيس من فرنسا، وهو مقيم هناك وليس منفياً كما تقدّمه وكالات الأنباء عن جهل أو تقصّد وانحياز مضمر، مقولاته المتكررة في مقاربة الثورة السورية في كافة مراحلها وتحوّلاتها، لاجئاً إلى التعميم ولي الحقائق، مثل قوله إنه كان دوماً ضد النظام، ولا يُعرَف معنى لهذا ما لم يُرفَق بموقف معلن وواضح، ينقل نقد النظام إلى حيز معارضته التي تجعل من يقوم بها يخاطر بالمواجهة لا الصمت ولوم الشعب، وهو ما فعله أدونيس كثيراً.
يقول أدونيس إنه لا يعرف سورية “إذا ما تحدّثنا في العمق”، وإن استبدال نظام بآخر مجرد أمر سطحي، فالمسألة “ليست تغيير النظام بل تغيير المجتمع”، ما يعني في نهاية المطاف تسخيف “خلع النظام”، بل الدفاع عن بقائه ما دام خالعوه لا يعرفون ما سيفعلون، وما دام المجتمع نفسه لم يتغيّر.
ألا يعني هذا ترخيصاً بالقتل؟ تسخيف الحدث المذهل، المزلزل، الذي انتهى بفرار بشار الأسد بعد ثورة دفعت الثمن الأبهظ في المنطقة، في محاولة منها لكسر “تأبيد النظام”، وشرعنة عنفه، بل ومحاسبته أيضاً على أنهار الدم التي سفكها.
هل أمور كهذه من الرجعية في شيء؟ من الظلامية؟ من القرون الوسطى؟
من حق أدونيس وسواه أن يتحفظ، بل يرتاب ويتشكك، من “إسلامية” الانتفاضات العربية، وإذا تطرّفنا فإن من حقه أن يزدري ثقافة المنطقة، وأن يعود إلى عبادة هُبَل وسواه باعتبار ذلك عودة إلى تعددية الآلهة في المنطقة، وبالتالي تعددية ثقافتها، هذا إذا تطرّفنا أكثر.
لكن من حق ناقديه أن يلزموه بالانسجام والمنطقية، لا المزاجية المجانية، وهو ما لم يفعله عندما قارب عودة الخميني من باريس (له قصيدة في مدح الثورة الإيرانية في حينه)، ولا عندما راوغ أو صمت عن اتخاذ موقف واضح، متواصل، من نظام الأسدين: الأب والابن، وبقية أفراد العائلة “المقدّسة”، من العم الجزّار (رفعت) إلى الشقيق (ماهر) قاطع الطرق ومقطّع الأطراف ومهرّب المخدرات.
في رسالته التي وجهها إلى بشار الأسد، بعد نحو أربعة أشهر من ثورة 2011، ونشرتها صحيفة السفير، وجّه أدونيس نقداً واضحاً للنظام، وإنْ كان متأخراً وبلغة النصح والاعتراف، لكن ليس من الإنصاف اختزاله في عبارته “السيد الرئيس”، والمؤسف أنه لم يبن عليه (النقد) بل نكص عنه استناداً إلى مزاعم ومخاوف متوهمة ومضخّمة، كانت تُضمر احتقاراً لشق من الإسلام إذا شئت، فكيف لمسيرات تخرج من المساجد أن تبني مجتمعاً حديثاً، أن تكون ثورية، أن تحفظ حقوق بقية مكونات الشعب؟
أسطوانة مشروخة تتناسى أن النظام لم يترك فضاء عاماً واحداً إلا أغلقه في وجه السوريين حتى يقصدوه، ولا يضطروا إلى الخروج من المساجد للتعبير عن أنفسهم وأشواقهم للتحرر. لا أعرف ما إذا كان أدونيس يعرف ما حدث مع الفتى حمزة الخطيب الذي قتل تحت التعذيب في بدايات الثورة السورية ومُثّل في جثّته. لقد كان في الثالثة عشرة فقط من عمره، بوجه متورد وعينين جميلتين. لم يفعل سوى أنه خرج يهتف مع رفاقه، ربما من دون أن يفهم معنى هتافاته نفسها، عندما اعتقل وعذّب بسادية يعجز عن تحليلها فرويد نفسه وتلاميذه كلهم.
حقاً إن “مهيار وجهٌ خانه عاشقوه”، ولم يكن أدونيس نفسه إلا واحداً من خَوَنته.
———————
لماذا يساند تونسيون الأسد ويعادون الثورة السورية؟/ المهدي مبروك
16 ديسمبر 2024
صُدِم تونسيون عديدون بالبيان الذي أصدرته الرابطة التونسية لحقوق الإنسان نهاية الأسبوع الماضي، وهي الرابطة الأولى التي تأسّست في أفريقيا والعالم العربي سنة 1987 لنشر ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عن المظلومين والمضطهدين. لا يبدي البيان أيّ موقف تجاه رحيل بشّار الأسد، ويُغفل جرائمه، في حين يُشنّع في مقابل ذلك بالمعارضة السورية، ويعتبرها مجموعاتٍ رجعيةً عميلةً وُطّنت في سورية… إلخ. وسبقه بيان آخر لحزب العمّال الشيوعي، يقرأ الحدث السوري تقريباً بالمفردات نفسها. وحتّى يمنح هؤلاء مشروعيةً لهذه المواقف البائسة، يركّزون على الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، حين دمّر مقدّرات الجيش السوري. يذهب هؤلاء إلى ربط آلي بين المعارضة السورية وإسقاطها النظام، ودور الاحتلال في ذلك، ملمّحين طوراً إلى إسرائيل، وطوراً آخرَ إلى تركيا.
علينا أيضاً (للإنصاف وللتاريخ) أن نذكّر أن الثورة التونسية كانت أوّل من ساندت الثورة السورية، غامر آنذاك الرئيس المنصف المرزوقي وجمع للمرّة الأولى “مؤتمر أصدقاء سوريا”، في تونس العاصمة (24 فبراير/ شباط 2012). كانت الثورة السورية في أوج عنفوانها قبل أن تمتدّ إليها يد الإرهاب، لتخرّب وتعبث بها بشكل مريع. دفع المرزوقي ثمن تلك المبادرة الشجاعة ثمناً سياسياً باهظاً، خصوصاً بعد أن تعسكرت الثورة السورية، ودخلت البلاد حرباً أهليةً مدمّرةً، استغلّها بشّار الأسد ليرتكب الجرائم الفظيعة.
في هذه المناخات المتّسمة بالانكسار، بادرت عديد من الفصائل اليسارية والقومية في تونس، ونكاية في الثورة التي هيمن على مشهدها السياسي آنذاك الإسلاميون (حركة النهضة)، إلى تمتين العلاقة مع النظام السوري. وزار وفد من البرلمانيين التونسيين بشّار الأسد، للتعبير عن مساندتهم له في مناسبتَين: في مارس/ آذار 2017، ثم في أغسطس/ آب من السنة نفسها. عبّر النواب في ذلك اللقاء عن مساندتهم المطلقة للأسد في حربه ضدّ الجماعات الإرهابية، وعن وقوفهم المطلق مع “الجيش العربي السوري”. لم يثر هؤلاء مطلقاً قضايا الحقوق والحرّيات، ولم يسمعوا مطلقاً بالبراميل المتفجّرة، التي كانت تبيد جماعات سكّانية بأسرها. حدث ذلك في مناخات انكسار الثورة السورية، وفتح باب جهنّم على كلّ من ناصرها باعتباره مناصراً للإرهاب. فُتِحت ملفّات التسفير، وظلّ الإعلام التونسي المضلل يردّد أن الأسد قدّم معلومات دقيقة عن تلك الشبكات واستغلّها بعضهم لتصفية حساباته مع خصومه السياسيين. لم يتردّد الاتحاد العام التونسي للشغل، تحت ضغط بعض مواقف قياداته من القوميين، في زيارة الرئيس (المخلوع) بشّار الأسد، وقاد الوفد آنذاك الراحل عضو المكتب التنفيذي، وذو التوجّهات القومية، بوعلي المباركي.
والحقيقة أن التونسيين يحشرون أنفسهم في كلّ ما يدور في أرجاء الوطن العربي. ربّما عروبتهم الفائضة (وتلك خلّة حقيقة نادرة) تجيز لهم التدخّل في شؤون غيرهم، بل لا يعتبرون غيرهم العربي غيراً أصلاً، فهم منهم وإليهم. يهتزّ التونسيون لما يهتزّ في مصر، وينفلون لما يصير في العراق، وينتفضون لما يحدث في فلسطين. يقدّمون مواقفهم وكأنّهم جزء أصيل من هذا البلد أو ذاك، وليس من الغريب أن ينتصر هذا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والآخر للجبهة الديمقراطية، أو للحزب الشيوعي اللبناني، أو حتى لحركة تحرير ظفار… إلخ.
لعروبة تونس الفائضة على تاريخها وجغرافيتها أسباب عديدة، والنُّخَب التونسية لعبت دوراً كبيراً. يمتدّ ذلك إلى تاريخ الحركة الوطنية، وفي بدايتها كان الشيخ عبد العزيز الثعالبي قد أقام سنة 1923 بالقدس، والتقى الحاج أمين الحسيني، حيث أعدّا لانعقاد المؤتمر الإسلامي الأول سنة 1932، وكان أينما حلَّ حظي بالتبجيل والتقدير. حتى الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة كانت له حجّة مشرقية، تعرّب فيها بعد إقامته في باريس حيث تشكّلت مهجته الفرانكفونية، أقام بالقاهرة (1947)، وأسّس مع غيره “مكتب المغرب العربي”، ويقال إنه التقى هناك زعامات الإخوان المسلمين، ومنهم الشيخ حسن البنّا.
الصراع السياسي الدامي الذي شجّ الحركة الوطنية بعيد الاستقلال، الذي تقاتل فيه الزعيمان صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة (خصوصاً أن الأول قد استفاد من دعم الزعيم جمال عبد الناصر)، قد غذّى هذا الاهتمام التونسي بالقضايا العربية. تفيد دراساتٌ عديدة بأن مئات من التونسيين تطوّعوا في حرب 1984 وسافروا إلى فلسطين على الأقدام للمشاركة في المعارك. دعمت الحركة الطلابية في سبعينيّات القرن الماضي، وهي في أوجها، تلك الميول العروبية، وذهب بعضها إلى القتال مع فصائل منظّمة التحرير الفلسطينية، وآخرون إلى الدفاع عن العراق إبّان الحرب الإيرانية العراقية… إلخ.
لا يمكن للتونسيين أن يكونوا غير مبالين أو محايدين تجاه ما يجري في البلدان العربية، غير أن العمى الأيديولوجي، الذي يصيب نُخَبها المتسيّسة (تطرّف يساري، وقومي) تجعلهم يقفون على حجم الانحراف الذي يجرف تلك المشاعر ويجيّرها مساندةً سافرةً لأفظع الأنظمة التي تتوهّم أنها آخر حصن يدافع عن القومية والعروبة.
العربي الجديد
———————–
المستبدون في ساعاتهم الأخيرة قبل السقوط/ سوسن جميل حسن
في أي ظروف ملموسة يتم تقويض سلطة المستبد في البداية، قبل أن يسقط في ظروف دراماتيكية إلى حد ما؟
ما وقع فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، رماني كغيري من السوريين بشكل خاص، وملايين ربما من خارج سورية، في لجة من الذهول والمشاعر المختلطة، يسيطر عليها فرح مربك. كيف لا وأنا من تمنيت هذه اللحظة، لحظة سقوط الكابوس من علياء سمائنا وأوهامنا على مدى عقود، وليس منذ منتصف مارس/ آذار 2011، عندما انتفض الشعب السوري في وجه الاستبداد فحسب؟
لا أستطيع، تحت ضغط مشاعري، أن أكتب برصانة الكاتب، فمشاعري هي التي تكتب. سقط الطاغية؟ لا لم يسقط، ليته كان سقوطًا، لقد فرّ مذعورًا، هل أهذي؟ لست أهذي، لكن ما يتكشف أمامي وأمام العالم من فظائع يفوق خيالي ويفوق احتمالي، ما كنّا نشاهد ونعيش على مدى سنوات أعمارنا دفع كثيرين منّا إلى إعلاء الصوت، كل بطريقته، مطالبين بحقوقنا ورفع الظلم عن هذا الشعب المقهور، وكثيرون دفعوا أثمانًا باهظة على مدى أربعة وخمسين عامًا، لكن ما كنا نعيشه، ونظرنا إليه على أنه منتهى الإجرام في حقنا، لم يكن أكثر من وهم في خيالنا، لم يكن إلّا سرابًا قياسًا بما وقع خلال سنوات الثورة، وقياسًا بما نراه اليوم من حقائق ظنت هذه الطغمة الفاسدة أنها حصّنتها بالحديد والنار.
في هذه اللحظة، وأنا أكتب هذه المقالة، أو هذه الأفكار المتزاحمة في بالي، ظهر على الشاشة أمامي المعتقل السياسي السابق والمناضل الذي قتل النظام ابنه في ريعان شبابه في انتفاضة الشعب السوري، فايز سارة، وخنقته الدموع، لم يستطع مباشرة الحديث مع المذيعة إلّا بعد لحظات، أول ما نطق به بعد أن كانت تعرض مشاهد من سجن صيدنايا، أنه وصف الفظائع التي تتكشف بأنها “رأس جبل الجليد”. يا لهول ما كنّا فيه.
حضرت صور معظم طغاة القرن الماضي في بالي، مما خزنت ذاكرتي، مما شاهدت من أفلام وثائقية، ومما قرأت من دراسات وأدب، ومما، ومما. لكنني لم أجد مثيلًا له بين طغاة العالم، ربما ينتمي إلى نفسه فحسب، هو نموذج للإجرام بأعتى صوره، هو مكتف بنفسه، سعيد بها، شخصية، ربما سيكون أمام المحللين النفسيين شغل كبير ومرهق ليفككوا شيفرة هذه الشخصية، وربما يكتشفون طفرة لم يصادفها الطب قبل اليوم. حتى نهايته لا تشبه نهاية أحد منهم، إلى الآن. لكل ديكتاتور نهاية، وقلة من بينهم من مات في سريره، واستحق تتويج استبداده وإذلاله شعبه جنازة وطنية.
في كتابه “كيف تصبح ديكتاتورًا” يقول فرانك ديكوتر: “إن كل ديكتاتورية تجبر الجميع على الكذب، حتى لا نعرف بعد الآن من يكذب. من ناحية أخرى، فإن نهاية الديكتاتور هي حقيقة تنفجر أفواهًا محررة من الكمامة، وأجسادًا محررة من السجون هي الأخرى”. وها هو الشعب السوري أطاشته الحقيقة، بعضهم ما زال مسكونًا بالخوف، لا يصدق أن الطاغية انتهى. تحرّرت الأفواه من التكميم، لكن “جثث” من قضوا تحت إجرامه لم تتحرر بعد لتخبرنا حقيقة الحقيقة.
كيف يحكم رجال من هذا النوع ملايين البشر؟ لقد شهد القرن العشرون طغاة عتاة، موسوليني، هتلر، ستالين، ماو تسي تونغ، ربما ليس العدّ ضروريًا، نصبوا أنفسهم كآلهة، وجميعهم بعد سقوطهم، أو موتهم، تركوا بصمة مؤلمة لفترة طويلة. يرتبط الطغاة بالإرهاب. نعتقد أنهم أقوياء، لكنهم ضعفاء. يعتقدون أنهم لا يقهرون، لكن قوتهم تكمن في بعض الجدران المسلّحة والقصور، والتدريب على عبادة الشخصية، والولاء الثابت، والأجهزة الأمنية، ونظام يقوم على الأمر من دون نقاش أو سؤال. يكشف سقوطهم عن ضعفهم الخفي ووضعهم الأصلي. الجدران تتساقط. الديكتاتور عارٍ تنزع عنه قدسية السلطة المطلقة. لكن الويل يكمن في ما يترك خلفه من خراب.
الساعات الأخيرة للفوهرر
يصف كاتب سيرته الذاتية الألماني، فيست، جيدًا الحالة الذهنية لزعيم محموم وغاضب، يصرخ بسبب ما عدّه خيانة واسعة النطاق، في ذروة ازدرائه للحياة البشرية، وهو يحبس نفسه في مخبئه في حالة تشي بإنكار نهائي للواقع، يصرخ قبل وقت قليل من انتحاره: “ماذا تريد مني أن أفعل بشعب لم يعد رجاله يقاتلون عندما تتعرض نساؤهم للاغتصاب؟”. أمضى أيامه الأخيرة في برلين، معزولًا تمامًا عن الواقع، يتأرجح بين الأمل الوهمي في الانتصار على الجيش الأحمر، ودوافع التدمير الذاتي. شاهد بلا حول ولا قوة القوات السوفياتية التي تستولي على العاصمة، ويخونه بعض المقربين إليه، هو الذي قال عنه وزير دعايته جوزيف غوبلز في خطاب إذاعي بمناسبة عيد ميلاده: “ألمانيا كانت ولا تزال بلد الولاء. لن يتمكن التاريخ أبدًا من القول إنه في هذه اللحظة الحاسمة تخلى شعب عن زعيمه، ولا أن زعيمًا تخلى عن شعبه. هذا هو النصر!”.
لكن الزعيم لم ينتصر، وعندما علم بإطلاق المرحلة الأخيرة من الهجوم السوفياتي على برلين في 16 نيسان/ أبريل 1945، في اليوم التالي، في مؤتمر تقويم الوضع، قال إن “الروس سيختبرون أكثر هزيمة دموية على الإطلاق أمام برلين”، كان هذا آخر ظهور علني له، وآخر مرة تم فيها تصويره رسميًا، في العشرين من أبريل/ نيسان، في حدائق المستشارية التي دمرتها التفجيرات. وفي مساء يوم 22 أبريل، دمر هتلر أرشيفه الشخصي في المخبأ، وأمر مساعده في المعسكر يوليوس شوب بتدمير جميع متعلقاته الشخصية في شقته في ميونيخ، ومقر إقامته في بيرغوف.
كان يتضاءل جسديًا، ويهمل ملابسه، ويعاني ضعف الذاكرة، وعدم القدرة التامة على التركيز، والغياب المتكرر. هو الشخص المصاب بجنون العظمة، الذي يقول التقرير الذي أصدرته وكالة المخابرات المركزية في عام 1943 بعد أن كلفت مجموعة من الخبراء بإجراء ملف شخصي عنه “إنه مازوخي راسخ”، في محاولة لفهم عقل واحدة من أكثر الشخصيات تدميرًا في التاريخ الحديث.
في 29 أبريل/ نيسان، وبعد منتصف الليل، تزوج من عشيقته التي بدأت في كتابة اسمها “إيفا براون”، لكن تم إيقافها قبل أن تنتهي. بشطب الحرف B الأولي، وصححت توقيعها إلى إيفا هتلر، المولودة براون، “زواج حرب” أعلن خلاله كلاهما أنهما من أصل آري خالص وخاليين من الأمراض الوراثية… وفي اليوم التالي، كانا جثتين في غرفتهما، كانت وصيته: “أنا وزوجتي نختار الموت هربًا من عار السقوط، أو الاستسلام. رغبتنا هي أن نحرق فورًا في الأماكن التي قمت فيها بمعظم عملي اليومي خلال السنوات الاثنتي عشر التي قضيتها في خدمة شعبي”. هكذا واجه نهايته، أخطر مستبد في عالم القرن الماضي.
ماذا عن موسوليني؟
كانت الشخصية الكاريزمية للدوتشي عنصرًا أساسيًا في سلطته على الشعب. يصر عدد من كتاب سيرة موسوليني على هذا الجانب. ويعتقد بيير ميلزا، مؤلف أفضل سيرة ذاتية لموسوليني بالفرنسية، أن موسوليني يمثل “أكثر من أسطورة رجل خارق، هل هذا العناد، هذه النيّات الحسنة الشاقة، هذا الهوس بالأداء، مهما كان ساخرًا، هو الذي أغوى الإيطاليين؟”.
بالنسبة للإيطاليين في فينتينيو، يبدو أن الدوتشي كائن استثنائي، نوع من صانع المعجزات الذي يمكن للمرء أن يلجأ إليه. في أبروتسو، أرادت أرامل وأمهات الجنود الذين سقطوا خلال الحرب العظمى لمسه كما فعلوا مع الأوثان والآثار. عند عودته من مؤتمر ميونيخ في 30 أيلول/ سبتمبر 1938، حيث ظهر ــ خطأ ــ كمنقذ للسلام، كانت رحلته إلى روما أقرب إلى رحلة بابوية. يشهد الدبلوماسي فيليبو أنفوسو: “بين فيرونا وبولونيا، رأيت فلاحين راكعين أثناء مرور القطار، والتي، في منطقة بهذه الجلالة الكلاسيكية، لا بد أنها أثارت انعكاسات غريبة! في بولونيا، قلعة فاشية عدوانية صاخبة، أدرك موسوليني أنه أصبح قديسًا. توصّل إلى استنتاج مفاده أن ميونيخ قد تجاوزت توقعاته”.
يقول في إحدى المقابلات التي أجراها مع الصحافي الألماني إميل لودفيج في نيسان/ أبريل 1932: “التكتل الجماهيري، بالنسبة لي، ليس سوى قطيع من الأغنام، ما دام أنها غير منظمة… أنا أنكر أنه يمكنها أن تحكم نفسها، فحسب”. وبسبب إعجابه بالديناميكية الدولية لألمانيا النازية، اقترب تدريجيًا من برلين، وأبرم تحالفًا رسميًا، بعد وعود شفهية من حلفائه الألمان، اقتنع بأن إيطاليا سيكون أمامها ثلاث إلى أربع سنوات لإعداد البلاد للمواجهة الحاسمة. لكنه وقع في رذيلة طموحاته من أجل إيطاليا الإمبراطورية البلد الذي لم يكن لديه الوسائل لخوض صراع بهذا الحجم. وترافقت الانتكاسات العسكرية مع أزمة حقيقية داخل الحزب الوطني الفاشي، وهزت موجة الإضرابات المثلث الصناعي بين تورينو وميلانو وجنوة، والمطلوب السلام والخبز، ثم ازداد الوضع المعيشي للناس انحدارًا مع ارتفاع وتيرة التساؤل: “أين القوة العسكرية التي تم الحديث عنها كثيرًا؟”. صارت هيبة القائد والنظام تنهار، وقوته الكاريزمية في المجتمع الإيطالي تتهاوى. وأصبح بالنسبة إلى تشكيلة السلطة عقبة أمام مستقبل إيطاليا. وفي الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية فرّ إلى حدود سويسرا في 25 أبريل/ نيسان مع عشيقته كلارا بيتاتشي، لكن تم كشفه ومحاكمته بشكل سريع وإعدامه مع كلارا، نقلت جثته إلى ميلانو وعلقت من عقبيها على سور محطة وقود، وصار الناس يركلون الجثة ويبصقون عليها، قال عنه أحد الثوار: “كان وجهه مثل الشمع وعيناه زجاجيتان، لكنهما عمياوان إلى حد ما. قرأت في وجهه الإرهاق التام، لكن ليس الخوف… بدا موسوليني خاليًا تمامًا من الإرادة، ميتًا روحيًا”. هذه كانت نهاية مؤسس أول ديكتاتورية فاشية في التاريخ.
الأيام الأخيرة لستالين
في مساء يوم 1 آذار/ مارس 1953، شهدت خادمة في داشا كونتسيفو، بالقرب من موسكو، مشهدًا لا يمكن تصوره. أرسلت إلى شقق ستالين لاستكشاف الأمر، إذ لم تبدر عنه أي علامة، ولم يظهر طوال اليوم، وجدت سيد الاتحاد السوفياتي منهارًا على أرضية المكتبة، بلا حراك في ملابس النوم المبللة بالبول. بعد بضعة أيام، في الساعة 9:50 مساء، أعلن الأطباء وفاته. كما كتب أحدهم في مذكراته، فإن أحد أقوى الرجال على هذا الكوكب “قد تحول للتو إلى جثة فقيرة ومثيرة للشفقة، سيقطعها علماء الأمراض غدًا إلى أشلاء”.
ظل ستالين على رأس البلاد لأكثر من ثلاثة عقود، مما جعل الاتحاد السوفياتي قوة عظمى على المسرح العالمي، ولكنه أيضًا ديكتاتورية شمولية قائمة على عبادة الشخصية. من الأدلة على هذه الظاهرة التماثيل العملاقة له التي تهيمن على العواصم الشيوعية، أو تعداد الرسائل والهدايا الموجهة إليه في عيد ميلاده السبعين في عام 1949، والتي ملأت صفحات برافدا لأكثر من عام، من دون اكتمال التعداد. بعد أن ضعف ستالين لعدة أشهر، أصيب بجلطة دماغية لم يتم اكتشافها إلا بعد عدة ساعات. كان الأطباء الذين تجمعوا بجانب سريره عاجزين بشأن حالته الصحية: سيبقى الزعيم السوفياتي مشلولًا مدى الحياة، إذا تمكن من البقاء في قيدها. كان متشككًا بالأطباء، فقبل بضعة أسابيع، اعتقل وسجن آلاف الأطباء، للاشتباه في رغبتهم في اغتيال كبار القادة السوفياتيين. كان لما يسمى بـ”مؤامرة المعطف الأبيض” تأثير كبير على الفوضى التي أحاطت بالأيام الأخيرة من حياة ستالين. فقد رفض، خوفًا من الاغتيال، رؤية عدد من الأطباء، بما في ذلك الطبيب الذي اقترحه ليكون يده اليمنى لافرينتي بيريا، مما أدى إلى تأخير التشخيص وعلاجه. لا تزال وفاة ستالين يكتنفها الغموض اليوم، وهذا يكفي ليكون شهادة على السرية والبارانويا التي هزت الأيام الأخيرة للديكتاتور.
هذه نماذج لنهايات تصلح لأن تكون تراجيديا شكسبيرية، فأي نوع من الشخصيات كانوا؟
ما هي التشخيصات النفسية الممكنة للدكتاتوريين؟
نشر فريدريك إل كوليدج، ودانيال إل سيغال، من جامعة كولورادو، لأول مرة في عام 2007 تحليلات للمتلازمات المرضية واضطرابات الشخصية لأدولف هتلر، وصدام حسين. طوّرا طريقة تستند إلى تقارير من أشخاص يعرفون الديكتاتوريين عن كثب. كان إجماع الخبراء الذين جنّدوهم لهذه التقييمات، بناء على معايير التشخيص الخاصة بالدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية، هو أن هتلر وصدام حسين حصلا على درجات عالية على مقاييس اضطرابات الشخصية بجنون العظمة، والمعادية للمجتمع، والنرجسية، والسادية، بالإضافة إلى الميول الفصامية، بما في ذلك العظمة والتفكير الشاذ، مع الإشارة إلى أن السمات النرجسية كانت أكثر بروزًا في صدام حسين منها في هتلر. واستنادًا إلى هذه الدراسة، توصلا إلى وضع ستة معايير للاضطرابات الشخصية لدى الديكتاتوريين، أطلق عليها (الستة الكبار): السادية، والمعادية للمجتمع، وجنون العظمة، والنرجسية، والفصامية، واضطراب الشخصية الفصامية.
طغاتنا عميان عن التاريخ، ربما لا يقرؤون إلّا ما يعزّز نزعة الإجرام لديهم، لا يقرّون بحقيقة أن الثورة تولد في أذهان الناس، قبل أن تكون حدثًا، تبدأ بظاهرة نفسية بسيطة، ولكنها غامضة. عندما يدرك كل فرد أنه لم يعد وحده، ويدرك أن الآخرين يفكرون بالشيء نفسه. تجمّع من الأفراد يصبح حشدًا، وعندما يصبح هذا الحشد غير خائف تتحرر قوته، ألم يصرخ السوريون “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”؟ لم يفهم الديكتاتور، لم يفهم أنها لحظة تحول غير قابلة للرجوع، هل كان مصابًا بجنون العظمة، فلم يرَ في ثورة الشعب أكثر من مؤامرة تستهدفه؟ هل كان يحمل شخصية زورية شكاكة تجعله يستعدي الشعب وكل من حوله في أعماقه، فيغالي في ضرباته الاستباقية الانتقامية؟ أي من معايير “الستة الكبار” ينطبق عليه؟ أم إن لديه بصمته الجينية الخاصة التي لم يتوصل إليها فريق الباحثين والخبراء بعد؟
بالنسبة للمستبدين والديكتاتوريين، هذه هي بداية النهاية. الباقي هو مجرد صراع بين إرادتين، لكن إرادة الشعب هي التي تنتصر. وهذا منطق الأشياء.
ضفة ثالثة
————————-
السجون السورية: حكاية اللحم البشري المسحوق/ سميرة المسالمة
16 ديسمبر 2024
حقائق مروعة، ونموذج جديد من جرائم الإبادة الجماعية التي لم يشهد التاريخ مثيلًا لها، لرئيس بلاد يبيد شعبه ليس بالرصاص أو النار، حتى لتبدو المحارق رئيفة بأهلها، عندما تشاهد ما بثته القنوات الفضائية من داخل مباني السجون السورية، المحررة بعد سقوط نظام بشار الأسد يوم الأحد (8/12/2024)، ووضعت العالم كله أمام حقائق مروعة عاشها مئات آلاف السوريين لعقود من الظلم والقمع، روت حكايات لم ولن تأتي على خيال أحد لعهد استبداد طال، كبر مع أعمارنا، وتغلغل بحقده في تفاصيل حياتنا، مقصلته مسلطة على أعناقنا، وأجسادنا مطحونة كما آلاف من أهالينا تحت “مكبس الجثث” المروع.
هذه الصور الفيلمية، التي نقلت الواقع كما هو على الهواء مباشرة، كشفت عمق المعاناة الإنسانية داخل جدران السجون التي كانت رمزًا للرعب في سورية لعقود. لم تكن هذه مجرد لقطات أرشيفية، بل هي شهادات حية ووسائل تعذيب لا تزال على قيود السجانين كعهدة لوظائفهم الوحشية، إنها الحياة في سورية المتوحشة، لا، عذرًا، هي ليست صورة الباحث الفرنسي ميشيل سورا، مع أهمية ما وثقه في كتابه الذي يحمل أيضًا العنوان “سوريا المتوحشة”، لكنها بعنفها أبعد من تلك الوحشية بكثير، إنها حالة خاصة، أراد من فعلها أن يكون جزار القرن الجديد، بشار الأسد، ومن قبله والده حافظ الأسد، لا يريدان أن يسقطا من كتب التاريخ، فما وجدا إلا طريق الإبادة إلى ذلك سبيلًا.
داخل هذه السجون، التي كانت مغلقة على العالم طوال سنوات، بدت علامات التعذيب واضحة على الجدران، وأدوات القمع والتعذيب متروكة في مكانها، وكأنها شاهد من حديد، لكنه ناطق لشدة ما أسكتت من أرواح، على جرائم لا يمكن وصفها، ولا نسيانها، ضحاياها تعيش اليوم داخل كل ضمير حي، تصرخ في وجوه من سانده، ومن أعانه، والأبشع من مد له يد الخلاص، وكأنه يمد لسانه للسوريين، يعلمهم أنه موافق على قتلهم بلا رحمة، يمشي على ضفاف دمائهم، ويتوِّجه ملكًا على جماجمهم، وفوق ركام مدنهم.
الهياكل المعدنية للأسرّة المهترئة، غرف العزل الضيقة، وأدوات التعذيب المختلفة التي استخدمت ضد المعتقلين، كلها ظهرت أمام عدسات الكاميرات كدليل قاطع على بشاعة ما كان يحدث في تلك الزنازين. الأكثر إيلامًا كان التخلي عن حفظ تلك الوثائق والسجلات التي توثق كيف كان التعامل مع المعتقلين، وكأنهم مجرد أرقام تنتظر الإعدام، أو موتًا بطيئًا تحت وطأة التعذيب والجوع، وهو ما كشف عنه في السابق مصور السجون “قيصر” عندما قدم للعالم دليل إدانة النظام بملف المعتقلين، وعرض على كل العالم صور المعذبين حتى الموت التي استهجنها القاصي والداني، وصارت من الماضي، بعد أن تجاوزها بعض الحكام، ورأوا أنها حدث عارض مما فعله حاكم مشغول بلعب الأتاري وقتل السوريين.
في شهادات الناجين الذين ظهروا خلال البث، لم يكونوا كما توقعنا، مجرد مقيدي الحرية، إذ كانوا بلا أسماء، بلا ذواكر، بلا أجساد، كانوا تلك الحكاية التي كتبتها أدوات التعذيب على أجسادهم. ربما هذه رواية فوق خيالية لا ينافسها الذكاء الاصطناعي بمهاراته، ولا تمتلك لغة كاتب صناعة أحداثها، هي فقط لقطة واحدة تنقلنا إلى “جحيم الأسد”… كان الألم ينعكس في كل كلمة نطقوا بها، وفي كل نظرة تحمل ذكريات مريرة عما عايشوه. أحدهم تحدث عن سنوات من الحبس الانفرادي، حيث كان يسمع صراخ زملائه المعتقلين كل ليلة، من دون أن يعرف إن كان دوره قادمًا في اليوم التالي. آخرون تحدثوا عن الإعدامات الجماعية التي كانت تتم بطرق وحشية، وعن الجوع الذي كان وسيلة إضافية للتعذيب. هذه الأصوات هي جزء صغير من الحكاية الأكبر التي تفضح كيف استخدم النظام السجون كأداة للإبادة والتنكيل؟ كل تلك الجمل الغارقة بألمها تبدو وكأنها كلمات مواساة، وليس نقلًا لحقائق، ما أفظعها، ما أقساها، ما أبعدها عن أي واقع.
تحرج هذه الحقائق كثيرًا من الدول التي تجاوزتها عندما كانت صورًا فوتوغرافية، فقانون “قيصر” الذي سنته الولايات المتحدة عام 2019، بعد شهادة المصور أمام الكونغرس الأميركي للمرة الأولى عام 2014، وعرضت الصور في مقر الأمم المتحدة، ومتحف الهولوكوست التذكاري في واشنطن، حيث صار قانون العقوبات غصة في حلوقهم، اجتهدوا ليرفعوه عن كاهل الأسد ونظامه، ما يجعل هذه المشاهد ذات تأثير أكبر، لأنها توثق الجريمة، وتدين أصدقاء المجرم.
العالم لم يكن يستمع إلى هذه القصص في الماضي؛ كان يدرك بعض التفاصيل، لكنه اختار الصمت، إما بدافع المصالح السياسية، أو اللامبالاة. الآن، ومع تحرير هذه السجون، وبث هذه المشاهد مباشرة، لم يعد هنالك مجال للشك، أو الإنكار. الحقائق أصبحت أمام الجميع، والمسؤولية الآن تقع على عاتق العالم للتصرف، فلا جريمة من دون عقاب.
المحاسبة أصبحت ضرورة ملحّة، ليس فقط من أجل الضحايا، ولكن لضمان ألا يتكرر هذا النوع من الجرائم في المستقبل. النظام السوري، الذي حكم بالخوف والرعب لعقود، والذي دجن بعض السوريين لتكون أدواته المهزومة نفسيًا وفكريًا وضميرًا، لا يمكن أن يُترك ليمضي من دون محاسبة. هذه الجرائم ترتقي إلى مستوى فوق جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وهو ما يستوجب عدم الصمت، وتقديم المتورطين إلى العدالة الدولية.
الرسالة التي تحملها هذه الصور واضحة: العدالة لا يمكن أن تنتظر، بل يجب ألا تنتظر، حتى لا تكون سببًا لعمليات انتقامية شخصية، فعلى المجتمع الدولي أن يتحرك الآن، وأن يتجاوز كل العقبات السياسية لتحقيق العدالة للضحايا، ولسلامة المجتمع السوري، صمت العالم في الماضي كان خطأ لا ينبغي تكراره.
هذه اللحظة تحمل فرصة لتصحيح المسار، والاعتراف بمعاناة السوريين الذين دفعوا جميعهم ثمنًا باهظًا من أجل الحرية، حرية لاحت ملامحها من حلب، ووصلت إلى دمشق عبر معبرها من مهد الثورة درعا، فتحية لكل من حمل رايتها، ومن عمل من أجلها.
*كاتبة سورية.
ضفة ثالثة
——————————-
الصلاة في جامعة دمشق وتسلّم شيخ قصراً عدلياً…بداية الأسلمة؟/ وليد بركسية
الإثنين 2024/12/16
أدى مئات الطلاب والأساتذة في كليتي الطب والهندسة المعمارية بجامعة دمشق، صلاة جماعية، في مشهد يعيد المخاوف التي لم تغب أصلاً، بشأن طبيعة الدولة السورية الجديدة بعد سقوط نظام بشار الأسد، على الأقل في الفترة الانتقالية الحالية، بالنظر إلى طبيعة الفصائل المعارضة التي شاركت في تحرير المدن السورية تباعاً، والتي لا يغلب عليها فقط الطابع الإسلامي، بل تتضمن فصائل جهادية أبرزها “هيئة تحرير الشام”.
والفيديو المتداول يثير حالتين متناقضتين تبعاً لموقف الشخص الذي يعلق عليه، بين الخوف العميق بالنظر إلى طبيعة الجامعات كمكان يفترض أن يكون علمانياً بحتاً ومنفصلاً عن الدين كي يضمن بناء عملية تعليمية غير مؤدلجة، وبين الاحتفال المبهرج بالنظر إلى قدرة السوريين على ممارسة شعائرهم الدينية الإسلامية تحديداً، في العلن، بسبب طبيعة النظام السوري التي كانت تلاحق الطلاب المصلين وتسجل أسماءهم بوصفهم متطرفين محتملين.
والنظام السوري، رغم كل ادعاءاته، لم يكن يوماً نظاماً علمانياً، بل كان نظاماً طائفياً فرّق بين السوريين وحولهم إلى فئات متصارعة زعم أنه يحميها من بعضها البعض. وكان المسلمون السنة الذين يشكلون أكثر من 70% من السكان يتعرضون للتمييز الديني، مثل بقية الطوائف، بشكل يمكن تلمسه اليوم في صور من الفروع الأمنية تظهر سجلات للأفراد الذين يصلون صلاة الفجر في المسجد أو أعداد المتوجهين إلى صلاة الجمعة ونوعية الخطب الدينية التي تتم كتابتها في فروع المخابرات وتوزيعها وغير ذلك من تفاصيل، جعلت السوريين المتدينين يخافون حتى من إظهار تدينهم.
لكن ذلك كان دائماً حالة مثيرة للجدل، لأن النظام تقرّب من فئات دينية محددة دارت في فلكه ضمن علاقة نفعية متبادلة، مثل تنظيم “القبيسيات” النسائي الديني وعشرات رجال الدين السنة، والأمر نفسه بالنسبة للطوائف الأخرى ممن توصف بالأقليات، وهو خطاب يؤكد عدم وجود قيم المواطنة في الدولة الأسدية البائدة، كالمسيحيين والدروز والاسماعيليين.
ورغم وجود مصليات في الجامعات فإنها كانت صغيرة ومراقبة، ما يجعل المشهد الحالي مفهوماً، لكن وضعه ضمن سياق أوسع يبقى مهماً بالنظر إلى طبيعة القوى الإسلامية المتشددة على الأرض، خصوصاً أن النقاشات تتضمن تحقيراً لشعائر الطوائف الأخرى، بما في ذلك الطقوس المسيحية. ويعيد ذلك التذكير بأن السوريين السنة مثلاً كانوا خلال العقود الخمسة الماضية، وخصوصاً بعد ثورة العام 2011، يشعرون على الأغلب بأنهم في خطر وجودي نتيجة سياسات تهميشية، عززتها حملة الإبادة التي قام بها نظام بشار الأسد وحلفاؤه، ضدهم، ومشروع التشيّع الذي نشرته الميليشيات الإيرانية طوال سنوات، مع تهميش أكبر للسنّة في دول إقليمية أيضاً، مهما كانت رموزها غير أخلاقية، مثل صدام حسين في العراق، أو تمت تصفيتهم من قبل نظام بشار الأسد نفسه مثل رفيق الحريري وسلسلة من شهداء الاغتيالات في لبنان.
وفيما لم تكن سوريا دولة دينية بالكامل، على غرار السعودية وإيران، كما لم تكن دولة علمانية بالكامل على غرار الديموقراطيات الغربية… فالدستور السوري يحدد الفقه الإسلامي مرجعاً رئيسياً للتشريع، ويحدد دين الرئيس بالإسلام، بالإضافة إلى وجود الطائفية الدينية ضمن قانون الأحوال الشخصية المخجل. وكانت هوية الدولة بالتالي، طريقة النظام في مخاطبة الجمهور المحلي أولاً، والدول الغربية ثانياً، عبر تصدير نفسه كحامٍ للأقليات في شرق المتوسط أو كحارس للبوابة عبر حماية الغرب من التطرف الإسلامي. واليوم تصبح هوية الدولة مجدداً أساسية في نقاشات السوريين الذين يجب ألا يتخلصوا من حكم متطرف كي يتسبدلوه بحكم متطرف آخر فقط، لا يختلف عنه سوى في نوعية الأيديولوجيا التي يتبناها.
وتعمل هذه السردية على تعزيز الانتماء الديني كمحدد للهوية التي تصبح مرادفة للحق في الوجود، علماً أنها تتكرر لدى بقية الطوائف الدينية في البلاد كل على حدة، وتنشر كل طائفة بشكل منفرد إحصاءاتها الخاصة حول إفراغ البلاد من أبنائها، وظهرت ربما بشكل واضح في الحالة المسيحية السورية عند طرح مشروع القانون رقم 16 الخاص بوزارة الأوقاف في البلاد العام 2018.
وهذا بالتحديد ما يثير المخاوف من قبل صحافيين ومثقفين سوريين ومن أفراد ينتمون حتى للأكثرية السنية ممن يتحدثون عن ضرورة الالتفاف حول هوية وطنية جامعة، مهما كان وجود تلك الهوية من أساسه وهماً رومانسياً بسبب عقود من السياسات الرسمية التي قوضت معنى الانتماء للوطن. ويحضر ذلك تحديداً في النظرة إلى السوريين الأكراد من قبل كثيرين في المعسكر المعارض للنظام على أنهم غير سوريين، وإطلاق صفات عنصرية عليهم ومطالبة آخرين بترحيلهم من سوريا وغير ذلك.
ولطالما تم النظر إلى المجتمع السوري على أنه مجتمع محافظ أكثر من دولة مجاورة مثل لبنان مثلاً، لكن ذلك قد يكون تبسيطاً لمجتمع متنوع، خصوصاً بعد سنوات الحرب والثورة وتشتت ملايين السوريين في المنافي، وانفتاح بعضم على العالم وعلى بعضهم البعض أيضاً. وفيما كان النظام السوري يعمل على زيادة المساجد والكنائس ودَور الدين في المجتمع بشكل مؤسساتي مع إغلاق دور السينما ومراقبة الكتب والإعلام وكل ما له علاقة بالثقافة والفلسفة، حاول النظام خلق نموذجين: مثقفو السلطة البعثيون الذين يتم تقديمهم كأصوات علمانية، على غرار الممثلة سلاف فواخرجي التي مازالت حتى اللحظة توالي النظام البائد، والأفراد المتدينيون الذين يمكن السيطرة عليهم عبر رجال الدين المقربين من السلطة. وما عدا ذلك يصبح من الأعداء الذين تتم ملاحقتهم والتنكيل بهم وقتلهم وتعذيبهم.
وفيما يبقى التأثير الإسلاموي المتشدد الآتي من فصائل المعارضة السورية اليوم، حاضراً في مشهد الصلاة أو مشهد افتتاح مدارس يتم فيها ترداد شعار “قائدنا إلى الأبد.. النبي محمد”، على غرار الشعار البعثي المشؤوم “قائدنا إلى الأبد، الأمين حافظ الأسد”، فإن تنوع المجتمع السوري قد يشكل عائقاً أمام ذلك التحول الأسوأ نحو دولة تحاكي نموذج “طالبان” في أفغانستان، كما أن الدول الإقليمية تتدخل لفرض مصالحها وأجنداتها على السوريين، ما يجعل المشهد معقداً وقد ينحرف نحو انفجار جديد في أي لحظة، تجعل حتى الحديث عن شكل الدولة المطلوبة، أشبه بالخيال، لعدم وجود دولة أصلاً.
ويخلق ذلك كله توتراً بين السوريين، يظهر بشكل مشاحنات في مواقع التواصل مع انتهاء الأدرنالين الذي أفرزهما انهيار نظام الأسد. ومع انتهاء موجة الفرح بدأ التركيز على السلبيات والحديث عن المستقبل الضبابي للبلاد. وبين الحرية المكتسبة والخوف من التطرف، يقف السوريون أمام سؤال صعب: هل يمكنهم بناء دولة مدنية تحترم التنوع؟ أم أن الدين، بوصفه أداة للصراع والهوية، سيظل عقبة أمام ذلك الحلم؟
ظهر ذلك تحديداً في الملف القضائي، مع تسلّم الشيخ حسن الأقرع رئاسة القصر العدلي في حمص على سبيل المثال، رغم أنه خريج معهد شرعي فقط وعمل قاضياً لفترة في صفوف “جبهة النصرة” التي كانت حينها مرتبطة بـ”تنظيم القاعدة”، مع الحديث عن حالات مشابهة في دمشق، والحديث عن فرض الحجاب على القاضيات أو مطالبتهن بعدم العمل وغير ذلك من قصص تظهر وتختفي مع اعتذارات من طرف إدارة العمليات العسكرية نفسها، فيما يبقى التشنج حاضراً بين المعلقين الذين يتبادلون الاتهامات في “فايسبوك” و”إكس”، كما ينتشر سيل من الأنباء الكاذبة والصور غير الدقيقة، لتأجيج المشكلة القائمة أصلاً، تنشرها تحديداً حسابات تابعة لمحور الممانعة الذي تقوده إيران.
المدن
———————–
الأكاذيب والأبواق/ سلام الكواكبي
الإثنين 2024/12/16
تناقلت وكالات التأكد من الأخبار، عملية تزييف الواقع التي قامت بها مراسلة محطة تلفزيونية عالمية والتي اكتشفت ـ حسب تقريرها المصوّر ـ سجينًا في فرع أمني سوري بالصدفة واستجوبته مع ما يلزم من الدراما والدموع المصطنعة. استحقت هذه المراسلة، والتي يبدو بأنها ليست كذبتها الأولى، سيلاً من الإدانات ومن الشتائم من جميع الأطراف. فالوحشية التي اعتمدتها آلة القمع الأسدية لم تكن بحاجة لهذا الإخراج الضعيف لكي تؤكّد حصولها. وتزييف كهذا يُتيح لبقايا أبواق القمع الأسدي التشدق بعدم صحتها، وبالتالي، سيتم سحب هذا التشكيك على مجمل ما يتم الكشف عنه بشكل دقيق ومؤكد. وستُمنح الحجّة إلى جميع الأبواق المثقوبة التي تجول شوارع العواصم العربية تحت مسميات “التقدمية واليسارية والقومية”، وهي ليست إلا مطية للاستبداد. كما أن جموع رموزها مستعدين لتقبيل أحذية ونعال عسكرية من مختلف النوعيات والقياسات.
في وسائل التواصل الاجتماعي، ينشط بكثافة ذبابٌ الكترونيٌ ذخيرته مثل هذه الهنّات ولن يتردد في القفز عليها. وفي ألف باء أكاذيبهم، يصمون مجمل الوقائع التي تُظهر مدى همجية ودموية القمع الأسدي على أنها، إما من نتاج الذكاء الاصطناعي أو أنها نتيجة تلاعب بالمشاهد المصوّرة عبر الحاسوب. فما بالنا عندما تُهيء لهم هذه المراسلة الفاشلة قصة منسوجة من الأكاذيب من بابها إلى محرابها؟ إنها باللجوء إلى هذا الأسلوب الفجّ، تزودهم بذخيرة لم يكونوا ليحلموا بها قطّ. ولذا، فهم سيبنون عليها قصورًا من رمال متحركة مليئة بجراثيم نفسياتهم المشوّهة التي تتحسّر على مصدر رزق فات. وبالرغم من كونهم في طور البحث الحثيث عن مصدر جديد لم يظهر لهم بعد، أو أنهم يتحضرون لممارسة ما اتقنوه في حيواتهم السابقة من انعطافات جذرية، من دون أي توبيخٍ من ضمير أو تعبيرٍ عن ندم. فهم لن يهملوا مثل هذه القصة ويدعونها من دون استغلال وصياغة المعلّقات اللفظية الفارغة من المحتوى حولها.
في حمأة التشكيك المستمر، من دون خجل ولا وجل، بالحقائق وانتشار السيناريوهات الركيكة والمتخيّلة، والتي تهدف فيما تهدف إلى تشويه لحظات الفرح السوري غير الساذج بامتياز، والمتنبّه لكل المخاطر التي تحيط بكل عمليات التغيير، خصوصًا تلكم التي تأتي بعد عقود من الاستبداد الموصوف والقتل الممنهج، والذي لم يُقابله مثيل إلا في حالات الخمير الحمر ربما، يخرج ما يُطلقون على أنفسهم بالحقوقيين في تونس يمثلون أقدم رابطة عربية للدفاع عن حقوق الناس، والتي كان لها ماضٍ عريقٍ في مقارعة العسف السياسي والأمني، ببيان مُخجل يُفصح عن مكنونات تفكيرهم المتعفّن، ليس نتيجة سجن طال، بل بسبب تخمّر مفاهيم أيديولوجية بائدة تضعهم في موقع التشكيك والبحث عن “مؤامرة” خارجية، من المفضّل أن تكون غربية الهوى وصهيونية المآل، في كل مشاهد التغيير، وخصوصًا تلك التي تُظهر عقم أساليبهم وفشل مقارعتهم لطواحين الهواء الفاسد بسيوف من خشب طاله السوس.
بعض المتهافتين على موائد النظام البائد لبنانيًا، اختفوا من الساحة الإعلامية وهم قلّة. أما أكثرهم وأشدّهم وقاحةً، فقد عادوا بصيغ كلامية مختلفةٍ يكادون فيها يدينون النظام السوري الساقط، وكأنهم ولدوا فجر اليوم ولا تحتوي وسائل التواصل على عشرات المشاهد التي تُظهرهم أبواقًا مثقوبة تُحاكي أساليب غوبلز في نسج الأخبار الكاذبة، حتى يصدقها السذّج من أمثال الرابطة التونسية لحقوق الانسان، وسواها من بقايا العصر القمعي. وقاحتهم تكاد تخرج رذاذاً أحمر بلون الدماء من أفواههم، مبعثرة التعبير بين الإشارة إلى تعرضهم للضغط أو تفاجئهم بفرار القيادة “الحكيمة” التي كانوا يقبلون حذاءها العسكري. والأشد وقاحة وجلافة، أولئك الذين أو اللواتي سيقومون بالإشارة إلى سابق حديثهم عن ضعف المؤسسة العسكرية السورية، والتي نالت ما نالته من سمعة حزب لبناني مسكين، وذلك بإقحامه في المقتلة السورية، التي لا ناقة له فيها ولا جمل. أما من أحلّ نعلاً مثقوبًا مكان وجهه، فسيقوم حتمًا، أو أنه بدأ بالفعل، بالخوض في خلفيات “المؤامرة” المحاكة ضد العمق الاستراتيجي للمقاومة المُتخيّلة، ما دامت تستمر في ضخ الفلوس في جيبه المثقوب.
هذه النماذج تمتد طولاً وعرضًا، ليس عربيًا فحسب، بل دوليًا أيضًأ. ففي فرنسا يتحسّر اليمين المتطرف على زوال صديقه الوفي في دمشق. كما يتلعثم أنصار جان لوي ميلانشون، في شرح مواقف ستالينهم السابقة المدافعة أيديولوجيا ـومن دون أية منفعة تُذكرـ عن رموز النظام الأسدي المستبد. وعلى الرغم من أن مجمل أعضاء الحزب اليساري الذي يتزعمه ميلانشون ليسوا من طينته التشكيكية، إلا أن إدارته الاستبدادية لمفاصل الحزب تجعلهم مسؤولين حتمًا عن ترّهاته، وخصوصاً عندما اعتبر أن روسيا قامت بالعمل الضروري بعد سقوط مدينة حلب سنة 2016.
من المؤكّد أن الوقاحة أعيت من يداويها، وأن نصح هؤلاء بالغياب قليلاً عن الساحة الإعلامية لحفظ ماء الوجه، هو نفخٌ في قربة مقطوعة، لأن لا ماء في وجه اعتاد مدح المستبد والتملق له. وما يخشى منه، أن يتمكن هؤلاء قريبًا من تغيير سحنتهم والانتقال إلى الخندق المقابل، والبدء في تسخير مواهبهم باتجاه معاكس معتمدين على ذاكرة ضعيفة وقلوب طيبة. فاحذروهم.
المدن
—————————
جورج صبرا لـ”المدن”: نحو سوريا موحدة ولامركزية إدارية واسعة
منير الربيع
الإثنين 2024/12/16
فُتحت الأبواب السياسية في سوريا على مصراعيها بعد سقوط نظام بشار الأسد. أسابيع وأشهر وربما سنوات ستكون فيها سوريا عبارة عن ورشة دائمة، لإعادة تركيب النظام السياسي وإنتاج المؤسسات وتحسين الواقع الاجتماعي والاقتصادي. تقدّمت هيئة تحرير الشام المشهد، بدا أحمد الشرع، أو أبو محمد الجولاني، هو الرقم واحد في سوريا سياسياً، بعدما نجح عسكرياً في تحقيق تقدّم كبير بالوصول إلى حلب ومنها تداعت المدن السورية تحت سلطته بفعل انهيار النظام بشكل كامل، وصولاً إلى العاصمة دمشق التي يتخذ الشرع منها مقرّه الأساسي، ويبدو مرتاحاً لإقامته فيها. في ظل هذه التطورات تبدو المعارضة السورية السياسية والتاريخية غائبة عن المشهد.
أحد الأسماء البارزة التي تحضر هو اسم جورج صبرا المعارض العتيق، ورئيس المجلس الوطني السوري المعارض، وكان لا بد من اللقاء معه للوقوف على رأيه ورؤيته لسوريا في المرحلة المقبلة.
يؤكد صبرا حضور وفعالية المعارضة السياسية السورية، ويشير إلى تواصل مع هيئة تحرير الشام، معتبراً أنه لا بد لهذا التواصل أن يتعزز في المرحلة المقبلة، مشدداً على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا وانخراط كل مكوناتها في بناء سوريا الجديدة. يرى ضرورة في الدعوة إلى مؤتمر سوري عام تشارك به كل المكونات لإعادة بناء الدولة، معتبراً أن زمن الانقلابات العسكرية في سوريا انتهى، ويقول إن الخيار الأفضل هو دولة سورية لامركزية إدارية واسعة الصلاحيات بما يحفظ حقوق الجميع، وخصوصاً الكرد السوريين والذين يجب تحسين العلاقة بينهم وبين الدولة السورية بإلغاء استفتاء عام 1962 في محافظة الحسكة. كما يستبعد تكرار النموذج الليبي في سوريا، ويؤكد أن التقسيم غير مقبول لدى السوريين. في ما يلي نص الحوار:
مشاركة الجميع
ماذا بعد إسقاط بشار الأسد؟ والدخول في مرحلة انتقالية وفق ما أعلن أحمد الشرع؟
مهمة إسقاط النظام تمت، وتبقى المهمة الأكبر وهي إعادة بناء سوريا الدولة والمجتمع. فتخريب النظام بحق الشعب والوطن خلال أكثر من خمسة عقود بلغ الذروة، ويحتاج إلى إعادة بناء شاملة ومن هنا تأتي أهمية المرحلة الإنتقالية وتحقيق أوسع مشاركة وطنية فيها سياسياً وشعبياً، فالمهام كبيرة وعلى طول امتداد الأرض السورية.
لماذا هناك غياب للمعارضة السياسية، وما الذي تعملون عليه وهل هناك تواصل مع هيئة تحرير الشام؟
هو ليس غياباً، ولكننا في الأيام الأولى للتغيير، والشأن العسكري والأمني هو الأساس الآن، وكذلك بالنسبة إلى تسيير عجلة مؤسسات الدولة، ولا بد أن تكون الخطوات التالية بمشاركة الجميع، فما حصل ليس انقلاباً قامت به منظمة أو فصيل بقيادة السيد أحمد الشرع، إنما تثمير لنضال شعب، لثورة امتدت على طول وعرض المساحة السورية، وبمشاركة جميع مكونات الشعب السوري في جميع المحافظات وعلى مدى 14 عاماً. ولذلك فإن مشاركة الجميع ضرورية وهامة لنجاح المرحلة الانتقالية، والانتصار في المهمة الثانية وهي بناء البديل.
ويؤكد صبرا أنه يوجد تواصل مع هيئة تحرير الشام، لكن بشكله الأولي والضروري، والمرحلة الانتقالية المقبلة تستوجب أكثر من التواصل. ولا بد من عقد اجتماع وطني موسع باسم مؤتمر أو غير ذلك، للقوى السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والشخصيات الوطنية التي لها ظل على الأرض في مناطقها، من أجل ترتيب وإقرار برنامج الانتقال السياسي، ومندرجاته ومهامه، وهي كثيرة توازي للحقيقة مهام بناء الدولة السورية من جديد، لأن الخراب لا مثيل له.
سوريا الموحدة
هل لديك خوف على وحدة سوريا؟ وما هي رؤيتك للصيغة الملائمة لسوريا؟ هل دولة مركزية أم لا مركزية؟ أم حكم ذاتي للأكراد؟
ليس لدي أي مخاوف على وحدة سوريا، فجميع السوريين وكل مكونات الشعب السوري تدرك جيداً أن الخيار الأفضل هو أن تبقى سوريا موحدة. وفي التاريخ السوري هناك محاولة تقسيمية قام بها الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، عندما شكل دولة للعلويين وأخرى للدروز وكلا الفريقين، رفض التجربة وأنهاها لصالح الدولة السورية الواحدة، وأعتقد أن خيار اللامركزية الإدارية الواسعة الصلاحيات في جميع المحافظات هو الخيار الذي اعتمدته معظم المشاريع السياسية التي ظهرت خلال هذه الفترة بما في ذلك مشاريع الأحزاب الكردية. ولا بد من تصحيح العلاقة بين المواطنين الكرد والدولة السورية، بإلغاء نتائج استفتاء 1962 في محافظة الحسكة وجميع القرارات السلطوية التي ترتبت على ذلك وانتقصت من حقوق المواطنة للكرد السوريين.
هل هناك مخاوف من حصول انقلاب عسكري يشبه ما جرى في مصر؟ أم حصول سيناريو مشابه للسيناريو الليبي؟
أعتقد أن الانقلابات العسكرية في سوريا أصبحت من الماضي، والماضي السوري هو خزنة غنية بالانقلابات بكل أشكالها وألوانها، لكن زمن الانقلابات العسكرية في سوريا انتهى. أما إمكانية تعرض البلاد لصعوبات جديدة، فلا يستطيع أحد نفي ذلك، لان السلاح متوافر في الأيدي، وإيران وميليشياتها وعصابات النظام التي هربت أو استكانت في مكان ما، وهذه الميليشيات التي كانت شريكة للأسد في تخريب البلاد وشريكة له في الهزيمة، فقد تحاول التخريب وتعطيل الانتقال السياسي السلمي، وبناء الدولة السورية من جديد، لكن السيناريو الليبي خارج حدود الرؤية والتوقع في سوريا.
أهداف إسرائيل
منذ سقوط النظام تعمل اسرائيل على تدمير قدرات الجيش السوري وتتوغل في جنوب سوريا، ما هي أهداف إسرائيل من ذلك وكيف يمكن مواجهتها؟
تدمير قدرات الجيش السوري كان من أهداف إسرائيل منذ نشوئها وهي تستغل الآن الظروف الإقليمية والدولية، والمرحلة الحساسة التي تمرّ بها سوريا، لتضرب ضربتها، خصوصاً أنه كانت تضمن انحسار خطر القوة العسكرية السورية بالاتفاقات السرية والعلنية مع النظام البائد منذ عام 1974، وتريد أن تحرم السلطات المقبلة من توفر عناصر القوة بين يديها. وبذلك تضمن، أمن حدودها بوقف إطلاق النار شامل من مختلف الجهات لفترة طويلة.
أهم مقومات المواجهة هو في حماية الوحدة الوطنية السورية والحفاظ على وحدة سوريا وتنوعها وتعدديتها وبناء دولة قوية.
المدن
———————————-
العودة إلى عفرين… خيارات معقّدة وصراع على النفوذ/ شفان ابراهيم
16.12.2024
“رجعنا إلى بيتنا، لم يتعرف عليه أولادي في البداية، كل شيء تغير، الواجهة، الحديقة، الأشجار كلها لم تعد موجودة، لا أعرف سبب عداء بعض المسلحين مع الأشجار وهذا القطع الجائر، استجمعت قواي ودخلت المنزل، وكأني به يُجهز من الصفر، تم نهب كل شيء، كل شي تبخر”.
وقفت نبيلة حنان (28عاماً) على حافة صخرة متأملة مخيم الشهباء، بعدما قرر زوجها العودة إلى عفرين، تقول في حديثها لــ”درج” عبر الهاتف: “6 سنوات من العذاب والفقد وتعاسة الحياة في هذا المخيم، قرر زوجي أن نعود إلى عفرين، إلى منزلنا في قرية بُلبل كأفضل الحلول”.
نزحت نبيلة مع زوجها وولديها إلى مخيم الشهباء، عقب دخول قوات المعارضة السورية إلى عفرين، خلال عملية “غصن الزيتون” عام 2016. تكمل حديثها قائلةً “رجعنا إلى بيتنا، لم يتعرف عليه أولادي في البداية، كل شيء تغير، الواجهة، الحديقة، الأشجار كلها لم تعد موجودة، لا أعرف سبب عداء بعض المسلحين مع الأشجار وهذا القطع الجائر، استجمعت قواي ودخلت المنزل، وكأني به يُجهز من الصفر، تم نهب كل شيء، كل شي تبخر”.
وتختتم بقولها:”منزل تُرك لست سنوات، من دون أن يسأل عنه أحد، لا أستغرب إفراغه من محتواه، في ظل غياب أي حوكمة أو حماية لممتلكات الأهالي”.
تغيرات متسارعة عقّدت خيارات الأهالي
وبالتزامن مع العملية التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية مع “هيئة تحرير الشام” تحت اسم “ردع العداون”، أطلقت فصائل للمعارضة السورية عملية ما يُعرف بـ”فجر الحرية”، ويشارك في هذه الحملة ثلاثة فيالق، هي: الفيلق الأول، ومن بين أبرز الفصائل المشاركة فيه: “لواء الشمال”، و”اللواء 113″، “تجمع أحرار الشرقية”، “جيش الشرقية”، “اللواء 112″، “لواء محمد الفاتح”، “فيلق الشام”. والفيلق الثاني، وأبرز المشاركين فيه: “فرقة السلطان مراد”، و”فرقة الحمزة”، و”فرقة المعتصم”، إضافة إلى “جيش الإسلام”، و”فيلق الرحمن”، في حين يضم الفيلق الثالث: “الجبهة الشامية” و”لواء الإسلام” و”فيلق المجد”.
ووفقاً لمعلوماتهم، فإن الأهداف التي وقفت خلف هذه العملية المفاجئة، جاءت لإفشال مساعي “قسد-قوات سوريا الديمقراطية” في إنشاء ممر بين مدينة تل رفعت وشمال شرق سوريا، وإضعاف سيطرة “قسد” في تلك المناطق، وتمكنت تلك القوات من السيطرة على الشهباء والنواحي والبلدات التابعة لها، بخاصة تل رفعت، وقطعت الطريق الواصل بين حلب والرقة، وتسبب ذلك بمنع “قوات سوريا الديمقراطية” من إنشاء ممر يربط منبج مع تل رفعت، في حين تمكنت عملية “ردع العدوان” من السيطرة على حلب وإخراج القوات الحكومية منها.
لذلك، اضطرت “قوات سوريا الديمقراطية” للاتفاق مع تلك الفصائل على تسليم البلدة، مقابل خروجهم وضمان حرية قرار الأهالي النازحين باختيار المكان الأنسب لهم، سواء بالبقاء، أو بالعودة إلى عفرين، أو الخروج إلى شمال شرق سوريا. ووفقاً للإحصائيات المقدمة من جهات سياسية وحزبية نشطة في عفرين، فإن الغالبية العظمى من الأهالي فضلوا العودة إلى بيوتهم في عفرين، عوضاً عن رحلة نزوح ثانية.
“منزل تُرك لست سنوات، من دون أن يسأل عنه أحد، لا أستغرب إفراغه من محتواه، في ظل غياب أي حوكمة أو حماية لممتلكات الأهالي”.
من جهته هورو عثمان عضو اللجنة المركزية للحزب “الديمقراطي الكردستاني” – سوريا، قال عبر الهاتف لــ”درج” إنهم يومياً يتابعون حركة العودة عن كثب ويقدّمون كل ما يلزم لعودتهم، مُضيفاً “استمرت عودة الأهالي، من شهبا وما حولها، ومن حلب لأكثر من أسبوع. منذ 6 سنوات وهم لاجئون خارج بيوتهم، وعاشوا ظروفاً سيئة، استقبلناهم وهم يحملون مظاهر الفقر والحاجة، لا يملكون مركبات ولا وسائل نقل، على سحناتهم واضحة ملامح التعب والإرهاق ومشقة غربة السنين، غالبية العائدين هم من كبار السن والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة، العودة مرحبة، والمؤسف أنهم خرجوا بسبب الحرب، وعادوا بسبب الحرب، خلال 7 أيام بلغ عدد العائدين ما يفوق الـ1800 عائلة، مع وجود عشرات العوائل التي لم يتم تسجيلها بعد”، وحول نوعية الخدمات المقدمة لهم وحجمها.
أضاف عثمان: “اشتركت مؤسسة البارزاني الخيرية، والمجلس المحلي للمجلس الوطني الكردي وتنظيمات الحزب الديمقراطي الكردستاني السوري في عفرين، بتقديم ما يلزم من غرفة طوارئ وتوزيع أرقامها على الجميع، وإرسال مركبات وباصات إلى تل رفعت والشهباء وفافين ومناطق النزوح كلها هناك، لنقل من لا يملك وسيلة نقل إلى عفرين، وبعد وصولهم إلى عفرين نقوم بإيصالهم إلى قراهم وبيوتهم”. من جهتها أكدت مصادر ضمن “مؤسسة البارزاني الخيرية” تقديم ما يلزم من للعائدين من “أغذية وأغطية ومستلزمات الأطفال، والعيادة المتنقلة، وتوزيع الأهالي على منازلهم، أو أهاليهم”.
ريناس عبدو من أهالي قرية راجو ومن العائدين من مخيم تل رفعت، قال ل”درج”: “طوال الطريق كنت أفكر بنوعية الخيم التي سيتم تخصيصها لنا، وهل سأبقى مع عائلتي طوال حياتنا، نعيش في الخيام، لأتفاجأ أنه لا مخيم ولا خيم لنا نحن العائدين، بل عودة إلى بيوتنا، أو إقامة في منزل أحد الأقارب أو الأصدقاء، إلى حين إخراج النازحين المقيمين من منازلنا”.
وعن وضع منزله قال ريناس: “يسكنه عنصر في الفصائل المسلحة مع عائلته، طلبت مني زوجته أن أصبر عليهم إلى حين عودة الزوج من المعارك الدائرة حالياً في عموم سوريا، بالنسبة لي سأتريث لحين عودته، ولن أتنازل عن منزلي، استضافتنا خالتي في منزلها، لكن لا أخفيكم أن منزلي تحول إلى ما يُشبه الأنقاض؛ لغياب الاهتمام به”.
وتحدث ريناس عن رحلة العودة إلى منزله “خلال الرحلة التي استغرقت أكثر من 3 ساعات، وهي في الأحوال العادية لا تستغرق أكثر من ساعة، لكن وعورة الطريق، وانتظار المزيد من العوائل، وكمية الأمتعة ومستلزمات المنزل التي أرجعناها معنا، تسببت بالتأخير وإطالة الرحلة”.
ووفقاً لريناس فإن مشاعر الفوضى واللا فهم كانت تسيطر على غالبية من كانوا في الحافلة التي أقلتهم إلى عفرين “فكرت في رحلة النزوح الأولى، حين خرجنا بثيابنا من دون أن نعلم إلى أين نتجه، في حين نعود إلى بيتوتنا مع كل ما اشتريناه خلال السنوات الأخيرة، ونعلم أننا عائدون إلى بيوتنا، لكن التفكير بمستقبل الأبناء، والتعليم، والعمل، والأمن والخوف من الفصائل العسكرية، لا يفارق مخيلاتنا، مع ذلك كانت لحظة الوصول إلى مدخل عفرين، لحظة فارقة في حياتنا، صِحنا جميعاً بصوتٍ واحد، ودون أي ترتيب، عفرين ها نحن عائدون”.
العودة العكسية
لا أرقام دقيقة وإحصائيات لعدد النازحين السوريين إلى عفرين؛ بسبب تغير الأماكن أو الانتقال إلى مكان آخر، لكن بالعموم يوجد عشرات الآلاف منهم هناك، سواء كانوا مدنيين ظلمتهم الحرب ودمرت بيوتهم وممتلكاتهم، أو من الفصائل المسلحة التي تسيطر على المدينة.
وفي اتصال مع الناشط المدني أبو كردو (42 عاماً) أوضح لــ”درج” أن العودة “لحظة تاريخية في حياتنا؛ عودة الأهالي طال انتظارها، كنا نشعر بالخطر لقلة عددنا، اليوم نشعر بالأمان حين نشاهد أصدقاءنا، جيراننا، أهلنا وهم يعودون للعيش إلى جانبنا مُجدداً”، مضيفاً “أهلنا يعودون، والنازحون من تل رفعت والشهباء وحلب أيضاً يعودون إلى منازلهم، وهذا إنجاز عظيم، فمنازلنا تعود إلينا، وخطر التغيير الديمغرافي يزول، ونحن نشجعهم للعودة إلى مناطقهم وإعادة بنائها، مثل أهالي عفرين”. واكتفت مُنيفة الخالد من أهالي تل رفعت بالقول “لا حنية علينا مثل جدران منزلنا ومسقط رأسنا، ولو كانت جدراناً متهالكة”.
متابعة الانتهاكات
وحول إمكانية استمرار الانتهاكات ضد المدنيين، وهذه المرة بحق العائدين، قال هورو: “نقوم بحملة مشتركة بين الأطراف السياسية والأهالي، وتم تشكيل 8 لجان لتسجيل المعلومات حول أي انتهاك، مع استمرار توزيع المساعدات بناء على تلك السجلات”، ولم يخفِ هورو وجود منغصات ومشاكل منها “حملات شيطنة العودة، والتشكيك بضمان الحياة الكريمة، والتغيير الديمغرافي الذي يحتاج عودة الأهالي لمنعه، وكل منزل يثبت وجود نازحين فيه، وعاد مالكه الأصلي، نحن موعودون بتسليمه خلال أيام”. وهو ما أكده الناشط أبو كردو “توجد صعوبة في إخراج من سكن بيوتنا، لكننا مصرون على ذلك، ولن نضع خياماً لأهالي عفرين كي يعيشوا فيها، بينما يسكن الآخرون ديارنا”.
أما زهير محمد (49 عاماً) مدرس لغة إنكليزية فقال لــ”درج”: “سنواجه مشكلة في التعليم، يوجد شباب في المراحل الإعدادية والثانوية، كيف سيتم دمجهم في التعليم، وهم متلقون التعليم باللغة الكردية، وأساساً مهاراتهم ضعيفة، كيف سيتم دمجهم مع طلبة المدارس والمناهج باللغة العربية والتركية والكردية، هذه واحدة من أعقد القضايا التي ستواجهنا”.
يعود الأكاديمي فريد سعدون (51 عاماً) بذاكراته إلى الوراء، ويدمجها مع إصراره على موقفه القديم والحالي، ويقول لــ”درج”: “قبل خروجهم من عفرين طالبت ببقائهم في مناطقهم، ثم بقيت على موقفي بعودتهم إلى بيوتهم وقراهم، واليوم أقولها علناً، لا لنزوح أهالي عفرين إلى الطبقة والرقة والحسكة، هذا تهجير ثانٍ، سيتم إبعادهم فيه آلاف الكيلومترات من بيوتهم. الحل العقلي والمنطقي والوطني والكردي هو العودة إلى عفرين ولا شيء آخر”.
درج
——————————–
عادت حمص… “قطعة نهر”/ ايلي كلداني
16.12.2024
اليوم، وبعد مرور 20 عاماً وفي لحظة إعلان تحرير حمص، شعرت وكأنني عبرت النهر من جديد، وبالطبع… سنأكل الشاورما.
مع بدء ورود الأخبار عن معركة “ردع العدوان” وسقوط المحافظات وتحريرها، ومع اقتراب المعركة من محافظة حمص، اتصل بي صديق وبدأ يصرخ بحماسة: “قريباً، سنأكل الشاورما في حمص”. أعادتني جملته هذه إلى سنوات بعيدة، إلى ما قبل عام 2005، حيث كان دخولنا نحن أبناء عكار إلى سوريا، لا يتطلب سوى عبور حائط على جسر فوق نهر الكبير في منطقة وادي خالد.
كان الحائط يتدلى منه جنزير حديدي؛ تمسكه بيديك وتضع قدماً على الأراضي السورية، ثم تدفع جسدك بالقدم الأخرى التي لا تزال في لبنان، لتجد نفسك داخل الأراضي السورية. هناك، تنتظرك الدراجات النارية أو وسائل نقل أخرى لتقلك إلى “كاراج حمص” أو الموقف، حيث تصطف المئات من الحافلات بانتظار الركاب لنقلهم إلى المدينة. لم تكن هناك إجراءات رسمية ولا أختام جوازات، وكان من النادر أن تصادف أحد عناصر حراسة الحدود أو الهجانة، الذين قد يسألونك عن وجهتك وسبب زيارتك، لتنتهي القصة ببضع قطع معدنية من فئة العشرين ليرة سورية، كما أذكر.
كانت حمص أقرب إلينا من طرابلس، وأكثر توفيراً مادياً. رحلة الوصول من قريتي إلى حمص لم تكن تتجاوز عشرة آلاف ليرة لبنانية، وكل شيء هناك كان أرخص نسبياً. أتذكر علامة تجارية عالمية للبناطيل التي حصلت شركة سورية على امتياز تصنيعها، وكان سعر البنطال أقل بمرتين مقارنة بلبنان. أتذكر جيداً محل الشاورما وصف الانتظار الطويل أمامه، حيث كانت رائحته تفوح في السوق كله. كنت أحب انتظار سندويشتي هناك، أراقب الناس وأتخيلهم شخصيات من مسلسلات سورية اعتدنا مشاهدتها.
بالنسبة لأهل عكار، كانت حمص سوقاً ومدرسة ومستشفى وطبيباً. كانوا يقولون إن “حمص حنونة”، تجد فيها كل شيء بأرخص الأسعار. قبل أن تتزوج الفتاة، كانت تذهب إلى حمص لتحضير “جهازها” من القطنيات والشراشف والمخدات وحتى الستائر. كنا نسخر من أن كل منزل في عكار يحتوي الشرشف المزخرف باللونين الأزرق أو الزهري نفسه ومصدره حمص. عيادات الأطباء هناك كانت تعجّ باللبنانيين، لأن “خدمتهم أفضل، وأسعارهم أرخص، ويعملون بضمير”.
أتذكر أبي ورفاقه في القرية يذهبون إلى حمص أو تلكلخ لحلاقة شعورهم، وشراء التبغ العربي أو اليانسون الممتاز للعرق. كنا نسخر منه: “لماذا تذهب إلى حمص وهناك حلاقون في القرية؟”، فيجيبنا بأن الحلاقة هناك مختلفة، خاصة عندما يعرفون أنك لبناني، فيبالغون في العناية بك، يكثرون من فرك شعرك، ويسخون عليك بالعطر والمرطب. كان أهل حمص معروفين بـ”الهضامة وخفة الدم”، وكان هذا معياراً للبنانيين في اختيار المحلات. كانت أحاديث العائدين من حمص تدور دائماً حول لطف التجار هناك وتغزلهم باللبنانيين.
ومن النادر أن يعود أحدهم من حمص من دون أن يحفظ نكتة مضحكة من هناك. للحلويات نصيبها أيضاً في ذاكرة أهل عكار عن حمص. خلال الأعياد والمناسبات، كانت حلويات “أبو اللبن” تزين الموائد، وكان من المعتاد أن يعود الزائر بأكياس من “القرمشليّة”، وهو خبز مقلي مغمس بالقطر، بلونين أبيض وآخر زهري فاقع. أما منطقة وادي النصارى، التي تضم العديد من القرى المسيحية والأديرة، فقد كانت وجهة أخرى محببة لأهل عكار. في عيد الصليب يوم 14 أيلول، كانت القوافل تنطلق منذ الصباح، وتمتد جموع الناس لمسافات طويلة، حيث تختلط الدبكة اللبنانية والسورية مع سهرات حتى الصباح.
كان سكان الشمال عموماً وعكار خصوصاً، متأثرين بالثقافة السورية أكثر من تأثرهم بالثقافة اللبنانية، لغاية العام 1995 لم نكن نشاهد محطات تلفزة لبنانية، أول محطة كانت تلفزيون لبنان، قبل ذلك كان هناك التلفزيون السوري، وكنا نطلق عليه لقب “إذاعة غصباً عنك”، كان الأطفال اللبنانيون يشاهدون “كيف وليش”، ونحن كنا ننتظر الساعة الرابعة لمتابعة “إفتح يا سمسم” أو “غرندايزر”، هم تأثروا ب”LBC جونيور كلوب” ونحن كنا نتابع برنامج “أبناؤنا الطلبة”، هم يتابعون السياسة اللبنانية، ونحن نتابع “أبناؤنا في الجولان” أو “آفاق علمية”.
في الجغرافيا كنا ندرس عن لبنان ومحافظاته، ولكننا أيضاً كنا نعرف خارطة سوريا جيداً، في عام 1995 كانت المرة الأولى التي رأينا فيها الياس الهرواي (رئيس الجمهورية) على شاشة التلفاز، بينما صورة الأب القائد حافظ الأسد حفظناها، كان لديه طريقة مميزة في التصفيق، أيضاً حفظناها لأنها كانت تتكرر يومياً على الشاشات، وتظهر داخل دائرة محاطة بالورود وهو رافع يديه المتشابكتين محيياً العمال والطلبة. قبل أغاني وائل كفوري عن الجيش اللبناني، كنا ننتظر إعلان “بادر إلى الانتساب إلى الكلية الحربية”، وهو إعلان للجيش السوري مع موسيقى تشويقية وطائرات ودبابات وجنود يدخلون في إطارات محترقة.
عندما بدأت الثورة السورية في 2011 وامتدت إلى حمص، وإلى القرى المتاخمة للحدود مثل تلكلخ ومناطق أخرى، التي شهدت مجازر عنيفة، كانت تصلنا مقاطع فيديو يتصوير رديء، وكانت تنتشر أخبار عن فظاعة ما يحصل في أحياء حمص وريفها، عن مجازر ومعارك طاحنة كان في أغلب الأحيان يصل صداها إلى قرى عكار، خصوصاً في المرحلة التي استعاد فيها الجيش السوري المنطقة، لشهور كنا نسمع أصوات الرصاص والانفجارات، وكان أغلب اللاجئين السوريين إلى منطقتنا هم أبناء تلك القرى، كانوا ليلاً يقفون على التلال لرؤية “رصاص الخطاط” يخترق سماء سوريا.
قال لي مرة أحد الشبان الحمصيين الذي عمل في بناء منزلي، إن أولاده الأربعة لم يروا سوريا يوماً، ولدوا جميعاً هنا، قال لي إن لهجتهم مختلفة، فهم لا يتكلمون “حمصي” أو “سوري”، بل يتكلمون خليطاً من اللبناني والسوري، وإنه يوماً ما إذا قُدّر لهم العودة إلى سوريا سيسخر منهم الباقون بسبب لهجتهم، اتصلت به لحظة إعلان تحرير حمص، ليصرخ على الهاتف: “أنا قدام بيتي بالضيعة يا أستاذ، منّي مصدق، منّي مصدق”، ضحكت وقلت له: “رجاع علّم ولادك يحكوا سوري”.
خلال ال 20 سنة الماضية تباعد لبنان عن سوريا، وأصبحت ” قطعة النهر” إلى حمص مستحيلة، تحتاج إلى إجراءات واتصالات مع “ناس واصلين” في الداخل السوري، حُرم آلاف اللبنانيين من دخول سوريا، من زيارة حمص، أما اليوم، وبرغم أني بعيد آلاف الأميال عن قريتي، أشعر أنني قريب من حمص، فعلاً “قطعة نهر”، منذ أسبوع تسخر مني زوجتي وتسألني: “لي هل أنت واثق أنك تريد العودة إلى لبنان؟ أم أنك تريد العودة إلى سوريا؟”.
اليوم، وبعد مرور 20 عاماً وفي لحظة إعلان تحرير حمص، شعرت وكأنني عبرت النهر من جديد، وبالطبع… سنأكل الشاورما.
درج
————————–
إطلالة الشرع… وكؤوس السم/ غسان شربل
16 كانون الأول 2024
نادراً ما تتَّجه الأنظار المحلية والإقليمية والدولية إلى رجلٍ واحد. هذا يحدث فقط عند المنعطفات الكبرى. ليس بسيطاً على الإطلاق أن يطلَّ شاب أربعينيٌّ من ساحة المسجد الأموي في دمشقَ ليطويَ صفحةَ ما يزيد عن نصف قرن من حكم عائلة الأسد. اقتلاع «البعث» السوري بأيدٍ سورية حدثٌ قد يفوق في تداعياته ما رتَّبه على العراق والمنطقة اقتلاعُ تمثال نظام صدام حسين على يد الغزو الأميركي.
كان المشهد هائلاً أو رهيباً. أحمدُ الشرع في باحة المسجد الأموي وبشارُ الأسد افتتح تقاعدَه في المنفى الروسي. ضاعف الإثارة أنَّ الشرعَ ليس رجلاً مجهولاً. عرفه العالم من قبل بكنيته «أبو محمد الجولاني». كان الرجل مطلوباً وتابع كثيرون أخبار رحلته مع أبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي وافتراقه عنهما في محطات لها رنةٌ كبرى تحت عناوين «القاعدة» و«داعش» و«النصرة» وصولاً إلى «هيئة تحرير الشام».
ومن حقّ السوريين وأهلِ المنطقة والعالم أن يسألوا عمَّا يدور في مخيّلة الرجل وأوردةِ رأسه. أولُ الأسئلة ماذا يريد الشرع وهل تبديلُ الزِّي يعكس تغييراً في القاموس ومفرداته؟ أي سوريا يريد؟ وهل يستطيع إدارةَ غابة البنادق التي حملته إلى دمشقَ ومنحته لقب «الرجل القوي» في سوريا ربَّما بانتظار الألقاب المقبلة؟ هل يستطيع منعَ جموح رفاق له يبحثون عن حرب هنا أو انغماس هناك؟ هل تغيَّرت «هيئة تحرير الشام» أثناء كمونِها على مدى سنوات في معقل إدلب؟ وهل باتت مستعدةً للتصالح مع حقائق التركيبة السورية والموازين الإقليمية والشروط الدولية؟ وثمة من يعتقد أنَّ سوريا تستطيع مرافقة أحمد الشرع بنسخته الجديدة لكنَّها لا تستطيع الإقامة في ظل النسخة التي كانَ يمثلها «أبو محمد الجولاني».
أسئلة. أسئلة. أسئلة. هل تتوافر حالياً شروطُ قيامِ سوريا المبنيةِ على المواطنة والمؤسسات؟ سوريا التي تعيش في ظلّ دستور يحترم التعدديةَ وحق الاختلاف. سوريا المبنية على القانون والعدالة بلا انتقام أو تصفية حسابات. ماذا عن السُّنة والعلويين والدروز والمسيحيين، وماذا عن العرب والأكراد؟ وماذا عن حقوقِ الإنسان وحقوق المرأة والحرياتِ الشخصية ومناهج التعليم؟ سوريا موحدة تهجسُ بمكافحة الفقر والالتحاق بقطار التَّنمية والتقدم. سوريا التي تعيش داخل حدودِها من دون أوهام دور إقليمي اقتحامي وتصدير نموذج لا يريده جيرانُها. وما علاقة سوريا بالحاضنة العربيةِ ومع إيران وتركيا وما هو موقفها من إسرائيل؟ أرسلَ الشرع رسائلَ تطمينية لكنَّها تحتاج إلى عبارات أوضح ومفردات أكثر صراحة.
أطلَّ الشرع من ساحة الأمويين فاكتملت ملامحُ الزلزال. سوريا بلا الأسد. وبلا إيران. وبلا «حزب الله». أرغم محور الممانعة على سلوك طريق التقاعد، على الأقل في الوقت الحاضر. طريق طهران بيروت التي أنفق قاسم سليماني دماً وملياراتٍ وسنوات لتعبيدها قُطعت على نحوٍ محكم. أعادَ سقوط الأسد «حزب الله» إلى الخريطة اللبنانية وها هو زعيمه يعترف بخسارةِ طريق الإمداد وهي كانت طريق دوره الإقليمي. إنَّنا أمام سوريا أخرى ولبنان آخر.
دقَّت إطلالة الشرع جرسَ الإنذار في العواصم القريبة. سوريا مربوطة بشرايين المنطقة ومستقبلها يمسُّ الأمنَ والاستقرار والتوازنات. خشيت بغداد أن يثيرَ انقلاب المعادلات في سوريا شهيةَ من يحنّون إلى قلب المعادلات في العراق. خشيت عمّان أن تكونَ سوريا على أبواب مواعيد شائكة فعبَّر لقاء العقبة عن رغبةٍ عربية ودولية في احتضان «عملية سياسية جامعة» تفضي إلى سوريا تتَّسع لكل مكوناتها. الجمهورية اللبنانية المقطوعة الرأس عاودتِ البحثَ عن رئيس وهي تتساءل عمَّا إذا كان «حزب الله» استوعبَ «الدرس المرير الذي يجب أن نتعلَّم منه»، على حد قول قائد «الحرس الثوري» الإيراني حسين سلامي.
لإطلالة الشرع نكهةٌ إقليميةٌ صريحة. لم تُخفِ تركيا دورَها في إطاحة الأسد الذي رفضَ دعوات متكررةً لمصافحة رجب طيب إردوغان. بدا واضحاً أنَّ الزعيم التركي لعب دوراً حاسماً في إقناع روسيا وإيران بتجرّع كأسِ السُّم. تنازلت روسيا عن الرجل الذي تدخلت عسكرياً لإنقاذه. وتنازلت إيران عن المعبرِ السوري إلى لبنان. لعبت إيرانُ دورَ المرشد في عهد الأسد. وقد تلعب تركيا دورَ المرشد في عهد الشرع. لكن لا بدَّ من الانتظار لمعرفة ما وفَّره إردوغان من ضمانات وضمَّادات لروسيا وإيران في مقابل تنازلهما عن دعم الأسد.
بعد رحيل الأسد تصرَّفت إسرائيلُ بعدوانية صارخة. دمَّرت آخرَ قدرات الجيش السوري. بدا أنَّها تتوقَّع أن تكونَ سوريا الجديدة مصدراً للأخطار لا للاستقرار وتعاملت مع إطلالة الشَّرع كأنَّها مجردُ إطلالة للجولاني. هل ستتولَّى تركيا رعايةَ بناء الجيش السوري الجديد وتسليحه؟ وهل تقبل إسرائيلُ بأن ترابطَ تركيا عند حدودها بعدما خاضت حرباً طويلة لإبعاد إيران عن هذه الحدود؟ وهل تقبل إيرانُ بالأرجحية الإقليمية للدور التركي أم تراهن على انتكاسِ الوضع السوري الجديد للتسرب إليه؟
لم يذرفِ العالمُ دمعةً على جمهورية الكبتاغون. أهوالُ الظلمِ والقتل والتعذيب في سجن صيدنايا لم تترك مجالاً لأي أسف. مشهدُ مكبسِ الجثث على الشَّاشات هزمَ مخيلاتِ أفضل كتاب روايات القسوة. سيستفيد الوضعُ الجديد في سوريا من هذه الإداناتِ السوريةِ والعربية والدولية لماراثون الوحشية الذي قادَه جلاوزةُ الأمنِ وأقام طويلاً. لكن المستقبل أهمُّ من الماضي وستكشف الشهور المقبلة ما إذا كانت سوريا فتحتِ النافذةَ على المستقبل.
وزَّعت إطلالةُ الشرع كؤوسَ السُّمِ على النّظام وحلفائه ويبقى الأهمُّ إبعادُ سوريا عن كؤوس الفوضى والعنف والإرهاب والاحتراب الأهلي بين المكونات.
الشرق الأوسط
—————————
حقبة الأسد مع الحركة الوطنية الفلسطينية/ ماجد كيالي
المشكلة أن ثمة فلسطينيين لا يعرفون طبيعة النظام السوري
16 ديسمبر 2024
كانت المسحة “الأيديولوجية” لنظام الأسد (الأب والابن) والتي تلخّصت بشعارات “الوحدة والحرية والاشتراكية”، ادعاءات للمزايدة والاستهلاك والتعبئة واكتساب الشرعية، فقط، على نحو ما تفعل مختلف الأنظمة الاستبدادية الشعبوية التي تحاول من خلال ذلك تغطية هيمنتها على المجتمع وتبرير مصادرتها حقوق وحريات مواطنيها واحتكار السياسة، ونهب أو تبديد الموارد.
هذا الوضع الذي ينطوي على مراوغة وتلاعب وتورية انسحب، أيضا، على استخدام نظام الأسد قضية فلسطين التي اعتبرها القضية المركزية، مع ادعاءاته بأنه في محور “المقاومة والممانعة” ورفض التطبيع، واحتضان الفصائل الفلسطينية.
بيد أن سيرة الحقبة الأسدية مع قضية فلسطين، وحركتها الوطنية، كانت معقدة وصعبة ومهينة ومكلفة جدا، منذ البداية. وهو الأمر الذي عكس نفسه في التوتر الدائم بين معظم الفصائل الفلسطينية وخاصة “فتح” وبين النظام السوري، كما بين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وحافظ الأسد، ووريثه بشار من بعده، بسبب تدخلات النظام السوري، ليس في الخيارات السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية، فحسب، وإنما حتى في هيكلية الفصائل الفلسطينية، بدءا من محاولة السيطرة على حركة “فتح”، من خلال بعض ضباط الجيش السوري، الذين أدخلوا إلى جسم الحركة الوليدة، وفرضوا عليها، مقابل السماح بفتح مكاتب ومعسكرات لحركة “فتح”، في ما عرف بحادثة الضابط السوري يوسف عرابي (1966)، المقرب من حافظ الأسد، والتي نجم عنها مقتله، مع عديد من الأشخاص في أحد مكاتب “فتح” في دمشق. وقد نجم عن هذه الحادثة قيام الرجل القوي حينها (حافظ الأسد)، باعتقال ياسر عرفات وكل قيادة وكوادر “فتح” في دمشق لعدة أشهر، لم يخرجوا منها إلا بعد تدخلات من قادة بعض الدول العربية؛ وهي قصة وثقتها انتصار الوزير (أم جهاد) في كتابها: “رفقة عمر” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2022).
وبعد فشل محاولة الأسد أخذ “فتح” حاول ذلك في “منظمة التحرير الفلسطينية” من خلال إنشاء فصيلين، هما الصاعقة (التي قادها زهير محسن وبعده عصام القاضي) والجبهة الشعبيةـ القيادة العامة (أحمد جبريل وبعده طلال ناجي)، كما عبر فرض إجراءات وقيود على الفصائل الأخرى، للتأثير عليها. ومعلوم أنه لم يكتف بذلك إذ أنشأ جهازي مخابرات مختصين في شأن الفصائل، والحركة الوطنية الفلسطينية هما “الضابطة الفدائية” و”فرع فلسطين” (الذي شمل نشاطه كل شيء فيما بعد)، وبات من أقذر فروع المخابرات. وربما يفيد التذكير هنا أن كثيرا من القيادات الفلسطينية دخل المعتقلات السورية، مثل أبو عمار وجورج حبش (تم تحريره بعملية خاصة) وأبو جهاد (خليل الوزير) وعزام الأحمد، وتوفيق الطيراوي وسمير الرفاعي، وأبو طعان (قائد جهاز الكفاح المسلح في لبنان). كما قد يفيد التذكير بأن إنشاء روضة أطفال أو فريق رياضي أو إقامة معرض فني كان يحتاج من الفصائل الاستحصال على إذن من الضابطة الفدائية.
الفكرة من كل ذلك، في المحصلة، أن حافظ الأسد كان يريد الإمساك بالورقة الفلسطينية، لتحويلها إلى ورقة في يده في المساومة مع القوى الدولية والإقليمية، وأيضا لابتزاز الأنظمة العربية الأخرى، إضافة إلى سعيه لتعزيز شرعيته على الصعيد الداخلي. الأمر الذي دفع الزعيم الراحل أبو عمار إلى إشهار شعار القرار الفلسطيني المستقل، في وجه النظام الأسدي تحديدا، وهو الأمر ذاته الذي دفعه، بعد الخروج من بيروت (1982)، إلى الذهاب إلى تونس، بدلا من دمشق؛ مع نقل المقاتلين إلى بلدان عربية أخرى مثل الجزائر واليمن.
وفي غضون ذلك، قد يفيد التذكير بأن الأسد الأب هو المسؤول عن هزيمة يونيو/حزيران 1967 وأنه بدل تحمله أو تحميله، المسؤولية عن الهزيمة، كوزير للدفاع في حينه، قفز في انقلاب عسكري إلى السلطة، في مناخات أحداث سبتمبر/أيلول 1970 في الأردن، حيث تبوأ منصب الرئيس، محولا النظام الجمهوري إلى نظام وراثي.
وفيما بعد حصل التصادم الثاني مع نظام الأسد نتيجة إدخاله الجيش السوري إلى لبنان (1976)، ومواجهته للحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية، لمناصرة حزب “الكتائب”، وقتذاك، ما نجم عنه مجزرة تل الزعتر. بعد ذلك في الثمانينات دفع الأسد حركة “أمل” الموالية له، لمهاجمة مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة في بيروت، التي تعرضت لحصار وحشي وتدمير مبرمج في الأعوام 1985-1988، بدعوى إنهاء نفوذ “فتح” وزعيمها ياسر عرفات، ما نجم عنه تشريد سكان تلك المخيمات، وقتل المئات منهم، عدا عن الأهوال التي اختبروها في تلك الحرب، من ميليشيات “أمل” التي كانت تتولى تنفيذ السياسة السورية في لبنان، قبل صعود “حزب الله”.
في مرة أخرى، وقف النظام وراء صناعة حركة “فتح الإسلام”، التي أقامت إمارة لها في مخيم نهر البارد (طرابلس/لبنان)، والذي جرى تدميره وتشريد سكانه (2007)، في عهد الأسد الابن، فبعد التدمير اختفى زعيم هذه الحركة شاكر العبسي، الذي كان قد أخرج، قبل ذلك، من سجون النظام.
وفي الإطار ذاته لا يسعنا إلا أن نعتبر أن تشريد اللاجئين الفلسطينيين في العراق، وطردهم منه، إلى الحدود الأردنية والسورية، على يد الميليشيات الطائفية العراقية الموالية لإيران، حليفة النظام السوري، يصب في الاتجاه ذاته. ولمزيد من إهانة الفلسطينيين فقد جرى مؤخرا ضم تلك الميليشيات إلى محور المقاومة والممانعة!
وفي السياق ذاته، وفي محاولة صبيانية من الأسد الابن، في مؤتمر القمة ببيروت (2002)، جرى الحؤول دون إلقاء ياسر عرفات (المحاصر وقتها في رام الله إبان الانتفاضة الثانية) لكلمته في ذلك المؤتمر.
لكن ذروة ما فعله الأسد الابن في حق الفلسطينيين وحركتهم الوطنية، تمثل باستهداف معظم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، بالتدمير والتشريد والحصار، وأهمها ما جرى في مخيم اليرموك، أكبر تلك المخيمات، الذي شرد معظم سكانه، بعد حادثة قصفه (17/12/2012)، إذ أخضع لحصار مشدد، مع استخدام بعض الفصائل الفلسطينية للأسف، منذ أواخر عام 2012، مع تحويله إلى حقل رماية لمدفعية النظام وطائراته، ولسلاح الجو الروسي أيضا، علما أن المخيم يعيش وسط منطقة ساقطة عسكريا؛ وهي مأساة أضيفت إلى مآسي مخيمات لبنان تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة ونهر البارد في لبنان.
المشكلة، أن ثمة فلسطينيين لا يعرفون العالم العربي تماما، ولا طبيعة النظام السوري، وأمثاله، في الضفة وغزة ومناطق الـ48، وتنطلي عليهم تلاعباته واستخداماته لقضية فلسطين وشعارات المقاومة والممانعة التي ليس لها أية مصداقية على أرض الواقع، والتي تستخدم فقط للهيمنة على شعبه. وثمة فلسطينيون، متأدلجون، يظنون أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية، كأن شعب سوريا أو أي شعب آخر ليس له قضية، أو كأن الحرية والكرامة والعدالة تخص شعبا معينا دون غيره، وكأن قضية فلسطين تغطي على حقيقة سجن نظام الأسد الأبدي للشعب السوري، أو تبررها، وكأن نظاما يقوم على الاستبداد والفساد، يمكن أن يواجه إسرائيل. أيضا ثمة فصائل فلسطينية استمرأت العيش على الشعارات، وعلى ماضيها، أكثر من حاضرها وهي لعبت الدور الكبير في تمكين نظام الأسد والنظام الإيراني، من ركوب القضية الفلسطينية، حفاظا على مكانتها وعلى تمويلها، رغم كل ما فعله هذان النظامان بالشعب الفلسطيني، والتعامل مع قضيته العادلة والمشروعة بطريقة استخدامية.
وفي الحقيقة، فإن خلاص السوريين، وكل شعوب المنطقة، من نظام الأبد الأسدي، هو خلاص من واحد من أبشع الأنظمة التي عرفها العالم، وإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والمصطنعة تقوى بهكذا أنظمة. وبالتأكيد فإن قيم الحرية والعدالة والكرامة لا تتجزأ، للفلسطينيين ولغيرهم.
————————-
رئيس “الدفاع المدني” السوري لـ”المجلة”: “صيدنايا” مسلخ بشري… ولا نزال نبحث عن سجون سرية
قضية المعتقلين هي قضية إنسانية أولا
فراس كرم
آخر تحديث 16 ديسمبر 2024
قال رائد الصالح رئيس “الدفاع المدني السوري” (الخوذ البيضاء) في حديث إلى “المجلة”، إن فرقه لا تزال “تبحث عن سجون سرية أو عن زنازين سرية غير مكتشفة داخل السجون التي تم اكتشافها، وإطلاق سراح المعتقلين منها”، لافتا إلى أن “حالة الفوضى التي حصلت في الساعات الأولى، أدت لأضرار بالغة في الوثائق، ونسعى لمساعدة السلطات والمؤسسات في حفظ هذه الوثائق”.
وعن سجن صيدنايا الشهير، قال الصالح إنه “مسلخ بشري بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. أعلى درجات التوحش التي عرفتها البشرية، مرعب مخيف، رائحة الموت في كل مكان”. وزاد: “رغم أن نظام الأسد المجرم والبائد حاول إخفاء جميع الأدلة، وأدوات التعذيب، وجميع الأدوات الفيزيائية والمتعلقة بالتعذيب في السجن، ومع ذلك ما زال هناك الكثير من الأدلة، مسألة الدخول إليه كانت معقدة جداً، للأسف حصلت حالة فوضى عندما تم فتح السجن، وإخراج المعتقلين”. وأشار الصالح إلى “بعض الأشخاص تصرفوا بطريقة متعمدة، لمحاولة طمس الأدلة، وأخذ تسجيلات الكاميرات من داخل السجن، والعبث بالوثائق”.
وأوضح ردا على سؤال: “للأسف لا أحد يمتلك هذه الأرقام بسبب حالة الفوضى التي حصلت، سواء في سجن صيدنايا أو حتى في باقي سجون الأفرع الأمنية، أو حتى في السجون العادية مثل سجن عدرا، الذي كان يوجد به أيضاً سجناء سياسيون”، لافتا إلى أن عدد المعتقلين كان أكثر من مئة ألف شخص “وتوجد منظمات عديدة لديها توثيقات لعدد المفقودين والمختفين قسرياً في سجون نظام الأسد والميليشيات الإيرانية”،
وهنا أجوبة الصالح ردا على أسئلة أرسلت له خطيا:
1- لماذا قرر “الدفاع المدني” المساعدة في قضية السجون؟
قضية المعتقلين في السجون والمختفين قسريا، هي قضية إنسانية بالدرجة الأولى، لا يمكن لأي إنسان أن يتجاهل هذه المأساة التي ترتبط بكل السوريين، لا يوجد بيت سوري إلا ويعاني من اعتقال أحد أفراده، طوال السنوات الماضية كانت قضية المعتقلين والمختفين قسرياً في سجون نظام الأسد، واحدة من أهم أولوياتنا، وخاصة في اجتماعاتنا مع ممثلي الدول والمنظمات الحقوقية.
بعد ما حصل من انهيار لنظام الأسد البائد، حدثت حالة فوضى مؤقتة خاصة في مدينة دمشق وريفها، وكان هناك تعامل عشوائي من أشخاص فتحوا السجون بطريقة غير منضبطة، وبناء على مناشدات الأهالي، وذوي الضحايا للمساعدة في البحث عن زنازين سرية، يُحتمل وجودها في سجن صيدنايا تدخلت “فرق الدفاع المدني السوري” واستجابة لهذا النداء أرسلنا خمسة فرق متخصصة، بينها فريقا “K9” للبحث عن أي من هذه الزنازين المحتمل وجودها، والتي لم تُكتشف بعد، ولكن لم نجد أية زنازين غير مكتشفة بعد، وبالتالي لا يوجد معتقلون متبقون في سجن صيدنايا الآن، وجميع المعتقلين خرجوا من السجن، وتواصلت مناشدات الأهالي للبحث في سجون أخرى، أو عن معتقلات أخرى لا تزال سرية، ونواصل حالياً الاستجابة للنداءات والبحث في هذه السجون أو البحث عن معتقلات سرية.
2- من إنقاذ القتلى من القصف إلى إنقاذ السجناء… كيف حصل؟ وما الفرق؟
باعتقادي لا فرق بين إنقاذ المدنيين من القصف، أو إنقاذ السجناء، النتيجة واحدة “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”. هدفنا ثابت وواحد أن نكون بجانب أهلنا السوريين، في كل مكان نستطيع تقديم المساعدة فيه، كما بدأنا مدفوعين بفطرتنا الإنسانية والبشرية قبل عشرة أعوام، واليوم نحن أيضاً نقوم بمهمة إنسانية عظيمة في البحث عن المفقودين في السجون، وعن المعتقلين، وعن سجون سرية أو زنازين سرية في معتقلات لم تُكتشف بعد.
صحيح أنه من حيث المبدأ لا يوجد فرق، لأن القاتل واحد، من قتل السوريين بالقصف والغارات الجوية، والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية والحصار، هو النظام المجرم نفسه الذي اعتقلهم، وقتل عشرات الآلاف من السوريين تحت التعذيب، لكن يجب أن أعترف أن البحث عن المفقودين مهمة صعبة جداً، مهمة لم أكن أتخيل أن تكون بهذه الصعوبة، لأن الكثير والكثير من الأمهات والآباء والأبناء والأحباب ينتظرون منا خبراً، وكم نكون في غاية الحزن عندما لا نتمكن من إعطائهم أخبارا مفرحة.
3- ما عدد عناصر “الدفاع” الذين ساعدوا السجناء؟
كمرحلة أولى أرسلنا لسجن صيدنايا خمسة فرق متخصصة: فريقي كلاب بوليسية مدربة “K9″، وفريقي بحث وإنقاذ مزودين بأدوات ومعدات متخصصة، إضافة لفريق دعم لوجستي، وفريق إسعاف، وفريق طوارئ. هذا فيما يتعلق بسجن صيدنايا وفي اليوم نفسه أرسلنا فرقا إضافية للبحث في عدد من السجون، وفق ما يصلنا من بلاغات من الأهالي، فقد بحثنا في سجن بمطار المزة، وبحثنا في سجن في منطقة نجها تابع لأمن الدولة، وبحثنا في سجن يتبع الفرقة الرابعة.
4- ماذا تقول لنا عن تجربة سجن صيدنايا؟
“مسلخ بشري” بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أعلى درجات التوحش التي عرفتها البشرية، مرعب مخيف، رائحة الموت في كل مكان، رغم أن نظام الأسد المجرم والبائد حاول إخفاء جميع الأدلة، وأدوات التعذيب، وجميع الأدوات الفيزيائية والمتعلقة بالتعذيب في السجن، ومع ذلك ما زال هناك الكثير من الأدلة، مسألة الدخول إليه كانت معقدة جداً، للأسف حصلت حالة فوضى عندما تم فتح السجن، وإخراج المعتقلين، ويوجد أشخاص تصرفوا بطريقة متعمدة، لمحاولة طمس الأدلة، وأخذ تسجيلات الكاميرات من داخل السجن، والعبث بالوثائق، كما أن قدوم أعداد كبيرة من الأهالي إلى السجن للبحث عن أحبائهم وأبنائهم، وأنا أقدر موقفهم وأشعر بشعورهم، أدى إلى تلف كثير من الوثائق والأدلة والأوراق، وضياع بعض أدوات التعذيب، وفقدان مقتنيات وأشياء خاصة بالسجناء والمعتقلين كانت مهمة جداً في التعرف عليهم، وفي معرفة وكشف مصيرهم.
5- ما عدد المفرج عنهم؟
للأسف لا أحد يمتلك هذه الأرقام بسبب حالة الفوضى التي حصلت، سواء في سجن صيدنايا أو حتى في باقي سجون الأفرع الأمنية، أو حتى في السجون العادية مثل سجن عدرا، الذي كان يوجد به أيضاً سجناء سياسيون، ونظام الأسد البائد تقصّد قتل المعتقلين مرتين، المرة الأولى باعتقالهم، والمرة الثانية بعدم كشف مصيرهم.
6- كم نسبتهم من أعداد المفقودين؟
أيضاً لا يمكننا إعطاء نسبة عدد المفقودين، أما المعتقلون فكانت نسبتهم تتجاوز المئة ألف، وتوجد منظمات عديدة لديها توثيقات لعدد المفقودين والمختفين قسرياً في سجون نظام الأسد والميليشيات الإيرانية.
– هل وصلتم إلى جميع السجون بما فيها السرية؟
حتى الآن ما زلنا نقوم بعمليات البحث عن سجون سرية أو عن زنازين سرية غير مكتشفة داخل السجون التي تم اكتشافها، وإطلاق سراح المعتقلين منها.
وأرسلنا رسالة إلى الأمم المتحدة، عبر وسيط دولي نطالبها بالضغط على روسيا، وإجبار رأس النظام البائد بشار الأسد، على إعطاء جميع مواقع السجون والمعتقلات والسجون السرية، وإعطاء كل التوثيقات عن عدد المعتقلين وعن مصيرهم.
8- هل حفظتم الوثائق؟
للأسف حالة الفوضى التي حصلت في الساعات الأولى، أدت لأضرار بالغة في الوثائق، ونسعى لمساعدة السلطات والمؤسسات في حفظ هذه الوثائق، ووضع آلية واحدة لإعادة جمعها وتوثيقها، لنتمكن من معرفة مصير العدد الأكبر من المعتقلين المختفين قسرياً في سجون نظام الأسد البائد، وللمساعدة في تحديد المجرمين والبدء بمسارات العدالة، للأسف حفظ الوثائق عملية مهمة جداً، وما حدث محزن، ويعتبر جريمة بحق المعتقلين وذويهم وحقوقهم.
9- هل ستقدم هذه الوثائق والأدلة إلى جهات التحقيق والمساءلة؟
بالتأكيد. بالنسبة لنا جميع الوثائق التي نمتلكها، سواء المتعلقة بالتعذيب والمعتقلات أو بجوانب أخرى من الانتهاكات والهجمات الكيماوية والمجازر، سنقدمها للجهات الدولية وللمنظمات الأممية، لدعم مسارات العدالة والمحاسبة وتحقيق العدالة للسوريين.
المجلة
————————–
سوريا… من الثورة إلى الدولة/ إبراهيم حميدي
القيادة الجديدة قدمت رؤيتها لمستقبل البلاد وتواصل تقديم الرسائل والتطمينات
آخر تحديث 16 ديسمبر 2024
بشار الأسد صار من الماضي وعائلة الأسد في محكمة التاريخ خصوصا ما يتعلق بالمساءلة والمحاسبة عن الجرائم والانتهاكات. عشرة أيام فقط مرت على فرار الأسد وسقوط منظومته بعد 11 يوما هزت سوريا والاقليم، لكنها تبدو للسوريين كأنها دهر. آلام مشاهد السجون والزنازين و”المسلخ البشري” في صيدنايا، ثقيلة. نزول الملايين إلى ساحات المدن للاحتفال بـ”جمعة النصر”، احتفالي.
انتهت “جمهورية الكابتاغون”. الآن، بإمكان السوريين التفرغ إلى طرح الأسئلة الكبرى ومعالجة التحديات الكبيرة وما أكثرها خصوصا تلك التي تركتها المنظومة. ولعل المعادلة الأساسية حاليا، هي ما قاله أحمد الشرع، قائد العمليات، من أن الثورة السورية انتصرت، لكن لا يجب أن تُقاد سوريا بعقلية الثورة، بل بعقلية الدولة.
عندما واصل قادة طهران قيادة البلاد بـ”عقلية الثورة”، باتت إيران عبئا على شعبها وجيرانها لعقود كثيرة. سوريا ليست إيران، لكن لا بأس من الإفادة من تجارب الخصوم. الأمر المبشر أن قادة دمشق الجدد بادروا مبكرا لاستعجال الانتقال من “الثورة” إلى “الدولة”، بل إن واقع الحال أنه منذ بدء معركة “ردع العدوان”، حرص قادة العمليات العسكرية على إرسال رسائل مطمئنة: التمسك بمؤسسات الدولة، المحاسبة وعدم الانتقام، وحماية حقوق وطقوس الأقليات، حماية الملكيات الخاصة والعامة، الإبقاء على آلة الحكومة. ولا خلاف أن تمسك المقاتلين بهذه المبادئ، قولا وفعلا، سهل عليهم السيطرة على حلب ثم حماة ثم حمص وصولا إلى دمشق وهروب الأسد.
أسقطت المعارضة النظام بأقل كلفة دموية بينما دفع السوريون أثمانا باهظة لتمديد إقامة بشار الأسد لعقد من الزمن. حرقت البلد وبقي الأسد مؤقتا. ولا شك أن المبادئ التي طرحتها “إدارة العمليات”، فتحت لهم المدن والقرى التي كانت تنتظر التغيير وقد أرهقت من حرب فرضها النظام عليها لـ14 سنة.
لكن ما هي التحديات والأسئلة أمام الحكم الجديد؟
أولا، العلاقة مع تل أبيب، قوات إسرائيل توغلت في المناطق العازلة في الجولان ووصلت إلى قرب دمشق واحتلت قمة جبل الشيخ ودمرت جميع السلاح الاستراتيجي السوري، طائرات وسفنا ومصانع ومخابر ومطارات. عمليا باتت سوريا منزوعة السلاح. كيف يمكن اتخاذ موقف وطني دون خوض حروب جديدة ومبكرة؟
ثانيا، “فلول النظام” ومؤسسات الدولة. منذ وصول “هيئة تحرير الشام” إلى دمشق حرصت على إجراءات الانتقال السلس من حكومة النظام السابق. تسلم واستلام بينها وبين “الحكومة الموقتة”. وطلبت من جميع العاملين والمدارس العودة إلى العمل الطبيعي. لكن كيف يمكن الحفاظ على مؤسسات الدولة ومساءلة المجرمين؟ كيف يمكن قطع الطريق أمام سعي دول خاسرة من التغيير، مثل إيران، من الاستثمار في “فلول النظام” وتجنيدهم في معارك مستقبلية؟
ثالثا، الجيش وأجهزة الأمن. بمجرد اقتراب إدارة العمليات العسكرية من دمشق في 7 ديسمبر/كانون الأول، سرحت قيادة الجيش عناصرها وهرب عناصر أجهزة الأمن. وهناك خطة لتفكيك أجهزة الأمن وبناء جيش سوري جديد. لكن كيف يمكن القيام بذلك من دون ترك عشرات آلاف العناصر ليكونوا وصفة للتطرف والهجمات المضادة؟ أمامنا تجربة العراق عندما تحول تفكيك الجيش والأمن إلى عراق ما بعد صدام حسين، كابوسا للعراق ووقودا لجيرانه.
رابعا، الأكراد. بالفعل هناك فرق بين الأكراد السوريين و”حزب العمال الكردستاني”. يمكن حل مشكلة أكراد سوريا وتوفير حقوقهم في البلاد، لكن لا يمكن حل مشكلة “العمال الكردستاني” التركي في سوريا. هناك بوادر برفع الادارة الذاتية “علم الثورة” فوق مؤسساتها واعتراف دمشق بالاكراد مكونا من الشعب. كيف يمكن الحوار بين دمشق والقامشلي للوصول إلى علاقة جديدة: إدارة ذاتية من دون تقسيم سوريا؟ كيف يمكن ضم “قوات سوريا الديمقراطية” إلى الجيش السوري الجديد؟ آليات استعادة السيادة والحدود؟
خامسا، الاقتصاد. منظومة الفساد سرقت ثروات البلاد ما بقي من ثروة نفطية وغازية ومائية هي تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”. سوريا تحت عقوبات غربية وقبل أيام جرى تمديد “قانون قيصر” في الكونغرس الأميركي. بعد الانتهاء من أفراح إسقاط النظام، سيبحث السوريون عن الكهرباء والطعام والدواء والخدمات. الفاتورة كبيرة والقائمة طويلة. الوعود بزيادة الرواتب 400 في المئة أمر جيد. لكن كيف يمكن توفير متطلبات السوريين وحاجاتهم أمام الواقع: سوريا مدمرة وثرواتها منهوبة وتحت سيف العقوبات؟
سادسا، هيئة الحكم. واضح أن الدول العربية والغربية والأمم المتحدة قبلت ورحبت بالتغيير المفاجئ في دمشق. وهي مستعدة لدعم الحكم الجديد إذا شكل هيئة حكم انتقالية شاملة وجامعة تضم المكونات كافة. والدول مستعدة لرفع العقوبات وإلغاء تصنيف “هيئة التحرير” كتنظيم إرهابي إذا تعاونت في خطوات معينة تشمل إشراك جميع القوى السياسية والعسكرية. هل مرجعية التحول في القرار 2254؟ هل القرار لايزال صالحا ام ان الواقع نسف بعض بنوده؟
الأمر المطمئن أن الحكومة المؤقتة موجودة إلى بداية مارس/آذار فقط. هي بالفعل نجحت في إدارة إدلب، لكن إدارة سوريا من دمشق مسألة أكثر تعقيدا. وواضح أن الاتصالات جارية لتشكيل الهيكلية التي ستقود المرحلة الانتقالية بعد 1 مارس.
سابعا، الفصائل. لا شك أن الفصائل المسلحة أظهرت شجاعة وتنظيما غير مسبوقين، بإسقاطها الأسد ومنظومة في 11 يوما من عاصفة كانت أقرب إلى المعجزة. وبينما كانت “إدارة العمليات” تتقدم من حمص إلى دمشق دخلت غرفة عمليات الجنوب إلى العاصمة. بعد الانتصار الكبير، هناك تحدي الانضمام إلى جيش سوريا الجديد وبناء هيكلية جيش دولة وليس فصائل، أي حل جميع الفصائل وإبقاء السلاح فقط بأيدي الدولة.
ثامنا، العلاقات الخارجية. أول وفد أجنبي زار دمشق بعد التغيير كان وفدا حكوميا تركيا. أنقرة استأنفت نشاطاتها الدبلوماسية في دمشق بعد تجميدها في 2012. وواضح أن تركيا لعبت دورا في دعم تغيير الأسد. لكن التحدي، هو الحفاظ على توازن موقف سوريا بين الأقطاب الإقليمية والعمق العربي. كيف سيكون مستقبل القاعدتين الروسيتين في طرطوس واللاذقية؟ وما مستقبل القوات الأميركية الداعمة لـ “قوات سوريا الديمقراطية”؟
تاسعا، التطرف. لايزال خلايا “داعش” تنتشر في البادية السورية وجيوب أخرى. ينتعش هذا التنظيم في الفراغ ويتمدد في الظلام وغالبا ما يعرض “خدماته” على الطامحين في بث الفوضى والانتقام في الداخل والخارج.
يجب ألا ننسى ان عمر التغيير لم يتجاوز بضعة أيام دون أن ننسى أهمية التأسيس في هذه الأيام. لا خلاف أن القيادة الجديدة تعرف هذه التحديات وفيها كفاءات. لا شك أن القيادة قدمتها رؤيتها لمستقبل البلاد منذ بدء المعركة في حلب، وهي تواصل تقديم الرسائل والتطمينات. لا شك أنها وليدة هموم السوريين ومعجونة بآلامهم وآمالهم. رهانها ورهانهم الانتقال معا من “الثورة” إلى “الدولة”… بعد سقوط المنظومة.
—————————–
مرحلة ما بعد “الأسد”.. ما هي التحديات الكبرى التي تواجه الإدارة السورية الجديدة؟/ فراس فحام
2024.12.16
تشهد سوريا أجواء من السعادة والتفاؤل بعد هروب بشار الأسد إلى موسكو قبل نحو أسبوع، حيث تزايدت الآمال بتحسن الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تفاقمت خلال فترة حكمه، بما في ذلك قمع الحريات، والانهيار الاقتصادي، وتقسيم السيطرة بين القوى المختلفة. أدى ذلك إلى انقطاع التواصل بين نحو خمسة ملايين سوري يقطنون الشمال مع ذويهم في باقي المحافظات، إضافة إلى منع ملايين اللاجئين من العودة خوفاً من الانتقام الأمني.
شرعية السلطة
أعلنت هيئة تحرير الشام التي قادت عملية “ردع العدوان” عن تشكيل حكومة انتقالية تستمر حتى نهاية الثلث الأول من عام 2025، مع إقرار قرارات إستراتيجية تشمل إعادة هيكلة الجيش وتأسيس أجهزة أمنية جديدة ورفع رواتب الموظفين.
في المقابل، دعت المعارضة السورية الرسمية، ممثلة بهيئة التفاوض المنبثقة عن الائتلاف السوري المعارض، إلى إطلاق حوار مع دمشق لوضع دستور جديد وبناء دولة المواطنة لكل السوريين، متوافقة مع مخرجات مؤتمر العقبة الذي عقد منتصف ديسمبر الجاري ودعا إلى انتقال سلمي وفق قرار مجلس الأمن 2254.
زار المبعوث الأممي غير بيدرسون دمشق والتقى أحمد الشرع، قائد الإدارة الجديدة، لمناقشة تنفيذ القرار الأممي. طالب الشرع بتعديل القرار نظراً لتغير الظروف بعد سقوط نظام الأسد. تظهر أزمة الشرعية كأحد أبرز التحديات في حال استمرار الإدارة الانتقالية لفترة أطول دون توافق وطني ودولي واسع.
استعادة موارد الدولة السورية
رغم استعادة السيطرة على مناطق استراتيجية مثل تل رفعت ومنبج ودير الزور، لا تزال حقول النفط الرئيسية كحقل العمر والتنك تحت سيطرة تنظيم قسد. كانت الطاقة الإنتاجية لحقول النفط السورية تتجاوز 300 ألف برميل يومياً قبل عام 2011، مما يجعل استعادتها أولوية قصوى لإعادة الإعمار ودفع عجلة الاقتصاد.
يتطلب حل هذه المعضلة إنهاء سيطرة قسد وإيجاد صيغة لإشراك المكون الكردي في العملية السياسية. لكن استمرار الوجود الأمريكي في شمال شرق سوريا يعيق الحسم العسكري والسياسي، مما يعقّد إدارة الموارد الوطنية ويجعل الإدارة الانتقالية تعتمد على المساعدات الدولية.
ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” في 15 ديسمبر عن تحركات إماراتية وأردنية ولبنانية تعارض “هيمنة الإسلاميين على الحكومة الانتقالية”، وهو ما يتسق مع مخرجات مؤتمر العقبة التي رآها سياسيون سوريون خطوة نحو فرض وصاية دولية على سوريا.
إسرائيل أبدت قلقها من الوضع الجديد، حيث دعا وزير خارجيتها جدعون ساعر إلى دعم الأقليات وإنشاء حكم فيدرالي في سوريا، كما شن الجيش الإسرائيلي حملة جوية واسعة استهدفت مخازن الأسلحة السورية لمنع القوى الجديدة من السيطرة عليها.
من المتوقع أن تزداد حالة الاستقطاب الإقليمي والدولي حول سوريا، في ظل تنسيق تركي-سعودي-قطري داعم للتغيير، مما قد يعيد سيناريو الصراع المطول الذي شهدته ليبيا بعد سقوط القذافي.
فوضى السلاح
لا يزال السلاح منتشراً بشكل كبير في سوريا، خاصة في مناطق الساحل والعاصمة دمشق التي كانت معقلاً لضباط الجيش والأمن في عهد الأسد. التزم العديد من هؤلاء الضباط منازلهم محتفظين بكميات من الأسلحة.
أطلقت الإدارة الجديدة عملية “التسوية” لضمان تسليم السلاح وتسوية أوضاع المسلحين، لكن لا يبدو أن هناك تجاوباً واسعاً قبل التوصل إلى حل سياسي شامل يحقق توافقاً وطنياً حقيقياً.
———————-
زعيم “قسد” يعرض إعادة ضريح السلطان سليمان شاه إلى شرقي حلب
2024.12.16
قال زعيم “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مظلوم عبدي، الإثنين، إن قواته ملتزمة بإعادة ضريح السلطان سليمان إلى موقعه القديم عند جسر قره قوزاق بالقرب من عين العرب (كوباني) شرقي حلب.
وأفاد عبدي في منشور على منصة إكس: “استنادا إلى الاتفاقيات الدولية، نجدد التزامنا بإعادة ضريح السلطان سليمان إلى موقعه القديم، مع تأكيد جاهزيتنا لإبقاء الطريق إلى الموقع مفتوحا، وتقديم كافة التسهيلات اللازمة لعبور جسر قره قوزاق باتجاه الضريح”.
وكان موقع “باس نيوز” نقل عن مصدر كردي اليوم الإثنين، بأن القوات الأميركية انسحبت من مدينة عين العرب، مشيرا إلى نقل العالقين من عناصر قسد من منبج شرقي حلب برعاية أميركية اليوم أيضا.
وتحدث المصدر عن طرحٍ لنشر 40 جنديا تركيا لحراسة مرقد سليمان شاه بالقرب من جسر قره قوزاق بدلا من إنشاء قاعدة.
———————-
من تجارب التحول الديمقراطي.. كيف تنهض سوريا؟/ عدي محمد الضاهر
2024.12.16
الثورات والحروب والحركات الاجتماعية نقاط تحول كبرى في تاريخ الشعوب، تحمل في طياتها فرصاً عديدة للتغيير لكنها تأتي بثمن باهظ من الدمار والمعاناة، ورغم التحديات التي تواجهها الدول بعد هذه الأحداث، أثبت التاريخ أن النهوض ممكن إذا ما توفرت الإرادة السياسية والمجتمعية، ووجّهت الجهود نحو البناء والتحول الديمقراطي وأن الثقة في قدرة الشعب السوري على تجاوز الصعوبات تُعطي أملاً كبيراً بأن القادم سيكون أفضل للشعب السوري بكافة مكوناته.
بعد الثورات تجد الدول نفسها أمام مشهد معقد من الدمار المادي والانقسام الاجتماعي والفراغ السياسي، لكن النهضة تبدأ من لحظة مواجهة هذه التحديات بشكل عملي ومدروس، تتمثل في إعادة إعمار البنية التحتية وتعافي الاقتصاد وتفعيل المصالحة الوطنية كركيزة أساسية لضمان الاستقرار الاجتماعي، خاصة في الدول التي تعاني من انقسامات عرقية أو طائفية.
ولنا في تجربة جنوب أفريقيا نماذج ناجحة أثرت في عملية التحول الديمقراطي فقد أطلقت حكومة نيلسون مانديلا على سبيل المثال لجنة “الحقيقة والمصالحة” التي مكنت الشعب من مواجهة الماضي المعقّد من دون السقوط في معضلة الانتقام، ما أسهم في بناءِ مجتمع جديد على أسُس أكثر عدالة.
وفي نموذج مشابه، يمكن للحكومة السورية القادمة تشكيل محاكم وطنية خاصة تعمل على جبر الضرر وتمكين العدالة كي تسترجع ثقة الشعب السوري في مؤسسات الدولة القضائية.
ومع خطوتيِّ الإعمار والمصالحة تأتي أهمية إصلاح المؤسسات الأمنية، ولنا في تجربة البوسنة والهرسك التي عانت من حرب مدمرة دروس نستخلصها، فقد استعادت استقرارها بعد تمكّنها من بناء أجهزة أمنية ضمنت سيادة القانون وحمت المواطنين ومكّنت القضاء من محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
إنّ تاريخ المؤسسات الأمنية في سوريا خلال العقود الستة الأخيرة ملطخ بدماء الشعب السوري، ما أفقد الدور الحقيقي والمفترض لتلك المؤسسات، بعد استخدامها لخنق السوريين وإخراجهم من دور المواطن صاحب الحقوق إلى المعتقل المطالب بتمجيد رموز النظام الديكتاتوري والمجبر على السكوت والرضوخ دوماً، لذا أجد أن أكثر العواقب التي قد تُعيق أو تأخر عملية التحول الديمقراطي هي معضلة المؤسسات الأمنية وعلاقتها مع المواطن فإذا تم إصلاحها بالطريقة الصحيحة فلن تكون عقبة تؤخر سير الخطوات الآخرى.
كذلك، فإنّ التحوّل الديمقراطي بعد الحروب أو الثورات يتطلب خططاً مدروسة لإعادة بناء النظام السياسي على ركائز مثل العدالة والمساواة والشفافية فصياغة دستور يضمن حقوق المواطنين ويؤكد على فصل السلطات لتحقيق طموحات الشعب في الحرية والكرامة ويساعد على انتخابات حرة ونزيهة تشكل بدورها خطوة أساسية في بناء الشرعية السياسية للنظام الجديد.
وفي تجارب التحوّل الديمقراطي نجد أن شعب دولة تشيلي تمكّن من إنهاء حقبة الديكتاتورية العسكرية وارتكز في تجربته على تأسيس دستور ضمن الشرعية السياسية للحكومة، ما أتاح للدولة العودة إلى العمل وفق المسار الديمقراطي وإبعاد العسكر عن دائرة الحكم والسلطة، لأنّه من الممكن أن تتعرض تجربة التحول إلى صراع مباشر مع العسكر بعد الصراع مع الديكتاتورية ولتجنب هذا الصراع يجب أن يُحدد دور الجيش والعسكر دستورياً، لمنعه من التدخل في سير شؤون الحياة السياسية.
وللوصول إلى الديمقراطية وتجاوز أخطاء الماضي تحتاج الدولة والمجتمع إلى منظمات المجتمع المدني التي يكمن دورها في مراقبة وتعزيز أداء الحكومة وتفعيل مشاركة المواطنين في رسم مسار السلطة والحكومه في البرامج التنفيذية مع دورها المهم جداً في تطوير الفكر السياسي وتوضيح مفاهيم مثل الدولة والمجتمع والحكومة والسلطة وطبيعة سير العلاقة بينهم في أي دولة ديمقراطية.
كذلك، تحقيق العدالة الانتقالية من خلال محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وتقديم التعويضات لأهالي الضحايا والمصابين والمعتقلين، يمثّل عنصراً أساسياً لبناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وهناك دور مهم لمنظمات المجتمع المدني يكمُن عملها في التأكيد على أهمية حقوق الإنسان وضرورة تطبيق خطوات تقلل من نسبة الخطأ في محاكمة المتهمين بارتكاب انتهاكات بحق السوريين.
وتجربة الأرجنتين بعد الحكم العسكري تُظهر كيف يمكن للعدالة الانتقالية أن تضع أسساً لمستقبل أكثر استقراراً وتوافقاً، فبعد أن شهدت الأرجنتين فترة حكم سلطوي امتد إلى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، نجحت منظمات محلية ودولية في توثيق الانتهاكات التي مكّنت الدولة من محاكمة كثير من مرتكبي التجاوزات في حق المعارضين اليساريين حينها.
ومن خلال تجربة فيتنام نجد أنه لا يمكن للديمقراطية أن تستمر أو أن تُنتج في بيئة من الفقر وعدم المساواة، ولتحقيق التحوّل الديمقراطي الحقيقي، تحتاج الدولة إلى تشجيع الاستثمار والإصلاح الاقتصادي، فقد تمكنت فيتنام من تجاوز آثار حربها الطويلة عبر تبني إصلاحات اقتصادية مكنت حرية السوق مما جعلها واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم.
أيضاً، لم يتجاهل الكوريون الجنوبيون أهمية التعليم، فقد عانت كوريا الجنوبية من الدمار خلال الحرب الكورية، لكنها استثمرت في التعليم بشكل مكثف، ما جعلها اليوم قوة اقتصادية رائدة عالمياً.
ومن الخطوات المهمة والأساسية للحكومة السورية القادمة إضافة مناهج جديدة تتماشى مع التطور الحاصل في عالمنا، تشمل كل مراحل التعليم الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعات، ليس فقط الإضافة على صعيد المناهج، بل يجب أن يرافقها أيضاً الانتقال إلى التعليم عبر وسائل تعليم عالمية ومتطورة.
بعد كل هذا الخوض، نؤكّد على أن النهوض بعد الثورات والحركات الاجتماعية ليس مهمة سهلة معبدة الطريق لكنها مهمة قابلة للتنفيد والتطبيق، فكل ما يحتاجه الشعب السوري لإنجاح تجربته في التحول الديمقراطي هي قيادة حقيقية ومجتمع متماسك، يدرك أهمية المصالحة والإصلاح.
التجارب التاريخية تُثبت أن الشعوب قادرة على تحويل المعاناة والجراح إلى فرص أمل لبناء أنظمة سياسية أكثر عدالة وديمقراطية، وبقدر ما يكون الطريق مليئاً بالتحديات والصعوبات، يبقى الإصرار على أن العمل المشترك هو السبيل الوحيد للشعب السوري الشجاع للوصول إلى مستقبل أفضل يضمن حقوق الجميع.
———————–
في بعض تحديات الانتقال السياسي في سوريا/ حسان الأسود
2024.12.16
لعلّ الناظر إلى الساحة السورية من خارجها يكون أوفر حظاً في رؤية تشابكات المصالح الإقليمية والدولية المعقّدة، لكنّ الفهم الأعمق يستدعي بالضرورة قراءة الخارطة الداخلية المكتظّة بالفواعل العسكرية والسياسية والمجتمعية المختلفة.
عنونت قناة دبي التلفزيونية أحد برامجها الحوارية بـ”تحالف أعداءٍ في هيئة أصدقاء يُخرج سوريا من عرين الأسد”، وهذا هو الذي حصل فعلًا للانتقال من حالة السبات الطويلة التي مرّت بها سوريا خلال الأعوام الماضية، إلى حالة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها دراماتيكية متسارعة تحبس الأنفاس.
وجدت روسيا نفسها مضطرّة إلى مقايضة حليفٍ جلفٍ غبيٍّ لا يفقه إلا لغة التعنّت والانتقام بشيء من التساهل في ملف حربها على أوكرانيا، فدونالد ترمب قادم خلال أسابيع إلى البيت الأبيض وعلى بوتين أن يقدّم عربون صداقة أولًا، خاصّة وأنّه واجه صعوبات في الحفاظ على نظام الأسد بعد أن غيّرت إسرائيل ومن خلفها الغرب كلّه معادلات الشرق الأوسط جذرياً.
الفراغ الكبير الميداني في سوريا والذي أحدثه سحق “حزب الله” الإرهابي في لبنان، كان له أكبر الأثر في القرار الروسي رفع الغطاء عن الأسد، الذي جلبه بوتين إلى موسكو ليقايض به ربّما لاحقاً على بعض النفوذ في مياه المتوسط.
تركيا التي تمهّلت كثيراً وتردّدت أكثر في فترات سابقة، أقدمت اليوم على الخطوة الحاسمة التي جسّدت نقطة تلاقي المصالح المختلفة.. لقاء العرب والأتراك في عمّان سيكون عنوان تقاسم الأدوار وتثبيت المصالح والحدود.
في لحظات كثيرة من تاريخ الصراع في سوريا كان تضارب المصالح الخارجيّة هو العامل الحاسم في تأجيل الحل السوري، واليوم بعد أن اندحر النظام الاستبدادي مع انكسار شوكة محوره الداعم في إيران تحديدًا وضعف الحليف الأكبر في روسيا، بات تجاذب المصالح الداخلية هو المشكلة التي يجب النظر إليها بجديّة أكبر.
ثمّة ثلاث قوى عسكرية رئيسية في سوريا اليوم، تتمثل الأولى بما أصبح يعرف باسم “إدارة العمليات العسكرية” والتي تقودها فعلياً أكبر قوّة منظمة ضمن مجموعة القوى المشكلة لها، ونعني بها “هيئة تحرير الشام”، تتمثل هذه القوّة سياسياً عبر ما بات يعرف باسم “الإدارة السياسية” وإدارياً بـ”حكومة تسيير الأعمال” التي أتت كليّاً من “حكومة الإنقاذ”، التي كانت تدير إدلب خلال السنوات الماضية.. غنيّ عن القول إنّ الرجل الأقوى في كل هذه التركيبة هو أحمد حسين الشرع المعروف سابقاً بلقب (أبو محمد الجولاني).
القوّة الثانية المنظّمة بشكل جيّدٍ، حتى الآن على الأقل، هي قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي تتمثل سياسياً عبر “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، وهو المجلس الذي يضمّ عدداً من الأحزاب الكردية أكبرها وأهمها “حزب الاتحاد الديمقراطي – PYD” وعدداً من القوى السياسية العربية والسريانية وعدداً من ممثلي العشائر.. وتتمثل هذه القوّة إدارياً عبر ما بات مشهوراً باسم “الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا”.
أمّا القوّة الثالثة فهي الجيش الوطني المشكّل من مجموعة كبيرة من الفصائل المسلّحة المحلية، والتي أتى بعضها من المدن السورية المختلفة في فترات متلاحقة من تاريخ الصراع والتهجير، وهي تشمل جميع محافظات القطر باستثناء اللاذقية وطرطوس والسويداء، وبعضها الآخر تشكّل خلال هذه الأعوام من أبناء المنطقة الشمالية الغربية، أي إدلب وحلب.. تتمثل هذه القوى سياسياً من حيث الشكل بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وإدارياً بالحكومة السورية المؤقتة.
إضافة إلى ما سبق، ثمّة قوى محلية مختلفة تجمع بين الفواعل العسكرية والمدنية والمجتمعية، كما هو الحال في درعا والسويداء، وكما هو الحال في الكيانات السياسية والمدنية المختلفة التي تشكّلت على مدار السنوات الماضية داخل سوريا وخارجها وبالتزاوج بين الداخل والخارج في كثير من الأحيان.
لايمكن بكل الأحوال إغفال دور هذه الفواعل في التأثير العام بالمشهد السوري، فمجموعات الضغط السورية في الولايات المتحدة على سبيل المثال، والتي من بينها منظمات سياسية ومدنية وإغاثية عديدة، لعبت أدواراً مهمّة في مجالات عدّة، خاصّة منها مجال العقوبات المفروضة على النظام البائد.
كذلك هناك التحالف السوري الديمقراطي الذي يضم بين جنباته 25 كياناً سياسياً و25 منظمة مدنية ومئات الأفراد المستقلين، وهو الكيان الذي أنشئ في العاصمة الألمانية برلين، شهر تشرين الأول / أكتوبر عام 2023، وقد أصبح لاعباً سياسياً ملحوظاً في الساحة السورية بحكم وجوده في بلدٍ تعدُّ جاليته السورية مليوناً أو أكثر قليلًا، وله علاقات مميزة مع الخارجية الألمانية خاصّة والاتحاد الأوروبي عموماً، بحكم انتشار أعضائه على كامل الجغرافيا السورية.
ليس بالضرورة أن تكون كثرة الفواعل المؤثرة في المشهد السوري سلبيّة الأثر على مستقبل البلاد، كما أنّها بالمقابل قد لا تكون إيجابية، مناط البحث في هذه المسألة هو توافق هذه الفواعل على مبادئ وطنية لا يمكن تجاوزها من جهة، وابتداع آليات لتشارك الحلول ومنع تعقيد المشكلات الكثيرة والزائدة عن الحدّ أساساً من جهة ثانية، والقدرة على التفاوض والمساومة ضمن أطر الوطنية السورية لا على أساس المصالح الحزبية أو الفئوية أو الجهوية من جهة ثالثة.
فإذا ما اتفق “الأخوة الأعداء” على مبدأ رئيس لا يمكن التنازل عنه من قبيل “سوريا أولًا”، ثم وضعوا معيار المصلحة السورية مقياساً وميزاناً لخلافاتهم، واتفقوا على أن يحكم بينهم ليس الضمير فحسب، بل ومؤسسات دستورية توافقية وشاملة الجميع وغير طائفية ولا مناطقية، مثل جمعية تأسيسية مؤقتة، أو مجلس خبراء تكنوقراط، أو هيئة قضائية دستورية، أو مجلس حكم انتقالي مؤقت.. فإنّهم سيكونون على الطريق الصحيح.
هنا لا بدّ من الإشارة إلا أنّ السياسة تقوم أساساً على مبدأ التفاوض والمساومات، وهذه تستند بالدرجة الأولى إلى موازين القوى والجهات الداعمة، فإذا نظرنا إلى خارطة تحرّك القوى العسكرية التي نفّذت عملية “ردع العدوان”، لوجدنا أنها ما كانت تهدف إلا إلى الضغط على النظام لتغيير سلوكه الرافض للتفاوض، لكنّ انهياره السريع بحكم الفراغ الكبير الذي سبّبه غياب حلفائه، جعل التفاوض أمراً غير ذي جدوى، فانتقلت العمليّة للسيطرة الكاملة وإنهاء النظام كلّه واقتلاعه من جذوره.
إذا ما أصاب الغرور هذه القوّة الرئيسة في عملية الإسقاط، وإذا ما ابتعدت عن الواجب الذي يقضي التفاهم مع بقيّة القوى السورية التي دفعت أبهظ الأثمان على مذبح الحريّة خلال سنوات الثورة الثلاث عشرة، فإنها ستقع في المطبّ الذي نرجو أن تراه وتتجنّبه.
هذه بعضُ التحديات التي يمكن أن تواجه التغيير المنشود في سوريا، وثمّة كثير منها مما سيكون محور الكتابة عنه في مقالات لاحقة.
تلفزيون سوريا
—————————-
من إدلب إلى دمشق.. نظرة فاحصة على حكومة تسيير الأعمال السورية/ وائل قيس
16-ديسمبر-2024
دخلت سوريا مرحلة جديدة من تاريخها السياسي المُعاصر، أمس الأحد، مع عودة الوزارات والمؤسسات إلى عملها بشكل طبيعي بعد مرور أسبوع دراماتيكي على هروب الرئيس المخلوع بشار الأسد إلى موسكو. وما لفت الأنظار منذ ذلك الوقت، وشغل الشارع السوري، هو عملية تسليم حكومة النظام السابق، برئاسة محمد الجلالي، المهام الوزارية لحكومة الإنقاذ برئاسة محمد البشير، بتكليف من القائد العام لإدارة العمليات العسكرية، أحمد الشرع، منهيةً بذلك فصلًا آخر من حكم عائلة الأسد، الذي اتسم بالحديد والنار والفساد لعقود من الاستبداد.
حكومة الإنقاذ السورية.. لمحة عامة
يرجع تاريخ الإعلان عن حكومة الإنقاذ للمرة الأولى إلى الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2017، بعد أقل من عام بقليل من استعادة قوات النظام السابق للجيب الشرقي من مدينة حلب، وما رافقه آنذاك مما عرف لاحقًا باتفاقية “خفض التصعيد”. ومنذ ذلك التاريخ وحتى لحظة إعلان إدارة العمليات العسكرية بقيادة “هيئة تحرير الشام” إطلاق عملية “ردع العدوان” في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، كانت فصائل المعارضة تسيطر على جيب صغير من سوريا تُقدر مساحته بـ11% في شمال غرب البلاد.
شهدت هذه الفترة التي امتدت إلى نحو سبع سنوات تغيّرات كثيرة في المشهد السوري، بدأت بتكليف الهيئة التأسيسية المؤلفة من 36 عضوًا اختيروا خلال المؤتمر السوري العام، الذي عُقد في أيلول/سبتمبر 2017، محمد الشيخ بتشكيل أول حكومة إنقاذ مكوّنة من 11 وزيرًا. وفيما يبلغ عدد وزارات النظام السابق 28 وزارة، كان اللافت في هذه التشكيلة أنها خلت من حقيبة وزارة الدفاع، إذ قيل آنذاك إن السبب وراء ذلك هو احتفاظ الشرع بالقرار العسكري.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حكومة الإنقاذ حلّت محل الحكومة السورية المؤقتة، التي كانت تتبع في هيكليتها للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية. وقد ظهر ذلك لاحقًا في طلب حكومة الإنقاذ من الحكومة المؤقتة إغلاق مكاتبها، وتسلّم إدارة الخدمات التي كانت تشرف عليها الإدارة المدنية. وترافق ذلك مع تعاقد مع شركات تابعة للهيئة لتقديم خدمات المياه والاتصالات والكهرباء، وما إلى ذلك، ومن ثم إنهاء عمل المجالس المحلية في مناطق سيطرتها، وتحكّمها بعمل المنظمات غير الحكومية. كل ذلك مكّنها من إحكام قبضتها على مناطق نفوذها بشكل كامل، منهية بذلك استقلالية أي جسم سياسي أو مدني أو حتى عسكري مرتبط بالائتلاف.
كانت حكومة الإنقاذ تدير الخدمات في المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة حتى ما قبل إطلاق عملية “ردع العدوان”، وهي جيوب صغيرة موزعة بين نصف محافظة إدلب وريف حلب، فيما كانت أجزاء أخرى من شمال غرب البلاد تحت سيطرة “الجيش الوطني السوري”، وهو تحالف لفصائل مدعومة من أنقرة. وفي مقطع قصير لا يتجاوز 25 ثانية وثّق اجتماعًا ضم الشرع جنبًا إلى جنب مع البشير والجلالي الأسبوع الماضي، قال الشرع إن وزراء حكومة الإنقاذ “أصبح لديهم خبرة عالية”، مضيفًا أن وزراء النظام السابق “لن يُستغنى عن خبراتهم”.
البشير يتسلّم “تركة ثقيلة”
يدرك البشير أن حكومته تسلمت “تركة ثقيلة تتمثل في مؤسسات متهالكة ومنظومة عمل إداري لا تستطيع تقديم الحد الأدنى من الخدمات الحيوية للشعب السوري”، وفقًا لمقابلة أجراها مع “التلفزيون العربي”. وأشار في المقابلة ذاتها إلى أن “وضع الخدمات الحالي متردٍّ”، وأن “غالبية الشعب تعيش في ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة للغاية”. ومع ذلك، أكد أن حكومة الإنقاذ استطاعت توفير الكهرباء لمناطق سيطرتها في إدلب، نافيًا أن تكون حكومته قد استحوذت على حكومة تسيير الأعمال الحالية.
ويبدو من تجربة حكومة تسيير الأعمال أنها تركز على مدن المركز في خدماتها، مثل حلب وحمص ودمشق، رغم أن الأخيرة ما تزال تواجه مشكلة في انتظام التيار الكهربائي لفترات طويلة. بناءً على ذلك، يمكن القول إن هذه “التركة الثقيلة” تضع حكومة الإنقاذ أمام تحديات كبيرة، تجعلها مسؤولة عن توفير الخدمات وتسيير عمل الوزارات والمؤسسات الرسمية في مرحلة حساسة من تاريخ سوريا المُعاصر.
وفي سياق متصل، قال البشير إن “الكوادر الحكومية في مختلف القطاعات موجودة أصلًا ولم يتم استبعاد أحد منها، باستثناء من تورط في الدم السوري أو قام بتهجير المواطنين أو ارتكب جرائم تعذيب”. وأوضح أنه استقدم “كوادر كانت عاملة في حكومة الإنقاذ لتعزيز الكوادر الحكومية الحالية”، مؤكدًا أن حكومته “منفتحة على جميع الكفاءات”.
هنا علينا الإشارة إلى أن البشير كلّف للمرة الأولى بتشكيل حكومة الإنقاذ في كانون الثاني/يناير الماضي، ومع مهلة الشهر التي منحه إياها “مجلس الشورى العام” لاختيار الوزراء، نجد أن العمر الفعلي لحكومته لا يتجاوز 10 أشهر. علمًا أنه بلغ عدد التشكيلات الوزارية لحكومة الإنقاذ منذ عام 2017 حتى سقوط نظام الأسد سبع تشكيلات وزارية، من بينها أربع دورات كانت برئاسة، علي كده.
حكومة الإنقاذ أمام تحديات كبيرة
يعتقد الصحفي، ثائر المحمد، في حديثه لشبكة “ألترا صوت” أن حكومة الإنقاذ “ستواجه تحديات كبيرة في إدارة المرحلة القادمة”، مرجعًا ذلك إلى إدارتها لمنطقة صغيرة، قبل أن تجد نفسها “فجأة باتت تدير سوريا بشكل كامل باستثناء مناطق محددة شمال غربي البلاد”، معيدًا التذكير بأن حكومة الإنقاذ نفسها “كانت تواجه انتقادات لاذعة ومظاهرات في إدلب بسبب سياساتها الاقتصادية”.
ويشير المحمد في حديثه إلى أنه “من خلال جولة بسيطة في إدلب، يُلحظ أن حكومة الإنقاذ تواجه شحًا في العنصر البشري لإدارة المناطق التي سيطرت عليها حديثًا”، ويدعم ذلك بأن “معظم الحواجز الأمنية تمت إزالتها ونقل أفرادها إلى المناطق الجديدة”، وهو ما يجعله يرى أن هذا السبب وراء “دفعها إلى فتح باب الانتساب إلى صفوف قوى الأمن والشرطة”.
ويحدد المحمد في حديثه مجموعة عوامل يمكن لحكومة الإنقاذ اللجوء إليها لنجاح تجربتها، والتي يأتي في مقدمتها “مدى قدرتها على توفير الدعم المالي لإعادة تفعيل الخدمات ودفع رواتب الموظفين”، بالإضافة إلى “تحسين الحياة المعيشية للمواطنين، خاصة أن معظم السكان يترقبون تغيرًا إيجابيًا فيما يتعلق بالكهرباء والمياه والاتصالات والنقل وغيرها”.
ومن بين العوامل الأخرى التي يذكرها المحمد “جهودها في الاستعانة بكافة الكوادر السورية وتفعيلها، وعدم اقتصار العمل على موظفي حكومة الإنقاذ الأساسيين”، وهو في هذا السياق يضرب لنا مثالًا على ذلك بأن حكومة الإنقاذ “لم تستعن حتى الآن بأفراد الشرطة سواء العسكرية أو المدنية العاملين في شمال وشرقي حلب ضمن نفوذ الجيش الوطني السوري، لمساعدتها في ضبط الوضع الأمني في المحافظات التي سيطرت عليها”.
وعليه، يعتقد المحمد أن حكومة الإنقاذ “ما زالت منتشية بالنصر ولم تستوعب بعد حجم العبء المترتب عليها، خاصة أن معظم الخدمات التي تُقدم حاليًا (مثل الخبز) تأتي في سياق حملات من فرق تطوعية”، وهناك جانب آخر ينوه إليه ضمن هذا السياق، ويتمثل بأن “معظم جهود” حكومة الإنقاذ “مركّزة” على المدن الرئيسية مثل دمشق، بالإضافة إلى حمص، حماة، وحلب، على سبيل المثال، “دون الاهتمام بما يكفي بالمناطق الريفية”.
يرى المحمد أيضًا أن حكومة الإنقاذ تحتاج لنجاح تجربتها “إلى دعم دولي وأممي للنهوض بسوريا، خاصة أن معظم المدن والبلدات مدمرة بالكامل”، لا سيما المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة النظام السابق، لذا فإنه “في حال لم تحصل حكومة الإنقاذ على الدعم الكافي، يتوقع أن تشهد سوريا مزيدًا من التدهور على المستويات المعيشية والاقتصادية والخدمية”.
ويختم المحمد حديثه بالإشارة إلى أن حكومة الإنقاذ تحتاج أيضًا “إلى بسط نفوذها بطريقة ما على مناطق سيطرة قسد (قوات سوريا الديمقراطية) في شمال شرقي سوريا الغنية بحقول النفط، لتأمين ما أمكن من المحروقات”، لافتًا إلى أن “منطقة شمال غربي سوريا تعاني منذ نحو أسبوع من انقطاع في مادة المازوت المحلي، مما أدى إلى الاعتماد بشكل كامل على المازوت المسمى بالأوروبي المستورد من تركيا، والذي يبلغ سعره 38.5 ليرة تركية لليتر (الدولار الواحد يعادل 34.98 ليرة تركية)، أي ضعف سعر المازوت المحلي”.
“الانتقال من مرحلة الجماعة إلى مرحلة الدولة”
يستبعد الكاتب والباحث، حسام جزماتي، في حديثه لشبكة “ألترا صوت” أن تستطيع حكومة الإنقاذ في شكلها الراهن “إدارة هذه المناطق الشاسعة التي تُقدر بثلاثة أرباع خريطة سوريا”، وتُقدر المساحة الخاضعة لحكومة تسيير الأعمال بـ70 بالمئة، فيما تسيطر “قسد” على 20 بالمئة، مع بقاء 10 بالمئة تحت سيطرة فصائل “الجيش الوطني السوري”.
ويرى جزماتي أن حكومة الإنقاذ “كانت تدير مطقة محدودة المساحة في أجزاء من ريفي إدلب وحلب، إضافة إلى إدلب المدينة، وهي مناطق سهلة التنقل بسبب قربها، وظروفها متشابهة”، وعلى هذا الأساس ينظر إلى مسمى حكومة تسيير الأعمال على أنها “أكبر من حجمها”، مرجعًا سبب ذلك إلى “خبرة حكومة الإنقاذ المحدودة في التفكير على مستوى الدولة” عند الانتقال إلى إدارة هذه المساحة الواسعة من الخارطة السورية.
هناك عدة عوامل يستند إليها جزماتي في رؤيته لعدم استطاعت حكومة البشير إدارة مثل هذه المساحة من الخارطة السورية، أولها أنه “ليس لدى أعضاء حكومة الإنقاذ خبرة بيروقراطية سابقة بجهاز الدولة السورية”، بالإضافة إلى أن وزرائها “ليسوا مخططين استراتيجيين”، موضحًا أن “حكومة الإنقاذ في إدلب لم تكن تملك الصلاحيات لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، وكان على كل وزير التشاور مع مسؤولين من الهيئة”.
ويدعم جزماتي قوله بالإشارة إلى أن “إدارة المناطق المحررة كان لها دور كبير في توعية الوزارات بشأن الشؤون الخدمية”، وتُعرّف “إدارة المناطق المحررة” عن نفسها بأنها “جهة مدنية تتكون من 8 أقاليم جغرافية، يشمل عملها كامل المناطق المحررة”، تختص مهامها بـ” توجيه المؤسسات والمجتمع، والحفاظ على الأمن الاجتماعي، ومتابعة عمل المؤسسات، وممارسة دور الوسيط بين الأخيرة والمجتمع”.
وهنا يرى جزماتي أن هذه الإدارة “استطاعت أن تضبط الأمور بسبب المساحة الصغيرة”، لافتًا إلى أن “غياب هذه الهيكلية سيصعب من مهام حكومة البشير”. عامل آخر يشير إليه جزماتي يتمثل بأن حكومة البشير لم “تشمل طيفًا واسعًا (من السوريين)، بمعنى أن تكون تعددية” لكافة الأطياف السورية، كما أنها لم “تضم منشقين عن بيروقراطية الدولة لسد الثغرات”.
ينظر جزماتي إلى التحولات التي طرأت على هيئة تحرير الشام، والتي وصفها مراقبون بـ”البراغماتية”، بأنها “براقة”، جاءت لضرورة “إرضاء متطلبات الغرب واعتمادهم لحذفهم من قائمة الإرهاب”، وهم يحاولون إظهار “قدرتهم على التعامل مع الوضع السوري”، لكنه يشدد في نهاية حديثه على أنه صار من الضروري على الهيئة “الانتقال من مرحلة الجماعة إلى مرحلة الدولة”.
مشكلة حكومة البشير “مرتبطة بالكفاءات”
مقارنة بحكومة النظام السوري السابق المكونة من 28 وزيرًا، نجد أن حكومة الإنقاذ لديها 11 وزيرًا، لكن الكاتب الصحفي، منهل باريش، في حديثه لشبكة “ألترا صوت” لا يعتقد أن “عدد الوزراء هو المشكلة”، مشيرًا إلى أنه وفقًا لـ “الوضع القائم يوجد أكثر من وزارة معطّلة مثل وزارات الخارجية والداخيلة والدفاع”، إذ إنه يرى أن “العدد ليس مهمًا”، مرجعًا ذلك إلى “بنية وهيكلية مؤسساتها”، لذلك يعتبر أن “المشكلة الأكبر مرتبطة بالكفاءات”، نظرًا لأن “خبرة البشير محدودة”، لافتًا إلى أنه “حتى إدلب نفسها يوجد فيها مشاكل”.
ويرى باريش أن تجربة حكومة الإنقاذ في إدلب “كانت الهيئة (تحرير الشام) هي الواجهة”، كما الحال مع “جهاز الشرطة المرتبط بجهاز الأمن العام للهيئة”، مستبعدًا إمكانية “إدارة (مؤسسات) الدولة بهذه الطريقة”. وبدلًا من ذلك يشير إلى أنه “كان الأجدى لعددة أسباب ولتخفيف الشحن وتطمين الناس أكثر، أعتقد أن القرار الأجدى كان ترك حكومة (النظام السابق) الجلالي، وأن تكون حكومة الإنقاذ موجودة فيها”.
وتعقيبًا على ذلك، يوضح باريش أنه “كان من الممكن أن يكون كل وزير أو طرف آخر من قبل هيئة تحرير الشام موجود داخل كل وزارة للإشراف أو إدارة عملية نقل الكفاءات من هذه الوزرات لطواقم حكومة الإنقاذ لتطلع على كيفية إدارة الدولة حتى آذار/مارس المقبل”، ويضيف مستدركًا أنه “على الأقل هناك هيكلية دولة واضحة تم على العمل بناءها من 60 حتى 70 عامًا، لذا تجاوزها يبدو سيئًا، وهذا القصد من ذلك”.
وينوه باريش في حديثه إلى أن “هناك مسألة سياسية تتعلق بطمأنة أبناء المدن”، وهو يستند في حديثه إلى أن “جميع وزراء حكومة الإنقاذ من منطقة واحدة”، في إشارة إلى محافظة إدلب، وهو ما يرى أنه “كان يجب أن يُأخذ بعين الاعتبار”، لافتًا إلى أن الحكومة الحالية غير متنوّعة لتشمل كافة أطياف المجتمع السوري، والذي يرى أنه “مطب وقعت فيه حكومة تسيير الأعمال”، خاتمًا حديثه بالقول: “حقيقة كنت أعتقد أن (أحمد) الشرع كان سيبقي على حكومة النظام (السابق) لضبط الأمن”.
الترا صوت
————————-
العلويون ولعنة حكم الأقليات… “لنا قافنا ولهم قافهم”/ ديانا محمود
الاثنين 16 ديسمبر 2024
بعد أكثر من 5 عقود من حكم آل الأسد في سورية تخلص العلويون من حكم عائلة لا تمثل أقليتهم بل وُصمت بها، وألحقت بها خسائر فادحة، تكبدوها وتكبدتها سوريا، وهي خسارات لن تنتهي بهروب الجزار.
يدرك أبناء سوريا جيداً فقر العلويين المادي، ويدركون جيداً الاختلاف الطبقي العميق في الساحل السوري ومدن الداخل، بين العلوي الفقير والعلوي السلطوي، لكن عندما يلمع نصل السكين الطائفي الحاقد ينسى المتناسون كل ذلك ويقرقعون بالقاف الساخرة انتقاماً.
نعم لنا قافنا ولهم قافهم، لنا فقرنا ولهم قصورهم، لنا قتلانا وأيتامنا ولهم المكاتب والسيارات. لأمهاتنا بيوت الطين في القرى ولأمهاتهم إقامات الإمارات الذهبية، لآبائنا ظهور مكسورة من حفر الزيتون ولآبائهم كروش اكتنزت خلف المكاتب، لشبابنا حبة بطاطا في الجيش ولشبابهم جياد الفروسية، لبناتنا وظائف دولة رخيصة ولبناتهم أزياء باريس وحفلات الصالونات.
أكذوبة أبي الفقراء
يردّد بعض العلويين، كباقي الطوائف، خوفاً من الطاغية حافظ الأسد، أنه أبو الفقراء، وأنه من أخرجهم إلى النور من ظلام الجهل. من سمح لهم بدخول الجيش والدولة التي كانت حكراً على الآخر. لكن العلويين يدركون في قرارة أنفسهم أن هذه الشائعة الزائفة اختلقتها حاشية الأسد الأب لتعميق رهاب السلطة حتى بين أبناء طائفته. أكذوبة حافظ الأسد هشة، والعلويون يدركون هشاشتها، فحقبة الستينيات، أي قبل ظهور الأسد الأب كانت تضم العلويين، من جامعيين ومفكرين وكتاب، وحتى عسكر كالأسد نفسه، ولم يكن هناك إقصاء لهم في الدولة، ولم يقدّموا أنفسهم كأقلية، بل كانوا يشاركون في بناء مفهوم المواطنة في فترة انقلابات عسكرية قلبت أحوال البلاد.
نشرت حاشية الأسد هذه الأكاذيب، وعمّقت خوف الأقليات من الآخرين لتجنيد العلويين لخدمة نظامه، وزاد الأمر تعقيداً في استغلال الطائفة في مواجهته غير الشريفة لحركة الإخوان المسلمين في سوريا، ونقول غير الشريفة لأن حافظ الاسد وأخاه رفعت استغلا سلوكيات عدد قليل من حركة الإخوان (الطليعة المقاتلة، وعددهم حوالي 300 مقاتل) لينقلب أبناء الساحل على من قتل أبناءهم.
نعم حدثت جرائم وتفجيرات (بدعم من نظام صدام حسين حينها) وكانت تحتاج إلى مصالحة وطنية، لكن الأسد وإعلامه وأمنه روّجوا لسرديات كاذبة لترهيب العلويين من الآخر، بهدف تجنيدهم لحفظ نظامه واستعبادهم لخدمة استبداده، واصماً الطائفة العلوية بأسوأ تهمة بتاريخهم بعد أن ناصروا الحق في كل زمان.
حفرة السقوط الأخلاقي فخ الأسد لكل السوريين
من يشاهد مسلسل “بقعة ضوء” السوري بلوحاته الحقيقة من الشارع السوري، يطرح أسئلة عديدة حول ما يعرف في سوريا بـ “كتّيبة تقارير”، ويتساءل ما الذي يدفع الإنسان لأن يكون، طوعياً، عميلاً لنظام قمعي كنظام الأسد؟ كيف استورد نظام البعث في سوريا من رومانيا تشاوشيسكو، هذه المصيدة الاخلاقية لأبناء بلادنا، وكيف تطبّع المواطنون في تلك السنوات بالعمالة للنظام؟ هذه المعضلة الأخلاقية ربما سنشاهدها حتى في مرحلة ما بعد الأسد أيضاً، لأن العقود الخمسة الماضية هدمت الكثير من القيم الأخلاقية، وأهمها الشرف.
لم يجرّ الأسد جزءاً كبيراً من الطائفة العلوية فقط إلى حفرة السقوط الأخلاقي، بل إن كل المدن السورية بكل مكوناتها كانت تعاني من معضلة “عادل الفسّاد” ومتلازمة “الحزبي المتسلّق”، والسبب هو سعي النظام الدؤوب لهدم المنظومات الأخلاقية الجيدة وإثارة الشر في النفس الإنسانية السورية، ليدمر فيها كل نزوع نحو الحق والخير والجمال.
الحزبيون المتسلقون وعملاء أمن النظام ظاهرة شوهدت في كل المدن السورية، في دمشق وحلب وحمص وإدلب وطرطوس والحسكة والسويداء وكل منطقة، و أبناء القرى العلوية ومدنها عانوا كبقية أبناء سوريا من هذه الظاهرة، وخسروا بسبب هؤلاء المتسلقين والعملاء الكثير من أبنائهم المعارضين لنظام الأسد، منذ السبعينيات حتى هذا اليوم، والذاكرة السورية لن تنساهم، هؤلاء المعارضون لحافظ وبشار حاولوا رفع الصوت عالياً لكن قُمعوا قبل الآخرين، والجميع يعلم أن المعارضة في وسط يغزوه المخبرون البعثيون كانت أصعب بكثير من المعارضة في أوساط المدن الكبرى.
العلويون حطب حروب عائلة الاسد
تنقل مواقع التواصل الاجتماعي رفاهية أبناء المسؤولين في سوريا، وتصنّفهم على أنهم أبناء الساحل المرفّه، حيث تقصد سيارات الأغنياء، من دمشق وحلب وغيرها، مدن الساحل، قاصدين الفنادق والشواطئ الذهبية، لكن أي عابر من تلك الجبال يشاهد أبناءها البسطاء وهم يرتدون المعطف العسكري، (الفلت) ويسكنون بيوتاً قديمة، يبيعون بضاعتهم على الطرقات، بشرف مزارع أرسل ابنه للكلية الحربية في محاولة لتحسين أوضاع عائلته.
هؤلاء أنفسهم أبناء جيران عائلة الأسد، لكنه لم يقدم لهم أي خدمة، بل جعل من بعضهم عصا يلوح بها، ومن بعضهم الآخر حطباً لحربه ضد الإخوان المسلمين في الثمانينيات، وحرب ابنه ضد كل مكونات الشعب السوري في مطلع الثورة السورية 2011.
الإعلام بوق السلطة
عدد قتلى الحرب السورية من الطائفة العلوية لا يقل نسبياً عن بقية الطوائف، والشرطة العسكرية التي يخشاها الشباب السوري وتلاحقهم لخدمة العلم الإجبارية، كانت تعسكر بسياراتها طيلة السنوات الماضية في قرى ومدن وأحياء العلويين، لجرّهم إلى الحرب قبل غيرهم.
في حمص وحماة ومدن الساحل، عاش العلويون منذ قرون إلى جانب أهل السنة، ولم يتعدّ أحدهم على الآخر، لكن في كل معركة للأسد كانت تبرز فجأة حوادث خطف البنات والشباب من كلا الطائفتين، وترمى الجثث ويُعتدى عليهم لاتهام الطائفة الأخرى، هذا النهج الخبيث لبشار الأسد وأمنه كان مكشوفاً لأهالي الضحايا، وسمعنا في حمص قصصاً كثيرة لأناس يعلمون أن أبناءهم قُتلوا قبل أن يغادروا حاراتهم، لكن الأمن منعهم من أي تصريح، وراقب حساباتهم على فيسبوك، ليرمي التهم على الآخر ويجيّش الحقد في نفوس المواطنين على بعضهم الآخر.
دمار ممنهج للانتماء الوطني وزرع العشائرية والمناطقية
لا يمثل “مجلس الشعب” في سوريا الشعب السوري، بل يمثل التقسميات العشائرية والمناطقية التي دأب الأسد، الأب والابن، على تعزيزها في سوريا. الجميع يذكر قصائد مديح الأسد تحت قبة المجلس من قبل نواب مثّلوا أطياف الشعب السوري كله. مدرسة نظام الأسد كانت تختار من تريد من كل طائفة وعشيرة ومنطقة وحزب لتشكل مجلس الشعب، وكثيرون من انزلقوا في متاهة النظام ليمثلوا منطقة أو عشيرة عبر تسلقهم، وأقصى ما كانوا يخدمون به مناطقهم هو تعيين متسلّقين آخرين في دوائر الدولة، لتتسع دوائر التزلف في كل منطقة سوريا لتشمل أسماء محدّدة الكل يعرفها.
الأمر ذاته في مناطق الأقلية العلوية. لم يسمح للشرفاء منهم أن يمثلوهم في مجلس الشعب، ولم تتح لهم الفرصة أكثر من غيرهم لتقديم الطابع الحقيقي عن هذه الطائفة.
تعمّد الاسد الأب ثم الابن تعميق دوائر المحسوبيات في كل المكونات السورية، ليصبح له أذرع تسند نظامه في كل جغرافيا البلاد، ولم يستثن أي مكون، بل عمد إلى تقديم حظوظ لبعض العشائر الشرقية وتقليبها على غيرها، وبعض عشائر حلب حيث لا علويين يستغلهم لخدمة نظامه. هذه الصورة لنظام الأسد يمكن مراجعتها في أرشيف مجلس الشعب السوري كل هذه السنوات، وحتى في الأوامر الرسمية التي بدأت تظهر إلى العلن اليوم بعد سقوطه، فيدفع بزبانيته لقتل ابن طائفة ما لتقوم على طائفة أخرى.
ربما نجح الأسد في تشويه صورة العلويين وقمع أفواه من عارضه منهم، لكن بسقوطه يجب أن تعود معادلة المواطنة السورية لتوازناتها، بعيداً عن فتن طائفية غذّاها نظام البعث لضرب الاصطفاف السوري الموحد
——————–
نعود أم لا نعود؟… الأمل توأم الخوف في رجوع المغتربين إلى سوريا/ جلال سليمان
الاثنين 16 ديسمبر 2024
صارخاً بأعلى صوته: “سقط الأسد، سقط فعلاً”، وهو مذهول، لم يصدق كمال العوض أنه بعد ثلاثة عشر عاماً بات بإمكانه أن يقف وسط بلدته الحولة بجانب ساعتها الشهيرة، دون خوف أو قلق من جيش الأسد. الحولة، تلك المدينة التي وقعت فيها واحدة من أبشع المجازر في العصر الحديث بحق الأطفال والنساء.
ذهوله الممزوج بمشاعر الفرح والدهشة دفعه لفتح هاتفه وتوثيق تلك اللحظات، ملتقطاً لنفسه الصور بجانب ساعة مدينته التي حُرم من رؤيتها سنوات. تجول قليلاً في بلدته كحال من بدأ العودة من سكانها، ثم اتجه إلى منزله في الحي الشرقي من المدينة ليرى والديه بعد غياب عشرة أعوام تقريباً.
لا أصدق أنه سقط فعلاً
يقول لرصيف22: “لا أصدق أن هذا الأمر قد حصل فعلاً، حتى الآن أنا غير مصدق”. ويضيف: “وصلت إلى لبنان في السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر قادماً من ألمانيا في زيارة قصيرة للقاء أبناء عمومتي وأخي أحمد، لكن لم يخطر ببالي أنه وبعد يومين تماماً سيكون بإمكاني أن أدخل سوريا دون خوف، لأرى أمي وأبي اللذين حرمني النظام من رؤيتهما عشر سنوات، بالإضافة لبقية إخوتي الذين عادوا من شمال سوريا بعد تهجيرهم إليها من حمص منتصف عام 2018، إبان سيطرة نظام الأسد على حمص بدعم روسي”.
كمال، سبق أن عمل كمصور في مكتب الحولة الإعلامي، ومتطوعاً مع عدد من الجمعيات الإنسانية في حمص قبل مغادرتها إلى تركيا منتصف 2015، ومنها إلى ألمانيا بحثاً عن مستقبل أفضل، بعد أن أصابه اليأس، كالكثير من السوريين، بسقوط الأسد وبناء دولة قانون تحترم جميع أبنائها.
بسؤاله عن مستقبل سوريا وهل سيعود إليها بشكل نهائي، أجاب: “أنا متفائل جداً في أن تكون سوريا القادمة أفضل”، وأشار إلى أنه خلال فترة قصيرة سيترك ألمانيا للاستقرار في سوريا والمشاركة في بنائها ريثما تستقر الأوضاع الأمنية وتتمكن السلطات الحالية من ضبط السلاح الموجود بيد الناس. كما دعا كل المغتربين من أصحاب الخبرات والكفاءات للتفكير جدياً بالعودة لبلدهم سوريا لأنها الآن في أمس الحاجة لهم، حسب تعبيره، ليكونوا جزءاً من حاضرها ومستقبلها بدل جلوسهم في الغربة واستسلامهم للمخاوف من مستقبل سوريا.
ويقول للسوريين المغتربين: “تعالوا وكونوا جزءاً من الحل وشاركوا في البناء. سوريا بحاجة لبنّائين وسائقين وطيارين وسائقي قطارات وخبراء في الكهرباء والطاقة المستدامة وغيرها الكثير من المهن”، كما دعا أصحاب رؤوس الأموال للتفكير بنقل استثماراتهم إلى سوريا الجديدة من أجل تحسين الاقتصاد الوطني. فعودتهم ستقتل مخاوفهم من مستقبل سوريا، بحسب تعبيره.
ويقول عن ضبابية المشهد القادم في سوريا: “السوريون بمختلف أطيافهم ومذاهبهم وانتماءاتهم قد ملّوا الحرب والدم، وبات لديهم وعي كاف ليعرفوا أين مصلحتهم الآن”.
لنبني ما دمّره الأسد
ووجّه الصحافي مهند البكور الذي عاد مؤخراً لمدينته حمص قادماً من تركيا، رسالة للمغتربين، يقول لرصيف22: “أين المثقفون الآن؟ جاء دور أبناء سوريا المثقفين والشباب الذين حصلوا على شهادات وأصبح لديهم خبرات نتيجة دراستهم وعملهم في بلاد اللجوء، كما كان للمقاتلين دور كبير في إسقاط الأسد، الآن الدور الأكبر عليكم أيها المثقفون وأصحاب الكفاءات. تعالوا لبناء ما دمّره الأسد طيلة ثلاثة عشر عاماً من حربه على السوريين”.
وبسؤاله عن مخاوف بعض السوريين المغتربين من تحول سوريا لأفغانستان ثانية، كون هيئة تحرير الشام لها الدور الأكبر في إسقاط الأسد خلال معركة التحرير الأخيرة، أجاب: “من المستحيل أن تتحول سوريا لأفغانستان ثانية لعدة أسباب، أولها أن سوريا بلد ذات تنوع ثقافي وديني وعرقي كبير ولن يقبل هؤلاء بفرض ثقافة دينية أو سياسية معينة عليهم، وثانياً حاجز الخوف لدى السوريين انكسر”، مستشهداً بالمظاهرات التي خرجت في إدلب، معقل تحرير الشام، قبل عدة أشهر بسبب بعض سياسات الهيئة التي قامت بها في إدلب.
ويضيف: “لا تنسَ أن هناك مجتمعاً دولياً يراقب وينتظر من السلطات المؤقتة في دمشق أن تلتزم بالتطمينات التي أعطتها للمجتمع الدولي ولبقية السوريين من الأقليات، ولن تسمح أن تكون سوريا دولة بصبغة دينية أو سياسية واحدة. صحيح، أنا متفائل جداً وأدعو الجميع للعودة، لكن كلنا يعلم أن مسألة العودة ليست بالأمر السهل، وخصوصاً لمن يسكنون في الخيام شمال سوريا. فعودتهم مرتبطة بشكل وثيق بإعادة الإعمار، فهناك مئات الآلاف من الأسر منازلها مدمرة، وقراها وبلداتها تفتقد البنية التحتية والخدمية”. مستشهداً بنفسه: “على سبيل المثال لا الحصر، أنا شخصياً منزلي مدمر وليس لدي المال لإعادة بنائه من جديد أو حتى بناء غرفة. أين سأعيش؟”.
السوريون ملّوا من الحروب
مسألة غياب الاتصالات، وخصوصاً في دمشق، جعلت من الصعوبة بمكان مسألة الوصول لمزيد من الأشخاص الذين نجحوا في العودة إلى سوريا خلال الأيام الأولى التي تلت سقوط حكم الأسد لاستطلاع آرائهم عن رؤيتهم وتوقعاتهم لمستقبل سوريا. غير أن الصور التي ظهرت يوم الجمعة الماضي، والتي أظهرت تجمع مئات الآلاف من الأشخاص في ساحة الأمويين بدمشق وساحة الساعة بحمص وساحة العاصي بحماة وطرطوس واللاذقية وغيرها من البلدات وهم يرقصون ويغنون فرحاً بسقوط الأسد، خير دليل على أن هذا الشعب بمختلف طوائفه وقومياته قد ملّ الحرب وسفك الدم، وراغب في حياة بعيداً عما عايشه طيلة العقد الماضي.
وعن طرق دعم الليرة السورية، يتحدث الصحافي السوري سيف عزام: “يجب الآن زيادة التحويلات الدولارية من قبل السوريين في الخارج، بالإضافة إلى إعادة توطين رأس المال المغترب في الاقتصاد السوري، والعمل من أجل عودة تدفق الاستثمار العربي والأجنبي لدعم مشاريع إعادة الإعمار”. كما دعا المغتربين لفتح حسابات بنكية في المصارف السورية ووضع ودائع فيها، ولو ألف دولار.
رصيف 22
———————
نداء ضروري/ مازن أكثم سليمان
منذ أيام، وأنا أحاول أن أوصل هذه الفكرة عبر تواصلاتي واتصالاتي، لكنني ألاحظ وجود نوع من التشتت في الأفكار والرؤى والجهود بين فرحة إسقاط الطاغية، والاستغراق في التفاصيل، والترقب الحذر، والرؤية المشوشة..
… لست ضد الغوص في التفاصيل والمتابعة والنقد، ولا ضد إعادة ترتيب المواقف والمواقع والاصطفافات، أو تنظيم الهيئات المدنية والنقابية والسياسية ووو.. وكل هذا أمر منطقي ومفيد وضروري..
… غير أنني أذكِّر أنَّ ما زاد من عذابات السوريين وآلامهم في تجاربنا السابقة هو تشتت رؤاهم وغاياتهم، وتضييع مفهوم الأولويات عندهم..
… الآن.. لدينا صراع إرادات قوى داخلية وخارجية بكل معنى الكلمة، وهم يتفاوضون ضمناً وصراحة بين التوافقات والتقاطعات والاختلافات..
… لا أريد أن أُفصِّل في طبيعة هذا الصراع، لكن أريد أن أسأل: ما أولوية السوريين وتياراتهم السياسية ومجتمعهم المدني في هذا الوقت الذي يُرسَم فيه مستقبلهم؟
… أعتقد ببساطة أنه لابد من التحرك على نحو عاجل عبر فرض ضغط شعبي واسع باتجاه محدد، ومن دون تشتيت للجهود والأفكار والقوى، كي تكون المحصلة في مصلحة حماية مكتسبات الثورة، ونقل سورية إلى الشكل الذي يريده أبناؤها..
… بين بالونات اختبار قوى الداخل وبالونات اختبار قوى الخارج، وبين بدء تجاذبات جميع تلك الإرادات لرسم مستقبل لسورية يناسب مصالح كل منها، وهذا أمر طبيعي في السياسة، وبين انشغال السوريين بتحليل هذا القرار، واللهاث لفهم هذا التصريح، أو الضرب في المندل لتفسير ذلك الحدث الآني، علينا جميعاً الآن الضغط والتظاهر وتوحيد الهاشتاغات وتجميع الجهود وتكثيفها وتوجيه الخطابات واللقاءات والكتابات باتجاه عقد (مؤتمر وطني عام) تنبثق عنه جمعية تأسيسية وهيئات دستورية وقانونية متخصصة لرسم ملامح سورية الجديدة..
… أي مسار ثانٍ بعيداً عن الفكرة التشاركية لعقد مؤتمر وطني عام هو مسار محفوف بالمخاطر والانزلاقات، ومضيعة للوقت والجهود والأهداف كما أعتقد..
… لا خروج من التشتت والتشويش وضياع فكرة الأولويات إلا عبر هذا الهدف المباشر، ولعل الضغط باتجاه هذا الأمر يشكل حلقة حاسمة قد تفرض على جميع القوى المتصارعة أن تتلاقى في إطارها؛ بمعنى قد يكون حضور الرأي العام السوري منفذاً لقوى الداخل والخارج كي تجد صفقتها، وهنا نكون كسوريين قد فرضنا حضورنا وكلمتنا، ولو نسبياً..
… هذا رأيي الذي كررته كثيراً في الأيام الماضية، وأتمنى أن يلقى التأمل المفيد والصدى الملائم..
===================