سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

=========================

تحديث 17 كانون الأول 2024

————————

لمتابعة التغطيات السابقة

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

عن بيان قمة العقبة وعملية الانتقال في سوريا

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

2024.12.17

أحدث السقوط السريع لنظام بشار الأسد في سورية ودخول فصائل المعارضة العاصمة دمشق من دون قتال في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، صدمةً للمجتمعَين العربي والدولي. وفي إثر ذلك، عقدت أطراف إقليمية ودولية اجتماعًا في مدينة العقبة في الأردن، في 14 كانون الأول/ ديسمبر، ناقشت فيه تداعيات التغيير الذي شهدته سورية ومستقبلها، وأصدرت بيانًا دعت فيه إلى دعم عملية سياسية شاملة يقودها السوريون أنفسهم، وفقًا لما نص عليه قرار مجلس الأمن رقم 2254، بما يحقق تطلعات الشعب السوري، ويضمن إعادة بناء مؤسسات الدولة، ويحافظ على وحدة الأراضي السورية وسلامتها وسيادته

ورغم حرص البيان على انتقال سلس يضمن الاستقرار في سورية، فقد كشف عن تخوفات عميقة لدى بعض الدول المشاركة بشأن تداعيات المرحلة الانتقالية؛ إذ تثير سيطرة فصائل ذات توجهات إسلامية، وسلفية سابقة، على مفاصل الحكم في دمشق مخاوفَ لدى الدول الغربية وبعض الدول العربية، التي تخشى أن تتحول التجربة السورية في حالة نجاح المرحلة الانتقالية إلى نموذج مُلهم لشعوب المنطقة؛ ما قد يشعل موجات جديدة من المطالبات بالتغيير والإصلاح السياسي، وهو ما قد يُعد تهديدًا محتملًا للنظم القائمة. بناءً على ذلك، تسعى هذه الأطراف إلى التركيز على مسار سياسي “منضبط” يضمن احتواء المشهد السوري وإبقائه تحت السيطرة، مع العمل على منع أي تحولات غير مرغوبة قد تؤدي إلى اختلال التوازنات الإقليمية والدولية. وترى هذه الأطراف في قرار مجلس الأمن رقم 2254 أداةً رئيسةً لتحقيق هذا الهدف. وفي هذه الأثناء، تستغل إسرائيل الفرصة لشنّ عدوان سافر على سورية، بهدف ضرب البنية التحتية لأي جيش سوري مُقبل، بحجّة وجود مخاوف من صعود قوى سياسية لديها برامج معادية لإسرائيل.

انقسام سوري حول بيان العقبة

لاقى البيان الذي صدر في ختام اجتماعات العقبة ردودَ فعل متباينة في الأوساط السورية؛ فلم يصدر أي تعليق رسمي من الحكومة الانتقالية السورية، بقيادة رئيس الوزراء محمد البشير، أو من إدارة الشؤون السياسية في دمشق، في حين عبّر كلٌّ من الائتلاف الوطني السوري وهيئة التفاوض السورية عن مواقف مؤيدة؛ فقد أصدر الائتلاف الوطني بيانًا وصف فيه المبادرة بأنها “تعبير عن دعم صادق وهام لتطلعات الشعب السوري، بهدف تعزيز عملية انتقالية سياسية سورية – سورية جامعة تُشرك كافة القوى السياسية والاجتماعية السورية”. ورحّبت رئاسة هيئة التفاوض السورية بالمبادرة، معتبرةً إياها “مشروعًا حقيقيًا متوازنًا لإنقاذ سوريا وضمان وحدتها”. ورفضت أطراف سورية أخرى المبادرة، مشككة بدوافع اجتماع العقبة وأهدافه، وعدَّته تحريضًا واضحًا للمجتمع الدولي على عدم الاعتراف بالنظام الجديد وخطوة نحو وضع سورية “تحت وصاية الأمم المتحدة” وإخراج عملية التفاهم من الإطار السوري إلى إطار إقليمي دولي.

يعكس هذا الانقسام حول المبادرة تعقيدات المشهد السياسي الداخلي والخارجي السوري؛ فالمؤيدون، مثل الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض، يرون في المبادرة فرصة لضمان مشاركتهم في السلطة أو إشراكهم في العملية الانتقالية على الأقل، في ظل خشيتهم من استئثار الحكم الجديد في دمشق بالحكم. في المقابل، يجادل آخرون بأن المبادرة تمثل امتدادًا لمحاولات الوصاية الخارجية، مستندين إلى عدة تجارب دولية فاشلة في المنطقة العربية، مثل ليبيا والسودان، وغياب التمثيل الفعلي للسوريين في الاجتماعات، كما يظهر هذا الانقسام المبكر حيال بيان العقبة فجوة عميقة بين الفاعلين السوريين في تقييم أدوات الحلول الدولية، ويؤكد استمرار صراع الشرعية والتمثيل، ويدور الخلاف خصوصًا حول القرار 2254 وصلاحية تنفيذه في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد. غير أن هذا القرار لم يعد ساري المفعول؛ لأن النظام السوري سقط، والحديث الآن عن عملية انتقال مختلفة تحتاج إلى برنامج مُعلَن ومرجعية قانونية غير قائمة حاليًا. ولسد هذه الحاجة، يمكن الاستناد إلى بعض بنود القرار وتطبيقها من طرف واحد من خلال خطوات مثل إشراك القوى السياسية والفئات الاجتماعية في عملية الانتقال، وصياغة دستور جديد واستفتاء الشعب عليه بعد مناقشته في جمعية تأسيسية، وحلّ الفصائل المسلحة وإعادة بناء الجيش السوري بالاستعانة بالضباط المنشقين. يضاف إلى ذلك أن تحدي تلبية حاجات الشعب السوري الملحّة في مرحلة الانتقال، التي تشغل الممسكين بزمام الأمور في دمشق حاليًا، تتطلّب إشراك القوى السورية المختلفة من الداخل والخارج، وكسب ثقة الكفاءات والمستثمرين بعملية الانتقال والاطمئنان إلى غايات القائمين عليها.

جدل القرار 2254 ودوره في عملية الانتقال السياسي

مثّل قرار مجلس الأمن رقم 2254 منذ صدوره، في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015، بالتكامل مع القرار 2118، مرجعًا دوليًا رئيسًا للانتقال السياسي في سورية؛ إذ حدد خطوات الانتقال السياسي الشامل مع جدول زمني لتحقيقه، بما يشمل إنشاء هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة. ويجادل أنصار القرار بأن بيان جنيف المؤرخ في 30 حزيران/ يونيو 2012، يعد جوهر القرارين 2118 و2254، ويدعو إلى إيجاد بيئة آمنة وحيادية تسير عملية الانتقال السياسي فيها وصولًا إلى الخطوات الدستورية الأساسية. فتحت عنوان “المبادئ والخطوط التوجيهية للقيام بعملية انتقالية بقيادة سورية”، تضمَّن البيان حتمية وجود عملية انتقالية “تتيح منظورًا مستقبليًا يمكن أن يتشاطره الجميع في الجمهورية العربية السورية”، وتُحدد خطوات واضحة وفق جدول زمني مؤكد نحو تحقيق ذلك المنظور، ويمكن أن تنفَّذ في جو يكفل السلامة للجميع ويتسم بالاستقرار والهدوء، ويمكن بلوغها بسرعة دون مزيد من إراقة الدماء، وتكون ذات صدقيّة.

وتحت عنوان “خطوات في العملية الانتقالية”، جاء في بيان جنيف أن النزاع لن ينتهي حتى تتأكد كل الأطراف من وجود سبيل سلمية نحو مستقبل مشترك للجميع في البلد. ومن ثمّ، فمن الجوهري أن تتضمن أي تسوية خطوات واضحة لا رجعة فيها تتبعها العملية الانتقالية وفق جدول زمني محدد. والشعب السوري هو من يقرر مستقبل البلد. ولا بد من تمكين جميع فئات المجتمع ومكوناته في الجمهورية العربية السورية من المشاركة في عملية الحوار الوطني. ويجب ألا تكون هذه العملية شاملة للجميع فحسب، بل يجب أيضًا أن تكون مجدية؛ أي من الواجب تنفيذ نتائجها الرئيسة. وعلى هذا الأساس، يمكن أن يعاد النظر في النظام الدستوري والمنظومة القانونية، وأن تُعرض نتائج الصياغة الدستورية على الاستفتاء العام. وبعد إقامة النظام الدستوري الجديد، من الضروري الإعداد لانتخابات حرة ونزيهة وتعددية وإجراؤها لشغل المؤسسات والهيئات الجديدة المنشأة. ومن الواجب أن تمثل المرأة تمثيلًا كاملًا في جميع جوانب العملية الانتقالية. وفي حالة وجود النية لقيادة عملية انتقالية على نحو منظم وبمشاركة واسعة، يمكن الاستفادة من هذا النص.

يرى أنصار القرار 2254 أن التشاركية في العملية الانتقالية، وفقًا لبيان جنيف، لا تعني فقط قطبَي المفاوضات السابقين؛ وهما المعارضة والنظام، بل تشمل جميع أطراف الشعب السوري. ومن الواضح أن بيان جنيف ربط ما بين الحوار الوطني وتقرير مستقبل البلاد، ومن هنا يعد هذا التوجه حيويًا في ظل الانتقال الحالي للسلطة؛ بحيث من المفترض أن يشارك السوريون في عملية الحوار الوطني، وأن يجري تبني نتائج الحوار في العملية الانتقالية. وقد أتت فقرة الحوار الوطني مباشرةً بعد فقرة إقامة هيئة حكم انتقالية تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية، وتمارس كامل السلطات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاءً من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكَّل على أساس الموافقة المتبادلة. وفي حين أنّ تشكيل تلك الهيئة بالصورة التي نص عليها البيان قد انتهى؛ لأن السلطة الآن في يد هيئة تحرير الشام والفصائل المتعاونة معها، فإن فكرة وجود هيئة حاكمة تشاركية تشرف على البيئة الحيادية الآمنة ما زالت حيوية، وبخاصة أن البيان تحدث في السياق ذاته عن الحوار الوطني. ويبدو واضحًا أن الهاجس الرئيس لأنصار هذه المقاربة هو الخوف من استئثار هيئة تحرير الشام والفصائل المتعاونة معها بالسلطة، وبناء نظام استبدادي جديد بدءًا من التفرد في القرار.

في المقابل، يرى خصوم القرار 2254 أن سقوط النظام السوري يعني أن القرار لم يعد صالحًا لرسم مسار الانتقال السياسي؛ بسبب تغيّر الظروف التي أدت إلى تبنيه. وهذا صحيح من الجانب القانوني، فقد انتفت بسقوط النظام الحاجة إلى التفاوض على المرحلة الانتقالية، التي تقودها، وفقًا لبيان جنيف والقرار 2118، الهيئة الحاكمة الانتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية. وكذلك انتفت الحاجة إلى هذه الهيئة المكوّنة من النظام والمعارضة وفئات أخرى ترمز إلى المجتمع المدني؛ لأن النظام سقط ولم يعد ثمة حاجة واقعية أو سياسية إلى إشراكه في آلية التشكيل أو في الجسم نفسه. ولكن الشعب السوري لا يُختزل في النظام القديم وهيئة تحرير الشام؛ ففي سورية فئات وقوى سياسية عديدة. والمسألة الأشد أهمية التي يثيرها خصوم اعتماد القرار 2254 هي تخوفهم من توسّل الأطراف الإقليمية والدولية هذا القرار كأداة للتدخل في شؤون سورية الداخلية ومحاولة فرض شكل معين للحكم فيها أو حتى الانقلاب على نتائج الثورة التي قام بها الشعب السوري منذ عام 2011. ولكن الإجابة عن هذا التحدي تكون في الوحدة الوطنية التي تتطلب المشاركة وعدم الإقصاء، وإنشاء نظام سياسي يضمن وحدة سورية أرضًا وشعبًا.

خاتمة

تسببت قمة العقبة، واعتمادها القرار 2254 مظلةً للانتقال السياسي في سورية، في انقسام القوى السياسية السورية الفاعلة، بين من يرى في القرار ضمانة لمنع استفراد هيئة تحرير الشام والفصائل العسكرية المتعاونة معها بالسلطة، وإنشاء حكم إقصائي جديد، وبين من يرى أن القرار يمهّد لوصاية دولية والخوف من تحويله إلى أداة لتشكيل العملية السياسية بحسب مصالح القوى الخارجية؛ وهو تخوف مشروع، ويمكن التغلب عليه بتنفيذ خطوات الانتقال المنضبطة بمشاركة واسعة من الشعب السوري وبمبادرة وطنية سورية ومن دون تدخل أجنبي، من منطلق الشرعية الثورية، المتجسدة في تحقيق أهداف الثورة، التي جرت محاولات عديدة لصياغتها في وثائق مؤتمرات وملتقيات وبيانات خلال العقد الأخير. وليس ممكنًا تنفيذ هذه الأهداف من دون خطة معلنة للانتقال وآليات واضحة لصنع القرار، ويمكن أن تستفيد هذه الخطة من بيان جنيف والقرار 2254 طوعًا وبإرادتها. ومن الضروري أن يكون الشعب السوري في صورة برنامج الانتقال بمراحله وأهدافه، لكي يتمكن من الحكم على الخطوات والتدابير المختلفة التي تُتخذ حاليًا.

—————————————-

العدالة الانتقالية، تحديات ومسارات نحو بناء مستقبل جديد/ سامر بكور

17 كانون الأول/ديسمبر ,2024

مع سقوط نظام الأسد، تلوح في الأفق مهمّة أساسية أمام سورية للتعامل مع إرث طويل من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن مسار العدالة الانتقالية لا يُعدّ مجرد إجراء قانوني أو إداري، بل هو عملية تحويلية تهدف إلى إعادة بناء الثقة في المؤسسات، وإرساء أسس عقد اجتماعي جديد. غير أن هذه العملية ليست سلسلة، كما قد يتصوّر البعض، إذ تواجه هذا المسار تحدّيات جمّة، على الصعيدين العملي والسياسي. فعلى المستوى العملي، تشكّل الأعداد الكبيرة من المتورطين في الانتهاكات السابقة تحدّيًا هائلًا قد يتجاوز قدرة أي نظام قضائي، وإن كان ذا كفاءة عالية، على التعامل معه. وفي العديد من الحالات، تجد الأنظمة الجديدة نفسها عاجزة عن مواجهة هذا العبء، حيث تضطر إلى إعادة بناء مؤسساتها السياسية والقضائية من الصفر، وهو ما يعوق جهود معالجة الماضي. أما على المستوى السياسي، فإن العدالة الانتقالية تحمل في طياتها تحديات شائكة، فمحاكمة المتورّطين في العنف السياسي والعسكري، أو تحميل الدولة مسؤولية الانتهاكات من خلال الاعتراف أو التعويضات، قد تثير الجدل وتزعزع استقرار النظام السياسي الوليد. وهذا التوتر بين تحقيق العدالة وضمان الاستقرار يجعل عملية الانتقال السياسي أكثر تعقيدًا.

العدالة الانتقالية ليست مفهومًا جديدًا، فقد برزت بشكل لافت بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما في محاكمات نورمبرغ التي استهدفت كبار مجرمي الحرب النازيين[1]. وعلى الرغم من ذلك، لم تتحول العدالة الانتقالية إلى مجال دراسات مقارنة إلا مع الموجة الثالثة من التحولات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، حيث واجه القادة هناك معضلة التعامل مع إرث العنف السياسي المنهجي الذي خلفته الأنظمة السابقة. إن العدالة الانتقالية هي النجاح في تحقيق انتقال سياسي واقتصادي، لكنها تتطلب تحوّلًا يتماشى مع القيم والمبادئ الديمقراطية، ويحترم الحقوق، ويقلّل من العنف وعدم الاستقرار. ولتحقيق ذلك، يجب أن يحظى المسؤولون السابقون الذين شاركوا في سفح الدم السوري بمحاكمات عادلة، وفي الوقت نفسه، ينبغي أن يحترم أنصار النظام الجديد مبادئ العدالة دون استغلال المرحلة لتحقيق مكاسب شخصية.

في المراحل التي تعقب الحروب، تتعايش أهداف متضاربة بين السعي لتحقيق العدالة للانتهاكات السابقة وتعزيز الاستقرار وبناء مؤسسات قوية وفعالة[2]. ويعكس هذا التوتر صعوبة الموازنة بين هذه الأولويات التي تُعدّ جميعها ضرورية، ولكنها غالبًا ما تكون متعارضة في التنفيذ. وعلى كل حال، تمثل العدالة الانتقالية فرصة لمعالجة الماضي، وفرصة لرسم مستقبل جديد لسورية. وعلى الرغم مما تواجهه من تحديات، تبقى هذه العملية السبيل الأمثل لتحقيق المصالحة الوطنية، وإعادة بناء مجتمع ممزق بفعل عقود من الصراع والانقسامات.

سقط الأسد ونظامه، ولكن مفهوم تطبيق العدالة الانتقالية في سورية يظلّ يمثّل تحديًا كبيرًا، نظرًا للتعقيد الذي يميز الحرب في سورية، من حيث تعدد أطراف الصراع، وتنوع مجتمعاته، والتدخلات الخارجية، وتغيرات الظروف السياسية والاجتماعية. لكن يمكن تطبيق بعض الأهداف الرئيسية للعدالة الانتقالية، إذا تمّت مراعاتها بعناية وبشكل يتلاءم مع الواقع المعقد الذي يعيشه السوريون. وفي ما يلي تحليل لكيفية تطبيق هذه الأهداف.

أولًا: المساءلة في العدالة الانتقالية: تحديات وآفاق التطبيق

وهي موضع تساؤل وفيها إشارات استفهام عدة، حيث تهدف إلى محاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة والانتهاكات، وعلى رأسهم -في الحالة السورية- رأس النظام السابق بشار الأسد وأعوانه. إن الطابع الواسع النطاق والمنهجي للعنف السياسي يؤدي إلى نشوء توتر بين العدالة الإجرائية والعدالة الموضوعية، إذ إن هناك تعارضًا بين الرغبة في تمييز الذات عن النظام السابق، والرغبة في معاقبة ذلك النظام بأقصى ما يستحقّه من شدة. وتركز العدالة الإجرائية على عدالة العمليات المستخدمة لحلّ النزاعات وتنفيذ القوانين، مع التأكيد على الحياد والشفافية. فهي تضمن أن يتمتع الأفراد بفرصة متساوية لعرض قضاياهم وسماع أصواتهم، بغض النظر عن النتيجة[3]. في المقابل، تُعنى العدالة الموضوعية بفحص عدالة ومصداقية النتائج نفسها، وتقييم النتائج النهائية من حيث تماشيها مع مبادئ الإنصاف والحقوق والقيم المجتمعية. وبينما تعطي العدالة الإجرائية الأولوية لكيفية اتخاذ القرارات، تركز العدالة الموضوعية على ما يتم تحقيقه، لضمان أن تكون محتويات القوانين أو السياسات وآثارها عادلة. إن التفاعل بين هذين المفهومين أمرٌ بالغ الأهمية، حيث يمكن أن تؤدي عملية عادلة إجرائيًا إلى نتائج غير عادلة، إذا كان الإطار الموضوعي الذي تعمل ضمنه معيبًا، مما يبرز الحاجة إلى تحقيق التوازن بين الاثنين لتحقيق العدالة الشاملة[4]. تسلّط قضية زين العابدين بن علي الضوء على التفاعل الحيوي بين العدالة الإجرائية والعدالة الموضوعية. من الناحية الإجرائية، أجرت تونس محاكمات ضد بن علي غيابيًا، متبعة البروتوكولات القانونية المعتمدة لمحاكمته، بتهم الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. ومع ذلك، كانت هذه المحاكمات محدودة بطبيعتها، حيث إن غياب المتهم انتهاك لمبدأ المشاركة العادلة، وهو أحد أسس العدالة الإجرائية. هذا النقص في الإنصاف الإجرائي أضعف شرعية وفعالية العملية القضائية.

من منظور العدالة الموضوعية، نلاحظ أن المحاكمات تهدف إلى معالجة شكاوى الضحايا، ومحاسبة (بن عليّ) على عقود من الحكم الاستبدادي، إلا أنها فشلت في تحقيق نتائج ملموسة، إذ إن فشل تسليمه إلى العدالة وتنفيذ الأحكام يعني أن العدالة لم تتحقق بشكل موضوعي، حيث ظل الضحايا حتى الآن بدون تعويض ويخشى أن يُغلق الملف. تسلّط هذه القضية الضوء على أن غياب الإنصاف الإجرائي (مثل محاكمة حقيقية مع وجود المتهم) يمكن أن يجعل العدالة الموضوعية فارغة، وأن ضعف الأطر الموضوعية (مثل عدم التعاون الدولي في تسليمه) يمكن أن يقوض الجهود الإجرائية. يظهر التفاعل بين البعدين أنه لتحقيق العدالة الشاملة، يجب أن تتوافر العمليات العادلة والنتائج القابلة للتنفيذ.[5]

وتستند المساءلة في العدالة الانتقالية إلى مجموعة من الأسس النظرية التي تهدف إلى تحقيق العدالة والإنصاف للضحايا، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وتشمل هذه الأسس النظرية الجوانب، الأخلاقية، القانونية، السياسية والاجتماعية التي تعزز المساءلة وتعالج تداعيات الانتهاكات. الأساس الأخلاقي مثلًا يقوم على ضرورة محاسبة مرتكبي الانتهاكات كجزءٍ من الالتزام الأخلاقي تجاه الضحايا والمجتمع[6]. ويعدّ الفشل في محاسبة مرتكبي الجرائم خيانةً لمبادئ العدالة، ويشجع على تكرار الانتهاكات. ويؤكد الأساس القانوني أولوية القانون كوسيلة لضمان المساءلة ومنع الفوضى. فالقانون الدولي لحقوق الإنسان، مثلًا، يستند إلى معاهدات واتفاقيات دولية، مثل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب. ويتفق القانون الجنائي الدولي مع الجانب القانوي الدولي الذي يُعتبر أداة رئيسية في محاكمة مرتكبي الجرائم الجسيمة مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وأن الجرائم الجسيمة لا تسقط بالتقادم، مما يسمح بمحاسبة مرتكبيها في أي وقت[7]. في ما يتعلق بالأساس السياسي، فهذا يتطلب إعادة بناء الثقة في المؤسسات، ومنها مساءلة المسؤولين، وهو الأمر الذي من شأنه منع عودة الاستبداد، حيث إن المحاسبة تضمن عدم تكرار الانتهاكات، من خلال إضعاف النخب التي كانت مسؤولة عن القمع. في الجانب الاجتماعي، هذا من شأنه تحقيق المصالحة التي تساعد في إزالة الأحقاد وتعزيز التعايش السلمي بين الأطراف المتنازعة[8].

في سياق العدالة الانتقالية، يتطلب هذا التوازن تحقيق العدالة عبر تطبيق العقوبات المناسبة على الجرائم المرتكبة من جهة، واحترام الحقوق الأساسية في المحاكمات العادلة من جهة أخرى[9]. على غرار المحكمة الجنائية الدولية، قد تكون المحاكمات المحلية في سورية أداةً مهمة لضمان عدم الإفلات من العقاب. على عكس العدالة التصالحية التي تسعى إلى التسامح والمصالحة، تركز العدالة التصحيحية على ضرورة تصحيح الأضرار التي تسبب فيها النظام أو أطراف الصراع، وهي بدورها تركّز في أعمالها على العدالة الجنائية في السياقات التي تشهد انتهاكات حقوق الإنسان، بحيث تكون العدالة موجهة نحو تصحيح الأضرار وتعويض الضحايا[10]، ولكن في الحالة السورية لم تكن هناك أضرار، بل كانت هناك جرائم مدنية وجرائم حرب ارتُكبت بحق المدنيين والعسكر، لذا فإن هذه العدالة التصالحية لن يكون لها نصيب في الحالة السورية.

المساءلة في العدالة الانتقالية يجب أن تُفرض على  جميع الأفراد، بغضّ النظر عن مناصبهم السياسية أو العسكرية، ويجب أن يخضعوا للقانون على قدم المساواة. ويشمل هذا ملاحقة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية، مثل الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل الجماعي. وبناءً على هذا المبدأ، قد تُعدّ المحاكم المحلية ساحةً لمحاسبة القادة العسكريين والسياسيين الذين ارتكبوا انتهاكات جسيمة بحق السوريين. وهنا تأتي أهمية التوازن بين ضمان العدالة الفعالة من خلال المحاكمات المحلية، وتوفير إطار دولي للمحاسبة، ولذا يتطلب تطبيق المساءلة في سورية موازنة معقدة، بين المصلحة الوطنية والمصلحة الدولية، إذ إن المحاسبة تتطلب في كثير من الأحيان الشجاعة السياسية والموارد القانونية، وهو ما تفتقر إليه الفصائل المعارضة حاليًا. إلا أنه في الوقت ذاته، يمكن أن يكون للمجتمع المدني السوري، بدعم من منظمات حقوق الإنسان الدولية، دورٌ رئيسي في الدفع نحو هذه المساءلة.

سورية لم تنضم إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تُعنى بمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، ما يعني أنه لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية محاكمة المجرمين السوريين إلا إذا كانت هناك إحالة من قبل مجلس الأمن الدولي[11] . أما عن المحاسبة الجماعية، فيمكن أن تكون هناك محاسبة جماعية تشمل محاكمة المنظمات أو الأجهزة الأمنية، أو محاسبة الأفراد الذين تولوا المسؤولية المباشرة عن هذه الجرائم [12]. ومع ذلك، يجب أن يترافق هذا مع ضمانات قانونية تحفظ حقوق جميع الأطراف، من خلال محاكمات عادلة وشفافة بعيدة عن مبدأ التشفي الشخصي. الحالة السورية معقدة، ولا بد من أن تكون هناك مبادرات دولية للضغط من أجل المساءلة، مثل دعوات الأمم المتحدة وأعضاء مجلس الأمن لتشكيل محاكم دولية، لمحاسبة رأس النظام السابق والمسؤولين عن تلك الجرائم.

ولأنّ المعارضة المسلّحة ما زالت في طور التكوين المؤسساتي والبناء، فمن الممكن اعتماد مبدأ “فقدان الذاكرة المؤقت القصير الأمد”، وفي هذه الحالة، تتخذ السلطة الناشئة قرارًا بتأجيلٍ قصير الأمد لمقاضاة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، من دون محوه من الذاكرة. وإن وصف هذا النموذج بأنه “نموذج فقدان الذاكرة” لا يعني أنه لن يكون هناك العديد من الأفراد الذين سيستمرون في تذكر الماضي بكل تفاصيله المؤلمة، وفي الإصرار على ارتكاب جرائم كبرى، إنما يعني هذا تأجيل المحاسبة إلى وقتٍ يصبح فيه النظام الجديد متماسكًا ومستقرًا نوعًا ما، ومن ثم يمكن أن تقوم الدولة بالخطوة الثانية، وتبدأ إجراءات التحضير لمحاكمات على المستوى المحلي والدولي.

 يمكننا أن نطلق على شكل ثانٍ من أشكال العدالة الانتقالية، من حيث طيف المصالحة والقصاص، نموذج “العقوبة الانتقائية”. وفي هذه الحالة، تخضع الشخصيات السياسية الرئيسية من النظام السابق، فضلًا عن الأعضاء البارزين في قوات الأمن الذين ثبت تورطهم في التعذيب وسلوك مماثل، للإجراءات القانونية الرسمية والعقوبات التي تتضمن فقدان الحقوق المدنية أو السياسية (مثل تولي المناصب الحكومية) والسجن، وفي الحالات الأكثر تطرفًا، تصل العقوبات حتى الإعدام. وقد برزت إثيوبيا كمثال خاص على هذا النهج في العمل؛ ففي أعقاب الإطاحة بنظام منجيستو في عام 1991، وجهت الحكومة الجديدة الاتهامات إلى أكثر من ثلاثة آلاف شخص من أعضاء ذلك النظام، بارتكاب أعمال إجرامية، وأقامت ما وصف أحيانًا بـ “محاكمات نورمبرج لأفريقيا”، وإن تباطأت الإجراءات القضائية اللاحقة إلى حد كبير.

إن محاكمة شخصية بارزة تقدّم العديد من الفوائد للمجتمع الانتقالي، منها إضفاء الطابع الفردي على الذنب، وتسليط الضوء على المؤامرات التي استخدمها هؤلاء القادة لغرس الكراهية العرقية والطائفية، ولإخفاء الأدلة على فظائعهم، ولا سيما في المجتمعات التي تعاني انقسامات عرقية أو طائفية قوية، وقد برز هذا جليًّا في سورية. من خلال محاسبة الشخصيات البارزة سابقًا، تعمل المحاكمات أيضًا على تعزيز الانطباع بسيادة القانون والمساواة أمام القانون، ووفقًا لذلك فإن المحاكمات مطلوبة لغرس فكرة في الضمير الجماعي، مفادها أن أي قطاع من السكان لا يقف فوق القانون، وأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال معاملة أي إنسان باعتباره كائنًا حقيرًا أو وسيلة لتحقيق هدف ما، وعندما تتم محاكمة المسؤولين السابقين، فإن قوة القانون الجديد الذي تم تشكيله أثناء العدالة الانتقالية تُختبر. ومن ثم، فإن المحاكمات تسهل عملية المصالحة، من خلال إبعاد الجناة عن السلطة وتوفير شعور بالحماية، فضلًا عن تحسين التصور العام للقانون والمساواة في ظله. وفي حين أن هذا ينطبق على محاكمة أي مسؤول، فإن تأثيراته تتضاعف مع محاكمة رجل قوي، لأن الرجل القوي يُنظر إليه باعتباره الشخصية الأكثر قوة ومسؤولية في النظام السابق. ووفقًا لذلك فإنّ المحاكمات التي تشمل رؤساء الدول تميل إلى أن تكون حالات اختبارية رفيعة المستوى، وتثير أكبر عدد من القضايا القانونية والسياسية الصعبة. وعلى الرغم من أن محاكمة الزعماء الأقوياء تمثّل تحديًا، فإن محاكمة كبار المسؤولين تمثل أيضًا إنجازًا أعظم للحكومة الجديدة والقانون الجديد. وعلى هذا، فإن محاكمة الزعماء الأقوياء قد تظهر قوة النظام القانوني الجديد المحسّن والحكومة الخالية من النظام السابق، مما يسمح للجمهور باستعادة الثقة والمصالحة مع الدولة.

ويمكن للمحاكمات والسعي إلى تحقيق العدالة أن يعززا الثقة والمشاركة في المؤسسات الوطنية، ويترتب على ذلك آثار إيجابية على المصالحة. وتعمل آليات العدالة الانتقالية كمحفزات للمشاركة الشعبية . التدابير الانتقالية تعزز الأداء الديمقراطي من خلال زيادة المساءلة والشفافية أو المشاركة بين المؤسسات الديمقراطية ومعها، وبالتالي تعزيزها وشرعنتها. وتشجع المؤسسات الجديدة، مثل لجان الحقيقة والمحاكم، الحوارَ بين الحكومة والمواطنين، وتعزز زيادة المشاركة الشعبية المؤسسات الديمقراطية الجديدة والقائمة. ومع تفاعل السكان بشكل أكبر مع المؤسسات الحكومية واستجابة تلك المؤسسات، فإن المؤسسات الديمقراطية تشير إلى مستوًى معين من الاستجابة والمساءلة، مما يؤدي إلى مزيد من الثقة المدنية. والثقة المدنية هي المفتاح في المجتمع الانتقالي الذي يقبل حكومته الجديدة. وبالتالي، فإن الآليات الانتقالية -مثل المحاكمات- يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في المؤسسات الديمقراطية، مما يسهل بدوره المصالحة. مثال واضح على هذه الديناميكية يمكن رؤيته في لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، التي أُنشئت بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، حيث سهّلت اللجنة الحوار بين الحكومة والمواطنين، ووفّرت منصة للضحايا لمشاركة تجاربهم في انتهاكات حقوق الإنسان، وعرضت على الجناة فرصة للحصول على العفو مقابل تقديم الحقيقة. ساعدت هذه العملية في تعزيز الثقة المدنية في الحكومة الديمقراطية الجديدة. وقد أسهمت جهود اللجنة في تطوير مؤسسات ديمقراطية أكثر استجابةً وقابلةً للمساءلة، مما لعب دورًا حيويًا في المصالحة في جنوب أفريقيا بعد انتهاء الفصل العنصري.[13]

 إن أحد المخاوف المتعلقة بالمحاكمات هو أنها تفتح مجالًا واسعًا للتحرك القانوني . وكما كانت الحال في الأرجنتين، فمن الصعب رسم خط فاصل بين الأفراد الذين دبّروا انتهاكات حقوق الإنسان وأولئك الذين اتبعوا الأوامر من أعلى، الأمر الذي خلق ارتباكًا قانونيًا واجتماعيًا. إن توزيع اللوم يصبح أكثر تحديًا أثناء التحول الديمقراطي الفوضوي، حيث يحتفظ بعض القادة السابقين بنفوذهم. وهذا يؤدي إلى إن محاكمة زعيم واحد تحلّ بعض هذه التعقيدات. فالشخصيات التي عملت كوجه عام للحكومة سوف تكون متورطة بوضوح في الانتهاكات السابقة. ومن ثم، فإن محاكمة شخصية قوية تحسم المناقشات حول المسؤولية في وضع الملاحقة القضائية في أعلى الهرم السياسي.

من الناحية النفسية، نجد أن محاكمة شخصية واحدة ألحقت الأذى بعددٍ أكبر من الناس سيكون لها تأثير أكبر من محاكمة مسؤولين متعددين من رتبة أدنى. وسوف يكون من السهل التعرف على شخصية الرجل “القوي” من قبل الجمهور، باعتباره الشخص الذي أساء إلى أكبر عدد من الناس، وربما حتى إلى غالبية المجتمع، ومن ثم ستنتج محاكمته أكبر تأثير إيجابي.

ثمة سيناريو واقعي سيدور حول ضرورة البدء بالمحاكمة سريعًا لمحاسبة المسؤولين، وفي الوقت نفسه، حول الحفاظ على استقرار الوضع في سورية. النقاشات تنصبّ على إنشاء محاكم محلية بدعم دولي، مع ضمان عدم تسييس المحاكمات وتحقيق العدالة لجميع ضحايا الحرب. تتعقد القضايا حين يُطرح سؤال: هل تتم محاكمة جميع المتورطين في الانتهاكات أم يقتصر الأمر على المسؤولين السياسيين والعسكريين البارزين؟ هل تُعطى الأولوية للمصالحة الوطنية أم للعدالة الجنائية الصارمة؟ في النهاية، يتفق المجتمعون على خطوة أولية: تشكيل لجنة محايدة للمصالحة والعدالة التي ستجمع بين ممثلي المجتمع المدني، والمحاكم الدولية، والجهات الفاعلة المحلية، في محاولةٍ لإيجاد نوع من التوازن بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، آملين أن تنجح هذه الخطوة في خلق بيئة قانونية تسمح بتحقيق العدالة، وفي الوقت نفسه، تساهم في ترسيخ دولة القانون التي يسعى إليها السوريون.

المصالحة وجبر الضرر في العدالة الانتقالية بسورية: التحديات والفرص

المبدأ الثاني في العدالة الانتقالية الذي تجب مراعاته يكمن في المصالحة وجبر الضرر. يجب أن تعي قوى المعارضة التي تستلم زمام الأمر في سورية المستقبل أنه حين تقود النخب عملية الانتقال، تكون العدالة الانتقالية محدودة. وحيث تدخل النخبة والمعارضة في صفقة، تكون العدالة الانتقالية معتدلة. وحيث تقود المعارضة أو دولة أجنبية عملية الانتقال، تكون العدالة الانتقالية “مهمة”. باختصار، تزداد العدالة الانتقالية مع انخفاض نفوذ النخب. أحد التفسيرات المحتملة لهذا النمط هو أنه عندما تقود النخب عملية الانتقال، فإنها تحاول حماية نفسها من العقوبات التي تلي عملية الانتقال، وعندما تتفاوض بشأن عملية الانتقال، فإنها تحاول انتزاع التنازلات من المعارضة[14].

إن المشكلة التي تنشأ عادة بعد تغيير النظام هي كيفية توفير الموارد اللازمة للنظام الجديد. وإن الملاحقات القضائية قد تمهّد الطريق أمام أتباع النظام الجديد، سواء أكانوا من المتأخرين في الوصول أو من الأعضاء السابقين في المعارضة، لتولي المناصب التي يشغلها على نحو ظاهر أفراد أو موظفون من النظام القديم. وسوف يستاء عامة الناس في النظام الجديد من حكم الحكام القدامى الذين يحملون ألقابًا جديدة. ولكن كلّما كان النظام القديم راسخًا أكثر، ومدة بقائه أطول؛ زادت احتمالات احتكار موظفيه للخبرة الإدارية والفنية. والواقع أن المعارضين أو الثوّار السابقين، الذين حُرموا من التعليم الفني، كثيرًا ما يكونون من بين أولئك الذين يسعون إلى إثبات أن النظام القديم حرمهم من الفرص المهنية[15]. وقد كان القضاء في النظام النازي قد بلغ الحد الذي دفع المحتلين إلى إغلاق جميع المحاكم الألمانية لمدة عشر سنوات، وإعادة تأسيس النظام القضائي، بحيث يتولى جيل جديد من القضاة مهامهم في غضون ذلك. وبطبيعة الحال، كان هذا الاقتراح بمثابة فشل لاحق في نزع النازية عن القضاء، بمعنى التعويض أو الإعادة عن الانتهاكات أو إعادة الحقوق إلى أصحابها. وكثيرًا ما كان القضاة يشعرون بالغضب الشديد عندما يجدون أن القضاة هم القضاة الذين سمحوا بالتجاوزات في النظام الأصلي. وتختلف شدة مشكلة التوظيف باختلاف ترسيخ النظام القديم والظروف التي أعقبت ذلك. ففي أحد الأطراف، توجد حالات يستطيع فيها عدد كبير من غير المتعاونين (ربما بسبب فرض التدخل العسكري مؤقتًا) استئناف مناصبهم بسرعة، وإعادة المؤسسات القائمة سابقًا. ففي بلجيكا وهولندا، على سبيل المثال، استعادت الحكومات في المنفى السلطة بسرعة.

إذن، الحذر كلّ الحذر عند المصالحة، وعند التعامل مع رجال سلطان النظام القديم، فالمصالحة  ضمن إطار العدالة الانتقاليةلا تقتصر على التوصل إلى “اتفاق” بين الأطراف المتصارعة، بل تشمل أيضًا عملية إعادة بناء الثقة بين المؤسسات والشعب. وهذا يعني أن سورية تحتاج إلى إصلاحات على مستوى الحكم المحلي، مثل إنشاء منصات تفاعلية، حيث يمكن للمواطنين من مختلف الخلفيات التعبير عن مخاوفهم وآمالهم في المستقبل. هذه العملية يجب أن تكون شاملة لجميع الأطراف حتى تساهم في بناء مجتمع موحد، بعيدًا عن الانقسامات الموروثة من الصراع[16]. أما المصالحة المجتمعية، فهي تتطلب التفاعل بين الجماعات المختلفة التي تأثرت بالصراع في سورية، حيث توجد مجتمعات متعددة الأعراق والطوائف، تشمل العرب السنّة، الأكراد، العلويين، الدروز، وغيرهم. ولتحقيق المصالحة المجتمعية، ينبغي أن تكون هناك آليات تهدف إلى تعزيز الحوار بين هذه الجماعات.

أما جبر الضرر، فيركز على الاعتراف بالضحايا وتعويضهم، بهدف إعادة الكرامة لهم، والتأكيد على مسؤولية الدولة عن الأضرار التي لحقت بهم. في الخريطة السورية، يكتسب جبر الضرر أهمية خاصة، إذ شهدت البلاد على مدى سنوات الحرب مئات الآلاف من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مثل القتل الجماعي، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب (في سجن صيدنايا وغيره) والتدمير والتهجير القسري. ضمن مفهوم العدالة التصحيحية، أي نظام قانوني يجب أن يعترف بضرر الضحية، ويكفل تعويضًا يساهم في استعادة توازن العدالة.[17] وتمثل عملية جبر الضرر تحديًا كبيرًا، بسبب حجم الانتهاكات والخراب الذي خلفه انتهاك النظام. وتبرز أيضًا مسألة التعويضات المعنوية والاعتراف بالضحايا في العدالة الانتقالية وهي تعدّ جزءًا أساسيًا من عملية جبر الضرر. في السياق السوري، بعد انتهاء النظام العسكري للأسد، يجب تشكيل لجنة للحقيقة للتوثيق الرسمي للانتهاكات التي حدثت. وهناك حاجة ماسة إلى تعزيز التضامن المجتمعي، من خلال توفير الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا، من خلال برامج إعادة التأهيل الاجتماعي والنفسي. فالضحايا الذين عانوا الاعتقالات التعسفية أو التعذيب يحتاجون إلى الدعم النفسي، فضلًا عن التعويضات المالية. وقد تكون هذه البرامج جزءًا من جهود أوسع لبناء الثقة بين الضحايا والمجتمع، كما حدث في البوسنة والهرسك بعد انتهاء حربها الأهلية. وكذلك في كمبوديا، حيث تم إنشاء محكمة خاصة للنظر في جرائم النظام “الخمير الحمر” بعد أن تسببت سياساتهم القمعية في مقتل ما لا يقل عن 1.5 مليون [18]. وما زال السوريون في المرحلة الأولية من انهيار وسقوط نظام بشار الأسد، وهناك تحديات كثيرة تواجه جبر الضرر، ومنها الافتقار للآليات القانونية المستقلة والمحايدة، والهيمنة السياسية والانقسام السياسي والميداني في سورية، وإن تطبيق جبر الضرر قد يواجه تحديات من خلال الأطراف المختلفة التي تحاول استغلال العملية لصالحها.

عملية المصالحة وجبر الضرر في سورية تتطلب نهجًا شاملًا يشمل جميع الأطراف السياسية والاجتماعية. ويجب خلق منصات تفاعلية على المستوى المحلي، تسمح للمواطنين من مختلف الفئات المجتمعية بالتعبير عن آرائهم وآمالهم، حيث يُعزز ذلك مصداقية العمليات السياسية، ويساهم في استعادة الثقة بين الحكومة والشعب. ويجب أن تتبنى العملية الانتقالية آليات تدعم الحوار الوطني، مثل إنشاء مجالس محلية تمثل جميع الأطياف الاجتماعية والعرقية، تسهم في تقليل الانقسامات وبناء الثقة. ويجب إعادة تأهيل الضحايا، عبر برامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للضحايا، التي تعدّ جزءًا أساسيًا من عملية المصالحة المجتمعية، إذ إن بناء المجتمع يتطلب تعافي الأفراد أولًا. ويمكن للمنظمات الدولية أن تساعد في إنشاء آليات قضائية مستقلة تضمَن المحاسبة على الجرائم المرتكبة، كما حدث في كمبوديا والبوسنة والهرسك. وإنّ دعم المجتمع المدني وتعزيز دور المجتمع المدني السوري في مراقبة عملية جبر الضرر وإعادة بناء المؤسسات يُساعد في ضمان شفافية الإجراءات.

البحث عن الحقيقة وإصلاح المؤسسات المدنية والعسكرية وبناء مستقبل مستدام

المبدأ الثالث الأساسي للعدالة الانتقالية يتمثل بالبحث عن الحقيقة، وهو يتمثل في توثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكشف تفاصيلها. ويشكّل الحق في معرفة الحقيقة جزءًا من حقوق الإنسان الأساسية التي تتيح للأفراد فهم الظروف التي مرّوا بها، والتعرّف على الجناة والمجرمين. ويعكس هذا البحث الرغبة في كشف حقيقة الانتهاكات التي تعرّض لها الشعب السوري من قِبل النظام، وأطراف أخرى، سواء كانت ميليشيات أو جماعات مسلحة أخرى. وهنا يبرز ما قام به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عندما وثّق للثورة السورية عبر منصة الذاكرة السورية، التي احتفظت بشهادات وملفات مرئية وأدلة، للمساعدة في إنشاء سجل موثق للانتهاكات. هذا النوع من الأرشيفات لا يقتصر فقط على توثيق الأحداث، بل يمكن أن يساعد في بناء الذاكرة الجماعية التي ستشكل الأساس للمصالحة. ومن خلال هذه المنصّة، كانت هناك شهادات الضحايا والمجتمعات المحلية التي تعتبر مصدرًا حيويًا لفهم الانتهاكات التي حدثت. وكان للشبكة السورية لحقوق الإنسان باعٌ في هذا المجال، حيث لعبت دورًا رئيسيًا في جمع الأدلة والشهادات.

يمثل إصلاح المؤسسات المبدأ الرابع من مبادئ العدالة الانتقالية، وهو عملية حيوية تهدف إلى إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية والاجتماعية التي تورّطت في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أو رعتها. ويركز هذا الإصلاح على قطاعات حيوية، تشمل القضاء، والأمن، والتعليم، والصحة، وغيرها من المؤسسات التي تحتاج إلى تغييرات جذرية، لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل. في السياق السوري، يعتبر إصلاح المؤسسات ضرورة ملحّة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، ولا سيما بعدما تعرضت له منذ أكثر من ثلاثة عشر عامًا من الصراع الذي دمّر البنية التحتية للدولة وأضعف المؤسسات الحكومية بشكل كبير.

ومن الناحية النظرية، يرتكز مفهوم إصلاح المؤسسات على مبادئ الحوكمة الرشيدة التي تضمن احترام حقوق الإنسان وتعزيز العدالة والمساواة بين المواطنين. وفقًا لنظرية الحوكمة الانتقالية (Transitional Governance Theory)، فإن إصلاح المؤسسات هو أداة لضمان شرعية الدولة بعد الصراع وتحقيق الاستقرار المستدام. وهذه النظرية تدعو إلى دمج المعايير الدولية لحقوق الإنسان في عمليات الإصلاح المؤسسي، ومنها ضمان المساءلة، والشفافية، والكفاءة في تقديم الخدمات العامة[19]. في سورية، يشكّل إصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية أولوية قصوى، حيث كانت هذه المؤسسات أدوات رئيسية في دعم القمع والاستبداد. وتشير نظرية “التحول الديمقراطي” إلى أنّ إعادة هيكلة هذه الأجهزة يجب أن تتضمن تغييرات مؤسسية وهيكلية، مثل إزالة العناصر المتورطة في الانتهاكات، وتطبيق سياسات فعالة لدمج فئات مجتمعية متنوعة، وضمان استقلالية القضاء.[20] وإضافة إلى ذلك، يُبرز نموذج إعادة بناء السلام الإيجابي (Positive Peacebuilding) أهمية إصلاح القطاعات الاجتماعية، مثل التعليم والصحة، لضمان معالجة الجذور الاقتصادية والاجتماعية للصراع. ويتطلب هذا النموذج الاستثمار في تحسين الظروف المعيشية وتعزيز التنمية الاجتماعية كجزء من عملية الإصلاح الشاملة.

في الحالة السورية، يعني تحقيق هذا الهدف إجراء إصلاحات عميقة في مؤسسات الدولة التي كانت خاضعة للسلطة الاستبدادية، مثل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. يجب أن تتضمن هذه الإصلاحات آليات لضمان الرقابة المدنية وتطبيق قوانين صارمة تحول دون استخدام هذه المؤسسات كأدوات لقمع الشعب. بهذا، يصبح إصلاح المؤسسات ليس مجرد إجراء فني، بل يكون جزءًا من عملية بناء دولة جديدة تقوم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون[21]. وتعدّ نظرية “التغيير المؤسسي” في العدالة الانتقالية من الأدوات الرئيسية لفهم كيفية بناء مؤسسات جديدة قادرة على تجاوز إرث الأنظمة الاستبدادية. تؤكد هذه النظرية أن أي عملية تغيير حقيقية لا يمكن أن تقتصر على الهيكل التنظيمي فقط، بل يجب أن تمتد إلى تغيير الثقافة المؤسسية التي تتسم غالبًا بالعقابية والسلطوية في ظلّ الأنظمة القمعية. [22]في الحالة السورية، يظهر هذا بوضوح في المؤسسات الأمنية والعسكرية التي استخدمت العنف كوسيلة للسيطرة،[23] مما يستدعي إصلاحًا جذريًا يركّز على إعادة هيكلة هذه المؤسسات لتخضع لرقابة مدنية صارمة. هذا الإصلاح يجب أن يشمل إزالة العناصر المتورّطة في الانتهاكات وتعزيز ثقافة الخدمة العامة القائمة على احترام حقوق الإنسان[24].

من جانب آخر، الجيش أيضًا يتطلّب إعادة صياغة شاملة لدوره. وفقًا لنظرية إعادة دمج القوات المسلحة، فإن دمج الفصائل العسكرية المختلفة ضمن هيكل الدولة الجديد هو ضرورة لضمان عدم تحولّها إلى جهات مؤثرة خارجة عن سيطرة الحكومة. لا يمكن تحقيق هذا إلا من خلال إنشاء وزارة دفاع جديدة، تتولى الإشراف على الجيش، وتعمل ضمن هيكلية مدنية شفافة وديمقراطية. من جهته، القضاء السوري كان أداة رئيسية في يد النظام لتعزيز سلطته وقمع المعارضين، مما أفقده نزاهته واستقلاله. تشير نظرية سيادة القانون إلى أن الإصلاح القضائي في سورية يجب أن يركز على بناء مؤسسات قانونية مستقلة قادرة على تعزيز العدالة والمساءلة. وهذا يتطلب تدريب القضاة وفقًا للمعايير الدولية، وتفعيل محاكم متخصصة لمحاكمة مرتكبي ي الانتهاكات، وإعادة هيكلة المحاكم العسكرية لتصبح خاضعة للإشراف المدني. وإضافة إلى ذلك، يمكن لتطبيق العدالة الإصلاحية أن يلعب دورًا مهمًا في إعادة بناء الثقة، بين الدولة والمجتمع، من خلال ضمان محاكمات عادلة وتقديم تعويضات للضحايا.

قطاع التعليم والإعلام يُعدّ من بين أكثر القطاعات التي تأثرت بالتوجهات الأيديولوجية للنظام السوري، إذ كان التعليم أداة لتوجيه الأجيال الناشئة نحو الولاء للنظام، وكان الإعلام الرسمي منصة للرقابة على الرأي العام. تتطلب عملية الإصلاح إعادة بناء نظام تعليمي يعزز التفكير النقدي، مع تحديث المناهج الدراسية لتتناسب مع المعايير العالمية لحقوق الإنسان. ويجب تحويل النظام التعليمي إلى أداة لتعزيز التفكير النقدي وحقوق الإنسان، مع تحديث المناهج لتشمل قيم المواطنة وحقوق الإنسان. في المقابل، يحتاج الإعلام إلى أن يتحوّل إلى منصة شفافة، تعكس التعددية السورية وتدعم حرية التعبير والمساءلة المجتمعية. ويجب أن يترافق الإصلاح المؤسسي مع مصالحة مجتمعية حقيقية، حيث يتم تشجيع الحوار بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري. القطاع الصحي في سورية يمثل تحديًا كبيرًا بعد الحرب التي دمّرت البنية التحتية الصحية. يحتاج هذا القطاع إلى إصلاح شامل يعيد بناء المستشفيات والمراكز الصحية، مع توفير الدعم الطبي والنفسي للناجين من العنف. وفقًا لنظرية الإنصاف الصحي، يجب أن يضمن النظام الصحي الجديد تقديم خدمات متساوية لجميع المواطنين، مع التركيز على المناطق التي عانت تهميشًا كبيرًا خلال الصراع.

. ويجب أن يتم الإصلاح الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية لضمان توفير فرص عمل للنازحين والضحايا، إضافة إلى استعادة النشاط الاقتصادي في المناطق المتضررة. ويعتمد ذلك على إشراك القطاع الخاص المحلي والمنظمات الإنسانية في عمليات إعادة الإعمار. ولتجنب تركّز السلطة في يد الحكومة المركزية، يجب تعزيز دور السلطات المحلية في تنفيذ الإصلاحات وتنفيذ مشاريع التنمية. هذا يمكن أن يساعد في تقليل التوترات بين الحكومة والمجتمعات المحلية.

على الرغم من أهمية هذه الإصلاحات، تواجه عملية التغيير المؤسسي في سورية تحديات جمة، أبرزها التهديدات من الفصائل المسلحة والجماعات ذات النفوذ العسكري، إضافة إلى الفساد المنتشر في مؤسسات الدولة. تشير الأدبيات المتعلقة ببناء السلام المستدام إلى أن التغلب على هذه التحديات يتطلب ضمانات دولية ودعمًا سياسيًا قويًا. محاربة الفساد تعتبر جزءًا أساسيًا من هذه العملية، حيث إن تعزيز الشفافية والمساءلة يُعدّ مفتاحًا لتحقيق إصلاحات مستدامة. وإصلاح المؤسسات في سورية ليس مجرد عملية تقنية لإعادة بناء الدولة، بل هو مشروع شامل يهدف إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة من العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان. هذه العملية تمثّل فرصة حقيقية لفتح صفحة جديدة من التعايش والسلام المستدام، مع ضمان عدم تكرار الأخطاء الكارثية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع.

ختامًا، تمثّل العدالة الانتقالية في سورية حجر الزاوية في عملية بناء دولة ما بعد الأسد. وعلى الرغم من التعقيدات الهائلة التي تواجهها، فإنها تبقى السبيل الأمثل لتحقيق المصالحة الوطنية وإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري. إن محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات هي واجبٌ أخلاقي أولًا، وهي ضرورة سياسية وقانونية لبناء مستقبل قائم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون. في ظل الظروف الحالية، يتطلب تحقيق العدالة الانتقالية تبنّي نهج متوازن يجمع بين المساءلة، والتعويض، والمصالحة. ويظل الأمل موجودًا في أن تكون هذه المرحلة بداية جديدة لسورية المستقبل، سورية المواطنة، حيث تُبنى مؤسسات قوية وعادلة تستجيب لتطلعات الشعب السوري في الحريّة والكرامة والمساواة، وتُطوى صفحة مظلمة من تاريخ البلاد بوعي ومسؤولية نحو مستقبل أفضل.

[1] Karatnycky, A., et al. (Eds.). (2001). Nations in transit 2001 (p. 26, tbl.B).

[2] Pfiffner, J. P. (2010). US blunders in Iraq: De-Baathification and disbanding the army. Intelligence and National Security, 25(1), 76–85. https://doi.org/10.1080/02684527.2010.493962

[3] Rawls, J. (1971). A Theory of Justice. Harvard University Press.

[4] Tyler, T. R. (2006). Why People Obey the Law. Princeton University Press.

[5] Allal, A., & Geisser, V. (2012). The Rise and Fall of Ben Ali: Politics and Power in Tunisia. CERI Series, Hurst Publishers.

[6] Arbour, L. (2009). The Responsibility to Protect: A Critical International Law Perspective. Human Rights Quarterly, 31(1), 120-135.

[7] Kritz, N. J. (1995). The United Nations and Transitional Justice: A Review of Efforts to Deal with Human Rights Violations. Journal of International Affairs, 48(2), 191-210.

[8] Rombouts, H. (2012). Transitional Justice and Accountability. Cambridge University Press.

[9] Roth, K. (2019). Transitional justice: An introduction. Human Rights Watch. https://www.hrw.org/report/2019/xx/xx/transitional-justice

[10] Nussbaum, M. (2011). Creating capabilities: The human development approach. Belknap Press of Harvard University Press.

[11] Roth, K. (2019). Transitional justice: An introduction.

[12] Nussbaum, M. (2011). Creating capabilities: The human development approach. Belknap Press of Harvard University Press.

[13] Hayner, P. B. (2011). Unspeakable Truths: Transitional Justice and the Challenge of Truth Commissions. Routledge.

[14] Nussbaum, M. (2011). Creating capabilities: The human development approach. Belknap Press of Harvard University Press.

[15] Ibide.

[16] Elster, J. (2004). Closing the books: Transitional justice in historical perspective. Cambridge University Press.

[17] Karp, L., & Tyler, R. M. (2014). And restorative justice for all: Redemption, forgiveness, and reintegration in organizations. International Journal of Offender Therapy and Comparative Criminology, 58(7), 825–841. https://doi.org/10.1177/0305735613510914

[18] Eisenbruch, M. (2009). The Extraordinary Chambers in the Courts of Cambodia: A new mechanism for transitional justice. Journal of International Criminal Justice, 7(3), 599–610. https://doi.org/10.1093/jicj/mqp032

[19] Barnett, M., & Zürcher, C. (2009). The Peacebuilder’s Contract: How External Statebuilding Reinforces Weak Statehood. In Roland Paris & Timothy D. Sisk (Eds.), The Dilemmas of Statebuilding: Confronting the Contradictions of Postwar Peace Operations. Routledge.

[20] Galtung, J. (1996). Peace by Peaceful Means: Peace and Conflict, Development and Civilization. Sage Publications. (Focuses on the Positive Peacebuilding model.)

[21] Celermajer, D., Churcher, M., Gatens, M., & Hush, A. (2021). Institutional transformations: Imagination, embodiment, and affect. Constellations, 28(1), 24–37.

[22] Carothers, T. (2002). The End of the Transition Paradigm. Journal of Democracy, 13(1), 5-21. (Addresses the complexities of democratic transition.)

[23] Bakkour, Samer. The End of the Middle East Peace Process: The Failure of American Diplomacy. New York and London: Routledge, 2022.

[24] Baczko, A., Dorronsoro, G., & Quesnay, A. (2018). Civil War in Syria: Mobilization and Competing Social Orders. Cambridge University Press. (Explores institutional dysfunction in Syria and priorities for reform.)

مركز حرمون

—————————

هل تغيّر الجولاني وجماعته حقاً؟/ طارق عزيزة

قبل وبعد سقوط الأسد

17 كانون الأول 2024

يصاحب الفرح الذي يعم الشارع السوري بسقوط نظام الأسد، قلقًا وترقبًا، مع اتسام تصريحات أبي محمد الجولاني، المعروف الآن باسمه الحقيقي أحمد الشرع، بالغموض فيما يتعلق بنظام الحكم القادم، التي تخلو من الديمقراطية وحقوق الإنسان. الكاتب السوري طارق عزيزة، المتخصص في الكتابة عن الجماعات الجهادية، كجبهة النصرة (هيئة تحرير الشام بمسماها الحالي) يذكر بالتحولات التي طرأت على شخصية الجولاني وجماعته، ويستقرأ مستقبله، هل نحن أمام تحول أصيل أم حملة دعائية لكسب الشارع؟

فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 سقط نظام بشار الأسد. هرب الرئيس المخلوع، ودخلت فصائل المعارضة المسلحة المنضوية ضمن “إدارة العمليات العسكرية” دمشق من دون قتال، بعد ترتيبات لم يُكشف عنها مع قادة أجهزة النظام الأمنية. جاء ذلك تتويجاً لعملية عسكرية انطلقت من إدلب في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، باسم “ردع العدوان”، ضدّ مناطق سيطرة النظام والميليشيات المتحالفة معه، واستطاعت خلال أيام السيطرة على مدن حلب وحماه وحمص وأريافها، وصولاً إلى قلب دمشق.

ولأنّ غرفة “إدارة العمليات العسكرية” تضم فصائل إسلامية عُرفت بتشدّدها، على رأسها “هيئة تحرير الشام” بزعامة أبي محمد الجولاني، الذي أصبح “القائد أحمد الشرع”، ونظراً لتجربة الهيئة في مناطق سيطرتها من جهة، والنسب الجهادي القاعدي لزعيمها، فإنّ الفرحة بسقوط الأسد أعقبها قلق وترقّب مشوب بالخشية من السلطة الجديدة لدى قطاعات واسعة من الشعب السوري، رغم التطمينات التي تحرص “إدارة العمليات العسكرية” بقيادة الشرع على إظهارها، والتأكيد على مقاتليها بالانضباط وعدم التدخّل في شؤون المدنيين. فهل تغيّرت الهيئة وزعيمها فعلاً، أم أنّها تواصل نهجًا براغماتيًا بدأ منذ سنوات ولا يؤمن جانبه؟ الإجابة عن السؤال تتطلب استعادة بعض المحطات في السيرة الملتبسة لهذه الجماعة وقائدها، ثم قراءة سلوكهم الحالي في دمشق.

من تنظيم القاعدة إلى هيئة تحرير الشام

في 24 كانون الثاني/ يناير 2012 أعلن “أبو محمد الجولاني” تشكيل “جبهة النصرة لأهل الشام” من مجاهدي الشام، بتسجيل مصوّر لم يظهر هو فيه، حمل عنوان “شام الجهاد”، وتداولته مواقع جهاديّة مرتبطة بتنظيم القاعدة. دعا الجولاني السوريين إلى الجهاد ضد النظام، مؤكّداً أن الجبهة لم تظهر إلا “لإعادة سلطان الله إلى أرضه”. أثار التسجيل موجة تشكيك بين نشطاء الثورة السورية وشخصيات المعارضة لبعض الوقت، بسبب حرصهم على التمسّك بسلمية الثورة ومدنيتها، ورفض اتهامات النظام لها بالسلفية والطائفية.

لكنّ تصاعد وحشية النظام في قمع المتظاهرين ونزوع فئات منهم نحو التسلّح بتشجيع قوى خارجية وبعض فئات المعارضة لاسيما الإسلامية، بعد زج الجيش لمواجهتهم واقتحام المدن والبلدات المنتفضة، اختلطت الأوراق وباتت عسكرة الثورة وميلها نحو الأسلمة أمرًا واقعًا. هكذا، اكتسبت النصرة رصيدًا شعبيًا في بعض المناطق، فضلًا عن تقبّل بعض المعارضين لها، نتيجة حضورها ميدانيًا وهجماتها المؤثرة ضدّ النظام، مما ساعدها في السيطرة على مناطق خرجت عن سلطة الأسد، وبسط نفوذها على حساب “الجيش السوري الحر”، لتحلّ راياتها الجهادية وخطابها المذهبي محل علم الثورة والخطاب الوطني الجامع الذي كان يتبناه.

كانت أساليب الجبهة ميدانيًا وإعلاميًا وخطابيًا كبيرة الشبه بنهج القاعدة، وإن لم تعلن صلتها بها، فأدرجتها الولايات المتحدة الأمريكية على قائمتها للمنظمات الإرهابية منذ كانون الأول/ ديسمبر 2012، بينما لم يتخذ مجلس الأمن الدولي قرارًا مماثلًا إلا في أيار/ مايو 2013، بعد إعلان الجولاني رسميًا تبعيّته للقاعدة وبيعته لزعيمها أيمن الظواهري، إثر الخلاف بين الجولاني وزعيم فرع القاعدة العراقي أبو بكر البغدادي، في نيسان/ أبريل 2013، حين أعلن الأخير أنّ النصرة “ماهي إلا إمتداد لدولة العراق الإسلامية، وجزء منها” وقرّر توحيد الجماعتين بقيادته، وهو ما رفضه الجولاني، نافيًا علمه بالقرار أو أنّ أحدًا استشاره فيه، مع ذكر فضل “الأخوة في العراق” وأنه دين عليه، لموافقة البغدادي على مشروعه للتمدد في سوريا وتقديم المال والرجال لمساعدته، مؤكّدًا بيعته للظواهري. وتوزّع معظم الجهاديين الأجانب بين الفريقين، ونأى آخرون عنهما ليشكّلوا مجموعاتهم الخاصّة أو ينخرطوا في كتائب جهادية أخرى. وقطع البغدادي صلاته بالقاعدة معتبرًا أنها لم تعد موجودة، ونصّب نفسه خليفة في نهاية حزيران/ يونيو 2014 على “الدولة الإسلامية”.

فرضت النصرة نفسها على الفصائل الإسلامية من خلال استراتيجية مدروسة لتكريس حضورها في سوريا، حيث سيطرت على مواقع حيوية شمال البلاد تتقاطع مع طرق إمداد الفصائل، التي وجدت مصلحتها في التعامل مع النصرة والاستفادة من شدّة بأس مقاتليها وخبراتهم. ونفذت النصرة عمليات مشتركة مع الفصائل، وشاركت في “الهيئات الشرعية”، وأصدرت بيانات ومواقف سياسية موحدة معهم في مناسبات عديدة، كالموقف من تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والحكومة المؤقتة، وصولًا إلى تحالفها مع فصائل إسلامية ضمن “جيش الفتح”، الذي قلب الموازين العسكرية وهزم قوات النظام في العديد من المناطق، حتى السيطرة على كامل محافظة إدلب، قبل أن تتخلص الجبهة من حلفائها عبر إضعافهم تدريجياً، وتنفرد بحكم تلك المناطق.

شكّلت مرجعية النصرة وهويتها القاعدية “إحراجًا” للمعارضة السورية والدول الداعمة، فحثّت الجولاني على فك ارتباطه بالقاعدة، وهو ما جرى في 27 تموز/ يوليو 2016، حين ألغى اسم “جبهة النصرة”، وأعلن تشكيل جماعة جديدة ضمن جبهة عمل باسم “جبهة فتح الشام”. كان “فك الارتباط” إجراءًا شكليًا، إذ جاء بتوجيهات ومباركة من قيادة القاعدة، وفق ما ذكر الجولاني نفسه، معلناً استمرار التشكيل الجديد على النهج ذاته، وأصبح وجه الجولاني معروفًا بعد سنوات من الغموض، وبدأ يظهر في الإعلام واللقاءات العامة.

لم يتغيّر تقييم واشنطن للنصرة رغم فك ارتباطها بالقاعدة، واستهدفت طائرات التحالف الدولي الذي تقوده قيادات بارزة في “فتح الشام”. في المقابل، صعّد الجولاني لهجته ضدّها في سياق تعليقه على الاتفاق الروسي – الأمريكي والهدنة التي أُعلنت في 12 أيلول/ سبتمبر 2016، واستثنيت منها الجبهة، فقال “أمريكا وضعت نفسها في صف الروس والنظام وستجد نفسها في صدام ليس في مواجهة فصيل واحد وإنما في مواجهة الشعب”. بعد أيام كانت أدبيات القاعدة تجاه الولايات المتحدة حاضرةً في بيان أصدرته الجبهة بخصوص عملية “درع الفرات”، فوصف الأمريكيين بأنهم “عدو كافر صائل مباشر على المسلمين”.

مطلع عام 2017، عُقدت أولى اجتماعات أستانا، واتفقت روسيا وتركيا وإيران على إنشاء آلية ثلاثية لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار في سوريا، وعلى محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” و”جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا)”، وفصلهما عن مجموعات المعارضة المسلحة. في اليوم التالي، هاجمت “فتح الشام”، مواقع الفصائل المشاركة في أستانا، فأعلن بعضها الانضمام إلى “حركة أحرار الشام الإسلامية” المتحالفة مع الجولاني لتفادي مواجهته. تلا ذلك إعلان فتح الشام وبعض الفصائل الإسلامية الموسومة بالتطرّف حلّ نفسها واندماجها في تشكيل جديد باسم “هيئة تحرير الشام”، وتولّى الجولاني منصب القائد العسكري للهيئة.

دويلة الجولاني في إدلب

ينتمي الجولاني إلى “جيل جهادي” من القاعدة يختلف عن جيل المؤسّسين بأنّه يولي اهتماماً لفرض نفسه في بيئته المحلية، ويبتعد تدريجيًا عن الجهاد المعولم، وقد برز هذا الجيل في مرحلة انتقال التنظيم الأم نحو مزيد من اللامركزية، بعد قتل أو اعتقال أو تشريد الكوادر الرئيسية في أفغانستان. هذا عامل حاسم في تكوين الجولاني، وقد عمل بهديه منذ عودته إلى سوريا قادمًا من العراق، حتى استطاع قيادة جماعته للسيطرة على أجزاء من شمال غرب سوريا بشكل تدريجي ومنظّم على حساب بقيّة الفصائل.

وإذ عمل الجولاني بدايةً مع حلفائه الإسلاميين الآخرين للقضاء على مجموعات “الجيش الحر”، انتقل بعدها إلى مهاجمة المجموعات الإسلامية المنافسة، فكان على مقاتليها مغادرة المنطقة أو الاستسلام والعمل تحت قيادته ضمن “هيئة تحرير الشام”. ثمّ جاء دور الجهاديين الذين احتفظوا بولاء تنظيمي أو فكري للقاعدة، ممن تستهدفهم الولايات المتحدة أيضاً، فهاجمت الهيئة معاقلهم وصفّت تنظيماتهم تباعاً. قد يبدو غريبًا تصفية فصيل جهادي لفصيل جهادي آخر، وكلاهما مصنّفٌ على لوائح الإرهاب الأميركية والدولية، لكنّ الأمر سيغدو مفهوماً عند وضعه في سياق براغماتية الجولاني التي تحرّكها مصالحه، وتُعبّر عنها رسائله وإشاراته إلى الداخل والخارج، لإثبات أنه صاحب الأمر والنهي في شمال غرب سوريا، ولا يمكن تجاوزه في أي تسوية تخص هذه المنطقة، فضلًا عن تقديم صورة جديدة والتملّص من تاريخه القاعديّ بحثًا عن دور مستقبلي أكثر أهمية.

ضمن هذه المعطيات أصبحت الهيئة “شريكاً” يعتمد عليه في نظر بعض القوى الخارجية، فشاركت في اتفاقية التغيير الديمغرافي التي رعتها أطراف إقليمية وسميت بـ”اتفاقية المدن الأربع”، وشملت الآلاف من سكان بلدات “كفريا” و”الفوعة” الواقعتين بريف إدلب ذات الغالبية الشيعية والمحاصرة من قبل فصائل المعارضة الإسلامية، و”مضايا” و”الزبداني” بريف دمشق الغربي، اللتان تسيطر عليهما المعارضة وتحاصرهما قوات حزب الله والميليشيات الإيرانية. وتنامت مقدّراتها ومواردها الاقتصادية، لا سيما المتأتية من سيطرتها على معابر شرعية وغير شرعية، وأصبحت الأمور المالية بأيدي أشخاص تربطهم بالجولاني صلات القرابة أو المصاهرة.

وأسست “الهيئة” ذراعاً مدنياً لها تحت اسم “حكومة الإنقاذ” في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، لإدارة المؤسسات الخدمية التابعة للهيئة. وبالتوازي مع مظاهر “الاستقرار” وتحسّن الخدمات نسبياً مقارنة مع غيرها من مناطق سيطرة المعارضة، مارست الهيئة مختلف صنوف القمع والتنكيل بحق مخالفيها، كالاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري، وشهدت مناطقها مظاهرات دورية تطالب بإطلاق المعتقلين، حتى أنّ مقاتلين شاركوا في العملية الأخيرة، نشروا تسجيلات مصورة طالبوا فيها الجولاني بالإفراج عن المعتقلين في سجون الهيئة، أسوة بتحرير المعتقلين من سجون النظام المخلوع.

“القائد أحمد الشرع” ممسكاً بالسلطة في دمشق

قبل سقوط الأسد بأيام صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنّ سوريا تشهد واقعًا جديدًا تجري إدارته بهدوء، وهو ما يرجّح صحّة التكهنات التي جرى تداولها في الإعلام، عن تفاهم تركي – روسي أدى إلى السيناريو الذي أسدل الستار على حكم عائلة الأسد. فالأطراف الخارجية والتفاهمات الدولية لم تكن بعيدة عما جرى، لكنّ “إدارة العمليات العسكرية” بعد سيطرتها على دمشق، راحت تقدّم نفسها بوصفها القوّة التي أسقطت النظام، و”القائد أحمد الشرع”، وهو الاسم الحقيقي للجولاني، والذي صار معتمداً في البيانات الرسمية ووسائل الإعلام، بدأ يصدر الأوامر والتوجيهات وكأنه السيّد المطلق للمرحلة الجديدة، رغم ما أظهره من انفتاح في مقابلته مع “سي إن إن”، والفيديوهات القصيرة التي بثها على مواقع التواصل، والكلام المعسول عن مشاركة السوريين جميعاً في بناء سوريا الجديدة.

صحيح أنّ أياماً قليلة لا تكفي لتقييم وجهة السلطة الجديدة وطبيعتها، لكن الكيفية التي يتصرّف بها الشرع والإجراءات والقرارات التي اتخذها، تعكس تفرّدًا واستئثارًا بالسلطة، بدءًا من تكليف حكومة الإنقاذ التابعة له بتولي أعمال حكومة النظام المخلوع، مرورًا بكل تصريحاته بشأن ما ينوي فعله في مختلف الملفات. وهو يحرص على اختيار كلماته بعناية، بحيث لا تخرج عن عموميات الخطاب الإسلامي الفضفاض الذي يرضي جماعته وحلفاءها، وفي الوقت نفسه لا تعزز مخاوف المرتابين بالخلفية الأيديولوجية له وللهيئة.

لا يتّفق نهج الهيئة الإقصائي في مناطق سيطرتها مع الثورة السورية وأهدافها، ولا يتناسب مشروع “الكيان السني” الذي كان الجولاني/ الشرع يتحدث عنه حين كان يسيطر على إدلب فقط مع حقيقة التنوع الديني والمذهبي في سوريا. وخلو خطاب الشرع من أي إشارة إلى الديمقراطية أو التعددية السياسية أو الحريات وحقوق الإنسان، وسواها من مقتضيات بناء الدول الحديثة والمجتمعات الحرة، يعني أن التغيير الذي طرأ على الهيئة لم يتجاوز حدود التكتيك والشعارات المعلنة، أما جوهرها الذي جسّدته سيرتها فلم يتغيّر بعد: حركة دينية/ عسكرية لا تقبل مشاركة سلطتها، ولا توفّر جهدًا لإضعاف المنافسين والحلفاء للهيمنة عليهم.

الجماعة التي أسسها الجولاني أو أحمد الشرع، ولم يتوقّف الجدل بشأن دورها في سوريا منذ ظهورها حتى اليوم، خلعت رداء القاعدة فعلًا، لكنها لم تتبرّأ من ماضيها أو تراجعه، وهو ماضٍ لا يخلو من الرؤوس المقطوعة وأشلاء ضحايا الهجمات الانتحارية. والجماعة لم تكفّ يوماً عن تشددها السلفي في نظرتها إلى أمور السياسة والمجتمع، وهذه النظرة ليست محل إجماع السوريين، حتى المسلمين السنة أنفسهم. مع ذلك، تمكّنت من التوسع والإستمرار بفضل قدرة زعيمها على تطوير نهج براغماتي اتسم بقدر كبير من المرونة والقدرة على التكيف مع متطلبات كلّ مرحلة وظروفها، من حيث ترتيب الأولويات وعقد التحالفات، واستخدام العنف والقوّة العارية، أو الترغيب والقوة الناعمة لتحقيق الأهداف، بحسب الظروف وموازين القوى.

يدرك أحمد الشرع جيداً أن التفاهمات التي ساهمت في تثبيت سلطة الأمر الواقع التي أنشأها في إدلب لا تقارن بما ينتظره وجماعته من تحديات ومتطلبات تفرضها تعقيدات الملف السوري، وتشابك المصالح الدولية والإقليمية فيه، فسوريا ليست إدلب فقط، وما يجري حاليًا هو سلوك سلطة أمر واقع تفتقر إلى الشرعية، وليس لها أن ترسم لوحدها شكل المرحلة الانتقالية على نحو ما تفعل الآن، وهو ما ستثبته الأيام القليلة القادمة، مع تحرّك العواصم المعنية وبدء مشاوراتها البينية، واتصالاتها مع الشرع وسلطته. أما العنصر الأهم في معادلة المستقبل فهو أنّ الشعب السوري الذي ضحّى وتخلّص من استبداد نظام الأسد المجرم، سيتمسّك بحرّيته وأهداف ثورته، ولن يخضع لمستبد آخر بعد اليوم.

باحث سوري. له عشرات المقالات والدراسات المنشورة في صحف ومجلات ومواقع إلكترونية عربية. من مؤلفاته: جبهة النصرة لأهل الشام القاعدة في طبعتها السورية (المجموعة السورية للدراسات والأبحاث، 2013). العلمانية (الرابطة السورية للمواطنة، 2014). الثقب الأسود: أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية (2022)

حكاية ما انحكت

———————–

ثورة سورية تنتصر… و”صيدنايا” يعتقل الفرح/ أيمن الشوفي

17 ديسمبر 2024

حين انتشل فرحٌ مباغت المرثيّةَ السورية المُبكية من زمنها الطويل، فعل ذلك برشاقةٍ مباغتةٍ بدأت من حلب في الشمال، وسرعان ما وصلت إلى محافظات الجنوب السوري خلال أيامٍ معدودات، وهو فرحٌ ثريٌّ وباذخ القيمة، يصعبُ تركه، أو التخلّي عنه، هو فرحُ السوريين بشفاء جسدهم أخيراً من سرطان الأسد. انتصر الجسد الموهن، وهُزم المرضُ الذي لا يرحم، فكان اندحار النظام السوري السابق ورئيسه سريعاً وخاطفاً، حين سرى كالقشعريرة اللذيذة داخل الجسد السوري الآخذ بالتعافي من تحلّله التدريجي، الذي لطالما استعطف العدم ليستريح. لذلك يصعبُ الآن افتعال أيّ نقدٍ أو مشاجرةٍ سياسيةٍ مع الخلفية الأيديولوجيّة والعقائديّة لإدارة العمليات العسكرية، ومكوّناتها الرئيسة من هيئة تحرير الشام، وحركة أحرار الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، حين خاضوا جميعاً حرباً لتخليص سورية من مأزق الأسد المستعصي، حتى ولو ذهب ثوّار تلك الفصائل إلى تسمية حرب تحرير سورية بالجهاد، أو بالفتح، أو بتسميتهم أحمد الشرع بالفاتح، غير أن تلك التسميات ليست مؤذية للعلمانيين واليساريين، طالما أن إدارة العمليات العسكرية لم تستثمر انتصارها العسكري، ثمّ السياسي، بما يُنغّصُ حياة المجتمع السوري المجبول بالتنوّع والاختلاف العقائديّ، والإثنيّ، وحتى الثقافي بطبيعة الحال، بدليل أنّ إدارة العمليات بفصائلها الثلاثة لم تُقدم على فَرْضِ مظاهر سلفيّة داخل المساق الاجتماعي العام للمدن التي حرّرتها من النظام السابق، وهي مدنٌ متنوعةُ المكوّنات، ولا تختبئ داخل منظورٍ واحد متجانس التمثيل، فاختفت هواجسُ المصادرة والإلغاء، التي من المحتمل أنّها نغّصت المزاج العام للمسيحيين، والعلويين، والإسماعيليين، والدروز، وغيرهم، حين كانوا ينظرون بقلقٍ كثير لما سيؤول إليه حالهم بعد وصول الإسلام السلفيّ إلى حكم سورية، ولعلّ الإبقاء على مظاهر الحياة العامّة كما هي قد ساعد كثيراً في تقبّل الخلفية الراديكاليّة للثوار (المجاهدين) وقائدهم (الفاتح)، وهذا كان موضع اتفاقٍ والتزام ما بينهم، ثوّار الشمال السوري، قبل بدء عملية ردع العدوان فجر يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني.

وفي الأرض، لم يفرض المنتصر عسكرياً كما العادة عقيدته على الجغرافيا التي اكتسبها بالفعل العسكري، فأحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) يبدو معنيّاً هذه المرّة بأن يظهرَ رجل سياسة أكثر من أنْ يظهر رجلَ حرب، وإنّ باستطاعته تقديم نفسه داخلياً وإقليمياً ودولياً أنّه شخصيةٌ معتدلة، لا متطرّفة، ومتّزنة في خطابها السياسي، ومتكيّفة أيضاً، وهذا بالضبط ما جعل هذه السلطة الناشئة في سورية الجديدة، تنال قبولاً من الجميع، بمن فيهم الولايات المتحدة، والتي بدأت جدّياً في بحث رفع عقوبات عن سورية، لأجل تمكينها من النهوض مُجدَّداً، ومثلها فعلت الحكومة البريطانيّة، حين أعادت النظر بتصنيفها هيئة تحرير الشام منظّمةً إرهابيةً متطرّفةً، فمن المهم إذاً أن تستنهض إدارة العمليات العسكرية تلك الصورة الجديدة لها، المغايرة لما كان يوحي به سلوكُ جبهة النصرة، أو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وحسناً فَعَلَ الثوار حين حرّروا مدن الساحل السوري من دون ترويع الطائفة العلوية، واستطاعوا الفصل بين العداء للنظام البائد والسكّان المحلّيين الذين عانوا كما باقي السوريين من تسلّطِ ويلات حكم الأسد عليهم، اكتفوا بإحراق قبر حافظ الأسد فقط، في مدينة القرداحة، وإزالة رموز النظام برفقة أهل المكان أنفسهم.

غير أنّ ما زعزع الفرح السوري بملاقاة بلادٍ نظيفة من عائلة الأسد وأعوانه، كان مُعتقَل صيدنايا، ذاك البكاء الذي جاء حافياً من قاع الجحيم ليلطم وجه الجميع، فالأيام التي تلت سقوط نظام بشّار الأسد، كانت تتعثّر دوماً بمشاهد الناجين من الهولوكوست النازيّ لحكم الأسد، أو بمرويّاتٍ حيّة أخذَ يبثّها لنا المُعتقَلون الأحياء عن عذاباتٍ لم تسكتْ في أقبية (وزنازين) السجن الأكثر رعباً في العالم. ذلك كلّه، جاء على هيئة سردٍ بصريٍّ تسابق إلينا ليستردَّ حصّته الغائبة من الانتباه والمتابعة، فأنهك الوجوه الفَرِحة حين ارتطم بها. كنّا نسمع عن وجه معتقلٍ يافع من داريا أذابه السجّان حين مرّر فوقه جهازاً يُلحم به الحديد، أو عن شابٍ صُفّي فوراً بسبب اسمه واسم مدينته (عمر من الرستن)، وعن أجسادٍ ذابت ببطء فوق شمعة تحترق تحتها، وأخرى قطّعتها آلات النجارة. أمّا من يموتون هناك، فإن أجسادهم يسحقها مكبسٌ هيدروليكيّ ضخم، ثمَّ يُذيبُ السجّانون خلاصة الأجساد تلك بالأسيد. رأينا معتقلاً ناجياً بعظام صدرٍ ناتئةٍ من فرط الجوع، ومعتقل آخر يجلس على سرير وكأنهٌ تحصّن به، لا يودُّ مفارقته كائناً شبحياً ظنناهُ مستخلصاً من أحد أفلام هيتشكوك المرعبة. وعن معتقلةٍ روت عذاباتِ اغتصابٍ جماعيّ لها، ولها ثلاثة أطفال أنجبتهم هناك، وعاشوا معها فترة اعتقالها.

اعتقلت أخبار سجن صيدنايا أفراح السوريين بالتحرير، وقادت انتباههم إلى هناك مرّاتٍ عديدة كلّ يوم، ليروا مزيداً من سراديب جهنم، وليسمعوا مزيداً من سرديات الرعب، فيما هم ينتظرون أن تجد فرق البحث باب الجزء الأحمر من السجن، الذي ينفتح على ثلاثة طوابق مخفيّة تحت الأرض، كما كنّا نسمع، بعدما تمَّ تحرير معتقلي الجزء الأبيض (كما يُسمى) من السجن. وتلك أيّامٌ تناوب فيها الفرح والبكاء والدهشة على وجوه الناس، إذ كيف يُخفي ذلك المكان النائي الذي يحتلُّ تلّةً قربُ مدينة صيدنايا (30 كيلومتراً شمال شرق العاصمة دمشق) كلَّ تلك الوحشيّة والساديّة المفرطة، والتي لا تُقاسُ بوصفٍ، ولا تُفهم على الإطلاق، والسجن المذكور افتتح عام 1987 سجناً عسكرياً، لكنّه سرعان ما تحوّل أبشع معتقلٍ سياسي يمكن لعقلٍ بشريّ تخيّله، وبحسب تقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان في يناير/ كانون الثاني من العام 2021، فإن قرابة 30 ألف معتقل فارقوا الحياة هناك بسبب التعذيب وسوء المعاملة والإعدامات الجماعية، وكانت منظمة العفو الدولية قد قدّرت عدد الذين أُعدموا بلا محاكمات قضائية داخل سجن صيدنايا بين سبتمبر/ أيلول 2011، وديسمبر/ كانون الثاني 2015، بما بين خمسة آلاف معتقل و13500 معتقل.

لكن مسيرة آلام السوريين الطويلة انتصرت أخيراً على الطاغية. آن لها أن تفعل ذلك، وفعلت، ودخل الناس القصور الرئاسية في حلب ودمشق للمرّة الأولى، ثمّ خرجوا إلى الشوارع يحتفلون بانتهاء احتلال نظام الأسد للبلاد، ويتناقلون على مواقع التواصل الاجتماعي صور الطاغية الابن وأبيه، وهما بالثياب الداخلية، آن لهم أن يسخروا من، ويضحكوا على الذي استساغ إهانة آدميتهم تلك العقود كلّها التي مرّت، وآن لسجن صيدنايا أن يرتاح أخيراً من تصدير الموت والرعب لنا، “انقلع” الأسد إلى الأبد.

العربي الجديد

————————

كل هذا التوحش في سوريا الأسد/ بشير البكر

الإثنين 2024/12/16

تعجر اللغة عن وصف الخراب الذي صنعه حكم عائلة الأسد ل 54 عاماً في سوريا. كنا نرى ونسمع الكثير عن القمع والتجاوزات والفساد، وحتى الإعدامات الجماعية، التي حصلت في بعض السجون، أو خلال أحداث حماة وحلب عام 1982، لكن ما ظهر من توحش مخفي بعد سقوط النظام في الثامن من الشهر الحالي، لا يكاد يقارن بكل ما سبق. لقد تكشف قدر من الأهوال يحتاج إلى أعوام من العمل من أجل معالجة آثاره المباشرة، وغير المباشرة.

هناك من يتحدث عن أكثر من 100 ألف مفقود في سجون النظام، لم يعثر لهم أحد على أثر. ليس هناك أي معلومات أو تفاصيل حول المصير الذي انتهو إليه. من المؤكد أن الأرض لم تنشق ذات ليلة وتبتلعهم. ومن الصعب أن يكون النظام نقلهم إلى جهة أخرى قبل أن ينهار. وقد أمضى الآلاف من أهالي هؤلاء عدة أيام، وهم يتنقلون من سجن إلى آخر، يبحثون عنهم. لقد جاؤوا من مختلف المحافظات السورية يفتشون عن ذويهم الذين اعتقلهم النظام في فترات مختلفة، بعضهم مضى على غيابه اكثر من اربعين عاماً، وهناك عدد كبير ممن تم اعتقالهم خلال المظاهرات التي شهدتها سوريا في أعوام الثورة الأولى. ويبدو أن الكثير من الشباب الذين لم يفلحوا في الهرب من المناطق التي سيطر عليها النظام، صاروا في عداد المفقودين.

كان من الصعب استيعاب ما جاء من تفاصيل عن الرعب في رواية مصطفى خليفة “القوقعة”، أو كتاب الشاعر فرج بيرقدار “خيانات اللغة والصمت” عن تجربة 16 عاما من السجن، واعتبر الكثير منا أن خيال الكاتب فعل فعله ليبني من تفاصيل عادية أساطير عن التعذيب والإذلال وتحطيم المعنويات في أقبية التعذيب لدى اجهزة المخابرات أو السجون التابعة لها، وخاصة سجون تدمر وصيدنايا وفرع فلسطين والمخابرات الجوية.

حين التقينا بعض الأحياء الذين عادوا من ذلك العالم، الذي يحده الموت من كل الجهات، أحسسنا بأننا نلتقي مع بشر ظفروا بحياة ثانية، وكثيراً ما حدثني السجين السابق محمد برو، الذي نجا مصادفة من الإعدام في سجن تدمر عن فاصل في زمنه بين حياتين، ما قبل وما بعد النجاة من الإعدام، وسجل في كتابه “ناج من المقصلة”، تلك المشاعر المختلطة لفتى حين ساقوه المشنقة في ذلك الصباح، وشفع له أنه حدث تحت سن ال18، فأعادوه الى الزنزانة، وبقيت في ذهنه حتى اليوم، صور شركاء سجن تدمر، الذين قضى معهم عدة أعوام، وهم معلقين على حبال المشانق في الساحة العامة للسجن.

أكثر من 100 ألف مفقود اختفوا كليا. صحيح أن أهاليهم يمارسون كل أصناف الضغط من أجل العثور عليهم، وهناك مطالبات من أجل إحضار مدراء السجون وتسليم الخرائط الخاصة ببعضها، وخاصة الأقبية السرية الموجودة تحت الأرض، كما هو الحال في سجن صيدنايا، الذي يلقبونه بالأحمر كناية عن الإعدام، لكن عمليات البحث التي قامت بها فرق الدفاع المدني لعدة أيام، تفيد بأن نسبة الأمل ضعيفة جدأ في العثور على سجناء آخرين ناجين، بعد أن تم إخلاء السجون كافة، في حلب وحماة وحمص ودمشق، التي تحتوي على أهم السجون والأفرع الأمنية.

تبين أن السجون ليست مخصصة لفئة بعينها، فهي تضم الشباب وكبار السن وحتى الأطفال، الذكور والإناث، ومن كافة أنحاء سوريا، واعدادأ قليلة من اللبنانيين والأجانب، من بينهم الصحافي الأميركي اوستن تايس، الذي كان معتقلا لدى القوى الجوية منذ عام 2012، وقالت والدته قبل سقوط النظام أن لديها معلومات بأنه على قيد الحياة، ولكن لم يظهر له أثر بعد تبييض السجون، وحسب تقديرات بعض المتابعين فإن الأحياء الذين تم العثور عليهم على قيد الحياة هم ثلاث فئات. الأولى تضم اولئك الذين اعتقلوا بعد عام 2018، والثانية تتكون من المبرمجين على لوائح الإعدام، وقد صادف أن 50 من هؤلاء كان مقرر إعدامهم نهار سقوط السجن. والثالثة من المنسيين والمهملين وفاقدي الذاكرة، الذي نسوا اسماءهم وعناوينهم وزمان وسبب اعتقالهم. وهؤلاء فئة من المرضى، الذين فارق بعضهم الحياة مجرد أن خرج من السجن ورأى الضوء في الخارج، واستنشق الهواء الصافي، وهناك حالات أخرى حركت قدرا من ردود الفعل الغاضبة، ومن هؤلاء الشخص الذي أفرج عنه من سجن صيدنايا، ونُقل إلى الأردن على أساس انه المعتقل الاردني أسامة البطاينة، الذي اختفى عن الانظار في سوريا عام 1986، وبعد أن نُقل للاردن قامت عائلة البطاينة بفحض الحمض النووي، وتبين أنه ليس ابنها، واعادوه إلى سوريا. وعلقت مصادر أردنية على الحادثة بالقول إن البطاينة ليس الحالة الوحيدة لمواطنين أردنيين اختفوا في سوريا. فقد اعتقل النظام السوري آلاف الأشخاص خلال العقد الأخير السورية، حيث يُعتقد أن العديد منهم فقدوا في السجون، دون أن تتمكن عائلاتهم من معرفة مصيرهم.

وحين كان يأتي الحديث عن المسؤولين عن الانتهاكات في العقدين الأخيرين، يتم التوقف أمام رمزين كبيرين للجريمة من المخابرات الجوية، هما اللواء جميل حسن والضابط عبد السلام محمود. وحسب بيان وزارة العدل الأميركية فهما متورطان بممارسة معاملة قاسية وغير إنسانية مع معتقلين مدنيين، وانهما جلدا وركلا وصعقا بالكهرباء وأحرقا ضحاياهم، وقاما بتعليقهم من معاصمهم لفترات طويلة من الزمن؛ فضلاً عن تهديدهم بالاغتصاب والقتل؛ وإخبارهم زوراً أن أفراد أسرهم قُتلوا.

المدن

——————————-

مستقبلٌ لا يُصنع عبر وسائل التواصل/ فوّاز حداد

17 ديسمبر 2024

لعبت وسائل التواصل دوراً في الحدث السوري منذ عام 2011، إلى هذا الفاصل الأخير الذي تجلّى في سقوط النظام، وكان لها تأثير كبير في نضال الشبّان في التنسيقيات، كما أنها احتوت نزاعات الأطراف والتيارات مع بروز جائحة الذباب الإلكتروني، على الرغم من الرقابة خلال الثورة والحرب.

بعد صدمة انهيار نظام الأسد ودخول قوات المعارضة المسلّحة دمشق، باتت مسرحاً لبثّ الذعر والخوف كذلك الأمل والرجاء. فقد دأب مثقّفون يساريون راديكاليون، إضافة إلى ليبراليين محنّكين، ومعهم بضعة حداثيين أشدّاء، على شنّ حملة من الانتقادات اليومية لا تهاون فيها، تختلط فيها الحقائق بالشائعات والأكاذيب، مغلّفة بالسخرية من “هيئة تحرير الشام” و”إدارة العمليات العسكرية”، والتركيز مؤخّراً على حكومة تصريف الأعمال، وما تُصدره من قرارات.

فحوى الانتقادات أن الحكومة من لون واحد، من ذوي اللحى، لا يُخفون سلفيّتهم، بمعنى ما متطرّفون، بالتالي شُبهة الإرهاب واردة، إن لم تكن ملتصقة بهم، عدا أنهم مطلوبون من أميركا. ثم إن وزير العدل يُريد إرسال القاضيات إلى بيوتهنّ، وفرض الحجاب على النساء، وربّما البُرقع، وإجبار الناس على الصلاة، وتقديس الأشخاص، والتلويح بعلَم “داعش”، كما المفروغ منه، عدم قدرة الحكومة على إدارة بلد معقّد بحُكم أديانه ومذاهبه وتنوّعه العِرقي، من دون أخذ حساسية موقعه بالحسبان، وكثرة الطامعين فيه، وتمتُّع الحكومة بخبرة لا تصلح لسورية المتنوّعة بالمقارنة مع إدارة إدلب المتجانسة سنّيّاً… ما سيأخذ البلاد إلى المجهول، المقصود بالمجهول هو الجحيم، الذي شهدنا بعضاً منه كمثال في “سجن صيدنايا”، وكان بمثابة التحذير.

جرت محاولات لنفي وساوس المثقّفين من ناحية ألّا تفكير لدى مسؤولين في الهيئة باتخاذ إجراءات متطرّفة، أو فرض الحجاب، ولئلّا يُظنّ أنهم يعملون على دولة شرعية، أوقفوا الأناشيد الدينية من البثّ التلفزيوني، وأزالوا عَلمَ الهيئة، وتعهّدوا بعدم إجبار أحد على تغيير معتقده، أو إرسال القاضيات إلى بيوتهنّ، وحظروا وضع الصور على السيارات، كما أنّ أحمد الشرع بالذات أكّد أنه “لا يحقّ للسُّلطة أن تفرض على الناس العبادة، ولا تُريد تحويل المجتمع إلى مجتمع منافق، إذا رآنا صلى، وإذا لم يرنا لم يُصلِّ”.

لم يقبل مثقّفو وسائل التواصل الحذرين عُذراً، وهو من حسن الفطن، حسب زعمهم أن الهيئة تتصرّف بخُبث وذكاء، وتعلن ما يريد الغرب سماعه. ومن الغباء اعتقاد أن سورية العهد الجديد ستكون بلا سجون وبلا تعذيب وبلا طائفية.

حسناً، لن نأخذ بأقوال السلطة وإنما بأفعالها، لكن يبدو حتى الآن أن أفعال السلطة لم تتناقض مع أقوالها، فكان الردّ، إذا لم تتناقض اليوم فسوف تتناقض غداً. وطاولت الاتهامات الهيئة بأنها لن تقصّر في التطهير العِرقي والطائفي، وقد تؤدّي إلى حروب إبادة للأقليات المتمرّدة، مع أنّ السلطة الجديدة أكّدت عدم الانتقام والثأر، فالمحاكم قادمة والعدالة قادمة. لكنّ مثقّفي الفيسبوك في نقاشاتهم طالبوا وللضمانة بسورية اتحادية غير عربية وغير إسلامية، وربما تتبرّأ من الإسلام.

ولئلّا نُوحي بأن النقاشات دارت بين مثقّفين فقط، فقد تدخّل فيها الكثيرون من الذين وجدوا في أنفسهم الكفاءة، وكانت عبارة عن مخاوف لهم الحقّ في طرحها، لكنها لم تكن مفيدة، إزاء مثقّفين اتّخذوا موقف المنتقد المحنَّك، وكشفوا عن بصيرة حادّة، حول هؤلاء القادمين من الشمال، من “الريفيّين الأغرار المتأسلمين”، ما أدراهم بالثقافة والعلمانية والديمقراطية، واليسار، واليمين والحداثة؟

ومثالا عن تأخُّرهم وتأخُّرنا، يعطينا مثقّفونا، درساً بما يعمل عليه المثقّفون في الغرب، من ناحية أن لديهم زاداً لا ينضب من القضايا: قد ينبذون الديمقراطية إلى نظام كوني أكثر ليبرالية، بالنظر إلى أنهم حقّقوا مأثرة زواج المثليّين وطرحوا قضايا الجندر، ولا يكفون عن ابتداع الحداثة وتجديدها، بينما نحن عالقون في الحجاب والمآذن والبراقع واللحى… والإسلام بكلّ مظاهر تخلّفه، لا يُمكن اللحاق بالغرب إلّا بتغيير المجتمع على حدّ قول أدونيس. وليته يعفينا من تعليماته ونصائحه، كان الأَولى أن يقولها للرئيس اللصّ والمُجرم.

لنعُد إلى قصتنا السورية، بعد أكثر من نصف قرن من القمع المطلق، يستعيد الشعب الكرامة، والإحساس بالحرّية، لا تسوّل للخبز والكهرباء والوقود… والأجدى في هذا الصدد، تعليم شعبنا الدفاع عن حقوقه أمام السلطة الجديدة، أما مثقّفونا فيحتاجون إلى تأهيل، ليدركوا أنّ الحرّيات ليست معطىً جاهزاً، بل معطى يُنتزع من الواقع.

سورية موعودة بانتخابات نيابية خلال عام 2025، ستحصل تحت إشراف دولي، يجب الاستعداد لها، بوسع أصحاب الرؤى الحضارية والسياسية والثقافية، خصوصاً من هُم في الخارج العودة إلى البلد ونشر أفكارهم وتطلّعاتهم وتشكيل كتلة وازنة مع مثقّفي الداخل يخوضون بها الانتخابات. وإلّا كان ما يتحدّثون ويكتبون عنه لا يزيد عن تلك الثرثرة المَرضية النرجسية التي ابتُلى بها أنصاف المثقّفين، والتي أدّت من قبل إلى هزيمة اليسار العلماني الملفّق، فالناس لم يصبهم من يساريته إلا الادّعاء، ومن علمانيته سوى غضّ النظر عن جرائم النظام.

يستمتع المثقفون بإطلاق أجمل الأفكار وأسوأ الاتهامات. لم يدركوا حتى الآن أن المجتمع السوري بحاجة إلى أكثر من الادّعاءات ولو كانت رائعة، يحتاج إلى من يُحرّره من مخاوفه، وإلى بناء دولة مدنية، بدلاً من تداول الشائعات، والتحريض ضدّ إجراءات النظام الجديد، إلى حدّ الاعتقاد بأننا كنّا في جنّة الأسد، ما قد يدفعنا إلى التحسُّر على فقدانها. لنتذكّر، من كانوا يحكمون سورية ما يزيد عن نصف قرن، لا يمكن وصفهم إلا بالمجرمين واللصوص، هل هناك وصف آخر؟

إلى الذين يريدون الإسهام في صناعة دولة مهما كان شأنها؛ مدنية ديمقراطية علمانية ليبرالية. تعالوا إلى سورية، لا يُصنع المستقبل من بُعد. شاركوا فيه بدلاً من مصادرته والتشويش عليه باصطناع المخاوف والأكاذيب.

وللعِلم، إذا كان الانتقاد مجرّد حرفة، بوسعنا انتقاد أيّ شيء.

* روائي من سورية

العربي الجديد

————————-

قراءة السكّر وقراءة السياسة!/ محمد الرميحي

الثلاثاء، ١٧ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤

لو كان لديك جهازان لقياس السكّر لربما وجدت أنهما يعطيانك قراءتين مختلفتين لنسبة السكّر في دمك، فما بالك بقراءة الأحداث السياسية، والتي قد يكون لها أكثر من قراءة تعتمد على خلفية القارئ وأيضاً على أهوائه وانتماءاته.

من هنا صعوبة قراءة المشهد السوري، والذي في عشرة أيام عاصفة انقلب من مكان إلى مكان.

ربما لا يختلف كثيرون على مدى العسف الذي وقع على السوريين، وما تبدّى مما شوهد في السجون وسمع من قصص للناجين، ما تشيب له الولدان. كانت مرحلة قهر وإذلال لا مثيل لها في التاريخ العربي الحديث، ولا يمكن تبريرها بأي شعار أو أسباب. لقد كان قمعاً منظّماً وممنهجاً في كسر المواطن وإذلاله.

الإشكال الذي يواجه أي مراقب هو ماذا بعد تلك الحقبة المظلمة؟

الجميع ينظر ويراقب، ولكن كل ذلك التفاؤل هو “تفاؤل بحذر” والرغبة في تخطّي المرحلة إلى مرحلة جديدة فيها الحدّ الأدنى على الأقل من ضمان حقوق الإنسان والحرّيات العامة وسيادة القانون النابع من الناس. إنها مرحلة انتقال صعبة بل وخطيرة، يحبس كثيرون أنفاسهم من أجل انتظار ما يسفر عنه الوضع الآتي في سوريا.

تجربة “الإسلام الحركي” في المنطقة هي باختصار تجربة فاشلة، تورث الدم والخراب وضعف الأوطان. لقد مرّ العالم العربي بمجموعة من تلك التجارب القاسية، والتي ورثت حتى اليوم صراعات لم تخمد. في السودان وبعد سنوات طويلة من حكم “الإسلام الحركي” انتهت بحرب أهلية لا يعرف أحد متى تنتهي وكيف سيكون السودان بعدها إن بقي في السودان نبض!

وفي مصر رغم الفترة القصيرة، إلّا أن “الإسلام الحركي” ظهر فشله في إدارة الدولة، وعانت مصر لفترة من نتائج تلك الفترة القصيرة، بل واستمر البعض في بيع الأوهام من بقايا الإسلام الحركي.

أما في تونس فقد كان الفشل واضحاً جلياً، دخلت بعده تونس في متاهات سياسية واقتصادية ضخمة.

تلك أمثلة من أمثلة أخرى حولنا تقول لنا إن فكرة الخلط بين السياسة ومعتقدات الناس الدينية، هي فكرة خطرة، فالمجتمعات تُدار اليوم بالسوسيولوجيا (أي معرفة التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية) وليس بالأيديولوجيا مهما لبست من شعارات، لأن تلك الأيديولوجيات تخضع لتفاسير كثيرة واجتهادات من أزمان ماضية، وبعضها متناقض في كيفية إدارة المجتمع، وإن كانت تبدو برّاقة للبعض.

حتى الساعة تبدو إشارات “غير مريحة” آتية من دمشق، تختلط بإشارات مطمئنة نوعاً ما. ومن المبكر تقدير موقف نهائي لما يحدث في سوريا، إلّا أن ما عانى منه السوريون من نظام قمعي وشمولي لن يرتضي من جديد الدخول في تجربة مشابهة في العمق، وقد تكون مختلفة في العنوان، لذلك فإن المصارحة مع أهل السلطة الجديدة واجبة، فالعالم لن يقبل بحكم متشدّد وذي أجندة إقصائية وشعارات برّاقة وعدم كفاءة إدارية على الأرض.

قد يرى البعض أن الوقت ليس وقت الحكم النهائي على ما يحدث، وقد يكون ذلك صحيحاً، إلّا أن رفع علامات الحذر وتوخّي طريق السلامة هو الأفضل منذ الساعة، لأن المهمّة كبيرة وخطيرة، وسوريا بلد في قلب الجغرافيا العربية والشرق أوسطية. عمود خروجه من الأزمة الطاحنة هو ائتلاف واسع من السوريين على قاعدة دستور حديث، وخطط اقتصادية متّسقة مع العصر.

إنه طريق صعب، وقد خرجت التجربة العربية في القريب بأن ليس كل ما جاء بعد الأسوأ يكون بالضرورة أفضل، فقد تحبس الأفكار الأوطان، بدلاً من جعل الأوطان منبعاً للأفكار.

إن تفوقت في العهد الجديد فكرة الأيديولوجيا الاقتصادية والسياسية على العقلانية الاقتصادية، والسياسية، وعدم فهم المتغيرات كما هي، فإن النظام الجديد سوف يصطدم في وقت ما بالناس، وبالتالي يعني أن ما تمّ من تضحيات لم تغير إلّا إيديولوجيا شمولية بأخرى أيضاً صلبة، وغير قابلة للتطبيق.

النهار العربي

—————————-

لماذا تنهار الجيوش العربية بهذه السهولة؟/ توفيق رباحي

17 كانون الأول 2024

نكتة: أثناء انتهاء حرب تحرير الكويت في بداية عام 1991، وعودة ما تبقى من الجيش العراقي إلى بلاده منتكسا، شاهد جندي من العائدين، وهو أدرى بحجم النكبة، الحشود في حالة هستيريا تحتفل وتهتف بحياة صدام حسين، فبدأ يلطم ويكرر: يا ويلي على أمريكا مسكينة، يا ويلي على أمريكا مسكينة! سحبته المخابرات إلى أحد فروعها وسألته عن سر حسرته على أمريكا. قال: إذا احنا انتصرنا وصار فينا هيج، شلون أمريكا! (إذا نحن المنتصرون وتكبدنا كل هذا فكيف حال أمريكا؟).

تختزل هذه النكتة واقعا مؤلما انتهت إليه الجيوش العربية: منتكسة في الواقع ومنتصرة مزهوة في الشعارات والدعاية الرسمية.

بعد مرور عقدين ونيّف من تلك النكسة، في صيف 2014، وجد الجيش العراقي نفسه في موقف مشابه وهو يسلِّم مدينة الموصل العريقة ومناطق شاسعة من العراق لتنظيم «داعش» من دون قتال. الاستسلام هذه المرة كان برعاية رئيس الوزراء نوري المالكي وزمرته من الطائفيين الفاسدين.

وفي 2011 ذاب ما كان يسمى الجيش الليبي واختفى قبل بداية معركة سقوط نظام القذافي ومعه ليبيا كلها.

اليوم سلَّم الجيش السوري البلاد لفصائل معارضة قدمت من الشمال كأنها في نزهة سياحية.

يعطي الواقع العسكري العربي الانطباع بأن الجيوش العربية خارج الخدمة رغم أنها موجودة ومدجّجة بالأسلحة وبالعنصر البشري، وصدور قادتها مثقلة بالنياشين والأوسمة.

فلماذا تستسلم هذه الجيوش بهذه السهولة؟ خلال العقود الثلاثة الأخيرة تغيّر العالم كثيرا. أبرز معالم التغيير كانت نهاية الحروب النظامية وبروز أشكال أخرى من الحروب والأعداء. آخر حرب نظامية خاضها جيش عربي كانت الحرب العراقية الإيرانية التي انتهت في صيف 1988 بحصيلة كارثية. كانت المنطقة العربية من الفضاءات الأكثر تأثرا بالتغييرات. كان نصيبها التغيير نحو الأسوأ وغالبا ما كانت الحروب والصراعات الدموية أبرز أدواته، فوجدت الجيوش العربية نفسها طرفا أساسيا في تلك الدوامة.

ترافق التغيير مع متاعب اقتصادية ترتب عنها قلّة التدريب وغياب العقيدة وتراجع ثقة الشعوب في مؤسسات الحكم ومن ضمنها الجيوش. في المقابل تنامت بين مكونات أجهزة الحكم ثقة عمياء في الجيوش وقوى الأمن وإيمانا بقدرتها على فرض الحلول.

هنا تكشّفت عيوب الجيوش العربية وتبيّن أن إحدى أكبر معضلاتها عجزها عن التعامل مع الصراعات غير التقليدية التي فُرضت عليها (أو اختارت هي خوضها). أصبح على كاهل هذه الجيوش أن تقاتل «عدوا داخليا» تارة معارضة مدنية سلمية، تارة تنظيمات جهادية وتارة ثالثة خليط من الإرهاب والتهريب.. وهكذا. فكان الفشل الذريع.

تُرجم الفشل في التكيّف مع الواقع الجديد في هذا: لا استطاعت الجيوش تقبّل مطالب التغيير الديمقراطي السلمي، ولا اكتفت بالبقاء على الحياد عندما تعلّق الأمر بهذه المطالب، ولا خاضت القتال بنجاح عندما زُجَّ بها في حروب ضد فصائل وتنظيمات مسلّحة.

لو تسأل ضابطا عربيا سيرد بأن جيشه ضحية وبأنه دُفع إلى الواجهة ليكنس وسخ المدنيين ويصحح تقصيرهم ويرتب فوضاهم. طبعا هذه مزاعم مبالغ فيها، لكن الإنصاف يتطلب الإقرار بأن حالة الوهن التي مسّت الجيوش العربية ليست معزولة، وإنما انعكاس لصورة أكبر لانتكاسة الدول العربية على كل الأصعدة. فمن غير المنطقي أن يفشل السياسيون العرب ويغرقوا في ارتكاب المظالم والفساد ثم ينتظر الناس من الجيوش أن تكون مثالية ناصعة البياض.

لكن لأن الجيوش العربية هي ما هي بما تمتلك من قوة وتقديس ورمزية، من الطبيعي أن يُسلّط عليها الضوء أكثر وتأخذ مسؤوليتها حجما أكبر من الآخرين. كما أن استيلاءها على الكثير من الأدوار في الحياة العامة يجعلها المادة المفضلة في أي نقاش عن مسؤولية الإخفاقات، وتنال النصيب الأكبر من العتب والاتهام.

انهيار الجيش السوري في الأسابيع الماضية من حجم فساد قادته وفشلهم (الجزاء من جنس العمل). صُدم وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي من عجز الجيش السوري عن التصدي للمعارضة. وعندما زار الأسد في الأيام القليلة التي سبقت الهروب وجده منقطعا عن الواقع عاجزا عن تقديم أجوبة مقنعة عن هروب الجيش في حلب وحماة.

الحقيقة أن الجيش السوري نفّذ في تلك الأسابيع التاريخية مهمة مؤجلة منذ 2012. لقد تأخر انهيار نظام الأسد وتسليم دمشق اثنتي عشرة سنة بفضل إيران وحزب الله وسلاح الجو الروسي، وليس بفضل أداء الجيش. اليوم وقد احتاجت إيران إلى مراجعة أوراقها ووهن حزب الله وأعادت روسيا حساباتها، أدرك الجيش السوري أنه لا يملك إلا تسليم «الأمانة» كما كان من المفروض أن يفعل في 2012. لذلك أخلى المقرات العسكرية بأسرارها وعتادها مثل فوج سياحي يُخلي غرفه الفندقية بعد انتهاء مدة الحجز، وغادر حتى قبل أن يصل العدو متخليا عن مدنيين لطالما أجبرهم على الهتاف له ولقائده.

كان هروبا مُذلاًّ لا يضاهيه في الذل إلا هروب بشار الأسد نفسه. من أكثر ما شوهد على الأوتوستراد الدولي حلب ـ دمشق في تلك الأيام، المعدات والألبسة والأكسسوارات العسكرية التي تخلى عنها الجنود والضباط في هروبهم.

تخلّى الأسد عن جيشه فردَّ له (الجيش) الكرة بما يليق به. لم يهرب الجنود والضباط لأنهم جبناء، ولكن لأنهم فقدوا الثقة في رئيسهم وفي قادتهم الذين زجّوا بهم في حرب عبثية ضد إخوانهم وأبناء وطنهم. هربوا لأن الأسد حوّل جيشه إلى ميليشيا بلا روح ومجردة من أيّ عقيدة أو رغبة في القتال. وحوّل جنوده إلى غرباء في وطنهم يأتمرون بأوامر الضباط الروس، يسخر منهم المستشارون الإيرانيون ويزدريهم مقاتلو حزب الله.

كان الانهيار نفسيا وأخلاقيا قبل أن يكون عسكريا. وهو طبيعي جدا في جيش تفعل العائلات المستحيل لمنع أبنائها من التجنيد الإجباري فيه ولا يزيد راتب ضباطه عن 40 دولارا في الشهر. ونتيجة منطقية وحتمية للقطيعة بين الجندي والقائد الأعلى ولتحميل الجيش أكثر مما يتحمّل: هذا ما يحدث عندما يُجبَر جنود وضباط على الهتاف «بالروح وبالدم نفديك يا بشار» وليس «.. نفديك يا سوريا» وعندما يُدفع الجندي إلى تصديق أن الدفاع عن الطائفة والعشيرة أهم من حماية سوريا الدولة.

من المؤسف أنه لا يوجد ما يدعو للتفاؤل بأن الجيوش العربية الأخرى ستكون في وضع أفضل إذا ما تعرّضت لامتحانات مماثلة لامتحانات الجيش السوري (والعراقي). طالما لا يزال سياسيون وقادة عرب مصممين على الوقوف في وجه قطار التغيير، يؤمنون بأن الأسد صمد 13 سنة لأنه «شاطر» ويستقبلونه بالأحضان دون حدس سياسي وبلا قدرة على قراءة سليمة للمستقبل، فمن الصعب أن تكون هناك فسحة أمل.

كاتب صحافي جزائري

القدس العربي

———————-

هل تم تقطيع أوصال المحور الإيراني؟/ مثنى عبد الله

17 كانون الأول 2024

قال المرشد الأعلى الإيراني في كلمة نشرها موقعه الرسمي، (يجب أن لا يكون هناك شك أن ما حدث في سوريا نتيجة لمخطط أمريكي ـ صهيوني)، وأضاف (نعم دولة مجاورة لسوريا قامت بوضوح بدور في هذا الأمر، ومستمرة في القيام بذلك ـ يمكن للجميع رؤية ذلك ولكن المتآمر الرئيسي ومركز القيادة يكمن في أمريكا والنظام الصهيوني). لكن قبل ذلك وبعد ساعات من سقوط نظام بشار الأسد قالت إيران، إنها تتوقع استمرار العلاقات مع دمشق بناء على نهج بعيد النظر وحكيم للبلدين. فهل كلام المرشد صُراخ متوجّع من فداحة الخسارة؟

يبدو أنه لم يكن أي أحد في طهران يتوقع سقوط بشار الأسد، على الرغم من أنه ومنذ الصيف الماضي كان العديد من الصحف الغربية تكتب، بأن المعارضة تتجه إلى القيام بعمليات عسكرية، تستهدف إسقاط النظام القائم في دمشق.

ويمكن أن يكون صحيحا ما يقوله المرشد عن تحذيرات إيرانية لبشار الأسد بوجود مؤامرة تُحاك لإسقاطه، لكن ليس صحيحا القول بأنه تجاهل تلك التحذيرات، بل الصحيح هو أنه كان مطمئنا الى أن وجود الفاعلين الروسي والإيراني الى جنبه هو ما سيجنبه السقوط، فهما من أعطاه عمرا إضافيا في السلطة منذ عام 2011 على أقل تقدير إلى يوم سقوطه. لكن جهله المطبق جعله لا يرى أن الحرب في أوكرانيا قد احتكرت القوة الروسية، وأن الضربات الموجعة التي تلقاها حزب الله، أفقدت إيران القدرة على التنفس خارج خريطتها الجغرافية. وهنا حصل الاختراق الذي بتر الذراع الآخر لطهران، ففي الوقت نفسه الذي تم فيه وقف إطلاق النار في لبنان في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، بدأت التطورات الميدانية في سوريا في التسارع، حيث سيطرت المعارضة على مناطق وبلدات عدة في ريف حلب في غضون ساعات قليلة. في هذه اللحظة كان الجيش السوري لا يزال يقاتل، وروسيا وإيران موجودتان في الميدان أيضا، لكن روسيا شعرت بأن الجيش السوري ليس على ما يُرام، وأن عملياتها الجوية تحتاج إلى قوات تمسك الأرض لكنها غير موجودة، ما اضطرها في اليوم التالي إلى الطلب من الحكومة السورية بالحفاظ على الجبهة والقتال بصورة أكبر، من أجل إعادة السيطرة على المدن والبلدات التي سقطت. لكن المفاجأة جاءت بدخول قوات المعارضة إلى حلب بسهولة فائقة.

وعلى الرغم من أن بشار الأسد ما زال في عنجهيته ويقول إن ما يسميه الإرهاب يجب التعامل معه بالقوة، لكن كلا من موسكو وطهران أدركتا المأزق الخطير الدائر في الميدان، فلم يجدوا أمامهم سوى التوسل بالطريق السياسي، علّه ينقذ حليفهم وينقذ سمعتهم أيضا، وقد بادر الطرفان في محاولة للحديث مع تركيا من أجل التوصل إلى حل سياسي، على اعتبار أنها هي الداعم الرئيسي للمعارضة السورية. وطرحت طهران مبادرة اجتماع، لكن بدا واضحا الاختلاف بين الأطراف المجتمعة على الوصول إلى آلية مناسبة للحل، ما اضطر بوتين إلى الاتصال هاتفيا بالرئيس التركي أردوغان، في محاولة لإيجاد مخرج دبلوماسي للأزمة في إطار أستانا، لكن يبدو أن أنقرة رأت بشكل واضح عدم وجود إرادة للقتال بالنسبة لقوات النظام السوري، في حين أن المعارضة حققت مكاسب كبيرة على الأرض، ما جعل البحث عن مخرج دبلوماسي للأزمة لا معنى له في ظل نجاح الميدان. وهنا تغيرت نبرة التصريحات لكل الأطراف. فطهران قالت إننا مستعدون لإرسال قوات إلى سوريا في حال طلبت منا ذلك الدولة السورية. وتركيا بررت موقفها بالقول إننا اقترحنا على بشار الأسد اللقاء من أجل وضع حد للأزمة السورية وتطبيع العلاقات، لكنه رفض. وهنا يبرز السؤال الأكثر إلحاحا وهو هل تخلت طهران عن عاملها في دمشق بشار الأسد؟

إن الضربات القاسية التي تلقتها إيران مباشرة وقطع ذراعها في لبنان، كانت هي الكابح لدورها في الحفاظ على بشار الأسد. كما أن خطأها الاستراتيجي كان هو تعاملها مع كل الوضع الجديد الناشئ بآليات قديمة. فمنذ عام 2003 عندما حصل غزو العراق إلى عام 2023، كانت طهران تتعامل مع الولايات المتحدة على طريقة المُساكنة. بمعنى أنهم يختلفون في أكثر من مكان، لكنهم يسيرون على حافة الهاوية وصولا إلى اتفاق يحقق مصلحة كل طرف. وبقيت طهران تعتمد هذه المقاربة حتى واقعة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث كان واضحا أن هناك تفاهم إيراني أمريكي لضبط الوضع في المنطقة وإبعادها عن الوصول إلى حالة الانفجار الكبير. الأمريكيون يضبطون السلوك الإسرائيلي، والإيرانيون يضبطون سلوك أذرعهم. لكن ضرب إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق كان إيذانا بأن الولايات المتحدة قد تخلت عن هذا الاتفاق مع طهران، لذلك صرّح عبداللهيان وزير الخارجية الإيراني السابق، بأن مسؤولية ما حدث تقع على الولايات المتحدة، وهو دليل على وجود ذلك الاتفاق بين الطرفين، ثم جاء اغتيال إسماعيل هنية ليتبعه تصعيد إسرائيلي غير مسبوق ضد إيران وأعوانها، ومع ذلك بقيت طهران تتعامل بالآليات القديمة، وما يسمى سياسة الصبر الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، على الرغم من دخول المنطقة مرحلة جديدة، لكن عند تفجيرات وسائل الاتصال المستخدمة من قبل ذراعها حزب الله، ثم استهداف حسن نصرالله وقيادات الصف الأول والثاني في الحزب، والتهديد باغتيال المرشد وتغيير النظام، حينها أدركت طهران عطب سياستها وفشلها في فهم طبيعة المرحلة الجديدة، وهو إدراك جاء متأخرا كثيرا. وهنا حاولت العودة باختيار أساليب ووسائل جديدة تتناسب مع طبيعة المرحلة، لكنها وجدت نفسها قد فقدت المبادرة وتعرضت هي ومحورها إلى ضربات قاصمة، تحتاج إلى وقت طويل للتعافي منها والعودة مرة أخرى الى ممارسة دورها المعروف في المنطقة.

إن الحديث الإيراني عن ما يسمونه الهوية الإرهابية للحكم الجديد في سوريا، إنما هو قفز فاضح على حقيقة دورها في صنع ميليشيات إرهابية جابت المنطقة وارتكبت جرائم فادحة في العراق ولبنان واليمن وسوريا. ألم يكن ذراعها حزب الله مُصنّفا على قائمة الإرهاب في العديد من الدول؟ أليست ميليشيات الزينبيون والفاطميون وميليشيات عراقية ميليشيات إرهابية أيضا؟ من الذي قام بحصار داريا والمعظمية السوريتين؟ من الذي قتل النساء والأطفال في القُصير ورفع الشعارات الطائفية فيها؟ أليست هي إيران وأذرعها الإرهابية؟

المشكلة أن إيران هي من صنعت الميليشيات الإرهابية في المنطقة واستخدمتها كوسائل في صنع سياساتها الخارجية، وكانت تظن أن سياسة المُساكنة مع الولايات المتحدة سوف تستمر، حتى تحقيق كل مصالحها في السيطرة على كل دول الجوار، واليوم انتهى ذلك التعايش وبُتر ذراعها الآخر والأهم في دمشق.

كاتب عراقي

العربي الجديد

———————–

هل جنبت كثرة أجهزة الاستخبارات بشار الأسد السقوط؟/ حسين مجدوبي

17 كانون الأول 2024

قال الممثل الكوميدي السوري دريد لحام في وصف القمع الذي شهدته سوريا، إن “فروع المخابرات في سوريا كانت أكثر من المدارس». قد نختلف كثيرا مع هذا الفنان الذي كان من المدافعين عن نظام الأسد والآن يغير موقفه بعد نجاح الثورة، لكنه يلقي الضوء على أهم معضلة في العالم العربي وهي نوعية بوصلة المخابرات بين الدفاع عن الأمن القومي للبلاد، والدفاع عن الحاكم الذي لا يجسد دائما المصلحة العليا للوطن، بل الشخصية.

واعتمد نظام بشار الأسد في سوريا منذ عهد أبيه حافظ الأسد على أجهزة أمنية واستخباراتية متعددة، رافقتها أساطير الرعب، بسبب ما شاع عنها من ممارسة أنواع التعذيب والاغتيال والتشهير ضد المطالبين بالعيش وسط الكرامة ووسط أجواء الحرية. وسارت هذه الاستخبارات من كثرتها مثل مجموعة من الفرق التي تشكل بطولة رياضية، حيث تتبارى في ما بينها حول من يعتقل أكثر ومن يعذب أكثر ومن يغتال أكثر، ومن سيقدم تقارير لإقناع الرئيس بالخطر المتربص في كل «زنقة زنقة» بكرسي السلطة الذي يجلس عليه. وتبقى المفارقة الكبرى أن جحافل المخابرات لم تحمِ بشار الأسد من انهيار كرسي عرشه وتحقيق حلمه، حيث كان ينوي التحول إلى ملكية بتوريث العرش لابنه.

ولم تنفع كثرة أجهزة المخابرات في رسم خطة لاستعادة الجولان من الاحتلال الإسرائيلي، لكنها أطلقت النار على الشعب السوري وليس على إسرائيل. ومن المفارقات الأخرى، أن مديري مختلف المخابرات كانوا قد أعدوا سرا خططا للهروب من سوريا، بينما كانوا يبيعون في العلن صلابة النظام وقوة بنيانه السياسي. وبالفعل هرب أغلبهم الى دول مجاورة، ويوجد آخرون مختفون مثل الفئران لتفادي الاعتقال ومحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها طيلة عقود. والأكيد أن من غادر نحو الخارج سيتحول الى جاسوس للدولة المضيفة له، هذا إن لم يكن جاسوسا لها من قبل لكي يؤمن مستقبله ويتفادى الاعتقال والترحيل، وإن صدرت في حقه مذكرات اعتقال دولية. وكم من ضابط كبير هرب نحو الخارج، ليس لأسباب سياسية، بل لمبالغته في الفساد وعدم اقتسام الكعكة مع شركائه، وها هو يعرض أسرار الأمن القومي لبلاده على دول عدوة، طمعا في الحصول على اللجوء السياسي. وهذا الأمر، لا يقتصر على سوريا، بل على عدد من الأنظمة العربية وفي العالم الثالث، حيث تتوفر كل دولة على عدد من الأجهزة تفوق عدد استخبارات دول كبرى من حجم الولايات المتحدة. وإذا كانت هذه الأخيرة لديها أجندة للاستمرار في زعامة العالم ومواجهة الصين، والتدخل في مختلف الدول، ما يبرر هذا العدد الهائل من الاستخبارات، ما هي أجندة استخبارات غالبية الدول العربية، لاسيما التي تمتلك ما يفوق عشرات أجهزة الاستخبارات؟ غالبية الاستخبارات العربية تفتقر لمفهوم الأمن القومي الحقيقي، وينص هذا المفهوم على أن «الأمن القومي يهدف إلى الحفاظ على وحدة المجتمع واستقراره واستمراريته وحياة مواطنيه ورفاهيتهم». وتختلف أساليب العمل وتطبيق هذا المفهوم الذي يقوم في شقه الداخلي على الاحترام التام للقانون، وقد يكون على هامش القانون في شقه الخارجي، لاسيما في التعامل مع الأعداء. غالبية الاستخبارات العربية تختزل هذا المفهوم في خدمة الحاكم، وإن كان فاسدا، ثم ملاحقة المعارضة عبر الاعتقال والتنكيل والتشهير وتوظيف الوطنية لخدمة هذه الأجندة، وتجدها بارعة في إنتاج البروبغاندا الوطنية ومنافسة كتاب سيناريو الدرجة الثالثة، في تلفيق التهم ضد المعارضين والتشهير بهم.

تعتبر غالبية هذه المخابرات، مسؤولة عن مآسي الأوطان في العالم العربي في الماضي والحاضر والمستقبل، لأن منهجيتها في الاعتداء على الأفراد والأقليات الذين يمارسون حقهم في التعبير والانتظام السياسي، هي الأرضية الحقيقية لنشر حالة غياب الاستقرار، اعتداءات تصنع قنابل/انتفاضات وثورات ضد الحكام مستقبلا، وهو ما حدث في الربيع العربي ويحدث الآن في سوريا والسودان. ومن باب المقارنة بين الاستخبارات الغربية، والكثير من نظيراتها العربية، وفي بعض دول العالم الثالث، الأولى تحمي الوطن من الحكام الفاسدين، والثانية تلاحق من يندد بفساد الحكام. الأولى تفضح كل سياسي مهما بلغ شأنه إن تورط في ملف فساد، وبالفعل فضحت وزراء ورؤساء حكومات وملوك كانت لهم حسابات في الخارج، بينما الثانية تعمل المستحيل للتستر على فساد الحكام. ويمكن للقارئ أن يتساءل: لماذا لا يتوفر قادة الغرب على حسابات سرية وإقامات فاخرة خارج أوطانهم؟ ثم، لماذا تحركت الاستخبارات الغربية في فضح مسؤوليها ومواطنيها الذين لهم حسابات سرية في سويسرا وبنما، ومدت القضاء بما يكفي من الحجج لفتح تحقيق ضد المتورطين، بينما عمدت الثانية إلى شراء الذمم حتى لا يكتبوا عن الحكام العرب؟

الأولى تخدم أجندة لتحافظ على تقدم وطنها بما في ذلك قيامها بسرقة أسرار الصناعات والأبحاث العلمية، واختراق القانون في تعاملها مع دول ثالثة قد تكون منافسة أو صديقة، وليس فقط عدوة، والثانية تحافظ على اختطاف المعارضين وتبدع في إقامة المعتقلات لترضي الحاكم. سيكون للعالم العربي استخبارات في المستوى عندما تجدها مثل نظيراتها الغربية، تسعى لتجنب خلق أزمات مجانية للحفاظ على صلابة المجتمع حاضرا ومستقبلا، وتفضح فساد الحاكمين، ويتعرض موظفوها للطرد من دول ثالثة ليس بتهمة ملاحقة معارض أو اغتياله أو زرع ميكروفونات في منزله في الخارج، وامتداد التشهير والاعتداء إلى أفراد عائلته، وإنما بتهمة سرقة أسرار علمية – صناعية. ستكون للعالم العربي استخبارات في المستوى عندما تدرك أنها ليست في خدمة ضيعة الحاكم، بل في خدمة وطن الشعب. في مقال سابق في هذا الركن بتاريخ 29 أبريل/نيسان 2019، كتبت مقالا بعنوان «في العالم العربي الخطر الحقيقي هو الاستخبارات وليس الجيش»، وجاء فيه «عندما تنتقل الشعوب إلى ممارسة حريتها، تعيد النظر في الكثير من المؤسسات، ومنها مؤسسة الاستخبارات. وفي الدول التي انتقلت ديمقراطيا منذ السبعينيات مثل البرتغال وإسبانيا واليونان، بل حتى في أمريكا اللاتينية، جرى تنظيم الاستخبارات وإخضاعها لمراقبة لجنة خاصة في البرلمان، وتولي قضاة مراقبة عملها».

نختتم، هل جنبت كثرة الأجهزة الاستخباراتية نظام بشار السقوط، أو ساهمت في إعداد خطة لتحرير الجولان المحتل؟ لم تحمه، بل تركت جروحا ستتطلب مرور جيلين لكي تندمل، هذا إذا لم تتحول هذه الجروح إلى قنابل حقيقية تفتت وحدة البلاد مستقبلا.

كاتب مغربي

القدس العربي

———————-

مشاهدات من اللاذقية: مدينة تتنفس الحرية/ ندى منزلجي

17 كانون الأول 2024

هناك بهجة جديدة علينا هنا في اللاذقية، يخرج الناس عن تحفظهم وتجهمهم المعتادين، نتبادل ابتسامات في الشارع.. وبالنسبة لي شخصيا، لم أعد أتمتم بسباب مكتوم، كلما ظهرت بوجهي صورة بشار الأسد، لقد زال السبب.

أقطع أحياء المدينة سيرا على الأقدام. سيارات التاكسي قليلة وأسعارها مرتفعة، والسرافيس نادرة جدا.. هذه الشوارع القذرة المليئة بالحفر صديقة، الأبنية المتنافرة المتراكبة ودودة ولها جمالها الخاص، الأشجار التي بترت أطرافها بحجة التقليم، تبدو أكثر وعدا بالاخضرار، ويخيل إليّ أن نسبة الأوكسجين ارتفعت في الهواء.

كلما رأيت مجموعة من مسلحي الهيئة، أبادرهم بالترحيب والسلام، ولا أنكر، أنني دائما أتوقع تجاهلا، أو ردا مقتضبا، فأنا في النهاية (حرمة سافرة)، لكن غالبا ما يكذبون مخاوفي، فهم لطفاء، ونسبة كبيرة منهم من أبناء اللاذقية، يحصل أن يتجنب أحدهم النظر إلى وجهي، لكن ما المشكلة!

قبل أيام قدم لي أحد المسلحين بسكوتة.. قلت له أخجلتني، واجبنا نحن أن نقدم لكم الحلوى، لكنه أصر، قائلا «اعتبريه حلوان النصر يا خالتي».

 لهم فقط ابتسم حين ينادونني «يا خالتي»، ولا أقول في قلبي «خالة يخل عظامك». سألت مرة مجموعة منهم إن كانوا تلقوا تعليمات بخصوص حجاب أو ملابس النساء.. فنفوا ذلك بوضوح.

تحدثنا قليلا، وبمزاح مقصود سألتهم إن كانوا يقبلون انتخابي رئيسة لسوريا، أحدهم أجابني أنه طبعا يرفض، وأن علي الاكتفاء برئاسة منزلي، آخر قال لي يمكن أن تصبحي وزيرة.. أما الثالث فقال، نعم، أنا سأنتخبك.. أنا مع النساء.سؤال آخر كان يهمني سماع جوابه، «هل تلقيتم تعليمات بفصل النساء عن الرجال في التجمعات؟»، الذي رفض انتخابي أجابني «طبعا هذا أفضل منعا للتحرش».. كان هذا رأيا شخصيا كما فهمت، وليس تعليمات. ولسؤالي سبب..في الساحة التي تسمى ساحة العلبي في حي الصليبة، حيث قتل عشرات المتظاهرين عام 2011 في ما صار يعرف بـ»مجزرة العلبي»، وأثناء أحد الاحتفالات شبه اليومية بالتحرير في هذه الساحة بالذات، طلب المتحدث أن يقف الرجال والنساء في جانبين منفصلين، متعللا بتلقي شكاوى تحرش بالنساء، لكن الأجواء كانت أكثر أريحية، ولم يطلب هذا الأمر في الاحتفال الحاشد الذي أقيم يوم الجمعة الماضي في ساحة الشيخ ضاهر، حيث كان ينتصب تمثال حافظ الأسد قبل اقتلاعه وتكسيره فجر اليوم الأول لسقوط النظام. اليوم اشتريت كمية من حلوى محشوة بالتمر، لأوزعها على شباب الهيئة، خصوصا (صديقي) الذي قدم لي البسكوتة، وبالمناسبة، لم ألتهمها، وإنما احتفظ بها ذكرى غالية.

أمام فرن الكرامة، كانت صفوف المنتظرين طويلة،  الرجال في جانب والنساء في آخر. الانضباط لافت، كل ينتظر دوره، أخبرني أحدهم أنه يعرف الشخص الذي يوزع الخبز، لكنه لم يقترب منه والتزم بدوره. قبل أسبوع كان يتصرف بشكل مختلف تماما، كما قال صديقه ضاحكا. وقت الانتظار قصير، كما أخبروني، وهناك سيارات توزع الخبز أحيانا في المدينة، وقد نالني منها نصيب. قبل يومين كنت عائدة إلى البيت، حين توقفت أمامي شاحنة وأطل السائق من نافذتها صائحا «تفضلي ربطة خبز، وهذه ربطة أخرى.. خذيها إنها من إدلب».

في حي الصليبة، قلب المدينة القديمة والمنطقة ذات الغالبية السنية، لم أجد سوى قلة من أعلام الاستقلال، ولا صور على الاطلاق. الازدحام والحيوية المعتادان، ثلاثة من مسلحي الهيئة فقط في كامل المنطقة، امرأة توزع حبات التمر على المارة. مجموعة من الشباب يخبرونني أنهم قرروا جمع القمامة المتراكمة في شارعهم، ووضعها في أكياس بانتظار  المجيء المرتقب لسيارات جمع القمامة التابعة للبلدية.

من ساحة أوغاريت إلى حي العنابة وسوق الصفن وثم ساحة الشيخ ضاهر، الوضع عادي، ولم أشاهد أيا من شباب الهيئة، ومرة أخرى لا صور على الإطلاق. في شارع العنابة، رأيت لافتة تحمل العلم الأخضر وعليه ثلاث صور، توجست.. هل عدنا إلى تقديس الأفراد؟ لكن الصور كانت لشهداء الثورة، كما تبين حين اقتربت. في بداية مشواري التقيت راهبة من دير العائلة المقدسة الواقع في شارع بغداد، الذي استحوذ النظام على مدرسته وحولها إلى مقر حزبي. أخبرتني الراهبة أن شباب الهيئة الذين دخلوا المبنى بعد فرار عناصر الأمن، استغربوا وجودها في البداية، لكنهم كانوا مهذبين ولطفاء، اليوم عاد الدير بالكامل لأصحابه، وقد كتب باليد على بوابته الحديدية العتيقة «دير راهبات العائلة المقدسة». وهذا ما حصل ايضا مع مدرستي الأرض المقدسة وراهبات الكرمليت.

في حي الأمريكان ذي الأغلبية المسيحية، كنيسة البروتستانت زينتها في الداخل كالعادة، وأخبرتني مجموعة من شبابها أنهم أنهوا للتو تنظيف الشارع أمام كنيستهم. قطع شجرة عيد الميلاد الضخمة وضعت عند مدخل كنيسة الروم الأرثوذكس استعدادا لتركيبها وتزيينها، العديد من المتاجر والمقاهي في المدينة زينت واجهاتها.. الشجرة العملاقة أيضا تقف عند مدخل كنيسة اللاتين التي مررت بها قبل قليل، حسنا، من أين تأتي الإشاعات بمنع زينة الميلاد؟ في الشارع الرئيسي في حي الأمريكان، دخلت حانة صغيرة، سألتهم بكل سذاجة، هل لديكم مشروب؟

كان الجواب، ليس لدينا الآن. لم يضايقهم أحد أو يمنعهم من تقديم المشروبات الروحية، كما أكدوا لي، وسبب إخفائها هو ترقب الأسعار. صاحب سوبر ماركت معروف قال لي إنه أيضا آثر إخفاء المشروبات تحسبا لتغيرات الأسعار، وتجنبا للمشاكل بعد تعرض متاجر لبيع الكحول لتدخل مقاتلين من فصيل متشدد. اللافت أنه تلقى مكالمة من سيدة رفضت الافصاح عن اسمها، نصحته – حرصا على مصلحته- بإخفاء المشروبات الروحية! على سور المتحف الوطني تراكمت كميات من القمامة، من الواضح أن جهود بعض الجمعيات وفرق الكشافة ليست كافية. تردد بعض شباب الهيئة في قبول الحلوى، فقلت لهم إنه مجرد شكر صغير، وهي حلال! فضحكوا وأخذوها مني . غدا سأذهب إلى حي الزراعة والأوقاف حيث الأكثرية العلوية.. ويا محلاها الحرية.

القدس العربي

—————————–

سورية الجديدة”… الدين والدولة ومستقبل التيّار الإسلامي/ محمد أبو رمان

17 ديسمبر 2024

يتجاوز السؤالُ الرئيس عن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، وهيئة تحرير الشام ودورها الجدلي في مستقبل سورية، مسألةَ البعد الشخصي أو الحزبي، بمعنى أن السؤال الجوهري ليس عما إذا كان الجولاني أو هيئة تحرير الشام (أيّاً كانت الصيغة التي ستؤول إليها سياسياً، حزباً سياسياً أو تحالفاً أيديولوجياً…) سيكونان طرفيْن مهيمنين في المشهد السوري المقبل، بل تتعلّق القضية الجوهرية بصوغ العلاقة بين الدين والدولة في سورية، في المرحلة المقبلة، سواء على صعيد الدستور وتأطير العلاقة بين الأطراف المختلفة، أو مفهوم الدولة الذي سيتشكّل عبر النصوص الدستورية والتشريعات المختلفة، وهو أمر لا يتعلّق فقط بالشأن السوري، بل مثّل قضيةً جدليةً طغت على نقاشات النُخَب السياسية وجدالاتها في مرحلة ما بعد “الربيع العربي” (2011)، سواء في ما يتعلّق بلجان إعداد الدساتير، أو في ما يتعلّق بالتشريعات والانتخابات النيابية، وهي الجوانب الأكثر أهمية في سياقات الصراعات الداخلية المرتبطة بسؤال الهيمنة الثقافية والقِيَمية داخل المجتمع.

تأخذ المسألة في سورية أبعاداً مختلفة، ومرتبطة بطبيعة المجتمع والدولة في سورية، وبالسياقات التاريخية المعاصرة، ولعلّ التخوّف من إقامة دولة إسلامية أصولية على غرار حركة طالبان أمرٌ (كما يراه كاتب هذه السطور) مستبعدٌ، لعديد من الأسباب، منها ما يتعلّق بالانفتاح والبراغماتية التي أبداها الجولاني، في الأيام العشرة الماضية، ومنها ما يتعلّق بطبيعة المجتمع السوري نفسه، الذي يميل إلى الانفتاح والاعتدال، والابتعاد عن التطرّف الديني، كما هو في الصيغة القاعدية والداعشية، وهو الأمر الذي يفسّر كيف تمكّن الجولاني من أن يتخلّص من العناصر والقيادات الذين شاركوه في تأسيس جبهة النصرة سابقاً، وأغلبهم من العرب، وبخاصّة الأردنيين (انشقّوا لاحقاً وأسّسوا تنظيم حراس الدين في إدلب، وحاصره الجولاني وسهّل القضاء على أغلب قادته)، وأصبح التنظيم في غالبيته المطلقة مكوِّناً سورياً، ولم يبق إلّا عدد محدود من الفصائل الجهادية التي بقيت مع التنظيم (خاصّة من آسيا الوسطى، وفي الأغلب سيكون مصيرهم مثل الجهاديين العرب في البوسنة في منتصف التسعينيّات؛ المغادرة أو التخلّي عن السلاح والاندماج في المجتمع).

من ضمن المُحدِّدات المهمّة التي تحول دون إقامة دولة إسلامية (على غرار طالبان أو حتى إيران)، المُحدِّدات الدولية والإقليمية، وقد تبدَّى في اجتماع العقبة أن هنالك توافقاً دولياً وإقليمياً (بالرغم من الخلافات الشديدة بشأن بعض الملفّات والصراع على النفوذ في داخل سورية في الفترة المقبلة)، على مجموعة من القواسم المشتركة؛ وحدة الأراضي السورية؛ التعدّدية الدينية والسياسية والثقافية والعرقية؛ حماية الأقلّيات؛ الابتعاد عن التطرّف والتشدّد الدينيَّين (الإرهاب). ومن الواضح أنّ هنالك سياسة الخطوة بخطوة من المجتمعين الدولي والإقليمي، تجاه أحمد الشرع وتنظيمه، وربط أيّ خطوات برفع العقوبات وبدعم سورية مشروطاً بما يقدّمه من رسائل واقعية وتعهّدات.

بالضرورة، ثمّة رعاية تركية كاملة وراء الكواليس للشرع وتنظيمه. ومن المفيد التذكير هنا بأنّ تركيا حاولت قبل أعوام إعادة تأهيل الشرع وتقديمه للمجتمع الدولي، لكنّ الموقف الدولي والإقليمي حينها كان متصلّباً، أمّا اليوم فالموازين والمواقف تغيّرت، حتى الولايات المتحدة أقرّت بأنّها بدأت اتصالاً مباشراً مع هيئة تحرير الشام، ولعلّ هذا قد يدفع بعضهم إلى بناء سيناريو أن يكون النموذج المُلهِم للإسلام السياسي السوري في المرحلة المقبلة هو النموذج التركي، المتمثّل بحزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيّب أردوعان، وهو نموذج قد يبدو ملائماً مع الحالة السورية، ومع ملاءمة نمط التديّن هناك للحالة المدينية المميّزة، التي تشكّلت في سورية خلال العقود الماضية، وتشكّلت معها طبقة من السياسيين والمثقّفين والفلاسفة والعلماء والفنانين، الذين لا يتوافقون مع تيّار الإسلام السياسي، ومنهم نسبة كبيرة انضمَّت إلى المعارضة، أو رفضت المشاركة في حفلة الاستبداد لدى النظام السابق، وهؤلاء كلّهم لا يرون سورية بعيون الإسلام السياسي، بل بعيون مختلفة تماماً ويريدون حقّهم في الحياة والثقافة التي يرونها. ومن هنا قد يكون “النموذج التركي”، الذي يزاوج بين العلمانية والإسلامية قادراً على تقديم إجابات مقعنة لشريحة اجتماعية واسعة.

كتب الصديق الباحث، والإعلامي محمد تركي الربيعو، في واحد من حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، محذّراً من أن من المبكّر حديث عديد من المحلّلين والسياسيين عن النموذج التركي بوصفه الأكثر ملاءمةً للحالة السورية، فضلاً عن النفوذ التركي الذي قد يُسهّل مثل هذا التماثل، وعزا ذلك إلى أنّ النموذج التركي نفسه مرّ بتحوّلات، وأنّه فقد بريقَه خلال الأعوام الماضية، وهو أمر أتفق معه جزئياً (في أنّه لا تزال هنالك تحدّيات وعقبات أمام هذه النتيجة). ولكن، في المقابل، الأمراض التي ابتلي بها النموذج (وذكرها الربيعو) لا ترتبط بالضرورة بالفكرة، بقدر ما تتعلّق بالسلطة وبالمصالح الشخصية. وفي الأحوال كلّها، أثبت النموذج التركي قدرته وفعّاليته على تجاوز سؤال مهمّ جدّاً يتعلّق بترسيم خطوط العلاقة بين الدين والدولة، وإيجاد معادلة مرضية للطرفَين، الإسلاميين والعلمانيين، وأوجد (النموذج التركي) نمطاً من العلمانية المحافظة أو الإسلامية الليبرالية المقبولة داخلياً وخارجياً.

يتعلّق السؤال الأول بكتابة الدستور، وتكوين اللجنة المعنية بالدستور، ومن سيشكّل اللجنة، وما هي البنود التي سيجري التوافق عليها في ما يتعلّق بهُويَّة الدولة، وسؤال العلاقة بين الدين والدولة. وهنا، قد لا يصدُر التحدّي الأكبر من أحمد الشرع، بل سينتقل إلى الجدل بين التيّارات الإسلامية المتعدّدة من جهة والتيّارات العلمانية والأقلّيات الأخرى، من جهة ثانية. وإذا التزم الجميع بإعلان العقبة (الصادر السبت الماضي من مجموعة الاتصال العربية، بالإضافة إلى دول عربية وأميركا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي)، فإنّ هنالك شروطاً ومحدّدات واضحة في عملية بناء النظام السياسي الجديد وتصميمه وكتابة الدستور، وهو أمر من الواضح أنه يمثّل شرطاً رئيساً لعملية تقبّل الشرع وهيئة تحرير الشام، والنظام الجديد في سورية، في البيئة الإقليمية والمجتمع الدولي. ويبدو أنّ الشرع مستعدّ أن يتخطّى كثيراً من الحدود الأيديولوجية والفكرية من أجل الوصول إلى ذلك، وهذا ما تؤكّده سيرته السابقة، وقدرته على التكيّف، وبراغماتيّته الشخصية والسياسية.

بالطبع، لا يقف سؤال الدستور الجديد عند حدود علاقة الدين بالدولة، بل هنالك أسئلة عديدة متعلّقة بالأقلّيات، عما إذا كان شكل نظام الحكم المقبل فيدرالياً أم موحّداً، وموقف الأقلّيات من ذلك، لكن ما يُعنى به هذا المقال بصورة أكبر قضية الدين والدولة، لما لها من أبعاد وتداعيات داخلية وخارجية، فكرية وسياسية ومجتمعية وثقافية كبيرة.

يتعلّق السؤال التالي (في جدلية الدين والدولة) بمن سيهيمن على النظام السياسي الجديد من القوى السياسية، إذ تشير التحوّلات المجتمعية والثقافية والسياسية السابقة في سورية إلى أنّ درجة التديّن ونفوذ التيّارات الإسلامية، بألوانها المختلفة، تزادد وتتوسّع، ما يدفع القوى العلمانية والطائفية والأقليات الأخرى إلى القلق على حقوقها الثقافية والمجتمعية، والحرّيات الدينية، والخشية من سؤال “أسلمة المناهج”. ومعروفٌ أنّ الهاجس ساهم بدرجة كبيرة بدخول تجارب سياسية عربية أخرى في مرحلة من الاستقطاب والتجاذبات السياسية والفكرية، وأجهض التجربة الديمقراطية فيها.

ما زالت تجارب التحوّل الديمقراطي، أو الانتقال من نظام سلطوي إلى “ديمقراطية غير مؤكّدة” (على حدّ تعبير كل من غليرمو أودونيل وشميتر)، طريةً وغضّةً ولم تستقرّ في أجوبة توافقية بين القوى السياسية والفكرية. لذلك ما زالت أسئلة مثل قضية الدين والمجتمع والدولة والحرّيات العامة والفردية وغيرها، تشكّل قضاياً إشكاليةً وجدليةً كبيرةً في العالم العربي، والحالة السورية هي جزء من هذه المرحلة التاريخية.

العربي الجديد

—————————-

سقط الأسد فترنّح النظام في طهران/ إياد الدليمي

17 ديسمبر 2024

هي نهاية حقبة إذن، ونهاية مشروع استنزف نفسه والمنطقة أكثر من 40 عاماً، بدأ مع مجيء الخميني إلى السلطة في إيران عام 1979، ويبدو أنه على وشك أن يتلاشى، فلم يكن سقوط نظام بشّار الأسد، الذي استمرّ أكثر من نصف قرن، إلّا إيذاناً بنهاية مشروع دشّنه حكم الخميني. مشروع أُريد له أن يكون منافساً لمشاريع أخرى في المنطقة، فتغلغل في جسد بلدان عربية مستغلّاً الظروف وغياب البدائل العربية، وها هو، على ما يبدو، يوشك أن ينتهي، من دون أن يحقّق لنفسه قبل غيره شيئاً كثيراً، اللهم سوى استمرار النظام الإيراني طوال هذه الفترة، ولو على حساب تطلّعات شعبه، الذي طالما أُسكِت بوهم هذا “المشروع”.

جاء سقوط النظام السوري مدوّياً، سقوط سُمع أوّل ما سُمع هناك في طهران، التي استثمرت في هذا النظام 44 عاماً، يوم أن قرّر حافظ الأسد الأب أن يناكف النظام العراقي السابق برئاسة صدّام حسين، وحزب البعث العراقي، عبر إيران، فقرّر أن يقف معها في حربها على العراق، فكان الداعم الأكثر أهميةً والأبرز من العرب للنظام الإيراني.

فرصة استغلّتها إيران جيّداً، فتمدّدت داخل الجسد السوري بهدوء، ودعمت نظام الأسد في وجه معارضيه، حتى إذا ما انتهت الحرب العراقية الإيرانية، كانت الثورة الإيرانية قد وجدت لنفسها موطئ قدم داخل الجسد السوري، مستغلّةً شعار تحرير فلسطين، الذي كانت تتغطَّى به، وتُغطّي به عورتها ومطامعها ومشاريعها في المنطقة.

أكثر من 40 عاماً والنظام الإيراني يرفع شعار تحرير فلسطين، وطالما كان هذا الشعار البرّاق ستاراً للتوغّل في داخل أجساد أوطان عربية منهكة، بدءاً من لبنان، ثمّ سورية، حتى إذا ما أسقطت أميركا النظام العراقي السابق، وجدت طهران ضالّتها في الانتقام من غريمها القديم، العراق، لتدخل البلاد على ظهر دبابة “الشيطان الأكبر”، وما المانع إذا كان ذلك سيحقّق لها ما تريده! قبل أن تصل يدها إلى الحوثيين في اليمن، بعد تفجّر الثورة على نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح.

وخلال أقلّ من عام، عقب اندلاع معركة طوفان الأقصى، خسرت إيران ما بنته طوال عقود أربعة، في لبنان ثمّ سورية، وفي سورية كانت الضربة الأقسى للنظام الإيراني. ولعلّ من يتابع الإعلام الإيراني يدرك جيّداً حجم الصدمة التي ما زالت طهران تعيشها، فقد تفجّرت الأسئلة الكُبرى عن جدوى هذا الاستثمار الفاشل، الذي أرهق ميزانية إيران، واستنزف كثيراً من دماء شبابها، والنتيجة أن إيران خرجت من سورية خالية الوفاض، فلم تتمكّن من الحفاظ لا على نفوذها ولا على النظام الذي وفّر لها هذا النفوذ.

تفجرت الأسئلة الصعبة في إيران بقوة. بدأت وسائل الإعلام الإيرانية، حتى الموالية للنظام، تطرح أسئلةً كثيرة، كيف سقط نظام الأسد؟ أين ذهبت المليشيات التي جنّدتها إيران عقدين؟ أين ذهب المستشارون الإيرانيون من قادة فيلق القدس والحرس الثوري؟ ما مصير المصانع الإيرانية؟ معسكرات التدريب؟ الأسلحة التي كدّسها الإيرانيون في سورية؟ أين ذهب الإيرانيون الذين قالت طهران لشعبها سنوات إنهم صاروا جزءاً من النسيج الاجتماعي، بعدما تملّكوا المنازل وحصلوا حتى على الجنسية السورية؟

أسئلة لن تجد لها إجاباتٍ من النظام الإيراني، الذي لم يجد ساستُه سوى الحديث عن خيانة تعرّض لها النظام السوري، أو خيانة تعرّضت لها إيران نفسها من ذلك النظام، أو اتهام دولة جارة لسورية (تركيا) بالوقوف وراء ما جرى، حتى وصلت التبريرات إلى رأس النظام المخلوع بشّار الأسد بأنه اختار عدم المواجهة والهرب، وغيرها تبريراتٌ كثيرة لا يبدو أنها ستجد آذاناً صاغيةً من الشعب الإيراني.

انهار المشروع الإيراني في المنطقة، فلم يعد له من عواصمه العربية الأربع التي كان يفاخر بأنها باتت تحت سيطرته ونفوذه، سوى بغداد وصنعاء، ولكلّ منهما حكاية مختلفة، ونهاية يبدو أنها باتت قريبةً، وإنْ بسيناريوهات مختلفة، لتنتهي حقبة التغلغل الإيراني، الذي أكل ما تبقّى من جسد العرب، بعدما أكل الجزء الآخر منه المشروع الصهيوني.

تشعر إيران بوطأة ما حدث في سورية، فهو إن شئت الدقّة، زلزال ضرب المنطقة، وتداعياته على ما يبدو لن تقتصر على الشرق الأوسط، بل سوف تمتدّ إلى مناطق أبعد، فأنت اليوم إزاء تغييرٍ ليس في رأس النظام فحسب، وإنما في فلسفة وجود الدولة السورية ككل، وفلسفة النظام الحاكم، وما يعنيه ذلك من نموذج قد يكون مغرياً إذا ما كُتب له النجاح، ليُستنسَخ في دول أخرى.

ستعني نهاية حقبة الأسد (من بين ما تعنيه) أن المشروع الإيراني يلفظ أنفاسه الأخيرة، والرسائل التي نقلها مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، العُماني محمّد الحسّان، إلى المرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، تفيد بوضوح بأن دولة المليشيات في العراق، التي تُعتبَر واجهة النفوذ الإيراني الأكثر أهميةً، يجب أن تنتهي، فلا مكان لأذرع إيران في العراق، فإمّا أن يُتَّخذ القرار سلماً أو حرباً، إن استدعت الضرورة، والحاجة.

تتغيّر المنطقة، والضريبة الكُبرى قد تدفعها إيران، التي يبدو أنها لم تقنع بما نالته من نصيبها في كعكعَة تقسيم المنطقة عقب غزو العراق، فكان أن طلبت المزيد، ولم يكن هذا المزيد متوفّراً لدى صُنَّاع الخرائط في الشرق الأوسط الجديد، لتبدأ فصول نهاية المشروع الإيراني، نهاية لا يُراد لها أن تتوقّف بقصّ أجنحة النفوذ، وإنما تتعدّى ذلك إلى سقوط هذا النظام، فالمرحلة الجديدة تستدعي جغرافية أصغر، ولا مكان فيها لخرائط كُبرى للدول.

العربي الجديد

——————————

كيف يبدو سقوط دمشق من شرفة في الرباط؟ / عبد الحميد اجماهيري

17 ديسمبر 2024

لم تُخفِ قطاعات واسعة من الرأي العام المغربي ترحيبها بسقوط نظام آل الأسد في سورية. ولم تكن مشاهد مواكب السيارات في الدار البيضاء والرباط، لسوريين فوق التراب المغربي، المظاهر الوحيدة للترحيب بنهاية بشّار الأسد، بل تكاثرت في وسائط التواصل الاجتماعي، وفي الكتابات الصحافية، عناوين التفاعل الإيجابي مع نهاية سنة أخرى من المأساة السورية (أو الفصل 41 المسلح منها على أقلّ تقدير). منها ما ترى العكس، وتتعاطف مع النظام، أو تتحفّظ في الترحيب بنهايته وتثقل المرحلة بأسئلة الـ “ما بعد”، لارتباطات قومية بعثية سابقة أو بناءً على التحليل الظرفي القائم على عناصر الصراع الجديدة منذ 7 أكتوبر (3202)، لكنّها أصوات قليلة، ولا تتحدّث عن العلاقة الثنائية مع المغرب حصرياً، غالباً ما تعلّل مواقفها بما حصل من نتائج “الربيع العربي”، والفوضى التي أعقبته، و”خريفها” في ليبيا وتونس واليمن…

ثقّف بعض المثقّفين ثوريتهم بالآداب البعثية السورية، وكان جزء من المنظومة الفكرية الإقليمية يأخذ دمشق قبلةً في تحليل موازين القوى، وغير قليل من الجهاز المفاهيمي تربّى في حضن بعثية السوريين، علاوة على ارتباط دمشق بجزء من الجبهة الفلسطينية الجذرية، قبل أن تتصدّر الثورية الإسلامية المشهد الفلسطيني، بعد تعثّرات السلام في “أوسلو” وتراجع خطابه وتهالك واقعيته.

كان المغرب الكبير منطقة ملتهبة من العالم العربي الإسلامي، تشكّل فيها القومية تحدّياً كبيراً، وامتداداً جيوسياسياً لصراعات الشرق الأوسط وثقافته في تدبير ما كانت تعتبره هذه الثقافة “نهضة الأمة”. ومنذ ذلك التاريخ، تساقط كثير من البناء العلائقي للثورة للقومية، الناصرية، والبعثية العراقية، والقومية الماركسية (كما في تجربة اليمن المقسّم) وبقيت آثاره قائمةً في التحليل وتحديد المزاج القومي العام، حنيناً أو معاندةً.

وفي لحظة الواقع الحالي للمغرب في علاقته بسورية، رجعت إلى الذاكرة الجماعية تفاعلات كيمياء الماضي، واسترجعت معها الذات الجمعية للمغاربة مرحلةَ التجريدة المغربية في حرب الجولان، وهي تجربة قادها الملك الراحل الحسن الثاني، ودشّن بها التضامن المغربي مع سورية، قبل اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر/ تشرين الأول 1973بنصف سنة تقريباً، واختار الذكرى 17 لتأسيس القوات المسلحة الملكية لتنظيم استعراض عسكري للتجريدة التي ستغادر إلى سورية، بعد أن وضع لقيادتها الجنرال عبد السلام الصفريوي. وقد توّجت المشاركة المغربية بأثرين معنويَّين متنافرَين. تمثّل الأول في مرسوم رئاسي يمنح لقب بطل الجمهورية العربية السورية، إلى كلّ من الصفريوي في جبهة الجولان، وشهيد الجولان المغربي الكولونيل عبد القادر العلّام، ليكونا من أول الضباط غير السوريين، الذين منحوا هذا التشريف العسكري. وهو أثر يسترجع البطولة المغربية في جبهة بعيدة جغرافياً، وإن كانت من صميم الانتماء التحرّري والسياسي للمغاربة.

تمثّل الأثر الآخر، في ما روي من بعد عن التخلّي عن التجريدة المغربية، بعد البلاء الأكيد لها في الجولان، وفي مرتفعات جبل الشيخ تحديداً، وتركها عرضة للطيران الإسرائيلي بعد انسحابٍ غير مفهوم للقوات السورية. ولولا التدخّل العراقي لكانت الخسائر البشرية أفدح مما سقط يومها في ساحة الشرف، ودفن في مقبرة القنيطرة السورية.

وإذا كان المغاربة يكنّون لصدّام حسين الكبير والكثير من المودّات بسبب تدخّل طيرانه وقتها للتنفيس عن الحصار المضروب على التجريدة المغربية، وبالرغم من تشابه النظامين، يسترجعون عكسياً انفعالهم إزاء النظام السوري، الذي زاد من ابتعاده عن الروح المغربية، لمّا كان أول من اعترف بما تُسمّى الجمهورية الصحراوية، التي تسعى إلى فصل الصحراء عن مغربها، وذلك في إبريل/ نيسان 0891، بعد إعلان ميلادها في تراب تندوف الجزائرية بأربع سنوات. وقد وجد الجيش المغربي العائد من الجولان بعد حرب ضروس في الجبهة السورية نفسه يتلقّى الطعنات والهجومات والقتل، من داعمي هاته الجمهورية ومليشياتها المسلّحة.

وبالرغم من وجود النظامَين في عهد الحسن الثاني وحافظ الأسد على طرفي نقيض عربياً ودولياً، كانت بعض المياه تجري بين العاصمتين بين الفينة والأخرى، كما في 1992 عندما زار الملك الراحل المقبرةَ التي تحضن جثامين الجنود الذين سقطوا في الجولان. ومع مجيء محمد السادس إلى الحكم (9991)، وبشّار الأسد)، 2000 (انفتح الأمل واسعاً في أفق جديد للعلاقة، ولا سيّما أنهما، إضافة إلى عبد الله الثاني، من بين ثلاثة قادة عرب جدد دخلوا المشهد السياسي العربي بآمال عريضة. في تلك الفترة، زار محمد السادس دمشق ()2001، وتوجّه إلى مقبرة القنيطرة للترحّم على الشهداء الجنود المغاربة.

وهكذا توقّع كثيرون في المغرب (وغير المغرب) مرحلةً جديدة، ولا سيّما مع بعض الانفتاح الداخلي في سورية، ولعلّ الأمل راود المغاربة في أن “يستطيع النظام تجديد نفسه”، خاصّة أنه قد عمد في سنة 2001 إلى إغلاق مكتب “بوليساريو” في دمشق، حتى لو لم يسحب الاعتراف بما تسمّى “الجمهورية الصحراوية”. ربما اختلف الامتحان الجيوسياسي في عناصره كما في تركيبته، لكنّ أحد أكثر الامتحانات أهميةً سلّط الودّ على اختيارات كلّ قائد منهما.

كان الربيع واحداً في الرباط وفي دمشق (2011)، وفي وقت بادر فيه العاهل المغربي بفتح آفاق المستقبل من خلال التجاوب مع الحراك الداخلي، وتفادى المغرب السقوط في الاستحالة السياسية، والميل إلى الحلّ العنيف للتناقضات الداخلية، عاكس قائد دمشق الجديد هذا التوجّه، وردع المتظاهرين بعنف، وظهر أن خيارات كلّ واحد غير خيارات الآخر، واتسعت الهوّة أكثر عندما استضاف المغرب، إبان كان الإسلامي، سعد الدين العثماني، وزيراً للخارجية، مجلس الوزراء العرب (16نوفمبر/ شباط) 2011، بحضور ممثّل تركيا، لبحث تطورات الملفّ السوري. وكان قرار تجميد عضوية سورية في جامعة الدول العربية في جدول الأعمال. وقابل نظام الأسد الموقف الديبلوماسي بأعمال بلطجة تعرّضت لها سفارة المغرب في دمشق.

وفي منتصف سنة، 2012 احتضنت مراكش الاجتماع الدولي الرابع لمجموعة أصدقاء الشعب السوري، بمشاركة أكثر من مائة دولة عربية وغربية، وكان ضمن جدول أعماله الاعتراف بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ممثّلاً للشعب السوري. رسمياً سيقدّم المغرب قراءته الاسراتيجية لما وقع في قمّة الرياض، في إبريل/ نيسان 6102، أي بعد خمس سنوات من اندلاع الانتفاضات العربية، وأيضاً بعد دخول سورية حرباً أهليةً. وارتكزت قراءة ملك المغرب على ثلاث مقوّمات؛ ما تعيشه بعض الدول في العالم العربي “ليس استثناء، وإنما يدخل ضمن مخطّطات مبرمجة، تستهدف الجميع”؛ المنطقة العربية تعيش على وقع “محاولات تغيير الأنظمة وتقسيم الدول، كما هو الشأن في سورية والعراق وليبيا”؛ تحالفات جديدة قد تؤدّي إلى “إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة”. ما يعني أن القيادة السياسية في المغرب وضعت شبكةً واسعةً لفهم التحوّلات الجارية، ومن ثمّة تحديد الموقف منها، ولا سيّما ما يتعلّق بسورية التي تخندقت، بالقوة أو بالفعل، في خانة الدول التي عصفت بها التحوّلات الجارية.

وإذا كان المغرب رسمياً دعا (ويدعو) إلى احترام سيادة سورية ووحدة ترابها واحترام إرادة السوريين في بناء نظامهم، فهو لم يسارع إلى الاحتفال بما وقع في الأسابيع الماضية. والمؤكّد أن قطاعاً واسعاً من الرأي العام ابتهج بسقوط الراعي المشرقي لعناصر الانفصاليين الذين كانوا فوق التراب السوري، وتحت مظلّته العسكرية، وتحت إشراف قوات حزب الله التي دخلت في تحالف وجودي مع النظام، ورعت أجندته في المغرب الكبير من خلال دعم مليشيات جبهة بوليساريو. ويسعد الرأي العام المغربي لسقوط نظام وضع من دعم “بوليساريو” ثابتاً سياسياً في العلاقة مع شعوب المغرب الكبير، وامتداداً للسياسة المغاربية لطهران.

وفي سياق تحليل مواقف الأطراف المغربية، فوجئ المتتبعون بانقلاب الموقف لدى التيّار الإسلامي، بتشكيلاته كلّها، ولا سيّما الإخوانية، من إيران التي كانت تُقدَّم إلى حدود أشهر قليلة باعتبارها محور المقاومة الداعم لفلسطين، وكان أن كتب أحد الدعاة والمنظّرين للتيّار الإسلامي المغربي (انظر “إيران والفقيه الريسوني… غزّة في ميزان السنّة والشيعة”، “العربي الجديد”، 01/9/4202) يدافع عن شيعة إيران، وفضَّلهم على السنة في دعم الفلسطينيين و”حماس” في حرب غزّة، إذ تسارعت المواقف المباركة لوصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة. وتابع الرأي العام مواقف رموز التيّار الإسلامي، منهم وزير خارجية المغرب السابق، سعد الدين العثماني الذي تحمّل مسؤولية رئاسة الحكومة، وقبلها وزارة الخارجية، وكان مسؤولاً لحظة انعقاد مؤتمرَيْن اثنَين، واحد عربي والثاني دولي، لنصرة الشعب السوري. واتضح أن الموقف من إيران يتحدّد بحسب المناسبات، “وضعياتي”، أي بحسب الأوضاع. كما يبدو أن العلاقة السيئة بين النظام السوري وجماعة الإخوان المسلمين، منذ أحداث حماة في ثمانينيات القرن الماضي، أيّام الأسد الأب، تمثّل خلفيةً حيّةً ما زالت تحرّك عواطف التيّار المذكور ومواقفه، كما كان الأمر عند تيّارات أخرى كانت تقترب من النظام على أساس مواقفه من المنافسين الأيديولوجيين لها.

 كيف يبدو سقوط دمشق من شرفة في الرباط؟… تبدو المرحلة منفتحةً على احتمالات أفضل، وربّما سيكون تأثيرها جليّاً في منطقة المغرب الكبير، بفعل انحسار ظلّ إيران في المنطقة المحيطة بها وتراجع نفوذها في مجالها الإقليمي، وهو الأثر الذي سيمتدّ إلى الغرب الإسلامي، ويضعف أكثر حركة البوليساريو وداعميها الذين كانوا يعوِّلون كثيراً على نهاية الحرب في الشرق الأوسط لتقديم دعم أكثر قوة ونوعية.

العربي الجديد

————————

ما سقط مع سقوط الأسد/ عيسى الشعيبي

17 ديسمبر 2024

كان سقوط نظام الأسد (الأب والابن) سقوطاً مدوّياً بالمعايير كلّها، أسمع رجعه السوريين والعرب وكلّ من في أذنه وقر، وغشى المشهد الزلزالي العنيف، الذي فاقت درجته في مقياس ريختر السياسي، الأبصار والقلوب والأذهان، وأزاغ الرؤى عمّا رافق الانهيار من ارتدادات، وما تلاه من تداعيات وتحوّلات، تعاقبت في شكل حلقات في سلسلة من الانتكاسات والخسارات الاستراتيجية، التي تلاحقت على الفور، وامتدّت في نطاق أشمل من الرقعة السورية، وكان دويّ صفّارات إنذاراتها لا يقلّ حدّةً عن دوي واقعة هروب بشّار الأسد تحت جنح الظلام، الأمر الذي يدعو إلى إمعان النظر مليّاً، وتكثيف الضوء على مفاعيل تلك الخسائر والانهيارات المضاعفات الجارية بعد على قدم وساق.

القائمة هذه طويلة، يحتاج حصر بنودها إلى صبر جميل، ويتطلّب جهداً جهيداً، وأحسب أن ما يتصدّرها مكتوب بالبنط الأحمر العريض، وهو خسارة آل الأسد، ومعهم الزمرة التي حكمت الأكثرية بالحديد والنار، نصف قرن وأكثر، وثانيها سقوط دولة الأمن المتوحّشة، وأقبية التعذيب الرطبة، والمعتقلات السرّية. كما كان حتمياً سقوط جمهورية الصمت والترهيب والإسكات، ودولة “الشبّيحة”، فضلاً عن سقوط أول “جملوكية” عربية توءم كوريا الشمالية (رئاسية بنظام حكم سُلالي)، وانهيار جيش هرب سابقاً من الجولان ولبنان، واليوم من حلب وحمص والشام، تحت قيادة الأب والابن، اعتاد الهرولة، ولم يُحسِن المواجهة مع العدو ذات مرّة.

إلى جانب ذلك، سقطت التحالفات الهجينة مع المليشيات الطائفية، وسقطت دولة الكبتاغون، ومافيات النهب والسلب والتسلّط والفساد والاستبداد، وبرلمان الأرغوزات، وخرقة الدستور المفصّل في مقاس وليّ عهد أبيه بشّار، وعَرِّجْ على البراميل المتفجّرة والسلاح الكيماوي، فضلاً عن أزعومة الانتخابات والاستفتاءات والحزب القائد والإعلام الخشبي التافه، والتغوّل على البلاد والعباد.

ولعلّ الخسارة التي لا توازيها الخسائر السابقة كلّها، هي خسارة هيبة المنزلة المنتزعة بالقوة الغاشمة، بعد تحطيم تماثيل الأب والابن، وتمزيق صورهما، في شتّى المدن السورية، بما في ذلك القرداحة مسقط الرأس، وكانت أشدّها هولاً حرق ضريح مؤسّس الدولة التسلّطية، حيث زعم مريدوه وأركان حكمه، مثل وزير دفاعه الأبدي مصطفى طلاس، الذي ملأ صدره بأوسمة معارك لم يخضها، أن الانقلابي على رفاقه في الحزب القائد، هو الشخصية التاريخية العظيمة الثالثة، التي ترقد في الثرى السوري، إلى جانب خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، فإذا بها اليوم تستباح أمام العدسات، وتُهان من دون احترام لحرمة الأموات (مع الأسف!)، فبدا هذا الحريق بمثابة إعلان رمزي عن موت حافظ الأسد مرّة ثانية.

أمّا على الصعيد الخارجي، فقد أدّى سقوط الأسد إلى سقوط المشروع الإمبراطوري الإيراني، وانغلق “الكاريدور” البرّي بين طهران وبيروت، وصار الهلال الشيعي محاقاً بعد أن غمر معظم المشرق العربي، وانقضى العصر الذهبي للطائفة التي علت في أربع عواصم عربية، وسقطت أكذوبة الممانعة وديماغوجية “وحدة الساحات”، كما أدّى سقوط الأسد إلى اهتزاز الأرضية السياسية تحت أعمدة القواعد الروسية، وفقدت موسكو مبرّر الوجود في بلد حاربت فيه حكّامه الجدد بضراوة نحو ثماني سنوات، وذهبت لعبة أستانة، ومناطق خفض التصعيد، أدراج الرياح.

وفي المقابل، صعد نجم الرئيس التركي طيّب رجب أردوغان، وبدا صانع أهداف نظيفة في مرمى الخصوم، وقوّة دفع كامنةً وراء هذا الانقلاب في المعادلات والتوازنات الإقليمية، فيما نتج عن هذا التحوّل الذي أبهج السوريين بحقّ، أضرار جانبية متفاوتة الأهمية، إن لم نقل شديدة السمّية، لعلّ في مقدّمها استغلال دولة الاحتلال حالة الفراغ الناشئ بالعدوان والتوسّع، واستهداف المقدرات العسكرية السورية، وسط التبريرات الأميركية السقيمة ذاتها عن حقّ الدفاع عن النفس، أمّا ثاني الأضرار، فماثل في حرف الأبصار والاهتمامات عن حرب الإبادة الجماعية الجارية في غزّة، وحدّث ولا حرج عن انخفاض وزن النظام الرسمي العربي، ومعه إيران، لصالح اللاعبين الإقليميين الاثنَين، تركيا وإسرائيل، فيما ثالثهما الاستفراد أكثر بلبنان، وربّما شنّ هجوم وشيك على إيران.

أخيراً، عن جدارة واستحقاق تامّين، نال نتنياهو وصمة مجرم حرب أشِر، وبات طريد العدالة الدولية، غير أنه بعد تكشّف أهوال مسلخ صيدنايا لكبس جثامين المعتقلين المغدورين، اتضح أن مقترف حرب الإبادة الجماعية مُجرَّد تلميذ صغير في أكاديمية الأسد لفنون الإجرام والإخفاء القسري والتعذيب.

العربي الجديد

—————————

مازن الحُمّادة… مسيح صيدنايا الصغير/ نجوى بركات

17 ديسمبر 2024

لن تفارقنا صورتُك. هذه حقيقةٌ أقوى من كلّ وعد، أعتى من أيّ واقع، فكيف تُنسى صورتك وأنت تروي ما فعلوه بك، وعيناك تذرفان الدمع، وصوتُك يختنق بخلجات الشعور بالظلم وعدم وجود عدالة في هذا العالم ترفع عنك وعن إخوانك هذا العسف كلّه. ملامحك اختصرت ملامح كلّ ضحايا وحشية النظام الأسدي وإجرامه، وما أكثرهم، عذابات الشعب السوري كلّها وآلامه. أنت الذي تعذّبت أكثر من السيّد المسيح. نعم، وقد صُلِبت مثله وطُعِنت واغتُصِبت وعُذِّبت مئات المرّات، يصعب تخيّل حرقتك، شعورك بالمذلّة والإهانة، أعطاب روحك التي عفّروها بتراب الكراهية ووحول بربريّتهم. حتى الاستماعُ إليك في مقابلاتٍ أجريت معك بهدف التوثيق لوحشية النظام الأسدي، وأنت تتلفّظ بتلك الكلمات التي تهوي على الرأس كفأس، تعصر القلب وتقطّعه بسكين، مُجرَّد الاستماع إليك هذا فوق طاقة الإنسان على الاحتمال، فكيف وأنت عشت كلّ ما قُلتَ في لحمك ودمك، أفعالاً تكرّرت يومياً ودامت سنوات طوال. وما تراك فعلت لكي تُقاسي هذا كلّه؟ هل قتلتَ، هل سرقتَ، هل تعدّيتَ واغتصبتَ وشوّهتَ أو آذيت؟… لا، أنت كنت مواطناً سورياً، فقط لا أكثر، في ملكوت آل الأسد المتلذّذين بسفك الدماء وقصم الظهور وآلات التكبيس والفرم والحرق. لا أعتقد أن طغاةً آذوا شعوبهم بقدر ما فعلوا هم. أمثلة التاريخ كثيرة، لكنّ ساديّتهم وانحرافهم وبربريتهم تفوق كلّ خيال.

ولمن لا يعرف القصّة كلّها، كان مازن الحُمّادة في الثالثة والثلاثين من عمره لمّا قامت الثورة عام 2011، وكان يعمل فنّياً في مجال النفط، قريباً من دير الزور، مدينته. نزل إلى الشارع كما فعل مواطنوه حين طالبوا بتغيير نظام حكم سورية بعد استباحهتا أكثر من أربعة عقود. كان سعيداً يومها، قادته حماستُه إلى التحدّث إلى الصحافة الأجنبية، والتعبير عن فرحته بالمشاركة في تظاهرات سلمية. وقد سجن مرَّتَين فترات قصيرة في دير الزور، لكنه، عند انتقاله إلى دمشق عام 2012، اعتقل، ونُقِل إلى مقرّ المخابرات الجوية في المزّة، وهنا ابتدأ درب الآلام، الذي انتهى بإعدامه وآخرين من معتقلي سجن صيدنايا، عشيّة سقوط النظام.

في الكتاب الذي يحمل عنوان “لم يعد معنا… سيرة مغيّب”، وفي نسخته العربية التي صدرت عن دار الجديد في بيروت هذا العام (2024)، نقرأ على قفا الغلاف: “حينَ تيقّنتْ الفرنسية غارانس لوكان أنّ مازن الحُمّادة، الذي أمضتْ معه ساعاتٍ طويلةً تصغي فيها إلى قصّة سجنه وتعذيبه ولجوئهِ لن يعود، قرّرتْ إنشاء كلامه كتاباً. خانته عدالة الغرب، ففضَّل العودة إلى سورية بلد المطامير والإهانة، وهو يحلُمُ بدير الزور والفرات وبدولةٍ عادلةٍ لا تفترسُ أبناءَها. وصلَ لمطار دمشق واختفى. صحيحٌ أنّ التنّين لا يرتوي من دماء أبنائه، بيدَ أنَّ شقائقَ النُّعمانِ عنيدةٌ كالرَّبيع”. ولطالما تساءل الجميع عن سبب عودة مازن إلى فم التنّين، عن دافع ارتمائه مجدّداً في الجحيم، بعدما نجا منه وسافر إلى هولندا، حيث لم يألُ جهداً في فضح ممارسات النظام وهمجيته، عبر السفر في أوروبا، وتقديم شهادات عمّا عاناه ويعانيه الآخرون. فعل هذا كلّه وتجرّأ أن يعود. قيل إن أجهزة الأمن كذبت عليه وأغرته بالعودة، هذا يستحيل أن يصدّق. وقيل إنه منطق الضحية لا تستطيع البعاد عن جلّادها، وهو غير مقنع. وقيل إنه اشتاق لبلاده وإخوته، ولصبحيات دير الزور وأماسي البلاد، ممكن…

ثمّة حرقةٌ في قلوب كلّ من سمع عنك وبك، كيف أنَّك لم تشهد سقوط النظام وكنت قاب قوسين أو أدنى. أهو حظّك السيئ، أم أنّها رحمة الإله أخيراً، إذ كيف ينجو من عاش ما عشته، وهل ينجو فعلاً من هم مثلك محطّمو الروح من أسرى التعذيب الوحشي؟ أفكّر أنك يا مازن! لم تخرج من سجن الأسد لكي تصبح نجماً، لقد أدّيتَ واجبك وبذلت جهدك، وحين شعرت أنك أنهيت مهمّتك، لم ترد مكافأة أو نعيماً يستبدل جحيمك. لقد عدت ببساطة إلى عائلتك وأهلك، أولئك الذي عشت معهم ما عشت، ولم تتخلّ عنهم. أنت اليوم لم تعد واحداً، أنت مائة، ألف، بل عشرات الآلاف، الذين لم تبلغنا أصواتهم. وحدك أنت تكلّمت، وبهذا أصبحتَ صوتهم وصورتهم. استرح الآن أيها الفارس الجميل، لك ربما العدالة التي تحدّثتَ عنها حين قلت “لهم الله”. لعلّ السماء تكافئك أخيراً فيمنحك موتُك راحة أبدية مشتهاة.

العربي الجديد

——————————–

دروس سوريّة/ أيمن الصياد

قد يكون ما جرى في سوريا قبل أسبوع مفاجِئًا، وقد تكون نتائجه السّريعة، وما جرى من انهيارٍ لنظام حديدي، وانتقال دراماتيكي للسّلطة مع طبيعة شخوصها، مُربِكة لهذا أو ذاك. إلّا أنّ صورة أبو محمد الجولاني، بلحيته “التي جرى تهذيبها”، يخطب في الجامع الأموي، لا تكتمل إلا بسَيْل الصّور التي تدفّقت من جهنّم “سجن صيدنايا العسكري” ذي الطّوابق السُّفلية المُرعبة.

دروس سوريّة

لسنواتٍ ظلّت “طبول الزّار” الإعلاميّة في أنظمتنا المستبدّة تحذّرنا من “أن نكون مثل سوريا والعراق”، ولكنّها لم تقل لنا أبدًا: كيف كان ما كان في سوريا (الأسد)، أو العراق (صدّام)؟ أو بالأحرى ما هي معالم الطّريق الذي أخذ البلدَيْن إلى ما أخذهما إليه؟ تلك المعالم التي تبدّت مع الصّور المُرعبة للزّنازين الموحشة، ولحقيقة أنّ هناك معتقلين، لا يعرفون حتى لماذا هم هناك.

ما كان يجري في هذا المعتقل الوحشي من جرائم مُمَنهجة كان قد جرى كشفه قبل سنوات في تقريرٍ لمنظّمة العفو الدّوليّة Amnesty International (وهي منظّمة حقوقيّة تُعنى بحقوق الإنسان، وتحظى كغيرها من المنظّمات الحقوقيّة بكراهيّة “المسؤولين” العرب والإسرائيليّين على حدٍّ سواء)، يشير إلى أنّ ما يزيد على ١٧ ألفًا كانوا قد لقوا حتفَهم أثناء احتجازِهم في المعتقلات السّوريّة خلال خمسة أعوام فقط (التّقرير صدر عام 2016، والأعداد تضاعفت بعد ذلك). وقتها لم يختلف ما ورد في التّقرير الحقوقي (وحظيَ كالعادة العربيّة المُعتادة بتكذيبٍ من المسؤولين السّوريّين) عن ما يعرفه كلّ السّوريّين، أو عن ما جاء تفصيله في كتاب يوثّق (أكرّر: “يوثّق”) تلك الفظائع، كان قد صدر في أكتوبر/تشرين الأول 2015، ويحمل عنوان “عمليّة قيصر”. وقيصر هذا هو الاسم المستعار لمصوّر في قسم التّوثيق في الشّرطة العسكريّة السّوريّة، كانت مهمّته تصوير الجثث وأرشفتها. ثم كان أن تمكّن من الهرب إلى أوروبا في يوليو/تموز 2013. ومعه ما يزيد عن 45 ألف صورة، للتّعذيب والانتهاكات التي تحدث في السّجون التي كان مع زملائه يتولّى، بحكم وظيفته أرشفة جثث ضحاياها.

لكلّ نتيجة مقدّماتها. ولم يكن ما شهدناه قبل أسبوع من سقوطٍ للنّظام (وتداعيّات ذلك السّقوط) ليحدث بهذه الطّريقة الدراماتيكيّة، أو أن يحتفي بسقوطِه السّوريّون بتلك الطّريقة ما لم يكن النّظام ذاته قد مهّد لذلك باستبداده وآلته الأمنيّة القمعيّة الجهنّميّة. وهي تجربة تكرّرت مائة مرّة عبر التّاريخ من رومانيا (تشاوشيسكو) شرقًا، إلى تشيلي (بينوشيه) غربًا. والأمثلة عبر التّاريخ والجغرافيا لا تُعدّ ولا تُحصى.

صحيحٌ أنّنا ربّما لا نعرف، بما يكفي من هو أحمد الشّرع (أو أبو محمد الجولاني) بكل ما يعنيه الاسم/اللّقب من دلالات. ولكنّي لا أحسب أنّ الأمر يختلف كثيرًا إنْ كنّا بصدد ما نعرفه (أو لا نعرفه) أو بتنا نعرفه عن كثير من “الزّعماء والقادة” الّذين جثموا على أنفاسنا (أو ما زالوا)، في هذا البلد العربي أو ذاك (لا أريد أن أضرب أمثلة).

أتفهّم التّشكيك في شخصيّة قائد (التّحرير) كما في تاريخه، ولكن أيًّا كانت الدّوافع وراء هذا التّشكيك، أو أيًّا كانت صحّة المنطق الذي يستند إليه، فمن المنطق الصّحيح أيضًا أنّ ما من غريقٍ يطلب من منقذِه إبراز بطاقة الهُويّة، أو صحيفة “الحالة الجنائيّة” قبل أن يصعد معه إلى قارب الإنقاذ. فأرجوكم، قبل أن تجلسوا في مقاعدِكم الوثيرة لتُحاسِبوا السّوريّين على فرحتِهم حاسِبوا أوّلًا من أغرقَهم لعقودٍ في بحار من اليأس والدّماء.

صحيحٌ أنّ المخاوف في محلّها، فالأصابع التي تلعب فوق الطّاولة (وتحتِها) كثيرة، والخارطة معقّدة التّفاصيل، والمستقبل شديد الغموض. ولكن ما جرى بحلوِه ومُرِّه، وتداعيّاته غير المحدودة على الإقليم بأكمله، بدا حتميًّا بحكم ما قرأناه من دروس التّاريخ.

—————————-

خمسة مُحددات لبناء سوريا الجديدة/ محمود علوش

2024.12.17

منذ اندلاع الثورة السورية قبل 14 عاماً، وضع السوريون هدفين واضحين لها: التخلص من حكم آل الأسد الذي أسس جمهورية الرعب على مدار أكثر من خمسة عقود، وبناء سوريا الجديدة القائمة على معايير المواطنة والديمقراطية ودولة المؤسسات. بفرار الديكتاتور بشار الأسد من دمشق وانهيار نظامه، يكون الهدف الأول قد تحقق. لكنّ الهدف الثاني لا يقل صعوبة وأهمية عن الأول.

حقيقة أن الأسد ترك خلفه بلداً مُحطماً على كل المستويات تُضاعف من حجم التحدي على السوريين. لقد لعبت العوامل الخارجية المؤثرة في الصراع وعلى رأسها الداعمان الروسي والإيراني للنظام وتخلي المجتمع الدولي عن التزاماته بدعم تطلعات السوريين للحرية دوراً رئيسياً في جعل تكاليف التخلص من نظام الأسد باهظة إلى هذا القدر. لكنّ العوامل نفسها كان لها الدور الأكبر في التخلص منه. إن قرار كل من موسكو وطهران عدم التدخل لإنقاذ الأسد في الأسابيع الأخيرة التي أعقبت انهياره نظامه، تُشير إلى حقيقة أن حلفاء النظام أنفسهم لم يعودوا يجدون فائدة لهم في استمراره. ولا يرجع ذلك إلى أنهم أرادوا التكفير عن خطاياهم تجاه الشعب السوري بقدر ما أنهم لم يعودوا قادرين على تحدي طموحات السوريين لاعتبارات خاصة بهم.

لا تُقلل التحولات الكبيرة التي طرأت على ديناميكيات السياسات الإقليمية والدولية المؤثرة في سوريا في السنوات الأخيرة بطبيعة الحال من شأن الإرادة الصلبة التي أظهرها السوريون لمواصلة النضال ضد حكم آل الأسد رغم التكاليف الباهظة التي تكبّدوها. وهذا ما يُظهر حاجتهم اليوم إلى الاعتماد على أنفسهم بقدر كبير للعبور نحو الدولة الجديدة. إن العلاقة الجيدة مع المُحيطين الإقليمي والدولي لا غنى عنها لتحصين التحول السوري وتعظيم فرص نجاح عملية التحول الانتقالي. فالعالم معني الآن بنجاح تجربة التحول لحسابات واعتبارات مُختلفة خاصة به.

لقد راهن الأسد بدهاء على مصالح الخارج في سوريا واستطاع توظيفها لإطالة عمر نظامه خلال الحرب. لكن سوريا الجديدة قادرة أيضاً على استثمار هذه المصالح بحنكة بالغة لتحفيز المجتمع الدولي على الوقوف إلى جانبها. وحقيقة المكانة الجيوسياسية الحساسة التي تتمتع بها سوريا تُعزز من اهتمام الخارج بها الآن أكثر من أي وقت مضى. وفي ضوء ذلك، تُظهر الرسائل الإيجابية التي أبدتها الإدارة الجديدة في سوريا تجاه المُجتمعين الإقليمي والدولي الحنكة المطلوبة لطمأنة الخارج بأن سوريا الجديدة يُمكن أن تُشكل قيمة كبيرة للعالم بعدما عزلها نظام البعث عن الخارج وحوّلها إلى مُصدّر لحالة عدم الاستقرار في المنطقة.

من بين الاختبارات السريعة، التي واجهتها سوريا الجديدة، التحركات العسكرية الإسرائيلية المثيرة للقلق والريبة بعد الإطاحة بنظام الأسد. وقد أظهرت الإدارة الجديدة بوضوح أن أولويتها الراهنة تتمثل في العبور نحو الدولة الجديدة وتجنب الوقوع في فخ تشتيت الأولويات. كما أن التفاعل الإيجابي مع الخارج يُشكل وسيلة أكثر فعالية للتعبير عن مصالح السوريين فيما يتعلق بالمطامع الإسرائيلية. وأظهرت الإدارة الجديدة حنكة في مخاطبة روسيا وتبني منطق الدولة في مقاربة مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا. ففي نهاية المطاف، فإن إظهار هذا المنطق لا يُساعد سوريا الجديدة في تقديم نفسها كصديق مُحتمل لروسيا بعد هذا التحول فحسب، بل يُقلص من مخاطر وقوع سوريا مرّة أخرى ضحية التنافس العالمي في الشرق الأوسط. ومن بين الفرص الكبيرة التي يُقدمها التحول السوري أن مختلف القوى الفاعلة الإقليمية والدولية ليست لديها مصلحة في فشل العبور السوري نحو الدولة الجديدة. وتُشكل هذه الحقيقة نُقطة ارتكاز لتشكيل السلطة الجديدة في سوريا علاقات مرنة وودية مع الخارج.

مع ذلك، من المهم إدراك أن مسؤولية العبور نحو سوريا الجديدة مُلقاة بدرجة أساسية على عاتق السوريين أنفسهم لأنهم وحدهم من يُقررون الكيفية التي يُريدون بها تشكيل الجمهورية الجديدة ويستطيعون فرض رؤيتهم على الخارج. وهنا تبرز أهمية توفر خمسة عوامل رئيسية في إدارة التحول الانتقالي. أولاً، توفير إجماع وطني شامل عبر انخراط مُختلف مكونات الشعب السوري السياسية والدينية والإثنية في عملية تشكيل مستقبل سوريا بعد آل الأسد، وثانياً، تحديد معايير واضحة لهذه العملية تقوم على المواطنة وتأسيس نظام سياسي جديد يرتكز على جوهر الديمقراطية والحياة السياسية النظيفة، وثالثاً، الاستفادة من بقايا مؤسسات الدولة التي تركها الأسد وإعادة تشكيلها وفق معايير الكفاءة. ورابعاً، العدالة الاجتماعية التي تضمن محاسبة المسؤولين السابقين على الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري خلال سنوات الصراع. وخامساً، مخاطبة العالم بصوت واحد للتأكيد على حاجة سوريا إلى استعادة سيادتها على كل أراضيها وإخراج القوات الأجنبية الموجودة فيها.

إن توفر هذه المُحددات الخمسة لبناء سوريا الجديدة يبدأ أولاً من احتكار القوة بيد السلطة لأنها ركيزة أساسية من ركائز شرعيتها. ويتم ذلك من خلال صياغة رؤية تعمل على حل جميع الفصائل المسلحه ودمج مقاتليها في المؤسسات العسكرية والأمنية بعد إعادة تشكيلها. وبالنظر إلى أن العديد من هذه الفصائل تحظى برعاية ودعم من جانب الدول المنخرطة في الصراع،. فإن التفاعل الإيجابي مع هذه الدول يُساعد في توفير الظروف المناسبة لإنجاح هذه العملية. ويبرز الوضع الاقتصادي كعنصر ضاغط بقوة على عملية التحول الانتقالي. لكنّ تحديد السلطة الجديدة لنهج واضح في إدارة التحول الانتقالي يُساعد في إزالة هذه العقبة ويضمن انخراطاً إقليمياً ودولياً إيجابياً في تقديم المساعدات الاقتصادية لسوريا وإخراجها من عزلتها. علاوة على ذلك، فإن الانخراط الوطني الشامل في عملية التحول الانتقالي يُضفي مشروعية داخلية على عملية التأسيس للنظام السياسي الجديد. لقد تسبب حكم البعث في إضاعة فرص أكثر من خمسة عقود على سوريا. لكنّ اللحظة الراهنة يُمكن أن تُعوض هذه الفرص إذا ما ارتكزت على المُحددات الخمسة.

تلفزيون سوريا»

—————————

عن لقاء العقبة والدور الأممي المطلوب في سوريا/ حسن النيفي

2024.12.17

يجسّد لقاء العقبة في المملكة الأردنية الهاشمية يوم السبت الفائت (14 – 12 – 2024) حراكاً سياسياً عربياً وإقليمياً ودولياً هو الأول من نوعه في أعقاب سقوط نظام الأسد، وقد جاء هذا اللقاء في سياق يؤكّد على أن الشأن السوري كان وما يزال محطّ اهتمام عربي واسع، ليقين الجميع بأن التحوّلات الكبيرة التي تجري في سوريا لن تنحصر تداعياتها على الجغرافية السورية فحسب، بل لها امتداداتها العربية والإقليمية.

وبعيداً عن العبارات والمواقف التي تدلّ على إجماع واسع في دفع عملية الانتقال السياسي في سوريا بسلاسة عبر إشراك جميع السوريين في صياغة مستقبلهم وتوفير الفرصة لمساهمات فعّالة من جميع الطيف السوري -قومياً ودينياً- وكذلك بعيداً عن المواقف التي جاءت مؤكّدةً لسابقاتها فيما يخص الحرص على وحدة وسلامة الأرض السورية وإدانة العدوان الإسرائيلي المتكرر على سيادة الدولة السورية واستباحة بنيتها العسكرية ومقدراتها المادية وكذلك إدانة التوغل الصهيوني في عمق الأراضي السورية، أقول: بعيداً عن كل ذلك، فإن ثمة ما يستوقف الكثير من السوريين، بل وربما يثير المزيد من التساؤلات التي لا تخلو من الريبة، وأعني بذلك تأكيد جميع من التقوا في العقبة على أن تكون العملية السياسية في سوريا مُستندةً إلى القرارات الأممية، وعلى وجه الخصوص القرار رقم 2254، جاء ذلك ضمن البيان الذي أصدرته لجنة الاتصال العربية المنبثقة عن مجلس الجامعة العربية، وكذلك جاء هذا التأكيد على لسان المبعوث الدولي غير بيدرسن الذي سافر إلى دمشق في اليوم التالي للقاء العقبة، للقاء القيادة السورية الجديدة، كما أكّد بيدرسن على أن العملية الانتقالية في سوريا سوف تكون تحت إشراف الأمم المتحدة ووفقاً لمرجعية القرار المذكور سالفاً.

عقم المسارات التفاوضية:

صدر القرار الدولي 2254 في 18 من كانون الأول عام 2015 مؤكِّداً على وجوب عملية انتقال سياسي في سوريا سمّاها القرار المذكور: (حكماً ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية)، علماً ان القرار نفسه جاء مسبوقاً بقرارين أمميين (جنيف 1 في حزيران 2012 و2118 في أيلول عام 2013)، وكلاهما يتضمن إقراراً بعملية انتقال سياسي تتمثل بتشكيل هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات كاملة، تتشكّل بالتفاهم بين النظام والمعارضة، وبناء عليه يكون القرار 2254 موضّحاً لما جاء في القرارين السابقين وشاملاً لما ورد فيهما بآن معاً، وليس ناسخاً لهما، لأن القرارات الصادرة عن مجلس الأمن لا تلغى ولا ينسخ بعضها بعضاً ولا تتناقض، بل يجب تفسيرها وفقاً لمبدأ (الأثر التراكمي) وذلك بحسب القانون الدولي.

وعلى الرغم من تعدد المسارات التفاوضية (جنيف – أستانا – اللجنة الدستورية) إلا أن العملية السياسية لم تتقدّم قيد أنملة، علماً أن المعارضة السورية أبدت المزيد من الاستجابة والمرونة في التعاطي مع مقترحات المبعوثين الدوليين، إذ قبلت بفكرة (السلال الأربع) التي اقترحها ديمستورا في اللقاء الرابع في جنيف في 23 شباط 2017، كما قبلت بتنحية سلة هيئة الحكم الانتقالي، وتقديم سلة الدستور إبان الشروع في تشكيل اللجنة الدستورية التي انطلقت في 30 من تشرين الأول 2019، وعقدت ثماني لقاءات لم تفض إلى شيء على الإطلاق، وبات واضحاً للجميع أن نظام الأسد لا يريد من عملية التفاوض سوى كسب المزيد من الوقت للاستمرار في الحل الأمني من جهة، ولمشاغلة الرأي العام الدولي وإيهامه بالمشاركة في العملية التفاوضية من جهة أخرى. وعلى مدى عشر سنوات من التفاوض العقيم لم يشر السيد بيدرسن ولا مرة واحدة إشارة صريحة تؤكّد أن مصدر العقم هو نظام دمشق.

ماذا يريد بيدرسن وسواه من القرار 2254 ؟

في الثامن من الشهر الجاري سقط نظام الأسد، ليس نتيجةً لمسارٍ تفاوضي، بل بفعل عسكري ثوري تجسّد بعملية (ردع العدوان) التي انطلقت في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني الفائت، وقادتْها وخططتْ لها هيئة تحرير الشام وبمشاركة فصائل أخرى تنسق معها، ما يعني أنه لم يبق في المشهد السياسي خصمان متنازعان، بل انتصر أحدهما وزال الآخر، وهنا لا بدّ من طرح سؤالين اثنين:

الأول: بسقوط نظام الأسد لم يبق طرفان متصارعان، بل زال أحدهما وانتصر الآخر، فمع من سيتفاوض الطرف المنتصر؟ هل عليه استحضار خصم افتراضي مثلاً؟ أم هل يتوجب على المعارضة البحث عن مؤيدين للنظام السابق لاستيفاء الجانب الشكلي للعملية الانتقالية وفقاً للقرار الأممي المذكور؟

الثاني: إن الدعوة إلى ضرورة إشراف أممي على العملية الانتقالية تقتضي حكماً أن يقوم المبعوث الأممي السيد بيدرسن بتقديم تقرير إلى الأمين العام للأمم المتحدة يتضمن إحاطة بخلاصات تلك العملية الانتقالية، وبدوره سيقوم الأمين العام بإحالة هذا التقرير إلى الجهة التنفيذية للأمم المتحدة، (مجلس الأمن الدولي) من أجل التصويت الذي يجيز أو يرفض تلك العملية، وهنا يعود السوريون من جديد إلى الدخول تحت سطوة الفيتو الروسي والصيني، ولعل المفارقة الأبرز هنا تكمن في أن الفيتو الروسي الذي حال دون معاقبة نظام الأسد على كل جرائمه بحق السوريين طوال السنوات السابقة، قد عاد من جديد ليصادر إرادة السوريين ويتحكّم في العملية السياسية التي يجمعون عليها، ويتحكّم –كذلك– بمصيرهم وكيفية رسم ملامح مستقبلهم.

لا ريب في أن كيانات سياسية معارضة ترحّب بدور للأمم المتحدة في عملية الانتقال السياسي، وكان من الممكن تفهّم ترحيبها لو أن الدور الأممي كان مقتصراً على تقديم المشورة والمساعدة، كأنْ تكتفي بالإشراف على استفتاء شعبي على الدستور الجديد، أو الإشراف على انتخابات رئاسية أو برلمانية مثلاً، أمّا أن يكون الدور الأممي وصائياً يجعل خيارات السوريين مرهونة بيد أطراف دولية والغة بالدم السوري فهذا ما يثير المزيد من الاستغراب.

لا يفوتنا التأكيد على أن لقاء العقبة الذي أبدى حرصاً كبيراً على ضرورة ألّا تكون سوريا ملاذاً للإرهاب والتطرف، كما أبدى حرصاً مماثلاً للحفاظ على حقوق الأقليات العرقية والدينية وضرورة مشاركتها الفعّالة في المشهد السياسي السوري، وكذلك دعوتهم إلى عودة اللاجئين والنازحين إلى بيوتهم، إلّا أنهم لم يشيروا ولو بإيجاز إلى جرائم الأسد بحق السوريين وإلى ضرورة محاسبته وفقاً لمفهوم العدالة الانتقالية، وذلك على الرغم من المشاهد الفظيعة والمروّعة عن سجن صيدنايا، باستثناء المندوبة عن الاتحاد الأوربي التي حضرت لقاء العقبة، وكان صوتها هو الوحيد الذي دعا إلى محاكمة رأس النظام وضرورة امتثاله للقضاء.

————————–

حلب: نحو فهم سوسيولوجي للمدينة/ لينة شامي

2024.12.17

قبل ثمانية أعوام من الآن، كان الموت يطرق كل الأبواب شرقي حلب طرقاً بكل همجية ووحشية. كانت المجازر التي ارتكبتها قوات النظام والقصف الروسي وإيران وميليشياتها يومية ومهولة. أهدافهم الرئيسية كانت المستشفيات والمدارس وفرق الإنقاذ والمنازل. واشتدت وتكثفت مع إطباق الحصار على القسم الخارج عن سيطرة النظام من المدينة. كانت حلب المكان الأخطر في العالم كما وصفتها الصحف العالمية. لكن عملياً ليس كلها، إنما قسمها الشرقي فقط. وفي حين تناثرت إثر قذائف للنظام في حي جب القبة أشلاءٌ لعائلات حاولت العبور وسط حمام الدم هذا، أملاً في النجاة، نحو الأحياء الغربية للمدينة، كانت الحياة تبدو عادية في الطرف الآخر، لا تعكر عاديتها سوى أصوات القصف في الجوار. وفي حي الشعار في شارع بدد القصف ملامحه، عندما تدلى رأس عجوز على كرسيها المتحرك إلى الخلف بعد أن فارقت الحياة، استبشر آخرون على الضفة الأخرى من الموت بنصر حلب وبالخلاص. وحين اصطفت الحافلات الخضراء وسط شارع من ركام القصف لتهجير من تبقى على قيد الحياة من أبناء المدينة في قسمها الشرقي، رقص وغنى “أبناءٌ للمدينة أيضاً” على بعد أمتارٍ في قسمها الغربي فرحاً بـ “عودة حلب لأهلها”.

منذ أيام تحررت مدينة حلب بكاملها، بشرقها وغربها، وكان حدثاً مدوياً تلاه ما هو أعظم وأجل، إذ تسارعت أخبار التحرير لمدن وبلدات سورية عدة تباعاً حتى دخل الثوار مدن حماة ثم حمص ودمشق وأسقطوا نظام الأسد بعد 12 يوماً فقط من بدء معركة ردع العدوان. وفي الجمعة الأولى التي تلت سقوط النظام خرجت أمواجٌ هائلة من البشر احتفالاً بهذا النصر ملأت الساحات الرئيسية للمدن الكبرى المحررة على نحو غير مسبوق، بما في ذلك مدينة اللاذقية الواقعة في منطقة تعتبر معقلاً للنظام البائد وحاضنته. في حين خرجت أعداد متواضعة جداً بالمقارنة في مدينة حلب تجمعت في ساحة سعد الله الجابري.

في الأيام الأولى من معركة ردع العدوان التي تلت تحرير مدينة حلب وقبل دخول الثوار مدينة حماة، بدا المشهد في حلب مضطرباً، خاصة مع قيام قوات النظام بقصف مواقع في المدينة بالطائرات وقع على إثرها عشرات الضحايا. لم يغلب الفرح بتحرير المدينة على جميع من فيها، إذ تجهمت وجوه عديدة لدى دخول الفصائل المحررة وفر العديد من سكانها باتجاه حماة ليلاً، في حين انتظر آخرون عودة قوات النظام لبسط سيطرتها على المدينة وهو ما لم يحدث.

تُعيد إلى السطح النقاشات والسجالات الحاصلة الآن أسئلة الثورة الأولى حول هذه المدينة وعلاقتها المرتبكة بالثورة. هل ثارت مدينة حلب أم ثورت؟ وهل كان تحرير المدينة مدعاةً للفرح أم على النقيض منه في أذهان الحلبيين؟ ومن هم الحلبيون بالأمس واليوم؟

كتب حسام جزماتي ابن مدينة حلب قبل سنوات مقالاً يراه البعض قاسي اللهجة بعنوان “شهبا وش عملوا فيكي” قال فيه إن حلب وقفت ضد الثورة منذ البداية وأن الثوار “واجهوا عسر تحريك المدينة حتى زجت الأحياء الشرقية منها في الثورة في منتصف 2012 بعد دخول الجيش الحر من الريف مستنداً على شبكات القاطنين في حلب” ومشيراً أيضاً إلى دور الطلاب الوافدين في الحراك الثوري وبعض “الشامات” من أبناء حلب.

أثار المقال بطبيعة الحال ردود فعل عنيفة من قبل بعض ثوار المدينة الذين قادوا الحراك الثوري فيها وكان وصف القاطنين” الأكثر جدلاً، حيث يفترض نزع الانتماء للمدينة لوجود أصول بعيدة من خارج المدينة، وهو ما أشار إليه فراس ديبة ابن مدينة حلب أيضاً، في مقال معارض للسابق موضحاً أن استخدام لفظة “قاطنين” إنما يريد بها الكاتب أن يذكّر كثيرين بأن “عمرهم الذي قضوه هم وآباءهم وأولادهم في مدينة حلب ليس كافياً لاعتبارهم حلبيين”.

ليس هذا الرأي أو ذاك هو ما يحدد هوية المدينة وتموضعها وإنما هو هذا الخلاف تحديداً. فهو يمثل حجر الأساس لفهم ديناميكية العلاقات الاجتماعية ضمن فضاء هذه المدينة والصراع الدائم الظاهر والمستتر بين مختلف مكوناتها على “الحق في المدينة” بمفهوم لوفيفر.

لا بد من الإشارة هنا أن سقوط النظام قد وارى العديد من السجالات وردود الأفعال التي استبدلها أصحابها وانطوت مع صفحة سابقة لم تعد موجودة في سورية مع زوال نظام الأسد. إلا أنه من المهم لنا هنا أن نعيد انتشالها والتقاط ما تقول. الهويات التي تنضوي عليها المجتمعات تكون إما ظاهرة أو مستترة، وقد تتعدد وتتداخل فيما بينها وتعرف كل جماعة نفسها سعياً للتمايز ضد آخر معين. قد يختلف التعريف الذاتي لجماعة ما ويختلف الآخر الذي يتحدد وفقه الانحياز الهوياتي وفقاً للحدث المحرض الذي يُبرز انحيازا هوياتيا ما أكثر من غيره. ربما تخفت بعض الانقسامات ظاهرياً في المرحلة القادمة، لكنها حتماً ستبرز عندما تواجه حدثاً كاشفاً يمكن له إعادة تفعيلها.

ولنفهم الانقسام المديني الأبرز على مدار السنوات الماضية الذي امتازت به مدينة حلب علينا بالعودة إلى الأيام الأولى التي تلت تحرير المدينة وقبل انهيار النظام وإعلان السقوط.

من تابع عن كثب ما نشره أبناء المدينة وتعليقاتهم حول دخول الثوار للمدينة سيلاحظ أموراً منها:

    شريحة ثورية رأت أن مدينة حلب تحررت من قبضة نظام مجرم وصار بإمكان أهلها الذين هجروا منها فيما مضى بعد حملات قصف شرسة ومجازر وحصار العودة إليها. وهؤلاء فرحون بمشاهد تحرير المعتقلين ولقاء الأبناء مع الأهل بعد أعوام من الحرمان، يتشاركون المخاوف من انتقام النظام بالطيران، ولن أنظر هنا في الاختلافات البينية دون ذلك، من مرحب بدخول الفصائل المحررة أو من يحمل تجاههم وتجاه المستقبل المجهول مخاوف وتوجسات.

    مقابل الفئة الثورية هذه، هناك فئة رأت أن “حلب راحت” وهي ذات الفئة التي رأت قبل سنوات في نهاية 2016 أن حلب “رجعت لأهلها” وذلك بعد تهجير سكان القسم الشرقي قبل سنوات بعد حملات قصف عنيف ومجازر وحصار. وهنا أستثني منها شريحة المؤيدين والمستفيدين من النظام من أبناء المدينة، فهذه الرؤية ليست حكراً على الموالين.

    وعندما سيطر الثوار على المدينة وقامت قوات النظام بقصف مواقع مدنية فيها، نلحظ أن من هؤلاء من عبروا عن صدمتهم من استهداف طيران النظام بالقصف لمنازل مدنيين ومستشفيات كأنها أول مرة تحصل، وقد حدث ذلك سابقاً في مدينتهم لكنه كان قصفاً “على هديك المناطق” لمدنيين بعيدين عنهم في أحياء مجاورة منعزلة خلف سواتر وقناصين. وكانوا قد اختاروا عدم الوعي بأن هذا القصف قد حول منازل كثيرة إلى ركام وهشم رؤوس أطفال ومزق عائلات وقلوباً كثيرة، ليفتحوا عيونهم اليوم مصدومين من قساوة مشهد الموت والأشلاء بالطائرات. فكل ما جرى على مدار أكثر من ثلاثة عشر سنة في سورية، بل وفي حلب أيضاً، لم يعبر وعي هذه الفئة للواقع. قد تمر الأخبار هنا وهناك أمامهم لكنها ليست سوى ضوضاء غير مهمة تظهر بصوت غير مسموع في خلفية أيامهم تشوش على سيرورة واقع آخر متخيل شديد التمحور حول الذات.

    وبين من هو فرح بتحرير المدينة من قبضة النظام والميليشيات الموالية له، ومن رأى أن “حلب راحت”، قد يلمس المتابع لدى قسم لا بأس به من أبناء حلب، انتماءً للمدينة لذاتها، بشكل منعزل عن الانحياز للنظام أو للثورة، يبرز كحلقة وصل حتى بين أكثر الثنائيات تناقضاً منذ بداية الثورة (الثورة/ النظام). ويعلو على غيره من الانتماءات والانحيازات. وقد لا تجد مثله في مدن أخرى مثل معرة النعمان أو إدلب ولا في مدن كبيرة مثل حمص وحماة بمعزل عن ثنائية الثورة/ النظام. في الغالب يمكن ملاحظته في مدينة دمشق لتشابه في الظروف الاجتماعية. وإن هذا الملموس من الانتماء المديني المتفوق على سواه من الانحيازات تجده في هذا الظرف حتى لدى بعض أطراف النقيضين: المنحازون للنظام وبعض المنحازين للثورة من أبناء المدينة.

وحتى نفهم كيف نشأت هذه التموضعات والانقسامات، علينا أن نعود بالزمن إلى الوراء قليلاً. قبل الثورة بكثير.

تخبرنا أدبيات العمران أنه حين يتفاعل الأفراد في فضاء عمراني ما مع بعضهم بعضاً، فإن الاختلافات التي بينهم تبدأ بالتآلف نتيجة للتفاوض وتنحسر الحواجز الاجتماعية بينهم أو تتلطف. لكن حين توجد ديناميكيات قوة في هذا الفضاء فإن التفاعل بين الأفراد يؤدي إلى ترسيخ ديناميكيات القوة هذه. في كل فضاء مديني في سورية تجد انقسامات أوضح من غيرها، على أنها ليست الوحيدة. ففي مدينة مثل حمص تبرز ثنائية سني – علوي وتتغير تراتبية القوة والأفضلية لصالح أحد المكونين تبعاً لفضاء الاحتكاك، وفي مدينة مثل حماة تبرز ثنائية بعثي وغير بعثي، وهي مقدَّمة على ثنائية مديني وريفي وإن تداخلت معها، ويمتلك أبناء المدينة غير البعثيين ضمن فضاءاتهم الأفضلية في تراتبية التفوق الاجتماعي مقابل الآخر البعثي. أما في مدينة حلب فالثنائية الأبرز هي الحلبي وغير الحلبي أو “الغريب”.

هناك سؤال شهير يتردد على لسان فئة ترى نفسها الممثل عن السكان الأصليين في المدينة ألا وهو: “من وين أنت؟”، وحين يجيب المجيب: “من حلب”، سيتبعه غالباً سؤال آخر: “من حلب حلب؟ ولا؟؟ أو “وين ساكنين بحلب؟”. وعليه سوف تتحدد التراتبية الاجتماعية للعلاقة ولو اقتصر هذا التحديد على ذهن السائل فقط. يحدد “الساكن الأصلي” موقع الآخر الذي قد يكون ابن المدينة أيضاً ضمن تراتبية متخيلة من التفوق الاجتماعي تبعاً للحي الذي يقطنه أو وفق أصوله التي تعود إلى خارج المدينة ربما قبل جيلين أو أكثر.

ليمتلك بذلك سلطة رمزية تمارس عنفاً رمزياً بمفهوم بورديو على الآخر الأقل في التراتبية الاجتماعية بالنسبة له ضمن فضاء المدينة، إذا اعتبره الغريب أو الدخيل. وربما لم تذهب بعيداً هذه السلطة الرمزية بتسلطها لكنها شكلت تباينات اجتماعية واضحة للناظر في أحوال للمدينة.

كيف نشأت هذه الثنائية؟

يصاحب الصفة المدينية في أدبيات العمران التي تهيمن عليها الدراسات الغربية صفة الخروج من ضيق الانتماءات المحلية والتحرر من الروابط الاجتماعية وتعزيز الفردانية. ولدرجة ما هذا يبدو صحيحاً في سياق تطور وتشكل المدن الغربية عموماً وفضاءات مدينية معينة في دول العالم الثالث عربياً وغير ذلك. لكن بصفة عامة فإن مدن المشرق وتحديداً الدول التي نتجت بعد تفكك الخلافة العثمانية لطالما لازمتها صفة المحلواتية (localism). تاريخياً في سورية كان للمدن مكانة سياسية معتبرة، وكانت السياسة حكرا على المدينة والنخب المدينية (الأعيان). وخلال العهد العثماني مثلت كل مدينة صلة الوصل بين ريفها وعاصمة الإمبراطورية. وقد طغت لقرون طويلة البنية الزبائنية على التنظيم السياسي والاجتماعي، إذ اعتمد الحكم العثماني على أعيان محليين تمتعوا بنفوذ اجتماعي محلي واسع لبسط السيطرة. وهم بطبيعة الحال أعيان المدينة. لعبت أحياء المدن دوراً مهماً كفضاءات مركزية للتنظيم السياسي والاجتماعي، حيث لكل حي أعيانه ووجهاؤه من ذوي النفوذ الاقتصادي، الديني أو العسكري.

مع اقتراب نهاية الدولة العثمانية بدأت سلطة الأعيان تضعف مع صدور التنظيمات وتحول السلطة نحو الحكم المركزي، وصاحب تلك الفترة استدخال أنماط عمرانية ومعمارية أوروبية في تطوير المدن وتسارع ذلك في عهد الانتداب الفرنسي. لكن في مدينة حلب ظلت الأحياء القديمة المركز الاجتماعي والاقتصادي لأهالي حلب، ولم تحدث الأنماط المعمارية المستحدثة تغييراً بنيوياً حقيقياً في النسيج الاجتماعي إلا بعد بدء أثرياء الأهالي باقتناء السيارة كوسيلة نقل في منتصف القرن العشرين في الخمسينيات. عندها بدأ الأثرياء من العائلات بالانتقال من المدينة القديمة نحو منازل طابقية في الأحياء الغربية مبنية على الطراز الأوربي في حين أصبح مركز المدينة القديم أكثر ازدحاماً بفعل الهجرة إلى المدينة التي تفرضها حاجات عدة اقتصادية وتعليمية. في عهد البعث ازدادت الهجرة من الريف والمدن المجاورة إلى المدينة واكتظت أحياء المدينة القديمة بالقادمين الجدد بالإضافة إلى استحداث أحياء أخرى عشوائية أحاطت بالمدينة القديمة. دفع ذلك السكان من العائلات القديمة في سعيهم للتمايز إلى الهجرة من المدينة القديمة نحو الأحياء الحديثة ما إن تسمح القدرة المادية على ذلك. ومن تبقى منهم كأمر واقع اختلط بالنسيج الاجتماعي الجديد ونال قدراً من الوصمة الاجتماعية وتحدرت مرتبته في التراتبية الاجتماعية المتخيلة تلك.

كان لتراجع المكانة السياسية والدينية والاجتماعية للنخب المدينية آثارها على الهوية الحلبية لأهلها القدامى. وغذت سياسات البعث البغض تجاه القاطنين الجدد حيث اعتمد في أجهزة الدولة الأمنية والبيروقراطية على الشريحة الريفية بشكل واسع ومقابل ذلك اتخذ أهالي مدينة حلب سلوكاً تجنبياً تمثل في الامتناع عن الانخراط في مؤسسات الدولة أو الخدمة العسكرية الإلزامية عبر “التفييش” أي، دفع رشاوى دورية للضباط. هناك أيضاً عامل مهم أسهم في تغذية البغضاء تلك ألا وهو تقوية نفوذ عشائري مسلح وإطلاق يده في المدينة بالتوازي وبشكل متنافس مع عنف الأفرع الأمنية. حيث نشأت في حالات عدة حرب شوارع بين فرع مخابرات وقوة من العشائر من دون تدخل من الدولة التي كانت تسمح بذلك تحت سقف الاحتفاظ بالولاء لرأس الحكم. وكانت تلك العشائر تحتفظ بمقاعد ثابتة في مجلس الشعب. وهذا العنف عانى منه جميع أهالي المدينة على اختلاف أصولهم.

أسرد فيما سبق بشكل سريع ومختصر جداً مجموعة من العوامل المفتاحية لفهم الحالة وهي ليست كل ما يقال، هناك أجيال تعاقبت ضمن فئة السكان الأصليين القدامى لا تعي بالضرورة هذه المتغيرات والظروف وربما لم تسمع بها لكنها ورثت الذهنية التي تشعر بضرورة التمايز والشعور بالتفوق الاجتماعي على المكونات الأخرى. يصبح معنى الهوية الحلبية (للحلبي الأصل) مستمد من فكرة متخيلة عن المدينة قادمة من الماضي. يتغنى هؤلاء بتراث حلب ويحبون مدينتهم القديمة التي تشوهها جموع السكان القاطنين فيها ممن لا يقدرون قيمتها، ويتشاركون شعوراً موروثاً بالخسارة والحنين النوستالجي الأبدي لحلب وقلعتها وحاراتها القديمة. غادر جيل الأعيان المدينة القديمة بعد زمن من أفول نفوذه، وعادت الأجيال اللاحقة إليها لقضاء وقت مترف في احتساء القهوة والأرجيلة مع إطلالة على القلعة والتغني بالانتماء للمدينة مع الاستئثار وحدهم بهذا الانتماء على أنغام أغنيات تعزز هذه النرجسية. ويرى الحلبيون (المحتكرون انتماءهم للمدينة) نفسهم أقلية فيها. ويذهبون مذهب الأقليات في بعض السلوكيات الاجتماعية مثل استجلاب التراث والتقوقع على الذات والتمايز الاجتماعي الذي يظهر بشكل أوضح في علاقات المصاهرة، حيث يمتنع كثير من الحلبيون (الأصليون) عن الزواج من غير الحلبي أو الحلبية خاصة إن لم تثبت لهم أصول مدينية، وإن حصل ذلك فهو أمر يقترب من الوصمة أو بأقل تقدير غير محبب.

أيضاً لا تعرف هذه الفئة جغرافيا المدينة، ويمتلكون خريطة ذهنية للمدينة متقزمة تنحصر ضمن مربع في القسم الغربي والمدينة القديمة، في حين يعرف سكان المدينة غير الأصليين جغرافيا أوسع ويمتلكون شبكات تواصل ممتدة بشكل أكبر وأكثر انفتاحاً.

هناك أيضاً من سكان المدينة من يحملون أصولا “غير صافية حلبياً” نتيجة لزواجات بين أصليين وقاطنين، والمنقوص من مدينيتهم في ذهنية “السكان الأصليين”، والمتأثرون لتقاطع الدوائر الاجتماعية بالسلطة الرمزية لتراتبية التفوق الاجتماعي المهيمنة في فضاءاتهم. هؤلاء بحكم العنف الرمزي الممارس من قبل تلك السلطة الرمزية تجدهم يهمون في إنكار ما قد ينقص من هويتهم الحلبية ويسعون إلى ذات التمايز المتعالي مقابل المكونات الأخرى ويستهلكون ذات نمط الحياة المعبر عنها المتقوقع على ذاته.

هل ثمة ناجون من القوقعة؟ بالطبع نعم. هناك فئة قليلة من أهالي حلب القدامى آثروا البقاء في أحيائهم القديمة ولو كان لأسباب اقتصادية في البداية، لكنهم لاحقاً اختلطوا وتآلفوا مع غيرهم. وهناك فئة أكبر نالت من بطش النظام في الثمانينيات، وقسم من هؤلاء عانوا من عزلة مجتمعية طوال سنوات حتى قريب عهد الثورة نتيجة للخوف المطبق من قبل حكم استبدادي، بسبب وجود أقرباء لهم في السجون أو المهجر، حيث هُجِّر العديد من عائلات المدينة بعد أحداث ومجازر مشابهة للتي وقعت في مدينة حماة. وهناك بالتأكيد “شامات” كما أسماهم حسام جزماتي.

هذه كلها ملاحظات على عهد ما قبل الثورة وامتدت خلالها. إن غياب رأس المال الاجتماعي لدى فئة سعت إلى التمايز والتموضع عبر ثنائية حلبي أصلي وغير الحلبي ضمن فضاء المدينة حال دون إمكانية تشكيل روابط الثقة وإمكانية تعريف الذات في مأساة الآخر، وهذه أمور ضرورية في التحشيد والقابلية للانخراط في الحراك في ظل نظام قمعي أمني. جلبت الثورة والحرب التي لحقت بالمدينة لاحقاً طبقات أخرى من التعقيد على الحالة الاجتماعية. لكنها بالتأكيد زادت من انغلاق شريحة لا بأس بها تحمل ريبة ونظرة متعالية للآخر أياً كان ومهما كان.

يمثل الانحياز الهوياتي المديني في مدينة حلب لدى فئة تعرف نفسها وتتمايز من خلال تعريفها للآخر (غير الحلبي) حالة تتناقض مع مفهوم المواطنة والمدنية. وهي حالة طبيعية ضمن سياقها حيث تسعى الجماعات إلى التمترس خلف انتماءات ما قبل الدولة كرد فعل دفاعي لا إرادي في كثير من الأحيان في وجه الدولة المتسلطة أو في حالة غياب الدولة وغياب هوية وطنية تسهم في خلق أرضية مشتركة بين مختلف مكوناتها، وهذا هو الحال في سورية. وإن هذا التمترس خلف هوية “أهل حلب الأصليين” تشبه إلى حد كبير الانتماءات القبلية والعشائرية، إلا أنها وبسبب تأثير الحالة المدينية تفتقر إلى العصبة الفاعلة. فهي عصبية بالمعنى الخلدوني ظاهرياً شعوراً وانتماءً ولكنها فارغة وعاجزة عن الفعل وتتسم بالعطالة والحيلولة دون نشأة ومراكمة رأس مال اجتماعي مشترك مع غيرها.

وفي المقابل، انتمى سكان المدينة المشاركون بالثورة والذين يوصم معظمهم بأنهم “ليسوا أبناء حلب فعلاً” إلى مدينتهم بالمعنى الواسع والمسؤول، وكانوا “مواطنين” فعليين حين كانوا رأس حربة في الحراك الثوري للمدينة وقادوا المظاهرات والتكتلات الثورية التي حركت المدينة. وسعى هؤلاء بكل ما يستطيعون لتنضم مدينة حلب للثورة، وقد لا يرى بعضهم غيابها عن الثورة، فبالنسبة لهم هم أيضاً أبناء حلب وقد أشعلوا فيها الثورة، وهذا الموقف بحد ذاته هو دفاع عن حق أصيل، حقهم في مدينتهم.

————————

سوريا بعد سقوط الأسد: بين فشل المجتمع الدولي وحسابات الدول/ حنان البلخي

2024.12.17

بعد سنوات من النضال والتضحيات الجسيمة، استطاع الشعب السوري أن يحقق انتصارا تاريخيا وغير مسبوق بإسقاط نظام الأسد، الذي حكم سوريا بالحديد والنار لعقود طويلة. خلال 12 يوما فقط، قلب الثوار الموازين ونجحوا في إسقاط النظام الذي بدا غير قابل للهزيمة، ما شكّل تحولا جذريا في المشهد السوري. هذا الحدث لم يكن مجرد نهاية لطاغية، بل بداية فصل جديد يُعيد للسوريين حقهم في تقرير مصيرهم واستعادة كرامتهم.

ومع هذا الانتصار المذهل، سارعت بعض القوى العربية إلى التحرك بشكل لافت، ودعت إلى اجتماع العقبة الذي كانت مخرجاته خارطة الطريق ذات البنود الـ17، في محاولة لفرض مسارات انتقال سياسي جديدة تُثير الشكوك حول نواياها. هل يمكن أن تكون هذه الدول شريكا حقيقيا في بناء سوريا الجديدة٫ أم أن ما تخشاه حقا هو تأثير الزلزال السوري على استقرار أنظمتها ومصالحها؟

فشل المجتمع الدولي في دعم الثورة السورية

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، كان المجتمع الدولي شاهدا على إحدى أعنف الأزمات الإنسانية في العصر الحديث. قرارات مجلس الأمن، وعلى رأسها القرار 2254 الداعي لتشكيل هيئة حكم انتقالي، بقيت حبراً على ورق بسبب غياب الإرادة السياسية الجادة من القوى الكبرى. وعلى مدى سنوات، لم تنجح الأمم المتحدة ولا المنظمات الدولية في وقف المجازر التي ارتكبها النظام، والتي شملت استخدام الأسلحة الكيماوية، وقصف المدن الآهلة بالسكان، ناهيك عن مئات الآلاف من المعتقلين الذين تعرضوا للتعذيب الوحشي في سجون الأسد.

وبالرغم من هذه الانتهاكات، فإن فشل المجتمع الدولي لم يكن فقط في إيقاف هذه المجازر، بل أيضًا في إجبار النظام على الانخراط في أي عملية سياسية حقيقية. لم يكن الشعب السوري يقاتل من أجل إسقاط نظام فحسب، بل كان يواجه نظامًا مدعومًا دوليًا وإقليميًا. ومع ذلك، أثبت السوريون قدرتهم على إحداث تغيير حقيقي على الأرض.

التحرك العربي: حسابات المصالح أم دعم الديمقراطية؟

لقد أظهرت التجارب السابقة أن العديد من هذه الدول لم تكن معنية بدعم الثورة السورية بقدر ما كانت تسعى لحماية مصالحها في المنطقة، حتى لو تطلب ذلك دعم إعادة تأهيل نظام الأسد في السنوات الماضية. بالنسبة للسوريين، فإن مشهد إعادة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية شكّل نقطة تحول صادمة، إذ بدا كتواطؤ واضح مع نظام مسؤول عن قتل وتشريد الملايين. في وقت كان يُنتظر فيه موقف عربي حازم لدعم مطالب الشعب السوري، اختارت بعض الدول العربية المصالحة مع النظام تحت مبررات فضفاضة كالسعي لتحقيق “الاستقرار” في المنطقة.

بدلاً من محاسبة النظام على جرائمه الموثقة، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية واعتقال وتعذيب مئات الآلاف، اختارت هذه الدول فتح صفحة جديدة معه تحت ذريعة تحقيق الاستقرار والتسويات الإقليمية. كان هذا القرار تجاهلًا صارخًا لمعاناة السوريين وتواطؤًا صريحًا مع النظام الذي ثاروا ضده.

التوغل الإسرائيلي: استغلال الفوضى السورية

تزامنًا مع هذه التطورات، وبينما انشغل السوريون بثورتهم ومعركة التحرر من نظام الأسد، كانت إسرائيل تتابع المشهد عن كثب وتتحرك لتعزيز مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. استغلت إسرائيل حالة الفوضى والانهيار التي ضربت سوريا لتوسيع نفوذها في الجولان المحتل وتعزيز عملياتها العسكرية والاستخبارية داخل الأراضي السورية. خلال السنوات الماضية، صعّدت إسرائيل من غاراتها الجوية التي استهدفت مواقع تابعة لإيران وحزب الله، لكنها في الوقت نفسه تجنبت أي مواجهة مباشرة مع النظام، في مؤشر على رضاها الصريح عن بقاء نظام الأسد.

لم تكن هذه الغارات مجرد إجراءات أمنية، بل تعكس استراتيجية إسرائيلية واضحة لاستغلال انشغال السوريين بلملمة جراحهم لضمان استمرار سيطرتها على الجولان المحتل وترسيخ نفوذها في سوريا كجزء من مشروع أوسع لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية. ومع سقوط نظام الأسد، يبرز تساؤل جديد: كيف ستتعامل إسرائيل مع سوريا الحرة التي قد تعيد فتح ملف الجولان وتطالب باستعادة حقوقها المغتصبة؟

سيادة القرار الوطني: الرسالة السورية للمجتمع الدولي

رغم كل التحديات، أثبت الشعب السوري أن إرادته أقوى من أي حسابات سياسية أو مصالح إقليمية. الثورة التي أطلقها وأبقى جذوتها مشتعلة طوال سنوات لم تكن فقط لإسقاط نظام مستبد، بل كانت لاستعادة القرار الوطني المستقل. اليوم، وبعد أن دفع الشعب أثمانًا باهظة لتحرير أرضه وتحقيق انعتاقه من استبداد النظام، يرفض السوريون أن تتحول تضحياتهم إلى مجرد أوراق تُستخدم في تسويات سياسية ترضي مصالح قوى إقليمية أو دولية.

خارطة الطريق التي تضمنتها مخرجات اجتماع العقبة وضعت آليات لعملية انتقالية سياسية “سورية – سورية” تحت رعاية الأمم المتحدة والجامعة العربية، مما يُفسح المجال أمام تدخلات جديدة من دول كثيرة ذات مصالح متناقضة، لتدير مصير الشعب السوري وتؤخر العملية السياسية. من هنا، يرى السوريونتلفزيون سوريا أن التدخلات الخارجية التي كانت السبب الرئيسي في إطالة عمر النظام، لا ينبغي أن تستمر.

اليوم، بعد أن دفع الشعب السوري أثماناً باهظة من دماء وتضحيات، يقف أمام مرحلة جديدة من التحديات. ورغم أن البعض يحاول الالتفاف على ثورتهم وحرف مسارها، فإن السوريين ماضون في طريقهم نحو بناء سوريا الجديدة التي تُعيد لهم حرية القرار وحقهم في تحديد مستقبلهم بعيداً عن أي تدخلات، أو ضغوط عربية أو إقليمية أو دولية

تلفزيون سوريا

———————————

 نتنياهو في الجولان المحتل.. زيارة لفّها الغموض والتأويلات/ أدهم مناصرة

الثلاثاء 2024/12/17

أعن مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، اليوم الثلاثاء، أنه زار الجولان السوري المحتل، اليوم، وأجرى إحاطة بمشاركة وزير الأمن يسرائيل كاتس، ورئيسَي الأركان والشاباك، هرتسي هليفي ورونين بار، حيث “استعرض انتشار قوات الجيش الإسرائيلي ووضع قواعد الاستمرار”.

وأتى ذلك بعد ساعات من الغموض والتأويلات المتناقضة في إسرائيل بحثاً عن نتنياهو، إذ روّج صحافيون إسرائيليون بأن سبب تأجيل جلسة الاستماع في المحاكمة الجنائية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، هو سفره إلى مكان غير معلوم. ثم عادت وسائل إعلام عبرية لتنفي النبأ.

تمويه بشأن الوجهة.. ومسار الطائرة

وأظهر الموقع المتخصص بحركة الطيران، أن طائرة نتنياهو، قد حلقت ظهر اليوم الثلاثاء، باتجاه أوروبا، لكن دون معرفة إن كان سيحط في دول أوروبية، أم لا. بينما تحدثت وسائل إعلام عبرية عن منع الرقابة الإسرائيلية النشر حول الجهة التي توجه إليها نتنياهو، بعد خضوعه للعلاج في إسرائيل صباحاً. ولا يُستبعد أن تكون قصة علاجه بمثابة وسيلة للتمويه والتضليل؛ لتحقيق التشتيت الخادم لسفره “الآمن”، قبل أن يتبين أنه توجه إلى سفح جبل الشيخ.

ورُجح أن الدافع من هذا الغموض الذي أحاط سفر نتنياهو المزعوم، هو الخشية من أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحقه مؤخراً، ذلك أن قرارها يحثّ الدول الأعضاء على المساعدة في اعتقاله، حتى لو مرّ في أجوائها، وليس فقط بالنزول على أراضيها.

وكانت وسائل إعلام عبرية قد ذهبت إلى التأويل والتخمين لسبب إرجاء جلسة محاكمة نتنياهو، إذ ربط بعضها الأمر بحدث أمني متعلق بضربة للحوثيين في اليمن، أو لعمق إيران، وبعضها الآخر ربطها بتقدم في مفاوضات تبادل الأسرى مع حركة “حماس”، وغيرها من التخمينات التي كان سببها إمعان الرقابة الأمنية الإسرائيلية في حجب المعلومة.

نتنياهو لم يكن في الطائرة؟!

في المقابل، رصدت “المدن”صورة أوردها موقع عبري غير معروف، لنتنياهو لحظة خروجه على متن مروحية من على مدرج مستشفى هداسا، وهو محاط بعناصر الأمن، توطئة لانتقاله نتنياهو خارجا من المستشفى إلى طائرة سفره إلى الخارج.

لكن الموقع نفسه ومواقع إعلام عبرية أخرى، عادت لتزعم أن نتنياهو لم يسافر، وأن الطائرة التي ذهبت نحو جزيرة قبرص هي طائرة نتنياهو بالفعل، لكن الأخير لم يكن على متنها، وأنه كان مجرد تدريب لطائرة “رئاسة الوزراء على الإجراءات الكاملة لتقديم وتقديم الوجبة وتدريب المضيفات في حالات الطوارئ”.

وهو تبرير أثار مزيداً من الغموض والتساؤلات بشأن حقيقة السفر، بالنظر إلى التوقيت والسياق.

سابقة إسرائيلية

ولا يُمكن الجزم إن كان سفر نتنياهو حقيقياً، وما إذا كان فعلياً وطارئاً، لأمر متعلق بتطورات المنطقة، أم مخططاً له مسبقاً، ولكن بشكل سري، للحيلولة دون اعتقاله. وبغض النظر عن السياق والتفاصيل والسيناريوهات، فإنه في حال حصل السفر فعلاً، فإن ما جرى يُعد سابقة منذ نشوء إسرائيل، بأن يضطر رئيس وزرائها إلى إخفاء نيته السفر، وأيضا وجهته، خشية اعتقاله نتيجة ملاحقته بفعل قرار محكمة دولية.

مع ذلك، يبدو أن منهجية سفر نتنياهو ستكون على هذا النحو، أي فيها غموض وتضليل، بما يضمن ذهابه وإيابه “آمناً” على الأقل. في حين، رجح بعض الصحافيين الإسرائيليين أن نتنياهو ربما قد ذهب إلى دولة قريبة، لدرجة أنه سيعود في نفس اليوم، وسيحضر جلسة المحاكمة المقررة له غداً الأربعاء.

نتنياهو لم يسافر منذ شهر

ويلفت المتخصص بالشأن الإسرائيلي أحمد سلامة، إلى أن هناك خشية إسرائيلية حقيقية من تداعيات قرار “الجنائية الدولية” في حق نتنياهو، لدرجة أن الأخير لم يسافر نهائياً إلى الخارج منذ نحو شهر، أي منذ لحظة صدور قرار إدانته بالمسؤولية عن حرب الإبادة في غزة.

ويوضح سلامة لـ”المدن”، أن المكان الوحيد الذي يمكن لنتنياهو السفر إليه “آمناً” هو الولايات المتحدة، لكنه يخشى أيضاً أنه إذا حدث خلل بطائرته، أن يضطر للنزول في أرض دولة عضو بالمحكمة الجنائية، تقوم بدورها باعتقاله وتسليمه لجهات الاختصاص.

مع العلم، أن تقارير إسرائيلية ذكرت أن نتنياهو قايض فرنسا الشهر الماضي، بخصوص انضمامها للجنة المراقبة الدولية لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، مقابل منحه تطمينات بعدم تسليمه للجنائية الدولية، إذا ما مر من أجوائها، أو نزل في أراضيها، وهو أمر حصل عليه نتنياهو، بحسب التقارير العبرية.

وبالتالي، يمكن الافتراض أنه في حال صح الادعاء بأن طائرة رئيس الوزراء الإسرائيلي سافرت في مهمة تدريبية، فإنها كانت تتمرن على المسارات والتحليق في أجواء دول، بطريقة تحمي نتنياهو من الاعتقال، ضمن مساعي التحايل على قرار الجنائية الدولية.

ويوضح سلامة أن إسرائيل بادرت منذ لحظة صدور قرار المحكمة الجنائية، إلى حملة للتأثير على القرار وإلغائه، أو إفراغه من مضمونه، لكنها لم تنجح حتى الآن، مشيراً إلى أن نتنياهو والدوائر الرسمية الإسرائيلية تعول على وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وذلك للضغط على الجنائية، ومنع تطبيق القرار الذي تسبب بعزلة لنتنياهو، لدرجة أنه قيد حركته، وبات سفره محفوفاً ب”خطر الاعتقال”.

ونوّه سلامة إلى أن الخوف الإسرائيلي من قرار المحكمة الدولية، دفع إلى منع ضباط إسرائيليين من السفر إلى الخارج، حتى لو كان بغرض السياحة.

المدن

—————————

الضيعة السورية التي أسلمت والخوري الذي رفع الأذان/ عمر قدور

الثلاثاء 2024/12/17

يُحكي أن قرية في وسط سوريا كان أهلها يشكون تعسّف الخوري، الذي كان في تلك الحقبة بمثابة سلطة دينية ومدنية عليهم. بعد محاولات لم تُجْدِ نفعاً معه، ثم مداولات سرية فيما بينهم، وجد الأهالي الحلّ بالذهاب إلى مدينة حماة، وإشهار إسلامهم أمام المفتي، وهكذا لا يبقى للخوري سلطة عليهم. ذهب الأهالي معاً، ونفّذوا الخطة، ثم عادوا مبتهجين إلى الضيعة، ولما وصلوا إلى مشارفها بوغتوا بالخوري يصعد إلى سطح الكنيسة ويرفع الآذان.

سيكون من السهل تشبيه الكثير من حالات “إعادة تموضع” المواقف في سوريا بالحكاية القديمة، وتشبيهها خصوصاً بذلك الخوري الذي سارع للعمل بقاعدة: سيدكم في المسيحية سيدكم في الإسلام. وقد صار دارجاً لدى السوريين تعبير “التكويع” للدلالة على الذين أعادوا تموضعهم بعد إسقاط الأسد، وقد يكون بينهم حقاً مَن يشبه جواسيس الخوري الذين ذهبوا مع الأهالي لإشهار إسلامهم. وسرعان ما انتقل التعبير ليصير متداولاً في منابر عربية ومحطات تلفزيونية كبرى، بل ساهمت الأخيرة في إبراز الظاهرة من خلال استضافة شخصيات معروفة، فنانين على سبيل المثال، ليعلن الضيوف السوريون على الملأ موقفهم الجديد، مع تبريرات لا ترقى بمعظمها إلى حجم الزلزال السوري.

لكن الإمعان في التندر على هذه الظاهرة أعاق الانتباه إلى طبيعة المرحلة التي يُستهل بها التغيير، وأعاق فهماً مشتركاً، ومنصفاً، على غرار الفرحة المشتركة بإسقاط الأسد. فمن الجيد الانتباه إلى الفرحة المشتركة، الصادقة، وتحري دوافعها، لأن الفهم مفيد في فهم الماضي والتفكير فيما يُستحسن أن يكون عليه المستقبل. لقد سقط الأسد بعدما فقد شعبيته في كافة أرجاء سوريا، بلا استثناء، وصار التوق إلى الخلاص يجمع السوريين، باستثناء المتورطين مباشرة في الدماء.

إلا أن مصدراً للفرح الأوسع يجدر التركيز عليه، هو أن إسقاط الأسد، (كما حدث فعلاً)، سيناريو يستحق الفرح بالنسبة لجميع الذين كانوا متخوّفين من سيناريو دموي يتحصن بموجبه في دمشق، ما يعرّضها لدمار وأنهار من الدم، ثم يؤدي إلى مجازر وعمليات انتقام واسعة في الساحل. مبعث الفرح هذا جدير بألا يُنسى، إذا انعقدت النية على احترام وتكريس ما هو مشترك وجامع. ولا بأس بالتذكير بأن الخوف أسكت معظم السوريين عندما انقلب البعث على ديموقراطيتهم الناشئة، ثم عندما انقلب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين، ثم عندما اعتقل بدءاً من النصف الثاني في السبعينات حتى النصف الثاني من الثمانيات خيرة شباب سوريا بكافة توجهاتهم، مروراً بارتكابه مجزرة كبرى في حماة… إلخ. وفي كل الأحوال، هذه ليست سمةً سورية، وهناك فلاسفة كبار كتبوا عن الخوف بوصفه محرّكاً أساسياً للبشر.

وسواء رآها البعض ثورة، أو حرباً أهلية، فإن ما حدث في العالم كله، وسارع الواقع السوري إلى الشروع فيه، هو عملية المصالحة. لقد كان قدر أفضل الثورات عبر التاريخ أن تضطر إلى مصالحة تتراجع فيها خطوات إلى الوراء، ويتقدّم خصومها في الأمس خطوات إلى الأمام. هذه التسوية متضمَّنة أصلاً في القول أن الثورة لأبنائها مثلما هي لأبناء خصومها، وإلا انقلبت إلى مشروع ثأري إبادي. ولا شك في أن ضغط التسويات ومرارتها يزيد إلحاحهما مع الحروب الأهلية، وفي كل الأحوال؛ ليست المصالحة والتسامح شيمتان محض سوريتين؛ هذا هو حال بلدان عديدة سبقتنا من دون ادعاءات أو تفاخر.

ثمة حاجة موضوعية هي التي تحكم، لا الاعتبارات الأخلاقية “الطوعية”، من ذلك أن سوريا ستكون بحاجة إلى جميع أبنائها من أجل إعادة الإعمار. وتعبير “جميع أبنائها” بمثابة تعويض عمّا نعرفه، لجهة مقتل حوالى مليون شاب ورجل في سن العمل، وللتعويض أيضاً عن نزيف قوة العمل من المهجَّرين الذين لن يعودوا كلهم، وكذلك عن عدد ضخم جداً غير محدد حتى الآن من الذين أصيبوا بإعاقات تُخرجهم من سوق العمل كلياً أو جزئياً. يتفرع عن هذا مثلاً أن المطالبة بحقوق النساء، فوق أحقيتها الدائمة، لن تكون ترفاً في زمن استثنائي؛ هي مدخل ضروري لمشاركتهن الملحّة في إعادة الإعمار. القول أن المرأة نصف المجتمع هو حالياً من الماضي، إذ صارت النسبة العددية للنساء أعلى من المعتاد.

مع التأكيد على مبدأ محاسبة المتورّطين في الدم السوري والمحرِّضين على الإبادة، يحضر أيضاً في السياق الواقعي أن تُترك المهمة لجهة مخوَّلة بذلك، على أسس واضحة لا تهدر طاقات البلد بين سجناء وسجّانين. وضمن السياق نفسه، يجدر بالذين يعتبرون أنفسهم جمهور الثورة عدم الانزلاق وهدر طاقاتهم في ملاحقة ظاهرة ليست استثنائية، ولا تقتصر على سوريا. فالتوقف عند ظاهرة “التكويع” مفهومة ومبرَّرة ما لم تتفاقم، وتولّد إصراراً على انقسام يُفترض أنه انتهى بسقوط الأسد.

لن يكون جيداً على الإطلاق تمثّل ظاهرة انتهى زمنها، هي التي كان يُشار إليها باسم “أبو حيدر جوية”. شخصية “أبو حيدر” هذا مستلهمة من صف ضابط يُفترض أنه يتبع المخابرات الجوية، ويمكن أن تُنسب إليه كافة الموبقات المعروفة عن مخابرات الأسد، فضلاً عن الركاكة والابتذال اللذين يجعلان منه محط سخرية. سيكون من “التكويع” أن يتبرع ضحايا أبي حيدر بالحلول مكانه، وأن يقيم الواحد منهم حاجزاً مخابراتياً افتراضياً لتفتيش المارة، ولو بزعم حماية السلطة الجديدة من فلول القديمة.

ومن حسن الحظ أن سلطة كسلطة الأسد تنهار دفعة واحدة، ولا تخلّف وراءها ما يُبنى عليه كـ”ثورة مضادة”، وإن بقي الخوف من الأخيرة ماثلاً من قوى ترفع علم الثورة. على صعيد متصل؛ سيكون من المؤسف ألا يُلقى سريعاً وصف “المنحبكجي” في سلة المهملات، وهو وصف كان شائعاً لوصم محبي الأسد، خصوصاً مع انطلاق الثورة، ويُخشى بشدة أن “تكويع” البعض من جمهورها سيتكفّل بجعله حاضراً.

بالعودة إلى أمثولة الضيعة، من المؤكد أن العبرة ليست في تحوّل أهلها إلى الإسلام، بل في الخوري الذي “أخرجهم عن دينهم”، والأخير تعبير سوري موروث أيضاً، يشير إلى الضغط الذي أوصلهم إلى حدّ لم يعد يُطاق، وأن ضغطاً مشابهاً قد يخرجهم عن دينهم مرات ومرات. هذه عبرة ينبغي ألا يحجبها الانتباه الذي يذهب معظمه إلى مكر الخوري وتكويعه، وربما مع الإعجاب الخفي أو المعلن به.

المدن

——————————

الأسد في موسكو يثير غضب الروس وسخريتهم/ بسام مقداد

الثلاثاء 2024/12/17

عشرة أيام مضت على سقوط الأسد، ولم تصدر بعد كلمة واحدة منه تعليقاً عما كشفت عنه هذه الأيام من أهوال وفظائع ارتكبها نظامه، وجعلت أنظار العالم تتسمر على شاشات التلفزة، غير مصدقة أن بشراً ارتكبوا هذه الوحشية. أيام لا يقارن وقعها على العالم إلا بوقع “الأيام العشرة” التي تحدث عنها جون ريد، إثر إنقلاب البلاشفة على الثورة الروسية، وقال بأنها هزت العالم. والبيان الذي صدر الإثنين في 16 الجاري بإسم “رئاسة الجمهورية السورية”، لم يأت على ذكر ما نقلته الشاشات من صور التوحش الذي ارتكبه بحق السوريين وغيرهم. ولم يكن أحد ينتظر أن يخرج الأسد ليقول شيئاً عن ذلك، أو ليعلن أسفاً أو ندامة، فهو كما والده لم يعتد ذلك. كما لم يعتد تفسير أو تبرير أو نكران ما يأتيه، فهو “الرب” كما كان يجبر جنوده على ترداده. والرب لا يفسر ولا يبرر. قد يكون البعض كان يتوقع أن يكون سقوطه، بعد شعاره “الأسد إلى الأبد”، قد علمه الإلتفات إلى ما يدور في الواقع، وإلى أنه جزء منه وليس فوقه “إلى الأبد”. لكن السوريين قطعوا “أبده”، وخلقوا واقعاً جديدأ، يأمل فيه السوريون وأبناء المنطقة ألا يكون فيه مكاناً لسفاحين “أبديين” آخرين، بل عدالة تقتص من كل ينصب نفسه إلهاً على السوريين.

لنتخيل المستحيل، ونفترض أن الأسد فر إلى الغرب وليس إلى موسكو، فهل كانت الصحافة الغربية لتنتظر كل هذا الأيام حتى يتكلم، أم أنها كانت لتستخدم كل ترسانتها الإعلامية لمعرفة، على الأقل، مكان إقامته بالتحديد. لكن الغرب لم يكن ليستقبل مثل هذا السفاح المتعالي على الواقع والبشر، بل استقبلته موسكو صديقة السفاحين المقتلعين من عروشهم، أو الذين لا يزالون متمسكين بها. وموسكو لم تبق على إعلام حر مستقل في روسيا، بل نفته إلى الخارج، والمتبقي منه في الداخل، إما أنه رسمي تابع للكرملين مباشرة، أو أنه يدور في فلكه. ومن المستحيل أن ينشر هذا الإعلام شيئاً عن الأسد في موسكو، إلا ما يسمح الكرملين بتسريبه إلى هذا الإعلام. ويفترض البعض أن صمت الأسد وعائلته قد يكون أحد شروط الكرملين لمنحه اللجوء، ويعفيه بذلك من “إحراج” الكلام أمام فظاعة ووحشية الصور التي تنشرها شاشات التلفزة. لكن البيان، إن صح أنه صادر عنه بإسم رئاسة الجمهورية، لا يمكن أن يصدر من دون علم السلطات الروسية وسماحها بنشره. وقد يستدعي من السلطة الجديدة في دمشق توخي الحذر من احتمال استخدام الكرملين للسفاح المخلوع في أعمال التشويش على مسار استعادة الدولة ومؤسساتها.

إعلام الكرملين الرسمي أو الذي يدور في فلكه، لا ينشر ما يتعلق بالأسد وفراره، إلا ما ينقله عن الإعلام والمصادر الغربية والشرق أوسطية. والنصوص التي ينشرها بشأن الحدث السوري، تقتصر على تحليل معلومات هذه المصادر واستعراض آراء الخبراء الروس بشأنها. وينال الأسد في نصوص هذا الإعلام قسطاً وافراً من الملامة وتحميله المسؤولية الرئيسية عن سقوطه. وتعليقات القراء الروس على هذه النصوص تكاد تقتصر على السخرية الغاضبة من الأسد، والسخط على الكرملين لتبديده كل هذه الإمكانيات والتضحية بحياة الجنود الروس لدعم “سلطة جمعت كل هذا العدد من الحمقى”، كما علق أحد قراء صحيفة الكرملين على نص نشرته في 8 الجاري.

اليومية postimees.ee التي تصدر في جمهورية إستونيا نشرت في 16 الجاري نصاً يدحض ما قاله الأسد في البيان المنسوب إليه، بأنه لم يخطط مسبقاً لفراره. فقد قالت الصحيفة إن الأسد كان يعد مسبقاً لحياة مرفهة في المنفى. إذ نقل إلى موسكو 2 طن من الأوراق النقدية. ونقلت عن الفايننشال تايمز قولها إن العالم بدأ مطاردة مليارات الديكتاتور السوري المخلوع. إذ أصبح من المعروف أن البنك المركزي السوري نقل إلى موسكو في الفترة 2018 – 2019 أوراق دولار ويورو نقدية  بقيمة حوالى 250 مليون. وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن الصحافيين عثروا على تسجيلات تشير إلى أن المبلغ  المنقول إلى موسكو كان يتشكل من أوراق نقدية من فئة 100 دولار و500 يورو، ويعادل وزنه حوالى 2 طن.

وعلى الرغم من أنه بين العامين 2012 و2018 لم يكن هناك من رحلات طيران بين دمشق وموسكو، إلا أن المبلغ تم شحنه عبر 21 رحلة جوية  لحساب مصرف “المؤسسة المالية الروسية” الذي تسيطر عليه شركة Rosoboronexport.

لم تقتصر السخرية من الأسد اللاجئ في موسكو على قراء الصحف والناشطين السياسيين فقط، بل رأى نواب روس في البرلمان (الدوما) أن السفاح الفار من مواجهة تبعات سقوطه، لا يستحق سوى السخرية المرفقة بسؤال الكرملين عن حاجته إلى “طيارين أُسقطوا من علياء تحليقهم”.

صحيفة القوميين الروس المتشددين SP نقلت في 15 الجاري عن عضو لجنة الشؤون الدولولية في البرلمان (الدوما) الروسي دمتري كوزنتسوف إفتراضه أن الأسد، أو بالأحرى عائلته، كان يمكن أن يتسلم إحدى مناطق الدونباس المتضررة من العمليات العسكرية، ويستقر في أحد المباني الجديدة في مدينة ماريوبول. كما كان بوسعه أن يدعم المخرج الصربي أمير كوستوريكسا في تصوير فيلم في الدونباس مستوحى من دوستويفسكي. ويقول إنه يدعمه في أن يثبت نفسه في خدمة الشعب الروسي، وبعد ذلك، لمساهمته في استعادة الدونباس، يمكن النظر في مسألة الجنسية.

تعلق الصحيفة على فكرة البرلماني الروسي بالقول إنه من وجهة نظر تبسيطية، يبدو الإقتراح منطقياً تماماً. فطالما أن روسيا أنقذت “الزعيم السوري” السابق من تكرار المصير البائس لكل من صدام حسين ومعمر القذافي، عليه بالتالي أن يشكرها كدليل على امتنانه. فروسيا يجب أن تحصل منفعة ما من “الطيارين الذين تم إسقاطهم”.

لكن الصحيفة استضافت برلمانيا روسياً سابقاً، ناقش هذا الاقتراح، وبيّن مضاره بالنسبة لسمعة روسيا العالمية، وعدَّد الخدمات التي أداها الأسد ووالده للاتحاد السوفياتي وروسيا.

صحيفة الكرملين VZ نشرت في 9 الجاري نصاً رأت فيه أن “الأسد سيبلغ شيخوخة مشرفة في روسيا”. تصرالصحيفة، كما كل إعلام الكرملين منذ اليوم الأول لسقوط الأسد على القول إنه لم يهرب تحت جنح الظلام، بل تخلى عن منصبه طوعياً خلال المفاوضات مع “المشاركين في الصراع المسلح”، بعد أن أصدر تعليماته للوزراء المتبقين في دمشق بنقل السلطة سلمياً.

نقلت الصحيفة عن الخبير الروسي Youri Liamine تعليقه على مطالبة بايدن بتقديم الأسد وأركانه إلى العدالة الدولية، بقوله إن الأسد موجود الآن في روسيا التي منحته حق اللجوء، وطالما أنه “عندنا” لا تستطيع لا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي تقديمه للمحاكمة.

حظي نص الصحيفة بـ36 تعليقاً من القراء تنبض بالسخرية الغاضبة. قال أحدهم إنه كان يجب منحه “تقاعداً مشرفاً” منذ خمس سنوات، وتنصيب إداري كفوء مكانه. آخر قال إن الأسد سوف يشيخ في روسيا، لكن من دون أي تبجيل. أحدهم رأى أنه كان من الأفضل تعليق مشنقة له، وليس “شيخوخة مشرفة”. أحدهم قال: “فلنطرد هذا المكلل بالعار”، الذي قال يوماً إنه لن يفر من وطنه، وصدق بوتين. “كم فقدنا من شبابنا من أجل هذا الحقير. تفوه، قذارة”.

المدن

—————————–

عودة المجتمع المدني السوري: الاستهتار بوثائق المعتقَلات ضربة للذاكرة…والحقوق!/ سوزان المحمود

الثلاثاء 2024/12/17

نفذت مجموعة من الناشطات والناشطين سياسياً ومدنياً، يوم الأحد 15 كانون الأول، أي بعد أسبوع على سقوط الطاغية ونظامه، وقفة تضامنية مع ضحايا المعتقلات في خمس مدن سورية في آن واحد: ساحة الحجاز في دمشق – ساحة الجامعة في حلب – ساحة الشيخ ضاهر في اللاذقية – ساحة الساعة في حمص – الساحة العامة في سلمية. وذلك بهدف التضامن مع أسر الضحايا السابقين في المعتقلات السياسية، والمطالبة باتخاذ إجراءات لدعمهم ودعم ذويهم، وإنهاء الاعتقال السياسي في سوريا ومحاسبة المتورطين، ضمن إجراءات العدالة الانتقالية.

حضر عدد كبير من المعتقلين السابقين المتواجدين داخل البلاد ومن عائلات المعتقلين، وأشخاص متضامنين إنسانياً وسياسياً وحقوقياً مع المعتقلين وذويهم. ويقول أحد منظمي الوقفة التضامنية إبراهيم قرياقس لـ”المدن”: تهدف الوقفة أولاً إلى التضامن مع ضحايا الاعتقال السياسي وذويهم، وثانياً المطالبة بتقديم رعاية شاملة للمتضررين سواء من ضحايا الاعتقال السياسي أو ذويهم، وثالثاً تعويض وجبر الضرر مادياً ومعنوياً، ورابعاً تقديم المتورطين للعدالة، وتطبيق العدالة في كل ما يخص الاعتقال السياسي، وخامساً تحويل مراكز الاعتقال سواء من فروع أمنية أو سجون إلى متاحف للذاكرة السورية للحفاظ على ذكرى هذا الموضوع وتجنب تكراره لتثبيته في الذاكرة السورية، ثم إنهاء حقبة الاعتقال السياسي بسوريا بشكل كامل وضمان عدم تكرارها، إضافة إلى الكشف عن مصير المفقودين الآخرين والحفاظ على الوثائق الخاصة بهم.

وعند سؤالنا عن وضع المجتمع المدني اليوم بعد سقوط نظام آل الأسد، يقول إن المجتمع المدني يستعيد عافيته بعد سقوط الطاغية ونظامه البائد وهو اليوم في أوج نشاطه للمشاركة في بناء سوريا الجديدة. 

مضر الجندي

ومن أهالي المعتقلين تحدثت لـ”المدن” أميرة حويجة، زوجة المعتقل مضر الجندي الذي استشهد تحت التعذيب، وقالت: “زوجي أحد المختفين قسرياً فهو اعتقل في 1987 ولم نعرف عنه أي شيء، انكروا أنهم اعتقلوه، وهو حتى الآن في النفوس في دائرة الأحوال الشخصية ما زال على قيد الحياة، لم يعترفوا باعتقاله ولا باستشهاده تحت التعذيب حتى الآن، بالنسبة لوقفة اليوم كانت فرصة ليعبّر الناس عن مشاعرهم، كنا ممنوعين تماماً من السؤال والتعبير عن أي شيء، ومقموعين بطريقة رهيبة، حتى والدته مُنعت من البكاء عليه، وهو وحيدها، وأنا وابنته الطبيبة سنا والتي كان عمرها 9 سنوات عندما اعتقل واليوم هي في الأربعين، تبكي للمرة الأولى، ولطالما كان مصيره مجهولاً بالنسبة إلينا. اليوم نعبّر للمرة الأولى بشكل علني عن ألمنا”. وعند سؤالها عن موضوع فتح السجون، قالت أميرة: “ما زالت هناك سجون كثيرة لم تُفتح كسجون إدلب والرقة وقسد”، ثم قالت إنها تحمّل الصليب الأحمر الدولي والأمم المتحدة مسؤولية ضياع وثائق المعتقلين في السجون، إذ تعاملوا مع الوثائق باستهتار شديد، كما تحمّلهم مسؤولية التقصير في حفظ حقوق المعتقلين وذويهم، إذ كان يجب الانتباه الشديد للوثائق التي وُجدت مرمية على الأرض. وقالت حويجة إنها، في أثناء توجهها للوقفة بسيارة نقل عامة سرفيس، تحدثت عن الأمر أمام الناس وطلبت منهم أن يشاركوها الوقفة.

وتضيف إن سيدة من الركاب انهارت باكية وقالت إن لها 21 شخصاً من عائلتها قضوا بالسلاح الكيماوي الذي رُمي على الغوطة، وإنها “وفّت” أحد أبنائها كي لا يؤخذ الآخر للخدمة الاجبارية. وتقول حويجة إنها تحمّل المجتمع الدولي استهتاره في التعامل مع القضية السورية ومع ملف الاعتقال السياسي والاختفاء القسري. 

حبيب برازي

ومن المعتقلين السابقين المتضامنين مع أهالي ضحايا المعتقلات في الوقف،ة تحدث لـ”المدن” حبيب برازي: “أنا من معتقلي حزب العمل الشيوعي، اعتقلت في حملة 1982، وكانت من أكبر حملات الاعتقال ضد حزب العمل الشيوعي، من منزل عائلتي الكائن في ركن الدين، أُخذت إلى فرع التحقيق العسكري واستمر التحقيق معي يومين، ثم وضعوني في زنزانة انفرادية لمدة شهرين، بعدها نقلنا إلى زنزانة جماعية تتسع لخمسة أشخاص، ثم نقلنا إلى المهجع الذي كان مكتظاً جداً وكان السجناء ينامون فيه بشكل متناوب (تسييف) وهو النوم على جنب واحد”. ويضيف: “ثم نقلنا إلى سجن تدمر العسكري وبمجرد نزولنا من السيارات بدأت “التشريفة” وهي مرور المعتقلين بين صفين من السجانين يقومون بضربنا بكل أدوات الضرب المتوافرة لديهم من كابلات وعصي ورفس بالأقدام وضرب بالأيدي حتى الوصول إلى داخل السجن، ثم إلى المهجع. وفي اليوم التالي كان الاستقبال الثاني بالدولاب. اخرجونا للساحة وحصل كل سجين على خمسين جَلدة داخل الدولاب، كنا نتهيب أصوات التعذيب التي سمعناها من زنازين الأخوان المسلمين، كانت مخيفة، لكننا بعد التشريفتين، لم نخضع للتعذيب مثل الجميع”.

ويتابع: “بقيت في سجن تدمر خمس سنوات حتى العام 1987، ثم نقلنا إلى سجن صيدنايا حتى يوم إخلاء سبيلنا، بعد تسع سنوات من الاعتقال السياسي. اليوم أشارك هذه الوقفة على أمل إغلاق صفحة الاعتقال السياسي في سوريا بشكل نهائي مع إخلاء السجون وإغلاقها”.

بولص حلاق

الناشط في الشأن العام الثقافي والاجتماعي منذ سنوات، بولص حلاق  تحدث خلال الوقفة لـ”المدن” قائلاً: “أنا هنا إلى جانب المنظمين، مع مجموعة من رفاقي النشطاء الحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني، وهو تجمع مدني قيد التشكل الآن لعدد كبير من المثقفين والناشطين، اجتمعنا بعد سبعة أيام على سقوط النظام، يوم السبت 14 كانون الأول، لوضع استراتيجيات للعمل المدني في المرحلة المقبلة، كمعظم مجموعات المجتمع المدني القديمة والتي تتشكل حديثاً، ونحن هنا اليوم لدعم ضحايا الاعتقال السياسي وذويهم، والمطالبة بمحاسبة المتورطين في اعتقالهم وتعذيبهم، والتعويض عليهم وعلى ذويهم، والمطالبة بعدم تكرار تجارب الاعتقال السياسي القديمة”. وحمَل حلاق صورة صديقه الروائي خالد خليفة الذي توفي العام الفائت من دون أن يشهد هذه اللحظة التاريخية التي كان يحلم بها كمعظم السوريين.

نعم، سقط الطاغية ونظامه المتوحش، وفُتحِت السجون أخيراً وأُخِرج المعتقلون بشكلٍ ارتجالي وسريع بسبب هروب السجانين، لكن محرري السجناء لم ينتبهوا إلى المسؤولية الكبيرة في حفظ وثائقهم، وحتى اليوم لا مؤسسة تضمهم أو تهتم بهم بشكل فعلي، إذ تُرِك عدد منهم فاقداً للذاكرة في الطرق والساحات العامة، وكل يوم نجد صورة أحدهم في وسائل التواصل الاجتماعي، أهل يبحثون عن أولادهم، وأبناء يبحثون عن آبائهم وأمهاتهم، والوثائق تم التعامل معها باستهتار كبير… فمَن يتحمل مسؤولية هذا الأمر؟

المدن

———————-

سقوط النظام السوري… فرحة كرديّة عارمة بنكهة منقوصة!/ شفان ابراهيم

17.12.2024

كان واضحاً حجم الأفكار والتطلعات والمخاوف التي تقاطعت في تفكير وتحليل الكثير من الكورد لليوم التالي على سقوط بشار الأسد، وهي التي أرخت بظلالها على فرحتنا، وترددت بيننا أسئلة مثل، “كيف أفلت بشار الأسد من العقاب والمحكمة والعدالة؟”، “من سيحكم دمشق؟”، و”ما مصير القضية والحقوق الكردية؟”

سعيت جاهداً كي أبقى مستيقظاً في ليلة سيطرة المعارضة السورية المسلحة على حمص؛ حالي كحال “جميع” السوريين، آملاً بسماع صوت أحد الزملاء الصحافيين وهو يُعلن سقوط النظام، لكن خانتني قوايّ واستسلمت للنوم، لم يُقظني سوى صوت ابنتي “كارين” تتهيأ للذهاب إلى حضانة الأطفال.

أول ما فعلته حين استيقظت أني فتشت في هاتفي المحمول، لتقع عيناي على رسالة من معتقل سياسي سابق وقيادي في المنظمة الآشورية “كابرئيل موشي”، نشرها في مجموعة الـ”واتسآب” الخاصة بجبهة السلام والحرية قائلاً: “مبرووووك الحرية للشعب السوري، انتهى الأسد انتهى للأبد”.

تجوّلنا في أحياء القامشلي بعد سقوط الأسد، كُنا مزيجاً غريباً ممن كانوا على خلاف فكري أو سياسي أو حزبي أو شخصي. وفي شوارع قامشلي وساحاتها الرئيسية، فرحنا ورقصنا، احتفينا بأعلامنا ورموز الثورة. لكن، ثمة مُنغصات قزّمت فرحتنا.

استغربنا نحن مجموعة من الشباب الأكراد، لماذا لم تكن الفرحة موازية لعذاباتِ /14/ عاماً، بل لمظلومية أكثر من نصف قرن. بكل تأكيد لا يندم على نهاية حقبة الأسد، إلا من عاش سعيداً في كنف الاستبداد، مع ذلك يبقى السؤال مشروعاً، لماذا كانت الفرحة كبيرة في قلوبنا، وملجومة بسلوكنا، رغم الكثافة العددية للمحتفلين سواء في الساحات أو عبر مواكب السيارات. علماً أنه لا مناصرة للكرد إلا مع السوريين، في هذه المحنة الجماعية.

مخاوف من المستقبل

كان واضحاً حجم الأفكار والتطلعات والمخاوف التي تقاطعت في تفكيرنا وتحليلنا لليوم التالي على السقوط، وهي التي أرخت بظلالها على فرحتنا، وترددت بيننا أسئلة مثل، “كيف أفلت بشار الأسد من العقاب والمحكمة والعدالة؟”، “من سيحكم دمشق؟”، و”ما مصير القضية والحقوق الكردية؟”، “هل سنعود الى المركزية المميتة للحياة السياسية والحريات؟” وغيرها من الأسئلة التي قادتنا نحو حقيقة مفادها أن الأيام المقبلة أكثر شدةً مما نحن عليه الآن.

 انقسم السوريون الى ملل وأطراف وكياناتٍ مختلفة، ولا بد من إطار هويّاتي جامع يلم شتات السوريين في كل مكان، فمع الانهيار الأخير لنظام الأسد في سوريا، تغيرت قواعد اللعبة بشكل كبير، وإذا كان “الجولاني” قدم الكثير من الإشارات والسلوكيات التي يرغب من ورائها في تأكيد غياب أي شكل من أشكال العلاقة الفكرية أو السلوكية مع “القاعدة” أو غيرها.

 قدم الشرع وعبر حكومة الإنقاذ، سرديات وادعاءات على نجاح عمل حكومته أكثر من باقي الحكومات في سوريا، ما خلا الموقف من الحريات العامة، وبخاصة في قضية الصحافيين في إدلب. وقد حجزت طبيعة العلاقة التي سيبنيها الجولاني، أو أحمد الشرع، وهو اسمه الحقيقي، مع المكونات والقوميات، مكاناً في تفكيرنا أثناء أهازيج النصر، فهل من المعقول أن يتحول الحكم في سوريا إلى الإسلام السياسي؟

على رغم رسائل الطمأنة التي سعى الى ترسيخها لدى الكرد والإسماعيليين والدروز والمسيحيين وغيرهم، بقيت مخاوفنا مشروعة، بخاصة وأننا نعيش في شرق الفرات، في سلة سوريا الغذائية، ضمن بلدٍ مُدمر اقتصادياً، وتسيطر عليه قوة عسكرية جديدة، لن يُرضيها أن تبقى محرومة، أو تحصل على “حصة” من “غنائم “الثروات الطبيعية، بل ستعمل المستحيل في سبيلها، لكن كيف وما هي الآلية؟

 الأمر الآخر الذي نغّص فرحتنا، كان طبيعة العلاقة بين الكرد في سوريا، فالإدارة الذاتية تتصرف وكأنها هي من أسقطت النظام وقدمت كل التسهيلات اللازمة لذلك، أو كأنها لم تكن تعارض المعارضة السورية، أو لم تتهم كل مُخالف لها بالعمالة والخيانة!

مخاوفنا كانت حول كيف سيتصرف الكرد حيال هذه الأزمة، هل من طريق لوفد كردي مشترك على قاعدة الحقوق القومية للشعب الكردي، أم ستستمر الإدارة الذاتية في طروحاتها الغريبة وغير “المهضومة” في الوسط الكردي، مثل الأمة الديمقراطية وأخوة الشعوب …إلخ، والخوف الأكبر كان على ما تبقى من الجغرافيا الكردية؛ في ما لو نشبت معارك بين الجولاني وقسد، وهي في النهاية ستكون مسرحاً للطائرات التركية المسيرة، ومشاركة فصائل المعارضة المسلحة.

أخذنا التفكير صوب أخطر بقاع العالم، مخيم الهول، حيث “دويلة” خاصة بــ”50″ ألف سجين من مقاتلي وعوائل تنظيم داعش ضمن المعتقلات التي خصصتها لهم قوات سوريا الديمقراطية، وهم المقاتلون الذين شكلوا خطراً حيوياً ووجودياً على الأمن القومي الاستراتيجي الأميركي في المنطقة، فإنهم يُشكلون أكبر خطر يُهدد البشرية وأميركا وسوريا والكرد، وفي انتظار الإدارة الأميركية الجديدة لوضع حلول لسوريا.

إلى ذلك الحين، يُمكن القول إنها فرصة تاريخية لنا كسوريين أن نثبت أحقيتنا في إدارة بلادنا، هذه البلاد التي لم تكن يوماً مُتشكلة من دين أو قومية واحدة فقط. ومع شلالات الدم التي أريقت في سوريا، ليس من السهل إقناع الجميع ببضع جمل مُطمئنة حول العيش المشترك والمصير الواحد… لا أبداً، بل إن قصة الوطن الواحد تبدأ مع الهويّة الجامعة، وحقوق الهويّات الفرعية، ومنح الصلاحيات للأطراف وتشكيل الإدارات أو الحكومات التي ترتبط بالعاصمة الاتحادية. وتبدأ من اليقين بأن أجيالاً راحت تكبر على وقع الحرمان، بعدما شاهدت آباءها يشيخون وراء حقوقهم القومية والوطنية.

درج

———————

سوريا في لحظة “الانتقال”.. ألغام يتعين تفكيكها/ عريب الرنتاوي

17/12/2024

سيسجل تاريخ سوريا الحديث، أن عشرة أيام فقط، كانت كفيلة بهزّ عرش نظام استوى على الحكم لأكثر من خمسين عامًا (الجزيرة)

سيسجل تاريخ سوريا الحديث، أن عشرة أيام فقط، كانت كفيلة بهزّ عرش نظام استوى على الحكم لأكثر من خمسين عامًا، وأن عشرة أيام أخرى أعقبت “الانتقال”، كانت كفيلة بكشف ما بطن من التحديات و”الألغام” وما ظهر، وأن ارتدادات “الهزّة” ما زالت تضرب في طول الإقليم وعرضه، وأن خرائط جديدة للمواقف والمواقع والتحالفات، قد أخذت تتشكل أو تطل برأسها، وأن ذيول “الهزّة” الارتدادية، ستصيب السياسات والإستراتيجيات والعلاقات الدولية في الإقليم وحوله.. كيف لا، ونحن نتحدث عن سوريا، قلب المشرق العربي ومحوره.

حالة “انعدام اليقين” تهمين على السوريين بأطيافهم ومرجعياتهم المختلفة، لا تخفيها ولا تقلل من شأنها الاحتفالات بسقوط نظام الأسد الابن، والتي كانت أقرب للاستفتاء العفوي منها إلى أي شيء آخر.

والحالة ذاتها، تسيطر على العواصم المعنية في المنطقة والعالم، وتطغى على الاتصالات والتحركات السياسية والدبلوماسية، التي نشطت على نحو غير مسبوق، منذ صبيحة الثامن من ديسمبر/ كانول الأول.

وهي حالة، ليست محكومة فقط، أو ناجمة عن، سرعة التغيير وفجائيته، بل تغذيها كذلك، جملة الألغام المزروعة على طريق الانتقال في سوريا، والقلق المبثوث حيال فرص النجاح في “تفكيكها” وإبطال مفاعيلها.

فبعد أزيد من نصف قرن على سنوات “الركود الأسدي” في سوريا، نعرف اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ثقل التركة التي خلفها نظام الأب والابن. وندرك معها، حجم التدخلات والمصالح الخارجية المتناقضة، وأحيانًا حد التصارع، على الأرض والجغرافيا السوريتين.

وسنكتفي في هذه المقالة، بالتوقف عند عددٍ من أخطر هذه الألغام، وسبر أغوار الفرص والتحديات، التي تواجه عملية تفكيكها وتطهير المشهد السوري من مخاطر انفجاراتها:

اللغم الأول:

هو العربدة الإسرائيلية المدفوعة بشهية توسعية – عدوانية، والمُستبطِنَة لأخطر المشاريع التقسيمية.. إسرائيل التي ودّعت “الشيطان الذي تعرفه”، لا تخفي حذرها وتحسبها من “الشياطين التي لا تعرفها”، كما يقول الناطقون باسم حكومة اليمين الأكثر تطرفًا.

إسرائيل لا “تتحوط” حين تقدم على التمدد في المنطقة العازلة وخارجها وصولًا إلى أعلى قمة في جبل الشيخ، ومشارف ريف دمشق، من “المجهول القادم” فحسب،. بل إنها وهي تشن أعنف الضربات الجوية في تاريخها، إنما تثأر من “الدولة السورية”، وتمارس أبشع عمليات “الإعاقة” لبقائها وتطورها اللاحقين.

وهي وإن زعمت بأنها تفعل ذلك في سياق استباقي – وقائي، وأن كل ما تقوم به من ترتيبات إنما يندرج في خانة “المؤقت”، فإن الخبرة العربية في الصراع مع هذا الكيان، تجزم بما لا يدع مجالًا للشك، بأن كل “مؤقت” في إسرائيل، هو “دائم”، ما لم تجبر على الرضوخ لخلاف ذلك.

إن إمعان النظر، فيما تقوله إسرائيل وتفعله وتنفذه بكل وحشية وهمجية، على الأرض ومن السماء، إنما يشفّ عن مستويَين في التفكير الإسرائيلي حيال سوريا:

    الأول: تكتيكي، ينطلق من نظرية القلعة والجدران وأحزمة الأمن والمناطق العازلة، وتجريد العدو من عناصر قوته واقتداره.

    أما الثاني: فإستراتيجي ويتصل بمستقبل الدولة والكيان والمكونات، وهنا نعود مرة أخرى، إلى جدعون ساعر، الذي أخرج من أرشيف الحركة الصهيونية المبكر، مشاريع التفتيت والتقسيم، على أسس طائفية ومذهبية وإثنية. ولا وظيفة لذلك، سوى تحويل كيانه إلى “أكبر أقلية” في المشرق العربي، وتسويق وتسويغ مشروع “يهودية الدولة”.

“حلف الأقليات” الذي لا يني قادة تل أبيب يروجون له، يشهد شروعًا من دون إبطاء، في تقديم الدعم والإسناد لكيانية “درزية” تشكل منطقة عازلة لإسرائيل عن “الأكثرية العربية السنّية” شمالًا، ودعم كيان كردي انفصالي شمالي البلاد.

يطلق أثرُ الدومينو – Domino Effect – تفكيكًا وتقسيمًا لأربع دول كبرى في المنطقة، جميعها في خانة الدول المعادية (أو غير الصديقة) لإسرائيل، وهي إلى جانب سوريا، كلٌّ من تركيا والعراق وإيران، وربما غيرها.

والحديث عن مثل هذه المخططات، لا يأتي من باب التكهنات المتطيّرة أو الاتهامات المعلّبة، لهذا الكيان، بل هي تلخيص لما يدور في الأذهان الشريرة لقادته، والذي نطقت به ألسنتهم خلال الأسابيع الثلاثة الماضية.

هذا التحدي الإسرائيلي، إن لم يجرِ تطويقه وإبطال مفاعليه، سيطلق ديناميات جديدة في سوريا الجديدة، ستفضي بدورها إلى تبديل في أولويات “أجندة الانتقال”، وسيُدخل تغييرًا في التحالفات والاصطفافات المحلية والإقليمية، وسيفتح أبواب سوريا مجددًا، لتدخلات خارجية، سواء من أطراف مخلصة في مشروعها “المقاوم” للهيمنة الإسرائيلية، أو حتى تلك المُتغطية بها، لتحقيق مآرب جيوسياسية.

اللغم الثاني:

المسألة الكردية، التي تختلف مقاربتها، باختلاف الأطراف التي تقاربها، فهي من منظور تركي، تندرج في سياق “الحرب على الإرهاب”، بالنظر لوجود منظمة الـ”بي كا كا” ونفوذها غير الخافي على قوات سوريا الديمقراطية.

وهي من منظور أنقرة ودمشق وبغداد وطهران، مندرجة في سياق الحرب على “النزعات الانفصالية” وضرورات الحفاظ على وحدة وسلامة أراضي الدولة السورية، خشية انتقال عدوى الانفصال والتفكيك لبقية أضلاع المربع الإقليمي المحيط بقضية الكرد.

وهي من وجهة النظر الأميركية، سلاح ذو حدين، ينفع في ابتزاز دمشق بصرف النظر عن هوية النظام القائم فيها، ولا يضر في مواجهة تركيا إن هي غرّدت بعيدًا عن السرب.

أما تل أبيب، فهي ترى في “أكراد المنطقة”، مشروع حليف مجرّب، وحلمها بإقامة “إسرائيل ثانية” في قلب المربع الإقليمي المذكور، بات سرًا ذائعًا، مع أننا نبرأ بكثير من القوى والفعاليات الكردية عن “التساوق” و”الاتساق” مع هذا المشروع التقسيمي، ونؤشر بأصابع الاتهام والإدانة، لبعضها الآخر، الذي أظهر في غير محطة، استعدادًا لـ”التخادم” مع المشروع الصهيوني.

ثمّة ما يشي بأن فرصة التوصل لحل سياسي للمسألة الكردية في سوريا، ما زالت قائمة، بل وتعاظمت بعد الإطاحة بنظام الأسد، الذي طالما اشتكى حلفاؤه الروس من “تعنته” البالغ حد التنكر لحقوق هذا المكون الرئيس من مكونات الشعب السوري، بل وتحميله المسؤولية عن إفشال جهود وساطة قاموا بها على خط القامشلي – دمشق. ونقول ثمة فرصة أفضل لتفكيك هذا اللغم، بالاستناد إلى تطورات متسارعة و”نوعية” طرأت على ضفتي الحدود بين تركيا وسوريا.

في تركيا، استبقت أنقرة التغيير في سوريا، بإطلاق مبادرة تصالحية مع أكرادها، ومن ضمنهم حزب العمال الكردستاني. والمقترحات التي تقدم بها دولت بهتشلي، حليف أردوغان، للمصالحة عبر دعوة عبدالله أوجلان لمخاطبة نوابه في البرلمان التركي، بعد إلقاء السلاح، والنزول عن جبال قنديل، أظهرت ميلًا لاستئناف ما انقطع من مصالحات تعثرت في انتخابات 2015.

أية انفراجة في المسألة الكردية داخل تركيا، ستقود حتمًا لانفراجات مماثلة بين أكراد سوريا وأنقرة، التي تلعب اليوم، دورًا متعاظمًا في الملف السوري، حتى لا نقول، إنها باتت المايسترو الذي يقود أوركسترا المشهد السوري الجديد.

وفي سوريا، تدرك “قسد” أن النظام السوري الجديد، جاد فيما يقوله لجهة توحيد الأرض والمؤسسات السورية، بما فيها توحيد الأذرع والمليشيات المسلحة، ودائمًا تحت شعار: دولة واحدة، شعب واحد، وسلاح واحد، وأن لا سلاح خارج سلاح الدولة.

وتدرك “قسد” كذلك، أن العالم برمته، ينتظر مجيء إدارة أميركية جديدة، ليست سوريا في صدارة أولوياتها. وهي بخلاف إدارة بايدن، لا تكّن ودًّا خاصًا لأكراد الإقليم وطموحاتهم القومية، وأن “مناكفة” روسيا في سوريا، ليس بالأمر الذي توليه أهمية خاصة، بخلاف الإدارة التي سبقتها. وإن جُلّ ما ترغب إدارة ترامب في رؤيته، هو أن تصبح سوريا خالية من النفوذ الإيراني، وأن تكف عن ممارسة دورها كـ”محطة ترانزيت” لتصنيع ونقل السلاح إلى حزب الله.

تدرك قسد أن ترامب وفريقه، هم الأقل اعتناءً من بين الإدارات الأميركية المتعاقبة، بقضايا حقوق الإنسان وتقرير المصير، ولا شك أن قادتها يستذكرون اليوم، العبارة المنسوبة للرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك، والتي استمعوا إليها مرارًا وتكرارًا: “المتغطي بأميركا عريان”.

لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن “قسد” و”وحدات الحماية” سترفعان الراية البيضاء غدًا أو بعد غدٍ، كما لا يعني أيضًا، أن الكرد سيتخلون عن طموحاتهم وأحلامهم القومية، لكن المؤكد أن التطورات الجديدة في سوريا، ستدفعهم دفعًا، للهبوط بسقف توقعاتهم، وربما “الهبوط الآمن عن قمة الشجرة”.

في مطلق الأحوال، يتعين أن يكون كرد سوريا، حاضرين بحجمهم، من دون مبالغة أو تقزيم، على مائدة صياغة دستور سوريا الجديد. وأن تأخذ سوريا الجديدة، بما هو واقعي من طموحاتهم وأحلامهم، وأن يضعوا وحدة الأرض والشعب والدولة، في مقدمة حساباتهم، مع مراعاة التنوع وحقوق المكونات والكيانات، وفقًا لما هو متعارف عليه، في أفضل التجارب العالمية.

والأهم من كل هذا وذاك، “فك الارتباط” بين حقوق الكرد ومستقبلهم في سوريا، وما يعتمل في دول الجوار، العربي والإقليمي، من تفاعلات وتطورات.

المهمة ليست سهلة، وتشابكات الملف الكردي، تلقي بتحديات جسام على الحكم الجديد في سوريا. يتعين الشروع في تفكيك تلك التشابكات بالحوار مع مختلف الكيانات الكردية السورية، وبالتعاون مع الدول المجاورة، بالذات تركيا والعراق.

اللغم الثالث:

وربما يكون هذا اللغم هو الأول من حيث الأهمية. وأعني به تحدي بناء توافقات وطنية سورية جامعة، حول الانتقال وقواعده ومراحله وأطرافه وأهدافه. قوى الثورة وفصائل المعارضة، تتحدّر من خلفيات وتجارب ومرجعيات، متعارضة وأحيانًا متصادمة. والفسيفساء السورية بحاجة إلى “لاصق” يبقيها قطعة واحدة. وإسقاط أي جزء منها، ستكون له عواقبه غير المحمودة.

سوريا لا تحكم بطائفة أو دين أو مذهب معين.. سوريا المتنوعة، تُحكم بنظام مدني ديمقراطي، يجد فيه الجميع مكانًا لهم، وحصة فيه. بخلاف ذلك، تكون قد عادت لزمن الإقصاء والتهميش، والحكم “الأقلوي”.

وسوريا اليوم، تواجه تحدي عدم الانجرار لإغواء “الأكثرية” وهيمنتها، طائفية كانت أم مذهبية. فالاستقرار والسلم الأهليان، يتحققان فقط، عندما تحترم الأكثرية حقوق الأقليات. وتلكم مهمة الفريق الوطني الذي سينجز مشروع دستور جديد لسوريا، والذي يتعين أن يكون جامعًا وشاملًا، لا يترك مكونًا أو كيانًا خلفه، وأن يخضع هذا الدستور لاستفتاء، أو أن يقر من قبل جمعية وطنية تأسيسية منتخبة.

ثمة أطراف متربصة، داخلية وخارجية، تتحين الفشل وتترصده. وثمة أطراف ترى الفوضى في سوريا وتقسيمها، مصلحة عليا لها. وثمة أطراف حاربت “الإسلام السياسي” لعقود خلت، ولم تلقِ سلاحها بعد، ولديها من “الخبرات” والقدرات، في محاربة هذه الأطراف، ما أثبت نجاعته في دول وتجارب أخرى عديدة. ثمة من يريد الإمساك بسوريا من يدها المجروحة:(إنعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار)؛ لتحقيق مآرب أخرى، ليس “التطبيع” المجاني مع إسرائيل سوى واحدٍ منها.

لكن في المقابل، ثمة قاعدة اجتماعية – شعبية قوية للتغير وللنظام الجديد، وثمة حواضن عربية وإقليمية قوية تدفع باتجاه إنجاح تجربة الانتقال، وثمة مخاوف من تداعيات الفشل وارتداداته لدى أطراف محلية وعربية أخرى، تدفعها لابتلاع قلقها وتحسّباتها، ومد يد العون والتعاون مع النظام الجديد في دمشق، وإن من باب “أهون الشرَّين”.

ثمة تحديات جسيمة، تقابلها فرص عظيمة لإعادة بناء سوريا وردّها إلى موقعها ومكانتها، وتمكينها من استعادة دورها المتميز.. ثمة رياح شديدة ومتعاكسة، تهبّ على سوريا اليوم، وبيد النخب الحاكمة الجديدة، أن تفسح الطريق أمام الفرص، وإبطال الألغام في حفرها. كان الله في عون سوريا والسوريين.

شبكة الجزيرة.

——————————–

سقوط الأسد: بداية تغيرات كبرى أم تهديدات جديدة؟/ جون بولتون

يربك سقوط النظام في سورية حسابات روسيا وإيران ويعيد تشكيل التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط

الثلاثاء 17 ديسمبر 2024

في وقت يعد فيه إطاحة الأسد مساهمة حاسمة في تقليص التهديد الإيراني، إلا أنه لا مصلحة لإسرائيل ولا للحكومات العربية المجاورة ولا للولايات المتحدة في رؤية دولة إرهابية أخرى تنشأ، وهذه المرة على البحر الأبيض المتوسط

يتسارع دوران عجلة التاريخ في الشرق الأوسط، حاملاً معه احتمالات لتغيرات جذرية في المنطقة، قد تكون نحو الأفضل أو الأسوأ. جاء انهيار ديكتاتورية عائلة الأسد في سوريا كصدمة مدوية للجميع، بدءاً ببشار الأسد نفسه، ومروراً بحلفائه في روسيا وإيران. حتى أجهزة الاستخبارات العربية والغربية عجزت عن كشف هشاشة النظام، بخاصة ضعف وعدم ولاء مؤسساته العسكرية والأمنية.

سقط الحكم الديكتاتوري الوحشي، ولكن ما الذي سيأتي بعد ذلك؟ الأهم هو أن إسقاط الأسد يمثل هزيمة كبيرة أخرى لحكم الملالي في إيران. فبعد الضربات القوية التي تلقتها ميليشيات “حزب الله” من إسرائيل، والتفكيك شبه الكامل لـ”حماس”، تعد هذه ثالث كارثة كبرى تواجه استراتيجية “طوق النار” المناهضة لإسرائيل التي تتبناها طهران. وعلى رغم أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وافق على وقف إطلاق النار مع “حزب الله”، فقد أوضح أن مدته لا تتجاوز 60 يوماً، وتنتهي مباشرة بعد مغادرة جو بايدن منصبه. سيواجه “حزب الله” مزيداً من المصاعب إذا تم قطع خط إمداده البري عبر العراق وسوريا بشكل دائم. ولا يوجد وقف إطلاق نار مع “حماس”، مما يعني أن كلا الوكيلين الإرهابيين قد يواجه مزيداً من الضربات الإسرائيلية.

أما بالنسبة إلى إيران نفسها، فلا يمكن لأوضاعها أن تكون أسوأ من ذلك. فمع سقوط ثلاث ركائز رئيسة لقوتها الإقليمية، أو قرب سقوطها، أصبح الملالي في خطر كبير على المستويين الدولي والداخلي. وقد انتشرت الاتهامات المتبادلة وإلقاء اللوم بين كبار قادة الحرس الثوري والجيش الإيراني النظامي بالفعل على نطاق واسع بين صفوف الشعب.

التفكك والانقسام في صفوف القيادات العليا للأنظمة الاستبدادية غالباً ما يكونان من أولى علامات انهيار النظام. في إيران، كان الاستياء الشعبي واسع النطاق بالفعل نتيجة للتدهور الاقتصادي المزمن، ومعارضة الشباب والنساء عموماً، فضلاً عن التوترات العرقية وغيرها. وإذا بدأ الحرس الثوري والقيادة العسكرية النظامية في الانهيار، فإن احتمالات اندلاع صراع مسلح داخلي تزداد. وقد أظهر انهيار نظام الأسد أن مظاهر القوة قد تخفي ضعفاً عميقاً، وأن الانهيار يمكن أن يحدث بشكل مفاجئ وسريع.

خارجياً، لم يكن نظام إيران أبداً بهذا القدر من الهشاشة منذ ثورة 1979. فقد تمكنت إسرائيل من تدمير أنظمة الدفاع الجوي S-300 التي زودت بها روسيا إيران، وإلحاق أضرار جسيمة بقدراتها الصاروخية الباليستية، وتدمير أجزاء من برنامجها للأسلحة النووية. لم يحظ نتنياهو بفرصة أفضل من الآن للقضاء على كامل البرنامج النووي الإيراني أو أجزاء كبيرة منه. إن تحقيق ذلك سيجعل إسرائيل والدول المجاورة والعالم بأسره أكثر أماناً من تهديد الانتشار النووي الإيراني الذي استمر لعقود، في انتهاك طويل الأمد لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.

على إسرائيل، بمساعدة الولايات المتحدة إن كان في ذلك حاجة، السعي إلى تحقيق النصر في قضية البرنامج النووي. لن يقضي ذلك فقط على تهديد طهران بهولوكوست نووي، بل سيوجه أيضاً ضربة سياسية أخرى للملالي على الصعيد الداخلي. فضلاً عن عشرات المليارات من الدولارات التي أهدرت في دعم وكلاء إيران الإرهابيين الذين تعرضوا الآن للتدمير، فإن المليارات التي أنفقت على تطوير الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية ستعد أيضاً أموالاً مهدورة. وسيكون من حق المواطنين الإيرانيين تماماً أن يستنتجوا أن الملالي لم يكونوا أبداً حريصين على مصالحهم، وأن إطاحتهم أصبحت الآن مبررة تماماً.

روسيا هي ثاني أكبر الخاسرين. فإضافة إلى انشغالها وانهماكها جراء عدوانها غير المبرر ضد أوكرانيا، الذي يوشك على دخول عامه الثالث، افتقر الكرملين إلى الموارد لإنقاذ عميلها في دمشق. إذ إن إهانة فلاديمير بوتين تتردد أصداؤها عالمياً، وستترك أيضاً تأثيراً مدمراً داخل روسيا، ربما تحفز أخيراً معارضة أكثر فاعلية للأعباء المستمرة التي تفرضها حرب أوكرانيا على مواطني روسيا واقتصادها.

حتى إن روسيا قد تواجه خسائر أكبر في المستقبل. فالمصالح الرئيسة للكرملين في سوريا هي في قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة اللاذقية الجوية، وهما المنشآتان العسكريتان الوحيدتان لروسيا خارج أراضي الاتحاد السوفياتي السابق. هاتان القاعدتان حيويتان لموقع روسيا في شرق البحر الأبيض المتوسط. وإذا ما اضطرت روسيا إلى إخلاء هاتين القاعدتين، فإن قدرتها على تعزيز قوتها خارج البحر الأسود ستتقلص بصورة كبيرة، كما سيتراجع تهديدها لحلف الناتو عبر البحر الأبيض المتوسط. وعلى رغم أن هناك مؤشرات أولية على أن روسيا قد تحاول الاحتفاظ بالقاعدتين، تشير صور فضائية تجارية حديثة إلى أنها قد تكون تستعد لسحب بعض أو كل قواتها. لا يزال الوضع غير مستقر.

من دون شك، تعد تركيا، وتنظيم “هيئة تحرير الشام” HTS، والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا هم الرابحون الكبار حتى الآن. ومع ذلك، فإن الوضع الداخلي في سوريا أبعد ما يكون عن الاستقرار. لا يزال الجنود الأميركيون موجودين في شمال شرقي سوريا، إذ تقدم الدعم لقوات الدفاع السورية التي تضم بشكل رئيس الأكراد في حملة مكافحة “داعش”، وكذلك في منطقة التنف. لا ينبغي التخلي عن الأكراد، بخاصة في ظل الطموحات “العثمانية الجديدة” للرئيس رجب طيب أردوغان لتوسيع نفوذ تركيا في الأراضي العربية. سيكون من الخطأ، في هذه المرحلة، إزالة “هيئة تحرير الشام” من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية في واشنطن، على رغم أن إدارة بايدن تفكر في اتخاذ هذه الخطوة بشكل غير حكيم.

في وقت يعد فيه إطاحة الأسد مساهمة حاسمة في تقليص التهديد الإيراني، إلا أنه لا مصلحة لإسرائيل ولا للحكومات العربية المجاورة ولا للولايات المتحدة في رؤية دولة إرهابية أخرى تنشأ، وهذه المرة على البحر الأبيض المتوسط. أمامنا دبلوماسية حساسة في الفترة المقبلة. وفي هذه الأثناء، كان بايدن على صواب عندما قصف مستودعات أسلحة “داعش” في شرق سوريا لحرمان “هيئة تحرير الشام” من تلك الموارد، كما أن إسرائيل مبررة في تدمير الأصول العسكرية لحكومة الأسد للسبب نفسه.

من المهم بالنسبة إلى المنطقة والعالم أن تبذل جهود عاجلة لتحديد وتأمين جميع جوانب برامج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية للأسد. فقد استخدم الأسد الأسلحة الكيماوية ضد شعبه في عامي 2017 و2018، لذا لا شك في أن هذه القدرات موجودة.

لذا وعلى رغم أن هناك كثيراً من الأخبار الإيجابية في شأن إطاحة الأسد ونفيه إلى موسكو، فإن الظروف في سوريا لا تزال تشكل تهديداً خطراً للسلام والأمن في الشرق الأوسط وعلى مستوى العالم. ليس هذا وقت التراخي أو التراجع، بخاصة بالنسبة إلى الإدارة الأميركية المقبلة برئاسة ترمب.

————————-

قيصر” سوريا: هناك مئات آلاف الضحايا التي لم تكتشف بعد/ بيل ترو

يتحدث المصور الذي التقط أكثر من 53 ألف صورة توثق فظائع نظام الأسد عن مخاطرته بحياته كي يكشف أمام العالم ما يحدث وخوفه من كل ما لم يكتشف بعد

الثلاثاء 17 ديسمبر 2024

حذر العسكري المنشق عن الجيش السوري، والملقب بـ”قيصر”، والمسؤول عن تهريب أكثر من 53 ألف صورة مرعبة لجثث معتقلين سوريين مصابين بالهزال وعلى أجسادهم آثار تعذيب – وهي الإثباتات التي أفضت إلى فرض عقوبات تاريخية – أن هذه الصور مجرد “لمحة موجزة” عن حجم وكم الجرائم الكاملة التي ارتكبها نظام الأسد.

وفي حديث حصري إلى “اندبندنت” كشف المصور كيف نجح في إخراج الصور من سوريا وفي إخفاء محرك أقراص محمول وضع عليه الأدلة في ملابسه الداخلية قبل أن يتم تهريبه بمساعدة الثوار في شاحنة تنقل الطحين من سوريا إلى الأردن، ثم أبلغت عائلته باختطافه ومقتله على يد إرهابيين كي توفر له غطاءً للهرب.

المصور السابق في الجيش الذي لم يكشف عن هويته كان قد أدلى بشهادته أمام حكومات العالم حول الأدلة على الوحشية التي رآها، ودعا إلى تضافر جهود العالم في مساعدة سوريا على محاسبة المسؤولين عن “أسوأ جرائم القرن الـ21”.

تحدثت “اندبندنت” عبر الهاتف مع قيصر الذي يعيش تحت غطاء من السرية التامة منذ عقد، أثناء زيارة مراسلتنا للمستشفى العسكري 601 في حي المزة بدمشق، وهو المكان عينه الذي التقط فيه عدداً كبير من الصور المرعبة التي هزت العالم. ويعد المبنى الذي بات فارغاً بعد إسقاط بشار الأسد بصورة صادمة خلال نهاية الأسبوع الماضي معلماً مرعباً يشهد على فظائع ارتكبها النظام السابق على نطاق واسع.

وفَّرت الصور التي التقطها “قيصر” وتضمنت صوراً لمواقع هجمات وجثث مقاتلين مسلحين أو مدنيين قتلوا في الهجمات، أول لمحة موسعة على الفظائع التي ارتكبتها حكومة الأسد بعد انطلاق الثورة في عام 2011 التي تحولت بعد ذلك إلى حرب أهلية دموية. وتأكدت منظمات معنية بحقوق الإنسان ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي من صحة الصور التي تظهر جثثاً هزيلة ومشوهة اقتلعت أعين بعضها وخطت أرقام على أذرعها أو رؤوسها. 

وقال المصور لـ “اندبندنت” من منفاه في أول مقابلة يجريها منذ سقوط نظام الأسد، “التقطت الصور بين عامي 2011 و2013. وخلال هذه الفترة رأيت بأم العين 11 ألف جثة في الأقل لرجال ونساء وأطفال ومسنين”. وأضاف، “التقطت نحو 55 ألف صورة لأشخاص تعرضوا للتعذيب. وكل ذلك في مكان واحد فقط – في دمشق فحسب. كان هذا مجرد لمحة مقتضبة عن الزمان والجغرافيا والمكان… يمكنني أن أقول إن هذا كان يحدث في كل الأماكن الأخرى، لذلك إن أحصينا عدد الذين عذبوا حتى الموت، ستبلغ الحصيلة مئات آلاف الأشخاص”.

وأضاف أنه عاش في “خوف ورعب” طوال ثلاث سنوات كان يلتقط فيها هذه الصور ويهربها إلى الخارج، لعلمه أنه إن اكتشفت الحكومة فعلته “سوف أتحول إلى جثة من بين هذه الجثث”. وعلى رغم ذلك عبر عن استعداده للعودة بغية المساعدة في التحقيقات في سوريا، ودعا المجتمع الدولي إلى دعم هذه المساعي.

تحدثت “اندبندنت” إلى قيصر برفقة مؤسس المنظمة السورية للطوارئ معاذ مصطفى، وهي هيئة غير حكومية مقرها الولايات المتحدة، ساعدت في تهريب الصور من سوريا عبر وحدات تخزين USB وأسهمت في نشر الوعي بالقضية حول العالم.

وقف مصطفى الذي فقد بعض أفراد عائلته وأصدقائه وسط ساحة وعرة سجيت فيها الجثث في ما مضى، إذ يتم ترقيمها وتوثيقها وتصويرها، وكانت وجوههم وأجسادهم مشوهة وهزيلة بسبب الجوع والمرض.

خلال مقابلتنا تحدث مصطفى إلى “قيصر” عبر الهاتف للتأكد من الموقع المحدد – مع أن بعض المباني قد تغيرت منذ فترة التقاط الصور التي مر عليها أكثر من 10 سنوات. وشرح أن “قيصر” قضى سنتين ونصف السنة وهو يحمل الصور التي يلتقطها في عمله على وحدة تخزين اعتاد أن يخبئها في ملابسه الداخلية أو جواربه كل يوم أثناء مروره بنقاط التفتيش في طريق العودة إلى المنزل. أرسلت بعض الصور عبر الإنترنت، لكن ضخامة الملفات جعلت من إرسال كل شيء بهذه الطريقة مهمة مستحيلة.

وفي النهاية يقول مصطفى إنه جرى تهريب “قيصر” عبر المناطق التي يسيطر عليها الثوار في دمشق قبل أن يخرج من سوريا بعدما اختبأ داخل شاحنة تنقل الطحين إلى الأردن، وحمل معه الأقراص الصلبة التي خزن عليها الصور وصور الوثائق التي تبين المسؤوليات القيادية وأدلة على عمليات الإخفاء القسري.

وقال مصطفى إن عائلة “قيصر” أبلغت السلطات بعد أسبوع باختطافه ومقتله على يد الإرهابيين، وطلبت السماح لها بحضور مراسم الدفن في جنوب سوريا، مما منحها غطاءً للهرب. بعد ذلك شق “قيصر” رحلة صعبة وقاسية عبر بلدان مختلفة في المنطقة قبل أن يصل أوروبا في نهاية المطاف، حيث منح حق اللجوء.

منذ فراره من سوريا من 10 سنوات، جال “قيصر” العالم دون أن يفصح عن هويته – وهو يخفي وجهه وصوته – ليقدم شهادته أمام الحكومات والبرلمانات. وحذر مراراً وتكراراً من احتمال أن يلقى 150 ألف شخص يعتقد أنهم لا يزالون معتقلين في سوريا، مصيراً مشابهاً لمصير الأشخاص الموجودين في صوره. وتبين أن هذا التحذير دقيق بصورة مخيفة، إذ توافدت عائلات المفقودين في البلاد إلى السجون والمشارح والمستشفيات التي فتحت للمرة الأولى منذ إسقاط نظام الأسد الدرامي الأسبوع الماضي.

أسفرت صوره عن إقرار “قانون قيصر” التاريخي في الولايات المتحدة، في عام 2019، الذي فُرضت بموجبه عقوبات على مسؤولي النظام والجهات الداعمة لجهود الأسد العسكرية خلال الحرب الأهلية السورية، ومن بينها شركات أجنبية. ومنح القانون كذلك السلطة لوزير الخارجية الأميركي كي يدعم الجهات التي تجمع الأدلة وتعمل على مقاضاة الأفراد الذين ارتكبوا جرائم حرب في سوريا. 

ومن داخل المستشفى شرح مصطفى كيف كانت جثث المعتقلين الذين كتبت على جبينهم أرقام، تنقل إلى المكان بالشاحنات على مرأى من القصر الرئاسي الذي لا يبعد سوى كيلومتر واحد من المكان، إذ يقع على تلة مجاورة. وأضاف، “تحدثنا إلى أطباء شرحوا لنا أنه بعد تصوير قيصر الجثث في هذه المنطقة، حملت داخل شاحنات اقتادتها بعيداً. ولفترة طويلة لم نعلم أين ذهبت حتى اكتشفنا القبور الجماعية حين التقينا بحفاري القبور”.

عرض “قيصر” الذي لا تزال هويته مجهولة العودة إلى سوريا لمساعدة السلطات القادمة على جمع الأدلة. وقال لـ”اندبندنت”، “قضيت حياتي في خدمة الشعب السوري. وحتى بعدما أنهيت موضوع الصور، جلت في أنحاء العالم، فقصدت كونغرس الولايات المتحدة، وكشفت ما يحدث. في ذلك الوقت والآن وفي المستقبل، سأواصل خدمة سوريا”. وأصاف، “إذا طلبت مني الحكومة السورية الجديدة القدوم والمساعدة في المحاسبة والمساءلة، سأكون أول الحاضرين. بلا أي شك. سأتدخل”. وشدد على ضرورة سعي العالم إلى العثور على المسؤولين ومحاكمتهم، حيث ذكر أن “على العالم أجمع أن يتذكر أن الشعب السوري قاسى أفظع جرائم القرن الـ21، والذي نراه اليوم فيما يستكشفون فروع الاستخبارات والسجون المحررة، هو أسوأ أنواع التعذيب… من المهم جداً أن يحاسب نظام الأسد والمرتزقة الذين ارتكبوا جرائم الإبادة الجماعية هذه. فقد ظلت العدالة مفقودة لفترة طويلة جداً”.

© The Independent

—————————

هل خسرت إيران سوريا إلى الأبد؟ تلك سيناريوهات المستقبل/ اسماعيل درويش

الذاكرة مشحونة بالغضب تجاه كل ما يأتي من طهران والعودة تصطدم بعوائق كبرى ليس من السهولة تجاوزها

الثلاثاء 17 ديسمبر 2024

ستنحصر العلاقات السورية – الإيرانية مستقبلاً بأربعة سيناريوهات، أولها الصدام مجدداً وهو مستبعد لأسباب عدة، وثانيها عدم إقامة أية علاقات دبلوماسية أو سياسية أو تجارية مع إيران بأية صورة من الصور، وهو غير مرجح، أما السيناريو الثالث، وهو الأقرب للواقع، فسيكون فيه لإيران تمثيل دبلوماسي حذر، من دون أن يسمح لها بالتدخل في أي شأن من شؤون سوريا، ويبقى السيناريو الرابع قائماً ويتمثل في سقوط نظام طهران.

من وسط دمشق، التي يسميها أهلها “عاصمة الأمويين”، ظهر القائد العام لإدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع ليصرح بأن “سوريا ليست بصدد دخول حرب مع إسرائيل”، مما أثار سخط كثر ورضا آخرين، لكنه تصريح هدأ من روع سوريين أرهقتهم حروب مزقت بلادهم إرباً، وشردت أهلها، وأخرجت آلاف الجثث من السجون.

من الضفة الأولى تبدو تصريحات الشرع إعلاناً بأن “سوريا الجديدة لن تكون ضمن محور المقاومة”، ويبرر سوريون ذلك بأن رفض دمشق الانضمام إلى المحور الإيراني ليس كرهاً في فلسطين، وإنما لأن النظام المخلوع استخدم القضية الفلسطينية على مدى عقود حجة لإدخال إيران وتغلغلها، وفي المقابل لم يطلق رصاصة واحدة تجاه إسرائيل، وعلى العكس تماماً كان النظام السوري مأمون الجانب بالنسبة إلى تل أبيب التي لم تتدخل في الحرب السورية لمصلحة أحد، وغالب ضرباتها كانت تستهدف التجمعات والمقار الإيرانية، متجنبة المواقع العسكرية لجيش النظام السابق.

في الضفة الثانية، إيران كانت حليفة موثوقة للنظام السوري منذ عهد الأسد الابن، وبعد ثورة 2011 تحول التغلغل الإيراني في سوريا من ثقافي طائفي محدود إلى عسكري ديموغرافي واسع، وكانت الميليشيات الإيرانية تستخدم العنف بهدف الترويع، فوثقت المنظمات الحقوقية استخدامها السكاكين والحرق لقتل معارضي النظام بما في ذلك المدنيون وحتى الأطفال، وعملت على استحضار التاريخ، فأعلنت إيران على لسان مرشدها علي خامنئي أنها تبحث عن ثأر قد مضى عليه أكثر من 14 قرناً، فقبل أسابيع قليلة قال المرشد في تغريدة على حسابه الرسمي في منصة “إكس”، إن “المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية مستمرة”، في المقابل يقول السوريون إنهم لا يعرفون الجبهات التي يتحدث عنها المرشد، وليس لديهم إلا جبهة واحدة وهي إسقاط الأسد وبناء “سوريتهم” بعروبتها وتنوعها العرقي والطائفي، فحققوا الهدف الأول، وتقول المؤشرات الحالية إنهم يتجهون إلى تحقيق الهدف الثاني.

بسقوط الأسد، على الفور اتضح الرابح الأكبر والخاسر الأكبر من ناحية المبدأ، الخاسر الأكبر هو إيران، وهذا ما اعترف به المسؤولون الإيرانيون صراحة، واعترف به أيضاً الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني نعيم قاسم، لكن هل تحاول إيران العودة إلى سوريا؟

الذاكرة السلبية

الباحث في مركز “جسور” للدراسات، الصحافي السوري فراس فحام يقول إن “إيران هي أكبر الخاسرين من سقوط نظام بشار الأسد، لأنها عملت على الاستثمار به لأعوام طويلة، وهي على عكس روسيا كانت تحصر خياراتها في شخص بشار الأسد، وكانت تعول على بقائه بهدف تحويل مجهودها الحربي وما بذلته إلى مكاسب اقتصادية وسياسية”.

يضيف فحام أن “الإشكالية الأساس التي تعترض إيران اليوم هي أن الذاكرة السورية أصبحت سلبية تجاه إيران، لذا فلم يعد هناك أطراف في سوريا يمكن لإيران أن تتعامل معها من أجل تأمين مصالحها، وبالنسبة إلى الطائفة الشيعية في سوريا فعددها قليل ولا يشكل نسبة كبيرة من السوريين بخلاف العراق، فهم أقلية موجودون في أربع أو خمس مناطق فقط وبأعداد قليلة نسبياً”.

البوابة الكردية

ويشير الصحافي السوري إلى أنه “من الواضح اليوم أن إيران تحاول استمرار التدخل في سوريا عبر تيار محدد ضمن قوات سوريا الديمقراطية، وهذا التيار الموجود ضمن تنظيم ’قسد‘ هو عبارة عن مجموعة تسمى (قوات الدفاع عن عفرين)، وهذه المجموعة بالذات من ’قسد‘ لديها ارتباطات بالحرس الثوري الإيراني، كذلك فإن لدى حزب العمال الكردستاني علاقات وثيقة مع إيران، لكن على رغم ذلك فلا يمكن لطهران التعويل بصورة كبيرة على هذا المكون، لأنه بحسب ما يبدو هناك توجه إقليمي لإنهاء مشروع ’قسد‘ وتحويله إلى مكون سوري ينخرط في الحل السياسي”.

ويعتقد الباحث السوري أن “إيران ستبقى تراقب الفرصة من أجل أن تؤجج بعض النزاعات في سوريا لمحاولة تأمين موطئ قدم جديد، لكنها قد تصطدم بعائق كبير وهو وصول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى السلطة قريباً، واحتمالية أن يشدد الضغوط على إيران بصورة كبرى، ومن ثم ستُعوق إيران عن محاولات العودة إلى الساحة السورية، وربما أيضاً يتراجع نفوذها في العراق”.

خسارة درة التاج

ويتفق الصحافي السوري ناصر العدانان مع وجهة نظر فحام، ويوضح أنه “من الناحية العسكرية أعتقد أن إيران خسرت درة تاج مشروعها الذي هو (مشروع ولاية الفقيه في المنطقة العربية)، فهي لم تخسر سوريا وحسب بل خسرت لبنان أيضاً، وذلك لأن طريقها إلى لبنان يمر بالضرورة عبر سوريا، ومن جانب آخر خسرت التوزع الجغرافي لميليشياتها، فلدينا إحصاءات توثق وجود أكثر من 66 ميليشيا لإيران في سوريا قبل سقوط نظام بشار الأسد، لذا فهي خسرت نفوذها العسكري في سوريا الذي كان يحمي نفوذها الاقتصادي”.

ويتابع العدانان “أما من الناحية السياسية فسيكون هناك موقف حازم وصارم من الدولة السورية الجديدة حيال العلاقات مع إيران وطبيعتها، فإذا لم تكن مقطوعة كلياً فإنها ستكون حذرة للغاية، فلا يمكن لسوريا أن تتجاهل أن إيران تورطت في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، ولن تكون العلاقات الدبلوماسية معها سليمة كبقية الدول، باختصار شديد لدي قناعة بأن هناك إجماعاً سورياً على أن إيران سبب رئيس في كل القتل والخراب الذي حل بسوريا على مدى 13 عاماً”.

من جانب آخر يرى الباحث المتخصص في الشأن الإيراني ضياء قدور أن “ما حدث من نتائج لعملية ردع العدوان هو خسارة تاريخية لا تعوض بالنسبة إلى إيران، حتى وإن حاولت طهران اليوم استغلال الاستفزازات الإسرائيلية للتقرب من القيادة السورية الجديدة، وإرسال إشارات بأنها تصطف إلى جانبها، لكن القضية أكبر من ذلك بكثير، فهو ليس موقفاً سياسياً عادياً، وإنما القضية تتعلق بسجل تاريخي دموي لإيران في سوريا، فخلال أكثر من عقد خلقت طهران الحقد والكراهية ضدها بقلوب السوريين، وإذا اتخذت الحكومة السورية الجديدة موقفاً يتقبل إيران ولو سياسياً فلا أعتقد أن خطوة كهذه ستكون مقبولة شعبياً”.

يضيف قدور “من الأفضل للساسة الإيرانيين حالياً التخلي عن محاولات عودتهم إلى سوريا، لأن الصورة الدموية لإيران في أذهان السوريين تحتاج إلى زمن طويل جداً حتى تُزال إن أزيلت، ولا أبالغ في القول إن إيران قد تكون خسرت سوريا إلى الأبد، وما يعزز هذا هو الحضور العربي الكبير أخيراً، فقد شهدنا تحركاً عربياً جاداً، وقد يكون جزء من هذا الحراك العربي هو استباق لإيران وللتأكد من أنه لن يكون لإيران أي نفوذ مستقبلي في سوريا، باختصار لا وجود لإيران في سوريا على المديين القصير والمتوسط”.

الاحتمالات الأربعة

في المحصلة يجمع المراقبون أن إيران هي الخاسر الأكبر في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، ومحاولاتها للعودة تصطدم بعوائق كثيرة، وستنحصر العلاقات السورية – الإيرانية مستقبلاً في أربعة سيناريوهات، أولها الصدام مجدداً من خلال ميليشياتها في العراق أو تلك التابعة لحزب العمال الكردستاني المقربة من الحرس الثوري الإيراني، لكن ذلك السيناريو مستبعد لأسباب عدة، أبرزها أن الأكراد اليوم يبحثون عن حل مع الإدارة السورية الجديدة، وليس لديهم رغبة في التورط بأية أعمال تخريبية من شأنها أن تؤدي إلى عملية عسكرية في شمال شرقي سوريا، ومن ثم يخرج المشروع الكردي من دون أية مكاسب، إضافة إلى أن الجماعات الكردية المسلحة تربطها علاقات جيدة بقوات التحالف الدولي والولايات المتحدة، والأخيرة لن تسمح لها بالتعاون مع طهران.

AFP__20241209__36PY8CX__v1__Preview__SyriaIranConflictEmbassy.jpg

الصورة الدموية لإيران في أذهان السوريين تحتاج إلى زمن طويل جداً حتى تُزال​​​​​​​ (أ ف ب)

السيناريو الثاني هو أن تصر القيادة الجديدة لسوريا على عدم إقامة أية علاقات دبلوماسية أو سياسية أو تجارية مع إيران بأي صورة من الصور، وهذا السيناريو أيضاً غير مرجح، لأن إيران على رغم ما فعلته في سوريا تبقى جزءاً من المنطقة، وقد لا ترغب الحكومة السورية الجديدة بأن تشكل إيران جبهة تهديد لها.

أما السيناريو الثالث، وهو الأقرب للواقع، فسيكون فيه لإيران تمثيل دبلوماسي حذر، من دون أن يسمح لها بالتدخل في أي شأن من شؤون سوريا، ومن دون أن تقوم هذه البعثة الدبلوماسية بأية إجراءات من شأنها تهديد أية دولة من دول الجوار، بما في ذلك التعامل مع “حزب الله”، وهذا سيكون بمثابة “مصالحة مشروطة”، ولا يستبعد أيضاً أن تطلب الحكومة السورية من إيران تقديم اعتذار رسمي للشعب السوري، ودفع تعويضات لأسر الضحايا الذين قتلوا على أيدي الميليشيات الإيرانية.

أما السيناريو الرابع المتمثل بسقوط النظام الإيراني، فهو غير مستبعد، وليس بالأمر البالغ الصعوبة، لأسباب عدة، منها خسارة إيران في لبنان وسوريا، والاقتصاد الإيراني المتهاوي، والعقوبات الدولية المفروضة على طهران، وقدوم إدارة أميركية متشددة ضدها، إضافة إلى ذلك كله التصريحات والتهديدات الإسرائيلية العلنية بأنها قد تضرب النظام الإيراني في أية لحظة، وأية ضربة من إسرائيل ستتلقى بالضرورة دعماً أميركياً مباشراً، وفي حال تغيير النظام في إيران فلن تمانع سوريا إقامة علاقات دبلوماسية وحتى اقتصادية.

—————————–

روايات تحكي “رحلة الموت” إلى المقابر الجماعية في سوريا/ طارق علي

دعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عائلات المفقودين إلى عدم محاولة العثور بأنفسهم على رفات ذويهم لأن ذلك قد يعوق عملية التعرف على الجثامين

الثلاثاء 17 ديسمبر 2024

خلال اليومين الماضيين عثر على مقبرة جماعية ضخمة خلف قصر المؤتمرات جنوب دمشق ترجح التقديرات أنها تحوي رفات 75 ألف شخص، استشعر السكان الروائح المنبعثة ولكنهم كانوا يخشون الاستفسار عن السبب

1،7،9،12،18،25،33،60،95،105،200،650،1000،1180 إلخ… هذه ليست لعبة أرقام، بل هي بدائل أسماء أشخاص ذاقوا ما ذاقوه من مآس وترويع قبل دفنهم في مقابر جماعية لتدفن معهم قصصهم. لكن مع سقوط نظام الأسد تجلت كثير من المقابر الجماعية حيث عثر على رفات مئات لا بل آلاف الأشخاص مجهولي الهوية والانتماء ولا يحملون سوى أرقام مبعثرة.

100 ألف شخص وأكثر

سجل في سوريا بحسب منظمات وناشطين وجمعيات معنية فقدان أكثر من 100 ألف شخص، معظمهم لا تزال أسرهم تبحث عنهم أو كانت كذلك حتى قبل أيام قليلة، آملين في العثور عليهم أحياء بعد أن جرى اختطافهم من أماكن متفرقة واقتيادهم إلى جهات مجهولة، كانت أبرزها الأفرع الأمنية وسجن صيدنايا ذائع الصيت شمال العاصمة دمشق.

في عام 2013 قام عنصر سوري منشق بالهرب برفقة أكثر من 53 ألف صورة توثق الجرائم التي ارتكبها النظام ضد شعبه ومعارضيه ومعتقليه، مما أحدث ثورة في العالم المتمدن واستدعى عقوبات بالجملة على ما وصفوه بـ”وحشية نظام الأسد”.

وبينما كانت عائلات كثيرة تنتظر خبراً عن مصير مفقوديها جاءت هذه الصور لتبين أنهم قضوا تحت التعذيب. ومن بين أولئك الذين اكتشفوا وفاة ابنهم الحاجة أم صابر وهي أم لأربعة شباب وفتاة، ثلاثة منهم جرى اعتقالهم لأسباب مختلفة وعلى فترات متباينة.

“كيف أحتضن رفاتهم؟”

أم صابر التي تنحدر من مدينة حمص جرى اعتقال أولادها ياسر وصابر وعامر، فيما نجا ابنها الأخير مرشد من الاعتقال شاقاً طريقه عبر البحر نحو أوروبا. ومن خلال صور “ملفات قيصر” تعرفت السيدة العجوز على اثنين من أولادها.

تقول، “حرر الثوار ولدي ياسر وكان في حال يرثى لها، لكن صابر وعامر قتلا بدم بارد، والله لم يرتكبا أي جرم سوى ما سيق لهما من ادعاءات باطلة، وقد علمنا لاحقاً أنه لم تتم محاكمتهما، ابني الأول مات من الجوع والمرض، والآخر تم رميه بالرصاص، وكلاهما رميا في مقبرة جماعية لاحقاً، هذه حقيقة أكدها لنا كثر، والآن كيف أبحث عن قبريهما وكيف أحتضن رفاتهما، وكيف لا أتمنى القتل لقاتلهما؟”.

وتتابع، “ياسر نجا بأعجوبة، إذ تمكن من الصمود لأعوام في ظل مجاعة مقرونة بالذل والمهانة والتعذيب والتحقير، لكن لله حكمته، والله لن يترك أحداً من دون حساب لما فعلوه بنا وبعشرات الآلاف من أبناء العائلات الأخرى”.

لا تحاول أم صابر أن تغلب دمعتها، تكاد تدخل في انهيار عصبي خلال حديثها، تحاول ابنتها تهدئتها من دون جدوى، فتنهار الأخرى في حضن والدتها.

ابتزاز

في عام 2012، وتحديداً في مايو (أيار) اعتقل النظام الرجل الخمسيني خالد حسون القادم من ريف دمشق إلى العاصمة حاملاً بعض النقود بغية علاج ولده الذي كان يرقد في المستشفى، وبعد تفتيشه عند أحد الحواجز اقتيد إلى مركز أمني وألصقت به تهمة “تمويل المعارضة والتواصل مع جهات أجنبية”.

بعد ثلاثة أعوام تمكن ولده ماجد من معرفة مصير والده عبر صور “قيصر”، وتمكن من معرفة أن والده قُتل بعد نحو شهر ونصف الشهر فحسب من اعتقاله.

يقول ماجد إلى “اندبندنت عربية”، “عشنا طويلاً على أمل أن يكون والدي حياً يرزق، فعلنا كثيراً من الوساطات مع الفرع الذي احتجزه ومع جهات أخرى ودفعنا كثيراً من المال، والكل كان يقول لنا إنه حي وسيخرج قريباً، لكن الحقيقة المريرة الوحيدة أنه كان قد قتل بعد شهر ونصف الشهر من اعتقاله وظلوا يبتزوننا ويبيعوننا الأمل ثلاثة أعوام”.

شاحنات ودماء

يقول جهاد نجار أحد ساكني ريف دمشق قرب بلدة المليحة، إنه كثيراً ما كان يرى شاحنات كبيرة تأتي في ساعات ما بين منتصف الليل والفجر وتُفرغ حمولتها من قبل جنود عسكريين ثم تكمل طريقها، وكان يمكن لحظ الدماء التي تسيل من تلك الشاحنات في المواقع التي تقصدها أو على أطراف طريق المطار.

ويخبرنا أن المنطقة هنا كانت فيها مقبرة صغيرة قبل الحرب، ولكن اعتباراً من 2012 تحولت لمقبرة جماعية، وذلك ما جاءت على ذكره صحيفة “التايمز” في وقت سابق.

أرياف أخرى

ويشير جهاد إلى أن ريف دمشق تحول بقسم كبير منه إلى مقبرة جماعية، والأمر ذاته ينطبق على مدينة القطيفة شمال دمشق، حيث تحولت المنطقة هناك بين عامي 2013 و2016 إلى مقبرة جماعية هي الأخرى، بحسب ما أكد لنا شهود وسكان من المنطقة.

وقدر أحد قاطني المنطقة مساحة القبور الجماعية في الأرض التي جُرفت بنحو 14 فداناً (نحو 60 ألف متر) قبل أن يتم تسويرها لاحقاً بصورة كاملة وتصبح قطعة عسكرية لـ”حزب الله” حتى قبل سقوط النظام السوري قبل أيام.

في كل مكان متاح

بدوره قال المهندس ناجي الراشد أحد سكان القطيفة، إن جنوداً كانوا يجيئون في النهار ويحفرون أنفاقاً بطول من 60 إلى 100 متر، ثم حين ينتهون من أعمال الحفر كانت تتوافد شاحنات وتفرغ ما بداخلها في هذه الحفر، ويمنع على أي أحد الاقتراب أو المشاهدة، وإن فكر أحد في الاقتراب فقد يصبح هو الآخر داخل الحفرة، كانت تتم عمليات الدفن الجماعي تحت جنح الليل صيفاً وشتاء.

يقول ناجي، إن السكان سريعاً استشعروا الروائح المنبعثة ولكنهم كانوا يعلمون السبب، وفي مرة اقترب ليسأل جندياً عند نقطة حراسةـ “ما هذه الرائحة في المنطقة؟”، فأجابه، “لا أدري”.

يقدر ناجي تعداد الجثث المدفونة في تلك المرحلة الزمنية بناء على حركة الشاحنات وما يمكن أن تتسع له الحفر، ما يراوح ما بين 3 و4 آلاف جثة. ويبقى هذا الرقم تقديراً شخصياً لا يستند إلى إحصاءات دقيقة.

كل شيء ممنوع… حتى التنفس

ومع استمرار اكتشاف المقابر الجماعية بدا حظ أبوعماد أفضل بكثير من أقرانه، إذ قضى عامين وسبعة أشهر في سجن صيدنايا قبل أن تحرره “إدارة العمليات” بصعوبة نتيجة كسور في الساقين والأضلاع بعد رحلة تعذيب طويلة.

كانت تهمة أبوعماد “التخابر مع العدو”، وهي تهمة ينفيها تماماً، ويؤكد أنه كان مجرد موظف بسيط يسعى إلى تأمين لقمة عيشه، وقد قيل له إنه سيقضي 25 عاماً في “صيدنايا”، لكنه كان متأكداً أنه لن يصمد شهراً آخر قبل أن يسقط ميتاً كما يحصل مع جميع من حوله.

يقول، “في السجن عليك أن تخرس، تصمت، لا تتحدث، تتلقى الضرب من دون أي رد فعل، ألا تأكل، سيحرمونك الملح والمغذيات، لا يمكنك أن تتحرك، ثم سيكسرون ساقيك كما فعلوا معي”.

نبش القبور للتعرف على الجثث

خلال اليومين الماضيين عثر على مقبرة جماعية ضخمة خلف قصر المؤتمرات جنوب دمشق ترجح التقديرات أنها تحوي رفات 75 ألف شخص، المنطقة القريبة من الحسينية في ريف دمشق وجد فيها 150 مقبرة متجاورة، وكل حفرة بعمق 25 متراً، وكان يجري دفن الأشخاص فوق بعضهم في هذه الحفر.

كان يتم دفن كل دفعة تصل وردمها بالتراب، ريثما تصل الدفعة الثانية لتدفن في المكان نفسه. وبحسب شهود عيان من الحسينية، “كانت تجيء سيارات فاكهة وخضراوات ضخمة محملة بالجثث تقوم بإلقائها في الحفر”.

في العاصمة

وبحسب مصادر إعلامية، فقد عثر على مقابر جماعية في حي التضامن الذي شهد مجزرة نفذها أحد ضباط النظام قبل أعوام، وعثر على عظام بشرية متروكة في مكانها من دون دفن.

وتمتد المقبرة على مساحة تقارب 5 آلاف متر مربع، وتضم خنادق متوازية حيث يتم وضع كل 100 جثة من الضحايا في خندق تصب فوقها كتل أسمنتية بعدها تطمر بالتراب. وظهرت في صور متداولة أكياس بيضاء لا يوجد عليها سوى أرقام ورموز في إحدى المقابر، وخلت من أي نصب يشير إلى أسماء الضحايا.

ودعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عائلات المفقودين في سوريا إلى عدم محاولة العثور بأنفسهم على جثث أقربائهم أو نبش المقابر لأن ذلك قد يعوق عملية التعرف على الجثامين.

————————-

رؤساء سوريا في 100 عام… من استقالة صبحي بركات إلى هروب بشار الأسد/ سامي مبيض

بعضهم لم يمارس مهامه وبعضهم الآخر تسلم الصلاحيات دون تسميته

17 ديسمبر 2024

ما هو رقم بشار الأسد في تسلسل رؤساء سوريا؟ الجواب إشكالي وغير متفق عليه، فبعضهم كانوا رؤساء دون أن يمارسوا مهامهم الرئاسية، وهناك من تسلّموا الصلاحيات الرئاسية دون تسميتهم رؤساء. الكثير من الناس يخطئون القول بأن محمد علي العابد هو أول رئيس سوري بعد انتخابه سنة 1932، ولكن قبله كان هناك رئيسان للدولة في عشرينات القرن العشرين، أحدهما جاء بالانتخاب، والثاني بالتعيين. علينا الاتفاق على عدد لمعرفة ما رقم رئيس سوريا المقبل بعد الإطاحة ببشار الأسد، ونفيه خارج البلاد.

الرئيس الأول صبحي بركات (1922-1925)

الرئيس الأول هو– ومن دون أدنى شك- صبحي بركات، ابن مدينة أنطاكية الذي انتخب رئيساً لدولة الاتحاد السوري في 11 ديسمبر/كانون الأول 1922. وعند انتهاء الحكم الفيدرالي في سوريا يوم 1 يناير/كانون الثاني 1925، أصبح رئيساً لدولة سوريا حتى استقالته من المنصب في 21 ديسمبر 1925، احتجاجاً على قصف فرنسا لمدينة دمشق قبلها بشهرين. كان أول رئيس يستقيل من المنصب طوعياً وقد لحقه كثيرون.

الرئيس الثاني أحمد نامي (1926-1928)

سمّي بعده الداماد أحمد نامي، صهر السلطان عبد الحميد الثاني، رئيساً للدولة وللحكومة معاً بقرار من المفوض السامي هنري دي جوفونيل، من 5 مايو/أيار 1926 ولغاية 8 فبراير/شباط 1928 يوم أجبر على الاستقالة بعد انسحاب معظم وزرائه. كان أول وآخر رئيس من العرق الشركسي، وثاني رئيس يستقيل من منصبه بعد صبحي بركات وقد حكم من دون دستور أو مجلس نيابي وشهد عهده أعنف معارك الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي.

العابد أول رئيس للجمهورية السورية (1932-1936)

غاب منصب رئيس الدولة من بعدها، وتولّى زمام الحكم الشيخ الدمشقي تاج الدين الحسني، بصفته رئيساً للحكومة في السنوات 1928-1931. وفي سنة 1932 تحولت “الدولة السورية” إلى جمهورية، بعد إقرار الدستور وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية. ترشح الوجيه الدمشقي محمد علي العابد ضد رئيس الدولة الأسبق صبحي بركات، وحاكم دولة دمشق الأسبق حقي العظم، وبعد فوزه عليهما أصبح أول رئيساً للجمهورية في 11 يونيو/حزيران 1932. درس العابد في جامعة السوربون العريقة وكان سفيراً سابقاً للدولة العثمانية في واشنطن، وأكبر رئيس سوري حتى ذلك التاريخ، وهو في الخامسة والستين من عمره. كان أول رئيس يحكم بشرعية الدستور والمجلس النيابي معاً، علماً أن فرنسا عطّلت المجلس في عهده، وبقي العابد في المنصب لغاية استقالته في 21 ديسمبر 1936.

الرئيس الثاني للجمهورية (1936-1939)

بعد استقالة العابد انتخب الشيخ الجليل والزعيم الوطني هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية نهاية عام 1936، وكان عهده دستورياً وبرلمانياً، ولكنه استقال من المنصب في 8 يوليو/تموز 1939 بسبب رفض المجلس الوطني الفرنسي المصادقة على معاهدة عام 1936 التي كان من المفترض أن توسّع من صلاحيات الحكومة السورية، وتمهّد الطريق أمام الاستقلال التدريجي. بعد أقل من شهرين على استقالة الرئيس، اندلعت الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وفرضت الأحكام العرفية على سوريا، مع حل المجلس النيابي، وتعطيل الدستور.

الرئيس الثالث للجمهورية (1941-1943)

وفي 16 سبتمبر/أيلول 1941، أصبح رئيس الحكومة الأسبق تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية، بقرار من قائد قوات فرنسا الحرة الجنرال شارل ديغول. رفض أن يأتي بالتعيين، وطلب إلى ديغول دعوته لتولي المنصب، فوافق الأخير، ولكنه قال بوضوح إنه لن يكون هناك انتخابات في سوريا ولا عودة إلى الدستور قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية.

في عهد الشيخ تاج دمجت جبال العلويين وجبل الدروز بالوطن الأم، ونالت سوريا استقلالها عن الانتداب ولكن الفرنسيين الأحرار قالوا إنهم لن ينسحبوا عسكرياً من سوريا قبل انتهاء الأعمال القتالية في أوروبا.

تاج الدين الحسني

كان الشيخ تاج أول رئيس جمهورية يأتي بالتعيين، وأول رئيس يتوفى في سدّة الحكم يوم 17 يناير 1943. خلفه رئيس الحكومة جميل الألشي رئيساً بالوكالة لغاية 25 مارس/آذار، يوم تعيين الوجيه الدمشقي عطا الأيوبي رئيساً للدولة وتكليفه بالإشراف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة.

الرئيس الرابع والخامس (1943-1949)

شهد عام 1943 أربعة رؤساء في سوريا، أولهم الشيخ تاج، ثانيهم جميل الألشي، ثالثهم عطا الأيوبي، ورابعهم شكري القوتلي الذي انتخب في 17 أغسطس/آب 1943. شهد عهد القوتلي منجزات عدة، منها مشاركة سوريا في تأسيس جامعة الدول العربية، وحضورها مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية في 30 أبريل/نيسان 1945. وكان القوتلي أول رئيس سوري يُسافر خارج البلاد وهو على رأس عمله، إلى بيروت للقاء نظيره اللبناني بشارة الخوري، وإلى السعودية حيث حل ضيفاً على الملك عبد العزيز آل سعود، وإلى مصر للقاء الملك فاروق وحضور أول قمة عربية في مدينة أنشاص في مايو/أيار 1946. وفي عهده أيضاً وقع العدوان الفرنسي على دمشق يوم 29 مايو 1945، تحقّق جلاء سوريا التام عن الانتداب الفرنسي في 17 أبريل 1946. وشهد عهده تأسيس الجيش السوري يوم 1 أغسطس 1945 ودخول سوريا في حرب فلسطين منتصف شهر مايو 1948. وكان أول رئيس يعدّل الدستور، للسماح للقوتلي بولاية ثانية سنة 1948.

حسني الزعيم

حسني الزعيم أول جنرال يحكم سوريا

بدأت مرحلة تمادي العسكريين على الحكم المدني في أعقاب حرب فلسطين وفي 29 مارس 1949 كان الانقلاب الأول على الرئيس القوتلي، بقيادة قائد الجيش حسني الزعيم. فرض الزعيم الأحكام العرفية، وعطّل العمل بالدستور والمجلس النيابي، وحل كل الأحزاب، واعتقل رئيس الجمهورية. بعد حصوله على استقالة القوتلي رشّح نفسه للرئاسة، وفاز دون منافسة في 26 يونيو 1949. أسّس لحكم العسكر في سوريا وكان أول من نظّم استفتاء شعبياً بدلاً من الطريقة المتبعة من قبل كل أسلافه التي كان يجري فيها انتخاب الرئيس بالتصويت داخل مجلس النواب.

دخل في مفاوضات مع إسرائيل، منها العلني لأجل التوقيع على اتفاقية الهدنة بعد حرب 1948، ومنها السري لإقامة سلام دائم مع ديفيد بن غوريون. كان الزعيم أول من يعتقل رئيساً منتخباً، وأول مع يتعدى على الدستور والسلطة التشريعية، ولكن عهده لم يستمر طويلاً، وأطيح به بموجب انقلاب عسكري قاده اللواء سامي الحناوي في 14 أغسطس 1949. وكان حسني الزعيم أول رئيس سوري يُعدم رمياً بالرصاص بتهمة “الخيانة العظمى”.

 عودة الحياة البرلمانية

مع سقوط الزعيم ومقتله، خرج الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي من اعتزاله السياسي، وعاد إلى الحكم بعد عشر سنوات من استقالته الأولى، رئيساً للوزراء من 14 أغسطس ولغاية 14 ديسمبر 1949، ثم رئيساً للدولة لغاية انتخابه رئيساً للجمهورية في 8 سبتمبر 1950. أشرف الأتاسي على انتخاب جمعية تأسيسية مهمتها وضع دستور جديد بدلاً من دستور عام 1928 الذي عطّله حسني الزعيم. واجه تحديات جمّة من تمادي العسكريين على الحكم، وقيامهم بانقلابين في عهده، الأول على قائد الجيش نهاية عام 1949 والثاني على رئيس الحكومة معروف الدواليبي يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1951. ورفض التعاون مع صانع الانقلابين العقيد أديب الشيشكلي وفي 3 ديسمبر 1951، قدّم استقالته من الرئاسة، للمرة الثانية في حياته، موجّها إلى المجلس النيابي لا إلى أديب الشيشكلي.

أديب الشيشكلي

إشكالية سعيد إسحاق

بموجب الدستور، كان من المفترض أن يتولّى رئيس المجلس النيابي ناظم القدسي مقاليد الحكم خلفاً للرئيس الأتاسي. ولكنه اعتُقل أيضاً من قبل الشيشكلي، وذهبت رئاسة البرلمان إلى نائب رئيس المجلس سعيد إسحاق. بعضهم عدّه رئيساً لمرحلة انتقالية، ولكن سعيد إسحاق لم يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية ولم يوقع على أي مرسوم رئاسي، ولم يدخل القصر الجمهوري لأنه مسيحي، وذلك ما يتعارض مع المادة الثالثة من الدستور التي تنص على أن يكون الرئيس السوري مسلماً.

العودة إلى حكم العسكر

لم يتسلّم أديب الشيشكلي بشكل مباشر في البداية بل عيّن صديقه اللواء الدمشقي فوزي سلو رئيساً للدولة من سنة 1951 ولغاية 11 يوليو 1953. في هذه الأثناء حكم الشيشكلي من خلف الستار، وأشرف على تقارب كبير مع الولايات المتحدة والسعودية ومصر بعد نجاح انقلاب الضباط الأحرار على الملك فاروق سنة 1952.

شهد عهده ازدهاراً اقتصادياً غير مسبوق، وكان الأنضج بين كل من حكم سوريا من العسكريين. كان أول رئيس حموي، وأول من أطلق حزباً خاصاً به باسم “حركة التحرير العربي”. وقد دعا الشيشكلي إلى استفتاء شعبي على طريقة حسني الزعيم، أوصله إلى رئاسة الجمهورية سنة 1953، مع وضع دستور جديد للبلاد، وانتخاب برلمان جديد، غابت عنه كل الأحزاب التقليدية.

إشكالية مأمون الكزبري

سقط الشيشكلي بموجب انقلاب عسكري، واستقال من منصبه في 25 فبراير 1954. جاء في كتاب الاستقالة الذي بثّ عبر أثير إذاعة دمشق أن قرار التنحي جاء تجنباً لسفك دماء السوريين، وتداعى السياسيون الكبار، وطلبوا إلى الرئيس المستقيل هاشم الأتاسي العودة إلى الحكم. ولكنه لم يصل دمشق إلّا في 1 مارس 1954، وفي أثناء المدة الفاصلة بين خروج الشيشكلي وعودة الأتاسي، ذهبت الرئاسة الأولى دستورياً إلى رئيس مجلس النواب الدكتور مأمون الكزبري، أستاذ القانون في الجامعة السورية، ولكنه لم يمارس صلاحيات رئاسية، ولم يدخل قصر المهاجرين، ولذلك يسقط اسمه عادة من قوائم رؤساء الجمهورية.

عودة الأتاسي والقوتلي مرة ثالثة

عاد هاشم الأتاسي إلى الرئاسة لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية المنقطعة بسبب انقلاب سنة 1951. عدّ الأتاسي أن عهد الشيشكلي لم يمر على سوريا، وأعاد العمل بالدستور القديم والمجلس النيابي القديم، وأبطل معظم قراراته. أشرف على الانتخابات النيابية والرئاسية التي تنافس فيها الرئيس الأسبق شكري القوتلي مع رئيس الحكومة الأسبق خالد العظم. فاز القوتلي على العظم، وصار أول رئيس سوري ينتخب ثلاث مرات، الأولى سنة 1943، والثانية 1948، والثالثة 1955.

هاشم الأتاسي

وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة في تاريخ سوريا التي يسلّم فيها الحكم بشكل سلمي وديمقراطي، دون انقلاب أو وفاة مفاجئة أو مقتل أي من الرؤساء. سلّم الأتاسي الحكم إلى القوتلي في 5 سبتمبر 1955، وعاد إلى مسقط رأسه في حمص حيث توفي سنة 1960.

وقد حكم القوتلي سوريا في مرحلة عصيبة من الحرب الباردة، وكان أول رئيس يزور الاتحاد السوفياتي سنة 1956، وفي عهده أقيمت أول صفقة سلاح مع موسكو، وعلاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية. أراد الأميركيون الإطاحة به، واتهموه بالتعاطف مع المعسكر الشرقي، وقد رتبوا لانقلاب عسكري أجهض من قبل المخابرات السوري ما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، وسحب السفير السوري من واشنطن. وفي عهده أيضاً قطعت العلاقات مع بريطانيا وفرنسا رداً على العدوان الثلاثي على مصر، قبل أن يستقيل طوعياً عند ولادة جمهورية الوحدة مع مصر في فبراير 1958.

شكري القوتلي

الوحدة والانفصال (1958-1961)

كان جمال عبدالناصر أول شخص غير سوري يصل إلى القصر الجمهوري بدمشق، علماً أن رئيس الدولة أحمد نامي كان لبنانياً سنة 1926 وكذلك رئيس حكومة المديرين بهيج الخطيب سنة 1939 (وهو مصطلح بديل عن مجلس الوزراء اعتمدته فرنسا مدة قصيرة أيام الانتداب). حقق عبدالناصر جماهيرية واسعة منقطعة النظير، ووعد بأن تستمر دولة الوحدة 100 عام. ولكنه خذل الطبقة الاقتصادية من صناعيين ومصرفيين وتجّار وملاك، بسبب قانون الإصلاح الزراعي سنة 1958 وقرارات التأميم سنة 1961 التي طالت معظم المصارف وكبرى الشركات الصناعية.

أسس لدولة بوليسية عبر المكتب الثاني (شعبة المخابرات العسكرية)، وسقط بانقلاب عسكري يوم 28 سبتمبر 1961. أراد بعض العسكريين دعوة شكري القوتلي للعودة إلى الحكم واستكمال ولايته التي قطعت سنة 1958، تماماً كما فعل هاشم الأتاسي بعد سقوط الشيشكلي، ولكن القوتلي رفض ذلك، وأجريت انتخابات رئاسية نهاية عام 1961، فاز بها الدكتور ناظم القدسي، خريج جامعة جنيف ورئيس الوزراء الأسبق.

إشكالية لؤي الأتاسي

كان القدسي أول رئيس حلبي في تاريخ سوريا، ولكن فترة حكمه كانت قصيرة، وقد عطّلت مرتين، الأولى في أعقاب انقلاب فاشل قاده عبد الكريم النحلاوي في مارس 1962. واعتقل الرئيس وأعضاء مجلس النواب والوزراء ورئيسهم، قبل تمرد قائد الجيش على النحلاوي في 1 أبريل 1962. وأطلق سراح القدسي، ثم جاء انقلاب البعث في 8 مارس 1963 ليعتقل مرة ثانية ويجبر على الاستقالة، منهياً آخر عهد ديمقراطي في سوريا. بقي القدسي في السجن لغاية 30 نوفمبر 1963، وفرض قادة الانقلاب الأحكام العرفية، وحظروا كل الصحف والأحزاب السياسية، وأسسوا مجلساً لقيادة “الثورة” على غرار التجربة المصرية سنة 1952، وسموا الفريق لؤي الأتاسي رئيساً له، طبعاً بعد تعطيل الدستور والمجلس النيابي واعتقال معظم السياسيين القدامى وعزلهم مدنياً أو نفيهم خارج البلاد.

لؤي الأتاسي

لم يكن لؤي الأتاسي رئيساً للجمهورية، ولكنه تمتع بصلاحيات رئاسية محدودة. اليد العليا في سوريا يومها كانت للجنة العسكرية لحزب “البعث”، ولم يكن الأتاسي عضواً فيها لأنه لم يكن بعثياً بالأصل بل وحدوياً ناصرياً.

حاول استعادة الوحدة مع مصر، ولكنه لم يفلح بسبب رفض عبد الناصر التعامل مع البعثيين. وقد استقال لؤي الأتاسي من منصبه بسبب خلافات مع حزب “البعث” ورفضه التوقيع على قرار إعدام بحق رفاقه الناصريين الذين حاولوا الانقلاب على العهد يوم 18 يوليو 1963.

رؤساء البعث

شُكّل بعدها مجلس رئاسي مؤلف من شخصيات عدة، ذهبت رئاسته للفريق محمد أمين حافظ، الرئيس الحلبي الثاني في سوريا بعد ناظم القدسي. في عهد الحافظ جاءت قرارات تأميم جائرة بحق الصناعيين والتجّار، كانت أقسى وأشمل وأكثر ظلماً من قرارات عبد الناصر. ولكن الخلافات الحزبية أطاحت به يوم انقلاب اللواء صلاح جديد عليه وعلى القادة المؤسسين لحزب “البعث” في 23 فبراير 1966.

حافظ الأسد

اعتقل أمين الحافظ في 1 مارس وسمّي الدكتور نور الدين الأتاسي رئيساً للدولة. تخوف صلاح جديد من تولّي الرئاسة بنفسه لكونه من الأقلية العلوية، ولذلك قرر أن يحكم عن طريق الأتاسي المسلم السني وهو من أعرق عائلات سوريا. كان الأتاسي ثالث رئيس من عائلة الأتاسي، وأول مدني يصل إلى الحكم في عهد “البعث”، وأصغر رئيس في تاريخ سوريا.

في عهده كانت حرب يونيو سنة 1967، وفيها احتلت هضبة الجولان. وفي 16 نوفمبر 1970، انقلب عليه وزير الدفاع حافظ الأسد، وأمر باعتقاله مع صلاح جديد. ظلّ جديد سجيناً حتى الممات سنة 1993، ولم يطلق سراح الرئيس نور الدين الأتاسي إلا قبل أسابيع قليلة من وفاته سنة 1992.

وفي الأشهر الأولى من انقلاب الأسد، لم يتسلّم الرئاسة بشكل مباشر واكتفى برئاسة الحكومة، وعيّن المدرس البعثي الدمشقي أحمد الخطيب رئيساً للدولة اعتباراً من 18 نوفمبر 1970. وحكم الأسد من خلاله حتى 22 فبراير 1971، وبعد أن أصبح رئيساً للجمهورية عيّن الخطيب رئيساً لمجلس الشعب، ليكون ثاني رئيس بعد صبحي بركات يتسلّم منصباً سياسياً بعد خروجه من القصر الجمهوري. وحكم الأسد الأب سوريا بقبضة من حديد، وفي عهده أصبح “البعث” “قائداً للدولة والمجتمع” بموجب دستور عام 1973.

الحكم الوراثي

في عهده كانت مجزرة حماة سنة 1982، وهو أول زعيم عربي عمل جدياً على التوريث، ما شجّع معمر القذافي على تهيئة ابنه سيف الإسلام لحكم ليبيا، وحسني مبارك على التفكير بجعل ابنه جمال وريثاً له في مصر، وعديّ صدام حسين خليفة لأبيه في العراق. جميعهم لم يفلحوا إلا حافظ الأسد، الذي حضر ابنه البكر باسل ليكون خليفة له وبعد وفاة الأخير بحادث سير سنة 1994، بدأ التحضير لثاني أبنائه بشار. وعند وفاة حافظ الأسد في 10 يونيو 2000 اجتمع مجلس الشعب فوراً، وعدّل الدستور السوري لأجل بشار الذي لم يكن يحقق شرط الأربعين من العمر ليصبح رئيساً. ورُفّع الأسد الابن إلى رتبة فريق، متجاوزاً كل المراحل العسكرية النظامية في أكبر إهانة لكل الضباط والعسكريين.

إشكالية عبد الحليم خدام

كان من المفرض أن يتسلم عبد الحليم خدام، النائب الأول لرئيس الجمهورية، الحكم بشكل مؤقت بعد وفاة حافظ الأسد ولكن بشار منعه من ذلك. كل القرارات التي وقعها في المرحلة الانتقالية كانت بصفته نائباً للرئيس وليس رئيساً، ويخطئ بعضهم عندما يضعونه في قائمة الرؤساء.

عهد بشار الأسد وسقوطه

تولّى بشار الأسد الحكم في 17 يوليو 2000 وحكم البلاد بالحديد والنار والسجون والمعتقلات. وأجهض ربيع دمشق سنة 2001 وشارك في مقتل رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري سنة 2005، قبل قمعه للمظاهرات السلمية التي اندلعت في أعقاب الربيع العربي عام 2011. جر البلاد إلى حرب أهلية، وباعها للميليشيات الطائفية الإيرانية، قبل سقوطه المدوي وهروبه إلى موسكو في 8 ديسمبر 2024، منهياً بفراره 61 سنة من حكم “البعث” و54 سنة من حكم عائلة الأسد.

رؤساء سوريا

1- صبحي بركات (أنطاكيا – رئيساً للدولة)

المدة: 11 ديسمبر 1922 – 21 ديسمبر 1925 (3سنوات)

2- أحمد نامي (بيروت – رئيساً للدولة)

المدة: 5 مايو 1926 – 8 فبراير 1928 (سنة و9 أشهر)

3- محمد علي العابد(دمشق – رئيساً للجمهورية)

 المدة: 11 يونيو 1932 – 21 ديسمبر 1936 (4 سنوات و6 أشهر)

4- هاشم الأتاسي (حمص – رئيساً للجمهورية)

 المدة: 21 ديسمبر 1936 – 8 يوليو 1939 (سنتان و7 أشهر)

5- تاج الدين الحسني(دمشق – رئيساً للجمهورية)

 المدة: 16 سبتمبر 1941 – 17 يناير 1943 (سنة و4 أشهر)

6- جميل الألشي (دمشق – رئيساً للجمهورية بالوكالة)

 المدة: 17 يناير – 25 مارس 1943 (65 يوما)

7- عطا الأيوبي (دمشق – رئيساً للدولة)

 المدة: 25 مارس – 17 أغسطس 1943 (5 أشهر)

8- شكري القوتلي (دمشق – رئيساً للجمهورية)

المدة: 17 أغسطس 1943 – 29 مارس 1949 (5 سنوات و7 أشهر)

9- حسني الزعيم (دمشق – رئيساً للجمهورية)

 المدة:  26 يونيو – 14 أغسطس 1949 (137 يوما في الحكم، شهر و19 يوما في الرئاسة)

10- هاشم الأتاسي (حمص – رئيساً للدولة ثم للجمهورية)

 المدة: 14 ديسمبر 1949 – 3 ديسمبر 1951 (سنتان)

11- فوزي سلو (دمشق – رئيساً للدولة)

المدة: 3 ديسمبر 1951 – 11 يوليو 1953 (سنة و7 أشهر)

12- أديب الشيشكلي (حماة – رئيساً للجمهورية)

 المدة: 11 يوليو 1953 – 25 فبراير 1954 (7 أشهر و14 يوما)

13- مأمون الكزبري (دمشق – رئيساً للجمهورية بالوكالة)

 المدة: 25 فبراير – 1 مارس 1954 (3 أيام)

14- هاشم الأتاسي (استكمال ولاية)

 المدة: 1 مارس 1954 – 5 سبتمبر 1955 (سنة و6 أشهر)

15- شكري القوتلي (دمشق – رئيساً للجمهورية)

 المدة: 5 سبتمبر 1955 – 21 فبراير 1958 (سنتان و5 أشهر)

16- جمال عبد الناصر(رئيساً للجمهورية)

 المدة: 21 فبراير 1958 – 28 سبتمبر 1961 (3 سنوات و7 أشهر)

17- ناظم القدسي(حلب – رئيساً للجمهورية)

 المدة: 14 ديسمبر 1961 – 8 مارس 1963 (سنة و3 أشهر)

18- لؤي الأتاسي (حمص – رئيساً لمجلس قيادة الثورة)

 المدة: 27 مارس – 27 يوليو 1963 (4 أشهر)

19- أمين الحافظ (حلب – رئيساً للدولة)

 المدة: 27 يوليو 1963 – 23 فبراير 1966 (سنتان و7 أشهر)

20- نور الدين الأتاسي (حمص – رئيساً للدولة)

 المدة: 1 مارس 1966 – 16 نوفمبر 1970 (4 سنوات و8 أشهر)

21- أحمد الخطيب (دمشق – رئيساً للدولة)

 المدة: 18 نوفمبر 1970 – 22 فبراير 1971 (3 أشهر)

22- حافظ الأسد (القرداحة – رئيساً للجمهورية)

 المدة: 22 فبراير 1971 – 10 يونيو 2000 (29 سنة و7 أشهر)

23- بشار الأسد(القرداحة – رئيساً للجمهورية)

المدة: 17 يوليو 2000 – 8 ديسمبر 2024 (24 سنة و5 أشهر)

المجلة

—————————-

فرصة تاريخية لسوريا يجب أن لا تضيع/ حايد حايد

ما كان يبدو ذات يوم حلما مستحيلا بات الآن حقيقة ولكن المسار الانتقالي يثير المخاوف

17 ديسمبر 2024

لقد سقط نظام الأسد. بالنسبة للسوريين، تولّد هذه اللحظة التاريخية مزيجا من الأمل العميق والقلق الكبير، فبعد سنوات من النضال والتضحيات والمعاناة التي لا تُوصف، صار بإمكان الكثرة من السوريين– وأنا منهم– الإيمان بأن البلد الذي طالما حلمنا به يمكن أن يصبح أخيرا حقيقة واقعة. ومع ذلك، وفيما نحن نقف عند هذا المفترق الحرج، فإن حالة من عدم اليقين تظلل الأفق، ويظل السؤال الملح “ماذا بعد؟”.

على الأرض، تتسارع الأحداث بشكل مذهل، فقد نصّبت “هيئة تحرير الشام” نفسها قائدةً للانتقال السياسي في سوريا. بيد أن تاريخها المثير للجدل المرتبط بـ”داعش” و”القاعدة” وتصنيفها كمنظمة إرهابية يثيران قلقا عميقا من سيطرة “الهيئة” في هذه المرحلة الحاسمة. وما يزيد الوضع تعقيدا أن الانتقال في سوريا يجري خارج إطار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، الذي يمثل خارطة الطريق المعترف بها دوليا للانتقال السياسي في سوريا.

خلال الهجوم العسكري السريع الذي أطاح بالنظام، كانت “هيئة تحرير الشام” تتبنى نبرة معتدلة، ووعدت بحماية المدنيين، بما في ذلك الأقليات، والحفاظ على الممتلكات والمؤسسات العامة، وقد منحت هذه الوعود، إلى جانب الانضباط الملحوظ في المناطق التي سيطرت عليها، بصيص أمل للسوريين، وزادت الهيئة بأن أبدت استعدادها لتفويض السلطة على هذه المناطق إلى هيئة انتقالية، ما خفف المخاوف من حكم أحادي الجانب.

ولكن التطورات الأخيرة ترسم صورة مغايرة. فعقب سقوط النظام بفترة وجيزة، عينت “هيئة تحرير الشام” رئيس وزراء “حكومة الإنقاذ” التابعة لها– وهي “الهيئة” التي كانت مسؤولة منذ فترة طويلة عن إدارة أراضيها في شمال غربي سوريا– لتشكيل حكومة انتقالية للبلاد وقيادتها. ويبدو من التقارير أيضا أن مسؤولي “حكومة الإنقاذ” هم من يتولون عملية تسليم السلطة من نظام الأسد.

يثير هذا النهج مخاوف كبيرة، ليس فقط بسبب نوعية الأشخاص المعنيين، بل أيضا بسبب ما يمثله: استيلاء أحادي الجانب من قبل “هيئة تحرير الشام” بدلا من تشكيل هيئة حكم شاملة وتمثيلية على نطاق واسع. إن تداعيات هذا النهج خطيرة للغاية، وإذا ما مضت “هيئة تحرير الشام” قدما في نسخ تجربة “حكومة الإنقاذ” في دمشق وغيرها من المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام السابق، فإنها ستسهم في إقصاء الفاعلين السوريين الذين ينبغي أن يكونوا هم من يشكلون مستقبل البلاد.

تبرر “هيئة تحرير الشام” هذه التحركات على أنها خطوة ضرورية لضمان الاستقرار والاستمرارية خلال فترة انتقالية مضطربة، وعدت “الهيئة” بأن تنتهي في مارس/آذار. ولكنّ ثمة قلقا متزايدا من أن تستغل “الهيئة” هذه الفترة المؤقتة لترسّخ سلطتها وتفرض رؤيتها على حكم البلاد، متجاهلة المشاركة الأوسع من بقية الفاعلين السوريين أو المجتمعات المحلية.

وثمة خطوة مقلقة بشكل خاص هي تعليق العمل بالدستور لمدة ثلاثة أشهر للسماح للجنة قانونية وحقوقية باقتراح تعديلات. وفيما تعتبر هذه الخطوة ضرورية من حيث المبدأ، فإن غياب الوضوح حول عملية المراجعة ومن سيكون الأفراد المشاركون في العملية يفاقم القلق من النهج الأحادي. ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق أن عملية مراجعة الدستور هذه تجري بالكامل بعيدا عن إطار العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، والتي صممت خصيصًا لضمان الشمولية والشرعية الدولية.

مثل هذه العملية التاريخية الحاسمة لا يمكن– ولا يجب– أن تُقاد من جهة واحدة أو حتى مجموعة صغيرة من الأطراف. وبالتأكيد لا يمكن التسرع في تنفيذها خلف الأبواب المغلقة. إن شرعية الانتقال في سوريا ونجاحه يعتمدان على الشفافية، والشمولية، والالتزام بالمبادئ المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254.

قد يمكن تفهّم بُطء الاستجابة من قبل الجهات الإقليمية والدولية إلى حد ما، نظرا لسرعة وتيرة التطورات على الأرض. ومع ذلك، فإن هذا التقاعس يصبح أكثر تكلفة يوما بعد يوم. لذلك يتوجب على المجتمع الدولي أن يتحرك بسرعة، متخليا عن المراقبة السلبية نحو المشاركة الفعالة، فالوقت عامل حاسم، وما لم تُتّخذ إجراءات فورية ومتحدة، فستكون العاقبة خروجَ عملية الانتقال في سوريا عن مسارها، ما قد يؤدي إلى عواقب مدمرة للبلاد والمنطقة بأسرها.

على الأطراف الإقليمية والدولية أن تعمل بشكل عاجل على تنفيذ خارطة الطريق المتفق عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254، مع ضمان أن تكون عملية الانتقال بقيادة سورية، ولكن مدعومة بضمانات خارجية لتحقيق الشمولية والعدالة. كما يتعين على الأطراف الفاعلة الرئيسة استخدام نفوذها لضمان عدم احتكار “هيئة تحرير الشام” للعملية أو فرض رؤيتها بشكل أحادي.

تتجاوز تداعيات الانتقال في سوريا حدودها الجغرافية، إذ إن تحقيق انتقال ناجح لن يحقق فقط آمال الملايين من السوريين الذين تحملوا معاناة هائلة من أجل مستقبل أكثر إشراقا، بل سيضع أيضا الأساس للاستقرار في المنطقة بأكملها. أما الفشل في اتخاذ إجراءات حاسمة، فقد يغرق سوريا في حالة من عدم اليقين الطويلة، ويحرم شعبها من السلام الذي يحتاجونه بشدة.

لقد قام السوريون بدورهم، وتحملوا سنوات من المعاناة وفي النهاية أسقطوا النظام الذي قمعهم. الآن تقع المسؤولية على عاتق المجتمع الدولي وحلفائه الإقليميين للقيام بدورهم. وهم يستطيعون بالفعل- من خلال ضمان أن تكون هذه الفترة الانتقالية شاملة وديمقراطية وشفافة- أن يساعدوا السوريين على تحقيق المستقبل الذي طالما حلموا به- مستقبل يتسم بالعدالة والاستقرار والأمل.

هي فرصة تاريخية ولا ينبغي للعالم أن يضيعها.

——————————-

سوريا بدون الأسد.. “ردع العدوان” زلزال جيوسياسي يبث الحياة في حركة الثورات العربية

عربي بوست

2024/12/17

تشهد المنطقة العربية تحولات استراتيجية معقدة تُعيد رسم ملامح المشهد الإقليمي. وفي هذا السياق، نشر موقع “أساب” للدراسات الاستراتيجية تقريرًا تحليليًا يتناول الأبعاد السياسية والمعقدة لانتصار المعارضة السورية.

يحاول التقرير أن يوضح التطورات الأخيرة، بدءًا من انعكاسات معركة “طوفان الأقصى” على المنقطة والفاعلين فيها ونفوذهم، وصولًا إلى التغيرات المفاجئة في سوريا، ويشرح كيف يعكس ترابط الوضع الإقليمي وتشابك مكوناته بشكل يصعب السيطرة على تداعياته، خاصة مع استمرار الحرب على  فلسطين. كما يستعرض التقرير أبرز التحديات التي تواجه مسار الانتقال السياسي في سوريا داخليًا وخارجيًا، في ظل بيئة إقليمية يغلب عليها التوجس والعداء.

ويرى التقرير أن مستقبل سوريا لن يتحدد بمعزل عن الصراعات الإقليمية والدولية، إذ تظل دمشق مركزًا جيواستراتيجيًا حيويًا، وساحة لتقاطع المصالح المتضاربة. في ضوء ذلك، يُنذر التقرير بأن الاستقرار في المنطقة سيبقى بعيد المنال ما لم تُعالج جذور الأزمات الممتدة منذ سنوات، في مشهد يعكس الصراع بين قوى الثورة من جهة، وبعض الأنظمة الإقليمية المستبدة وحلفائها الغربيين الساعين للحفاظ على وضع منطقتنا القائم تحت الهيمنة الغربية.

مقدمة

في الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني، شنت فصائل المعارضة السورية، عملية عسكرية مفاجئة ضد قوات النظام السوري وحلفائه باسم”ردع العدوان”، هي الأولى من نوعها منذ اتفاق مارس/ آذار 2020. خلال اثني عشر يوما تالية، حققت قوات المعارضة مدعومة من تركيا انتصارات مذهلة، أفضت إلى إسقاط نظام بشار الأسد، الذي فار هاربا إلى موسكو إذ منحه الرئيس بوتين حق اللجوء الإنساني، فيما دخل قائد إدارة العمليات العسكرية في المعارضة السورية، أحمد الشرع (الملقب سابقا بالجولاني) يوم 8 ديسمبر/كانون الأول إلى دمشق، وأعلن من الجامع الأموي أن “النصر الذي تحقق هو نصر لكل السوريين”، وتعهّد بأن الفصائل لن تتراجع وستواصل الطريق الذي بدأته في عام 2011، قائلا إن “المستقبل لنا”.

مشهد إقليمي جديد قديم

لا يمكن تجاهل مغزى انتصار قوات المعارضة السورية وإسقاط نظام بشار الأسد بعد كل هذه السنوات. فقد سيطر النظام السوري على مدينة حلب في ديسمبر/كانون أول 2016، أي قبل ثماني سنوات، وتبنت قوات النظام وحلفاؤها، خاصة من الميليشيات التابعة لإيران، نهجا عسكريا متوحشا ضد قوات المعارضة والمدنيين على حد سواء، وخلال السنوات الأخيرة طوى النظام الإقليمي العربي صفحة القطيعة مع نظام الأسد وتبنى إجراءات لإعادة دمجه والتسليم بالأمر الواقع. الآن، يمثل انتصار المعارضة رسالة مزعجة للنظام الإقليمي العربي، مفادها أن الوضع الإقليمي الراهن، والذي دافعت عنه حكومات عربية بشراسة عقب الثورات العربية، لا يزال بالغ الهشاشة فضلا عن كونه محل رفض من قبل قوى الثورات التي لم تستسلم وتعتبر أن تحديه ممكن.

في هذه النقطة يتقاطع “ردع العدوان” مع “طوفان الأقصى” استراتيجيا، ليؤكدا على أن المنطقة لن تشهد استقرار في الأجل القريب، ما لم تكن هناك معالجة لأسباب اضطرابها المديد. وبنفس القدر الذي يمثلان فيه إلهاما لقوى التغيير في المنطقة، فإن كلاهما يحفز مخاوف الأنظمة العربية التي تشعر أنها مهددة وأن شبح موجات الثورات الشعبية لا يزال يطاردها بعد كل هذه السنوات.

تكشف عملية ردع العدوان حقيقة ضعف القبضة الإيرانية ليس في سوريا فحسب؛ بل في عموم المنطقة، كنتيجة غير مخطط لها لمعركة طوفان الأقصى وحرب غزة، والتي وضعت النفوذ الإيراني الإقليمي تحت استهداف إسرائيلي وأمريكي مكثف. يشمل ذلك الخسائر الواسعة التي تلقاها حزب الله والتي جعلته غائبا تقريبا عن الساحة السورية، والاستهداف المتواصل لضباط وخبراء الحرس الثوري والبنية التحتية اللوجستية الإيرانية في سوريا، وخطوط الإمداد القادمة من العراق عبر الأراضي السورية، فضلا عن تعرض الداخل الإيراني لتهديد شن هجوم إسرائيلي واسع تدعمه الولايات المتحدة.

ويمثل هذا التطور مؤشرا على مدى ترابط الوضع الإقليمي وتفاعل مكوناته بصورة معقدة، تجعل من الصعب التحكم في تداعيات التطورات الجارية بصورة دقيقة، خاصة كلما طال مداها الزمني. فقد كانت بعض دول المنطقة تشجع الاحتلال الإسرائيلي على إضعاف حزب الله وإيران، وعملت على إقناع نظام الأسد بالتخلص من النفوذ الإيراني، لكنّ محصلة ذلك خلقت فرصة مواتية لتحرك المعارضة السورية وتركيا. 

سبق أن أشرنا إلى تقديرنا بأن التنافس الجيوسياسي التركي الإيراني هو الأكثر أهمية في المنطقة، وكانت المؤشرات ترجح أنه سيسجل وتيرة تصاعدية خاصة في العراق وأذربيجان وآسيا الوسطى. كانت خطوط الصراع في سوريا تبدو “مجمدة” يحميها الحضور الأمريكي والروسي وتوجه تركيا نحو التطبيع مع دمشق والانتشار الإيراني الميداني خاصة قوات حزب الله.

لكن مع الاستنزاف الروسي المتواصل في حرب أوكرانيا، وتقدير أنقرة بأن الأسد غير جاد في تطبيع العلاقات والتوصل لتفاهمات تفضي لإعادة اللاجئين وإنهاء الحرب مع المعارضة، فإن الضربات التي تلقتها إيران وحزب الله مثلت الحلقة الأخيرة من التطورات التي كسرت التوازنات السابقة، وجعلت من تحرك القوات على الأرض ممكنا وذي مغزى. ومن ثم فإن القرار التركي بالتحرك عسكريا في سوريا يمثل رسالة إقليمية أوسع من الملف السوري، مفادها أن أنقرة جاهزة وتسعى لملء الفراغ الذي تتركه إيران إقليميا.

قد لا تكون الولايات المتحدة سعيدة تماما بهذه التطورات؛ في ظل أنها استهدفت مناطق نفوذ حلفائها الأكراد غرب نهر الفرات، كما أن واشنطن لا تعتبر أن المعارضة السورية “الإسلامية” هي البديل المقبول لنظام الأسد. لكنّ واشنطن، كما “إسرائيل”، لديها مصلحة أكثر استراتيجية تتمثل في إضعاف إيران في سوريا بما يؤدي لقطع خطوط الإمداد عن حزب الله في لبنان كضرورة لاستكمال أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان وتحقيق أمن بعيد المدى للاحتلال إسرائيلي على جبهته الشمالية.

لذلك؛ ستوازن واشنطن بين الأمرين، الاستفادة من إبعاد النفوذ الإيراني ومراقبة سلوك النظام الجديد في دمشق، وستكون تحت ضغط من قبل حلفائها العرب، خاصة السعودية والإمارات ومصر والأردن، الذين يعتبرون المعارضة السورية مجرد “تهديد إسلامي” يجب التخلص منه، وكانوا يفضلون إعادة تأهيل الأسد وإدماجه عربيا ودوليا.

التحديات الأساسية

لا يزال هناك الكثير من الأمور الغامضة المفتوحة على سيناريوهات متعددة؛ وذلك نتيجة أساسية لعامل المفاجأة الذي عصف بحسابات كافة الفاعلين في الملف السوري، بما في ذلك روسيا وإيران والولايات المتحدة، وحتى تركيا وقيادة المعارضة السورية المسلحة، الذين بات عليهم التعامل مع واقع جديد له استحقاقات لا يتوفر لديهم بعد كافة الإجابات عليها.

ويواجه مسار الانتقال السوري تحديات سيتوقف عليها، وعلى تفاعلها المعقد مع بعضها، مآل المشهد الراهن، بعضها داخلي وبعضها خارجي:

أولاً، أبرز التحديات الداخلية:

    مدى نجاح المعارضة في الحفاظ على وحدة موقفها وتنسيقها وتوزيع الأدوار فيما بينها. لا يشمل ذلك فقط الشراكة وتوزيع الأدوار بين المعارضة السياسية في الخارج والقيادة العسكرية في الداخل، ولكن أيضا بين المجموعات المسلحة نفسها التي أظهرت قدرا لافتا من العمل المشترك في عملية ردع العدوان. التحدي الأساسي هنا هو نجاح عملية التحول من حالة مجموعات ثورية مسلحة إلى مأسسة هذه القوات في جيش وطني جديد وأجهزة أمنية تحقق الاستقرار الداخلي، بدلا من أن تكون صراعات هذه المجموعات مصدر اضطراب وتوترات.

    احتواء التباين المرجح بين المعارضة المنتصرة في دمشق، بقيادة أحمد الشرع، وبين المجموعات الكردية، ممثلة في قوات سوريا الديمقراطية (قسد). إذ ليس من المرجح أن يكون هناك اتفاق قريب بين الجانبين على صيغة حكم مستقبلية توحد الأراضي السورية، وستعمل قسد على الضغط عبر أدوات قوتها المتمثلة في الدعم الأمريكي والسيطرة على حقول النفط.

    إحكام السيطرة على مؤسسات الحكم القديمة، وضمان عدم إعاقتها لعملية بناء نظام حكم جديد. فعلى الرغم من هشاشة بعض تلك المؤسسات، فإن بعضها يظل أقوى من الحالة التنظيمية لجبهة المعارضة المنتصرة، ومن ثم لا تزال قادرة على إثارة تحديات داخلية، بعضها له طابع أمني، والآخر سياسي وتنظيمي.

ثانياً، أبرز التحديات الخارجية:

    حلفاء النظام القديم (روسيا وإيران)

    على الرغم من فشل طهران وموسكو في وقف هجوم المعارضة وحماية نظام الأسد، إلا أن سوريا تظل مهمة بالنسبة للجانبين. وإذا كان عامل المفاجأة والظروف الخاصة بكل طرف منهما (حرب أوكرانيا، والحملة الإسرائيلية الأمريكية على إيران) تحد من قدرتيهما على ممارسة نفس التأثير السابق في سوريا، فإن مصالح الطرفين تجعلنا نتوقع أن تظل سوريا مهمة لهما، وأن يكون هناك تحرك لكلٍ منهما للحفاظ على بعض الحضور في مستقبل البلاد، رغم الشعور بالمرارة والغضب جرّاء التحرك التركي الذي قوّض نفوذهما في سوريا.

    تبدو فرص روسيا أفضل؛ إذ يحتاج النظام الجديد إلى الاحتفاظ بهامش واسع للاستفادة من تباين مصالح القوى الدولية، وهو ما يجعل روسيا مفيدة دوليا في مواجهة الضغوط الغربية المحتملة على دمشق. وعلى الرغم من أن روسيا كانت داعما رئيسا للنظام القديم، فإن الرأي العام السوري أقل عداءً لموسكو مقارنة بطهران التي يحمّلها السوريون الحظ الأكبر من جرائم الإبادة والتهجير. وفي ظل انهيار مقدرات سوريا العسكرية، فإن النظام الجديد قد يرى في وجود قاعدة روسية بعض الحماية المؤقتة ضد الاستهداف الخارجي.

    أما إيران؛ فسيكون عليها الاختيار بين طريقين، كلاهما يواجه صعوبات وتحديات. الطريق الأول، أن تتبنى نهجا عدائيا ضد النظام الجديد ومن ثم تعمل على تقويضه من الداخل عبر حلفائها القدامى في مؤسسات الحكم السورية، بما فيها العسكرية والأمنية، وعبر ميليشيات شيعية يمكن إعادة تنظيمها وتوجيهها إلى سوريا. لكن، يحد من هذا الاحتمال الاستهداف الإسرائيلي والأمريكي المتوقع لأي تحركات إيرانية جديدة في سوريا، فضلا عن مستوى الانهيار الفادح لمؤسسات النظام القديم العسكرية والأمنية. بالإضافة لأن إضعاف حزب الله في لبنان يحد بصورة كبيرة من قدرة إيران على إعادة التدخل بمستوى كبير في سوريا.

    الطريق الثاني، يتمثل في السعي للتطبيع مع النظام الجديد، والعمل على بناء تفاهمات ومصالح مشتركة على المدى الطويل. سيتطلب ذلك اعتراف إيراني “مذل” بجرائمها خلال الحقبة الماضية، وربما تقديم تعويضات للنظام الجديد بحيث تطوي صفحة دعم نظام الأسد. ولا توجد مؤشرات أن مثل هذا الاحتمال مرجحا، وإن كان من المحتمل أن تمضي فيه طهران بنسبة ما في ظل اعتبار خسارة سوريا تمثل هزيمة بعيدة المدى للاستراتيجية الإيرانية في المنطقة.

    الولايات المتحدة والغرب و”إسرائيل”

    على الرغم من المواقف الإيجابية التي عبرت عنها الولايات المتحدة ودول أوروبية، إلا إن من المبكر الجزم بالانفتاح على النظام الجديد. فما زالت واشنطن في مرحلة تقييم الواقع الجديد، ويخيم عليها شكوك واسعة إزاء نوايا القيادة السورية الجديدة التي تصنفها على قوائم الإرهاب، وتعتقد أن مواقفها الإيجابية الراهنة ليست إلا مناورة مؤقتة. وفي ظل الوضع الإقليمي المرتبط بطوفان الأقصى، فإن مسألة أمن “إسرائيل” ربما تكون هي حجر الزاوية في تحديد موقف الغرب من نظام الثورة في دمشق. ولأن سوريا هي واحدة من دول الطوق، فليس من المتوقع أن تترك الولايات المتحدة و”إسرائيل” عملية بناء نظام حكم جديد، دون أن تكون هناك إجابات وضمانات واضحة إزاء موقف هذا النظام من “إسرائيل”، وإيران، وأمن الحدود السورية اللبنانية، ودعم حركات المقاومة الفلسطينية واحتمال تواجدها في سوريا الجديدة.

    بيئة إقليمية يخيم عليها العداء

    لا شك أن النظام الجديد في دمشق ستمضي خطواته في بيئة إقليمية يغلب عليها العداء. باستثناء تركيا وقطر، فدول المنطقة المؤثرة تنظر للنظام الجديد كمحصلة تهديدين رئيسيين: الثورات العربية والإسلاميين. ستوحد هذه النظرة على الأرجح مواقف أطراف إقليمية مثل مصر والإمارات والسعودية والأردن و”إسرائيل”. ومن المتوقع أن تعمل بعض هذه الأطراف بصورة متسقة معا لإجهاض الحكم الجديد في دمشق.

    الدعم الخارجي الذي تتمتع به قوات (قسد) يمثل تحديا كبيرا لمسار الانتقال السوري. فبالإضافة للدعم الأمريكي الأساسي، ستكون قسد هي حليفة “إسرائيل” وأطراف إقليمية أخرى، خاصة الإمارات العربية المتحدة، كوكيل داخلي يوازن نفوذ “الإسلاميين” في دمشق. لا يهدد ذلك فحسب مسألة وحدة سوريا، ولكنّه يبقي على احتمال دعم عمليات عسكرية داخلية لتقويض السلطة الجديدة، خاصة بعد أن مارست الإمارات نفس السياسة في دول أخرى، بما في ذلك ليبيا والسودان واليمن.

    بالإضافة لذلك؛ فإن اقتصار النظام الجديد على الشراكة مع تركيا وقطر يزيد من المخاوف الإقليمية؛ فعلى الرغم من التطبيع التركي مع القوى العربية فإن هذه الدول من المؤكد أنها لن ترحب بخروج سوريا من مجال النفوذ الإيراني كي تنتقل ضمن مجال نفوذ تركي جديد. كما أن استمرار التنافس بين دول الخليج سيجعل من موقع قطر كداعم لنظام الثورة في دمشق محل استهداف من قبل السعودية والإمارات.

    في المقابل؛ فإن تركيا ستعمل على حشد بعض الدعم الإقليمي للنظام الجديد، أو في الحد الأدنى احتواء بعض المخاوف منه مستفيدة من اتصالاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة والإمارات ومصر. وسيكون سلوك حكومة دمشق في الأسابيع القليلة القادمة إزاء دول المنطقة، مؤثرا في توجيه سياسة بعض تلك الدول وتحديد موقفها النهائي.

يلاحظ هنا أننا أغفلنا -عن عمد- مسائل مثل الوضع الاقتصادي، وانتظام الخدمات الحكومية المتنوعة، ومكافحة الجريمة…إلخ، باعتبار أن هذه الأمور ليست مهمة بذاتها لتقرير مستقبل حكومة الثورة في دمشق، لكنّها ستكون عرضة للاستخدام من قبل أطراف محلية أو خارجية. لذلك؛ ودون أن يعني هذا إغفالها، فإنها لا تمثل في تقديرنا مسائل استراتيجية، مقارنة بالتحديات المتمثلة في مصالح الأطراف الخارجية واحتمالات تدخلها، والتباينات بين المجموعات المحلية ومدى القدرة على احتوائها.

خاتمة

ما زال استقرار منطقة الشرق بعيد المنال؛ إذ ستواصل قوى المنطقة سعيها المتواصل –خاصة منذ انطلاق الثورات العربية– لتحدي أسس الاجتماع السياسي في المنطقة السائدة تقريبا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. في المقابل؛ تتمسك الدول والأنظمة الحاكمة، بالدفاع عن الوضع الراهن، مدعومة في الغالب من الولايات المتحدة والقوى الأوروبية التي لا يزال يغلب على تقديرها أن مصالحها تقتضي الحفاظ على الوضع الإقليمي الراهن، والدفاع عن “استقرار” المنطقة، حتى لو كان هذا الاستقرار يقتصر على المفهوم الأمني/القمعي الذي يستهدف السيطرة على الأمور والتحكم في تطورها.

لذلك؛ فإن الانتقال السوري لن يكون عملية خطية تمضي دون معوقات أو تحديات. إذ تمثل سوريا عربيا، أهمية جيوسياسية خاصة في المنطقة ربما لا تضاهيها إلا مصر. وكما مثل الصراع الروسي التركي الإيراني على النفوذ في سوريا ملمحا بارزا لأهمية البلاد الجيوسياسية، فإن سرعة التحرك الإسرائيلي عقب انهيار نظام الأسد تشير إلى ثقل وزن الجغرافيا السورية في معادلة الصراع الواسعة في فلسطين المحتلة. وهو نفس الثقل الشعبي والمعنوي الذي تتمتع به سوريا عربيا منذ تشكل النظام الإقليمي العربي، ومن ثم فإن نجاح ثورتها هو حدث إقليمي لن تقف تداعياته الشعبية والسياسية على حدود الجغرافيا السورية.

وكما كانت سوريا، وعلى الأرجح ستظل في الأجل القريب، ساحة صراع بالوكالة بين الدول المتنافسة، فإن سوريا الآن من المرجح أن تكون أيضا ساحة صراع بالوكالة بين قوى التغيير الشعبية في المنطقة وبين النظام الإقليمي العربي الرسمي، وهو صراع قد تحدد نتائجه مستقبل المنطقة الذي ما زال قيد التشكل منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وانهيار نظام الإجماع الإقليمي.

ملخص

● يمثل انتصار المعارضة رسالة مزعجة للنظام الإقليمي العربي، مفادها أن الوضع الإقليمي الراهن، لا يزال بالغ الهشاشة فضلا عن كونه محل رفض من قبل قوى الثورات التي لم تستسلم بعد. ويتقاطع “ردع العدوان” مع “طوفان الأقصى” استراتيجيا، ليؤكدا على أن المنطقة لن تشهد استقرارا قريبا، مالم تكن هناك معالجة لأسباب اضطرابها المديد.

● كشف “ردع العدوان” ضعف القبضة الإيرانية إقليميا، كنتيجة غير مخطط لها لمعركة طوفان الأقصى، ويعد هذا مؤشرا على ترابط الوضع الإقليمي وتفاعل مكوناته بصورة معقدة، تجعل من الصعب التحكم في تداعيات التطورات الجارية، خاصة كلما طال مداها الزمني. بينما يرسل التحرك التركي في سوريا رسالة مفادها أن أنقرة جاهزة لملء الفراغ الذي تتركه إيران إقليميا.

● يواجه مسار الانتقال السوري تحديات داخلية، أبرزها: (1) مدى نجاح المعارضة في الحفاظ على وحدة موقفها وتنسيقها وتوزيع الأدوار فيما بينها. (2) احتواء التباين المرجح بين المعارضة المنتصرة في دمشق، وبين المجموعات الكردية. (3) إحكام السيطرة على مؤسسات الحكم القديمة، وضمان عدم إعاقتها لعملية بناء نظام حكم جديد.

● خارجيا، تتمثل أبرز التحديات في مواقف الأطراف الداعمة للنظام، روسيا وإيران، وإلى أي مدى ستميل إلى التطبيع مع الوضع الجديد أو العمل على تقويضه. وبينما تبدو فرص روسيا أفضل؛ إذ يحتاج النظام الجديد إلى هامش واسع للاستفادة من تباين مصالح القوى الدولية، فإن خيارات إيران تبدو أكثر تعقيدا وهي على الأرجح ما زالت محل تشكل.

● على الرغم من المواقف الإيجابية التي عبرت عنها الولايات المتحدة، إلا إن من المبكر الجزم بانفتاحها على النظام الجديد. وفي ظل الوضع الإقليمي المرتبط بطوفان الأقصى، فإن مسألة أمن “إسرائيل” ربما تكون هي حجر الزاوية في تحديد موقف الغرب من نظام الثورة في دمشق.

● ستمضي خطوات النظام الجديد في دمشق في بيئة إقليمية يغلب عليها العداء. فباستثناء تركيا وقطر، تنظر دول المنطقة المؤثرة للنظام الجديد كمحصلة تهديدين رئيسيين: الثورات العربية والإسلاميين. وستوحد هذه النظرة على الأرجح مواقف أطراف إقليمية، من المتوقع أن تعمل بعضها بصورة متسقة معا لإجهاض الحكم الجديد في دمشق.

● لن يكون الانتقال السوري عملية خطية دون معوقات، نتيجة أهمية دمشق الجيوسياسية. وكما كانت سوريا، وعلى الأرجح ستظل، ساحة صراع بين دول متنافسة، فإنها الآن من المرجح أن تشهد صراعا بالوكالة بين قوى التغيير الشعبية في المنطقة وبين النظام الإقليمي العربي الرسمي.

——————————-

جناح الأصدقاء”.. كيف تحول مشفى حكومي إلى قاعدة طبية عسكرية إيرانية في قلب دمشق؟/ حنين عمران

2024.12.17

يكشف تحقيق أجراه موقع تلفزيون سوريا عن سيطرة الإيرانيين على أقسام طبية سرية داخل مشفى المجتهد بدمشق، حيث أنشؤوا جناحاً خاصاً يُعرف باسم “جناح الأصدقاء”، مخصصاً لعلاج مقاتلين من جنسيات إيرانية ولبنانية وأفغانية، في حين يعاني السوريون من نقص حاد في الخدمات الصحية الأساسية. يسلط التحقيق الضوء على التجهيزات الطبية المتطورة والخدمات الفندقية التي قدمت للمقاتلين، في مقابل تدهور الواقع الصحي للسوريين الذين اضطروا إلى شراء مستلزماتهم الطبية على نفقتهم الخاصة.

كما يوثق التحقيق كيفية إفراغ المكاتب الإيرانية من الوثائق الحساسة قبيل سقوط النظام، ويستعرض شهادات من أطباء وموظفين في المشفى، كاشفاً أدواراً مشبوهة وتورطاً أمنياً في تحويل المشفى إلى مركز طبي عسكري سري.

“الأصدقاء” يستبيحون جناحاً كاملاً وثلاثة مكاتب

استطاع موقع تلفزيون سوريا إجراء جولة داخل مشفى المجتهد للوصول إلى الأقسام والغرف التي استباحها الإيرانيون لطبابة مرضاهم واستقبال الحالات الإسعافية لمقاتلين من جنسيات مختلفة كاللبنانية والأفغانية والعراقية والإيرانية، من الذين قاتلوا السوريين إلى جانب النظام البائد. وخلال الجولة تبيّن أنهم استولوا على جناح كامل في الطابق الثاني من مشفى المجتهد، إضافةً إلى ثلاثة مكاتب موزعة بين باحة المشفى والطابق الإداري.

وبتوجّه موقع تلفزيون سوريا إلى قسم الإسعاف الحربي، والمعروف بين الأطباء بـ”جناح الأصدقاء”، والموجود في الطابق الثاني وتحديداً في نهاية قسم الجراحة الصدرية، وقد كان لهذا القسم الذي صادره “الأصدقاء” أن يكون قسماً لـ “العناية الصدرية”. وبسؤال الدكتور (أحمد دقماق) من قسم الجراحة العامة، أوضح أنه كان يمنع دخول أي طبيب من المشفى إلى هذا الجناح من دون توجيهات الإدارة أو المقيم الأول (الطبيب المشرف)، كما أنهم كانوا يُمنعون من الحديث إلى مرضى هذا الجناح إلا فيما يتعلق بالاستشارات الطبية.

سبس

الطبيب (أحمد دقماق)، ذكر لموقع تلفزيون سوريا أنه سُمح له بالدخول إلى الجناح عندما طُلب منه تضميد قدم سكرية لمقاتل لبناني الجنسية، كما دخل مرة أخرى إليه بقصد تحضير مريض لعملية استئصال المرارة وقد جاءت به توصية خاصة من الإيرانيين لارتباطه بهم، علماً أنه يحمل دكتوراه في التشريح المرضي، وفق شهادة (دقماق).

أما عن أحداث ما قبل سقوط النظام، فيقول (دقماق): “قبل سقوط النظام بقرابة الأسبوع أخبرونا بالتوجه إلى قسم الإسعاف في قرابة الساعة الثالثة والنصف فجراً لاستقبال باص كامل يُقلّ مصابين من الأفغان من ذوي السحنة الآسيوية، وكان عددهم قرابة 15 مصاباً. وكانت إصاباتهم ناتجة عن الاشتباكات في منطقة الرستن بحمص، علماً أن الثوار آنذاك كانوا لا يزالون في حلب”.

وتمّ نقل أدوات ومستلزمات طبية آنذاك من مستودع الأصدقاء إلى قسم الإسعاف لمعالجتهم، ووفق شهادة الطبيب فإنّها المرة الأولى التي يرون فيها مواد طبية “نخب أول” بحسب وصفه؛ غير متوفرة في أي مشفى حكومي، وهي مواد يُحرم منها المرضى السوريون الذين يضطرون حتى إلى شراء أنابيب التحاليل وقفازات الأطباء على حسابهم الخاص لعدم توفرها في المستشفيات الحكومية. ويذكر (دقماق) أن المشفى بكاملها تحولت إلى حالة استنفار من أجل معالجتهم وفق توجيهات صارمة.

وعن أحداث “البيجر”، يتحدث الطبيب لموقع تلفزيون سوريا عن استقبالهم لأعداد كبيرة من المصابين من عناصر حزب الله اللبناني الموجودين على الأراضي السورية والذين يتحدثون باللهجة اللبنانية، وقد تركزت الإصابات في الأعين والأيدي والخاصرة، ويُقدر عددهم آنذاك بـ 4 إلى 5 إصابات يومياً وفق شهادة (دقماق).

424

مكتب المتابعة الأساسي لـ “الأصدقاء”:

توجه موقع تلفزيون سوريا بعد ذلك، إلى طابق الإدارة برفقة مدير مشفى المجتهد الجديد (الدكتور محمد الحلبوني) الذي تم تعيينه بدلاً من (الدكتور أحمد عباس)، وبرفقة اثنين من موظفي مكتب الجاهزية أيضاً، إلى مكتب “المتابعة الأساسي” الخاص بالإيرانيين والذي كان بإشراف المدعو (محمود طالب خليل). ولدى دخولنا المكتب لاحظنا أنه قد أُفرغ بشكل كامل من الوثائق والملفات وقد عمّته الفوضى.

أما المكتب الثاني، فيقع في باحة المشفى مقابل الباب الرئيسي، وكسابقه؛ كان قد أفرغ من الأوراق والملفات، وقد ترك عناصره الطعام كما هو على الطاولة قبل هروبهم في يوم سقوط النظام، وهو ما يشير إلى أنهم أخلوا أماكنهم على عجل.

في حين يقع المكتب الثالث في باحة المستشفى أيضاً بجانب باب الإسعاف القديم وهو مكتب للنوم والراحة للأصدقاء. وبدخول المكتب الأخير تبيّن أنه يحتوي صورة لقاسم سليماني وبطاقات مكيانيك سيارات الأصدقاء وبطاقات أخرى مصدقة من مكتب الأمن الوطني، وقد منعنا مدير المشفى من تصويرها بحجة انتظار أوامر هيئة تحرير الشام، الذي أشار بدوره إلى أنهم قاموا بتسليم بعض الوثائق والسجلات التي عثروا عليها والتي بقيت بعد سرقة المكاتب، إلى عناصر الهيئة.

ومن الجدير بالذكر، أن جميع هذه المكاتب مزودة بتجهيزات كهربائية حديثة من شاشات وبرادات وغسالات وغير ذلك، كما أننا عثرنا على دفتر يحتوي قوائم بالأطعمة التي كان يتناولها عناصر مكتب المتابعة والتي ضمت أنواعاً من اللحوم والأجبان لا يحل للسوريون في مناطق النظام تناولها؛ إذ بلغت قيمة إحدى الفواتير 3 ملايين ليرة سورية.

استنفار بعد كل غارة إسرائيلية

الطبيب (سعيد نصار) المقيم في شعبة الجراحة الصدرية؛ وهي الشعبة التي تضم جناح الأصدقاء كما ذكرنا سابقاً، أجاب عن بعض الأسئلة المتعلقة بجناح الأصدقاء لكونه شاهداً على وجود هذا القسم منذ وصوله إلى شعبة الجراحة الصدرية في عام 2022.

أوضح (نصار) أن معظم الإصابات التي كانت ترد إلى الجناح هي أذيات حرب، طلق ناري، أذيات انفجارية وشظايا، كما أنهم كانوا يستقبلون أعداداً كبيرة من المصابين عقب الغارات الإسرائيلية التي ازدادت في الفترة الأخيرة قبيل سقوط النظام؛ إذ إنها حالات خضعت للإسعافات الأولية في معظمها، لكن الهدف من نقلها إلى هذا الجناح هو استكمال العلاج والفحوصات ومراقبة حالتهم الصحية؛ وهو ما وصفه (نصار) بـ”الفندقة الطبية”.

464

وبعض الحالات التي يستقبلها الجناح كانت تدخل بالزي العسكري، كما أن بعضها مزوّد بمرافقين مُسلحين (حرس أمني)، أما طاقم التمريض المخصص للجناح فهو على كفاءة طبية عالية لتقديم أفضل رعاية صحية لهم. والجدير بالذكر، أن كل ممرض هو مترجم في الوقت نفسه، إذ إنَّ الممرضين كانوا صلة التواصل بين أطباء المشفى وبين الإيرانيين أو الأفغان الذين جاؤوا لتلقي العلاج.

وقد أشار الطبيب (نصار) إلى أن مستودع الأدوية تمّ نقله من خارج الجناح إلى غرفة داخله قبل قرابة السبعة أشهر؛ هو ما تأكدنا منه لدى دخولنا إلى غرفة ملحقة بحمامات الأطباء داخل الجناح والتي تم تحويلها إلى مستودع للأدوية والمستلزمات الطبية الإيرانية المصدر كما يظهر بالصور المرفقة. وبعد سقوط النظام تمّ جرد الأدوية والأدوات الطبية في هذا المستودع من قبل إدارة المشفى ونقلها إلى مستودع المشفى، كما تمّ تغذية قسم الإسعاف بجزء منها ولا سيما مع ازدياد الإصابات الواردة إلى المشفى في يوم السقوط والأيام التالية له، من جراء الاشتباكات والرصاص الطائش.

4545

يقول (نصار) في حديثه لموقع تلفزيون سوريا: “قاموا بإغلاق باب الجناح؛ بحيث لا يمكن فتحه إلا من خلال زر كهربائي من قبل القائمين على الجناح، علماً أننا كأطباء في شعبة الصدرية، كان يسمح لنا بالدخول إلى حمامات الأطباء وذلك حتى نهاية عام 2023؛ أي قبل إعادة تأهيل وإكساء الجناح وتجديده بالسيراميك والبلاط والإضاءة، فضلاً عن التجهيزات الكهربائية، إذ خُدِّمت الغرف فيه بشاشات وبرادات وطاولات إطعام ومستلزمات طبية كاملة؛ ما جعله قسماً مختلفاً بشكل كامل عن بقية أقسام المشفى؛ فهو أشبه بمشفى حديث مُصغّر داخل مشفى حكومي يفتقر حتى إلى الضماد وعبوات التحاليل!”.

الإيرانيون يتخفون يُسجلون بألقاب وهمية

أوضح مكتب الجاهزية في مشفى المجتهد، لموقع تلفزيون سوريا أن الداخلين إلى قسم الإسعاف الحربي “جناح الأصدقاء” من غير السوريين، ولا سيما الذين يحملون جنسيات إيرانية وعناصر حزب الله، يُسجلون في سجلات المشفى بألقاب وهمية مثل: حاج مجاهد، حاج رضا، حاج رسول، حاج مجيد…الخ. وهو ما تأكدنا منه حقاً في أثناء بحثنا داخل مكتب “المتابعة الأساسي” ضمن ملف يحمل الرقم (2250). ووفق أقوال مكتب الجاهزية، فإنَّ الجناح كان تحت إشراف ورقابة أجهزة النظام الأمنية. أما مدير المشفى (محمد الحلبوني) فقد أوضح أنها المرة الأولى التي يدخل فيها إلى هذا المكتب أو يعرف بوجوده أصلاً داخل المشفى.

فوضى يوم السقوط واختفاء الملفات

في شهادته لموقع تلفزيون سوريا، أوضح الموظف في مكتب الجاهزية (أيمن الحرش)، أنه بتاريخ 8 كانون الأول، أي في يوم سقوط النظام، دخلت مجموعة إلى المشفى واقتحمت المكاتب الإيرانية على وجه التحديد، وكسرت الأقفال والأبواب وقامت بسرقة جميع الملفات الورقية والأضابير من داخل هذه المكاتب، كما أنهم حاولوا كسر باب خزنة مالية كبيرة الحجم موجودة في مكتب المتابعة الأساسي، وهو ما تأكدنا منه حقاً لدى توجهنا إلى المكتب كما يتضح في الصور المرفقة.

يقول (أيمن الحرش) لموقع تلفزيون سوريا: “دخلوا وادعوا أنهم من أحرار درعا، وحينما حاولت منعهم من سرقة الأوراق، بدؤوا بشتم النظام وإيران وتمزيق صور القادة الإيرانيين، وأخذوا ما أرادوا ورحلوا، ثمّ قمنا بعد ذلك بإقفال المكاتب وتسليم ما تبقى من أوراق إلى عناصر هيئة تحرير الشام”.

وتثير الرواية التي أدلى بها (الحرش) عدداً من التساؤلات عن استهداف المكاتب الإيرانية في المشفى على وجه التحديد وكيفية معرفتهم بوجودها وبمواقعها داخل المشفى ومصير الأوراق التي قاموا بسرقتها، والأهم من ذلك… ما هوية الأشخاص الذين دخلوا هذه المكاتب؟ إذ يُرجّح (الحرش) ومدير المشفى أنهم من أتباع الميليشيات الإيرانية الذين استغلوا الفوضى ودخلوا بحجة أنهم من الثوار لأخذ الملفات وإخفاء الأدلة، ولا يمكن الجزم بأي إجابة عن ذلك، لكننا نؤكد إفراغ المكاتب والمجلدات والخزائن من الأوراق، فيما عدا بعض الوثائق التي عثر موقع تلفزيون سوريا عليها خلال عملية البحث فيها.

الأوراق التي عثرنا عليها

كان لموقع تلفزيون سوريا الأسبقية بدخول هذه المكاتب كجهة إعلامية مُصرَّح بها من قبل وزارة إعلام هيئة تحرير الشام، وتفتيش محتوياتها والبحث في الفوضى داخلها، وسنرفق صوراً بالوثائق التي حصلنا عليها مع توضيح لها:

    كتاب صادر عن وزارة الخارجية السورية إلى السفارة الإيرانية بدمشق، حول استعداد إيران لتمويل مشفى الأسد الجامعي بتجهيزات طبية تضمنت: أجهزة تنظير وطبقي محوري وسيارات الإسعاف ووحدات غسيل الكلى… وغير ذلك. وهنا يأتي السؤال حول إذا ما كانت هذه التجهيزات قد وصلت حقاً إلى مستشفى الأسد الجامعي لتخديم المواطنين أم أنها سُرقت من قبل النظام وأتباعه على غرار بقية المساعدات الإنسانية والطبية؟

    وثيقة مساعدة إيرانية لأخت الإعلامية في تلفزيون النظام السابق (أليسار معلا) ابنة اللواء المتقاعد (محمود معلا)؛ لإجراء عمليتين بقيمة 13 مليون و500 ألف ليرة سورية.

    طلب باسم المساعد أول (فؤاد إبراهيم) مقدم إلى السفير الإيراني لتحصيل مساعدة مالية إيرانية لتغطية تكاليف علاجه بعد إصابته في الغارة التي استهدفت القنصلية الإيرانية بدمشق.

    ملف كامل بتوقيع (محمد هادي الضيغمي) المسؤول عما يسمى “بيت الابتكار والتكنولوجيا الإيراني في سورية”، والمقدم إلى سفير إيران السابق (حسين أكبري)، وهو ملف يتضمن دراسة عن: السوق السورية في مجال الصحة؛ مزوداً بأرقام وثغرات ونقاط صعف في القطاع الصحي السوري، من أجل تسهيل استيلاء إيران على القطاع الصحي وتحويل سوريا إلى سوق للمنتجات الإيرانية.

    ملف كامل باللغة الفارسية يتضمن الصادرات الطبية والتجهيزات التي قدمتها إيران للنظام، مرفقاً بصور وبيانات، مع قيمة صادرات قدرت بـ 840 ألف دولار أميركي.

    لائحة بأسماء “شهداء الدفاع المقدس” تتضمن أسماء سوريين قتلوا في معارك مختلفة، مع تفاصيل السكن وتاريخ مقتلهم وتفاصيل أخرى.

    لائحة بأسماء الأطباء والصيادلة من خريجي الجامعات الإيرانية المقيمين في السيدة زينب بريف دمشق، تتضمن 23 اسماً من مختلف الاختصاصات.

    وثائق جامعية:

    مفاضلة (العرب والأجانب) لأصحاب شهادات ثانوية صادرة عن المدرسة الإيرانية في دمشق

    أوراق لكشوفات وحقوق وذمم مالية لمن أجروا عمليات داخل المشفى، وسجل كبير يضم أسماء المرضى والأدوية التي تلقوها.

يُشار إلى أنّ جمعية “الرعاية الطبية” ومقرها في السيدة زينب وفق أقوال مكتب الجاهزية، كانت تتكفل بتزويد جناح الأصدقاء بالمواد الطبية، فضلاً عن دفعها تكاليف العمليات الجراحية والخدمات العلاجية في نهاية كل شهر، وهي جمعية مخصصة لدعم وتمويل قسم “الإسعاف المدني” وتأمين الرعاية الطبية للشيعة من مختلف المناطق، داخل مشفى المجتهد.

تلفزيون سوريا

—————————–

سقوط الأسد يفتح الطريق لسوريا جديدة ولبنان من دون نكهة ممانعة/ صهيب جوهر

2024.12.17

يعيش اللبنانيون نشوة مزدوجة بعد سقوط نظام التطهير العرقي في سوريا، خصوصًا أن اللبنانيين أنفسهم خبروا الأسد الأب والابن في ذروة الغطاء الأميركي لهما، في أثناء سطوتهما في لبنان وسوريا، مقابل تقديم أدوار وظيفية في المنطقة على مدار أربعة عقود ونيف.

وليس سرًا أن العلاقة التاريخية التي كانت قائمة بين نظام حافظ الأسد والإدارات الأميركية المتعاقبة، جعلت الأسد الأب يلتزم بعدم تجاوز الخطوط الحمر الأميركية أياً تكن الظروف والاعتبارات. في المقابل، التزمت واشنطن بعدم تهديد حكم الأقلية العلوية لبلد الغالبية السنية.

ولا حاجة لتعداد العطايا التي قدمتها الإدارات الأميركية المتلاحقة للأسد الأب، مقابل قيامه بدور الشرطي في مناطق متعددة. وهكذا ردت واشنطن التحية لسوريا على مشاركتها في حملة عاصفة الصحراء بمنحها الدخول إلى لبنان والسيطرة على ملفاته. لكن مع رحيل الأب وتولي الابن مقاليد السلطة، كان من المنطقي أن تعيد واشنطن صياغة علاقتها بدمشق.

خصوصًا أن صقور إدارة جورج بوش كانوا يحضرون لاحتلال العراق لإعادة ترتيب المنطقة. وفي وقت التزمت إيران، الجار الشرقي للعراق، أقصى درجات الانضباط والحذر، فإن الجار الغربي، أي سوريا بقيادة رئيسها الشاب، شرع حدوده للمجموعات الراغبة في مقاتلة الأميركيين، ولم تكن بصمات إيران بعيدة عن ذلك.

لكن الردود على هذه الممارسات الأسدية تجلّت على الأرض اللبنانية، حيث اغتيل رفيق الحريري، الرجل الأول المنتمي للمدرسة العربية الحديثة المرتبطة بالغرب. وتبعت ذلك عقوبة بوش للأسد عبر إخراج القوات السورية من لبنان، إلا أن الفراغ السوري سرعان ما نجح حزب الله في ملئه عبر اضطرابات متنقلة.

أما النظام السوري المخلوع، فبدأ يخطو أولى خطواته في اتجاه عدم الاستقرار. وانفجر الشارع في وجه نظام بشار الأسد عام 2011. ويومها، وبخلاف الانطباع السائد، تركت واشنطن الدعم السياسي والعسكري للثورة لدول الخليج وفرنسا، فيما إدارة أوباما لم تتدخل بفاعلية، لاقتناعها بمخاطر إسقاط النظام الأقلوي العلوي.

وكانت إسرائيل تتمسك بهذه المعادلة بقوة. ويومها تم التداول بحلّ وسط يقضي بالحفاظ على استمرارية النظام، ولكن عبر استبدال بشار الأسد بآصف شوكت. لكن شوكت اغتيل بعد فترة قصيرة، وهو كان الوحيد المؤهل للاستمرار بالنظام في غياب آل الأسد، إذ لم يكن هناك بديل عن هذه المعادلة.

مع دخول سوريا مرحلة التدخلات الروسية والإيرانية، دخلت إيران بقوة، سواء مباشرة أو عبر حلفائها وتحديدًا حزب الله، وبدأت بالإمساك بمفاصل الدولة. وفي عام 2015، لم تعارض واشنطن دخول روسيا لإنقاذ النظام الذي كاد أن يهوي بعد أن فقد سيطرته على أغلب الأرض السورية. وكان الرهان الأميركي أن يؤدي الدخول الروسي إلى تحجيم واحتواء التمدد الإيراني الحاصل.

وقد أبدى بوتين موافقته على تحجيم إيران في سوريا، لكنه غير قادر على ذلك حاليًا لأن قواته الجوية تحتاج إلى المجموعات البرية الموالية لإيران. في الواقع، ازداد نفوذ إيران وحلفائها في سوريا، التي أضحت قاعدة إيرانية وممرًا مفتوحًا لتزويد حزب الله بالأسلحة، وشكلت موطئ قدم استراتيجيًا للحلم الإيراني بالوصول إلى الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.

لكن الإدارة الأميركية بدأت منذ عام ونيف، وتحديدًا بعد “طوفان الأقصى”، في صياغة استراتيجية جديدة تحاكي صد التمدد الروسي واحتواء الحضور الصيني. وجدت واشنطن ضرورة إغلاق شواطئ البحر المتوسط أمام روسيا، والسيطرة على الشرق الأوسط لاحتواء الطموح الصيني.

هذا يعني استعادة النفوذ الأميركي على شاطئ لبنان وساحله، ووضع معادلة جديدة في لبنان وسوريا. وجاءت عملية “طوفان الأقصى” لتدفع باتجاه إعادة ترتيب المنطقة، والبحث في جدوى الإبقاء على خريطة المنطقة الحالية، وبالتالي التوجه نحو تأسيس خريطة جغرافية جديدة.

هذه المرة، كان ذلك إما عبر الدماء أو من خلال تغيير الوقائع بشكل متسارع. الأول تجلى في ضرب حزب الله ومشروعه في لبنان، وتحجيمه في العراق، أما الثاني فتمثل في تسارع الأحداث الميدانية في سوريا عبر التقاط المعارضة للفرصة وتشكيل غرفة العمليات المشتركة، وما أفضت إليه الأمور من إسقاط النظام الأسدي.

لكن الأهم أن إيران تلقت ضربة استراتيجية بخسارتها الممر والقاعدة الأهم، بعد ضربة موجعة تلقاها حزب الله باغتيال أمينه العام حسن نصر الله. ولا يخفف من وطأة هذه الخسارة التصريحات المرنة لمسؤوليها حول تأييدهم لترك الشعب السوري يختار قادته، أو إعلان طهران فتح قنوات تواصل مباشرة مع بعض الفصائل السورية المعارضة.

لكن هذا لا يلغي بعض الإشارات الإيرانية الموجهة إلى دول الغرب التي رافقت سقوط نظام الأسد. فقد باشرت طهران بسحب ضباطها ومستشاريها من سوريا يوم الجمعة، أي قبل سقوط دمشق بيومين. ثم ظهرت انتقادات للرئيس السوري واتهامات له بالتصلب والعناد، خصوصًا أن الأسد كان متردداً في تعاطيه مع إيران خلال الأشهر الماضية، حيث طالب بتقليص قواتها في سوريا، كما رفض الانخراط في معركة “طوفان الأقصى”.

لكن الحقيقة الماثلة أن الانزعاج الأميركي من بشار الأسد بلغ مستويات غير متوقعة بعد سماحه بإعادة تسليح حزب الله خلال الحرب. واكتشفت واشنطن لاحقًا أن إيران نجحت في إيصال أسلحة وصواريخ في ذروة الحرب، مما دفع الطائرات الإسرائيلية إلى قصف الحدود والمناطق البقاعية بشكل مكثف. ومع سقوط حلب، أرسلت واشنطن عبر طرف ثالث للأسد بضرورة إعلانه الابتعاد عن إيران والبدء بإصلاحات سياسية داخلية مع أطراف المعارضة، لتجنب سقوط دمشق.

لكن الوعد الذي أرسله الأسد عبر الإمارات لم يجد طريقه إلى التطبيق، وهنا تُطرح التساؤلات حول حقيقة الموقف الإيراني. فسقوط سوريا “الأسد” رسّخ ابتعاد إيران عن شاطئ المتوسط، لكنه ترافق مع تصريحات غريبة أطلقها نائب الرئيس محمد جواد ظريف، الذي أعطى فيها الأولوية للاقتصاد والانفتاح على الغرب، لا سيما واشنطن.

لكن الأهم هو انعكاسات هذه التطورات على لبنان وما قد يترجمه هذا السقوط المدوي للمحور في الملفات الداخلية اللبنانية، خاصة مع اقتراب الملف الرئاسي اللبناني من نهايته، وهو ما قد ينهي حقبة حلفاء الأسد ويقصيهم عن السلطة للأبد.

—————————

ما “هيئة التفاوض” التي أثارت الجدل بالتمسك بـ”2254″/ مجد الويّو

17 كانون الأول 2024

انخرطت “هيئة التفاوض السورية” خلال الأيام الماضية في المشهد السياسي السوري المتعلق بمرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، وبعد ما أكدت في بيان رسمي على لسان رئيسها بدر جاموس ضرورة السير بقرار مجلس الأمن “2254”، تثار تساؤلات عن الأطراف التي تضمها هذه الهيئة وتاريخ تشكيلها والمهمة الموكلة لها.

وقال جاموس في بيان، عبر حسابه في “إكس”، 16 من كانون الأول، إن القرار “2254” يمثل وسيلة حقيقية لتحقيق أهداف الثورة السورية، وأن غياب النظام لا يُلغي هذا القرار، بل يظل ساريًا ويجب متابعته لأن الأهداف المحددة فيه لم تتحقق بعد.

وجاء حديث جاموس في وقت كانت الأنظار تتجه نحو قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع (الجولاني)، فيما يخص السياسة التي سيعتمدها في المرحلة المقبلة، بعد دخوله إلى دمشق وإقامته بها.

والتقى الشرع خلال الأيام الماضية المفوض الأممي إلى سوريا غير بيدرسون ومسؤولين أوروبيين.

وفي تصريح له خلال اجتماعه مع بيدرسون في دمشق، قال إنه يجب “إعادة النظر” بقرار مجلس الأمن “2254”، الأمر الذي يخالف الموقف الذي عبّرت عنه هيئة التفاوض ورئيسها جاموس.

ما هيئة التفاوض؟

هي هيئة سياسية جامعة تمثل أوسع نطاق من قوى الثورة والمعارضة السورية، وكيان وظيفي مهمته التفاوض مع النظام السوري ضمن مسارات ترعاها الأمم المتحدة، وفقًا لما جاء في موقعها الرسمي.

في كانون الأول 2015، عقدت قوى المعارضة السورية المختلفة “مؤتمر الرياض 1” في السعودية، حضره نحو 150 شخصية معارضة، وتم في نهايته الإعلان عن تأسيس “هيئة التفاوض السورية” (كانت تعرف آنذاك باسم الهيئة العليا للتفاوض).

ومع إصدار مجلس الأمن القرار رقم “2254”، كانون الأول 2015، اعترفت الأمم المتحدة رسميًا بهيئة التفاوض السورية باعتبارها الممثل الوحيد للمعارضة السورية، وفقًا لما جاء في موقع الهيئة الرسمي.

وللهيئة حضور ومشاركة في اللجنة الدستورية السورية المكونة من 150 عضوًا، بالتساوي بين هيئة التفاوض السورية وحكومة النظام والمجتمع المدني، عبر وفدها المكون من 15 عضواً في اللجنة المصغّرة التي تعمل ضمن إطار اللجنة الدستورية.

وبدأت أعمال اللجنة، في تشرين الأول 2019، في جنيف، مع اعتماد مدونة سلوك لتنظيم عملها.

ماذا تضم هيئة التفاوض؟

وتضم الهيئة 37 عضوًا، يمثلون سبع مكونات أساسية.

وتقسم على 8 مقاعد لـ”الائتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية”، و5 مقاعد لـ”هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي”، و8 مقاعد لمنصات موسكو والقاهرة مقسمة بالتساوي (4 مقاعد لكل منصة)، والمجلس الوطني الكردي كمقعد واحد في الهيئة.

بالإضافة إلى ذلك توجد 7 مقاعد للفصائل العسكرية، المقسمة على عدة جبهات مثل الجبهة الجنوبية، والجبهة الشمالية، إضافة إلى ممثلين عن فصائل مسلحة تنتمي جميعها إلى “الجيش السوري الحر”.

كما تضم الهيئة 8 مقاعد مخصصة للشخصيات السورية المستقلة، من النساء والرجال.

لجان هيئة التفاوض

تضم الهيئة لجنتين، لجنة المعتقلين، ولجنة الانتخابات، إضافة للمكتب القانوني.

تستند لجنة المعتقلين والمفقودين إلى القرارات الأممية ذات الصلة مثل بيان “جنيف 1” وقرار مجلس الأمن “2474” الصادر في 2019، وهدف اللجنة الرئيسي هو الإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المختفين قسريًا.

بينما تعمل لجنة الانتخابات على ضمان توافق الانتخابات مع المرجعيات الدولية مثل بيان جنيف والقرارات “2254” و”2118″. وتتكون اللجنة من سبعة أعضاء يمثلون المكونات السبعة لهيئة التفاوض السورية.

أما المكتب القانوني يعمل على متابعة ملف المحاسبة والمساءلة ضد المسؤولين عن الانتهاكات في النظام السوري، بالتواصل مع دول ومنظمات المجتمع المدني التي ترفع قضايا ضد النظام في المحاكم الدولية.

كيف تفاوض؟

انضمت هيئة التفاوض السورية إلى عدة مفاوضات، بعدما أطلقت الإطار التنفيذي للحل السياسي وفق بيان “جنيف 1” والقرارات الدولية “2118” و”2254″.

وشاركت الهيئة في مفاوضات “جنيف 3″ و”جنيف 4” برعاية الأمم المتحدة، وأرسلت وفدًا استشاريًا لمفاوضات “أستانة 1” التي رعتها روسيا وتركيا.

وفي 2017، عقدت الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف التي تضمنت أربع سلال للتفاوض: حكم انتقالي غير طائفي، مسودة دستور جديد، انتخابات حرة ونزيهة، ومحاربة الإرهاب.

وشكلت الهيئة لجانًا وفرقًا دعم للتفاوض حول هذه السلال.

وفي تشرين الثاني 2017، عقدت الهيئة “مؤتمر الرياض 2” لزيادة التمثيل والقرار داخل الهيئة، بما في ذلك تمثيل المرأة والشخصيات الوطنية من الداخل.

وفي نفس الشهر، رفضت الهيئة المشاركة في مؤتمر “سوتشي” الذي اقترحته روسيا، معتبرة أنه محاولة لحرف مسار المفاوضات.

ماذا بعد سقوط الأسد؟

عبر العديد من النشطاء والباحثين السياسيين ومستخدمي التواصل الاجتماعي عن استيائهم، بعد إعلان هيئة التفاوض تمسكها بالقرار “2254” للانتقال السياسي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، إذ وصفته الهيئة بأنه “يمثل وسيلة حقيقية لتحقيق انتقال سياسي في بيئة آمنة ومحايدة”.

ومن أبرز المنتقدين، المعارض رضوان زيادة، إذ عبر عن استيائه من قرار الائتلاف وهيئة التفاوض بدعم تطبيق القرار “2254” وإعلان العقبة، معتبرًا أن “الائتلاف” كان يجب أن يتشاور مع الحكومة الانتقالية في دمشق قبل إصدار البيان، وذلك وفق ما قاله عبر حسابه في “X”.

وقال زيادة إن المعارضة المسلحة تعلمت من أخطائها وحققت انتصارًا كبيرًا بإسقاط الأسد، ودعا المعارضة السياسية إلى التعلم من أخطائها وتجنب التلاعب الدولي بها، مؤكدًا ضرورة أن يعمل السوريون معًا لإنجاح المرحلة الانتقالية.

وبدوره، انتقد الرئيس الأسبق للائتلاف أحمد معاذ الخطيب “هيئة التفاوض” والقرار “2254”، عبر حسابه في منصة “X”، مبررًا ذلك بفشل الهيئة في تحقيق نتائج ملموسة طوال سنوات عملها، رغم إشراف المبعوثين الدوليين مثل ستيفان دي ديمستورا وغير بيدرسون.

كما أطلق ناشطون ومستخدمو منصات التواصل الاجتماعي، حملة تحمل وسم “هيئة التفاوض لا تمثلني”، تعبيرًا عن رفضهم لموقف الهيئة بشأن تنفيذ القرار الأممي “2254”، وسط استنكار من المستخدمين عن غياب الدور الفاعل للهيئة في تحرير سوريا من نظام الأسد.

في المقابل يرى عدد من الباحثين والسياسيين إن القرار “2254” يمكن أن يستمر باعتباره ضمانة للانتقال السياسي، لكن مع بعض التعديلات بعد سقوط الأسد.

عنب بلدي

———————————–

تركيا تتقدّم، إيران تتراجع، والعرب يتمهّلون/ رضوان السيد

17 كانون الأول 2024

ساحة الامويين علم الثورة عليها انكسرت عصا سليمان التي يتّكئ عليها، فظهر أنّه ميتٌ من زمان. سقط نظام بشار الأسد، وبسقوطه اكتمل سقوط المحور الإيراني….

هجوم 27 تشرين الثاني 2024 من إدلب على حلب، الذي أثبت ضعف نظام الأسد وتهالُكه، يعني أن لا حلّ في الأمد المنظور للحرب السورية الداخلية…

عالم الحروب اليوم أعمق وأخطر، وقد وصل إلى قلب أوروبا بهجمة روسيا على أوكرانيا عام 2022 التي استمرّت حتى اليوم. وكأنّما كانت إسرائيل تنتظر مسوِّغاً…

شكَّل سقوط النظام السوري تتويجاً للمتغيّرات بالمنطقة، وعنى تراجعاً للمحور الإيراني، وتعاظماً للنفوذ الإسرائيلي والتركي. والفرق أنّ تركيا تملك قوّة عسكرية وقوّة ناعمة، بينما لا يملك الإسرائيليون إلاّ القوّة الخشنة. سورية روسيّة منذ الخمسينيات من القرن الماضي، وهي تنقلب الآن إلى الجانب الأميركي مثلما حصل في العراق. هل يقوم في سورية نظام إسلاموي؟ وهل تتقدّم تركيا على حساب إيران؟

عندما وصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى بغداد يوم الخميس في 12 كانون الأوّل 2024، عبّر لمحمد شياع السوداني، رئيس وزراء العراق، عن فرحته بـ”الأمن والاستقرار” بالعراق، بدليل أنّه أتى من المطار لأوّل مرّة من دون درع، ولا غطاء للسيّارة، وشاهد “الحيوية” والحياة المزدهرة بشوارع بغداد.

اعتبر الصحافيون العراقيون ملاحظة بلينكن ساخرة ومزعجة. فطوال شهور كان الأميركيون يضغطون على ميليشيات الحشد الشعبي من خلال السوداني كي لا يتدخّلوا في حرب إسناد حسن نصرالله، وينذرونه بضربات إسرائيلية مدمِّرة إن لم تكفّ الميليشيات العراقية عن التحرّش بإسرائيل.

أمّا أنا فتذكّرت زيارة الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين الأخيرة لرئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي، وكيف خرج من عنده ليقضي نصف ساعة في مقهى ستارباكس فردان المقابل لمنزل رئيس مجلس النواب، هازئاً بمحاذير “الحزب” ومطمئنّاً إلى الحاجة الملحّة إلى أميركا حتى من جانب “الحزب” نفسه.

شكَّل سقوط النظام السوري تتويجاً للمتغيّرات بالمنطقة، وعنى تراجعاً للمحور الإيراني، وتعاظماً للنفوذ الإسرائيلي والتركي

تغيير في المنطقة كلّها

لقد غيَّرت حربا غزة ولبنان المشهد بالمنطقة، وانعكس ذلك ضعفاً في جناحَي المقاومة حماس و”الحزب”، وتأثّر إيران القويّ بمجريات حرب العام ونيف، بخاصّة أنّها هوجمت مباشرةً للمرّة الأولى منذ الحرب العراقية.

بيد أنّ الضربة القاضية على المحور الذي أعلنت إيران قيامه منذ عام 2008 من طهران حدثت بهروب الإيرانيين وميليشيات العراق و”الحزب” من سورية يوم الأحد في 8 كانون الأوّل الجاري، عندما اتّضح لهم أو لأطراف المحور أنّ بشار الأسد نفسه غادر دمشق إلى مكانٍ مجهولٍ. تبيّن بعد يومين أنّه روسيا حيث حلَّ “لاجئاً سياسياً لأسبابٍ إنسانية”.

الأمين العامّ لـ”الحزب” نعيم قاسم قال أخيراً إنّ طريق الإمداد انقطع من طريق سورية. وزعم أنّ ذلك أمر “تفصيليّ”. وهو ليس كذلك على الإطلاق لا بالنسبة له، ولا بالنسبة لإيران. رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد قاليباف قال: “الواقعة أحدثت اختلالاً استراتيجيّاً”. أمّا قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي فقال إنّه “درسٌ مُرٌّ ينبغي التعلّم منه”.

غيَّرت حربا غزة ولبنان المشهد بالمنطقة، وانعكس ذلك ضعفاً في جناحَي المقاومة حماس و”الحزب”، وتأثّر إيران القويّ بمجريات حرب العام ونيف

خروج إيران من الصّراع على المنطقة؟

حتّى غارة 7 أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) كانت هناك ثلاث جهات إقليمية متصارعة: تركيا وإيران وإسرائيل. وهي تتنافس على النفوذ بالمنطقة وإرضاء الولايات المتحدة. وإيران من مواقع الخصومة، وإسرائيل من موقع تقديم الخدمات، وتركيا من موقع التجاذب والتأرجح على الرغم من أنّها عضو في الحلف الأطلسي. الوضع اليوم أنّ كلّاً من إسرائيل وتركيا كسبتا نقاطاً وتقدّمتا إلى مواقع ومجالات جديدة. أمّا إيران فخسرت موقعين في لبنان وسورية، وتصدّعت حماس في غزّة، وانتشر الذعر في جبهتها مع العراق، بل وشاع الخوف في العراق نفسه.

لماذا خاف العراقيون وأرسلوا جيشهم للحدود مع سورية؟

قالوا إنّهم يخافون من الإرهاب، وهو الأمر نفسه الذي قاله الإسرائيليون بحجّة أنّ “هيئة تحرير الشام” تنظيم متطرّف. وهذا يعني أنّ النظام العراقي هشّ لأنّه يقوم على تحالف التنظيمات الشيعية الموالية لإيران، والتي انسحب بعضها على عجلٍ من سورية. رأساً قال لهم الأميركيون: لا بدّ من مصالحاتٍ مع الداخل السنّي والكردي، وانفصال الميليشيات المسلّحة عن الحكومة.

الأمين العامّ لـ”الحزب” نعيم قاسم قال أخيراً إنّ طريق الإمداد انقطع من طريق سورية. وزعم أنّ ذلك أمر “تفصيليّ”. وهو ليس كذلك على الإطلاق

الدليل على الإدراك للواقع الجديد هو خضوع الإيرانيين المستجدّ لمفتّشي الوكالة الدولية للطاقة الذرّيّة وميلهم المستجدّ للتفاوض. ويبدو أنّ “الحزب” المسلّح بلبنان يسير على النهج نفسه وإن بتدرّج أيضاً. فنعيم قاسم اعترف بضرورة الانسحاب من جنوب الليطاني، وبفقد خطّ الإمداد عبر سورية، وبالحاجة إلى التعاون في انتخاب رئيس للجمهورية، وبالعمل السياسي تحت سقف اتّفاق الطائف، وبالتزام “التمثيل الشعبي”. وسيتراجع أكثر كلّما تراجعت آثار الصدمة، وهو لا يستطيع العودة إلى المواقع السابقة حتى السياسي منها بعد فقد سورية وفقد الدعم الإيراني غير المادّي. ويضاف إلى ذلك استمرار إسرائيل في ملاحقته، بل وملاحقة النظام السوري الجديد.

مرّ مؤتمر عمّان بالعقبة الأردنية بمرحلتين: مرحلة أو ساعات الاجتماع العربي – العربي، ثمّ مرحلة الاجتماع العربي – الدولي الذي حضره الأميركيون والفرنسيون وممثّل الاتّحاد الأوروبي، ومندوب الأمم المتحدة بسورية.

وفي ما عدا القول بضرورة الانسحاب الإسرائيلي من الجولان المحتلّ، تركّز بقيّة البيان على دعم سورية الجديدة على أن تكون العملية السياسية شاملة، وتخضع لشروط وآليّات القرار الدولي رقم 2254، ولا تفرقة ضدّ الأقلّيات، والبعد عن التطرّف والإرهاب، ودعم عمليّات الإغاثة. وقد بدا الأميركيون والأوروبيون متفائلين بحذر. بينما يخشى الأردنيون من الفوضى والنزاع الداخلي. في حين كان أحمد الشرع (الجولاني) يقول للمبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن إنّه حان الوقت لإعادة النظر بالقرار 2254.

سقط المحور الإيراني في الحاضر على الأقلّ. وازداد النفوذ التركي، وقد يساعد ذلك في حلّ المشكل مع حزب العمّال الكردستاني في سورية وفي عودة اللاجئين

أمّا التطوّرات الداخلية فما يزال “الغموض البنّاء” يسودها. فالجولاني يريد حكومة تكنوقراط، ويتعامل مع أفراد الكفاءات وليس مع مجموعات، ويريد خبراء لكتابة الدستور. وقد يُجري تفاوضاً مع الأكراد الذين يعترف الجولاني باختلافهم فيما يبدو. أمّا بقيّة الشعب السوري فلا تمايز بينهم عنده. والحديث عن تسامح وليس عن حقوق سياسية. ولا مانع عنده أن يكون رئيساً للجمهورية ولا يريد حلَّ الجيش، وإنّما يريد تحويله إلى متطوّعين بحجّة تسهيل عودة اللاجئين الذين يخشون من التجنيد الإجباري. وفي انتخابات لبنان يفضّل قائد الجيش للرئاسة.

سقط المحور الإيراني في الحاضر على الأقلّ. وازداد النفوذ التركي، وقد يساعد ذلك في حلّ المشكل مع حزب العمّال الكردستاني في سورية وفي عودة اللاجئين. وربّما كان الأتراك (والأميركيون) يدعمون في سورية نظاماً إسلامياً (سكّر خفيف) إسلامويّ الميول.

يملك الأتراك قوّاتٍ في سورية، لكنّهم قوّة ناعمة وداعمة أيضاً. أمّا الإسرائيليون فقد تعاظمت أهوالهم في فلسطين ولبنان وسورية. وما يزال الناس ينتظرون العرب بعد اجتماع العقبة.

تغيّرت المنطقة، وأهمّ وجوه التغيير: تحطّم المحور الإيراني، وصعود النفوذ التركي، وسقوط بشّار الأسد، وتعاظم الأهوال الإسرائيلية. ومستحيل أن تستقرّ المنطقة بعد هذه الاهتزازات الجبّارة.

اساس ميديا

————————

هل تلاحق فوبيا “هل فعلوا بكِ شيئاً؟” الناجيات من سجون الأسد؟/ إسراء عرفات

الاثنين 16 ديسمبر 202411:43 ص

على مدار الأيام الماضية، وبعد سقوط نظام الأسد في سوريا، انكببتُ مثل العديدين غيري على الاستماع إلى شهادات الذين تحرّروا ونجوا من سجونه وأقبية زنازينه، ومع كلّ شهادة أسمعها أو حال أراه من أحوال هذه السجون، كنتُ أكتشف أنّ كلّ ما قرأته في أدب السجون على مدار سنوات عمري، من “القوقعة” إلى “شرق المتوسط” إلى “خيانات اللغة والصمت” وغيرها، لا يستعرض سوى هامشاً بسيطاً من أهوال تلك السجون وفظاعاتها الكثيرة.

كنتُ أستمع إلى شهادات الرجال والنساء الذين خرجوا وتحرّروا منها، وأشعر بأنّ إنسانيتي تبكي وتصرخ وتتألّم، وأفكّر بها ككائن من لحم ودمّ، تنزوي في جزء مني، تتكوّر على نفسها، وتغطي رأسها بيديها وتنتحب بأنين أسمعه، وأتذكّر تلكَ الصرخة الشهيرة في بدايات الثورة السورية: “أنا إنسان ماني حيوان، وهالعالم كلّها متلي”، وأشعر بأنّني أفهم مشاعر قائلها –الذي كان يبكي عندما قالها- أكثر من أي وقتٍ مضى؛ وكأنّ تلك الصرخة هي اعتراض داخلي بديهي يبديه الإنسان على انتهاك الإنسانية فيه وفي غيره.

لفتتني في تلكَ الشهادات، شهادة لامرأة نُقِلَ عنها أنّها دخلت أقبية سجون النظام وعمرها 19 عاماً، وخرجت منها وعمرها 32 عاماً، وبرفقتها أبناء لا تعرف آباءهم، وقد أشعرني قولها بالظلم والقهر المضاعف الذي قاسته جرّاء معايشتها لتجربة الاعتقال السياسي، لكونها امرأة قبل كلّ شيء.

تذكّرتُ ما قرأته مرة في إحدى الكتب، من أنّ “لأجساد النساء نقاط ضعف كثيرة في المعتقلات، لا اعتزاز بالأنوثة، بصدور ناهدة أو وجوه مدورة، وشفاه مكتنزة، لا فخر بقامة شهية وأذرع ناعمة أو أصابع نبيلة. كلّ المرأة إثم، جسداً وروحاً، وكلّها موضوع لممارسات السادية والانتهاك”، وقد دفعني ذلك للتساؤل حول السبب الذي يَجعل من جسد المرأة نقطة ضعفها عند خوضها لتجربة الاعتقال السياسي في الوطن العربي، أو لماذا يعود جسدها في هذه التجربة إلى تعاريفه البدائية الأولى، كذنب وخطيئة وإثم أبدي، تحمله كوشم وعلامة على العار؟

الاعتقال السياسي وأعباء الجسد الأنثوي

يُلاحظ عند النظر إلى سياقات النظام الأبوي الذي ينشأ فيه جسد المرأة في المنطقة العربية، أنّ المرأة العربية تُربى منذ نعومة أظفارها على أنّ جسدها هو ملك للعائلة البطريركية كاملة، ويكون على تلك العائلة اتخاذ مجموعة من الميكانيزمات والآليات حتى تحمي شرف هذا الجسد، وتمنعه من الوقوع في المحظور، فشرف الجسد الأنثوي، في منطق النظام الأبوي، هو شرف الرجل، وشرف رجالات العائلة، الذين يُختزل مفهوم الشرف لديهم في امتلاكه لأنّه مصدر كلّ عورة ودنس، وهو هنا قضية الرجال وقضية العائلة كلّها، وأي مسّ به، أو هتك لستره، يُمثّل مسّاً وهتكاً لشرف العائلة كلّها.

طالما استغلّت أنظمة الاستبداد العربية، كيفيات مفهمة الجسد الأنثوي في المجتمعات العربية وعائلاتها البطريركية المحافظة، فقد مارسَت هذه الأنظمة أساليب ضغط كثيرة على هذا الجسد، بهدف قيادة صاحباته –الرازحات تحت وطأة أثقال مفهمته وتعريفاته الاجتماعية- نحو الانهيار النفسي والاعتراف.

“ناجيات” كتاب يروي قصص بعض الناجيات

كتاب “ناجيات: شهادات حقيقية لناجيات سوريات من معتقلات نظام الأسد”، هو واحد من الكتب التي تتضمن سرداً وحديثاً نسوياً لناجيات من سجون النظام الأسدي.

تُظهر شهادات الناجيات في هذا الكتاب بأنّ عناصر النظام الأسدي وجهوا لهنّ العديد من التلميحات القذرة المتعلّقة بأجسادهنّ، وأنّ هذه التلميحات كانت تبدأ بوصولهنّ إلى فروع السجون ما إن يدخلنَ في غرف التحقيق أو حتى في مراحل قبلها، وقد ترافقت مع ممارسة شكل من أشكال التفتيش العاري والمهين لهنّ، والذي لا يحترم خصوصيتهنّ وأجسادهنّ، وكأنّ تلميحات سجانيهم وممارستهم مع أجسادهنّ، وإن تنوّعت وتعددت، إلا أنّها في مجملها تحمل أبعاداً جنسية، وتَستبطن إشارات واضحة بعدم وجود حرمة لتلك الأجساد، لأنّها أجساد مدنّسة وموصومة بصفات الدنس والنجاسة والخطيئة والعار الملاصق.

تكشف شهادات الناجيات بأنّ عناصر النظام الأسدي لم يكتفوا بتوجيه التلميحات لهنّ بالتعرّض لأجسادهنّ، فقد تعرّضّت العديد منهنّ لحوادث اغتصاب وحشية، كان البعض منها يحدث بشكل جماعي، ويترك المعتقلة التي تعرّضت له في حالة جسدية ونفسية مريعة.

تصف إحدى الناجيات حادثة اغتصابها من قبل واحد من المحققين وتقول: “ما أغبى من يقول ألا امرأة يُمكن لها أن تُغتصب بإرادتها.. ما أغباه وما أجهله. أنتَ تشاء أو لا تشاء.. لكنك تشاء على كل حال إذا شاء المحقق. كأنَّ لكَ إرادة أخرى ماضية فوق إرادتك تجيرها حيث تشاء دون أن تسلبكَ إرادتك، فتسلبك قدرتك على المقاومة أو الاعتراض، وتفعل ما تشاء تلكَ الإرادة حتى حين ترفضها”.

“هل فعلوا بكِ شيئاً؟”

اليوم مع تحرير المئات وربّما الآلاف من المعتقلات السياسيات من سجون نظام الأسد، سيكون هناك سؤال سيقابلنَ به من قبل آبائهنّ وعائلاتهنّ بعد خروجهنّ من تلكَ السجون، وهو سؤال: “هل فعلوا بكِ شيئاً؟”، وهذا السؤال لن يأتي ليستفسر عن صنوف العذابات الجسدية التي كنّ يلاقينها، من شبح وضرب وصعق بالكهرباء وقلع للأظافر وغيرها، بل سيوجّه إليهنّ ليستفسر عن مدى تعرضهنّ لأشكال العنف الجنسي من تلميح وتحرّش، وصولاً للاغتصاب.

وفي متن هذا السؤال ستكون أجسادهنّ هي السبب في النبذ الذي سيتعرّضن له من عائلاتهنّ ومحيطهنّ بعد الخروج من أقبية السجون التي اعتقلنَ فيها، لأنّ فرضية اغتصاب اجسادهنّ ستخرج في منطق العديد من معارفهنّ ومحيطهنّ، من احتمالية يُمكن أن تحدث أو ألا تحدث، وتتحوّل إلى حقيقة مؤكدة.

لا يُمكن لأولئك الناجيات المحرّرات من سجون النظام أن يعشنَ حياة طبيعية في مجتمعٍ أبويٍّ يقاضيهنّ على الاغتصاب كأنّه ذنب نتيجة فعل خاطئ ارتكبنه بإرادتهنّ، وهنّ مسؤولات عنه، مع أنّه قائم بالأساس على فكرة سلب الإرادة، وبعيداً عن استراتيجيات إعادة الاندماج الاجتماعي الكثيرة المطلوبة من المجتمع المحيط بهنّ لإعادة دمجهنّ به وتفعيل أدوارهنّ ضمنه، لا بدّ أن يتحرّر المجتمع السوري من أبويته، ومن الفوبيا الجماعية التي يحتويها ضمنياً سؤال: “هل فعلوا بكِ شيئاً؟”، وهي الفوبيا التي ما أن تصيب مجتمعاً ما حتى تجعله يتطلّع إلى جسد المرأة باعتباره هاجسه الأوحد والوحيد.

رصيف 22

——————————-

وثیقة العھد الوطني السوري

إلى الشعب السوري

تدخل سوريا مرحلة تاريخية جديدة، تنتقل خلالها من الاستبداد والقمع إلى الحرية والكرامة المنشودة.

مرت سوريا بمخاض عسير ودموي، منذ أن خرج السوريون والسوريات إلى الشوارع في عام ٢٠١١ بثورة شعبية مطالبين بحريتهم وكرامتهم وحقوقهم المنتقصة، حيث تمت مواجهتهم بالعنف والقمع والقتل وتدمير البلاد، على أيدي نظام مجرم ارتكب كل أنواع جرائم الحرب، بما فيها استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، والحصار والتجويع، والتغيير الديموغرافي، والتعذيب، بدعم من حلفاء دوليين شاركوا النظام في جرائمه ضد الشعب السوري، وفرضوا سيطرتهم على مفاصل البلاد ومواردها. بالإضافة إلى دخول القوى الظلامية بأجندتها الرجعية إلى الأرض السورية، محاولة فرض نفوذها وأيديولوجيتها بقوة السلاح، وارتكبت جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان.

عانى السوريون في الداخل من القهر والفقر والحرمان، وسياسة الفساد المستشري في مفاصل الدولة، وتدمير البنى التحتية، وتهجير الموارد البشرية. حيث تشرد ما يقارب نصف الشعب السوري إلى دول الجوار والعالم، وهو ما أوصل البلاد إلى حالة من الفشل في كل نواحي الحياة، في ظل جمود سياسي قاتل، وتعنت النظام نحو عدم الانخراط في العملية السياسية، وفشل المجتمع الدولي باتخاذ قرارات حاسمة تؤدي إلى انفراجات سياسية تحقق الانتقال نحو الدولة المنشودة. وتسببت التجاذبات السياسية، بفعل تأثير قوى إقليمية ودولية، بفشل أداء المعارضة السياسية، وحاول النظام بدعم من حلفائه خلق مسارات جانبية تجهض الحل السياسي وفق المنظور الأممي، وتحاول اختصار قضية شعبنا بتسويات لا تتفق مع المصلحة الوطنية السورية، ولا تحقق حلاً سياسياً مستداماً، ولا عدالة لضحايا جرائم الحرب

كل ذلك دفع الشعب السوري بقواه الحية وقدراته الذاتية إلى الاندفاع نحو معركة تحرير وطنية كبرى، أصبحت على عتبة الخلاص من بقايا منظومة الأسد المجرمة، والقطع مع نظام الاستبداد والقهر.

وهو ما دعانا، كمجموعة من السوريين والسوريات المؤمنين بالمصلحة الوطنية السورية، لإطلاق وثيقة العهد الوطني السوري هذه، المستمدة من روح أول وثيقة عهد وطني توافق عليها السوريون عام ٢٠١٢، وتم تطويرها لتكون وعاءً يتسع لتطلعات كل السوريين دون استثناء.

إن المرحلة الصعبة التي نمر بها اليوم تتطلب من كل الشخصيات والقوى الوطنية السورية، ومن السوريين عموماً في كل سوريا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، التعاضد والتكافل، وتبني رؤية وطنية لتعزيز إنجاز التحرر الوطني بجهود جميع السوريين والسوريات، ويحقق تطلعات الشعب السوري في الخروج من هذه المرحلة الحرجة والحساسة نحو استقرار مستدام وشامل، يقوده نخبة من الكفاءات الوطنية التي تضع المصلحة السورية أمامها بوصلةً لمسارات النضال القادمة.

وبإطلاقنا هذه الوثيقة، فإننا ندعو جميع السوريين لتبنيها والتوقيع عليها من أجل تحقيق الآمال بالوصول إلى دولة ديمقراطية تعددية عصرية منفتحة على العالم، تساهم في إثراء الإرث الإنساني، وبناء السلام الدولي، وتتحقق فيها .المصلحة الوطنية السورية ورفاه مواطنيها،والخلاص من كل أشكال الاستبداد.

وثیقة العھد الوطني السوري

یشكل ھذا العھد المؤسس مرجعاً للمبادئ الدستوریة في سوریا، الذي یعتمد قیم الحریة والعدالة والسلام. ویعتبر الدولة كیاناً تاریخیاً للوعي المعرفي الحضاري، قائماً على الشراكة والمواطنة المتساویة، تقودھا المؤسسات المدنیة المستقلة، دولة محایدة تجاه جمیع مواطنیھا.

1

الإنسان ھو غایة العلاقة بین أبناء الوطن الواحد، التي تتأسّس على الالتزام بالمواثیق والعھود الدولیة لحقوق الإنسان بما فیھا الحقوق الاقتصادیة والسیاسیة والمدنیة والثقافیة والبیئیة التي كرستھا الإنسانیة، وضمان التمتع بھذه الحقوق لجمیع المواطنین.

2

الشعب السوري سید على أرضه وفي دولته، ضمن وحدة سیادیة لا تتجزأ ولا یجوز التخليّ عن أي جزء منھا وللشعب السوري الحق في النضال من أجل استعادة أراضیه المحتلة بكل الوسائل التي أقرّتھا الشرعیة الدولیة لمقاومة الاحتلال.

3

الشعب السوري شعب واحد، یتساوى أفراده في الحقوق والواجبات دون أي تمییز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدین أو المذھب. ترتكز المواطنة على أساس عقد اجتماعي وطني شامل، حیث لا یجوز لأحد فرض دین أو معتقد على أحد.

4

الشعب السوري بعمقه الحضاري والثقافي والدیني الثري والمتنوع، یبني دولته على قاعدة الوحدة في التنوع بمشاركة كل مكوناته دون أي تمییز أو إقصاء.

5

تشكّل الحریات الفردیة أساسا للعلاقة بین أبناء الوطن الواحد، وتكفل الدولة الحریات العامة والخاصة، بما فیھا حریة الإعلام والحصول على المعلومة، وتشكیل المنظمات غیر الحكومیة والنقابات والأحزاب السیاسیة، وحریة الاعتقاد وممارسة الشعائر، وحریة التظاھر والإضراب والاعتصام السلمي. كما تكفل الدولة السوریة احترام التنوع المجتمعي ومعتقدات ومصالح وخصوصیات كل أطیاف الشعب السوري.

6

حمایة الإنسان وكرامته وسلامته على أرض سوریا تستوجب نبذ المذھبیة والطائفیة السیاسیة والإرھاب والعنف.

7

ینص الدستور والقانون على التزامه بحقوق الطفل، ووضع المعاییر والسیاسات الضروریة للرعایة الصحیة والنفسیة والتعلیمیة والخدمات الاجتماعیة والمدنیة والقانونیة المتعلقة بالطفل.

8

النساء متساویات في الحقوق والواجبات مع الرجال، ولا یجوز التراجع عن أية مكتسبات لحقوقھنّ. كما یحق لأي مواطن أو مواطنة أن یشغل جمیع المناصب في الدولة، بما فیھا منصب رئیس الجمھوریة. یضمن الدستور العمل على إزالة كافة أشكال التمییز ضد المرأة، ویؤكد على ضرورة تعزیز البنى التشریعیة والقانونیة التي تؤمن تمكینھا ومشاركتھا سیاسیاً واقتصادیاً واجتماعیاً فیما یتفق مع كل المواثیق الدولیة ذات الشأن.

9

التأكید على احترام حقوق ذوي الاحتیاجات الخاصة، بما فیھا الضمان الاجتماعي والصحي، وتوفیر مستلزمات المشاركة التامة في العمل والنشاطات العامة والتواصل الاجتماعي والثقافي.

10

یضمن الدستور حمایة الملكیة الخاصة، التي لا یجوز الاستیلاء علیھا مطلقا إلا للمنفعة العامة ضمن القانون، ومقابل تعویض عادل. ویمنع القانون أي شكل من أشكال تجییر المال العام لمصالح خاصة.

11

یعتمد الدستور الجدید الفصل التام بین السلطات التنفیذیة والتشریعیة والقضائیة، ویقر أسس النظام الدیمقراطي ونظام انتخاب عصري وعادل یضمن حق مشاركة كافة التیارات السیاسیة، وفق قواعد تؤمن أوسع تمثیل للشعب واستقرار نظام الحكم، وتضبط بشكل دقیق الموارد المالیة وإنفاق الأحزاب والجماعات السیاسیة.

12

تصون الدولة المال العام والملكیة العامة لمنفعة الشعب، وتقوم سیاستھا على العدالة الاجتماعیة والتنمیة المتوازنة المستدامة، وإعادة توظیف الدخل والثروة، وإقرار نظام ضریبي بین الفئات الاجتماعیة وبین المناطق، وضمان حریة الاستثمار ضمن ضوابط تكافح الاحتكار وتحمي حقوق جمیع المواطنین، وبناء نظام اقتصادي تنموي.

13

حمایة البیئة والتراث الوطني والإنساني في سوریا جزء لا یتجزأ من حمایة الإنسان والوطن.

14

الجیش السوري ھو المؤسسة الوطنیة التي تحمي حدود الدولة وتصون استقلالھا وسیادتھا على أراضیھا، تحرص على الأمن الوطني ولا تتدخل في النشاطات السیاسیة.

15

تعتمد الدولة مرحلیاً اللامركزیة الإداریة، بحیث تقوم الإدارة المحلیة على مؤسسات تنفیذیة تدیر شؤون المواطنین والتنمیة في المحافظات والمناطق، بھدف الوصول إلى تنمیة مستدامة ومتوازنة.

16

سوریا جزء من المنظومة الدولیة، وھي عضو مؤسس في ھیئة الأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنھا، وھي ملتزمة بمیثاقھا، وتسعى مع غیرھا من دول العالم لإقامة نظام دولي عادل، نظام قائم على التوازن في العلاقات، وتبادل المصالح والمسؤولیة المشتركة في مواجھة التحدیات والأخطار العامة التي تھدد الأمن والسلام الدولیین.

دمشق 16/12/2024

————————-

وزير الإعلام السوري محمد العمر: شعارنا دعم حرية الصحافة والتعبير عن الرأي

عبسي سميسم

ديسمبر 17, 2024

عقوداً طويلة بقي المشهد الإعلامي السوري حبيس النظام وأجهزته الأمنية، سواء الإعلام المرئي أو المكتوب، إلى جانب فرض النظام المخلوع رقابة حديدية على المحتوى الإلكتروني في السنوات التي تلت اندلاع الثورة عام 2011. وحاول بشار الأسد مع أجهزته الأمنية تطويع مختلف القوانين لمحاصرة الفضاء الإعلامي، سواء من خلال تشديد العقوبات على صنّاع المحتوى أو من خلال ملاحقة واعتقال الصحافيين وسجنهم من دون محاكمات. اليوم وبعد إسقاط النظام تبدو إعادة بناء المشهد الإعلامي، والتأسيس لمرحلة جديدة في التعامل مع الصحافة وحريتها، ركناً أساسياً من أركان “سورية الجديدة” مهمّة صعبة وطويلة، خصوصاً في ظل ترهّل المؤسسات وانعدام أي هامش من هوامش الحرية أو العمل المهني أكثر من خمسة عقود. ويتحدّث وزير الإعلام في حكومة الإنقاذ محمد العمر في مقابلة مع “العربي الجديد” في مكتبه في وزارة الإعلام، عن كل هذه التحديات وتصوّره للمشهد الإعلامي الجديد، وشدّد فيها على التمسك بحرية الصحافة والتعبير عن الرأي.

بعد إسقاط النظام، وسقوط المنظومة الإعلامية التي رافقته 13 عاماً، يبدو مستقبل الإعلام الحكومي ضبابياً، هل لديكم تصور واضح عمّا سيحل بالإعلاميين الذين يعملون في الإعلام الرسمي؟ وهل هناك إمكانية للعمل مع الفريق نفسه الذي قاد الإعلام طوال هذه السنوات؟

منذ تحرير مناطق سورية من خلال عملية ردع العدوان، وجدنا أن وسائل إعلام عديدة عاملة لدى النظام المجرم سُخّرت لتحسين صورة النظام ورئيسه أمام الشعب السوري، إذ وجدنا ما يزيد عن 20 مؤسسة إعلامية يعمل فيها أكثر من عشرة آلاف عامل بين صحافي وإداري وتقني… أسس النظام المخلوع هذه المؤسسات على أساس طائفي، وبناءً على المحسوبيات، وعلى المنفعة الشخصية؛ لذا وجهنا منذ بداية “ردع العدوان” نداءات للعاملين في هذه المؤسسات للعودة إلى مواقعهم، ومتابعة عملهم واستمرارهم في أداء واجباتهم، بالتوازي مع باقي المؤسسات. لكن للأسف المنظومة مبنية بشكل متهالك سواء لناحية التجهيزات القديمة أو لناحية الخبرات الضعيفة والترهل الإداري. انطلاقاً من هذا الواقع، سنعيد تقييم هذه الخبرات والكفاءات، ونعيد تموضع كل شخصية في مكانها بناء على خبرتها وكفاءتها، وسنبدأ صفحة جديدة في تاريخ سورية نعيد فيها ملكية وسائل الإعلام السورية إلى السوريين، لتكون وسيلة لإيصال صوتهم، إلى الجهات العاملة على خدمتهم، في الحكومة وغيرها.

قالت وزارة الإعلام قبل أيام إن المراسلين الحربيين، الذي رافقوا جيش النظام خلال سنوات الثورة في عملياته ومجازره، سيتلقون محاكمات عادلة، ما معنى ذلك وكيف ستتم تلك المحاكمات، وهل ستنجح في الابتعاد عن المنطق الانتقامي؟

هناك إعلاميون رافقوا جيش النظام في إجرامه بحق الشعب السوري، وتلطخت أيديهم بالدماء، ما قصدناه في التصريح الذي صدر عن وزارة الإعلام هم هؤلاء الذين ثبت إجرامهم بشكل واضح للعلن وهناك إدانات ثابتة بحقهم، في مشاركتهم الإجرام بحق السوريين بحسب القانون، وبطبيعة الحال نحن نسعى لإقامة دولة قانون، والقضاء هو من يبت في هذه القضية التي تخص المراسلين الحربيين.

الإعلام السوري بعد سقوط النظام: عندما ضاع الخطاب

في ما يخص المشهد الإعلامي الجديد هل سيكون مفتوحاً للإعلام السوري الخاص، ولوسائل الإعلام الأجنبية، وهل من قيود أو شروط معينة؟ أم سيبقى المشهد كما كان، على أن تكون الأولوية لتمكين الإعلام الحكومي؟

منذ انطلاق عملنا في وزارة الإعلام في شمال غرب سورية، وضعنا نصب أعيننا التركيز على دعم حرية الإعلام والتعبير عن الرأي، وحاولنا إيجاد وتأمين السبل المختلفة التي من شأنها تأمين الدعم للعاملين في المجال الإعلامي من أجل ممارسة عملهم وأداء واجباتهم، بأسهل الطرق والوسائل. وقدمنا الدعم والمساندة لوسائل الإعلام في شمال غرب سورية في هذا السياق، وسعينا إلى إيصال المعلومة من مصدرها، ونحن مستمرّون على هذا النهج في عموم سورية، وسنعمل على إيجاد بيئة عمل محفزة للإعلاميين. فقد استقبلنا منذ تحرير سورية أكثر من 700 وفد إعلامي دخلوا من مختلف معابر سورية، غطوا الأحداث بكل حرية، تدخلنا الوحيد تنسيق دخولهم لتأمين سلامتهم، كما استقبلنا في فترات سابقة مئات الوفود الإعلامية والصحافية في شمال غرب سورية، ووجهنا دعوات مباشرة إلى مختلف وسائل الإعلام على مستوى العالم للحضور إلى مناطق شمال غرب البلاد وتغطية ما يجري هناك، وسنستمر أيضاً في سورية اليوم بتيسير هذه الإجراءات لممارسة العمل الصحافي بشكل مرن وسلس.

في المستقبل، نطمح طبعاً إلى تهيئة بيئة عمل إعلامي أفضل من البيئة الحالية، بالتأكيد الأمور الآن غير مرتبة كما يجب، ولكن شعارنا هو دعم حرية الصحافة والتعبير عن الرأي، التي نعتبرها جزءاً مهماً من آليات الرقابة المجتمعية على عمل الجهات الحكومة، سواء من خلال الإشارة إلى الخطأ من أجل تصويبه، أو التنبيه إلى طرق أفضل للعمل.

القابات والاتحادات والجمعيات، نعتبرها من مؤسّسات المجتمع المدني وهي جهات راعية لمصالح وحقوق العاملين في المهنة، لن نتدخل في ترتيب هذه الأجسام

هل ستعتمدون خطاباً إعلامياً موحداً، وسيتم إلزام وسائل الإعلام به كما كان سائداً في سورية؟ كيف ستتعاطون مع الإعلام المعارض لتوجهاتكم، بمعنى هل سيتاح له المجال للتعبير عن رأيه، أم ستفرض رقابة على المحتوى المعارض لسياساتكم؟

خلال مسيرة عملنا في ما سبق، لم نصدر أي توجيه إلزامي لأي إعلامي أو جهة إعلامية تعمل في مناطقنا باعتماد أي خطاب للالتزام به بوصفها رسائل عامة، وإنما على العكس تماماً، حصلت مظاهرات واحتجاجات عديدة في مناطق شرق سورية ضد حكومة الإنقاذ في شمال غرب سورية قبل التحرير، ومارس الإعلاميون عملهم بشكل حرّ، بل رافقنا الوفود الصحافية والإعلامية، وكان لنا حضور بصفتنا وزارة إعلام مع المتظاهرين لتأكيد عدم التعرض للصحافيين، وعدم التعرض لأي نشاط في سياق حرية الرأي. عملنا هو دعم نشاط وسائل الإعلام وتيسير عملها، ولا نفرض أي أجندات أو رسائل على وسيلة أو شخصية إعلامية نشطة في المناطق السورية.

يعمل الصحافيون السوريون في أوضاع سيئة جداً سواء لوجستياً أو من ناحية الرواتب والوضع الاقتصادي والتأمينات. وهناك عشرات الصحافيين المختطفين لدى جهات مختلفة، سواء الذين اعتقلهم نظام الأسد وأخفاهم، أو الذين اختطفهم تنظيم داعش وتنظيمات أخرى، هل هناك خطوات اتخذت أو ستتخذ للكشف عن مصيرهم؟

وثقنا في الوزارة أسماء جميع المفقودين من الزملاء الإعلاميين في الفترة السابقة، كما وثقنا كل الشهداء الذين قتلتهم جهات مختلفة في البلاد، وسنولي في الوزارة أولوية وأهمية خاصة لهذا الملف، وسنبذل قصارى جهدنا للوصول إلى معلومات عن مصير الصحافيين المفقودين، وبالفعل بدأنا عملية البحث في سجون النظام المجرم، نواصل البحث عن أي أدلة قد تفيد في التعرف على مصيرهم.

كذلك يجب ألّا ننسى من تركوا عملهم الصحافي في بداية الثورة وانشقوا عن النظام ورفضوا أن يكونوا أدوات للتضليل الإعلامي، الذي مارسه النظام، ورفضوا المشاركة في سياسته بقمع السوريين رغم التهديدات التي تلقوها، هؤلاء بالتأكيد سنشكرهم في مبادرات خاصة، وستوجه إليهم دعوات أيضاً للعودة إلى مواقعهم التي كانوا يعملون فيها قبل بدء الثورة، فمكانهم محفوظ وسيتم الاستعانة بهم في أقرب وقت ممكن، للمشاركة في إرساء المشهد الإعلامي الجديد.

العربي الجديد

—————————

وزير الخارجية الايراني لـ”النهار”: الأسد لم يظهر مرونة وسنبدأ مباحثات مع السلطات

لا نتوقع تغييراً في موقعنا في المنطقة وهذه رؤيتنا لحزب الله القاهرة – ياسر خليل المصدر: النهار

17 كانون الأول 2024

كشف وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي نقل طهران عن معلومات موثوقة عن تحركات واتصالات مكثفة تمت في عواصم الدول المجاورة لكسب تأييدها ودعمها لإسقاط النظام في سوريا. واتهم نظام الرئيس السوري بشار الأسد بمسؤولية في ما حصل، قائلاً: “كان من المتوقع أن تظهر الحكومة السورية مرونة تجاه المبادرات والاقتراحات الدبلوماسية الرامية إلى إشراك المعارضة في السلطة، وهو ما لم يحدث”.

وفي حديث حصري لـ”النهار”، تحدث عراقجي عن تأثير التحولات في سوريا على نفوذ طهران في المنطقة ومسار العلاقة المتوقعة مع الحكام الجدد لسوريا والعلاقة مع تركيا و”حزب الله” واحتمالات المساهمة في إعادة اعمار لبنان. كذلك، تطرق إلى تأثير التطورات الإقليمية على تنظيم العلاقات بين دول المنطقة والمسار المحتمل للعلاقات بين طهران والادارة الاميركية الجديدة. وهنا نص الحوار:

منطقة الشرق الأوسط شهدت منذ السابع من أكتوبر 2023 تطورات سريعة ومعقدة للغاية، وكان سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا نقطة تحول بارزة فيها. كيف حدث هذا السقوط السريع لأحد أهم الحلفاء الإقليميين لإيران؟

خلافاً للاجواء الإعلامية، لم أرَ شخصياً تطورات سوريا أمراً غير متوقع. السبب وراء السقوط السريع يحتاج إلى دراسة عناصر الأرض، والزمان، والأرضية. الأحداث التي بدت ظاهرياً مفاجئة وسريعة كانت لها، في الواقع، جذور وأرضيات حقيقية تعود على الأقل إلى عشر أو اثني عشر عاماً. خلال الأشهر الأربعة عشر الأخيرة، استهدفت الهجمات المستمرة التي شنها الكيان الصهيوني البنية التحتية الدفاعية لسوريا بهدف إضعاف الحكومة السورية. وتعدد الأطراف الخارجية، ذات الأهداف المتقاطعة وأحيانًا المتناقضة – والتي كان قاسمها المشترك إسقاط النظام القائم – أدى في النهاية إلى التطورات السريعة التي شهدناها.

منذ مدة طويلة، ومن خلال مراقبة تحركات إسرائيل الإقليمية، خصوصاً بعد السابع من أكتوبر، توصلنا إلى تقييم مفاده أن الأوضاع ستصبح صعبة على الحكومة السورية، وأن استمرار الحكم سيواجه تحديات كبيرة.

نقلنا هذه الرؤية بوضوح إلى رئيس الجمهورية في سوريا في سبتمبر الماضي. المسألة أن التخطيط كان يتم خارج المنطقة. كانت لدينا معلومات موثقة وعديدة عن التحركات والاتصالات المكثفة التي تمت في عواصم الدول المجاورة لكسب تأييد هذه الدول ودعمها. السياسة الأميركية القائمة على التهديد والإغراء لدفع دول المنطقة نحو صراع واسع بهدف إنقاذ إسرائيل لم تكن خافية حتى على وسائل الإعلام.

كان من المتوقع أن تظهر الحكومة السورية مرونة تجاه المبادرات والاقتراحات الدبلوماسية الرامية إلى إشراك المعارضة في السلطة، وهو ما لم يحدث. منذ انطلاق مسار أستانا، كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية دائما داعمة للمفاوضات الثلاثية مع تركيا وروسيا، كما أجرت اتصالات مباشرة مع وفود المعارضة السورية، حيث جرت ساعات طويلة من المناقشات وتبادل وجهات النظر معهم. وفي كل مرة، كنا نقدم مقترحات المعارضة اضافة إلى ملاحظاتنا إلى السلطات العليا في دمشق فضلا عن نقل ما جرى في مباحثات أستانا.

 دعم إيران كان عاملاً رئيسياً في صمود النظام السوري السابق في مواجهة الانتفاضة ضده عام 2011. فلماذا لم تدعم طهران هذا النظام في مواجهة تحرير الشام؟

-دعمنا لسوريا كان دعما لدولة بناءً على طلب رسمي من حكومتها الشرعية، بهدف منع سيطرة الإرهاب والتطرف الوحشي والعنيف لداعش. هذا التدخل كان يهدف إلى حماية دولة مهمة في المنطقة من الوقوع في الفوضى والقتل والجرائم والتحول إلى “دولة فاشلة”، وكذلك للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، والذي نعتبره دائما جزءاً لا يتجزأ من أمننا القومي.

علينا أن نتذكر أن سوريا كانت تواجه تهديداً وجودياً لوحدة أراضيها نتيجة صعود إرهاب داعش الجامح. كانت خطوطنا الحمراء واضحة، كما أكدتُ قبل زيارتي الأخيرة إلى سوريا في مطار طهران، وهي الحفاظ على الحدود السياسية والسيادة الوطنية لدول المنطقة.

أثبتنا هذا الموقف خلال الأزمة التي واجهتها تركيا في 15 يوليو 2016؛ إذ كانت إيران أول دولة وقفت ضد الانقلاب الذي هدد سيادة تركيا الوطنية.

كنتُ في ذلك الوقت نائب وزير الخارجية، وكنتُ حاضراً في غرفة الأزمة التي شُكّلت، وكنتُ شاهدا على الاتصالات الهاتفية المستمرة والطويلة بين المسؤولين الإيرانيين، وكذلك على التنسيق المتعدد بين عسكريينا ونظرائهم الأتراك. لذا، كما أن حماية السيادة الوطنية التركية وحدودها تُعد أولوية بالنسبة لنا، فإن لدينا نفس الرؤية تجاه سوريا وجميع الدول المجاورة والمنطقة. ومن الطبيعي أننا لسنا مُلزمين بالقتال بدلاً من جيش دولة أخرى، ولكننا سنبدي تعاونا في مواجهة التهديدات الموجهة للأمن القومي لجيراننا من قِبل القوات الأجنبية، أو التيارات الإرهابية والانفصالية، وذلك بعد تلقي طلب منهم. هذا الأمر يُعد موضوعا مقبولا وفقا للقانون الدولي.

على عكس أميركا التي تحتل جزءاً مهما من سوريا دون أي إذن أو أساس قانوني، لم نتوجه أبدا إلى هناك بدون طلب وإذن من الحكومة السورية. راجعوا تاريخ إيران فيما يتعلق بعُمان؛ حيث حدث هذا مرتين في القرنين التاسع عشر والعشرين بناءً على طلب حكومات ذلك البلد. واليوم، تُعد سلطنة عُمان أقرب جيراننا من حيث التبادلات المختلفة في منطقة الخليج، فهي تمتلك الاستقلال والسيادة ووحدة أراضيها، ونحن نفخر بذلك. وبالنسبة لسوريا، فإن نظرتنا هي ذاتها. ومع ذلك، يجب أن أعترف أنه قد تم ظلم السياسة الإقليمية لإيران بسبب الحملة الإعلامية، وذلك ناتج من تقصيرنا من ناحية، ومن موجة التشويه الإعلامي العالمي من ناحية أخرى، التي بدأت مع الثورة الإيرانية. لقد تحوّل بناء صورة خاطئة عن إيران إلى عمل يمتد الآن إلى العالم الإسلامي، حيث يستفيد الكثيرون يومياً من ظاهرة الإسلاموفوبيا.

ماذا حدث في لقائكم الأخير مع الرئيس السوري في دمشق قبل عدة ايام من السقوط، هناك مواضيع كثيرة نشرت بهذا الشأن؟ هل نستطيع أن نسمع بشكل خاص من معاليكم انه ماذا جرى بالتحديد وهل أوصيتم الرئيس السوري بأن لا يقاوم؟

من المؤكد أن البروتوكولات الدبلوماسية لا تسمح لدولة بأن تقدم توصيات مباشرة إلى دولة أخرى، لكن مستوى التعاون والمشاورات بيننا وبين سوريا، والذي تطور خلال سنوات من التعاون الاقتصادي والصناعي والثقافي والسياسي، كان عاليا جدا فلذلك في جميع المشاورات كنا نتحدث بصراحة شفافية فيما بيننا. في ذلك اللقاء الأخير، كان حديثي مع الرئيس السوري مقسما إلى قسمين: عام وخاص. في كلا القسمين كنت صريحًا ودقيقًا، وأوضحت له الظروف وأكدت أن إيران تدعم بقوة وحدة الأراضي السورية وسعادة شعبها واستقرار مؤسساتها الحكومية ونحن ندعم هذه المبادئ الثلاثة التي تعتبر مجموعة مبادئ في تنظيم العلاقات الثنائية. منذ عام 2011، كنا دائما نقترح على الحكومة السورية ضرورة بدء حوار سياسي مع تلك المعارضة التي لا تُنسب إلى الإرهاب.

كيف ترى إيران تأثير هذه التطورات على دورها الإقليمي؟

الجيوسياسية والعمق الاستراتيجي لكل دولة يعتمد على موقعها الجغرافي من النواحي الطبيعية والبشرية والسياسية. طالما لم تتغير الحدود أو يتم تهجير السكان أو تبدل المعطيات السياسية، فإننا لا نتوقع تغيراً في موقعنا. إيران كانت ولا تزال شريكًا موثوقًا به لجيرانها، دون أن تكون لها أطماع في أراضيهم، بل تعمل على تسهيل التبادل التجاري.

أهم ما يميز إيران هو مقاومتها المستمرة لعدة عقود ضد أهداف الكيان الصهيوني، مما يبرز التزامها بالقضية المركزية للعالم الإسلامي ومواجهة الخطر الأكبر على أمن واستقرار غرب آسيا.

ما هو المسار الذي تفضلونه للحوار مع الحكومة القائمة في سوريا؟

القنوات الرسمية والدبلوماسية هي خيارنا المفضل، وهذا يعود إلى وجود التنسيق والضمانات اللازمة وفقًا لاتفاقية فيينا، لحضور الوفد الفني لوزارة الخارجية برفقة الدبلوماسيين المُعينين. سيتم تحديد الأضرار وتقديم تقرير بها إلى المسؤولين السوريين، وكذلك سيتم تجهيز السفارة في دمشق والقنصلية العامة في حلب لتقديم الخدمات من خلال الوفد الفني. وفي الوقت نفسه، ستبدأ المباحثات والتقييمات السياسية من قِبل الدبلوماسيين مع المسؤولين المطلعين وفقًا لمهامهم المعتادة.

ما هو شكل الحكومة الجديدة في سوريا الذي تفضله إيران؟

مثل أي بلد، يجب أن تكون الحكومة انعكاسًا لإرادة الشعب، وشاملة لجميع الفئات المؤهلة لتمثيل المجتمع السوري. يجب أن تسهم في تمهيد الطريق لحوار وطني يضمن وحدة سوريا داخل حدودها السياسية.

اعتقد أن الحكومةً التي تجعل من صون الحدود وممارسة السيادة مع الرضا الاجتماعي على الأراضي السورية أمرًا ممكنًا، فتحصل على عنصرين داخليين أساسيين، كما أن الحكومة التي تسعى لحسن الجوار مع الحفاظ على استقلال القرار في تنظيم العلاقات الدولية فتحصل على عنصرين خارجيين ضروريين للنظام المثالي والشامل الذي يمكن أن ينقذ سوريا.

 ما اقتراحكم للبدء في مسار ناجح للخروج من الأزمة وعودة السلام والاستقرار إلى سوريا وإقامة حكومة وطنية؟

في رأيي، هناك عدة خطوات ومراحل يجب مراعاتها:

اولًا؛ على المستوى الداخلي، يجب البدء بحوار وطني سوري ـ سوري بحيث يشعر جميع الشرائح المختلفة والمتنوعة من أبناء الشعب السوري بالمشاركة. وبالتزامن مع هذه الحوارات، يجب التركيز على مساعدة عودة اللاجئين.

ثانيًا؛ على المستوى الدولي، ينبغي عقد مؤتمر بمشاركة جميع الدول المساهمة لإعادة إعمار سوريا وتسوية ديونها، بحيث تساهم جميع الدول التي لها مستحقات لدى سوريا في دعم مستقبل هذا البلد. وفي هذا المؤتمر يتم تحديد الديون وجدولتها، كما تُحدد المساعدات والتعهدات اللازمة. من المهم للغاية أن يتم التركيز بالتزامن مع التقدم نحو الاستقرار السياسي الداخلي على تثبيت الاقتصاد السوري بشكل عاجل وفوري.

الخطوة الأخرى التي يجب اتخاذها لضمان نجاح هذين الإجراءين، هي تفعيل دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن لفرض الالتزام بتحرير الأراضي السورية وإعادتها إلى الشعب السوري. ويجب احترام وحدة الأراضي السورية.

آية الله علي خامنئي، قائد الجمهورية الإسلامية، اتهم دولة أخرى بالسعي لتغيير نظام الأسد، هل كان يقصد تركيا؟ وهل هناك اتصالات بين طهران وأنقرة بشأن مستقبل سوريا؟

إنّ المشاورات بين الدولتين الجارتين، إيران وتركيا، بشأن القضايا الإقليمية كانت ولا تزال قائمة طوال التاريخ الطويل للعلاقات بين البلدين. إنّ زيارتي من دمشق إلى أنقرة تُظهر مقاربة واضحة تعكس مستوى عالٍ من التعاون والمشاورات المستمرة حتى في ظل اختلاف وجهات النظر وتباين التوجهات. هذه المشاورات كانت قائمة طوال السنوات الأخيرة التي بلغت فيها الأزمة السورية ذروتها، من خلال آلية أستانا الثلاثية أو عبر اتصالات المسؤولين في البلدين. لقد شاركنا مخاوفنا خلال العديد من اللقاءات بشأن تأثير التطورات السورية مع نظرائنا الأتراك، ونعتقد أنه لا توجد دولة في جوارها يمكن أن تستغني عن الأخرى، فالأمن بين الجارتين مترابط.

وفيما يتعلق بتصريحات سماحة القائد، أود أن ألفت انتباهكم إلى النص الكامل لكلامه، حيث أكّد على أن “ما يحدث في سوريا هو خطة أميركية ـ إسرائيلية تلعب فيه دولة أخرى دورا واضحا”. ثم أوضح بشكل صريح أن “العامل الرئيسي المُتآمر والمخطط الأساسي وغرفة القيادة موجودة في أمريكا والكيان الصهيوني”.

برأيي، يجب الاستناد إلى النص الكامل لعبارات سماحته لفهم المعنى بدقة، وإلا سنقع في النظرة التبسيطية ونحكم بشكل خاطئ على الرؤية الاستراتيجية لإيران. من المهم ملاحظة أن سماحته أكد على “العبارة الرئيسية” ثلاث مرات. وبالتالي، أعتقد أن التصور الوارد في سؤالكم لا يستند إلى النص الصريح لكلام سماحته.

حول لبنان، أود أن أطرح عليكم سؤالاً يتكرر طرحه خلال الحرب الأخيرة: هل تعتبر إيران فعلاً حزب الله موضوعاً للتفاوض والاتفاق؟

استغربت قليلاً من سؤالكم، لأنكم تعرفون حزب الله أكثر مني. حزب الله كان دائماً جزءاً لا يتجزأ من المجتمع اللبناني، ولعب دوراً حاسماً في التحولات التاريخية للبنان خلال العقود الثلاثة الماضية. كذلك، رؤيتنا لحزب الله كانت ولا تزال مبنية على الإدراك الذي حمله قائده الشهيد ورفاقه. واليوم، مع القيادة الجديدة التي تتولى دفة حزب الله، لا تزال تلك الرؤية حاضرة لدينا.

حزب الله بالنسبة لنا دائماً كان قوة اجتماعية مؤثرة، وقوة عسكرية مدافعة، وحركة سياسية فعالة تسهم في الحفاظ على التماسك الوطني، واستتباب الأمن، ودعم البنية الدفاعية، وتوجيه سفينة لبنان في بحر الأحداث بالتعاون مع بقية اللبنانيين. هذا هو الأساس الذي تنطلق منه رؤيتنا لحزب الله.

بالإضافة إلى ذلك، لعب حزب الله دوراً محورياً بجانب الشعوب المسلمة والقوى العربية في الدفاع عن أرض فلسطين ومقاومة التوسع العدواني وبلا حدود لإسرائيل. هذا هو ما يجمعنا معه. وأعتقد أن جميع شعوب المنطقة مدينة لحزب الله وشعب لبنان على تضحياتهم.

إيران تقف إلى جانب جميع قوى المقاومة في الجبهة المناهضة للصهيونية، وهي بالتأكيد تدعم كافة القوى الإسلامية والعربية التي تنتمي إلى هذا المحور. وأكرر مرة أخرى أن المقاومة ضد الاحتلال والتوسع المستمر لإسرائيل ليست مجرد قضية عقائدية، بل هي واقع مهم وأهم أداة للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة بأسرها.

يوفر اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل مجالا للتحرك لإسرائيل، كيف تقيمون هذا الاتفاق؟

أولا أعتقد أن إسرائيل وافقت على هذا الاتفاق لأنها لم تكن قادرة على تحمل الحرب والمواجهة المباشرة. منذ أكثر من عام، يستهدف الجيش الإسرائيلي الرجال والنساء العزل والأبرياء في غزة بمن فيهم الأطفال والمسنين المرضى والعجزة بأقوى الضربات الممكنة – وهي كارثة القرن المعاصر- وحوّلهم إلى هدفه الرئيسي ويرتكب إبادة جماعية حقيقية. ماذا حققت هذه الوحشية؟ توسيع رقعة الحرب إلى لبنان واليوم إلى سوريا؟ ما هي القيمة المضافة التي خلقتها هذه الهجمات لإسرائيل؟ فسوى “‘إثارة كراهية عامة في العالم” وكشف الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني باعتباره كياناً يرتكب “الإبادة الجماعية” ومجرم حرب ملاحق من قبل المحكمة الجنائية الدولية ومدانا من قبل محكمة العدل الدولية، ما هي النتائج التي حققها؟ هذا ثمن باهظ وطويل الأمد يدفعه يهود أصبحوا في أسر فكرة الصهيونية. إن الصهيونة بالأمس متمثلة في غولدا ماير وشارون واليوم متمثلة نتنياهو أساءت استغلال عنصرين هما دين النبي موسى كليم الله والهوية العرقية لليهود. بالنسبة لي، تقديري هو أن نتنياهو الذي ينتهك اتفاق 21 مايو 1974 وقرار مجلس الأمن رقم 360 بشأن وقف الصراع مع سوريا، ولا يعتبر نفسه ملتزماً بأي مبدأ، لن يلتزم بوقف إطلاق النار. لهذا السبب، نعتقد أنه ينبغي للدول أن تقف موحدة وقوية في مواجهة هذه القوة المدمرة والشيطانية، بالاعتماد على مقدراتها الوطنية وقوة شبابها المتحمسین.

هل تساعد إيران على إعادة الإعمار في لبنان؟

أثبتت إيران أنها تساعد لبنان في أصعب الظروف. لقد أظهرت إيران إرادتها الثابتة عندما كانت أزمة الوقود في لبنان قد وضعت اقتصاد البلاد على حافة الإفلاس والانهيار. لا شك في أن الشهيد نصر الله لعب دورا فعالا في تلك الحالة بالذات، لكن بغض النظر عن ذلك فإن الروابط التاريخية والتفاعلات الثقافية بين شعبي إيران ولبنان، على الرغم من المسافة الجغرافية، شكلت أساس تعاطف التاريخي بينهما. منذ ثمانية قرون رسم سعدي الشيرازي، الشاعر الإيراني الذي كان ينشد أشعاره باللغتين الفارسية والعربية، مسار شعبنا بعناية إذ قال:

إن كنت لا تبالي بمحن الاخرين فلا تستحق أن تُسمَّى إنسانا

اتخذت إيران خطوات كبيرة نحو المصالحة مع دول شبه الجزيرة العربية. هل هناك جهود لتطبيع العلاقات مع مصر كذلك؟ وهل التطورات الجديدة لها تأثير عليها؟

إن تأثير التطورات الإقليمية على تنظيم العلاقات بين دول المنطقة واضح، خاصة أن جميع دول المنطقة مرت بتجارب مريرة من التطورات الناجمة عن تدخلات قوى من خارج المنطقة. الأمن والمصير المشتركين لدول المنطقة يحتمان على الحكومات اتخاذ خطوات أساسية في تنظيم علاقات مستقرة و مستدامة. على مدار عقود عديدة، شهدنا أن تطبيق سياسة “فرق تسد” التي انتهجها الاستعمار في القرن التاسع عشر والقوى العالمية في القرن العشرين، ترك تأثيراً مدمراً على التكامل الإقليمي. بعد ذلك، في فترات معينة، كان الفهم المشترك لدينا هو أن تعميق مستوى التعاون البناء يؤدي إلى تحسين مستوى العلاقات الرسمية، مما سيكون له على المدى المتوسط تأثير بناء على التبادلات الاجتماعية لدول المنطقة. من هذا المنطلق، تجدر الإشارة إلى أن هناك بعض التهديدات داخل المنطقة يمكن أن يؤدي تجاهلها إلى إلحاق أضرار كثيرة بالاستقرار ومسار التنمية لجيراننا الذين جعلوا البرامج الاقتصادية المهمة محور خططهم. ممارسات الجماعات الإرهابية والانفصالية، والمخدرات، والهجرة غير الشرعية، والمشاكل البيئية هي أمثلة واضحة على قضايا لا يمكن لأي دولة حلها بمفردها ودون رفع مستوى الاتصالات السياسية. الآن نشهد أحداثاً مهمة في سوريا. عنصر مدمر في المنطقة، وهو الكيان الصهيوني، يطبق منذ أكثر من عام علناً ودون توقف مشروع “المحو الاستعماري” – وهو تسمية استخدمتها المقررة الأممية المعنية بحالة حقوق الإنسان لوصف تلك الممارسات – فضلاً عن تدمير كافة البنى التحتية الأساسية للحياة في غزة. اليوم، في ظل الأحداث في سوريا، انتهك هذا الكيان اتفاقيات وقرارات مجلس الأمن ويعتدي على سوريا. إن مهاجمة قدرات سوريا الدفاعية والعلمية والتنموية وتدمير المدن والموانئ وخطوط المواصلات وقتل العزل أصبح إجراء روتينيا من قبل هذا الكيان في هذه الأيام وذلك بهدف تصدير مشاكل سوريا إلى دول الجوار والمنطقة. لا يمكن إنكار الأثر المدمر لمثل هذه التصرفات على المصير المشترك لدول غرب آسيا وشمال أفريقيا الكبيرة منها والصغيرة، لذلك، من الحكمة أن تعمل دول المنطقة على تحسين مستوى التعاون وتعميق العلاقات بين الحكومات والشعوب.

يعتقد البعض أن الحكومة الحالية في إيران لديها توجه إصلاحي. تحاول بلادكم تحسين علاقاتها مع الغرب وهي تهتم أيضا بإعادة تفعيل الاتفاق النووي. ما رأيك في هذا الأمر؟

جعلت الحكومة الإيرانية الحالية مبدأ واحداً أساس سياستها الداخلية: “الوفاق الوطني”، وأظهرت أنه بغض النظر عن التنوع في التوجهات السياسية والفروق المذهبية والعرقية، فإنه يمكن تشكيل حكومة موحدة ومتكاملة ودعوة مختلف شرائح المواطنين إلى التعاون في تحديد مصير البلاد. هذا هو نموذج للسيادة الشاملة والذي نطبقه الآن في إيران، وهو نفس النموذج الذي اعتمدناه كأساس لتقديم مشاوراتنا مع البيئة المجاورة، من أفغانستان إلى العراق وسوريا وجميع بلدان غرب آسيا. في امتداد السياسة الداخلية، يلقي هذا الوفاق بظلاله على الدبلوماسية وتنفيذ برنامج سياستنا الخارجية. لذلك، في برنامجنا النووي السلمي، تصرفنا بطريقة ملتزمة ومتعاطفة فيما يتعلق بالقوانين المقبولة، وإذا لم تحدث ممارسات خاطئة فلا نعتزم تغيير سياستنا. حتى عندما تم الاتفاق على خطة العمل الشاملة المشتركة كبرنامج مشترك بيننا وبين مجموعة 5+1، خطونا خطوات كبيرة استناداً إلى روح تلك الخطة والتي كانت قائمة على الإجماع والوفاق. اليوم، لا تزال قلما توجد شكوك في نوايانا. لكن نموذج الوفاق العالمي هذا تضرر عندما قررت الولايات المتحدة الانسحاب منه. حتى الآن ورغم كل الصعوبات حاولنا نحن وبعض الأعضاء الآخرين الحفاظ عليه. من وجهة نظر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إن إحياء الاتفاق النووي والحفاظ على روح الثقة والوفاق بين كل أعضاء مجموعة 5+1 هو الحل المناسب لبدء مرحلة جديدة وتحقيق نتائج مثمرة.

هل لديكم فكرة عن شكل العلاقات بين طهران وواشنطن عندما يدخل الرئيس الجديد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض الشهر المقبل؟

ليس من عادتي أن أحكم على الأمور في فضاء الخيال، بل أهتم بالمؤشرات المنطقية وتحليلها للتقييم والتنبؤ. بشكل عام، علينا أن ننتظر المزيد من المؤشرات حول الولاية الجديدة لترامب. إن مبدأ التغيير والتحول في السلطة في الولايات المتحدة، والذي يطبق من خلال انتخابات كل أربع سنوات، يسمح دائما للإدارات الأميركية بمراجعة سياسات قد تكون ناجحة أحياناً وغير فعالة أحياناً أخرى، وهذا أمر جيد بشكل عام أن يتمكن حكام أي بلد من التخلص من بعض السياسات التي اختارتها أو التوجهات التي فُرضت عليها. من وجهة نظري فإن توجيه علاقات الولايات المتحدة مع إيران طوال العصر الحديث تم على يد سوّاق ورّطوا الركاب باستمرار في تقلبات ومنحدرات. وبالمناسبة، في بعض الأحيان تخلق لعبة أو تجربة غير مكتملة وعياً أكبر يوفر فرصة لاتخاذ قرار شجاع بالتخلي عن نهج ما، ورمي الكرة داخل الحفرة بتسديدة دقيقة. أرى أن القيادة الأميركية في الولاية الرئاسية الـ47 هي استمرار للسير على نفس الطريق الذي سارت عليه منظومة صنع السياسة الأميركية التقليدية، لكن فيما يتعلق بالفترة المقبلة نجد بعض التصريحات والقرارات ينبغي الانتباه إليها في التقييم. على سبيل المثال، عندما يسمع مراقب أنه من المفترض اعتماد الكفاءة في تنفيذ البرامج الحكومية، يسأل نفسه: ما هو شرط الكفاءة؟ هل من المفترض أن تؤخذ الأرباح والخسائر بعين الاعتبار عند تنفيذ البرامج؟ إذا كان الأمر كذلك حقاً، وتم حساب خسائر الولايات المتحدة من المواجهة مع إيران والأخذ في الاعتبار بدقة فائدة تصحيح السياسة، فهو كأن سائق سيارة العلاقات الثنائية يفكر في تغيير الطريق واختيار مسار جديد. وحتى لو كان الطريق الجديد أطول من الطريق القديم الحافل بالتقلبات والمنحدرات، فهو يسمح بتسريع وتيرة الأمور وإيصال المسافرين المتعبين والقلقين إلى وجهتهم بسلام. لكن برأيي علينا أن ننتظر بدقة التحركات العملية، وننتظر الإجابة على سؤال ما إذا كانت الولاية الـ47 للرئاسة الأميركية ستشكل حقبة مميزة في تاريخ هذا البلد؟

اليوم تحظى التطورات الداخلية الإيرانية باهتمام كبير في المنطقة العربية. على سبيل المثال، أمور مثل الحجاب تثير ضجة كبيرة على المواقع الإلكترونية وتهتم وسائل التواصل الاجتماعي بكل ما يحدث في إيران وترصدها، ما رأيك في الأوضاع داخل إيران؟

أنا أنظر إلى القضايا بعناية من داخل هذا المجتمع. عندما أفكر بعمق في أن أفراد المجتمع ينظرون بمسؤولية إلى رسم مصير مستقبلهم ومستقبل أبنائهم؛ أو عندما يشاركون في بناء الخطاب الوطني من خلال طرح آرائهم ووجهات نظرهم المتنوعة، أشعر بالأمل. إنها ديناميكية المجتمع أن يطرح ويبين فيه معظم الناس أراءهم المختلفة فيما بينهم. ومن الطبيعي أن المشرّعين الذين يُنتخبون بشكل مباشر من قبل الشعب، والحكومة التي تشكلت على أساس أصوات أغلبية أبناء البلاد، يقومون بمهامهم في إطار الدستور. ما هي الصورة التي تصنعها قضايا مثل الحجاب، وقبول حالات عدم التوازن القائمة، ونموذج الحكم الناجح، والتمسك بالقيم الأصيلة للثورة، بما في ذلك الحرية والاستقلال، والاهتمام بالقيم الوطنية والدينية، والعديد من القضايا الأخرى التي يتم مناقشتها في المجتمع الإيراني بحيوية؟ أليس الأمر أن مجتمعاً ينوي رسم مسار المستقبل من خلال توظيف تجاربه والمقارنة بين حالات النجاح والفشل لدى شعوب العالم الأخرى؟ لذلك، رغم كل الأخبار الكبيرة والصغيرة، عندما أنظر إلى ديناميكية هذه الحركة، فإنني كوزير الخارجية أشعر بالفخر.

هل هناك رسالة أخيرة تود توجيهها لمنطقة الشرق الأوسط والعالم في ظل التغيرات التي نشهدها؟ إلى من ستوجهها؟ وما فحواها؟

مصير منطقة غرب آسيا يُصنَع من تصرفات وسلوكيات كل دولة في المنطقة؛ ونحن جميعاً نتحمل المسؤولية بشأن منع انزلاق سوريا نحو مصير مرير باختيارات خاطئة في الوضع الصعب الذي يعيشه هذا البلد. هناك قوة مدمرة “تستهدف” سكان هذه المنطقة بوحشية منذ أكثر من عام؛ وقد وضعت تدمير القدرات الدفاعية لدول المنطقة على “جدول أعماله”، ورسمت مهمة لنفسها هي تدمير البنى التحتية العلمية والتعليمية والمواصلاتية والصناعية والرأسمالية، وجعلت انتهاك سيادة الدول «استراتيجية» لنفسها. هذه الممارسات بدأت في غزة، امتدت إلى لبنان، واستهدفت إيران، وفي وقت يجب أن ينعم فيه الشعب السوري بالهدوء ليقوم باختياراته المصيرية، تواصل تطبيق خطتها الخبيثة في الأراضي السورية. إسرائيل تقف بوجهنا جميعا وبوجه جميع شعوب المنطقة. وبغض النظر عما إذا كنا في طهران والقاهرة وبيروت والرياض وأنقرة وأبو ظبي والدوحة وبغداد، يجب أن نعرف أننا مجموعة تاريخية متنوعة ذات لغات متنوعة مثل الفارسية والعربية والتركية والكردية والقبطية والآرامية وعلينا بناء حوار مع بعضنا البعض. لم تعد لغة هذا الحوار مهمة، لكن يجب أن نبحث عن “أساسيات هذا الحوار”. أما بالنسبة للعالم، إن شعوبنا في كل دولة من دول المنطقة تريد السلام والتعاون وتأمل أن تفهم الدول الكبرى هذه الرسالة وتتصرف بمسؤولية بشأن ماضيها. لذلك، أوجه رسالة إلى العالم كما طلبتم، وأقول: “من منظورنا، فإن التعويض عن الماضي هو فرصة يمنحها المستقبل القريب للعالم

النهار العربي

——————————–

================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى