سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
—————————————–
تفعيل دستور 1950 كمظلة للمرحلة الانتقالية في سورية/ محمد علي الأتاسي
تحية متأخرة إلى د.عبد الحي سيد
18-12-2024
في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2011، مع بدايات الثورة السورية، شيّعَ حي الميدان الدمشقي أحد أبنائه الشهداء، الطفل إبراهيم محمد شيبان الذي سقط برصاص الأمن السوري. خرج موكب التشييع يومها من جامع الدقاق في موكب مهيب شارك فيه أهالي حي الميدان والقدم، إلى جانب العديد من أبناء دمشق الذين توافدوا من بقية أحياء المدينة. وكما جرت العادة في تلك الأيام، ارتفعت الأهازيج والشعارات المُتحدية للسلطة وردَّدَ الجميع «حرية للأبد غصباً عنك يا أسد» و«بشار ما بنريده، السوري يرفع إيده»، ورشّ أهالي الحي الأرز والورود من شرفات المنازل فوق رؤوس المشاركين، قبل أن يطلق الأمن النار ويفرّق الحشود.
في ذلك اليوم، شارك الأستاذ الجامعي والمحامي الدكتور عبد الحي سيد، إلى جانب العديد من أصدقائه وزملائه المثقفين السوريين، في التشييع المهيب، قبل أن يعود وحيداً إلى منزله في حي المزة القريب بعد تفريق الحشود بالقوة، ليتفاجأ بالتلفزيون السوري يُعلن عن اسمه، دون أن يستشيره أحد، ضمن قائمة تضم 29 اسماً أوردها المرسوم الرئاسي رقم (33) لعام 2011 الذي أصدره بشار الأسد صبيحة ذلك اليوم، والذي ينصّ على تشكيل اللجنة الوطنية لإعداد مشروع دستور للجمهورية العربية السورية، برئاسة الدكتور مظهر العنبري وعضوية 28 من الحقوقيين والخبراء الدستوريين والوجوه السياسية المعروفة، على أن تُنهي اللجنة عملها خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر اعتباراً من تاريخ صدور هذا القرار، وعلى أن يتم لاحقاً إقراره وفقاً للقواعد الدستورية بحسب ما جاء في نص المرسوم الجمهوري. كانت تلك اللجنة واحدة من المحاولات المُبكّرة للرئيس المخلوع بشار الأسد في ادّعاء صياغة دستور جديد، والالتفاف بالتالي على المطالب الشعبية بإسقاط النظام وعودة الحياة الديمقراطية إلى سورية وتعليق العمل بدستور 1973 الذي فَصَّلَهُ والده الراحل على مقاسه لتأبيد النظام الاستبدادي.
في تلك اللحظات الحرجة كان مستحيلاً على الدكتور عبد الحي سيد، العائد لتوه من تشييع أحد شهداء الثورة، القبول بمثل هذا التكليف الرئاسي، وهو الذي عمل بصمت وتصميم خلال عهد بشار الأسد للمحافظة على استقلاليته، ولم ينفكَّ منذ ربيع دمشق يحاول من داخل سورية ومن قلب مدينة دمشق أن يتبنى، بالقول وبالفعل، خطاباً أكاديمياً وحقوقياً مُدافِعاً عن الحريات العامة والفردية وعن استقلالية المؤسسات التي يكفلها نص الدستور السوري نظرياً، والتي لم ينفكَّ تَغوُّلُ السلطة القائمة على انتهاكها عملياً والرمي بها عرضَ الحائط.
في ذلك المساء سطَّرَ الدكتور عبد الحي سيد، دون تردُّد أو وجلّ، كتاب استقالته مُشيراً فيه إلى أن أحداً لم يَستشِره في هذا التكليف، وأنه عَلِمَ من وسائل الأنباء بخبر تعيينه من قبل رئيس الجمهورية في هذه اللجنة، مُؤكِّداً بلهجة دبلوماسية، ولكن حاسمة، على رفضه المشاركة في أعمال اللجنة، مُشيراً إلى أنه كقانوني «يؤمن أن الصياغة المثلى للدستور تأتي عبر التداول في جمعية تأسيسية، كما عرفت سورية ذلك في أحقاب دستورية مختلفة».
طبعَ الدكتور عبد الحي كتاب الاستقالة على ورقة تحمل ترويسة مكتبه للمحاماة في دمشق، ومَهرها بتوقيعه وصَوَّرَها وحَمَّلَ الصورة على صفحته على فيسبوك، قبل أن يبعث بالنسخة الأصلية الى رئيس اللجنة الدكتور مظهر عنبري. وما هي إلا دقائق حتى بدأت وكالات الأنباء والتلفزيونات الفضائية تتداول خبر الاستقالة، مُفسِّرة الأمر بأنه تمرُّدٌ وكسرٌ لإرادة بشار الأسد ومرسومه الرئاسي، وبدأت معها الاتصالات والضغوط وعمليات الترغيب والترهيب لثني الدكتور عبد الحي عن قراره بالاستقالة. في حين التزمَ الدكتور عبد الحي الصمت واكتفى بنشر كتاب استقالته، وأبقاه على صفحته الفيسبوكية، رغم استدعائه من قبل نقيب المحامين بحضور مسؤول أمن النقابات لثنيه عن قراره دون جدوى.
لم تَكُن تلك هي المرة الأولى ولا الأخيرة التي استطاع فيها الدكتور عبد الحي سيد، من خلال تَمسُّكه بمناقبية المهنة وصلابة الإرادة، أن يُسجِّلَ مواقفَ مستقلة ومُعارِضة في مواجهة تَغوُّل السلطة، دون أي استعراض أو بطولات زائفة. ولم يكن الدكتور عبد الحي الشخصية الأولى، ولا الأخيرة، في سلسلة طويلة من الأسماء المستقلة التي بقيت في الداخل السوري، والتي عملت بصمت وإصرار على مقاومة الهيمنة السلطوية. فسورية لم تَخلُ يوماً خلال السنوات السوداء الماضية من النساء والرجال وأصحاب المهن الحرة، الذين عملوا بتصميم وصمت للدفاع عن استقلاليتهم المهنية والسياسية والفكرية، في مواجهة سلطة مستبدة تمادت في استباحة كل الفضاءات العامة المستقلّة داخل المجتمع السوري، وصولاً إلى اندلاع الثورة السورية في العام 2011.
أردتُ من خلال إيراد هذه الواقعة تبيان أهمية وخطورة الاستحقاقات المُتعلّقة بكتابة دستور جديد للبلاد بعد سقوط نظام الأسد، فالمسؤولية الأخلاقية والمهنية التي دفعت بالدكتور عبد الحي سيد لرفض قبول تكليف بشار الأسد له بالمشاركة في لجنة كتابة دستور للبلاد، من غير أن تكون هذه اللجنة مشكلة من جمعية تأسيسية لها صفة تمثيلية، يجب أن تحدونا اليوم إلى رفضِ أي محاولة من قبل سلطة الأمر الواقع لتعيين لجنة لكتابة دستور جديد للبلاد، حتى لو تم عرضه بعد ذلك على الاستفتاء الشعبي.
تمَّ اليوم، بعد سقوط نظام الأسد الدموي على يد هيئة تحرير الشام وتفكك بنيته الأمنية والعسكرية، تعليقُ العمل بدستور بشار الأسد للعام 2012، وتعليق مجلس الشعب وتنصيب الحكومة المؤقتة لإدارة شؤون البلاد خلال الفترة الانتقالية. وتشهد سورية مرحلة انتقالية غاية في الخطورة، سيترتبُ على مُخرجاتها شكلُ وآليةُ عمل نظام الحكم الجديد وموقعُ سورية في المنطقة والعالم.
لقد ترافق السقوط المدوي لنظام عائلة الأسد مع محاولة الهيئة وحلفائها في «إدارة العمليات العسكرية» الإمساك بزمام الأمور الأمنية والعسكرية في البلد، والاستئثار بإدارة المؤسسات الحكومية والنقابات المهنية في معظم الأراضي السورية كسلطة للأمر الواقع، وقد تَكرَّسَ ذلك من خلال الإعلان عن مرحلة انتقالية تمتد لثلاثة أشهر تديرها حكومة الإنقاذ القادمة من إدلب، إلى حين تشكيل حكومة جديدة وتنظيم آلية انتقال السلطة وشكلها.
في هذا السياق جاءت الإشارة الوحيدة، حتى تاريخ كتابة هذا المقال، لتشكيل لجنة تعنى بصياغة دستور جديد للبلاد، على لسان عبيدة أرناؤوط الناطق الرسمي باسم ما يسمى «إدارة الشؤون السياسية» لتلفزيون الجزيرة في 11 كانون الأول (ديسمبر)، أعلن فيها تعليق العمل بالدستور والبرلمان، وأكَّدَ بحرفية العبارة على أنه «ستُشكَّل لجنة دستورية من خيرة الحقوقيين والقانونيين، الذين سيعملون على النظر في الدستور السابق والعمل على تعديلات».
فداحةُ هذا التصريح وخطورته لا تتعلق فقط بأن تشكيل هذه اللجنة سيتم في الدوائر السلطوية الضيقة، بعيداً أي مشروعية شعبية وانتخابية، كما كان الحال مع لجنة كتابة دستور بشار الأسد التي انسحب منها الدكتور عبد الحي سيد لافتقادها الصفة التمثيلية، ولكن لأن مثل هذه القضايا المصيرية المتعلقة بصياغة دستور البلاد، وشكل الحكم وطريقة عمله، تفترضُ وجود جمعية تأسيسية مُنتخَبة ومُمثِّلة للإرادة الشعبية، تنبثق عنها لجنة لصياغة الدستور تتمثَّلُ فيها معظم القوى السياسية والمجتمعية والدينية وتتداول بشأن كل بنوده ومواده الشائكة، على أن يتم لاحقاً إقرار النسخة النهائية للدستور بالتصويت داخل الجمعية التأسيسية أو من خلال استفتاء شعبي حر.
منذ اليوم الأول لصدور هذه القرارات المرتبطة بتعليق الدستور والعمل على تشكيل لجنة لكتابة دستور جديد، ارتفعت الكثير من الأصوات السورية المُنتقِدة والمُحذِّرة من فرض لجنة لصياغة الدستور من قبل السلطة السياسية الجديدة، وتجددت النقاشات العامة من حول شكل نظام الحكم الجديد في سورية، في ظل تجاذبات ومخاوف من دفع القوى الإسلامية المهيمنة باتجاه إعادة تأسيس الدولة السورية على أُسس دينية بعيداً عن أي صيغة تشاركية، خصوصاً أن معظم الناطقين باسم هيئة تحرير الشام والإدارة السياسية لم ينفكوا يرددون عبارات فضفاضه من مثل بناء دولة المؤسسات ودولة العدل ودولة قانون، دون أي إشارة إلى مصطلحات مفتاحيه تحمل دلالات عميقة بالنسبة لاحتياجات الواقع السوري من مثل: الانتخابات، وصندوق الاقتراع، والإرادة الشعبية، ومجلس النواب، وسيادة الشعب، وفصل السلطات.
فداحةُ الأمر أن سورية تمر اليوم بمرحلة انتقالية غاية في الخطورة، ونجاح الثورة السورية يرتبط بتحصين هذه المرحلة الانتقالية من خلال تقصير مدتها الزمنية قدر الإمكان، وصولاً إلى بر الأمان المُتجسّد في إنتاج سلطة تنفيذية جديدة منبثقة من الإرادة الشعبية التي يمثلها صندوق الاقتراع والسلطة التشريعية.
لذلك فالسؤال المركزي اليوم بخصوص المرحلة الانتقالية لا يرتبط فقط بماهية وكيفية تشكيل حكومة انتقالية ذات صبغة تمثيلية، ولكنه يرتبط كذلك بالإطار القانوني والدستور المؤقت الذي سيحكم عمل هذه الحكومة في إدارة المرحلة الانتقالية. الهدف اليوم هو إيصال البلد إلى بر الأمان، وإلى صندوق الاقتراع وإلى الدستور الجديد، وقطع الطريق على قوى الثورة المضادة، الداخلية والإقليمية، المتربصة بالبلد والتي بدأت منذ الآن محاولة إجهاض الثورة السورية.
يبدو لنا أن خارطة الطريق إلى سورية الجديدة يجب أن تنطلق من القيام بمشاورات مُوسَّعة من أجل تشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط، تحمل صبغة تمثيلية واسعة وتجسّد قدرَ الإمكان التنوع السياسي والمجتمعي السوري، وتُشرف على إدارة المرحلة الانتقالية، وتحلُّ محل الحكومة المؤقتة التي عينتها هيئة تحرير الشام.
ومن ثم لا بد أن تتظافر الجهود، كل الجهود، للضغط من أجل إعادة العمل بدستور العام 1950 كوثيقة دستورية مؤقتة، تُنظّم عمل سلطات الدولة ومؤسساتها خلال هذه المراحل الاستثنائية التي تعيشها البلاد، وليكون هناك إطار قانوني ناظم للحكم خلال الفترة الانتقالية المحددة، ولتطبيق القوانين النافذة والحدّ من سلطة الأمر الواقع وتقييد عملها بأطر قانونية واضحة. ويجب أن يُتوَّجَ كل هذا المسار في الختام بإقرار قانون انتخاب ملائم للواقع الجديد، يسمح للشعب في نهاية المرحلة الانتقالية بانتخاب جمعية تأسيسية يمكن لها أن تتحول في النهاية إلى مجلس نيابي، ويعود إليها تشكيل لجنة لصياغة دستور جديد أو تعديل دستور العام 1950 ليتوافق مع متطلبات العصر الجديد.
لقد تناقشت النخب السورية وتصارعت على مدى قرن كامل في سياق صياغة وكتابة دساتير عديدة، وتداولت في قضايا شائكة من مثل مكانة الدين وشكل النظام البرلماني الجمهوري، بِدءاً من دستور العام 1920 الذي انبثق من لجنة دستورية برئاسة هاشم الأتاسي انتخبها المؤتمر السوري الأول، مروراً بلجنة دستور 1928 التي انتُخبت من قبل الجمعية التأسيسية بعضوية سبعة وعشرين عضواً برئاسة إبراهيم هنانو، ووصولاً إلى دستور العام 1950 الذي صاغته لجنة دستورية انتخبتها الجمعية التأسيسية من 33 عضواً برئاسة ناظم القدسي، ثم صوتت عليه الجمعية وأقرّته في 5 أيلول (سبتمبر) 1950، قبل أن يتم تعليقه بعد الانقلاب الثاني لأديب الشيشكلي.
يبقى أن دستور 1950 كان يعود في كل مرحلة تَحوّل ديمقراطي ليكون الضامنَ في الفترات الانتقالية، كما حدث مع انتخابات العام 1954 وانتقال السلطة من هاشم الأتاسي إلى شكري القوتلي، وكما جرى بعد الانفصال حيث أعيد العمل به وأجريت انتخابات العام 1961 على أساسه.
واليوم، وفي ظل هذه المرحلة الانتقالية الحرجة، سيكون من الجائر تشكيل لجان معينة من الأعلى لصياغة دستور جديد للبلاد بعيداً عن أي رقابة شعبية وصيغة تمثيلية واسعة، وفي غياب جمعية تأسيسية منتخبة تستطيع أن تتداول في بعض القضايا الدستورية الشائكة من مثل مكانة الدين الإسلامي أو شكل نظام الحكم، وهل هو جمهوري برلماني يُنتخَب فيه الرئيس من البرلمان أم جمهوري رئاسي يُنتخَب الرئيس فيه مباشرة من الشعب. وكل الخوف أن يؤدي هذا الطريق في النهاية إلى المضي قدماً باتجاه بناء ديكتاتوريات جديدة، وانبعاث مظلوميات قديمة.
لقد دفع الشعب السوري أثماناً باهظة، قتلاً وسجناً وخطفاً وتشريداً، من أجل أن يستعيد حريته بيده، وسيكون من الجائر أن تحاول بعض القوى المسلحة باسم المشروعية الثورية مصادرة ثورته وإرادته الحرة. لا، لن تُسامحنا رزان زيتونة وسميرة الخليل، ولا يحيا الشربجي وغياث مطر، ولا أبو فرات وعبد القادر الصالح، ولا فدوى سليمان وعبد الباسط الساروت، ولا باسل شحادة وحسان حسان، ولا زكي كورديللو وعبد العزيز الخير، ولا مشعل التمو ورياض الترك، ولا كل المُعتقَلين والمُغيَّبين، إذا فرطنا نحن بدماء الشهداء وارتضينا أن يقودنا حاكمٌ فرد، واحدٌ أحد، بعيداً عن أي مُساءَلة أو مُحاسبة أو رقابة، وفي غياب أي دستور أو قانون وضعي أو مشروعية انتخابية.
المجلة
————————–
“الرواية الكاملة” لهروب الأسد “المرتبك”… و”مفاجأة” الشرع/إبراهيم حميدي
“المجلة” تنشر يوميات 11 يوما هزت سوريا والمنطقة… وسقوط النظام
18 ديسمبر 2024
الشرع وضع خطة دخول دمشق قبل أشهر
جهز الخطط العسكرية والإدارية لحكم سوريا
الأسد كان في موسكو لحظة إعلان “ردع العدوان”
كان في الطائرة عائدا لدمشق وقت تحرير حلب
غادر دون أن يخبر شقيقه وابن أخته وأكبر مرافقيه
لجوء ضباط ومسؤولين سوريين كبار الى إحدى السفارات بدمشق
بهدوء تام وصمت كبير وسرية تامة، أعدت “هيئة تحرير الشام” لمعركة لا تشبه غيرها من المعارك. المعركة التي ستغير سوريا وربما المنطقة. معركة “إسقاط النظام” عسكريا وأمنيا وإداريا. الانخراط التركي عميق في ذلك، لكن ليس إلى الحد الذي يُعتقد. لم تكن صفقة إقليمية–دولية كاملة قبل بدء “عملية ردع العدوان” فجر 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
كيف حصل كل ذلك وأين كان بشار الأسد؟ تزامن إطلاق “ردع العدوان” مع وصول الأسد إلى موسكو لحضور حفل نيل ابنه حافظ درجة الدكتوراة في الرياضيات. لكن صوت المعارك كان أكبر ، فغاب عن الحفل ولازم غرفته في “فورسيزونز”، ليتابع أخبار تقدم الفصائل. وصادف يوم سيطرة الفصائل على حلب يوم الجمعة وجوده في الطائرة عائدا الى دمشق من موسكو.
وعندها بدأ العمل على مسارين: مواصلة الإعداد لاحتمال مغادرته دمشق عبر تهريب وثائق وصناديق بطائرة مدنية من مطار المزة العسكري، ومن جهة ثانية، الإعداد لمعركة مضادة واستنجاد حليفيه الإيراني والروسي وعقد لقاءات مع أمنيين وعسكريين في نظامه. بشكل مواز، قاوم “النصيحة” التي أتت من روسيا بعد سيطرة المعارضة على حلب، بضرورة الاستعداد للرحيل لتجنب إراقة الدماء في العاصمة.
فوجئ الجميع بسرعة تقدم “الهيئة” وسلاسة دخولها المدن، وتهاوي النظام وقرار الجيش بعدم القتال واستسلام عناصره. لم تحصل ترتيبات هروب الأسد ودخول الفصائل إلى دمشق، في اجتماع وزراء خارجية “منصة آستانة”، بل جرت بعدها في ليل 7/8 ديسمبر/كانون الأول. يومها تحديدا، تلقى الأسد “اتصال اللحظة الأخيرة” وهرب من دمشق إلى قاعدة حميميم ثم إلى موسكو، من دون أن يخبر شقيقه وابن أخته وحراسه وعاملين معه، بل إنه رفض أن يأخذ معه رئيس موكب الحراسة اللواء فائز جمعة. أما عائلته، فان بعض أولاده كانوا بالفعل في موسكو اكتفى بشخصين أحدهما وزير شؤون الرئاسة منصور عزام (شقيقه رجل أعمال في روسيا) والثاني العميد محسن محمد وعناصر أخرى.
فرار الأسد المفاجئ، أربك مستشاريه وأقاربه، فهروبوا على عجل إلى الساحل ولبنان والعراق، وانتهوا في دول أخرى.
كانت هذه خلاصات سلسلة اتصالات ولقاءات كثيرة أجريتها مع مسؤولين في المعارضة المسلحة والسياسية وفي دمشق ومسؤولين عرب وغربيين في الأيام الأخيرة، لتقديم رواية واسعة لما حصل بين 27 نوفمبر و8 ديسمبر.
الأسد في موسكو… والجولاني في حلب
وهنا الرواية التفصيلية: حصلت مصادفتان مذهلتان بين دخول “الهيئة” وأبو محمد الجولاني إلى حلب وزيارة سرية للأسد إلى موسكو في نهاية نوفمبر.
يوم الثلاثاء 27 نوفمبر، التقى الأسد مجموعة من “القبيسيات” في القصر الرئاسي في دمشق، ثم توجه “حاملا الكثير من الهدايا” إلى موسكو للانضمام إلى زوجته أسماء التي تعاني من انهيار في صحتها وعدم استجابة جسمها لعلاج “لوكيميا” وحضور حفل تخرج ابنه لتلقيه درجة الدكتوراة في الرياضيات من جامعة موسكو الحكومية (لومونوسوف) الروسية في 28 نوفمبر.
وصل مساء إلى فندق “فورسيزونز” بالعاصمة الروسية، ذهبت أسماء إلى حفل التخرج، ترتدي كمامة مع أطفالها. لكن بشار لم يذهب وبقي في الفندق يتابع أخبار المعارك. لماذا؟
أطلقت “هيئة تحرير الشام” وفصائل حليفة عملية “ردع العدوان” فجر 27 نوفمبر لـ”توجيه ضربة استباقية” بعد خرق النظام اتفاق وقف التصعيد في إدلب الذي رعاه الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين في موسكو في مارس/آذار 2020. تزامن لافت بين إطلاق العملية ووصول طائرته إلى العاصمة السورية.
استطاعت فصائل المعارضة في اليوم الثالث من العملية الوصول إلى تخوم مدينة حلب، والسيطرة على 400 كيلومتر مربع ضمن 56 بلدة وقرية في حلب وإدلب. وقتذاك، اتصلت بمصدر قريب من غرفة عملية “ردع العدوان”. ودار الحوار الآتي:
– ماذا يحصل غرب حلب؟
– اتخذنا قرارا بإسقاط النظام عسكريا.
– من؟ أنتم؟ هل لديكم دعم عسكري تركي؟ هل هناك قرار دولي-إقليمي بذلك؟
– هذا قرار “الهيئة” والشيخ أبو محمد. سنسيطر على حلب ثم حماة. بعدها سنرى مصير حمص ودمشق.
– ستصلون إلى دمشق؟ هل هذا ممكن؟
– نعم. ولدينا إمكانات إدارية لحكم سوريا من دمشق. و”حكومة الإنقاذ” التي تدير إدلب، لديها وزراء وخطط لإدارة كل سوريا. الوزراء وضعوا خططا كي تدير وزاراتهم كل سوريا.
– ماذا عن الجولاني؟
– هناك إجماع على أنه حاكم سوريا المستقبلي.
تناول الحديث، عبر تطبيق “واتساب”، تفاصيل إضافية كثيرة. دونتها على أوراق (مرفقة)، لكنها كانت مفاجئة جدا لي، وكانت أقرب إلى آمال المعارضة. سبق أن سمعت كلاما مماثلا في السنوات السابقة. لكن هذه المرة قال المتحدث بثقة كبيرة: “هيئة تحرير الشام هي جيش منظم وأنت لا تعرف حجم الإعداد والاستعداد لهذه المعركة منذ أشهر طويلة”. زاد أنها أعدت العدة مع فصائل حليفة و”هناك 40 ألف مقاتل في الميدان و80 ألفا آخرين بين احتياط وإمداد.
بالفعل دخلت “هيئة تحرير الشام” إلى حلب، ثم جال أبو محمد الجولاني في قلعة حلب. والقيادي نفسه قال لي في اتصال آخر: “لدينا خطط لليوم التالي في حلب. العسكر سيدخلون المدينة ثم يخرجون. ستترك للمدنيين. لن تمس الممتلكات والمدنيون وسنوفر الكهرباء والخبز والخدمات ونشغل المدينة”. وأضاف: “هناك تعليمات من الجولاني بأن أي شخص يخرق التعليمات ويعتدي على المدنيين أو الممتلكات، سيعدم ميدانيا”.
في المقابل، فوجئ مسؤولون وعسكريون بغياب الأسد عن السمع. وبدأت أعصاب بعضهم “تغلي”. رئيس فرع الأمن العسكري العميد أحمد العلي، قبل مقتله، قال لشخص اتصل به: “لا نعرف ماذا يحصل قوافل كبيرة من المسلحين. انسحابات وإخلاءات من الجيش. اتصلت برئيس الشعبة (اللواء كمال حسن) الذي قال: يجب أن تصمدوا”. اتصل بوزير الدفاع علي محمود عباس الذي قال له : “طوّل بالك. الإمداد من الحلفاء قادم والطيران سيقصف”.
واقع الحال أنه منذ بدء معركة “ردع العدوان”، حرص قادة العمليات العسكرية على إرسال رسائل مطمئنة: التمسك بمؤسسات الدولة، المحاسبة وعدم الانتقام، وحماية حقوق وطقوس الأقليات، حماية الملكيات الخاصة والعامة، الإبقاء على آلة الحكومة، عدم الاعتداء على العسكر في حال سلموا سلاحهم.
وخصصت “إدارة العمليات العسكرية” ناطقا لها يقدم إيجازات يومية تفصيلية ودقيقة وفق البرنامج والمواعيد. ولا خلاف أن تمسك المقاتلين بهذه المبادئ، قولا وفعلا، سهل عليهم السيطرة على حلب ثم حماة ثم حمص وصولا إلى دمشق وهروب الأسد.
الصورة من دمشق… “فخ”
دخلت الفصائل إلى حلب بعد سيطرتها على “الفوج 46” وانهيار خطوط الدفاع وهروب عناصر الجيش من دون أي تنظيم.
من المفارقات هنا، أنه بينما كان الأسد في الطائرة عائدا من موسكو إلى دمشق، العاصمة السياسية لسوريا، دخلت المعارضة إلى حلب، العاصمة الاقتصادية للبلاد.
تفسير دمشق لخسارة حلب، كانت هناك “اختراقات”. تم اغتيال نائب اللجنة الأمنية من قبل “حراس اللجنة”. كما “جرى اختراق اتصالات الجيش فصدرت تعليمات لهم بالانسحاب”. انهيار خطوط الجيش كان مفاجئا. لم يكن انسحابا منظما، بل عدم القتال وهروب العناصر.
مصدر في دمشق بث وقتذاك إن ما حصل في حلب هو “فخ”، إذ إن الجيش سيأخذ من ذلك “مبررا كي يذهب للسيطرة على إدلب”. ثم أضاف أنه تم سحب الجيش إلى حماة حيث ستحصل “المعركة الكبرى”، وستتم “استعادة حلب وإدلب”.
بالفعل، حشد الجيش قواته في حماة وعين الأسد، سهيل حسن، قائدا لـ”جبهة الشمال” وشاركت روسيا بتوجيه غارات وضربات. كما فتح الجيش والروس باب توقيع عقود مع مقاتلين برواتب مغرية لسنة أو خمس سنوات، لتعويض انهيارات الجيش، في حلب.
هنا حصل تطور مهم. عاد الأسد من موسكو. اتصل برئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني ورئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد. طلب الأسد دعما عسكريا من “الحشد العراقي” وماليا من الإمارات.
واكب ذلك اتصالات كثيرة. اتصل وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بنظيريه التركي هاكان فيدان والإيراني عباس عراقجي. إيران منهكة مع “حزب الله”. وروسيا مشغولة بحرب أوكرانيا. أما أميركا، فإنها أبلغت السوداني بوضوح بعدم إرسال “الحشد”. كما قصفت بعض عناصر الميليشيات على الحدود العراقية-السورية الذين جاءوا للمشاركة في معركة حلب. تركيا أبلغت روسيا وإيران: “إذا تدخلتهم عسكريا سنتدخل عسكريا”.
في دمشق، كانت “الخطة” المدعومة إيرانيا، قصف إدلب واستهداف أهالي المقاتلين للضغط عليهم وتخفيف معركة حماة والانسحاب من حلب. لكن الجولاني ظهر بثقة في قلعة حلب.
في الأول من ديسمبر/كانون الأول. الفصائل تحكم سيطرتها في حلب وتواصل التقدم وتسيطر على مراكز عسكرية كبيرة، والجيش السوري يعزز خطوطه في حماة. أميركا تقول في أول بيان رسمي إن “انهيار خطوط النظام بسبب اعتماده على روسيا وإيران ورفض الحل السياسي”، ويحصل تنسيق مع إسرائيل.
اتصلت مع المصدر ذاته في المعارضة يوم السبت، فقدم شرحا تفصيليا للفصائل المشاركة في “إدارة العمليات العسكرية” وخططها، بين ذهاب “الهيئة” وحلفائها إلى حمص ودمشق بعد إحكام السيطرة على حلب وحماة، وبين تركيز “الجيش الوطني السوري” على شرق حلب وشمالها لمحاربة “قوات سوريا الديمقراطية” في تل رفعت ومنبج.
معركة حماة… وما بعدها
تستولي الفصائل على منظومات صواريخ روسية ومسيرات إيرانية في مطار كوريس في ريف حلب. والطيران الروسي يقصف ساحة الجامعة في حلب ومخيما للنازحين في إدلب. والأسد يستقبل وزير خارجية إيران في الثاني من ديسمبر ويقول: “ماضون في محاربة الإرهـاب على كامل أراضيها”. كما أن العاهل الأردني الملك عبد الله، يقول: “نقف إلى جانب الأشقاء في سوريا ووحدة أراضيها وسيادتها”. أما نتنياهو، فيعلن أنه يتابع أحداث سوريا و”مصممون على حماية مصالحنا”. من جهتها تعلن بريطانيا: “نظام الأسد هيأ ظروف التصعيد… رفض الحل واعتمد على روسيا وإيران”.
احتدمت معركة حماة. وتتقدم الفصائل شمال حماة وتقترب 7 كيلومترات من المدينة وتمتد جبهة المعارك مع الجيش السوري بامتداد 40 كيلومترا، وتقتحم “الفصائل” 4 مواقع عسكرية: مطار حماة، مدرسة المجنزرات، الفوج 86، اللواء 47. وتصدر بيان طمأنة لمسيحيي ريف حماة.
واصلت روسيا والنظام قصف إدلب بـ45 غارة في 24 ساعة، فيما واصلت “الهيئة” التمكن في حلب. أما أميركا، فقد بقيت في الوسط بين النظام “الدكتاتوري” و”الهيئة الإرهابية”.
بعد معارك كر وفر في جبل زين العابدين وشمال حماة وسط غارات روسية، دخلت “الهيئة” إلى المدينة في 5 ديسمبر. كانت ضربة كبيرة لمعنويات الجيش والنظام والموالين. وقال أحدهم: “يمكن القول إن معركة حلب مفاجئة ولم يشارك فيها الروس، لكن حماة حصلت بعد تحضيرات كبيرة وشارك فيها الطيران الروسي”.
تحليل خبراء كثر، كان أن المعارك ستقف بعد سيطرة “الهيئة” على حماة، ثم سيجري الرئيس أردوغان اتصالا ببوتين، ويجريان اتفاقا يعكس التطورات الميدانية وخطوط قتال جديدة تختلف عن التي كانت في مارس/آذار 2024. وما عزز هذا الاعتقاد أن روسيا قصفت جسر الرستن الذي يفصل حماة والشمال عن حمص والجنوب.
من حمص إلى دمشق
“الهيئة” تغير اسم أبو محمد الجولاني، إلى أحمد الشرع، اسمه الحقيقي. و”هيئة تحرير الشام” والفصائل تسيطر على حماة وتتجه لحمص على بعد 48 كيلومترا. ويؤكد الجيش انسحابه من حماة إلى حمص. وباتت المعارضة تسيطر على حلب وإدلب وحماة.
خلال معارك حمص وقبل دخول “الهيئة” والفصائل إليها، كان تقدير دمشق أن “الفصائل” لن تصل إلى العاصمة. ووزير الخارجية بسام صباغ أبلغ مسؤولا عربيا في اتصال غير معلن: “سنصعد قصف إدلب… لا تدعونا لخفض التصعيد ضد الإرهاب”. وأضاف: “جميع الدول العربية معنا في هذه المعركة”.
في موازاة ذلك، استأنف الجيشان الأميركي والروسي العمل بـ”الخط الساخن” الذي تأسس في سوريا في 2017، على خلفية تغير المشهد العسكري واقتراب الصدام منهما وحلفائهما. وجرت اتصالات لترتيب لقاء وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا على هامش “منتدى الدوحة” في 7 ديسمبر. أردوغان يقول إن المرحلة الجديدة “تتم إدارتها بهدوء” في سوريا. وبدأت دول عدة بينها الصين دعوة رعاياها لمغادرة دمشق.
مساء الجمعة 6 ديسمبر، عزز الجيش الإسرائيلي قواته في الجولان السورية وبدأت تحركات عسكرية لفصائل معارضة في درعا جنوب سوريا قرب الأردن. أما “قوات سوريا الديمقراطية” فقطعت بوابة البوكمال التي تربط إيران بسوريا عبر العراق.
خلال معارك حمص وقبل دخول “الهيئة” والفصائل إليها، كان تقدير دمشق أن “الفصائل” لن تصل إلى العاصمة. ووزير الخارجية بسام صباغ أبلغ مسؤولا عربيا في اتصال غير معلن: “سنصعد قصف إدلب… لا تدعونا لخفض التصعيد ضد الإرهاب”. وأضاف: “جميع الدول العربية معنا في هذه المعركة”.
في موازاة ذلك، استأنف الجيشان الأميركي والروسي العمل بـ”الخط الساخن” الذي تأسس في سوريا في 2017، على خلفية تغير المشهد العسكري واقتراب الصدام منهما وحلفائهما. وجرت اتصالات لترتيب لقاء وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا على هامش “منتدى الدوحة” في 7 ديسمبر. أردوغان يقول إن المرحلة الجديدة “تتم إدارتها بهدوء” في سوريا. وبدأت دول عدة بينها الصين دعوة رعاياها لمغادرة دمشق.
مساء الجمعة 6 ديسمبر، عزز الجيش الإسرائيلي قواته في الجولان السورية وبدأت تحركات عسكرية لفصائل معارضة في درعا جنوب سوريا قرب الأردن. أما “قوات سوريا الديمقراطية” فقطعت بوابة البوكمال التي تربط إيران بسوريا عبر العراق.
كما سحبت الأمم المتحدة موظفيها “غير الأساسيين” من دمشق. والجيش السوري يؤكد الانسحاب من السويداء ودرعا، فيما توسع الفصائل سيطرتها على حدود الأردن. مسؤول عربي يقول إنه يدعم “حلا سياسيا يحافظ على وحدة سوريا ومؤسسات الدولة، يمنع الفوضى، ويلبي تطلعات السوريين”، فيما يشير مسؤول غربي إلى “ارتباك في موقف واشنطن وتوقع انهيار خطوط الجيش السوري وعدم رغبته بالقتال”.
وأمام التصريحات المتناقضة أو البعيدة عن الواقع، يعلن الرئيس أردوغان يوم الجمعة 6 ديسمبر أنه “يأمل” بتقدم الفصائل “من دون مشاكل” إلى دمشق بعد حمص.
ساد الارتباك دمشق. واتصلت بالمصدر ذاته القريب من “إدارة العمليات”، وسألته: “هل ستتوقفون في حمص أم إنكم قادمون إلى دمشق؟”. أرسل رسالة نصية على “واتساب”: “إن شاء الله سنكون في قلب دمشق الساعة العاشرة مساء”. وقتذاك، قال أردوعان في تصريح صحافي إن المعارضة سيطرت على حلب وحماة وستسيطر على حمص ثم دمشق.
لم تكن “الهيئة” والفصائل في حمص بعد، لكن كانت هناك ثقة بأن دمشق في متناول اليد. وبالفعل، لبت فصائل “غرفة عمليات الجنوب” بقيادة أحمد العودة ودخلت على عجل إلى دمشق مساء 7 ديسمبر.
اجتماع الدوحة
كيف كان المشهد يوم السبت 7 ديسمبر؟
عائلة الأسد في موسكو. والرئاسة السورية تعلن أن الأسد في دمشق ويمارس مهماته ولم يزر الإمارات، فيما يؤكد وزير الداخلية السوري وجود “طوق أمني على دمشق”. كما أن رئيس الأركان يقول إن “الجيش يؤمن دمشق ويسيطر على الفوضى”. وتواصل “هيئة تحرير الشام” تقدمها وخطابها المطمئن للأقليات والمؤسسات، فيما يواصل وجهاء المدن التسليم والترحيب.
يوم السبت، في دمشق ارتباك وترقب. كما أن المكتب الإعلامي باشر بتجهيز خطاب يلقيه الأسد في القصر الرئاسي، في المكان ذاته الذي ألقى فيه خطابه عندما استعاد السيطرة على حلب في نهاية 2016.
أيضا، كان هناك اجتماعان دوليان إقليميان: “حوار المنامة” و”منتدى الدوحة”. حضرت الأول وكنت على تواصل دائم مع حاضرين في الثاني. كل البيانات والتصريحات التي صدرت من الوزراء والمسؤولين كانت تشير إلى أنهم بعيدون عن إدراك حجم التغيير الحاصل في الواقع الميداني.
علنا، قال لافروف من الدوحة: “لن نسمح لـجماعة إرهابية (إشارة لـ”تحرير الشام”) بالسيطرة على دمشق”، فيما قال عراقجي إن “الحوار بين الحكومة والمعارضة يجب أن يبدأ”. أما وزير خارجية قطر محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، فقال إن “الأسد لم يغتنم الفرص لعودة اللاجئين أو المصالحة”. ودعا المبعوث الأممي غير بيدرسون إلى “محادثات سياسية عاجلة في جنيف لتطبيق 2254″، قائلا إن “سوريا بحاجة لترتيبات انتقالية شاملة وذات صدقية”. وأبلغ عراقجي ولافروف بيدرسون موافقة الأسد على التفاوض في جنيف.
تدخل الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب وقال إن المعارضة تهدد الأسد وروسيا غير قادرة على وقف هذه المسيرة وأنه “إذا أجبرت روسيا على الخروج من سوريا… هذا أفضل شيء لها”.
في الجلسات المغلقة، قال مسؤول عربي من دولة مجاورة لسوريا: “نحن مع النظام. وإذا خيرنا بين الأسد والجولاني سنختار الأسد ولا نريد الفوضى في سوريا”.
“الجيش لا يريد القتال”
خلاصة مسؤولين اثنين التقيا لافروف وعراقجي، هي أن لافروف وعراقجي، قالا إنهما متفاجئان لأن “الجيش السوري اتخذ قرارا بعدم القتال”. وأشار كل منهما على حدة، إذا كان الجيش لا يريد القتال، لا يمكن لطهران وموسكو أن تقدما أي دعم. وقال أحد الوزيرين: “أريد أن أساعد جيشا يقاتل”.
وقال شخص التقى لافروف: “بدا أنه مستسلم للواقع الجديد ولم يكن قادرا على فعل شيء”. وأشار إلى قبول روسيا مشاركة “هيئة تحرير الشام” في هيئة حكم انتقالية في سوريا. وأبلغه مسؤول غربي: “لا أحد يريد سقوط العاصمة. إذا حصل قتال ستحصل دماء كثيرة ولا نريد انهيار الدولة”. وحث على ضرورة “تحرك روسيا بسرعة ويجب أن نطوي صفحة الأسد وعائلته ونبقي على الجيش”.
أما فيدان، فبدا واثقا. وقال أكثر من مرة إنه لا علاقة لتركيا بما حصل، بل إن الفصائل هي التي شنت الهجوم وتحقق تقدما سريعا. وقال مسؤول عربي التقاه: “الجيش قرر أن لا يقاتل حتى في دمشق”. وأن “تركيا أبلغت الجميع أنه في حال تدخل أي طرف خارجي عسكريا، فستتدخل عسكريا”.
وصدر بيان ختامي عن “صيغة آستانه” وآخر مشترك بينها وبين وزراء عرب. وكان البيانان متأخرين كثيرا عن الواقع الميداني.
المشهد من دمشق
بالتزامن مع تقدم الفصائل من الشمال إلى الجنوب، كانت تحط طائرة مدنية في مطار المزة العسكري وقربها طائرات عسكرية. قال متابعون إنها كانت تحمل صناديق وتقوم بجولات خارجية. وبعثوا لي فيديوهات وصورا لهذه الطائرة. أيضا، زار مبعوث عربي الأسد والتقاه يوم الجمعة. وقال أحد الشهود: “بدا أن الجو بينهما عادي”. تم توديع الضيف العربي الذي غادر دمشق الساعة الرابعة بعد ظهر الجمعة.
كيف كان مشهد دمشق مساء السبت؟
وزير الداخلية ورئيس الأركان قالا في بيانين علنيين يوم السبت إن “طوقا أمنيا” فرض على دمشق لحمايتها بموجب تعليمات من الأسد، الذي التقى قادته العسكريين والأمنيين. كما أنه طلب من مدير مكتب الأمن الوطني كفاح ملحم البقاء في مكتبه.
ما بين الساعة 12–1 ظهرا، أكد شهود عيان لدى كل من مكتب الأمن الوطني والحرس الجمهوري و”الفرقة الرابعة” أن عناصر من الجهات المذكورة كانوا يقومون بإحراق وثائق وحواسيب، نتيجة اقتراب قوات المعارضة باتجاه العاصمة.
منذ صباح يوم السبت كانت هناك حالة اختناق مروري وازدحامات وحالة من الهلع والذعر والخوف لدى سكان المدينة، وامتلأت الأسواق والمتاجر بالمواطنين الذين هرعوا لتموين المواد الغذائية بشكل كبير، ووصل الأمر لوجود أزمة في مواد غذائية معينة كالسكّر والزيت والأرز، وبقي اليوم كذلك حتى مساء ذلك اليوم، حيث بدأت المظاهر الأمنية في العاصمة تختفي شيئاً فشيئاً، بمن فيهم شرطة المرور في شوارع العاصمة، حسب نص أرسله لي شاهد عيان. وقال: “شوهدت قوات للجيش تدخل العاصمة منسحبة ابتداء من الساعة السادسة مساء من خلال المتحلق الجنوبي باتجاه المربع الأمني في كفرسوسة، حيث مر رتل كبير من سيارات الدفع الرباعي وعربات الرشاشات الثقيلة”.
تلقى الأسد بعد ظهر السبت ومساء السبت اتصالات من وزير الخارجية بسام صباغ والمستشارة بثينة شعبان ومن رئيسة اتحاد الطلبة دارين سليمان ومن نائبة الأمين العام للرئاسة لينا كيناية. أكد لجميعهم أنه “لا داعي للقلق” وأن “الدعم الروسي قادم” و”أننا سنقاتل ونستعيد المدن”. وقال أحد الذين اتصلوا بالأسد: “فوجئنا بالذي حصل. قال لنا: نحن ذاهبون إلى معركة. يبدو أنه ضللنا”.
وافق الأسد مبدئيا على إلقاء “خطاب الحرب” وليس الاستقالة أو التنحي مساء السبت. وجرت إعدادات لذلك، بل إن مصوريه جهزوا المكان، وجهزت قناة “روسيا اليوم” شارة الانتقال لبث “الخطاب المباشر” للأسد.
ألح عليه مستشاروه كي يظهر، سأله أحدهم: “ماذا يحصل في حمص ودمشق؟ هل أعطيت تعليمات بعدم إطلاق النار؟ من أعطى التعليمات؟ هل هناك اتفاق في الدوحة بين وزراء صيغة آستانه؟”. لكنه قال: “لا داعي للقلق. الدعم من حلفائنا الروس قادم. ولا عجلة في إلقاء الخطاب. الوقت تأخر الآن (9:30 مساء السبت). غدا سألقي خطابا”. بالفعل بقي بعض الموظفين في مكاتبهم إلى ما بعد منتصف “ليلة الهروب”.
واتفق مع دارين سليمان على تناول الفطور صباح الأحد ومع شعبان على إعداد مسودة خطاب وعرضها على اللجنة السياسية في الساعة الثانية عشر ظهر الأحد، ثم عرض مسودة الخطاب عليه كي يلقيه بعد ظهر الأحد.
في الساعة الثامنة غادر الأسد مكتبه. تلقى اتصالا روسياً مهماً، مفاده بأن عليه مغادرة دمشق لتجنب إراقة مزيد من الدماء وحماية ما تبقى من المصالح الروسية.
أما المستشارون، فذهبوا إلى النوم بما في ذلك قائد الموكب في الحرس الجمهوري اللواء فائز جمعة. أيقظهم أقاربهم ومساعدوهم على مفاجأة مدوية جاءت من وسائل الإعلام: “الأسد هرب”. اختار شخصين فقط، أحدهما وزير شؤون الرئاسة منصور عزام (شقيقه رجل أعمال في روسيا) ومسؤول الحماية العميد محسن محمد. وذهبوا إلى قاعدة حميميم. ومن هناك طار إلى موسكو.
أسماء من جهتها كانت قد اتصلت بأحد مساعديها كي يعود على عجل من مؤتمر في الخارج لعقد اجتماع مهم. عندما وصل أحدهم من دبي إلى مطار دمشق، وجده تحت سيطرة الفصائل. وقال باكيا: “أبكى على حالنا. لقد ضللونا وخدعونا”.
عندما تسرب خبر مغادرة الأسد، استيقظ أو تم إيقاظ مستشاريه وهربوا إلى لبنان أو الساحل السوري ثم إلى دول عربية. إحدى العاملات بالقصر عادت للعمل، فيما ذهب آخرون إلى دول أخرى مثل الإمارات وروسيا ولبنان والعراق. وتردد أن عددا من الضباط والمسؤولين لجأوا إلى إحدى السفارات في دمشق.
في مقر قيادة “الفرقة الرابعة” كان هناك من يريد القتال. جرت “معركة داخلية” في مكتب ماهر الأسد بحضور نائبه ومدير مكتب وقائد عسكري. قتل أحدهم بطلقة رصاص والثاني بقنبلة، ثم هرب ماهر إلى العراق برفقة رئيف قوتلي وقادة ميليشيات عراقية. قال أحدهم: “الفرقة الرابعة التي أنشئت للقتال في دمشق، تبخرت وتلاشت في ساعات وهرب العناصر الى الساحل”.
جاء الأمر الأخير للانسحاب في الساعة 3 فجر السبت–الأحد، لعناصر “الحرس الجمهوري”، بعد خروج أخبار عن أنه فر هارباً دونما إخبار ضباطه المرافقين أو رئيس مكتب المهام الخاصة، اي اللواء فائز جمعة. وحتى ذلك الوقت، كانت عناصر الحراسة في قطاعات القصر تقوم بمهامها على أكمل وجه وتقوم بتفتيش السيارات بشكل دقيق، على عكس ما درج خلال السنوات الماضية من السماح لمرور السيارات دون أي تدقيق.
وأكثر من مسؤول قال إن الأسد لم يبلغ شقيقه ماهر بموعد هروبه، كما أنه لم يبلغ باسل ابن شقيقته بشرى بموعد خروجه من دمشق. ولم يسمح لرئيس موكب الحماية بالسفر معه. وأبلغ أحد سائقيه: “لدينا وثائق للحلفاء الروس، يجب أن نسلمها في حميميم… وطار دونه”، حسب قول السائق لأحد أقاربه. قال أحد المطلعين: “كان خائفا من أن يقتله أحد مرافقيه”.
واستمرارا للمبادئ التي أعلنت منذ معركة حلب- بينها الحفاظ على مؤسسات الدولة- جرى استلام وتسليم بين الحكومة الرسمية و”الحكومة المؤقتة” التابعة لـ”الهيئة”، ودخل الشرع دمشق “فاتحا” من بوابتها الشمالية، وذهب الأسد وعائلته إلى موسكو من دون يأخذ أقرباءه أو مستشاريه أو أن يتنحى عن منصبه.
لم يتنح من منصبه ولم يعتذر. بقي صامتا. في 16 ديسمبر صدر بيان على وسائل التواصل الاجتماعي نسب إليه، حمّل فيه الجيش السوري وروسيا مسؤولية هروبه. وكرر مواقفه التي أعلنها منذ 2011.
المجلة
———————–
شاهد عيان: 2024/12/8 اللاذقية – إسقاط التمثال/ منذر مصري
18 ديسمبر 2024
(2018/12/8: رحل عبد اللّـه هوشة بتاريخ هذا اليوم! أيّ حسرة وأيّ فرح!)
الأحد 2024/12/8، فجرًا الساعة 5.22، جاءني اتصال، لم أستطع القيام من السرير والردّ عليه بسبب أنّي أشحن هاتفي في غرفة أخرى. صيحات تكبير قريبة وبعيدة تصل إلى مسامعي رغم إغلاقنا لكلّ النوافذ، الدنيا شتاء وبرد، وليس في بيتنا على رحابته بسبب انقطاع الكهرباء أيّ وسيلة تدفئة سوى اللحاف والبطّانية! التكبيرات تزداد كثرة ووضوحًا! اللّوادقة خرجوا! هذا ما أتوقعه منهم دائمًا، ويومًا لم يخيّبوا ظنّي! انتفضوا مع بقية السوريين في 1945/3/25 ضد الفرنسيين، وهذا ما لم أشهده، وتمرّدوا أيّام الثمانينيات فاندلعت بينهم وبين قوى النظام في الصليبة والشحّادين والصبّاغين والعوينة وغيرها من أحياء المدينة حرب شوارع حقيقية! وبالتأكيد فعلوا كلّ ما ينتظر منهم، بل فعلوا كلّ شيء، في 2011/3/25، فكانت اللاذقية، عرين الأسد كما كانوا يسمونها، وحاضنة النظام كما أرادوا لها، لا حمص ولا حماه، المدينة الثانية بعد درعا التي نزل أبناؤها لا يلوون على شيء إلى الساحات والشوارع يهتفون: “بالدم بالروح نفديكي يا درعا”. “من أين جاءتهم كلّ هذه الوطنية؟”- سألت وقتها عبد اللّـه هوشة ونحن نقف مع رفيق له في الحزب نغالب الدموع على شرفة بيته الضيّقة والمطلّة على ساحة التمرات، عند تقاطع شارع عمر بن الخطاب مع شارع بورسعيد، اللّوادقة يحتشدون تحتها بعشرات الألوف حاملين لافتاتهم ومردّدين أهزوجتاهم. الهاتف يرنّ ثانية… يرنّ بإصرار شديد، أعرف أنّه لن يتوقّف هذه المرّة، صديقي مضر كنعان يعاود الاتصال: “منذر تعال نحن في ساحة الشيخ ضاهر، الشباب يسقطون التمثال!”.
ها هي اللاذقية 2011/3/25 تعود مرّة ثانية. لست أنا من يدع هذا يحصل بدون أن يشهد عليه بأم عينه! نزعت اللحاف وقمت من دون مراعاة لحالة الدوخة التي تعتريني كلّما قمت من سريري مسرعًا! لم أشعر بأيّ دوخة ولا بأيّ تيبّس ظهر! “ماذا تفعل؟”- صاحت زوجتي. لم أجب، وأنا أرتدي أقرب ما تصل إليه يدي من ثياب. “لن أدعك تخرج”- صاحت. أيضًا لم أجب؟ “سأخبر الآن الأولاد”. بعدها قامت هي أيضًا من السرير وخرجت من الغرفة، لأسمعها تدير المفتاح في قفل الباب الخارجي ثلاث طقّات، تحسب أنّها بهذا تستطيع منعي من الخروج! لم أنس قبعة الرأس الصوفية. “افتحي”. “ماذا تظن نفسك… عمرك 75 سنة”. “افتحي ميادة تعرفين أنّي لا أستطيع إلّا أن أذهب. تعرفين أنّه يجب أن أذهب إلى هناك”. أخرجت المفتاح من درج خزانة الأحذية وفتحت الباب صاغرة: “انتبه على حالك… اللّـه معك”!
الساعة 11:6 الطريق من بيتي على الخط الفاصل بين حيّ الطابيات ومشروع تجميل الصليبة بعيد لحد ما، وقد يستغرق بالنسبة لكهل مثلي (هذه أوّل مرّة أعترف بشيء كهذا) ما يقارب النصف ساعة مشيًا على الأقدام. وليس من الحكمة أن آخذ سيارتي وأسوق وحيدًا في مثل هذه الأحوال. ماذا أفعل؟ الأمر لا يستحقّ التفكير أكثر من ثوان، اتصلت بجاري أحمد راعي ورفيق جلساتنا مع خالد خليفة طوال هذه السنين العجاف في قعر حفرة الإحباط واليأس الذي لا يبعد بيته عن بيتي سوى أمتار معدودة، فإذ به يقطع الاتصال، ملوحًا لي بيده على الرصيف. هو أيضًا ذاهب للساحة! لم يقل أحدنا لصاحبه شيئًا، تعانقنا بشدّة ونحن نشهق بالبكاء.
من دون إبطاء، ما يحدث لا ينتظر أحدًا، يجب أن نسرع، انحشرنا أربعتنا، أحمد وأنا، المكتنزان نسبيًا، وشاب لا أعرفه، صديق لفؤاد ابن أحمد ووحيده، لولا ذلك لما أبقاه أبوه في سورية وكان بيننا، في سيارة صغيرة يقودها فؤاد باتجاه ساحة الشيخ ضاهر، آخذين بطريقنا صديقًا آخر لفؤاد كان ينتظرنا على رصيف شارع بغداد. أوقفنا السيارة مقابل “صيدلية العمال” واتجهنا نزاحم الناس أمثالنا الذاهبين إلى الساحة، رجال، نساء، وأطفال يسرعون الخطوات وكأنّهم متأخرين عن موعد، كان خوفي أن يكون التمثال قد سقط قبل وصولنا، ما دفعني لأن أدع رفاقي خلفي وأهرع راكضًا صوب المنصة التي انتصب عليها ذهبيًا لامعًا عصيّا على كلّ شيء من دهرًا السنين.
لحسن حظي، التمثال ما زال صامدًا، رغبت أن أصدّق أنّه ينتظرني، مئات الناس فوقه وحوله وتحته، يرفسونه بأقدامهم ويهزونه بسواعدهم، ويشدّونه بحبال عقدت حول عنقه ولكنه لا يقع. لم يكن سهلًا عليّ تسلّق المنصة لكني فعلت بدون كثير مشقّة، وها أنذا أزاحم الجميع حتّى أصل إلى طرف أحد الحبال، وأشدّ به معهم. إن لم تنفع قوتي، أفكر، سينفع وزني! أشدّ أشدّ أشدّ توجعني يداي! التمثال يهتزّ قليلًا، التمثال يعاني، يكابد، ولكنه يأبى أن يقع. حقيقة واضحة، ملموسة، الأسد الأب ليس كمثل الأسد الابن! الأسد الأب جبّار حقيقي، بينما الابن، أدعها لكم اختيار الصفات. يتسلّق اثنان من الشباب التمثال الزلق لوضع المزيد من الحبال، أحدهما يريد أن يلفّ حبلًا آخر على اليد اليمنى الممدودة، ربّما هذا يصنع فرقًا، فإذا بها أبعد من أن يصل إليها، ويكاد يقع! الساعة 17:7، ولم ننجح سوى بمتابعة هز الطود الراسخ إلى الأمام والوراء بعض السنتيمترات! ولكن ماذا لو رحنا نهزّه أيضًا إلى اليمين واليسار. هنا بدأ التمثال يستجيب لعملية الشدّ والدفع المتتالية، وما هي إلّا دقائق معدودات حتّى راح يميل بشدة، ما تطلّب منّي الابتعاد عن قاعدته مترين أو ثلاثة، ليست نهاية جيدة، بعد حياة طويلة مكلّلة بالنجاح ما أمكن بالنجاة من شروره، أن يقع فوقي بجسمه الثقيل ويهرس بجمجمته الضخمة رأسي الصغير! رأسي؟ بدون أن أشعر، سقطت القبّعة الصوفية التي حرصت أن أضعها قبل خروجي من البيت، ولا مجال حتّى أن تنظر تحت قدميك! ولكن ما علي الآن هو ألا أضيع فرصة تصويري التمثال وهو يهوي إلى سابع أرض بهاتفي النقال أنا بالذات!
التمثال صنعه أحد أبناء اللاذقية، الفنان التشكيلي المعروف صانع أكبر عدد من تماثيل حافظ الأسد، خالد مزّ، وقتل، صباح 2011/3/25، وهو يحاول وحده تكسير رأسه الأسطوري بمطرقة صغيرة. ابن آخر له يدعى محمد مصطفى بيازيد ذو الـ 20 عامًا. وهذا أوّل ما ينبغي عليّ ذكره. التمثال الذي وقف حارسًا دهريًّا بدعاماته الداخلية الحديدية الأربع، لا تهزّه ريح مهما اشتدّت، ومهما كانت اتجاهاتها، على السجن الكبير المظلم الذي كان اللّوادقة جميعهم يقبعون فيه. التمثال المغروز نصله عميقًا في قلب اللاذقية كخنجر بقبضة برونزية على شكل وحش متنكّر برجل غبي غليظ الوجه والقلب يلقي بظله الأسود على ساحة شهداء اللاذقية!
2024/12/8، الساعة 7 صباحًا، الدقيقة 28 تمامًا، سقط إلى غير بعث وإلى غير رجعة، لا له ولا لابنه ولا لغيره من الديكتاتوريين والطغاة! وسط الهتافات المدوية من حناجر الناس المجروحة: “حرّية حرّية حرّية” و”غصبًا عنّك يا أسد حرّية للأبد” وكذلك هتاف آذار ونيسان وأيّار وحزيران… 2011، ذاته، لم يتغيّر فيه حرف: “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”.
قد تعتبرونها مبالغة. لو قلت لكم، أنّي بعد كلّ هذا تكبّدت اختراق الازدحام للوصول للطرف الشرقي من المنصة، التي ترتفع عليها سارية علم شديدة العلو، بعد أن أنزلوا عنها علم النظام الأحمر الكبير، المهان والمتهدل والمحني الرأس! ورفعوا بدلًا عنه علم الاستقلال السوري، علم العهد الوطني، علم الثورة، الأخضر الخافق الحرّ، ورحت أضرب جبهتي بحديدها البارد لأصدّق، على نحو لا يقبل الشك، أنّ ما أراه ليس حلمًا آخر من تلك الأحلام الجميلة التي كانت تزاحم كوابيسي وأستيقظ منها لا أعرف ما إذا كانت حلمًا أم حقيقة… وللأسف، بالرغم من سعادتي بها، فقد كانت دائمًا أحلامًا، أحلامًا أرويها أوّل ما أستيقظ لزوجتي، وبعدها إذا لم تبتلعها ذاكرتي لمصطفى عنتابلي حين يتصل. ولكنّها هذه المرّة، حقيقة واقعة، دامغة، كأروع وأصدق ما تكون الحقائق. ألم يكن عنوان مقالي الأخير في ضفة ثالثة: “مليون حلم يؤكد الواقعة”، وكنت أضيف… “يصنعها!”.
صباحًا بعد صلاة الفجر، يروي لي مضر، خرج المصلّون من باب جامع العجّان المفتوحة مباشرة على ساحة الشيخ ضاهر، يكبّرون بأعلى أصواتهم، فقد انتبهوا قبل دخولهم للجامع إلى أنّ بوابة قسم الشرطة (مخفر الشيخ ضاهر) لا يقف عليها أيّ حارس، ليعبروا سريعين، بدون أدنى تردّد، هذه المرّة، أمتارًا قليلة، لا أكثر من رصيف وعرض شارع، صوب التمثال الذي كان كلّ هذه السنين يدير للجامع… ظهره! وما إن وصلت التكبيرات والنداءات إلى آذان أبناء اللاذقية في مختلف أحيائهم، حتّى توافدوا كنهر جارف، بل كأنهر جارفة من كلّ صوب، وصبّوا في ساحتها. شباب عديدون عرفوني والتقطوا معي صورًا فرحين بوجودي معهم، أو يريدون ربّما الاحتفاظ بها كذكرى، ذكرى من هذا الرجل الكهل ذي النظّارة ومعطف الجوخ السميك وهو يشاركهم جنونهم! صديقي مضر الذي لاقاني أمام باب “ثانوية دول جمال” هو من نبّهني، بقدر كبير من الاعتزاز: “انتبه منذر، نحن أبناء اللاذقية من حرّروا اللاذقية، نحن لم ننتظر الفصائل حتّى تحرّر مدينتنا، نحن حرّرناها بأنفسنا”.
وبالرغم من أنّ هذا حقًا صحيح ويعرفه الجميع ويكاد لا يحتاج لدلائل، إلّا أنّه صحيح أيضًا أنّ اللّوادقة استيقظوا فجر الأحد 8/12/2024 ووجدوا مدينتهم محرّرة من قبل النظام نفسه، تخلو من أي أثر للسلطة! سوى أصناف السلاح المتروكة في المخافر وفروع الأمن وقصر المحافظ والقصر العدلي والمرفأ ودوائر الدولة الخاوية عن بكرة أبيها. وكأنّه كان هناك أمر بالإخلاء الكيفي، ترك كلّ شيء على الأرض والفرار كما فعل رئيسهم في الساعات الأولى المظلمة لليوم ذاته، إلّا أنه لم يفوّت حمل ما يمكن حمله من أرطال الذهب وحقائب الدولارات وما لا يمكن أن يعرفه أحد!
الجائزة
نعم كان وجودي لحظة سقوط التمثال، محتّمًا. لم أبق هذه الـ 14 سنة أحفر وأطمر وأتمرّغ في وحل هذه الحفرة، معرّضًا حياتي لأشد المخاطر، وصابرًا على مختلف أنواع الأذيّة المباشرة وغير المباشرة، ممن حولي وممن يبعد عني، لأبقى في البيت أراقب ذلك على شاشة التلفاز مثل من هم خارج سورية بعيدين آلاف الكيلو مترات. جائزتي، جائزة بقائي أنا وزوجتي، مع أخي ماهر وأختي منى، ومع ناسي وشعبي أقاسمهم السرّاء القليل والضرّاء الكثير، ونحن ننتظر الفرج! جائزة “لا ندم ولا مأثرة بقيت كبقية الأشياء الباقية” و”ولدت وعشت وسأموت في اللاذقية مهما كانت الظروف ومهما كانت العواقب”، جائزة “السوريون يحيون بانتظار الفجر”. جائزتي… ها هي الآن أمامي.
ضفة ثالثة
———————————-
كيف يُعاد بناء الدولة السورية؟/ جلبير الأشقر
18 كانون الأول 2024
في بيان أصدره ليل الإثنين الماضي زعيم «هيئة تحرير الشام» أحمد الشرع، المعروف سابقاً بلقب الجولاني، أعلن نيّته «حلّ الفصائل (المسلّحة) وتهيئة المقاتلين للانضواء تحت وزارة الدفاع» واعداً أن «الجميع سيخضع للقانون» إذ حان وقت التزام «عقلية الدولة لا عقلية المعارضة». وحيث أدلى الشرع بتصريحه خلال اجتماع مع عدد من أبناء الطائفة الدرزية وفق رواية البيان، أضاف أنّ «سوريا يجب أن تبقى موحّدة، وأن يكون بين الدولة وجميع الطوائف عقدٌ اجتماعي لضمان العدالة الاجتماعية» وأن «ما يهمّنا هو ألا تكون هناك محاصصة» مؤكداً أنه «لا توجد خصوصية تؤدّي إلى انفصال».
يبدو هذا الكلام مبشّراً بالخير لوهلة أولى، إذ إن غاية إعادة بناء دولة سورية موحّدة (حتى لو استثنينا الجولان المحتلّ) يسود فيها القانون وتتفادى المحاصصة الطائفية التي أفسدت النظام السياسي في كل من لبنان والعراق الجارين لسوريا، ولا تمزّقها حالة انفصالية، إن تلك الغاية تبدو حميدة بالتأكيد. بيد أن الحقيقة أعقد من ذلك، وقد تستحيل أفضل الغايات المعلَنة مدخلاً للمآسي من حيث المقصد الحقيقي والتطبيق الفعلي.
فلننظر في حيثيات الحالة السورية الراهنة. كانت دولة آل الأسد، بعد عراق آل التكريتي وليبيا آل القذّافي، آخر «الجملوكيات» الميراثية العربية، أي جمهوريات تميّزت بتملّكها الخاص من قِبَل عائلة حاكمة على غرار الملَكيات. أما خاصية جهاز الدولة في مثل هذه الدول، ولاسيما الأجهزة المسلّحة، فهي الارتباط العضوي بالعائلة الحاكمة من خلال وشائج شتّى، تبدأ بالعائلة الضيّقة ثم الموسّعة، وتشمل حسب الحالات العشيرة والقبيلة والطائفة والإقليم، ناهيك من الزبونية والمحسوبية المنتشرتين حتى في الدول حيث ثمة استقلال نسبي لجهاز الدولة عن الذين يترأسوه. أما مشكلة الأنظمة الاستبدادية في الدول الميراثية، فهي أنه يصعب للغاية إسقاط النظام فيها بدون أن تسقط معه الدولة برمّتها، أو أجهزتها الحاكمة والمسلّحة على الأقل.
وهذا ما حصل في سوريا حيث انهارت دولة آل الأسد، وعلى الأخص جيشها وقواها الأمنية وسجونها، انهياراً تاماً اتخذ شكل خلع المسلّحين لملابسهم العسكرية وذوبانهم في مجتمعهم الأصلي. ومن نتائج هذا الانهيار أن السلاح بات منتشراً انتشاراً واسعاً في سوريا، ليس السلاح بيد الفصائل المسلّحة على اختلاف أنواعها وحسب، بل حتى السلاح بيد الأفراد غير المنضوين تحت راية أي طرف منظّم. وتدلّ كافة التجارب التاريخية على أنه من العسير للغاية جمع السلاح من الناس في مثل هذه الحالات، إن لم تكن هناك قوة تحوز على رضى الأغلبية، وتفوق الجميع هيبةً، وتردع الجميع من الاستمرار باقتناء سلاح بات «خارجاً عن القانون».
أما عندما يدعو الشرع إلى حلّ الفصائل المسلّحة وانضوائها تحت راية جيش شرعي جديد وخضوع الجميع للقانون، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو سؤاله ممّن يتكوّن الهيكل العظمي للجيش الشرعي الجديد الذي تُدعى «الفصائل» إلى الانصهار في بوتقته، وكيف يتم فرض القانون، وأي قانون، يا تُرى؟ وإذ تسود الحالة السورية حالة من التفتت الإقليمي والطائفي، كيف يُعقل أن يقتنع بالأمر المسلّحون المنتمون إلى شتّى الأقليات، من قومية على غرار الحركة الكُردية شرقي نهر الفرات، أو طائفية على غرار المسلّحين الدروز والعلويين، سواء أكانوا منظّمين أو غير منظّمين (حتى إشعار آخر) ناهيك من أهل الأكثرية القومية والطائفية السورية الذين تختلف تطلّعاتهم عن تطلّعات «هيئة تحرير الشام» بل تتعارض معها؟
فالخطوة الأولى الضرورية في هذا المجال، إنما هي طمأنة أهل جميع مكوّنات الجمهورية السورية إلى أن الدولة الجديدة ستأخذ مصالحهم بالحسبان وأنهم سوف يكونوا ممثلين داخلها بما يتناسب مع حجم جماعتهم النسبي من خلال عملية ديمقراطية سليمة، وأن المركزية الاستبدادية التي فرضها النظام البعثي المخلوع سوف يُستعاض عنها بدرجة من اللامركزية تتيح لأهل شتى المناطق أن يكون لهم نصيب ديمقراطي من إدارتها، وأن الأقلية القومية الكُردية على الأخص ستنعم بدرجة من الحكم الذاتي بالتوافق مع سائر الشعب السوري والأعراف الديمقراطية الخاصة بالأقاليم التي تعيش فيها أقليات قومية.
أما منحى ما دعا إليه الشرع وما فعلته «هيئته» حتى الآن، فلا يوحي بسلك مثل تلك الطريق، بل يوحي على العكس برغبة في إرساء دكتاتورية جديدة تشكّل «الهيئة» عمودها الفقري ويكون الشرع زعيمها. ذلك أن تشكيله حكومة جديدة، ولو كان مفترَضاً بها أن تكون «مؤقتة» هي استمرارٌ لحكومة منطقة إدلب في ظلّ سلطة «الهيئة» وتأكيده على نبذ المحاصصة بغياب تطمينات حول تمثيل الجميع سياسياً في الدولة الجديدة، واكتفاءه عوضاً عن ذلك بالوعد بعقد «اجتماعي» لضمان العدالة «الاجتماعية» بما قد يُفهم منه أنه ينظر إلى أهل الأقليات وكأنهم «أهل ذمّة» في دولة خلافة، بدل أن يكونوا مواطنين ومواطنات متساوي الحقوق في دولة ديمقراطية حديثة، فكلها أمورٌ مثيرة للقلق على المستقبل. هذا وناهيك من أن قدرة «الهيئة» على فرض سلطتها على الجميع بمثل هذه الشروط، إنما هي قدرة مشكوكٌ بها للغاية.
إن ما يتطلّبه بناء دولة ديمقراطية مدنية، لا عسكرية ولا دينية ولا طائفية ولا عِرقية، في سوريا، وهي الصيغة الوحيدة التي من شأنها تحديث البلاد، إنما هو تشكيل حكومة ائتلافية تُمثّل فيها كافة الأطراف والفصائل المعارِضة لنظام آل الأسد، مع وضع جدول زمني لانتخاب مجلس دستوري في مهلة سنة، بما يتيح للقوى السياسية أن تُعيد تشكيل نفسها وأن تخوض في ميدان المنافسة السياسية الديمقراطية قبل عقد الانتخابات الدستورية التي لا بدّ من أن يليها استفتاء شعبي على الدستور المُصاغ، تليه من ثمّ انتخابات تشريعية في مهلة قريبة. هذا هو الطريق السليم إلى انبثاق حكومة تقرّ كافة مكوّنات الشعب السوري بشرعيتها وتستطيع فرض احتكار الدولة للسلاح الشرعي تحت راية قانون جديد يليق بدولة ديمقراطية. أما عدا ذلك فوصفة لغرق سوريا في مزيد من التناحر، هو أبعد ما يكون عمّا يصبو إليه الشعب السوري بعد تخلّصه من عائلة ذاق منها الأمرّين طوال أكثر من نصف قرن، وبعد عذابه من أكثر من عقد من حرب أهلية طاحنة.
كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي
————————–
عقد من الألم: هل يبدأ السوريون فصلاً جديداً؟/ موفق نيربية
18 كانون الأول 2024
لم يفارق الإحساس بالدهشة والذهول السوريين حتّى الآن، ولا أظنّه سيفارقهم قريباَ: فقد انهار ما كانوا يرونه نظاماً حديدياً مُصمتاً، خلال معركة سلسة استغرقت أحد عشر يوماً وحسب. تداعى نظام» الأخ الأكبر» كمبنى من ورق اللعب، أما عيون الشعب الذي ثار منذ مارس 2011، في ثورة جميلة بين الثورات ورائعة، انقضّ عليها بالدم والنار والدمار أمام عيون العالم. فهنيئاً للسوريين- كلّهم- بهذا الانتصار الذي حقق هدفاً لهم طالما نادوا به وهتفوا: الشعب يريد إسقاط النظام.
كانت «هيئة تحرير الشام» على رأس المنتصرين على الأرض، وهي التي كانت وما زالت المصنّفة إرهابية رغم تغيير اسمها وتركيبتها مراراً، من جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام وحتى الهيئة. لأنّها احتوت في نواتها على مقاتلين من أصول في» القاعدة»، مرّوا أيضاً – كما مرّ قائدهم- على» الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروفة اختصاراً باسم «داعش»، حتّى انشقاق «أبو محمد الجولاني» عنها في سوريا وتأسيسه لـ»النصرة»، ثمّ تملّصه من» القاعدة» بالتدريج.
منذ عام 2013، أصبحت محافظة إدلب معقل «الجبهة» ومقاتليها، بعقيدتهم القتالية المحكمة واستعدادهم للتضحية بحياتهم ببساطة، الأمر الذي كان يرعب أعداءهم. ثمّ تراكمت قوتها مع سقوط كلّ موقع معاٍد للنظام في البلاد، وفتح الخيار أمام آخر المقاتلين للانتقال إلى إدلب، في الحافلات الخضراء الشهيرة. بين أولئك، ورغم أنه كان بينهم الكثير من أمثال عبد الباسط الساروت ووئام بدرخان- أيقونات الثورة وقدّيسيها- كان بينهم مقاتلون أوصلهم العنف المستمر العاري إلى تخوم التطرّف أيضاً. قاومت» الهيئة» حصار النظام والروس والإيرانيين وقاتلتهم، وقاومت «التصنيف» في الوقت نفسه، حتّى ابتدأ قائدها بتغيير منهجه بالتدريج في العامين الأخيرين، ابتداءً بالمظاهر و»اليونيفورم» الجهادي، إلى مظاهر وظواهر أكثر مسالمةً وتكيّفاً. ابتدأت الأقنية مع الغرب أيضاً بالانفتاح الحذر والمتدرّج، لكنّ التصنيف استمرّ مسلطاً، وما زال قائماً حتّى الان. حمل ذلك المسار في تحوّلاته مشروع ما حدث في الأيّام الماضية لينتهي على شكل حرب صاعقة وانتصار باهر.
الملاحظة المهمة الأولى على ذلك هي أن الهيئة استعدّت وحلفاءها جيّداً وطويلاً، حتّى قامت في الأشهر الأخيرة بتدريباتها العسكرية على العملية التي كانت ساعة الصفر لها في 27 نوفمبر. ويقول الروس والإيرانيون إنهم لاحظوا ذلك ونبّهوا الأسد، ولم يأخذ الأمر بشكل جدّي، لكنّهم هم أيضاً، وكما هو واضح في الأقوال والأفعال، لم يأخذوا الأمر بالجدية الكافية، وكلاهما كان منشغلاً بهمّه الخاص به:
الإيرانيون في دُوار بتأثير الوضع في غزّة ثمّ في لبنان، حيث حاقت الهزيمة بقوّتهم الخاصة الأّهمّ «حزب الله»، وتدهورت هيبتهم العسكرية هم ذاتهم أيضاً، تحت ضغط وضربات إسرائيل وحكومتها المتطرّفة. والروس كانوا من قبل قد سحبوا بعض قواتهم وأسلحتهم إلى الحرب الأوكرانية، ذات الأهمية الأولى. وما ظهرت نتائجه لاحقاً هو أن الطرفين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بحليفهم الذي تزايدت عنجهيته مع تزايد تفاهته، ومع استمرار اعتماده الكامل على هذين الطرفين، حتى صار جيشه وأجهزته الأمنية تُقاد مباشرة من قبلهما، وبتنافس وتنافر كانا يزدادان مع الزمن.
ذلك من أسباب انهيار النظام على الشكل غير المسبوق، ومن دون قتال عملياً أمام تقدم وحدات إدلب. ابتدأ ذلك في حلب، لكنّه ظهر في حماة، وأصبح فاضحاً في حمص ودمشق. ذاب النظام الحديدي وكأن حديده استحال ملحاً. وانكشفت عقود من الاستبداد والفساد نخراً في عظامه، فهَزم نفسه قبل أن يهزمه معارضوه.
لقد قدّم السوريون ومعارضتهم ألوف الشهداء والمعتقلين والمفقودين على مدى العقود الماضية، ولم يستطيعوا إسقاطه، إلّا أنهم أوصلوا النظام إلى الحالة المعزولة المفضوحة، التي جعلت العالم ينفض يده ويملّ منه.
كان لدرجة انضباط الهيئة وأفرادها أيضاً، وتدريبها المكثّف، وعقيدتها الفكرية والقتالية، دور في تحقيق تلك المهمة وبالطريقة التي حدثت بها. كما ظهر بوضوح أن هنالك درجة متقدّمة من التفاهم والتنسيق بين الهيئة والقوى الموجودة في الجنوب في درعا والسويداء والقنيطرة، التي تقدمت بدورها باتّجاه دمشق. ومن الطبيعي أن مثل ذلك قد حدث في شمال إدلب، مع تلك القوى المحسوبة مباشرة على تركيا، ولو أن الأخيرة تحرّكت تحت ضغط همومها بشكل خاص، المتعلّقة بحساسيّتها واستهدافها لقوات سوريا الديمقراطية والكرد فيها خصوصاً، لأسبابها المعروفة. تحرّكت تلك القوات ضدّ قسد في تل رفعت، ثمّ مالت شرقاً باتّجاه منبج وحتى شاطئ نهر الفرات. ظهر أيضاً تناغم آخر مع القوى التي توجد بجوار القاعدة الأمريكية في منطقة التنف على مثلث الحدود السورية ـ الأردنية – العراقية في الجنوب الشرقي، تحت ضغط همومها ضمن التحالف الدولي، المتعلّقة بخطر انبعاث «داعش»، وبقطع طريق الدعم الإيراني وتسليح وتذخير حزب الله من المصدر الإيراني. تحرّكت تلك القوى باتّجاه وسط البادية واحتلّت جبلاً يشرف على ما يحدث فيها. هذا وذاك أعطيا حماية لظهر الهيئة في انطلاقها شرقاً إلى حلب، ثم انحدارها كالسهم جنوباً باتّجاه دمشق.
في الساعات الأولى من يوم الثامن من ديسمبر وقبل الفجر، سقط النظام في دمشق، وأخذ العالم يبحث عن بشار الأسد فلا يراه، ليتبيّن أن الروس قد سحبوه بشكل منفرد إلى موسكو، وتفرق جمع الصف الأول من رجال النظام.
لم يظهر بشكل مباشر أيّ دور خارجي في ما حدث، ولكن مجمل التحليلات وبعض الدلائل تشير إلى الولايات المتّحدة أولاً، رغم انشغالها وطبيعة إدارتها الانتقالية: إنها تحقق بذلك تقليصاً استراتيجياً في النفوذ والوجود الروسيّ والإيراني، وتتخلّص من عبء وجود نظام أصبح فائضاً ومكروهاً. وفي الجانب الإيراني أيضاً، تستكمل إسرائيل عمليتها اللبنانية، أو الإيرانية بالأحرى، وتقطع شريان الحياة ما بين إيران وحزب الله، ليخسر الطرفان جزءاً مهماً من ميزاتهما وقدراتهما وسمعتهما. أما تركيّا التي ما انفكّت تنفي علاقتها بهيئة تحرير الشام، فالبعض يصدّق ذلك نسبياً، ويرى أن حكومة أردوغان قد ملّت من تذبذب الأسد وتمنّعه عن تلبية ما كانت تريده سلماً من عملية التطبيع معه، وفتح الطريق بينها وبين الخليج، فقامت بدورها أيضاً.
لقد سقط النظام، وتلك خطوة عملاقة لا يمكن تحقيق التغيير السوري من دونها، ولكن» البناء» بعد ذلك صعب وتشوبه علامات تساؤل عديدة وكبيرة ومعقدة. سوف يكون أولّها وأصعبها اقتناع «الطليعة الثورية» الطارئة والمظفّرة، بأن طرائقها المتوقّعة غير ملائمة للعصر، ولا لمتطلّبات الشعب السوريّ الذي اجتاز بحراً من العذابات حتى وصل إلى حيث هو الآن من دون جلّاديه.
من الضروري أوّلاً أن تتآلف السلطة المؤقتة الحالية مع خريطة الأمم المتّحدة التي صاغها المجتمع الدولي خلال سنوات من معالجته للقضية السورية. ابتدأ ذلك المسار بنقاط كوفي أنان الست، إلى بيان جنيف في يونيو2012، ثمّ قرار مجلس الأمن 2012، وبياني فيينا في أواخر 2015 حتى القرار 2254 الذي اعتدل قليلاً وزاد من إمكانيات التنفيذ. في هذا القرار وخلفياته المذكورة خطة طريق عامة لا بدّ من قبولها وبلورة خطواتها، ذلك امتحان.
هنالك ذلك الشرخ ما بين الهيئة والقوى السياسية الأخرى، الذي ينبغي تجسيره من خلال الحوار من دون تأخير، والمشاركة معها في تشكيل الحكومة الانتقالية، أو المجلس الانتقالي، أو هيئة الحكم الانتقالية، كما ينصّ بيان مؤتمر جنيف وما جاء بعده. لا بدّ أيضاً من فتح الأقنية مع مجموعة الاتّصال العربية التي تضمّ الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر، بالاشتراك مع المجموعة الدولية المصغرة المؤلفة من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، لاكتساب مزيد من الدعم لعملية الانتقال السياسي الشاملة وغير الطائفية؛ وتأمين مساهمة العرب والعالم في إعادة البناء، واستعادة البلاد من الماضي لوضعها على طريق المستقبل.. يبقى أن يجري قبول حقيقة الحاجة إلى الديمقراطية والمدنية والتعدّدية في الرأي والسياسة والثقافة والإثنية والديانات والمذاهب، وحقوق الإنسان.. والحريات الأساسية أولاً، بما فيها تلك المتعلّقة بحرية التعبير والتنظيم والعقيدة، وعودة السوريين إلى حقل السياسة والتأثير حتى تحقيق ما يرونه، أفراداً وجماعات. ولكن، لا شيء يهمّ، أمام مظاهرات خمس «مليونية» خضراء تملأ المدن السورية الخمس الأكبر. كلّ واحدة منها بحجم أكبر تظاهرة في ثورة العام الأول، تلك التي كانت في حماة..
كانت سوريا تعود يوم الجمعة الماضي إلى أهلها، يحسب الغريب أنها قد نسيت آلامها، أو أنها ترقص على ألحان آلامها، التي عاشتها في الوقت ذاته مع تحرير معتقلين كثر، وضياع مفقودين أكثر بكثير!
كاتب سوري
القدس العربي
————————-
ثلاثة دروس من هروب الأسد/ علي أنوزلا
18 ديسمبر 2024
لم يحزن على سقوط حكم بشّار الأسد سوى قِلة من الناس، وحتى الذين كانوا يؤيدونه ويطبلون له، واستفادوا من نظامه، خرجوا يتبرؤون منه، ويهاجمونه أكثر مما فعل معارضوه وضحاياه، وتلك هي طبيعة المتزلفين الانتهازيين والمنافقين الجبناء، يتقلبون مع تقلّب الأحوال. لكن السقوط المدوّي لواحد من أبشع الأنظمة الاستبدادية شرق المتوسط يعلّمنا دروساً كثيرة، مع الأسف لا يستفاد منها في منطقتنا التي أصيبت بنكباتٍ كثيرة كانت وراءها أنظمة استبدادية، تساقطت مثل أوراق الخريف تباعاً، من نظام صدّام حسين في العراق إلى أنظمة زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر ومعمّر القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن وعمر البشير في السودان وعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر، وصولاً إلى نظام بشّار الأسد في سورية، ولا يعرف من سيكون التالي في قائمة الأنظمة الاستبدادية المهدّدة بالسقوط. وبعد كل سقوطٍ مدوٍّ لواحد من هذه الأنظمة تبرز الدروس نفسها التي لم تستفد منها الأنظمة التي تساقطت بفعل الأسباب نفسها، ولا مؤيدوها ممن ظلّوا يساندونها حتى تهاوت وتركتهم كالأيتام العاقين، يبرّرون تأييدهم لها بجُبنهم وخوفهم، ولا يتردّدون في انتقادها ومهاجمتها في نكران مخزٍ للجميل، ونفاق مقزّز يفضح طبيعة هؤلاء المتملقين.
في الحالة السورية، ثمّة أكثر من درسٍ على الدول والشعوب الأخرى أن تتعلّمه من انهيار نظام عائلة الأسد التي حكمت البلاد بالحديد والنار 53 عاماً، ضيعت عليها عقوداً من التطور والتقدم، وأهدرت الكثير من مقدراتها في صناعة وإطالة عمر واحد من أكثر الأنظمة الاستبدادية دموية وبشاعة. فكيف استطاع نظام آل الأسد الذي لم يكن يمتلك أي شرعية، لا ديمقراطية ولا شعبية ولا دينية ولا حتى شرعية الإنجاز، ليستمرّ عدة عقود جاثماً على صدور السوريين وكاتم أنفاسهم؟ ليس بالضرورة أن نبحث عن الجواب في طبيعة الكيانات السياسية وكيفية تشكلها، وإنما أيضاً في طبيعة المحكومين من خلال علم الاجتماع السياسي و”علم النفس السياسي”، بالعودة إلى النفس البشرية، لفهم سلوكي الفرد والجماعة وتفسيرهما من منظور نفساني وسيكولوجي. فمن صنع من الأسد وقبله والده طاغيين مستبدّين هم الناس من حولهما الذين كانوا يتملقون لنظامهما ويتودّدون إليه. من يصنع الطواغيت هم العبيد، كما يشهد على ذلك ابن خلدون الذي يُنسب إليه قوله: “لو خيّروني بين زوال الطغاة وزوال العبيد، لاخترتُ بلا تردّد زوالَ العبيد، لأنَّ العبيدَ هم الذين يصنعون الطواغيت”.
هذا هو الدرس الأول والقديم قدم البشرية، الذي تعيد الحالة السورية تأكيده، فمن صنع استبداد عائلة الأسد هم سوريون رفعوها إلى مرتبة طواغيت حكمتهم طيلة العقود الخمسة الماضية، مع استثناءات حاولت أن تدقّ الناقوس مبكراً، لكن من كان يتصدّى لهم هم العبيد قبل المستبد الذي عرف كيف يصنع من حوله طوقاً من المتملقين، يهتفون باسمه، ويسبّحون بحمده وينهشون لحم من ينتقده نيئاً، وبعض هؤلاء نراهم اليوم يخرُجون مبرّرين تملقهم وجبنهم. لكن يجب عدم الثقة بهم لأن من أحبّ أن يأكل لحم أخيه حياً لا يهمه أن يَغْتابَ سيّده بعد هروبه!
الدرس الثاني، وهذا موجّه إلى الحكام. هل كان أهل الشام سيتخلون عن رئيسهم، لو كان أعدل بينهم؟ أليس “العدل هو أساس الملك”، بحسب القول المأثور المنسوب إلى علي بن أبي طالب؟ لو أن الأسد عدل بين شعبه لما حمل هذا الشعب السلاح في وجهه، ولما فر هو منه في لحظة ثورته. في رسالته التي برّر فيها هروبه، قال إنه كان “صاحب مشروع وطني استمد دعمه من شعب آمن به”!. وزهاء ربع قرن من حكمه، نتيجة هذا المشروع هو ما نراه اليوم، بلد مقسّم، واقتصاد منهار، وجرائم بالجملة ضد الإنسانية ارتكبها النظام ضد شعبه. ربع قرن هو جيل كامل من السوريين كبروا وترعرعوا تحت نظام الأسد الابن، كان يمكنه أن يصنع منهم شعباً واعياً متحضراً وبلداً متقدّماً، ما يمنحه شرعية الإنجاز التي شفعت لمستبدّين في دول أخرى استبدادهم وطول مكوثهم في السلطة، والأمثلة المعاصرة والقديمة كثيرة.
الدرس الثالث، وهو الجزء الذي تكتمل به الصورة، وتتضح الفكرة، طوال فترة حكمه وحكم والده، اختار آل الأسد أن يحكموا الشعب بالخوف، فحوّلوا البلاد إلى دولة مخابرات، أفرع المخابرات فيها أكثر من المدارس، والسجون فيها أكثر من المستشفيات، وأنفقوا أموال الدولة على أساليب التحكم في الناس وضبط تحرّكاتهم وإحصاء أنفاسهم وتأويل نياته والتلصّص على أحلامهم. والجزء الآخر من مقدّرات الشعب أنفقوه على تقوية ترسانتهم العسكرية، ليس من أجل محاربة إسرائيل، كما كانوا يدّعون، وإنما من أجل تخويف الشعب وترهيبه. وطيلة فترة حكمها، تعرّضت سورية لهجمات واعتداءات مذلّة من إسرائيل، وظلّ النظام في عهد الأسد الأب والابن يردّد مقولته “سوف يأتي الردّ المناسب في الوقت المناسب”. ومع كل اعتداء إسرائيلي، كانت هيبة النظام ومصداقيته تتهاوى، والرد الموعود لا يأتي. وعندما انتفض في وجهه شعبُه لم يتأخّر الرد، ولم يأت متناسباً، وإنما براميل متفجّرة وقصف عشوائي حرق الأخضر واليابس. لذلك، عندما نشاهد اليوم الغارات الإسرائيلية تدمّر السلاح والمقدّرات العسكرية السورية، يتساءل المرء ماذا لو أن تلك الأموال أنفقت على تدريس الشعب السوري وتنميته؟ من يحمي البلدان شعوبها، حتى لو كانت بدون أسلحة، لأن إرادة الشعوب لا تغلب ولا تقهر، وفي هذا درسٌ إلى كل الأنظمة التي تنفق أموال شعوبها على شراء أسلحةٍ تعرف أنها لن تستعملها سوى ضد شعوبها أو سوف تتركها يأكلها الصدأ حتى تُباع في أسواق الخردة، أو تتحوّل إلى وقود لحروبٍ أهلية طاحنة. والأمثلة كثيرة ماثلة أمامنا في العراق وليبيا واليمن والسودان. أما في سورية، فإن الغصة كبيرة، لأن السلاح الذي كان يكدّس منذ خمسة عقود لمحاربة إسرائيل دمّره الجيش الصهيوني في خمسة أيام، ومعه انهارت كذبة “قلعة الصمود والممانعة”!
خلاصة القول إن الدول تبنيها الشعوب، وليست الأنظمة، لأن هذه زائلة ومتغيّرة ومتبدّلة. أما الشعوب فهي باقية متجذّرة. وحكم الشعوب لا يكون بالخوف أو الترهيب، ولا بعدد أفرع المخابرات وعدد السجون، وإنما بالتعليم والتثقيف والتنمية البشرية وبإشراك الشعب في إدارة نفسه وتدبير مقدراته من خلال مؤسّسات ومجالس منتخبة، حتى يشعر بأنه شريك في إدارة الدولة وبناء الوطن، وليس مجرّد عبد عند سيده عندما يهرب تسقط الدولة فوق رأسه وينهار الوطن تحت قدميه.
العربي الجديد
————————
لا لوصاية دولية على سورية/ مروان قبلان
18 ديسمبر 2024
بعد 14 عاماً من المعاناة والألم، قلب السوريون، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، الطاولة على القوى الخارجية التي حوّلت بلادهم إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، وأطاحوا، من دون مساعدة خارجية تذكر، أحد أسوأ الأنظمة التي عرفها التاريخ الإنساني المعاصر. وإذا تركنا حليفي النظام (روسيا وإيران) جانباً، فقد بدا واضحاً أن بعض الأطراف الإقليمية والدولية كانت تسعى إلى بقاء الأسد، ليس حبّاً فيه، ولكن تخوفاً من البديل (ديمقراطياً كان أو إسلاميّاً، أو الاثنين معاً)، وينطبق هذا الكلام على بعض دول الجوار العربية، كما ينطبق على إسرائيل والولايات المتحدة التي كانت تفاوض الأسد على بقائه، في مقابل فك تحالفه مع إيران وحزب الله.
أما وقد أسقط السوريون الأسد، ونظامه، فقد تداعت قوى إقليمية ودولية، بعد أقل من أسبوع، لعقد اجتماع في العقبة في محاولة لاستعادة السيطرة على الوضع السوري عبر السياسة، بعد أن فقدتها من خلال القوة، وقد وجد هؤلاء ضالّتهم في قرار مجلس الأمن 2254، للتحكّم بمسار التغيير ومخرجاته، طالما أنهم لم يتمكّنوا من منعه في المقام الأول. يسير جزء من النخب السياسية السورية في هذا التوجه، لأنها تخشى التهميش والإقصاء من الإدارة الجديدة في دمشق. والواقع أن هؤلاء يعمدون، من حيث يدرون أو لا يدرون، إلى تكرار الأخطاء نفسها التي سادت أيام العسكرة عندما أدّت التدخلات الخارجية في دعم الفصائل المسلحة على الأرض إلى حالة من الفوضى والزبائنية والارتزاق، أساءت إلى القيم التي من أجلها قامت الثورة، وفيه شبه أيضاً بمحاولات السيطرة على الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية عبر التوسّعات المختلفة التي تعرض لها.
من الناحيتين القانونية والسياسية، يعدّ القرار 2254 ساقطاً، لأن هيئة الحكم الانتقالي التي كان يُفترض أن تستند في تشكيلها إليه لم تعد ممكنة بعد انهيار النظام وفرار رأسه، وتولي جزء من المعارضة مقاليد الحكم، ولن تفيد محاولات إحيائه أو التمسّك به إلا في إسعاف القوى الدولية بأداة تساعدها في تشكيل مسار العملية السياسية في سورية، وفق مصالحها. هذا أمرٌ يجب ألا يسمح به السوريون، فهم ناضجون كفاية لقيادة عملية الانتقال والتغيير، بعد أن تمكّنوا وحدهم من إطاحة الأسد. لكن، وحتى نقطع الطريق على المحاولات الخارجية لفرض وصاية على سورية، وحتى نمنع استغلال هذه القوى لتعطش بعض النخب السورية إلى السلطة، حتى لو أدّى ذلك إلى استدعاء الخارج أو الاستقواء به، ينبغي على الإدارة الجديدة في دمشق أن تعيد النظر بطريقة مقاربتها المرحلة الانتقالية، سوف يكون من الخطأ الفادح محاولة الاستئثار بالسلطة، أو التفرّد بها بزعم أن من أسقط النظام أولى بالحكم مكانه، فهذا يمثل وصفة مجرّبة ناجحة لاستدعاء التدخلات الخارجية. المقاربة الجديدة يجب أن ترتكز على إشراك أكبر عدد ممكن من القوى السياسية السورية في ترتيبات المرحلة الانتقالية. ولأن عامل الوقت لا يسمح بعقد مؤتمرات حوار وطني، غير مجدية غالباً على ما دلت عليه تجارب السنون السابقة، أو تشكيل لجان لكتابة أو تعديل الدستور بمشاركة واسعة، فقد يكون البديل المختصر والآمن لمرحلة انتقالية سلسة وهادئة، هي إعلان العمل بدستور عام 1950، وهو دستورٌ يلقى قبولاً لدى فئات واسعة من السوريين، وذلك لمرحلة انتقالية مدّتها عامان، يجري خلالها التحضير لانتخاب جمعية تأسيسية تتولّى كتابة دستور جديد، وترتيب استفتاء عليه، وإصدار قانون أحزاب وقانون انتخابات، وتحديد موعد لها بحسب النظام السياسي الجديد الذي تقرّه الجمعية التأسيسية (رئاسي، شبه رئاسي، برلماني).
تفيد خريطة الطريق هذه، من جهة، في الإجابة عن سؤال شرعية الحكم الجديد، وتسمح، من جهة ثانية، بإشراك أوسع طيف ممكن من القوى السياسية في العملية الانتقالية، وتغلق الباب أمام التدخّلات الخارجية والوصاية الأممية، التي يسعى بعضهم إلى وضع سورية تحتها لتشكيل نظامها السياسي الجديد، وتقطع نهائياً مع العهد البائد، وأي محاولات للالتفاف على إرادة الشعب الذي تقع عليه مسؤولية حماية المنجز العظيم المتمثل بإسقاط النظام، ومنع نشوء ديكتاتورية جديدة. في الأثناء، تستمر حكومة تصريف الأعمال في التركيز على مهام استعادة النظام العام، وسحب السلاح وتوحيده بيد الدولة، والإشراف على استعادة الخدمات وتحسينها، وإعادة الإعمار، وفتح مسار العدالة الانتقالية.
العربي الجديد
———————-
سورية المنتظرة بعد سقوط الطاغية/ سمير الزبن
18 ديسمبر 2024
أخيراً، سقط الأبد في سورية، بعد أن ظهر وكأنه صادر مستقبل البلد بشكل نهائي. دفع السوريون ثمناً باهظاً لهذا السقوط، والذي احتاج 13عاماً من الدم والتضحيات والتدمير الواسع بكل وسائل القتل والتدمير التي استخدمها النظام الوحشي ضد شعبه لإغلاق المستقبل السوري وإبقاء مستنقع سلطة العائلة الحاكمة الوراثية. من حقّ السوريين الفرح بالخلاص من الليل الطويل الذي خيّم عليهم، وعلى البلد، أكثر من نصف قرن من رعب حكم عائلة الأسد ووحشيته.
برحيله، ترك النظام وراءه حزمة هائلة من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، والتي تحتاج معالجة سريعة، حتى لا يذهب الوضع إلى صدامٍ مسلحٍ انتقامي بين مكوّنات هذا المجتمع المتعب والمحطّم من صراع طويل استنفد طاقاته في العقد المنصرم. والمهمّة الرئيسية التي يجب العمل عليها، هي صياغة النظام السياسي الجديد. وهو ما يستلزم إيجاد هيئة حكم انتقالي، لإدارة البلد مؤقتاً، على أن يقترن ذلك مع تشكيل هيئة عامة، تتشكّل من كل الطيف السوري السياسي والمناطقي والطائفي، لصياغة دستور سوري جديد يأخذ بالاعتبار هذا التنوع، ويضمن الحريات العامة لجميع مكونات المجتمع السوري، وفي مقدّمتها حرية تشكيل الأحزاب السياسية وحرية التعبير عن الرأي. دستور يضمن حيادية المؤسّسة العسكرية السياسية، بعد إعادة بنائها على أسس جديدة بعيدة عن عقائدية مرتبطة بالطاغية ومحكومة منه. مؤسّسة عسكرية جديدة تدمج التشكيلات العسكرية للثورة، أو لمن يرغب من هذه التشكيلات، على أن تحتكر الدولة، في نهاية المطاف، أدوات العنف، وتكرّس الصراع بين القوى السياسية في المجتمع، بوصفها صراعات ديمقراطية تسعى إلى إقناع أفراد المجتمع بصوابية خيارها السياسي عبر انتخابات حرّة، بعيداً عن العنف والصراع المسلح.
لقد حمى انهيار جيش النظام البلد من مذبحة محققة، وحقن دماء كثيرة، وجعل إسقاط النظام سلميّاً إلى حد كبير، بإخلاء أفراد جيش النظام مواقعهم العسكرية. وعودة الثوار في مناطق المصالحات للانتفاض ضد النظام وتحرير مناطقهم سلمياً، خاصة في جنوب سورية ودمشق وريفها، حيث حرّرت هذه المناطق نفسها من الطاغية من دون قطرة دم، فقد كان متوقّعاً قيام مجرمي النظام بمزيد من الجرائم الدموية لوقف الموجة الثورية الجديدة، وخاصة مدينة دمشق والساحل السوري التي تتمركز فيها القوة الأكبر للنظام. ولا تحتاج دموية النظام إلى تقدير، فقد أدمى جغرافيا البلد كلها، على مدار سنوات الثورة، بكل أدوات القتل العسكرية، فلم يوفّر صاروخاً ولا برميلاً متفجّراً ولا طائرة حربية ولا دبّابة ولا سلاحا كيميائيا لم يستخدمه لقتل الشعب السوري.
وإذا كان انهيار النظام قد جعل سورية تنجو من حمام دم، فإن على القوى في البلد أن تعمل، وعلى وجه السرعة، على حمايته من صدامٍ مسلحٍ بين فئات المجتمع، يؤدي إلى حرب أهلية، فإن نجاة سورية من هذه الحرب تعتمد على الأداء السياسي للقوى والشخصيات الفاعلة، من خلال التوافق بين التشكيلات السياسية والعسكرية على هيئة حكم انتقالي، ولتكن الوزارة القائمة (وزارة النظام)، وتعمل سريعاً على رفع العقوبات عن سورية، والحصول على المساعدات الملحة للإبقاء على الخدمات الأساسية في متناول جميع المواطنين.
في الوقت نفسه، على الجميع العمل على تشكيل النظام السياسي الجديد عبر دستور جديد يشكل عقداً اجتماعياً جديداً بين السوريين، عبر حوار مجتمعي علني وشفاف ويشمل الجميع، يعمل على نزع السلاح من التشكيلات المسلحة وحصر استخدام السلاح في المؤسّسة العسكرية، بعد إعادة بنائها بإحالة الضباط الكبار الملوثة أيديهم بدماء الشعب السوري إلى قضاء عادل، وحل الوحدات الطائفية منه وإعادة بناء الجيش على أسس وطنية، على أن يكون حيادياً بالمعنى السياسي تجاه القوى السياسية العاملة في المجتمع السوري.
لا يمكن تأسيس دولة جديد في سورية من دون معالجة جرائم النظام التي ارتكبت طوال تاريخه، وهذا يحتاج وبشكل ملح لهيئة عامة لـ”العدالة الانتقالية” مهمتها معالجة الأثر الرهيب على المجتمع السوري لجرائم النظام التي ارتكبها خلال تاريخه. وتقوم هذه المعالجة على ثلاثة أسس: الأول، تقديم المجرمين الكبار في النظام السابق إلى المحاكم. الثاني: العمل على إيجاد الآليات والوسائل من أجل تعويض ضحايا النظام وإنصافهم. الثالث، توثيق جرائم النظام، والعمل على تحويل السجون التي استخدمها النظام مسالخ بشرية إلى متاحف توثق جرائم النظام وآلام الضحايا.
على الإجراءات التأسيسية للنظام الجديد أن تتكامل مع عملية “مسامحة ومصالحة” مجتمعة واسعة، تعمل من خلالها مؤسّسات رسمية ومؤسّسات مجتمع مدني وأفراد على رأب الصدع بين السوريين، وعلى إعادة توحيد السوريين، بحيث تساهم جميع أطياف المجتمع السوري بإنتاج الوطنية السورية الحديثة، وبحيث تكون هذه المسامحة والمصالحة، قائمة على النظر في عين الخراب الذي أنتجه العهد البائد، لا إشاحة النظر عنه، وكأنه غير موجود، والإبقاء على كل عوامل الانفجار في المجتمع. إن المجتمع المتصالح قادر على تنظيم صراعاته بشكل سلمي وديمقراطي، من خلال الاعتراف، ليس فقط بالحقوق المتساوية للمواطنين، بل وبالقيمة المتساوية لهم أيضاً، بوصفهم الأساس المكوّن للوطن، والهدف النهائي لكل سياسة، وليس وسائل لتحقيق أهداف كبرى كاذبة.
المهمّة الملقاة على عاتق السوريين اليوم ثقيلة وصعبة، ومدّة السقوط الطويل للنظام جعلتها أصعب وأثقل. رغم ذلك، يستطيع السوريون بتضامنهم إنجاز المهمة ووضع الأسس لمستقبل البلد. وهذه المهمة لن تكون سهلة، وستواجهها عقبات ومشكلات وتحدّيات كثيرة، من داخل البلد ومن خارجه. لكن المهمّة على صعوبتها وثقلها، هي مهمّة قابلة للتحقيق بإرادة السوريين وبإصرارهم على تجاوز الجرح العميق الذي سبّبه لهم نظام إبادي وحشي، تجاوزه مهمّة ملحّة للسوريين أجمعين.
لقد أسقط السوريون النظام المجرم، وكانت المهمة صعبة، واليوم أمامهم مهمة لا تقلّ صعوبة، وهي إعادة بناء بلدهم الذي دمّره الطاغية، ليثبتوا لأنفسهم قبل غيرهم أنهم شعبٌ مبدع، قادر على إعادة بناء بلده ومجتمعه، رغم كل الآلام والصعوبات.
العربي الجديد
————————–
في المزايدة الأوروبية على السوريين/ أرنست خوري
18 ديسمبر 2024
يطيب لفئة من المهتمين بالشأن السوري، سوريين وغير سوريين، عرب وغير عرب، أن يتجاهلوا، عن نيّة حسنة، ما لا يبدو لهم مطمئناً مما ظهر في الأيام العشرة الأولى لعمر سورية ما بعد آل الأسد، أي ما يُصطلح على تسميتها سورية الجديدة. والجِدّة ليست قيمة إيجابية بالضرورة إلا إن اتُّخذ زوال حكم البعث الطائفي العسكري الدموي معياراً وحيداً، وهو ما لا يجدر أن يكون عليه الحال، فالطموح أكبر من إطاحة تلك السلطة. يميل أعضاء هذا النادي ممن تجمع بينهم حماستهم لرؤية سورية ديمقراطية مدنية علمانية تعدّدية حرّة، إلى مواجهة المتوجّسين الكثر من سلوك إسلاميي الفصائل بالقول إن عشرة أيام هي فترة قصيرة جداً للحكم على الأفعال والنيات بناءً على ما نعرفه من تصحّر سياسي في الداخل السوري، وأزمات بنيوية لهياكل المعارضة السياسية غير المنبثقة من الفصائل المسلحة، والتي لم يعد كثر من رموزها إلى بلدهم بعد ليفرضوا أنفسهم ويمنعوا احتكار المشهد. ولكن، عاجلاً أم آجلاً، سيضطر أفراد هذه الفئة إياها إلى الاعتراف بحجم الخوف والقلق مما نراه ونسمعه ونقرأه من أمثلة وشهادات وحوادث وتصريحات تتعلق بالحريات الشخصية والموقف من القوانين الوضعية والنيات بإرساء حكم ديني لا تبشر بخيرٍ لسورية. خيرٌ لا يتحقق إلا إن كان هذا البلد ديمقراطياً تعدّدياً حكمه غير ديني ولا طائفي، ذلك أنه في البلدان المتعددة طائفياً، حُكم الغالبية المذهبية بصفتها الدينية، سيكون حكماً طائفياً، مثلما كان حكم الأقلية طائفياً في زمن آل الأسد. عاجلاً أم آجلاً، سنتوقف عن إيجاد المبررات والأسباب التخفيفية لإسلاميي الفصائل، وسنتوقف عن تكرار أمنية أن تكون انتهاكات هؤلاء في السلوك والتصريحات مجرّد حالات فردية لا تعبّر عن الاتجاه العام لأحمد الشرع وإخوانه.
والبداية العرجاء تُرصَد ملامحها لا في سلوك حكام سورية الجدُد من إسلاميي الفصائل فحسب، بل أيضاً من مواقف أولية لرموز الدبلوماسية الأوروبية. هؤلاء اجتمعوا يوم الاثنين في بروكسل، ممثلين بوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي ومسؤولة الشؤون الخارجية والأمنية في الاتحاد كايا كالاس، لتعلن الأخيرة موقف المجتمعين مزايدةً رخيصةً على السوريين. تقول السيدة الإستونية ما حرفيته إن القضاء على النفوذ الروسي (في سورية) “يجب أن يكون شرطاً على الإدارة الجديدة” في دمشق. بكلام آخر، مطلوب من حكام الشام أن يعلنوا الحرب فوراً على روسيا وقاعدتيها العسكريتين، طرطوس البحرية وحميميم الجوية، لكي ترضى عنهم العواصم الأوروبية. حجم وقاحة مذهل في إيحائه بأن مشكلة الأوروبيين مع روسيا في سورية أكبر من مشكلة السوريين أنفسهم معها، روسيا التي قتلت ودمّرت واحتلت في سورية ووفّرت عكّازاً أمّن مع العكاز الإيراني بقاء نظام بشار الأسد. ولو تجرّأ الأوروبيون ومعهم الأميركيون في سنوات الثورة ثم الحرب الأهلية على مواجهة ذلك النفوذ الذين يريدون من السوريين اليوم محاربته بالنيابة عنهم بينما هؤلاء يتلمسون طريقهم لإعادة بناء دولتهم وإعمار بلدهم من تحت الصفر، لكانوا تفادوا تضخّم الدور الروسي في وجود “جيش سوري حرّ” قبل أن تطيح فصائل إسلامية من طريقها كل ما سواها وتتسيّد المشهد وحيدة. وهذا الخوف الأوروبي على سورية من “الأجانب الأشرار”، الروس والإيرانيين، لا يشمل إسرائيل واستباحتها الشاملة سورية وإهانتها إنجازهم على شكل احتلال أراضٍ سورية وتدمير بنى تحتية دفاعية. يتراءى هذا الحرص الأوروبي على سورية في حقيقة أن عواصم دول الاتحاد لم تفكّر فور إطاحة النظام السوري إلا بتعليق دراسة طلبات لجوء السوريين.
الأيام العشرة التي مرّت على سقوط النظام ليست بداية مرحلة انتقالية. هي مجرّد تلمّس لطريق صعب، ويُرجح أن تصبح أكثر تعقيداً مع مرور الوقت. تعقيد لا تفعل إسرائيل سوى تغذيته في ظل تفويت أوروبي لفرصة مصالحة شعب سوري يريد ألا يبقى وحيداً في مواجهة كل أنواع الوحوش، القريبين والبعيدين.
العربي الجديد
————————–
هل يجدّد سقوط الأسد الربيع العربي؟/ باسل. ف. صالح
18 ديسمبر 2024
ما جرى في سورية ليلة الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، وهروب الرئيس المخلوع بشّار الأسد بعد تداعي ما تبقى من نظامه ومن هيمنته على بعض الأراضي السوريّة، إثر حسم القوى الثورية الموقف لناحية سيطرتها التامة على الأرض، أعادنا، وبشكل مباشر، إلى المكان والزمان الذي أُوقِفت فيها تلك القوى عن تشكيل الخطر الثوري الفعلي. لقد عاد بنا هذا التاريخ إلى تلك اللحظة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الحسم، قبل أن تتدخّل القوات الروسية والإيرانية، والمليشيات الدائرة في فلكيهما، خصوصاً من ناحية إيران وحزب الله، بالإضافة إلى تواطؤ العالم بأكمله لوأد (وإيقاف) الزحف الثوري باتجاه القلب التام للوضع يومها عموماً، كما أعادتنا إلى لحظة مواجهة زخم الربيع العربي الذي قامت الأنظمة به على مرأى (ومسمع) العالم بأكمله أيضاً وأيضاً. فما تم إنهاؤه الأسبوع المنصرم، وبفترة لا تتخطّى عشرة أيام، وتكلّل في تلك الليلة، كان بمثابة شرارة إعادة التدفّق المتمثلّة بإعادة عقارب الساعة إلى تلك اللحظة الثورية بالذات، اللحظة التي سبقت قدرة القوى النظامية على قلب المعادلة في صالحها، والشروع في ثورتها المضادّة لإعلان وقف المدّ الشعبي الثوري العربي، فإطاحة الأسد اليوم تشكّل، بحد ذاتها، إزالة السد المنيع الذي كان يحجُب النهر الشعبي الثوري العربي عن استكمال رحلته في الداخل السوري من ناحية، وفي المستوى العربي من ناحية ثانية. ولهذا السبب، يبدو المشهد اليوم كأنه لحظة انفجار السدّ وعودة جريان النهر إلى مسراه الطبيعي. وفي هذه اللحظات بالذات، تكون قوّة التدفق استثنائية، بحيث لا يمكن الوقوف بوجهها. فاللحظة، بما أعادت إحياءه من أمل في نفوس الشعوب، قد تكون فرصة تاريخية لتكثيف التدفّق الذي من الطبيعي ومن المنطقي أن يُترجم بموجة ثورية جديدة، وخصوصاً أن المتولّد منها سيكون بمثابة شرارة تعيد للشعوب العربية لحظة الربيع من بابها العريض، ولحظة إدراكها أن المستحيل الذي قد يبدو مستحيلًا يحمل في دواخله كل الإمكانات التي تجعله قاب قوسين أو أدنى من إمكانات التحقّق، بشرط أن تستطيع المسارعة إلى لملمة جراحها وإعادة بناء قواها الذاتية، وترجمتها بالتهيؤ للعودة إلى الشارع لاستكمال ما بدأته في السابق.
وعلى الرغم من أن المنطق يقتضي أن تُستكمل عملية تساقط الأنظمة المحيطة وخلخلتها، من لبنان وصولاً إلى إيران، جرّاء السقوط المدوّي للأسد ونظامه بوصفه صلة الوصل الأقوى بينهما، هذا ناهيك عن الأزمات الداخلية المختلفة التي تضرب إيران، وناهيك أيضاً عن الانهيار السائد في لبنان، وتداعي ما تبقى من نظامه، وخصوصاً أن نظام الأسد كان أحد اللاعبين الرئيسيين في عملية تكريس السلطة والنظام اللبناني منذ الحرب الأهلية من ناحية، بالإضافة إلى تداعي قوة اللاعب الأساسي في الداخل اللبناني ودوره في ضبط إيقاع ممارسة السلطة، وتشكيلها، وحمايتها، بعد الضربات التي تلقاها في الشهرين الأخيرين، وتشلّ قدرته على المواجهة والقيام بدور الحارس الفعلي للنظام الطائفي وقواه الطائفية. قد تبدو الفرضية أن مصر هي الدولة التي قد تكون الأكثر تأثرًا بالموجة، لأسبابٍ كثيرة، وفي مقدمتها الغليان المستمر على المستوى الشعبي، جرّاء الغلاء الفاحش وجرّاء الأزمات الاقتصادية والسياسية البنيوية التي تضربها، وجرّاء تكثيف الممارسات القمعية والبوليسية… إلخ.
لذلك كله، تبدو اللحظة الآن، بضبابيّتها، وكأنها تخفي، في طياتها، ما لم يكن بالحسبان، لأنها تفتح الباب أمام الاحتمالات بأكملها، سواء على مستوى المواجهات الداخلية مع الأنظمة، أو على مستوى السؤال الضروري المتمثّل بالصمت المطبق للأنظمة العربية عن السلوك الإسرائيلي، وكمية إجرامه ومدى استباحته الدول المحيطة من ناحية ثانية، فالمسارعة التي أبدتها قوات العدو للتوغل داخل المنطقة منزوعة السلاح في الجولان المحتل تفيد بأن العدو يعلم جيداً أن مرحلة النزهة التي هيمنت خلال عقود مرّت وكان نظام الأسد، وغيره من أنظمة عربية، حارستها، لم تعد على النحو ذاته اليوم. بل قد يشكّل المسار الذي أخذته الثورة السورية، وما تفتحه من إمكانات، سؤالاً أمنيّاً بارزاً عليه في القادم من الأيام. فعلى خلاف محور الممانعة، وكل ادّعاءاته، يوضّح لنا السلوك الإسرائيلي أن مصدر الخطر الفعلي عليه ليس الأنظمة التي صادرت العمل الوطني تحت عناوين العروبة والقضية المركزية وغيرها من شعاراتٍ رنانة بلا مضامين حقيقية، كما أن كبح المجتمع وتحطيم قواه التي هيمنت طوال العقود السابقة لم تكن إلا نقطة قوّة تصبّ في صالح هذا العدو.
تشي كل الشروط أعلاه بأن الشارع قد يعود إلى الانفجار مجدداً، وبأسرع مما نتخيّل، فالمشكلات المذكورة أعلاه، بالإضافة إلى استمرار السلوك القمعي، والاهتراء على المستوى السياسي الخارجي، هي في الحالة الطبيعية نقاط تؤدّي إلى تثوير أي شعب، كيف بالحريِّ عندما تكون مصاحبة أزمات بنيوية داخلية، وسلوكيات مخزية خارجية؟
العربي الجديد
—————————-
مصرع التماثيل.. نهاية صور “القائد الخالد”/ أسامة إسبر
18 ديسمبر 2024
بعد فرار بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، بدأت عملية إزالة الصور والتماثيل، وتحطّمت التماثيل الكبيرة والجداريات في الساحات العامة، وفي ساحات المشافي والجامعات والمدارس، بينما رُمي بعضها في حاويات القمامة وديسَت بالأقدام. كانت هذه التماثيل والصور جزءاً من عملية تعظيم القائد التي انطلقت في عهد حافظ الأسد، وتواصلت في عهد ابنه بشار.
في عهد الأسد الأب، رسّخت هذه العملية ثقافة العبودية والطاعة والامتثال في سورية. وأصبح الجميع تحت إدارة الدكتاتور عبيداً يتحرّكون بنقرة زرّ، وكان لكلّ تابع زرّ خاص به. كما تأسست ثقافة إعلامية قائمة على النفاق والكذب، قادها وزراء إعلام أداروا عملية الإعتام. ولم تصدر في عهد الأسدين أي صحيفة أو مجلة مهمّة يمكن للقرّاء أن يثقوا بها مصدراً للمعلومات أو للكتابة الحرّة والفكر النقدي. وفي مرحلة ما، حدثت “معجزة إعلامية” بجهود شخصية، وتم إصدار “ملحق الثورة الثقافي”، الذي اختطّ مساراً مختلفاً يذكره معظم المثقفين في سورية، واحتفظوا بأعداده كأنها جواهر ثمينة. لكن الأجهزة الأمنية تدخلت على الفور ومنعت صدوره، رغم أن المواد المنشورة فيه غلب عليها الطابع الأدبي.
لم يرتقِ تعظيم بشار إلى مستوى تعظيم والده، رغم المحاولات الدؤوبة والملايين التي صُرفت لتجميل صورته. ومع تطور الأحداث، بدأت تظهر على الساحة شخصيات أُخرى في “الأيقونات” البصرية لعهد بشار، مثل الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لُقّب بـ “أبو علي بوتين”. ولا شكّ في أن تعظيم بشار، وتحويله إلى أيقونة تم تعميمها عن طريق الصور، والتماثيل النصفية، والساعات التي تحمل صورته، والصور الفوتوغرافية واللوحات، عكس مزاجاً مختلفاً، وكان يخلو من الزَّخم حتى بين أتباعه. لأن بشار لم يكن في نظر كثير من ضباطه وصف ضباطه وجنوده بمستوى والده أو أخيه الراحل، وغالباً ما نُظر إليه على أنه ضعيف.
كان من أبرز من درس ظاهرة تعظيم الرئيس حافظ الأسد عن طريق الأيقونات والرموز البصرية والعروض، الباحثة الأميركية وأستاذة العلوم السياسية في “جامعة شيكاغو”، ليزا ودين، في كتابها “السيطرة الغامضة”، حيث قالت فيه إن ظاهرة تعظيم حافظ الأسد كانت استراتيجية اتبعها النظام السوري، وقامت على المُطاوعة بدلاً من الشرعية. تم إنتاج هذه المطاوعة من خلال المشاركة الإجبارية في أشكال الامتثال الزائفة. وكانت هذه الظاهرة أداة ضبط تقوم على سياسة الخداع العام، حيث يتصرّف المواطنون “كما لو” أنهم يحترمون قائدهم. وتضيف ودين أن هذه السياسة قد تبدو غير عقلانية للوهلة الأولى، لكنها فعّالة سياسياً، إذ إنها تحدّد من هو وطني ومن هو غير وطني، وتفرض الامتثال من خلال المشاركة في الطقوس والعروض والمسيرات والمهرجانات التي ترسّخ معايير سيطرة الأسد. وتضيف ودين أن العروض تنتج حالة من الضبط، حيث تراقب الصور والتماثيل أجساد المشاركين المنتظمة في صفوف، ما يخلق استعداداً للطاعة السياسية. وشدّدت الباحثة أن هذا التعظيم لم يخْلُ من روح سخرية ونقد، كانت بمثابة مقاومة لإملاءات السلطة.
هذا التعظيم للأب وابنه وصل إلى طريق مسدود مع بداية الانتفاضة السورية، وانتشار الإعلام الاجتماعي والهواتف المحمولة. وانتهى تعظيم القائد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بعد أن فرّ بشار حاملاً حقائبه المحشوة بالدولارات والسبائك الذهبية، كما يُشاع، وانطلقت عملية تنظيف المدن السورية من صور وتماثيل العائلة، التي عدّها معظم السوريين أوساخاً على الجدران وفي الساحات تحرسها الأجهزة الأمني، بل هناك من تبوّل عليها، ونُشرت الصور في الإعلام الاجتماعي لتعبّر عن رفض السوريين لحقبة اتسمت بالعنف والعسف والقتل الممنهج والعقاب الذي لا يرحم والتردي الاقتصادي.
اعتمد النظام السوري على الصور والرموز والتمثيلات البصرية لخلق صورة قوية ومركزية تعبّر عن قوته ومدى سيطرته. فالقائد لم يكن مجرد صورة أو تمثال، بل صار الدولة نفسها. ذلك أن تعظيم القائد من خلال التماثيل والصور والجداريات وأشكال أخرى من التمثيل البصري يمكن أن ترفعه إلى مكانة “مقدّسة”، وتصنع شخصية القائد المُلهم أو “القائد الإله”. وتجلّى هذا تاريخياً في تأليه ستالين وموسوليني وهتلر. فالملصقات والتماثيل النصفية واللوحات تصوّر القائد بطُرق مهيبة تُضفي عليه قداسة، ما يدعم معصوميته وحضوره الكلّي. وهذه الأشكال لا تُصوّر القائد فحسب، بل تخدم في بناء هوية بصرية تعتم الحدود بين القائد والدولة نفسها. وليس هناك أبلغ من عبارة “سورية الأسد”، المنسوخة عن الشعار النازي “ألمانيا هي هتلر وهتلر هو ألمانيا”، للتعبير عن هذا التماهي بين القائد والدولة.
يلعب هذا النمط من التعظيم أيضاً دوراً في شرعنة النظام الاستبدادي. فالأنظمة الدكتاتورية غالباً ما تستخدم هذا الأسلوب لفرض هيمنة النظام، وتشجيع المواطنين على قبول الوضع القائم. وتساعد الرموز البصرية في توليد إحساس بالنظام والاستقرار وتجعل النظام يبدو حتمياً وأبدياً، وتذكّر المواطنين دوماً بخضوعهم. وتصبح وسيلة للمراقبة والسيطرة النفسية، حيث يتم توليد إحساس بأنك تحت المراقبة. علاوة على ذلك، تعبئ الرموز البصرية الدعم للنظام وتحفز الفعل الجماعي، مثل المسيرات والمهرجانات التي تصبح الرايات والملابس فيها رموزاً موحدة ترمز إلى القوة الجماعية تحت سلطة القائد. ومن وظائف هذا التعظيم أيضاً قمع المعارضة وشرعنة هذا القمع. فالنظام يستخدم الرموز البصرية لتبرير العنف والحل الأمني ضد المعارضين، ويصوّرهم خونةً أو عملاء. وعندما يواجه النظام معارضين له، يتم تصويرهم تهديداً لاستقرار الدولة، كما فعل النظام السوري حين صوّر المتظاهرين ضده في بداية الحراك المدني أنهم إرهابيون وإسلاميون متطرفون قادمون لذبح الأقلّيات.
في عهد الرئيس الأب، تمحور التعظيم حوله وحده، فكان وحيداً في الصورة والتمثال النصفي والتمثال الكبير والنصب التذكارية والجداريات واللوحات والصور الفوتوغرافية. أما في عهد الابن، فقد صار هناك ثلاثة: هو وحسن نصر الله وبوتين، وأحياناً أربعة حين كانت تُضاف صور أخيه ماهر، وكانت هذه إشارة كافية إلى أنه لم يكن رجل دولة مستقلاً، بل كان تابعاً يترأس نظاماً أجوفَ من الداخل، ويتوكأ على عكازين: إيراني وروسي، كما وصفه المفكر العربي عزمي بشارة في حوار تلفزيوني بمناسبة سقوطه.
رحل بشار تحت جنح الظلام كأنه كان مجرّد صورة ملصقة على الجدران في سورية مزّقتْها ريح السياسة وتبدل التحالفات والمصالح وعنجهيته الأمنية وضيق أفقه السياسي. تحطمت تماثيل وصور ومنحوتات ولوحات عهد امتد لأكثر من خمسة عقود وديس عليها، كما لو أن المقاومة التي تحدثت عنها ليزا ودين في كتابها “السيطرة الغامضة” صارت أشد قوة وبأساً، ورمت سلاح السخرية والنقد كي تحمل معاول للتحطيم. ومع أننا لا نعرف ما الذي يخبئه المستقبل لسورية، نأمل ألا يتخذ التعظيم بالأيقونات أشكالاً بصرية جديدة وبلاغة إنشائية مستمدة من الموروث.
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتّحدة
العربي الجديد
————————
يستجدون بقاء اللاجئين السوريين… يا لسخرية القدر/ مصطفى عبد السلام
18 ديسمبر 2024
يا لسخرية القدر، فقبل شهور، وربما أسابيع، خرجت علينا أصوات نشاز من دول عربية وأجنبية عدة، تطالب بطرد اللاجئين السوريين، والآن يستجدون بقاء هؤلاء اللاجئين، وعلى مدى سنوات كانت تلك الأصوات ترى في هؤلاء عبئا شديدا على الدول التي يقيمون بها، فهم يزاحمون العمالة المحلية، ويضيقون الخناق على خريجي الجامعات، وينشرون البطالة بين الشباب، ويسببون أعباء كبيرة لموازنة الدولة، ويرفعون أسعار السلع والخدمات، ويسطون على منظومة الدعم الحكومي بما فيها مخصصات الوقود ورغيف الخبز وخدمات المياه والكهرباء، ويرفعون إيجارات المساكن، ويضغطون على البنية التحتية للدولة، ويزاحمون الناس في الشوارع والمدارس والجامعات والمستشفيات، وهم من يقفون وراء أزمة الدولار واضطرابات أسواق الصرف وتغذية السوق السوداء للعملة، عبر تهريب الأموال إلى الخارج، وتحويل مليارات الدولارات لذويهم في الداخل السوري، إلى آخر تلك المعزوفة التي كانت تتكرر عندما تواجه حكومات تلك الدول أزمة اقتصادية ومالية حادة لا دخل للسوريين بها، أو تسعى تلك الحكومات لابتزاز المانحين الدوليين، وأوروبا تحديداً المرعوبة من أزمة الهجرة غير الشرعية.
لكن عقب سقوط نظام بشار، وانهيار نظام حكمه، خرجت علينا الأصوات نفسها تطالب ببقاء اللاجئين والعمالة السورية، وعدم مغادرتها الدول التي يقيمون بها، ذلك لأنها، ووفق تصريحاتها، تساهم بقوة في تنمية الاقتصادات الوطنية، ورفدها بالخبرات النادرة والعمالة الماهرة والمحترفة، كما أن مغادرتها الدول التي يقيمون بها تسبب أضراراً خطيرة للقطاعات والأنشطة الاقتصادية المختلفة، خاصة قطاعات الصناعة والصحة والنقل والخدمات.
زادت تلك المخاوف، عقب الكشف عن الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة التي قدّرت أن مليون لاجئ سوري قد يعودون إلى بلدهم في النصف الأول من عام 2025، بعد إطاحة بشار الأسد، وفق تصريحات ريما جاموس إمسيس، مديرة مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
قبل أيام وقف صاحب مصنع منسوجات في إسطنبول التركية يشتكي من عودة عماله السوريين الخمسة إلى بلادهم، وأنه مصدوم لأنه لم يتبق في مصنعه سوى شخصَين فقط. قائلاً إن تلك العودة ستلحق أضراراً بمصنعه وإنتاجه.
بعدها توالت التحذيرات من أصحاب مصانع وشركات تركية أخرى، خاصة أن السوريين يشكلون نسبة كبيرة من العمالة داخل تركيا، ويلتحقون بقطاعات حيوية، مثل البناء والتشييد والإنشاءات، والزراعة، والصناعة، والمطاعم. وتشير التقديرات إلى أن عدد السوريين الذين يعملون بطرق غير نظامية قد يصل إلى نصف مليون عامل. إضافة إلى مائة ألف حاصلين على تراخيص رسمية. كما بلغ عدد الشركات السورية المسجلة في تركيا منذ عام 2010 أكثر من 10 آلاف شركة، وفق أرقام اتحاد غرف وبورصات السلع التركية لعام 2023.
وفي ألمانيا أظهر تحليل، نشر اليوم الأربعاء، أن إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم يمكن أن تكون لها آثار سلبية على الاقتصاد الألماني، وتوسع فجوة المهارات وتشكل مشكلة بالنسبة للقطاعات التي تعاني نقص العمالة.
وأظهرت دراسة أخرى، نشرت يوم الجمعة الماضية، أن عودة السوريين إلى بلادهم ستفاقم نقص اليد العاملة في قطاعات أساسية عدة، أبرزها الصحة والنقل واللوجيستية. تزيد تلك المشكلة إذا ما علمنا أن الجالية السورية في ألمانيا تضم نحو مليون شخص، وتمثل أكبر جالية للسوريين في الاتحاد الأوروبي.
وخرج علينا رئيس جمعية المستشفيات الألمانية، غيرالد غاس، محذراً من تداعيات عودة الأطباء السوريين “الذين أدّوا دوراً أساسياً في صون الرعاية الصحية، لا سيما في مستشفيات المدن الصغيرة”. بل إن رئيسة جمعية رعاية صحية بالعاصمة برلين قالت لقناة “أن تي في” إن من شأن عودة السوريين أن تشكّل “ضربة قاسية” لقطاع الرعاية بكبار السن. وحذر قطاع النقل الألماني من تعرّضه لأزمة بسبب عودة السوريين إلى بلادهم بعد الإطاحة بنظام الأسد، وشددت قياداته على أهمية بقاء العمال السوريين لضمان استمرارية العمل في البلاد.
وقال رئيس نقابة شركات النقل الألمانية (VDV)، إينجو فورتمان: “لا يمكننا الاستغناء عنهم في العديد من المجالات”. وأضاف أن السوريين يعملون في خدمات القيادة بوسائل النقل العام في جميع أنحاء ألمانيا، وأن مغادرتهم البلاد ستفاقم النقص الحاد بالفعل في العمالة داخل هذا القطاع الحيوي.
قطاع النقل وكذا الصحي الألماني ليس هو الوحيد الذي يعتمد بشكل كبير على اللاجئين السوريين، حيث سبق أن أعرب مديرو ورؤساء النقابات في قطاعات أخرى عن قلقهم من تأثير فقدان العمال السوريين على الاقتصاد المحلي وسير العمل في مختلف الصناعات. حتى السياسيين الألمان الذين كانوا حتى وقت قريب يطالبون بطرد العمال السوريين من بلادهم عادوا ليتراجعوا عن موقفهم ويحثونهم على البقاء بعد سقوط نظام الأسد.
يتكرر المشهد في دول أوروبية أخرى منها النمسا، حيث بات أصحاب الشركات وقيادات منظمات العمل يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً من العودة الجماعية للعمال والمستثمرين السوريين، خاصة أن كل الشواهد تؤكد أن هؤلاء العمال أفادوا الدول التي أقاموا وعملوا بها، ولم يشكلوا عالة على أحد، وأسسوا آلاف الشركات والمشاريع التجارية والخدمية المتعددة في العديد من دول العالم، وهو ما ساهم في تلبية احتياجات الأسواق المحلية، وزيادة الصادرات، وخلق فرص عمل جديدة، ودفع عجلة الاقتصادات المحلية، وأن عودة السوريين، عمال ومستثمرين، إلى بلادهم بعد نجاح ثورتهم وهروب بشار الأسد باتت تقلق أصحاب المصانع والمشروعات في معظم دول أوروبا، والكرة الآن في ملعب هؤلاء، العودة إلى سورية لبناء دولتهم الحديثة واقتصادها، أو البقاء في الخارج حفاظاً على النجاحات والمكاسب المالية التي حققوها في السنوات العشر الماضية.
العربي الجديد
————————————-
حين يصبح الحذاء رمزًا: حكايات من قلب اللاذقية/ ندى منزلجي
18 كانون الأول 2024
فاتتني المشاركة في الوقفة التضامنية مع ضحايا معتقلات نظام الأسد التي أقيمت أمس في ساحة الشيخ ضاهر، وصلت متأخرة بسبب انشغالات خاصة، كان التجمع قد انفض، وبقيت مجموعة صغيرة من الشابات والشبان يتناقشون بحماس، وعيونهم تتقد تصميما وحيوية.. لم يعد لعن الحاضر شكلا وحيدا لرفض نظام الاستبداد، كما كان الحال خلال السنوات الأخيرة، التي هيمن فيها اليأس على اللاذقية إسوة بعموم سوريا، بل ربما أكثر.
حذاء الطاغية «الفوتوجونيك»
لم يتبق من تمثال حافظ الأسد الذي انتزع من مكانه وسط الساحة، وحطم، وجرت أشلاؤه في الشوارع، سوى الحذاء.. التقاط الصور مع هذا الحذاء النحاسي البشع أصبح هواية جديدة لأهل اللاذقية، بل يبدو أنه أضيف إلى قائمة النشاطات العائلية المحببة. فتاة تتخذ أوضاعا «جذابة» أمام عدسة صديقتها، وعائلات عدة تنتظر دورها باللقطة التذكارية، الصبية يتسلقون القاعدة ويقفون بساقين متباعدتين على فردتي الحذاء، والبنات الصغيرات يحملهن آباؤهن أو أمهاتهن. وأكاد أجزم أن نصيب التمثال من الصور التذكارية طيلة السنوات التي كان فيها رمزا لجبروت الطاغية المؤسس لم يصل إلى واحد في المئة مما حظي به حذاؤه مكسر الأطراف خلال أسبوع واحد فقط. يبدو أنه حقا حذاء «فوتوجونيك» (أي يظهر جذابا في الصور)!
الشمس قاربت على المغيب، ولم يعد الذهاب وحدي سيرا على الأقدام إلى مشروع الزراعة فكرة جذابة، على عكس الاستعانة بصديق، فكيف إذا كان الشاعر منذر مصري، الذي أصر على البقاء في اللاذقية خلال أحلك لحظات محنتها وفي وضع لا يحسد عليه، متمسكا بأمل بدا حينها انفصالا عن الواقع، إن لم نقل شبه جنون.
حي الزراعة أخضر
منذر الأسد، حافظ منذر الأسد، كمال الأسد، دريد الأسد، هؤلاء بعض آل الأسد فقط الذين كان يقطنون مشروع الزراعة والمنطقة المجاورة له، ومعهم العديد من العائلات ذات النفوذ والمقربة من السلطة (هرب آل الأسد، ومعظم المتنفذين، ولا أقول كلهم خشية أن أجافي الدقة) وهو حي حديث، حيوي ومكتظ، تسكنه أغلبية علوية وقد أكسبه قربه من الجامعة وأسباب أخرى لمحة شبابية واضحة، وفيه العديد من المقاهي والمطاعم والمتاجر والمكتبات والمقاهي الثقافية إن صح التعبير. وخلافا لما قيل في بداية سقوط النظام عن حالة الهدوء والتوجس التي سيطرت على الحي، الذي يعتبر مواليا بشكل عام، والتزام سكانه منازلهم أو مغادرتهم إلى القرى، كان الحي أمس بكامل حيويته المعتادة، الحركة طبيعية في الشارع، ولا شيء يشي بعدم ارتياح أو قلق، المقاهي مزدحمة بالرواد، والمتاجر مفتوحة ما عدا قلة قليلة، بسطات الخضار كعادتها. لاحظت غيابا كاملا لشباب الفصائل المسلحة التابعين للهيئة، رغم أنني سمعت سابقا أنهم متمركزون عادة عند دوار الزراعة. وكان عدد من الأعلام الخضراء منتشرا هنا وهناك.
يقدمون في المقهى الذي جلسنا فيه البيرة عادة، وربما مشاريب كحولية خفيفة أخرى، لكنهم أخفوها الآن. لماذا؟ مجرد إجراء وقائي، لم يسألهم أو يتعرض لهم أحد على الإطلاق، كما أخبروني. إنه تفصيل هامشي بالتأكيد مقابل المخاوف والاستحقاقات الضخمة التي تنتظر سوريا والسوريين، ولكنني أسأل من باب الرد على الإشاعات ومخاوف تقييد الحريات.
مجموعات من الفتيات والشبان، كانوا مستغرقين في الأحاديث، أخبرني جيراننا على الطاولة المجاورة أنهم متحمسون جدا للتغيير، وليس لديهم مخاوف تذكر، سعادتهم كانت واضحة على كل حال. كان العلم الأخضر يتصدر الجدار داخل المقهى.. إنها اللاذقية التي نحب، بتعدديتها وتسامحها. حركة السير أفضل في اللاذقية اليوم، التكاسي والسرافيس والباصات عادت إلى العمل، لكنها أقل من المعتاد، فقد فتحت المدارس وعاد الموظفون إلى دوائرهم ومؤسساتهم، وإن كانت نسبة المتغيبين لا تزال كبيرة. الشوارع ما زالت تنوء بتكدس القمامة، ولكيلا يكون الانطباع خاطئا، فهكذا هو حالها ما قبل سقوط النظام، ورغم الشعور المستعاد بالمواطنة ومبادرات خاصة من قبل جمعيات وأفراد، فالمشكلة ما زالت قائمة مع غياب عمال التنظيفات.. التقنين الشديد في الكهرباء والماء أيضا لا يزال مشكلة عويصة تنتظر الحل.
مسلحو الهيئة كمان وكمان
من الملاحظ في عموم المدينة قلة ظهور مسلحي الهيئة في الشوارع، فهم متمركزون وبأعداد قليلة أمام البنوك والأبنية الحكومية والمراكز المهمة، ورغم غياب الشرطة، فالفوضى أقل. والناس أكثر انضباطا، ولا توجد اختناقات مرورية أو تجاوزات. لكن الواضح أن المسلحين معجبون بشكل خاص ببضع مطاعم في اللاذقية، أولها مطعم سومر على الكورنيش الجنوبي، وإضافة إلى لطافتهم وهدوئهم، فهم وعلى خلاف عناصر الأمن والشبيحة ومسلحي النظام الساقط، حريصون على دفع كامل فاتورة طعامهم، وعادة بالعملة التركية أو الدولار. اليوم تقصدت أن أرتدي ثوبا قصيرا نسبيا، بما أن الشائعات تتحدث عن التدخل في ملابس النساء، وهناك مخاوف من فرض الحجاب. لم أجد أي ردة فعل مختلفة. رد الشاب الملثم بكل لطف على تحيتي، وحين سألته عن سبب لثامه، وأردفت أننا نحب مشاهدة وجه من شارك في تحريرنا. أماط اللثام عن وجه طفولي وسيم. ثم أعاده، قائلا، إنها عادة، لا أكثر. اقترب عيد الميلاد، واكتملت الزينة الآن. أمام كنيسة اللاتين سيدة محجبة تلتقط صورا لطفلتها مع الشجرة المزينة، أبتسم لها، فتقول لي «ميلاد مجيد، ينعاد علينا بالخير».
القدس العربي
—————————-
لماذا يرتعد الطاغية من شعار «الله أكبر»/ ثائر دوري
18 كانون الأول 2024
تقول نكتة انتشرت في دمشق في بداية الثورة، إن رجلين ينتظران باص النقل الداخلي. سأل أحدهما الآخر: متى يأتي الباص الأخضر (يقصد باص النقل الداخلي. يومها كان الشبيحة يستخدمون باصات النقل الداخلي الخضراء أثناء التنقل لقمع المظاهرات، فصارت رمزاً لهم قبل أن تصبح رمزاً للتهجير بعد اتفاقيات المصالحات سيئة السمعة)، أجابه الرجل الثاني بإمكانك الآن أن تُحضر ثلاث باصات خضراء على الفور إن بدأت بالتكبير. أي أن مجرد نُطق كلمة «الله أكبر» كاف لاستنفار الشبيحة وحضورهم.
عند اجتياح المدن قصفوا المآذن لأنها صدحت بالتكبير، وأطلقوا الرصاص على شبان لأنهم هتفوا «الله أكبر»، كما قُصفت أحياء بالهاون والمدفعية لأن سكانها كانوا يكبرون. فما سر هذه النداء العجيب «الله أكبر» الذي يقرر بديهية يؤمن بها كل البشر من أتباع الديانات السماوية. جميعهم يؤمنون بأن الله أكبر من كل شيء. فلم إذن تستفز حقيقة بديهية تقر بها أكثرية البشرية «الله أكبر»، جنودا وأمنا وشبيحة النظام إلى حد دفعهم لتهديم المساجد وقتل الناس وقصف الأحياء! من المعلوم أن أي طاغية بعد أن يتجاوز مرحلة معينة من الطغيان، يحسب نفسه إلهاً، وإن لم يعلن ذلك. كل من حوله يهز رأسه مشيداً بكل كلمة يقولها ولو كانت سخيفة. فيعتبرها مثالاً للحكمة والتفكير العميق الصائب لأنه لا ينطق عن الهوى، وكأنه وحي يوحى. كما أن الحكم المطلق يجعله يتوهم نفسه مالكاً قدرات إلهية، فبإشارة من يده يميت، يكفي أن يقول اقتلوا فلانا حتى يُقتل فلان. فيحسب نفسه «يحيي ويميت». ويحول الحكم المطلق الديكتاتور إلى «رزاق» فهو يوزع الثروة كما يشاء «يرفع ويضع». ويدخل الغرور إلى نفسه فيحسب نفسه «الحق»، ولو كان ذروة من ذرى الفساد والظلم. كل من يعاديه يعادي «الحق»، وهذا ما نراه واضحاً في خطاب النظام السوري وجماعته. على سبيل المثال كانت إمارة قطر جيدة ووطنية عندما كانت علاقتها مع النظام جيدة، لكن ما إن صارت ضد النظام حتى صارت سيئة وخائنة، والدليل وجود قواعد أمريكية. مع أن تلك القواعد كانت موجودة عندما كانت قطر على علاقة جيدة مع النظام، وعندما كانت تصنف وطنية. لكن الفرعون وعبدة الفرعون لا يفكرون بهذه الطريقة المنطقية، لأن مقياسهم للحق يعتمد على كونك على وفاق مع فرعونهم، أم لا، فهو الحق والخير، ومن كان ضده فهو الباطل بعينه. وقس على ذلك موقفهم من حماس، ومن مناف طلاس ومن بقية المنشقين الذين كانوا، قبل انشقاقهم، أناساً وطنيين، أما بعده فصاروا خونة!
يحسب الطاغية أنه قد صار إلهاً لامتلاكه بعض صفات الألوهية، فهو لا ينطق عن الهوى «وحي يوحى»، «يحيي ويميت»، وهو الرزاق «يرفع ويضع»، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل. لكن تبقى مشكلة تؤرقه وهي مشكلة الخلود، لأنه من لحم ودم، وبعد سن محددة يحس بأن الضعف قد بدأ يتسرب إلى مفاصله، وبدأت الأمراض تنهش جسده، لكن بدل أن يعيد التفكير بألوهيته المزعومة، ويقتنع بأنه مجرد إنسان مصيره الفناء مهما فعل، وأن الألوهية التي توهمها بفعل خنوع الشعب ونفاق المحيطين به زائفة، فهي زائلة حتماً بأحد أمرين، فإما بفناء بيولوجي أو بثورة الشعب. بدل أن يعيد التفكير بالألوهية المزعومة نراه يهرب إلى الأمام فيبحث عن الخلود الوهمي بطريقتين: الأولى نصب صوره وتماثيله في كل مكان، وقد رأينا ما فعله حافظ الأسد منذ منتصف الثمانينيات، حينما بدأ المرض يدب في جسده وبعد اقترابه من الموت عدة مرات. بعد إحساسه بالفناء الجسدي عزز بحثه عن الخلود، وهي صفة من صفات الإله، فنشر تماثيله ومظاهر تعظيمه الوهمية في كل مكان ليُقنع نفسه قبل الآخرين بأنه خالد بتماثيله المصنوعة من البرونز الذي لا يصدأ، ويعيش لمئات السنين. أما الطريقة الثانية التي اتبعها للبحث عن الخلود فهي استمرار السلطة في نسله، لذلك نشأت فكرة التوريث متزامنة مع ضعفه ومرضه، كل ذلك ليدفع عن عقله فكرة أنه إنسان فان وليس إلهاً.
ثم تلقف فكرة التوريث لصوص الدولة السورية، الذين سبقوا وتلقفوا فكرة التخليد بالرموز والشعارات، فجنوا ثروات هائلة من صب تماثيل البرونز ومن طباعة الصور والتجارة بالكتب التي تشرح حقيقة القائد الخالد وفكره. تلقف اللصوص فكرة التوريث ليضمنوا استمرار نهبهم وساندهم المجرمون قتلة الشعب السوري ليضمنوا أن لا تفتح ملفاتهم.
سار الوريث على خطا الأب فتأله هو أيضاً للأسباب السابقة نفسها، لكن هذه المرة لم يكن المرض وضعف الجسد من حطم ألوهيته المزيفة الكاذبة، كما هي حال أبيه، بل إن الشعب هو من فعل ذلك. لم يعد هو الذي «لا ينطق عن الهوا» لأن الأطفال الصغار في أبعد قرية سورية صاروا يستهزئون بسخف ما يقول. ولم يعد هو الرزاق، لأن الشعب لم يعد خانعاً ينتظر عطاياه، ولم يعد هو الذي «يحيي ويميت» لأن سيطرته المتناقصة على الأرض، وانشقاقات جيشه، وتابعيه جعل كثيراً من أوامره بلا قيمة. وبالنتيجة لم يعد يملك شيئاً من صفات الألوهية إلا بين عبدته. وقد عبّر الشعب عن رفضه للحاكم المتأله بشعار بسيط هو شعار «الله أكبر». الطاغية كان يصر أنه هو الأكبر والأقوى والأذكى والأعلم، لكن الشعب صار يُذّكره كل حين بالحقيقة الفطرية التي يعرفها كل طفل، حتى قبل أن يبلغ سن الوعي والإدراك وهي «الله أكبر». الله أكبر من الطاغية ومني ومنك. وهذا سبب جنون رجالات السلطة، الذين ارتكز خطابهم على تأليه الحاكم وعبادة السلطة، وصولاً إلى خلق دين جديد يكون الحاكم ربه، فشعار «الله أكبر» أشبه بقذيفة مدفعية تدك أساس البنيان السلطوي فينهار. لذلك يعتبر الوثن والعبدة والعبيد وسدنة المعبد الوثني أن الشعب يعتدي عليهم بهذا الشعار، فيجن جنونهم ويفتحون نار بنادقهم ومدافعهم ليسكتوه. لكن هذا الشعار البسيط يتكرر من جديد فيصابون بمزيد من الجنون ويتقوض دينهم ويظهر ربُهم المزعوم على حقيقته: وثن صغير لا قيمة له أمام الإله الكبير..
كاتب سوري
القدس العربي
———————–
«شارب» حافظ الأسد وملابس بشار الداخلية!/ أنور القاسم
18 كانون الأول 2024
حينما كنست دمشق رجس الطغاة وأعوانهم، فتحت قرائح المصورين والشعراء والكتاب، لاستحضار تاريخها البهي، فسالت أنهار الشعراء تحببا واعتزازا.
ولعل ما يلفت النظر هذه الأيام تناقل رواد التواصل لسجال الشاعر السوري أنس إبراهيم الدِّغيم، ابن بلدة جرجناز في منطقة معرة النعمان، مع الشاعر تميم البرغوثي، والذي أسقط على ما حدث ويحدث الآن في الشام.
وغصت المواقع بما قاله البرغوثي في أمسيته في معرض الكتاب في بغداد، حينما قال «إن الحسين عراق حل في جسدي.. إن العراق حسين آخر الأبدي.. ودهره أموي ما له شرف»!
ليرد الدغيم: «أقول خَلُّوا الحَسَينَ وآلَ البيتِ وانصَرِفوا.. فدهرُكم كِسرويٌّ ما بهِ شَرَفُ.. وغادِرونا إلى تاريخِكم، فَلنا تاريخُنا، ولنا الآتي، لنا السَّلَفُ ونحن مَن نحنُ، فامحوا مِن قصائدكم هذا الزُّهُوَّ، فأدنى زَهوِكم ترفُ.. من عبد شمس وشمس الله لا تقف ومن أمية هذا العز والشرف.. الفاتحون بلاد الله.. كم بلد لم يعرف اللهَ إلا حينما عُرفوا.. الممطرون وفي إيمانهم كِسفٌ.. والواقفون وما في الأرض من يقفُ.. فصفقوا للمخازي.. ربما سكن الموج العتي لتطفوا فوقه الجيف».
هذا السجال كان موجها للفرس، وليس لأبناء بلاد الشام على اختلاف مذاهبهم، فدمشق دائما كانت تنهض بعد كبواتها، ولم تمت يوما.
كم كان ليسعد نزار قباني برؤية حبيبته الأثيرة خارجة من غبار هذه العائلة المجوسية، التي احتلت منزله الدمشقي العريق لتحوله لمركز ثقافي إيراني.
وكم ستتردد كلمات عاشقها الشاعر فادي عزام وتسيل أحبار، وهو يقول: «شقيقة بغداد اللدودة، ومصيدة بيروت، توأم القاهرة، وحلم عمان، ضمير مكة، غيرة قرطبة، مقلة القدس، مِغْنَاجٌ المدن وعكاز تاريخ لخليفة هرم.
إنها دمشق امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء وعشر ألقاب، مثوى ألف ولي ومدرسة عشرين نبي، وفكرة خمسة عشر إله.
إنها دمشق الأقدم والأيتم، ملتقى الحلم ونهايته، بداية الفتح وقوافله، شرود القصيدة ومصيدة الشعراء.
من على شرفتها أطلّ هشام ليغازل غيمة أموية عابرة، «أنى تهطلي فخيرك لي» بعد أن فرغ من إرواء غوطتها بالدم، ومنها طار صقر قريش حالماً، ليدفن تحت بلاطة في جبال البرينيه.
إنها دمشق التي تحملت الجميع، قوّادين وحالمين، صغار كسبة وثوريين، عابرين ومقيمين، مدمني عضها مقلمي أظفارها وخائبين وملوثين، طهرانين وشهوانيين.
رُضِعت حتى جفّ بردى، فسارعت بدِّمها بشجرِها وظلالِها، ولمَّا نفقت الغوطة، أسلمت قاسيونها – شامتها الأثيرة- يَلعقونه يَتسلقونه، يطلّون منه على جسدِها، ويدعون كل السفلة ليأخذوا حصتهم من براءتها، حتى باتت هذه مهنة من يحبها ومن لا يقوى على ذلك.. لكنَّها دمشق تعود فتية كلما شُرِقَ نقي عظامها».
هذه دمشق التي غسلت دائما وجهها القدسي في كل مراحل التاريخ، وعلينا جميعا كسوريين وعرب المساهمة في عودتها جنة كما يليق بها.
أين الفنانون العرب؟
لماذا لم نسمع فنانين عربا يشاركون السوريين أفراحهم ويهنئونهم بالتحرير، بالرغم من فضل سوريا الكبير على غالبية الفنانين العرب مطربين، ومطربات وممثلين وممثلات؟
اللافت جدا أن غالبية الفنانات والفنانين اللبنانيين خاصة، لاذوا بالصمت بعد هروب بشار وسقوط نظامه، رغم أنهم وبلدهم كان ضحية لهذا النظام القذر، فهل كانوا ضمنيا من شبيحته أو ما زال الخوف يتملكهم، أم أنهم يخشون من الحكومة الانتقالية الحالية، أو لعلهم كانوا من المستفيدين من فضلاته؟!
لا عزاء للعديد من الفنانين والمطربين العرب، وبعض النجمات الذين عملوا عناصر أمن وشبيحة لهذا النظام، وحسبنا أن السوريين لن ينخدعوا بهم مجددا، ولن يكنون لهم أي نوع من الاحترام أو الاعتبار.
تحطيم وحرق ودوس التماثيل
من شاهد مسارعة وتسابق السوريين لهدم تماثيل وأصنام حافظ الوحش وأبنائه وأصنام هُبل الحديثة، التي كانت منتشرة في كل زاوية من سوريا ومزروعة بالقهر في أرواح وأجساد السوريين، لا يخالطه شك أن الصروح الوطنية تحرسها الأرواح والقلوب والعقول، ولا تحتاج دائما حراسات حتى في المحن، لأنها مزروعة بمحبة في أنسجة وخلايا المواطنين وأفئدتهم.
لم يبق في البلاد طولا وعرضا – حتى في مسقط رأس عائلة الوحش غير العربية، وغير العلوية بشهادة كبار العلويين – أي أثر لهذه التماثيل التي كانت تشيِّد بأموال وعرق السوريين، وتتكلف ملايين الدولارات، وكأن هؤلاء القوم كانوا خلال 52 عاما هباء منثورا وسوادا جاثما غير مندمج أو مقيم بين السوريين.
انظروا إلى صروح الشرفاء وموحدي الأوطان، مثل تمثال صلاح الدين الأيوبي في دمشق وسلطان باشا الأطرش في جبل العرب، وغيرهم من الشرفاء الوطنيين في باقي المحافظات محفوظة ذكراهم في القلوب، ولم يمسسها أحد، إلا للتبرك والمحبة والإعجاب، على عكس قبر المقبور الذي تحول الى مبولة ومحرقة لروحه الشيطانية، التي استعبدت البلاد والعباد.
بين «شارب» حافظ الأسد و «كلسون» بشار
نشط الممثل السوري المبدع – ابن الساحل – بشار إسماعيل في خمس مقابلات تلفزيونية خلال هذا الأسبوع، حينما تحدث بتفاصيل العارف لهذه الأسرة التي حكمت البلاد بالنار والحديد، والقهر والإذلال والتأليه.
الفنان، الذي عايش تاريخ هذه الأسرة، هو ووالد وجده، كشف حقائق مرعبة، حول كيف وصلت الى الساحل، وعمل جدهم سليمان الأسد في مهنة العتالة والحمل في القرداحة، وكيف كانت هذه الأسرة ترطن بلغة غير مفهومة، واعترف بأنها غير عربية وغير علوية وباعتراف شقيق حافظ، الذي قال إنهم كاكائيون، وهناك طبعا الكثير من علامات الاستفهام حول أصولهم، والأيام حبلى بكشف الحقائق.
حافظ، الذي اختلى بجثة ابنه باسل لأكثر من ساعة في مشفى «المواساة» في دمشق، كان يتوقع أنه قادر على احيائه من الموت، ظنا منه أنه قد أصبح إلها من سطوته وسيطرته! أليس هو من قتل وصفى كل الوطنيين في سوريا ولبنان وفلسطين؟ هذا الذي أصر على الظهور دائما بشارب كث، وفرض على كل من حوله هذا الشارب، كون الشارب هو رمز للرجولة في بلاد الشام، لكن ألبوماته وقصصه المخفية عرت تماما رجولته وصورته وشاربه، وبدل أن يزين هذا الشارب شخصيته، كما زين مسلسل «رجال الحارة» أصبح مسخا، مر عنوة على تاريخ هذه البلاد.
ألم يحاول ابنه بشار تأليه نفسه كذلك مثل ابيه، رغم اعتراف كل من قابله أنه كذاب آشر مريض نفسيا، لكن القدر ولعنة التاريخ كانت للإثنين بالمرصاد، هذا الهروب المخزي كالفأر، هو وأسرته، تاركا مريديه وخدامه وكل أسراره خلفه، فضحه على المستوى الشخصي والإنساني وبات كلسونه، الذي ظهر في معظم ألبومات صوره، أكبر أداة لسخرية السوريين وتفكهم حول شخصيته.
يا سبحان الله، نزع عنهم ستره في الدنيا فكيف ستكون أخرتهم؟! إنها لعنة التاريخ ودرس للسوريين أن لا يؤلهوا شخصا بعد هؤلاء الطغاة.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
القدس العربي
—————————
سوريا: «التكويع» السريع/ محمد كريشان
18 كانون الأول 2024
الكلمة الشائعة هذه الأيام في سوريا بعد التخلص من نظام آل الأسد الدموي هي كلمة «تكويع» التي لن تجد لها تفسيرا لو بحثت عنه كما تبحث عن أي مفردة أخرى.
أحد المواقع الإلكترونية تطوّع مشكورا بشرح هذه المفردة حديثة العهد والتداول قائلا: «التكويع يشير إلى من كان في موقف ما، فانتقل مباشرة إلى موقف معاكس دون أي مقدّمات، أي انتقل من زاوية إلى أخرى بشكل مفاجئ وصادم ورهيب وسريع (..) وقد بدأ السوريون في تداول هذا المصطلح بين الجد والهزل، واصفين من أصبحوا فجأة مع الثورة وضد الأسد بـالمكوّعين».
وقد كانت «القدس العربي» وتحت مقال بعنوان «ثورة جديدة في أوساط الفنانين السوريين… انتصار المعارضين و «تكويع» المؤيدين لبشار» قد استعرضت في عددها الصادر قبل ثلاثة أيام بالتفصيل وبالأسماء أبرز من قاموا بتلك الاستدارة المشهدية من النقيض إلى النقيض، ومن قام بها بحذر شديد، ومن لم يستطع إلى حد الآن أن يجد توازنه بعد سقوط النظام.
الحقيقة أن ما حصل في سوريا لم يكن استثناء في المشهد العربي العام حين يتغير النظام في أي بلد عربي لا سيما في تلك التي عرفت تغييرا مفاجئا بعد موجة غضب وتمرد طالت أو قصرت. عرفنا هذا في تونس ومصر وليبيا واليمن وأخيرا سوريا، عدا تلك الدول التي عرفت تغييرا سياسيا من نمط آخر على غرار ما وقع في العراق مثلا.
في تونس، كانوا يسمون من غيّر ولاءه سواء من بورقيبة إلى بن علي أو من بن علي إلى الثورة ضده بأنهم «قلبوا الفيستة» أي قلبوا الجاكيت فجعلوا داخلها السابق هو وجهها الجديد. عادة ما كان يقال عن هؤلاء أنهم غيروا البندقية من كتف إلى آخر.. وطالما أن لا بندقية، ولله الحمد، في ثورات كثيرة مثل تونس أو مصر فقد اكتفى التونسيون بمثل الجاكيت فيما لم يعرف عن المصريين سوى استعمال مفردة «المتحوّلين» أو القول إن فلانا «غيّر جلده».
لم يكن مستغربا أن يفعل كل ما سبق سياسيون، في هذا البلد أو ذاك، فقد عُهد عن هؤلاء مثل ذلك في كثير من دول العالم، وليس فقط في البلاد العربية، حتى اقترنت السياسة تقريبا بهذا التلوّن الانتهازي البعيد عن أي مبدئية ولو في حدودها الدنيا. هؤلاء، ومعهم أغلب رجال الأعمال وأصحاب المشاريع الاقتصادية والمالية الكبرى، غالبا ما يبحثون عن الأمان والسلامة مع أي سلطة مهما كانت للحفاظ على مصالحهم وشبكة علاقاتهم المتشعبة.
شاهدنا الكثير من هؤلاء في تونس ومصر ممّن كانوا مع نظامي بن علي ومبارك، ثم أصبحوا بقدرة قادر من أنصار الثورة والتغيير، وحين انتكست التجربتان وعادت القبضة الأمنية لتسود من جديد في كلا البلدين لم يريا أي حرج في تغيير جلودهم من جديد دون أدنى حياء.
المشكل ليس في هؤلاء فقط، فقد تعوّد الناس عموما على بهلوانيات السياسيين وتقلباتهم، ولا في الأناس العاديين الذين غالبا ما يبحثون عن الأمن والأمان مع أي سلطة جديدة، لكن المشكل يبدو بارزا وأحيانا مستفزا عندما يتعلق الأمر بوجوه بارزة في المجتمع من فنانين أو صحافيين أو غيرهم. وفي أيامنا هذه لم يعد ممكنا التستر على أي شيء فالمواقف التي سبق أن أعلنها هؤلاء لنصرة النظام وتشويه معارضيه على مختلف مواقع التواصل لا تختفي ولا يمكن التنصل منها، وحتى محوها لا يجعلها تختفي بالكامل لأنها تعود سريعا إلى التداول من جديد.
حتى الفنانون، يمكن أن يوجد لهم جدلا بعض الأعذار، ولو نسبيا، لأنهم بالأساس في الغالب متوسطو الوعي السياسي وأقحموا أنفسهم في مجال لم يقدّروا عواقبه الحقيقية، في وقت نرى فيه أن الفنانين الذين اختاروا المعارضة ووقفوا مع الثورة في سوريا قد دفعوا ثمنا باهظا لخيارهم هذا، أقله سنوات من المنفى الإجباري خارج وطنهم، وهم لكل ذلك وغيره كثير جديرون بكل احترام وتقدير. أما أولئك الذين اصطفوا مع نظام مجرم ودافعوا عنه وشتموا زملاءهم المعارضين فالأرجح أن غباءهم وعمى بصيرتهم هو ما حال دون إدراكهم أنهم اختاروا الجانب الخطأ من التاريخ وأن اعتقادهم بأن السلطة التي احتموا بها لن تدوم وسيأتي اليوم الذي يصبحون فيه «عراة» بدونها.
كل من سبق ذكرهم لا يستحقون أكثر من ذكرهم كعبرة للجميع، أو للتندّر، إذ لا شيء يجرّم في نهاية المطاف تغيير المواقف حتى وإن كانت بمثل هذه الحدة. أما ما لا يمكن التسامح معهم فهم بلا شك أولئك «الصحافيون» الذين لم يكتفوا بالاصطفاف مع نظام الأسد بل واصطحبوا جيشه في تنكيله بشعبه، وأبدوا حماسة وشماتة في ذلك، ومنهم من التقط الصور مع جثث الضحايا ضاحكا، أو أطلق الرصاص من رشاشات جنود النظام، أو جلس مزهوا في مقعد قائد طائرة البراميل المتفجرة قبل إقلاعها. هؤلاء عليهم أن يحاسبوا على أعمالهم بكل شفافية حتى يكونوا عبرة لغيرهم.
كاتب وإعلامي تونسي
القدس العربي
——————————-
مقابل ماذا أبقت إسرائيل الأسد على قيد الحياة؟/ منذر بدر حلوم
18 ديسمبر 2024
ما زالت إسرائيل تعربد على هواها، فتبيد الشعبَ الفلسطيني وتعدم أسباب حياة من يبقى منه في قيد الحياة؛ وما زالت تتوسع على حساب الأراضي الفلسطينية وتحتل مزيدًا من الأرض السورية. وبالتزامن مع هذه العربدة، ما زالت ماكينة الثقافة والإعلام الإسرائيلية، بأذرعها الغربية والشرقية وشرق الأوسطية، تُشكّل، بنجاحات متفاوتة، صورةً تُظهر باطلَ إسرائيل كأنّه الحق بعينه، وتظهر حقوقنا كأنها الباطل في أشد صوره وضوحًا.
إسرائيل تعربد اليوم في سورية، فتقصفُ فرحةَ السوريين، وليس ما بقي لديهم من أسباب القوة فحسب، بعدما أباد الجلادان، الأسد الأب والابن، كل المقوّمات التي تجعل سورية وطنًا، وبالتالي كل باعث وحافز لدفاع السوريين عن وطنهم، ولا مجال للحديث عن حماسة.
إسرائيل تعربد اليوم، وليس غريبًا أنها، كما تتحدث مصادر مختلفة، ساعدت في هروب الأسد، ساعدته لأنه زوّدها، في صفقة فراره المُذّل، بإحداثياتِ أهم ما تبقّى من أسلحة وذخائر ومواقع في أرض سورية التي عانت من ويلاته وويلات أبيه على مدى خمسة عقود ونيف.
بيبي وبشّار: الصورة والصورة الرديفة
كان كل من يقف في وجه المشروع الأسدي، حتى لحظة فراره، يوصم بالإرهاب والخيانة، وتصمه أحزاب جبهته “الوطنية التقدمية” المخزية، في جوقةِ تناغمٍ مع الإعلام الرسمي، بـ”اللا وطنية”. هل كان لدى الأسدين مشروعٌ سوى التوريث والإيغال في تطويع السوريين وإذلالهم وإخضاعهم بالحديد والنار، وربطهم إلى لقمتهم وأدنى حاجاتهم؟ وفي تزامن مفهوم، ولا يثير حتى الريبة، هو تزامن حركة الأسد- الأداة مع حركة اليد التي تديره، يوصم كل من يقف في وجه المشروع الصهيوني التوسعي بالإرهاب وخيانة الحضارة، مع فارق ليس بسيطًا هو أن الحديث عن حضارية السلطات القمعية السورية، في مواجهة همجية معارضيها، يثير الضحك المر، كما الحديث عن حضارية إسرائيل. أم أنّ القنابل الفتّاكة دليل حضارة بيبي- توأم بشار؟
وبالتوازي مع وصم نظام الأسدين وجبهتهما الوطنية التقدمية كُلَّ ما يعارض مشروعهما التوريثي باللاوطنية، تصم إسرائيل كل من يعارض مشروعها الصهيوني باللاسامية وبالإرهاب والهمجية. طبعًا، المقاومون الفلسطينيون همج، لأنهم لا يستطيعون أن يبيدوا بقنبلة واحدة المئات، ومنهم من سلاحهُ سكين؛ وثوارنا همجٌ لأن دمهم الحار يفور في وجه ذوات الدم البارد، الذين ألقوا بالبراميل المتفجرة على بيوت الناس.
طبيعي أن تحمي إسرائيل من حمى حدودها بعد أبيه كل هذه السنوات، وضحى بدماء اللبنانيين والفلسطينيين، ودمّر بلاده، وجيش بلاده والعِلم والتعليم والقضاء في البلاد، خدمة للمشروع الصهيوني، طبيعي أن تحميه كل هذه السنوات وترتّب فراره، أو في أحسن الأحول لا تُسقط طائرتَه في طريقها إلى حميميم قبل أن تنهض بثقل كل هذا العار والخيانة والجبن إلى موسكو. إنها طائرة جبّارة حقًا التي حملت كل هذا العار!! وأمّا مصلحة الدولة الروسية في حماية الجلاد الهارب بأموال شعبه، فمحط سؤال كبير ومؤسف. لماذا؟!! يبقى الأمل، بل والإيمان، في أن تعمل السلطات السورية الجديدة على استعادة الأسد الساقط وعصابته الهاربة لمحاكمتهم، مع الالتزام بكل أصول المحاكمات العادلة، في دمشق بالذات، تمهيدا لإحقاق الحق وإحلال العدل واستعادة الأموال المنهوبة وإيداعها خزينة الدولة السورية، وإنفاقها على إعادة إعمار سورية المدمّرة.
محاكمة الجلاد ورؤوس عصابته، مسألةُ دماء، إما يُراق المزيد منها أو يوقف النزف، وتُرقى الجراح لتلتئم وتشفى. لا شيء يُبرّد القلوب ويحمي من عمليات الانتقام والثأر، الفردية هنا وهناك، التي يمكن أن تأخذ طابعًا طائفيًا، في مجتمع ما زالت العائلة والعشيرة والقبيلة تمارس الثأر فيه، إلا الشعور بالعدالة، بمحاكمةٍ عادلةٍ تُنزِل أشدَّ أشكال القصاص بمن يستحقه، ولا شيء ينهض بالدولة الجديدة إلا العدل، فدولة لا تقوم على العدل تسقط مهما طال الزمن بها، وسورية لا تحتمل مزيدًا من السقوط! ولا إعادة للإعمار إلا باستعادة الأموال المنهوبة إلى خزينة الدولة، ومن دون اجتثاث الفساد. لنا في العراق مثال. وعلى موسكو، بهذا المعنى، مسؤولية كبيرة، أخلاقية وسياسية، كما على الدول الأخرى التي فرّ إليها مجرمون أقل سوية من عصابة الأسد. وبحسبي، لا يجوز أن يكون ذلك ورقة مساومة، إنما شرط وجود، يطرحه من سيحكم سورية الجريحة، فإن ساوم باع مستقبل الشعب وسام حقوقه، وكان تاجر حقوق من أجل الاحتفاظ بالكرسي، وكان وجها آخر للسلطة التي أسقطها.
تتطابق الصورة بين الأسد، العدو الذي منا وفينا، وليست المسألة في الجغرافيا فحسب، وصورة إسرائيل العدو القريب منا الغريب عنا، والذي لا يترك لمن يَجري في عروقه دمٌ حرٌ شريف أن يرى في مشروعه “من الفرات إلى النيل” مشروع سلام، كما يتوهّم المطبّعون الموعودون بالبقاء على كراسيهم. وما يدعو إلى الأسف أننا أيضًا، وليس الأسد الساقط وحده، نساعد إسرائيل في تشكيل صورة منفّرة عنا في الوعي العام، بل وفي لاوعي حتى أطفالنا. المسألة ببساطة، أننا، بعد فرحةٍ قصيرة، غامرة وعامرة- أجلْ، جميع السوريين ابتهجوا بسقوط الأسد- رحنا نشكّل من مخاوفنا وأحلامنا وتصوّراتنا صورة معيقة، تسهم في مزيد من تفتّتنا، رغم المشترك السوري بيننا، الصورة التي لا تخدم مستقبلنا السوري، إنما تخدم مستقبل إسرائيل. صورةً تُجرّد نصفنا المختلف عنا إثنيًا أو طائفيًا من حقه بالاختلاف، ناسين أننا حين نصفه بالتوحش والإرهاب والتخلّف نصف أنفسنا، وحين نرسم صورة متخلفة ووحشية عنه ويرسم صورة متخلفة ووحشية عنا، ننتج صورة جامعة لنا، كلنا فيها متخلفون، همجيون، متوحشون وإرهابيون.
أجيال متعاقبة نشأت على الخوف في سورية، على الترهيب. أليس الترهيب من الإرهاب؟ وهل هناك أشد من إرهاب الأجهزة الأمنية في عهد الأسدين؟ وهل هناك عامل تمزيق وتفتيت أكثر من زرع المخبرين والمفسدين إن لم يكن في كل عائلة ففي كل بيت؟ ومن جَعْلِ الأخ يخاف حتى من أخيه أو يتجنبه في أحسن الأحوال؟ ولذلك، فمن الطبيعي أن يتبادل السوريون المخاوف والارتياب بالمستقبل والتساؤلات حوله وعدم التصديق. غريزة البقاء التي اشتغل عليها نظام الأسد الأب وابنه الساقط، اشتغالًا ممنهجًا، حلّت محل العقل والأخلاق، وما زالت تحكم الناس، والتخلص منها يحتاج إلى جهود كبيرة وزمن غير قصير. غريزة البقاء هي الأولى في سلم الغرائز. وأمّا المطالبة بضمانات، فتعني التسليم بثنائية “منتصر/ مهزوم”، بينما جميع السوريين منتصرون اليوم على عصابة الأسد، وفي هذه العصابة مجرمون من كل الطوائف والأعراق، والنصر يعني الانتصار على الخوف، يعني ألا ينتظر السوري من يكلّفه بعمل لخدمة وطنه الجريح. قد يكون العمل الفردي منقذًا للإنسان الفرد نفسيًا وماديًا، إنما العمل المشترك منقذ للأوطان.
اليوم، بعد السقوط المدوي المُذلّ لجلاد سورية، هناك طابور خامس يساهم بنشاط في تشكيل صورة عن السوري في الوعي الجمعي العالمي تُسهّل على عدونا شيطنة كل السوريين، وبالتالي تسهّل على إسرائيل الاستمرار في العربدة. وهذا الطابور، يكرّر ما ردّده إعلام الأسد الساقط على مدى سنوات حكمه الوحشية الدامية أن من قاوموه منذ البداية ومن خرجوا إلى المظاهرات المطالِبة بالحرية إرهابيون وعملاء لإسرائيل. كثير مما ينشره الطابور الخامس اليوم يعلل عربدة إسرائيل بتعاون قوى الثورة السورية مع تل أبيب، وليس بخيانة الأسد وشروط تيسير فراره. وتل أبيب بدورها لا ترحم الثورة السورية، لا تترك لمن خلّص السوريين ممّن حمى حدودها على مدى خمسين عامًا أن يفرحوا بانتصار ثورتهم، لا تترك لهم أدنى الأدوات لاستعادة بناء جيش “غير عقائدي” ليس ضمن وظائفه حماية السلطة، إسرائيل بتدمير البنية العسكرية والبحثية- العلمية تساعد الطابور الخامس في إيجاد روابط ومصالح مشتركة بين العَلم ذي النجوم الثلاث والنجمة السداسية.
للأسف، إسرائيل تشكّل الصورة التي يمكن أن تهز الأرض تحت سورية الجديدة، تُطبّل فترقص أقلام البعض، وأمًا من يُظهر الحقيقة ومن ينفخ في مزمار الوعي فيُقتل. كم من الصحافيين قتلت إسرائيل؟! أو تتم إبادتهم معنويًا فتحظر تصريحاتهم محركات البحث الداعمة لوحشية إسرائيل. وتُقدّم تل أبيب العبرة لمن لا يعتبر، في فلسطين ولبنان، ناسيةً أننا رأينا بأم أعيننا مصير من يراهن عليها، سقوط خادم الصهيونية- قاتل شعبه.
ضفة ثالثة
——————————
المثال السوري.. غسل الأيادي في القاهرة/ شادي لويس
الأربعاء 2024/12/18
من أين أتى كل هذا الشر الذي خيم على سوريا لعقود؟ في سبيل تبرئة عموم السوريين، ينسب إلى طائفة بعينها، أو إلى حزب البعث والذي له سجل في العراق المجاور يعزز تلك الصلة، أو بأكثر درجات الاختزال ينسب إلى عائلة أو أسرة وأحياناً إلى فرد واحد. كون السوريين في مجموعهم، وباختلاف طوائفهم وطبقاتهم وانتمائهم، هم ضحايا هذا الشر المطلق العابر للتمييزات والفوارق، وكونهم ضحايا نصف قرن من معايشة التروما بوصفها روتيناً يومياً، كان من المتعذر أحياناً تصوّر أنفسهم طرفاً في هذا الشر أو حاضنة له.
هكذا، يتطلب الإنكار أن يكون أصل الهول السوري أما أقلوياً وعائلياً وفردياً، أو غريباً ودخيلاً وأجنبياً. بمجرد هروب بشار، خرجت التحقيقات الصحافية لتفتش في الأصل “النازي” للهول الأسدي. والحال أن تلك النسبة النازية ليست على سبيل المجاز، بل هي مقاربة حرفية ترجع بمؤسسات الرعب التي خبرها السوريون جيلاً بعد جيل إلى عدد من الضباط النازيين ممن فروا إلى سوريا بعد الحرب العالمية الثانية. بين روايات عدة تشير إلى الخارج، تحدد واحدة منها زمن الوحدة القصيرة مع مصر على أنها فترة الاختمار لتك الوحشية التي تعلم السوريون مبادئها الأولى من ضباط النظام الناصري.
وبغض النظر عن سؤال أصل الشر ذي الوقع الأقرب إلى اللاهوتية، وبغض النظر عن إجابته، فإن ما لا شك فيه أن المثال السوري قد صار مصدر إلهام لأنظمة المنطقة تارة وترويع شعوبها تارة أخرى. فعلى خلفية من مشهد يمتلئ برؤوس مقطوعة من أول بن علي تونس إلى بشير السودان، نجا بشار بعنقه الطويل أكثر من اللازم من مقصلة ثورات الربيع العربي وموجاتها المتتابعة. نجا وأدخل معه المنطقة إلى عصرها الإبادي الجديد. ما أثبته قمع الثورة السورية بحصيلة أكثر من نصف مليون قتيل وملايين من المهجرين واللاجئين، هو أن الوحشية المطلقة مجدية وناجعة. من ذلك المثال، ما استنبطه نظام الثلاثين من يونيو في مصر هو أن خطأ مبارك لم يكن القمع بل خفة القمع. وبدا وكأن الجمهورية المصرية المسماة بالجديدة تحاول أن تتماهى مع النموذج الأسدي وتنسخ منظومته، التأسيس على مذبحة وتعميم الرعب وتوسيع قاعدته، كل هذا تحت مظلة الحكم بالعنف وحده.
وفي ذلك السياق شهدت القاهرة ظاهرة الاختفاء القسري، وأضحى اختفاء أسر بأكملها مع أطفالها حدثاً عادياً. النسق الاحتلالي للأسدية، أي أن يكون النظام الحاكم نظام احتلال كناية وفعلاً باستدعاء احتلالات خارجية معه، يوجد ما يشبهه في دول عربية أخرى، حيث يتم مقايضة التراب الوطني بالسيولة النقدية اللازمة لاستمرار النظام. بإيجاز، صارت معادلة تدمير الدولة لصالح النخبة الحاكمة معادلة معقولة ومجربة. حتى القوى الإقليمية التي دعمت إسقاط الأسد في البداية، بدت أنظمتها وكأنها تضمر إعجاباً بالنموذج الأسدي، ومن ثم سعت لإعادة تأهليه وإدماجه في المنظومة الإقليمية مرة أخرى.
لكن المثال السوري في تطرفه لا يمكن تصوره سوى أنه سينقلب إلى نقيضه. التهاوي السريع للنظام الأسدي وبلا مقاومة تقريباً، كان بمثابة زلزال هز المنطقة بأكملها. وفي عواصم عربية عدة لا يمكن إخفاء القلق. فالنموذج الأسدي قابل للانهيار فجأة، وتأثير الدومينو له سوابق قريبة. هكذا، يجتمع الرئيس السيسي بعدد من الإعلاميين المقربين ليغسل يديه من الدماء أمام الجمهور، مصرحاً بأنه لم يلطخهما بالدم، ولم يمدها على أموال الغير.
بالنسبة للقوى الإقليمية، إن كان وصول الإسلاميين إلى الحكم عبر صندوق الانتخابات بعد الربيع العربي أمراً مثيراً للذعر، ودفعها لدعم الثورات المضادة في دول الإقليم، فإن وصول الإسلاميين إلى دمشق على ظهر دبابة أو بالأحرى على ظهر دراجة بخارية، يجعل من سوريا نموذجاً كابوسياً يجب إجهاضه، أو على الأقل الانتقال من التعويذة المحفوظة “مش أحسن من سوريا والعراق” إلى تعويذة أخرى هي: “مصر ليست سوريا”.
المدن
——————————–
الشعب السوري واحد/ طارق متري
الأربعاء 2024/12/18
كثيراً ما يحار المرء في أمر المقارنات. ولا سبيل إلى تبديد تلك الحيرة إلّا التريّث في تفسير الوقائع عند سقوط الأنظمة ومنها ما لم يعرف بعد. لذلك، تحفظت في ردّي على أسئلة كثيرة عن النظر إلى ما حدث ويحدث في سوريا في مرآة ليبيا. ربّما صحّ القول إننا في الحالتين، أمام أسئلة تدور حول “عسر التحوّل الديموقراطي”، الذي ذاقه الليبيون ويتوقّعه السوريون. وصحيح أيضا إننا نتناول أسئلة صعبة حول العلاقة بين التدخلات الخارجية والتناقضات الداخلية. أذكر أن أعضاء في مجلس الأمن الدولي لم يتحدثوا مرة عن ليبيا إلّا وكانت عينهم على سوريا. وكانت حجتهم أن التدخل الخارجي، لا سيما العسكري، يؤدّي دائماً إلى العنف والفوضى. غير أن صاحبة الحجة، وأقصد بالطبع روسيا، أتت بمثل ما سبقت لها إدانته فتدخلت عسكرياً لإنقاذ النظام السوري. لكنها أحجمت بالأمس عن الفعل نفسه حين استحال ذلك الإنقاذ.
ليس هذا التناقض في الموقف حكراً على روسيا. فكثيراً ما تتغيّر التدخلات الخارجية، حتى الإنقلاب، من حيث استطاعة أصحابها ورغبتهم في التحكّم بالأوضاع الداخلية. بل نراها أحياناً محكومة بما تؤول إليه النزاعات الداخلية وكيفية استدعائها لتلك التدخلات. ففي ليبيا، توهّمت الدول التي أسهمت عسكرياً في إسقاط نظام القذافي أنها مرشحة لدور حاسم في الدولة الجديدة وللحصول على عائد كبير مقابل “استثمارها”. لكنها خابت، لغير سبب، ليس أقلّها الانشغال بالمنافسة أو الصراع فيما بينها. لسنا هاهنا بصدد التخوّف من تطوّرات شبيهة في سوريا. فللمقارنة حدود يترتب علينا التنبّه لها. فإذا كانت العوامل الخارجية مؤثرة في الثورة السورية وصولاً إلى ما صارت إليه في الأيام الأخيرة، فإن قوة تأثيرها لم تكن كما كانت في ليبيا. فالتغييرات الداخلية المتراكمة في سوريا طيلة أربعة عشر عاماً، وما أصاب النظام نفسه من وهن، جعلت من سقوطه ممكناً أكثر مما فعلت التدخلات الخارجية المباشرة.
ويدعونا ذلك، بعدما رأينا فرح الشعب السوري بالحرية وإن امتزج بالذاكرة الجريحة والألم وبعض المخاوف، إلى إيلاء اهتمام أكبر للفاعل الداخلي، عوض الاستغراق في تفسير الواقع الجديد في ضوء المصالح الخارجية، والتي شاعت تسميتها بالجيو سياسية، ومعها التدخلات الظاهرة أو الخفية. لقد صنع السوريون التغيير، فصار تأييده أولى من الغلو في نسبته إلى قوى خارجية والتساؤل عن مآلاته بظل أهواء تلك القوى.
وإذا ما جنح فهم الواقع السوري الجديد إلى التشديد على الخارجي حتى التقليل من شأن الداخلي، أو إهماله، تظهر سوريا بصورة بلد متقاسم أو موزّع بين مناطق نفوذ وجماعات. غير أننا نسمع بالمقابل حناجر السوريين تصدح، بتلقائية تستعيد عفوية الثورة السورية منذ إنطلاقها، هاتفة أن “الشعب السوري واحد”. وهي بذلك تؤكّد أولية الفاعل السوري وفاعليته التي تتجاوز ما حقّقه تنظيم بعينه. ولعل هذا الهتاف الشعبي يضمر رفضاً لتقاسم سوريا بين الدول ذات الحضور أو النفوذ على أجزاء من أرضها.
غني عن القول إن وحدة الشعب السوري المنشودة لا تنفي التنوع لكنها ترفض تحوّله تنابذاً كما جرى على يد السلطة البائدة عقوداً طويلة. ولعلّ القول هو صنو الدعوة إلى قيام دولة المواطنة، حيث لا أكثرية وأقليات ادّعى النظام البائد أنه حاميها، ولم يفعل سوى الإصرار على إخضاعها بعد إخافتها من الأكثرية. والقول بوحدة الشعب السوري، النابع من وعي السوريين على امتداد السنوات القاسية، يدحض سردية “الحرب الأهلية” التي شاعت، لا في سوريا فحسب، بل في العالم العربي وفي الدول الغربية. وهو اعتراض على ما دعي واقعية عند البعض ممن رضي بحكم الأسد أو تغاضى عن ارتكاباته او تقرّب منه بذريعة الخشية من فوضى تلك الحرب.
عسى أن يكون هذا الإعلان الشعبي عن التمسك بوحدة السوريين سبيلاً نحو وحدة الأرض السورية، التي كانت إسرائيل سباقة في تهديدها من طريق احتلال جبل الشيخ السوري والمنطقة العازلة، وادعائها أنها تمدّ يد السلام إلى جيرانها، أو إلى فئة منهم. وعسى أن يكون الإيمان بوحدة الشعب السوري أول الطريق إلى دستور يحقق المساواة ويحلّ سلطة القانون فوق أي سلطة أخرى.
المدن
——————————
عن فلسطين وسقوط نظام الأسد/ ماجد عزام
الأربعاء 2024/12/18
ثمة تداعيات إقليمية وحتى دولية هائلة لسقوط نظام الرئيس الملوع بشار الأسد في سوريا. سيترك هذا السقوط تداعيات وتأثيرات كبيرة ومباشرة على القضية الفلسطينية، ما يستدعي بالضرورة إجراء قراءة للعلاقة بين النظام والقضية بشكل عام، لتبيان أهمية سقوطه أخلاقياً وتاريخياً وفكرياً وسياسياً واستراتيجياً.
بداية، لا بد من الإشارة إلى عمق الحضور السوري في فلسطين باعتبارها جنوب سوريا أصلاً – كانت ثمة صحيفة تصدر في فلسطين بهذا الاسم في الأربعينيات قبل النكبة – ومع اتضاح خطورة المشروع الاستعماري الصهيوني، كان الحضور السوري بارزاً في فلسطين، أولاً، عبر الجنرال فوزي قاوقجي، ثم عبر الشيخ عز الدين القسام وآلاف المتطوعين في فلسطين باعتبارها قضيتهم أيضاً.
بعد الاستقلال كانت سوريا المدنية الديمقراطية حاضرة وفاعلة في تأسيس الجامعة العربية، التي كان أحد أهم أسباب وحيثيات تأسيسها مواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين.
وبعد النكبة، استقبلت سوريا المدنية الديمقراطية – بعلمها الشامخ والظافر – اللاجئين الفلسطينيين وعاملتهم كالمواطنين السوريين، مع إعطائهم كافة الحقوق المدنية باستثناء السياسية، ولكن مع تأسيس جيش التحرير الفلسطيني لتمكينهم من القيام بواجبهم في معركة تحرير فلسطين العربية الجامعة.
حصل كل هذا قبل أن يصل نظام آل الأسد إلى السلطة، عاكساً المسار برمته، كونه تعاطى ككل أنظمة الاستبداد والفساد، مع القضايا الكبرى، بما فيها القضية الفلسطينية، من منظور مصلحته الفئوية الضيقة وبقائه في السلطة سواءً زمن الحرب أو زمن السلم والمفاوضات مع إسرائيل.
بتفصيل أكثر، سعى نظام آل الأسد للإمساك بالقضية الفلسطينية، وإضعاف وتهميش منظمة التحرير بصفتها وطننا المعنوي والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وخاض حروب متعددة المستويات السياسية والعسكرية والأمنية ضدها بأدوات وأذرع متعددة فلسطينية ولبنانية، وعلى سبيل المثال لا الحصر تمكن الإشارة إلى قصف وتدمير مخيم تل الزعتر وحصار مخيمات بيروت وطرابلس في لبنان.
تمثل هدف الأسد من الإمساك بالقضية الفلسطينية بالمتاجرة بها، والتفاوض باسمها لتحقيق مكاسب فئوية للنظام الاستبدادي، وتجميل أو إخفاء جوهره الطائفي والاستبدادي.
في السياق أيضاً، لا بد من التذكير بمواقف ومقولات الرئيس الشهيد ياسر عرفات الذي اعتبر دوماً نظام آل الأسد خطراً استراتيجياً على القضية الفلسطينية بسعيه الدائم لمصادرة القرار الوطني المستقل، كما بالتصريح الشهير للأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حكيم الثورة جورج حبش، الذي قال فيه “إن نظام آل الأسد قتل من الفلسطينيين أكثر مما فعلت إسرائيل”.
هنا، وقبل التطرّق لموقف نظام الأسد من حرب غزة الراهنة وفضحه، ووهم وحدة الساحات، لا بد من التطرّق إلى الغزو الإسرائيلي للبنان 1982، الذي يشبه في أحد أبعاده الجوهرية والتاريخية والفكرية والسياسية، حرب غزة الراهنة. فأثناء الغزو وقعت معركة السلطان يعقوب التاريخية في البقاع، والتي امتزج فيها الدم الفلسطيني واللبناني والسوري رغماً عن إرادة النظام المهادن والرافض للاصطدام والحرب مع جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وعملياً وبالخروج من المعركة والحرب، ترك نظام الأسد الأب الفلسطينيين واللبنانيين وحدهم بمواجهة الاجتياح وآلة القتل الإسرائيلية، تماماً مثلما فعل الابن مع المقاومة في غزة.
بعد غزو لبنان، عمل نظام الأسد على تأجيج الخلافات الداخلية وشق حركة فتح ومنظمة التحرير، مع التذكير باعتقال آلاف الفلسطينيين في معتقلاته سيئة الصيت، تحديداً من حركة فتح باعتبارها العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك.
لكن سرعان ما أتى الجواب الشعبي الفلسطيني مدوياً من اللاجئين بسوريا، أولاً بالمشهد المهيب لجنازة الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، نهاية ثمانينات القرن الماضي، والتي كانت بمثابة استفتاء ضد النظام ولصالح القيادة الفلسطينية الشرعية بل المرحلة برمتها.
ثم شهدنا مواصلة النضال بشجاعة من الرئيس أبو عمار والقيادة الفلسطينية الشرعية، عبر نقل أو للدقة، إعادة الصراع إلى ساحته المركزية داخل فلسطين في الانتفاضة الأولى 1987 والثانية 2000، في ظل قطيعة سياسية تامة بين فتح والنظام، بينما حماس القوة الناشئة آنذاك، لم تكن قد بدأت التواصل مع نظام الأسد الابن، الذى سعى عبر العلاقة مع حماس بدلاً من فتح، لتعويم نفسه واستثمار القضية الفلسطينية لتغطية عورات النظام واستبداده ووحشيته.
مع اندلاع الثورة السورية، بادر اللاجئون الفلسطينيون إلى رد الجميل عبر استضافة المهجرين والنازحين من إخوانهم السوريين، مع دعم مطالبهم المحقة بالحرية والكرامة وتقرير المصير، وعمد النظام ضمن اتباعه الخيار الأمني الدموي، إلى التنكيل بالفلسطينيين –كما السوريين- وتدمير المخيمات وتهجير وتشريد أهلها.
وفي هذا السياق، يُختصر مخيم اليرموك باعتباره عاصمة الشتات الفلسطيني، المشهد كله، حيث قصفه نظام الأسد بطائرات “ميغ 29” المقاتلة في بداية الثورة وزمن سلميتها وقبل عسكرتها.
ولم يكتفِ النظام بذلك، حيث قام بتسليم جثث الجنود الإسرائيليين الأسرى في معركة السلطان يعقوب الشهيرة، بل ونبش عسكر الأسد مقابر الشهداء في المخيم للبحث عنهم تحت وصاية ضباط روس تنفيذاً لأوامر الرئيس فلاديمير بوتين، الذي قام بإهداء جثة الجندي زخاريا باوميل لصديقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل الانتخابات البرلمانية المبكرة في العام 2019.
مع اندلاع الثورة، حصلت القطيعة بين النظام وحماس، باعتبارها حركة المقاومة الأبرز في فلسطين، بعدما رفضت تبني روايته عن المؤامرة المزعومة ضده. وقام النظام وحلفاؤه بشيطنتها وتشويه صورتها، لكن مع تولي يحيى السنوار قيادة الحركة داخل قطاع غزة في 2017، وانتقال الثقل القيادي فيها إلى الداخل والقطاع تحديداً، حصلت المصالحة مع النظام برعاية إيران وذراعها الإقليمي المركزي “حزب الله”، وجرى ابتداع مصطلح وحدة الساحات ضمن تبييض حماس لمحور طهران وأذرعها الطائفية، وإسباغ الطابع المقاوم عليه.
قُصد بمصطلح “وحدة الساحات”، توحّد الحلفاء وأعضاء المحور في مواجهة أي حرب إسرائيلية قادمة على أي من جبهاتها، لكن عند اندلاع حرب غزة العام الماضي، لم يتم تفعيل وحدة الساحات كما تم التنظير لها من جبهاتها المركزية، ولم يطلق الأسد طلقة واحدة إثر تهديد إسرائيل بإسقاطه، وتجاوز التفاهم مع روسيا بعدم التعرض له والتركيز على منع التموضع الاستراتيجي لإيران وحلفائه الذي تم التوصل إليه عند تدخلها في سوريا عام 2015.
وعليه، لم يكن مفاجئاً سقوط الوهم مرة أخرى، حيث فضّل النظام البقاء في السلطة على أي خيار آخر، حتى بثمن تمكين إسرائيل من الاستفراد بغزة وحيدة، وإيقاع نكبة جديدة وجريمة إبادة موصوفة بها وبأهلها.
في الأخير وباختصار وتركيز، وبناء على المعطيات السابقة فسقوط نظام كهذا صحيح بل وضروري أخلاقياً وتاريخياً وفكرياً وسياسياً سورياً وفلسطينياً ولبنانياً وعربياً أيضاً، وعلى الفصائل والطبقة السياسية الفلسطينية كلها استخلاص العبر والقيام بالقراءة الوطنية الصحيحة، والسعي لبناء علاقات صحية مع سوريا الجديدة، بعيداً عن العسكرة، والتركيز على إعادة بناء المخيمات والتعافي، ضمن عملية بناء وتعافي سوريا التي دمرها نظام الأسد، مع ضرورة انبثاق قيادة فلسطينية جديدة من رحم الثورة. وبالنسبة للمستجدات الإقليمية، نرى تراجع الاهتمام بحرب غزة، ما يستلزم أيضاً عقد ورشة، بل ورشات وطنية، لقراءة واستخلاص العبر اللازمة وتنفيذها وتطبيقها، والسعي لإنهاء حرب غزة، ضمن توافق وطني ومرحلة ومسار انتقالي يواكب نظيره في سوريا، جنباً إلى جنب مع الحفاظ على القضية حية على جدول الأعمال الإقليمي والدولي، والانتباه إلى حقيقة أن نظام الأسد سقط وأخذ معه الطبقة الفلسطينية أقله في سوريا.
المدن
——————————
مسيحيو سوريا…خيار إسلامي؟/ الياس طعمه
الأربعاء 2024/12/18
منذ سقوط النظام في سوريا، تتعالى أصوات غربية تهتم بالوجود المسيحي في الشرق، بالمطالبة بحماية الوجود المسيحي.
طبعاً، من الواضح أن الحضور المسيحي تقلّص في الشرق عموماً، وفي سوريا بطبيعة الحال، وقبله في العراق ولبنان وفلسطين أيضاً حيث تتمثل الكارثة الحقيقية. والحق أن الأسباب كثيرة ويرجع معظمها إلى عوامل اقتصادية من أواخر القرن الماضي.
إنّ الغرب الذي يتشدّق دائماً بالحديث عن حماية المسيحيين لم يقمْ بخطوة واحدة حقيقية في هذا الاتجاه عبر سنوات وسنوات، وبالتالي لن يقوم الآن بها، الا من خلال تصريحات جوفاء هنا وهناك لذر الرماد في العيون.
إنّ الطريق الوحيد التي يمكن سلوكها للوصول إلى الغاية المطلوبة المتمثلة في بقاء المسيحيين في سوريا بقوة هو قيام دولة المواطنة حيث يتساوى الجميع فيها.
طبعاً يجب أن يكون الجميع حريصاً على تطبيق هذا البند وخصوصاً المسلمون، حتى يصير الحفاظ على الوجود المسيحي في سوريا خياراً إسلامياً صرفاً، ويقطع المسلمون أنفسهم الطريق على الدول الغربية التي تنادي بحماية الأقليات! وكأن المسيحيين في سوريا هم جالية غربية تعيش في الشرق. والحق أن المسيحيين في الشرق هم من صدّروا المسيحية للغرب وليس العكس، بل إنّ الغرب في واقع حاله اليوم لم يُبق من المسيحية الأصلية إلا اسمها.
من الصواب أن يكون الحفاظ على الوجود المسيحي في سوريا خياراً إسلامياً، لا من باب الذمّية أو الحماية، بل من خلال الاشتراك في بناء سوريا الحرة الديموقراطية بلا محاصصة طائفية.
نحن بحاجة إلى الابتعاد عن الصور النمطية لتصوير التعايش الإسلامي المسيحي، التي لم تسمن ولم تغن من جوع والتي استعملها النظام السابق كثيرا وتشدّق بها المتشدقون.
ان تشابك الأيدي بين القيادات الدينية ما هو إلا بداية لمسيرة طويلة، قائمة على المواطنة. فالتشابك الحقيقي لا يكون بالصور والزيارات بل بخلق فضاءات للعمل الوطني البناء.
إن الخيار الإسلامي الصادق بوجود مسيحي فعال وقادر على المساهمة في البناء الوطني والتنمية ليس محصوراً في عدم فرض الحجاب أو غيرها من أمور كثيرة يراها عوام المسيحيون جوهرية، بل يكون من خلال خوض التحدّي المقبل معا انطلاقاً من الاعتماد على الكفاءات العلمية والوطنية في سياق البناء الوطني. فأكثر ما يسىء للوجود المسيحي في سوريا هو التعامل معه على أنها “تزييني” الطابع، أو أنّه الدليل على التسامح الديني في البلاد.
لطالما افتخرنا نحن المسيحيين في الشرق، بالدور الذي نقوم به وبما نقدمه لبلادنا من مساهمات فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية كثيرة. لم ولن ندخل في لعبة العدد، بل إن يسوع يسمينا في الانجيل “القطيع الصغير”. والأعداد البشرية في كثير من الأحيان تكدسات واختناقات وأفواه تأكل الأخضر واليابس ولا تنتج فكراً حضارياً يساهم في بناء المجتمع.
أخيراً، يجب أن يثق المسيحيون في سوريا، بشركاء الوطن، فلا يستجيبوا للتخويف والتهويل من بعبع غير موجود لأن المثل الشعبي يقول: “يلي بيخاف من العفريت بيطلعلوا”.
المدن
—————————–
أين “البعث” من رشاقة الدمشقيين؟
حازم الأمين
18.12.2024
دمشق المدينة الهائلة التي لم يبقِ فيها البعث شيئاً إلا واستباحه، خلعت بليلة واحدة كل مظاهر القباحة التي نشرها “البعث” على مدى أكثر من خمسة عقود!
لم يحتج الدمشقيون أكثر من يوم واحدٍ لكي يقتلعوا كل مظاهر “البعث” التي كانت متفشّية في كل نواحي حياتهم. وبعد أقل من أسبوعين على هرب بشار الأسد، لم يعد من أثر في الشام لحضور نظامه إلا في أماكن تجميع النفايات.
النظام فعلاً كان “أوهن من بيت العنكبوت”، هذه العبارة التي ساقها حزب الله ليصف إسرائيل، ترافق المتجوّل في أحياء دمشق بعد تحريرها السهل من أبشع نظام يمكن أن تبتلي به مدينة أو بلد أو جماعة.
تبخر النظام بين ليلة وضحاها، ولم يبق منه إلا نفاياته. صور الرئيس المخلوع ممزّقة، وتماثيل والده محطمة، ودمشق استأنفت حياتها على رغم الغموض الكبير الذي يلفّ مستقبلها.
الناس هنا تعيش من دون نظام البعث. لا وجهة واضحة لمسار يومهم إلا أنهم سيستيقظون غداً من دون تلك الصخرة الهائلة التي كانت تجثم على صدورهم. لا شيء أبشع مما كانوا يعيشونه. النظام كان يتعقب كل تفصيل صغير في حياتهم.
بإمكان زائر دمشق أن يعاين ذلك الحضور الرهيب للعائلة الحاكمة في كل شيء. في شركة الهاتف الخلوي، وفي أوراق العملة، وفي البارات والمساجد والفنادق. أينما وليت وجهك ستجد أثراً قاتلاً لآل الأسد. لكنهم اليوم في مستوعبات النفايات، وفي أحاديث الناس الساخرة عن “الرئيس النذل”، وفي أغاني الساروت المنبعثة من السيارات اللاعنة لبشار وعائلته.
دمشق المدينة الهائلة التي لم يبقِ فيها البعث شيئاً إلا واستباحه، خلعت بليلة واحدة كل مظاهر القباحة التي نشرها “البعث” على مدى أكثر من خمسة عقود!
لا عودة إلى زمن آل الأسد. إنها الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن يجزم فيها المرء أثناء تأمّله في مستقبل سوريا. والدمشقيون إذ يحارون بما لم يتمكنوا من “اجتثاثه” من آثار العائلة، ابتدعوا أشكالاً من العلاقة مع ما لم يتح لهم إزالته مستعينين بالسخرية. ورقة العملة السورية من فئة الألف ليرة تتوسطها صورة بشار الأسد، فاستبدلوا اسم هذه الفئة من العملة بعبارة “جحش”.
ثمن السندويش جحشان، وسائق التاكسي يطلب 12 جحشاً لكي يوصلك إلى منطقة المزة. إنها ما تبقى من صور بشار، وأكثر ما يستعجله أهل دمشق هو استبدال هذه العملة، فهي ما تبقى من “الأبد” الذي تخلصوا منه.
المدينة تسير غير آبهة بما ينتظرها. كل شيء عاد لينتظم من دون ناظم واضح. المهم بالنسبة الى الناس أن “البعث” انزاح عن صدورهم. المدينة تشتغل على وقع الغبطة بالحدث. الغبطة قوة دافعة للانتظام. إنها الأيام الأولى للانفراج، والناس راغبة في استئناف حياة ما بعد “البعث” وما بعد آل الأسد.
هذا الفندق مثلاً كان يملكه رامي مخلوف، والأخير هرب مع من هربوا. الفندق يشتغل، ولكن لمصلحة من؟ لا أحد يسأل، فالمهم أن هذه المرافق تؤدي وظائفها. لا يريد الدمشقيون أن يعرفوا من يتولى تشغيل مرافئ العائلة وأصولها. لا يريدون أن ينتقموا من غير وجه بشار.
أما الجانب المظلم من المدينة فيتمثل في هذا الكم الهائل من صور المفقودين الملصقة أينما وليت وجهك في أحياء دمشق. استبدل الناس صور الرئيس المخلوع وصور العائلة، بصور أحبائهم الذين أخفاهم النظام في سجونه.
العائلات هي من ألصق الصور، وكتبت عليها عبارات معتمدةً ضمير المتكلم. “هذه الصورة لشقيقي أحمد الذي اختفى في سجن المزة بتاريخ 15 – 11 – 2014، فمن يعرف عنه شيئاً الرجاء الاتصال بالرقم …”.
جدران دمشق كلها مغطاة بهذا النوع من الملصقات. أهل المخفيين اللبنانيين أيضاً وجدوا طريقاً إلى جدران الشام وألصقوا عليها صور أحبتهم.
آثار “البعث” التي لم تُزل، مبثوثة في أماكن لم تصلها بعد يد الدمشقيين، ففي شركة الهاتف مثلاً وفي صف الانتظار، عليك أن تضغط على جهاز يحدد لك دورك لشراء الخط. الجهاز يسألك ما إذا كنت “مدنياً” أم غير مدني! في الفندق يسألك الموظف إذا كنت ترغب في مخاطبتك باسمك مسبوقاً بعبارة “الحاج”، فـ”البعث” في أيامه الأخيرة استقدم “الحجاج الإيرانيين” بدل “الرفاق البعثيين”، وموظف الاستقبال في الفندق عليه أن يسأل الزبائن الجدد.
غادر الأسد مخلفاً دمشقاً متخفّفة من وجهه ومن عائلته ومن حزبه. المدينة التقطت أنفاسها غير آبهة بالغموض الذي يلف مستقبلها. لم تنهر المدينة على نحو ما انهارت بغداد بعد سقوط “بعثها” مثلاً. كل الشوارع تؤدي وظائفها على نحو غريب. الأمر محيّر فعلاً! لا أحد يسوق الناس إلى أدوارهم ومهامهم هنا. يؤدونها بما يوحي بأن النظام لم يكن أكثر من شعيرة قتل، ولا حاجة إليه بما يتعدى تلك المهمة.
شارع الشعلان التجاري في وسط دمشق لا تقفل متاجره قبل منتصف الليل على رغم الظروف التي تمر بها المدينة، والأحياء في الشام القديمة تعج بآلاف العابرين والمتسوقين، والتجار الشاميون يتنافسون على إذهالك برشاقة طاقاتهم التسويقية، إلى حد تسأل نفسك أثناء تجوالك بين المتاجر، كيف لم يخلف “البعث” بهؤلاء ثقل ظله على رغم أنه خلف كل هذه الدماء؟
درج
——————————–
كيف نقنع بشار الأسد أنه لم يعد رئيساً؟/ مناهل السهوي
18.12.2024
يثير البيان الأخير المنسوب إلى بشار الأسد سخرية لاذعة، لكنه في الوقت نفسه يوقظ غضباً وحنقاً تجاه الوحشية التي حكمت السوريين لعقود، والتي لم يجرؤ الأسد على الإشارة إليها بكلمة واحدة.
تزامن نشر صفحة “رئاسة الجمهورية العربية” السابقة لما تم تداوله بوصفه بيان بشار الأسد الأول بعد سقوط نظامه، مع اكتشاف عدد من المقابر الجماعية. إنها الصورة المختصرة لحكم الأسد، عظام تخرج من تحت الأرض وكلمات فارغة تخرج من فم “الشيطان”، فهل فكّر بشار فعلاً قبل نشر بيان كهذا، أم أنها فرصته الأخيرة ليمارس شرعيته التي صيغت من حياة السوريين وأرواحه، وهل هو فعلاً من نشره؟ خصوصاً أن البيان تحيط به شبهات كثيرة تشكك في مصداقيته.
احترمْ آلام السوريين واصمتْ الى الأبد
بينما تقف أمهات وأبناء على مشارف مقابر جماعية، سنحتاج الى سنوات لاكتشاف هوية من فيها، يعود بشار ويتّهمنا بالإرهاب، شعب كامل يصدقُ الأسد أن سكانه إرهابيون، فيما الإرهابي الوحيد هو من دفن كل هذه الجثث فوق بعضها…
يثير البيان سخرية لاذعة، لكنه في الوقت نفسه يوقظ غضباً وحنقاً تجاه القسوة التي حكمت السوريين لعقود، والتي لم يجرؤ الأسد على الإشارة إليها بكلمة واحدة.
لا عن آلاف المعتقلين، ولا عن سرقة البلاد، ولا عن التعذيب، أو القمع، أو الحرق، أو المقابر الجماعية. وكما يُقال، لا يزال الجرح ساخناً، ودماء المأساة تتدفق بين السوريين. ومع ذلك، أبدع الأسد، أو ربما أحد أفراد حاشيته المسؤولين عن صفحات التواصل الاجتماعي، في صياغة بيان الهروب.
وفي مقابل هروب الأسد “الميمون” مع طنّين من الأوراق النقدية وقبلها الملايين، وتركه خزينة دولة شبه فارغة، أتحفنا ببيان ركيك اللغة والإحساس. جاء في البيان: “لم أغادر الوطن بشكل مخطط له كما أشيع، كما أنني لم أغادره خلال الساعات الأخيرة من المعارك. بل بقيت في دمشق أتابع مسؤولياتي حتى ساعات الصباح الأولى من يوم الأحد 8 كانون الأول 2024”.
في الحقيقة، لا ينتظر السوريون تبريراً أو اعترافاً بالخطأ، ومن الواضح أن الرجل لا تهمّه البلاد ولا القضية ولا حتى الأخوّة، هو الذي ترك ماهر شقيقه وهرب، الرجل يريد مصلحته الشخصية والشخصية فقط والتي سيتخلى مقابلها حتى عن عائلته إن لزم الأمر، فهل لهذا البيان من معنى، سوى “أمل إبليس بالجنة”، وربما بوابة لدخول في المفاوضات المقبلة في سوريا.
محاولات ركيكة لحفظ ماء الوجه!
يُذكّرنا البيان المنسوب إلى الأسد الهارب برسائل الـ “الصديقة السابقة” التي تصلنا بعد انتهاء العلاقة، بحيث يعاند البعض بنشر رسالة تُظهر أنهم هم من اتخذوا قرار الرحيل، فلا يقبلون ولا يقتنعون بأن أحداً قد يتخلى عنهم.
بشار الأسد في رسالته بدا مقتنعاً فعلاً بأن السوريين يحبونه.
نشر الأسد البيان ثم حذفه، ما أثار تكهنات حول ما يحدث، هل هو من نشره؟ هل اختُرق الحساب؟ بيان تحيط به السخرية وإشارات الاستفهام، إذ تم استباقه بعبارتي تعريف وامتعاض بسبب رفض كل وسائل الإعلام نشره، ما اضطر الرئاسة السابقة لنشره على صفحات التواصل الاجتماعي. الطفل الكبير بشار بدأ يبكي ويشتكي، فأحد ما أخذ دميته من يده، فلطالما عامل الأسد سوريا على أنها دميته، يحق له رميها، تكسيرها، إغراقها بالطين والماء أو حتى بيعها، من منطلق “أنها لي”.
يشير عنوان البيان “تصريح للرئيس بشار الأسد حول ظروف خروجه من سورية”، إلى أن الأخير ما زال يعتبر نفسه رئيساً، وأن هروبه مجرد خروج مؤقت، وما حصل مجرد ظروف لا ثورة شعب. الأسد سيد الالتفاف على الحقيقة بلا منازع ونكران الوقائع والتكبر على جراح الآخرين، لا بأس، فأولى مراحل الفقدان هي النكران، والرئيس الهارب سيكون في مرحلة نكران طويلة وعميقة.
وليقول إن قصته لم تنتهِ، تحدث الأسد الهارب عن “قصة سيرويها حين تسنح الفرصة”. إذ قال: “ثمة ما يستدعي توضيحه عبر بيان مقتضب، لم تسمح تلك الظروف وما تلاها من انقطاع تام للتواصل أمنية بالإدلاء به، والذي لا يغني بنقاطه المختصرة عن سرد تفاصيل كل ما جرى لاحقاً، حين تسنح الفرصة”.
كيف نقنع بشار الأسد بأن ديكتاتوريته انتهت ولا يهمنا أياً من تفاصيل ليلته الأخيرة في دمشق، ونتمنى ألا تسنح له الفرصة ليقول شيئاً إلا في محكمة عادلة يأخذ فيه عقابه العادل.
وهم أن تكون بطلاً حتى في هروبك!
يخبرنا بيان الأسد، غير المؤكد حتى الآن، الكثير، والذي ندعو ألا يكون حقيقياً لأنه سيثبت لنا أن جباناً حكم هذه البلاد لـ 24 عاماً وقتل أكثر من نصف مليون شخص، ثم وضع بياناً وتردد بشأنه ليغير خصوصيته مرة only me ومرة الجميع، بشار الأسد هو الوحيد الذي يريد أن يقرأ بيانه.
أبدى الأسد الهارب اهتماماً واضحاً بتوقيت فراره، فهو لم يهرب قبل سقوط كل سوريا بيد المعارضة، إنما بعدها، عندما تأكد “المسكين” أنه استنفد جميع أسلحته، بحسب البيان غير المؤكد. وفي هذا تأكيد من جانبه على استبسال “منقطع النظير” في الحفاظ على البلاد، التي تشهد أبواب السجون فيها على هذا “الاستبسال”.
ليس هذا وحسب، فالنبرة العاطفية العالية في البيان تهدف الى استجرار ما تبقى من عواطف في حال ما زال البعض يؤمن به. أما التغني بالبطولات الغامضة للأسد، فهي مجرد إرضاء لذات مهزومة، ظهرت هذه البطولات فجأة، في حين كان يزج بأبناء الطائفة العلوية إلى موتهم المحتوم ويقتل من يرفض الامتثال لأوامره.
يتحدث بشار عن بطولاته فيقول: “وهو ذاته من وقف مع ضباط وجنود جيشه على خطوط النار الأولى، وعلى مسافة عشرات الأمتار من الإرهابيين في أكثر بؤر الاشتباك سخونة وخطراً”.
“البطولة” التي نتذكرها لبشار الأسد هي ذهابه قبل سنوات وتناوله البطاطا المسلوقة مع بعض الجنود على أبواب حي جوبر على أطراف العاصمة. يبدو أنه شعر بالبطولة حقاً حين تناول البطاطا المسلوقة، هو الذي كان ينعم بحياته بينما السوريون جائعون. وفيما كانت طائراته تقصف البيوت، كان يبتلع لقمة البطاطا المسلوقة متسائلاً: كيف بإمكان هؤلاء الشبان تناول مثل هذا الطعام؟
“البطولة” الثانية لبشار هي حين قاد سيارته بنفسه وسط دمشق، غير خائف من شيء، مؤكداً للسوريين أنه يقود سيارته في الشوارع ذاتها التي يمشون فيها متعبين… “بطولات” الأسد لا تنتهي حقيقة.
بشار “لم يكن من الساعين إلى المناصب”، والطريقة التي كان يُجبِر فيها السوريين على التصويت له لم تكن سوى أمر يحدث على الهامش، وتنصيبه بعد موت والده وتغيير الدستور لأجله ليسا أيضاً سوى تفصيل يؤكد نفوره المطلق من المكاسب الشخصية. ليس هناك رجل تكذّب أفعاله كلامه مثل بشار الأسد.
بشار، هذه الشخصية النرجسية، يعتقد أنه الوحيد المؤهل والقادر على قيادة سوريا. على مدار 14 سنة لم يثنهِ شيء ولم تقنعه لا المجازر ولا تقسيم البلاد بإعادة التفكير ولو مرة، هل سأل نفسه ولو في أمسية ما: ربما لست الرئيس المناسب؟ بعد بيانه لا يبدو أنه سأل نفسه إن كان أخطأ، ولن يسأل حتى!
لم يمتلك الأسد يوماً خطاباً قريباً من الناس أو يعبر عنهم حتى، كان يخاطب شعباً وهمياً في رأسه وما زال يخاطبه، في ما لو كان البيان حقيقياً.
أشك في أن الأسد يتابع الأخبار أو “السوشيال ميديا”، فلو شاهد مسيرة واحدة خرجت بعد رحيله لما كان أصدر بياناً ساذجاً كهذا.
أخذت لغة بشار الأسد مع السوريين خلال سنوات حكمه شكلين، فإما كانت وعيداً وتخويناً للمعارضين أو تذكيراً بأنه صاحب الفضل والمنقذ للشعب الواقع تحت سلطته. لم يتحدث يوماً كسوريّ يعرف هذا البلد حقاً، أو يمتلك هموم السلطة ولغتها وحيلها إلى أن هرب بصفته سارقاً للبلد وقاتلاً لأبنائه.
بعيداً من كون البيان حقيقياً أو مجرد لعبة من أحد ما، لكنه فرصة ليقول السوريون إنهم لا يريدون أي بيانات من هذا النوع، ما نحتاجه فعلاً هو أن يصمت بشار الأسد الى الأبد أو أن يعترف بجرائمه في محكمة عادلة تعيد الاعتبار الى دماء من قُتلوا على يديه.
خروج مثل هذا البيان فرصة ليرى الأسد ردود فعل الناس، ممن كانوا تحت سلطته وقمعه، وكم أنهم كانوا بحاجة ليقولوا: “لا نريدك” وحسب.
في ظل غياب ظروف موثوقة أو مؤكدة لنشر البيان، يبدو ألّا شيء يمكن الوثوق به أو تصديقه حين يتعلق الأمر بالأسد. كلّ ما يحيط به إما أكاذيب أو تحريف للحقائق. لذا، لا يمكن أن نؤمن بأي شيء صادر عنه سوى الحقيقة الوحيدة الثابتة: الدمار الذي خلّفه وراءه، والمقابر الجماعية، والمعتقلات، والمغيبين. تلك هي الصورة الحقيقية والأكيدة للأسد.
جرح
—————————-
البحث عن المخفيين قسراً في سجون النظام السوري: جهود فردية تفتقد عملاً منهجياً/ حسن مراد
18.12.2024
الفرحة بسقوط نظام الأسد بالنسبة الى أهالي المخفيين قسراً لحظة خوف من مواجهة الحقيقة، ولم يخف الكثيرون مرارتهم من الخفة في التعامل مع هذا الملف من دون مراعاة لمشاعر العائلات والعشوائية في التعامل مع الأدلة وغياب الخطوات المنهجية لتوثيق شروط الاعتقال.
على رغم يقين أحمد الحسون أن والده المعتقل منذ العام 1983 قد أُعدم، لكنه يرفض الاستسلام لليأس: “يجب أن نحلم بالمعجزات كجزء من تمسّكنا بنهوض سوريا من تحت الركام”.
أحمد أستاذ جامعي وروائي مقيم في فرنسا منذ خمس سنوات، لم يذق طعم النوم منذ سقوط النظام السوري، يمضي وقته بين متابعة الأخبار المتواترة والتواصل مع شقيقه الذي لم يبارح سجن صيدنايا.
أنيس الحسون، والد أحمد، عسكري في الجيش السوري اعتُقل في الثمانينات على خلفية الاشتباه بانضمامه إلى حركة كانت تحضّر لحملة انشقاقات داخل صفوف الجيش تمهيداً لقيادة انقلاب عسكري، وقد اعتُقل قسم كبير منهم أثناء اجتماع في حلب، واستطاع مع مجموعة الفرار والوصول إلى مسقط رأسه في ريف إدلب وتخفوا بين تضاريس جبل الزاوية.
تعدّدت الروايات، ومنها أن رجال المخابرات، بمساعدة البعثيين في المنطقة الذين كان لهم دور فاعل في الإيقاع بالمنشقّين، استطاعوا القبض عليهم جميعاً ما بين جبل الزاوية ومعرة النعمان، ليختفي أي أثر له منذ ذاك التاريخ.
يسرد أحمد ما عاناه هو وعائلته بسبب هذا الإخفاء القسري لوالده: “عدم استصدار شهادة وفاة منعني من الحصول على سكن جامعي عندما كنت طالباً، وهو حق لأي طالب توفي والده. كما نعجز عن التصرف بممتلكاتنا، وإذا طالبنا باستصدار شهادة وفاة له فإننا نتعرض للاعتقال والإهانة كما حدث معي عندما طلبني فرع مخابرات إدلب سنة 2005، وتعرضت للإهانة والضرب”.
يقول أحمد لموقع “درج”: “طوال 40 عاماً وصلتنا روايات متضاربة كثيرة حول مصير الوالد، لكنها صبّت كلها في المنحى ذاته، أي إعدامه”. عائلة أنيس لم تفقد الأمل طالما لم يتوافر أي دليل ملموس، أولاً لأن معتقلات النظام عالم مواز لم تُكشف كل خباياه، وثانياً تحرير معتقلين أمضوا بدورهم ما يزيد عن أربعة عقود.
لم يجد أحمد إلا وسائل التواصل الاجتماعي للبحث عن أي طرف خيط لمحاولة الكشف عن مصير والده: “العائلة لم تصل إلى مبتغاها، لكن الناس بدأت تسأل وتتفاعل بحرية لم نعهدها من قبل”، يدلي أحمد بهذا الكلام بعدما وصلتهم معلومة، لم يتسنّ لهم التأكد من صحتها، تفيد بأن أنيس أُعدم في الباحة رقم 6 من سجن تدمر.
في حديثه إلى “درج”، بدا أحمد متصالحاً مع هذا الواقع، هو الذي أصدر رواية “الخاطوفة” التي تجسد الحالة النفسية للمعتقلين وأهاليهم. لكن مقاربته العاطفية لهذا الموضوع لا تحجب مطالبته بضرورة اللجوء إلى توثيق رسمي. وفقاً له، “آن الأوان لفتح تحقيق شامل في ملفات عشرات آلاف المختفين”، أمرٌ يفتقده أهالي المخفيين قسراً، الذين يشتكون من غياب أية جهة تمدّ لهم يد العون.
كلام أحمد لجهة ضرورة التوثيق ينسجم مع حديث فراس صقار المقيم بدوره في فرنسا. يقول فراس إنه بعد اعتقال شقيقه طارق عام 2013 على “حاجز الموت” التابع للأمن العسكري في حلب، تبلغت العائلة من ثلاثة مصادر مختلفة أن شقيقه أعدم مع جميع المعتقلين الذين احتُجزوا ذاك العام في الأفرع الأمنية في حلب. لكن أحد المحررين من سجن صيدنايا أبلغهم في العام 2020 أنه التقى بطارق في السجن المذكور.
فراس يتعامل بحذر شديد مع أية معلومة، إيجابية كانت أم سلبية، بعد تعرض العائلة للابتزاز المالي طوال السنوات الماضية. ورغم ترجيحه فرضية تصفية شقيقه، لكنه يتمسك بنسبة الـ 1 في المئة من الأمل.
الفرحة بسقوط النظام هي بالنسبة الى أهالي المخفيين قسراً لحظة خوف من مواجهة الحقيقة، وفقاً لفراس، الذي لا يخفي مرارته من الخفة في التعامل مع هذا الملف من دون مراعاة لمشاعر العائلات. يتفهم اندفاعة الناس وعاطفتهم لكنه يبدي أسفه للعشوائية وغياب الخطوات المنهجية التي واكبت الدخول إلى سجن صيدنايا والإحاطة بصورة عامة بهذا الملف.
لا ينكر فراس ضرورة التوثيق الإعلامي لمعاناة المحررين، لكن ما يهمه ليس الاستماع إلى رواية كل محرر بقدر معرفة تاريخ الاعتقال والجهة التي أوقفته والمعتقلات/الأفرع التي احتجز بداخلها، ما قد يوفر طرف خيط لتتبع أثر شقيقه المخفي قسراً.
إتلاف السجلات والدوس عليها قهر آخر يعيشه فراس: “حتى لو لم تتضمن معلومات مباشرة عن طارق، ستظل مفيدة بشكل أو بآخر. على سبيل المثال، إن لم يرد اسمه في سجلات صيدنايا وعُثر في المقابل على اسمه في الفرع الأمني الذي أوقفه، قد يشكل ذلك مؤشراً الى إعدامه ميدانياً”.
يتابع فراس حديثه إلى “درج”، مبدياً غضبه من انتشار الأخبار والمعلومات المضللة أو التي تفتقر إلى المصداقية، كقوائم المحررين التي تحمل الأسماء ذاتها وتنشر في كل مرة على أنها محدّثة، طارحاً جملة من التساؤلات: “مَن الجهة التي تولت الدخول إلى السجون بعد سقوط النظام؟ أين المتخصصون في الحفر في ظل ما يُحكى عن سجون سرية؟”.
يؤكد فراس أن ما من منظمة أو مؤسسة، سورية كانت أم دولية، بالإمكان اللجوء إليها لمساعدتهم، كلام أكدته بدورها سلمى عثمان التي تحاول الوصول إلى أية معلومة تسمح بمعرفة مصير أخيها (غير الشقيق) مهند صالح. من فرنسا تتابع سلمى القنوات التلفزيونية وما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي إلى جانب تواصلها مع أهالي عدد من المخفيين قسراً، ومع ذلك لم يحصل أي منهم على معلومة ذات مصداقية. وما يزيد من خشية سلمى هو المقاطع المصورة التي تظهر معتقلين فاقدي الذاكرة، ما قد يصعّب العثور على مهند.
رغم ذلك، بدأت جهود فردية مبذولة تؤتي ثمارها وإن ما زالت تفتقد العمل المنهجي العلمي.
تقول سلام أبو شالة لـ”درج”، إن الكوابيس لا تفارقها منذ 11 عاماً وهي الشاهدة على توقيف زوجها، جميل غانم، أمام عينيها في 25/7/2013 على حاجز طيار تابع للأمن العسكري في وادي الياس الواقعة بين بلودان والزبداني. قبل انتقالها إلى فرنسا، أقامت سلام أبو شالة في الزبداني: “كانت هناك نقطة عسكرية في منطقة تسمى الحرش يشرف عليها العقيد جابر عيسى، الذي يتبع للفرقة الرابعة، وعناصر هذا المدعو هم الذين اعتقلوا زوجي. ذات مرة تمكّن اثنان من المعتقلين من الهروب من منطقة الحرش، ليخبرا الأهالي أن جابر كان يربي كلاباً تأكل من جثث المعتقلين”.
كما العائلات القاطنة في الزبداني، كانت أبو شالة تأمل بالعثور على زوجها حياً في سجن صيدنايا. لكن في نهاية المطاف، لم يخرج سوى اثنين من أبناء المنطقة، وهو عدد محدود مقارنة بإجمالي المخفيين قسراً من أبناء الزبداني، والذين يناهز عددهم الـ700 شخص وفقاً لأبو شالة، أمر دفعها إلى التساؤل: “هل ما زال حياً أم لا؟ وإن فارق الحياة ماذا حلّ بجثته؟”.
تطرح أبو شالة هذه التساؤلات على ضوء المعلومات المتداولة حول لجوء النظام إلى التخلص من جثث المعتقلين في المكابس والمحارق وحفر الأسيد، ووسط غياب أي جهة تتابع هذه الملفات. برأي أبو شالة، إن لم يُعثر على اسم لزوجها في قوائم الأفرع أو السجون، قد يُعثر له على أثر في منطقة الحرش، لكنها لم تجد أي جهة لتتواصل معها وتضع بحوزتها هذه المعلومات تمهيداً لمسح المنطقة والتنقيب عن أية مقبرة جماعية.
الحال تغيّر في 15 كانون الأول/ ديسمبر بعد العثور على مقبرة جماعية في المنطقة المذكورة، خبر تتابعه أبو شالة عن كثب. وفقاً لقناة الحدث، فقد حُدِّد مكان المقبرة بعد تتبّع المعلومات “من وإلى”، ما يشير إلى الاستناد إلى شهادات السكان في تأكيد كلام سلام أبو شالة حيال علم أهالي المنطقة بما كان يحدث في تلك البقعة. علاوة على ذلك، ما ذكره التقرير حول الحاجة إلى أطقم متخصصة في الحفر والتنقيب وفحص الجثث، يؤكد بدوره حديث أبو شالة حول غياب أي جهة أو منظمة تتولى إدارة عمليات البحث على نحو منهجي.
في هذا السياق، نشر الكاتب والمحرر التنفيذي لموقع “الجمهورية نت” ياسين سويحة، منشوراً على صفحته على فايسبوك انتقد فيه “الخفة المذهلة في التعامل مع أرشيفات السجون”، كما وصف آلية البحث عن المقابر الجماعية “بالعبث الإجرامي” لا سيما لجهة “غياب فرق جنائية متخصصة وبنية تحتية مخبرية مجهزة”. وتوقف سويحة عند سلوك عدد من وسائل الإعلام في تغطيتها المقابر الجماعية وكأنها “سبق صحافي”.
المحامية ومديرة منظمة “دولتي” رولا بغدادي، أشارت لـ “درج” إلى توثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان أسماء نحو 96000 من المخفيين قسراً. في المقابل، أكدت ما ورد في هذه الشهادات الأربع لجهة غياب جهة موحدة تتولى متابعة هذا الملف.
تشير بغدادي إلى وجود منظمات دولية تدعم عدداً من روابط عائلات ضحايا النظام السوري، لكنه يبقى دعماً محدوداً ولم يصل إلى جميع العائلات: “ملف المخفيين قسراً يتطلب جهوداً ضخمة ومؤسسات كبيرة، فالمؤسسة المستقلة لشؤون المفقودين لا تزال في طور التشكيل وإرساء آليات لمباشرة عملها”.
تعزو بغدادي السبب إلى السقوط السريع والمفاجئ لنظام الأسد، ما لم يوفر الوقت الكافي للاستعداد المسبق إن من المجتمع المدني أو حتى من هيئة تحرير الشام: “معظم المؤسسات والمنظمات التي تتابع هذا الملف هي خارج سوريا وتبقى جهودها متواضعة أمام هول الحدث”. أما في ما يتعلق بالدخول الفوضوي إلى سجون النظام، فلم تستبعد المحامية السورية احتمال وجود مجموعات مرتبطة بنظام الأسد تعمّدت إتلاف الأدلة.
تختم بغدادي حديثها لـ”درج” بالقول: “في الوقت الراهن، لا بد وبالحد الأدنى، من وقف التداول بالأخبار المضللة”، لتحيلنا في هذا السياق إلى مقطعين مصوّرين لكل من فدوى محمود ودياب سرية.
أما الصحافي صخر إدريس فأشار من جهته إلى وجود منظمات ومؤسسات عدة مهتمة بمتابعة ملف المعتقلين والمخفيين قسراً، منظمات متشابهة في التسميات والأهداف لكن من دون أي تنسيق في ما بينها.
إدريس تابع مع عدد من زملائه ملف المعتقلين، بخاصة إبان اعتصام سجن حماة المركزي عام 2018 مطالبين في حينها بإنشاء “بنك موحد للمعلومات” لكن من دون جدوى.
يقول إدريس لـ”درج”، إن المنظمات والمؤسسات المعنية بهذا الملف لم تتجاوب مع هذا المقترح. ولا ينكر حساسية المسألة لتضمّنها بعداً أمنياً، “لكن أقله استحداث قاعدة بيانات توضع في خدمة أهالي المخفيين قسراً”.
ما لاحظه إدريس هو احتكار المنظمات المذكورة المعلومات، رغم الدعم الدولي الذي تتلقاه كي تصبح تلك المعلومات ملكاً عاماً. وهو لا يدعي وجود معطيات كافية توفر كل الإجابات، لكنه ينتقد غياب الشفافية. في هذا السياق، يطرح الصحافي السوري فرضية المنافسة بين المنظمات المعنية بهذا الملف، ما قد يفسر، برأيه، غياب التعاون المطلوب.
درج
————————
قناة “العربية”: حلبة المهادنة بين سوريا والسعودية/ سمر فيصل
18.12.2024
الشاشات السعوديّة تستقبل الفنانين السوريين المعارضين لكنها تستثني السعوديين، فتصريحات فنان سوري عن كونه مطلوباً من نظام الأسد تشبه قصص سعوديين يعيشون في الخارج، صامتين وممنوعين من العودة، على رغم التغيرات الاجتماعية التي تتفاخر بها السلطات السعودية.
منذ سقوط نظام الأسد، لا تزال قناة “العربية” تسلّط الضوء على الحدث عبر تغطيات واسعة ومقابلات مع شخصيات سورية بارزة، سواء كانت مؤيدة أو معارضة للنظام خلال الثورة السورية التي امتدت الى أكثر من عقد.
هذه المقابلات تكشف أحياناً عن حقائق تلقي بظلالها على الواقع السعودي. فعلى سبيل المثال، تصريحات الفنان باسل خياط حول كونه مطلوباً من النظام السوري وحرمانه من تجديد جواز سفره، رغم صمته وعدم إعلان موقف معارض طوال سنوات الثورة، تشبه قصص سعوديين يعيشون في الخارج. هؤلاء السعوديون لا يزالون صامتين وغير قادرين على العودة، رغم التغيرات الاجتماعية التي تتفاخر بها السلطات السعودية.
أصوات مؤيدي نظام الأسد الذين انقلبوا عليه بعد سقوطه تفسرها أسباب تتعلق بالخوف أو الضغط، لا الاستفادة من النظام نفسه، كاستقبال القناة دريد لحام، المعروف بولائه المطلق للسلطة، والذي يتناقض مع تاريخه الفنيّ، وجدناه على قناة “العربية” يقول: “لو تماديت في انتقاد الأسد لوجدتم عظامي في صيدنايا والنظام حول سوريا…”، لكن متى انتقد دريد لحام الأسد الابن؟
هذه السياسة السعوديّة تنطبق على سوريا لا المعارضين السعوديين المهددين دوماً، سواء كانوا معارضة سياسية، أو ناشطين غرّدوا بما لا يعجب محمد بن سلمان، وهذا يعكس صمت المواطنين السعوديين إزاء قضايا محورية في المنطقة مثل القضية الفلسطينية، والتي تقلّصت أهميتها في الخطاب السعودي المعاصر، ناهيك بتهديد كل من يحاول الوقوف إلى جانب فلسطين بالمنع والإلغاء في المهرجانات والاحتفالات التي تنظّمها هيئة الترفيه.
إلى جانب ذلك، يبدو أن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، مثل الضرائب وارتفاع تكاليف المعيشة، جعلت حياة المواطن السعودي أكثر صعوبة. ومع ذلك، فكرة الثورة مستبعدة تماماً، في مجتمع مُنع فيه حق التظاهر منذ تأسيس الدولة الحديثة.
الكتل البشرية في السعودية تجتمع وتحتشد للاحتفال بمنجزات محمد بن سلمان، أصبح استهلاك المواد الترفيهية علامة على الطاعة، وقبول التغيرات في المملكة، ولا نعني أنها تغيرات سلبية، لكن هذا الانفتاح قابله صمت وترهيب حيال جوانب الحياة الأخرى، تلك التي ممنوع الاجتماع احتجاجاً عليها.
بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، تم تداول صورة الناقد السينمائي السعودي فهد الأسطا على منصة “إكس”، وسط ترحيب من الوسط الفني بعودته من دون ذكر سبب غيابه. هذه الظاهرة تُبرز مدى الحذر في تناول موضوعات الاعتقال بالسعودية.
في الوقت نفسه، ظهر صوت معارض جديد، وهو فرحان العطوي، الذي أعلن معارضته للنظام السعودي عبر فيديو على “إكس”، في خطوة أثارت الاهتمام وسط تهديدات قيل إنه تعرّض لها.
السعودية في سوريا
منذ سقوط الأسد، تسعى السعودية الى تسويق نفسها كطرف فاعل في هذا التغير المفاجئ، رغم أنها أعادت العلاقات مع النظام السوري في الآونة الأخيرة، بما في ذلك فتح السفارة واستئناف الرحلات بين البلدين، واستقبال بشار الأسد في القمة العربية بالرياض. هذا يثير تساؤلات حول حسابات ولي العهد السعودي، التي إما خذلته حينما ظن باستمرار نظام الأسد، أو أنه كان يؤدي دوراً لصالح حلفائه، بخاصة الولايات المتحدة وإسرائيل، بإعطاء الأسد شعوراً بالأمان قبل سقوطه. ومع ذلك، يبقى الاحتمال الثاني ضعيفاً بسبب التناقض مع الدور التركي المفاجئ في إطاحة نظام الأسد.
لا ننسى أيضاً أن السعودية إحدى أبرز الدول التي “تستقبل” كبتاغون النظام السوري، النظام ذاته حليف إيران التي تهدد أمن المنطقة، مع ذلك هناك ما يتعلق بـ”صورة” المملكة وإنتاجها الثقافي، كونها تمول المسلسلات المدبلجة وتلك التي تعيد إنتاج الحكايات التركيّة، وتعمل مع ممثلين مؤيدين للنظام، وهنا تظهر سطوة الترفيه السعودي مرّة أخرى، ذاك القادر على التحرر من “السياسة” لأجل “الصناعة الثقافيّة”.
تجاهل السياسي على حساب الفني تحت شروط الصمت يتضح مثلاً في حالة أصالة نصري، التي وقفت ضد نظام الأسد خلال الثورة، ومُنحت الجنسية البحرينية، لكنها تحظى بقبول واسع وتتصدر الاحتفالات الباذخة في السعودية رغم انتشار أخبار القمع الممارسة هناك في وسائل الإعلام العربية والدولية، ومن ضمنها قناة “العربيّة” نفسها.
خشبات الاستعراض السعودية وشاشاتها تحولت إلى مساحات تنتصر للترفيه على حساب السياسة، نحن أمام ترفيه خال من أي مرجعية، أو أي انتقاد للوضع القائم سواء في السعودية أو خارجها، ما يهم هو إرضاء أبو ناصر، صاحب الجوائز ومقدم الهدايا، ووسيط “الصلحة الفنيّة”، نحن أمام ماكينة لإنتاج محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، والأهم هي مخصصة لمن هم في السعوديّة فقط، كمواطنين مطيعين، مستهلكين للمنتجات الثقافية وممنوعين من الانتقاد، ونركز على الداخل السعوديّ كون زيارة السعودية ليست بالأمر السهل للكثيرين في أنحاء المنطقة العربية بسبب شروط الفيزا، وهذا ما ضبط المقصود بـ”سعودة الفنون”، أي احتواء كل ما هو “عربي” تحت جناح تركي آل الشيخ، وللاستهلاك المحليّ فقط!
هذا كله لا يعكس سوى تناقضات المشهد العربي، حيث يتصدر فنانون داعمون لأنظمة قمعية المحافل، بينما تبقى الحقيقة في ذاكرة الشعوب، والشعوب تسامح لكنها لا تنسى.
درج
————————————-
الغرب يخطئ مرتين في سوريا/ طارق الحميد
18 ديسمبر 2024 م
كل الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يخطئون في سوريا، وللمرة الثانية. الأولى عندما تقاعسوا عن مساعدة السوريين بإسقاط بشار الأسد، الذي كان على وشك السقوط قبل التدخل الإيراني والروسي قبل 13 عاماً.
أخطاء الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، بدأت فترة الرئيس الأسبق باراك أوباما عندما لم يحترم الخطوط الحمراء التي رسمها بنفسه لبشار الأسد، وهي عدم استخدام الأسلحة الكيماوية ضد العزل السوريين.
واستخدم الأسد الأسلحة غير مبالٍ، واعتقد الجميع حينها أن رئيس القوى العظمى سيتحرك، إلا أن أوباما تغاضى عن ذلك، وعدّ الأزمة السورية واحدة من الأزمات التي يواجهها كل رئيس أميركي.
وقال وقتها، بحسب «النيويورك تايمز»، إن الثوار السوريين عبارة عن مزارعين وأطباء ومدرسين ليس بمقدورهم فعل شيء، ورفض فكرة الجنرال باتريوس بدعم الثوار. وأوباما نفسه من وصف جرائم الأسد ضد الثورة السورية بـ«حرب أهلية».
وأخطأت الولايات المتحدة، والغرب، بتجاهل معاناة السوريين، ولم يفعلوا شيئاً يذكر إلا قانون قيصر، الذي قطع طريق إعادة تأهيل الأسد، لكن من دون شروط تفتيش على السجون، أو إطلاق سراح المعتقلين، واليوم العالم كله يرى حجم الكارثة بسوريا.
كانت واشنطن حريصة على أمن إسرائيل أكثر من رفع المعاناة عن السوريين بعد ثورة 2011، وهو ما سمعته من مسؤولين عرب وأجانب عدة، وأكده وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في مقابلته التلفزيونية الأربعاء الماضي مع قناة «الحدث».
يقول الوزير فيدان إنه قبل سبع سنوات، وحين كان جو بايدن نائباً للرئيس وجاء إلى تركيا والتقى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، قال: «نحن لا نريد أن يرحل الأسد». ويضيف: «نعلم أن هذا كان رأي إسرائيل وليس رأيه، لأن إسرائيل لم ترد ولم ترغب في أن يرحل الأسد إطلاقاً».
مردفاً: «نعم، إسرائيل ربما لم تكن راضية عن تصرف الأسد بإتاحة الأرضية والوجود الإيراني على الأراضي السورية، ولكن إسرائيل كانت راضية عن الأسد نفسه، ومن ثم، أبلغتنا أميركا أن إسرائيل لا تريد سقوطه».
كان هاجس واشنطن أمن إسرائيل، وليس حجم المأساة بسوريا، أو الخطر الجيوسياسي، ويوافق ذلك حينها، رغبة واشنطن في إتمام صفقة الملف النووي مع طهران، ولو على حساب المنطقة.
اليوم تكرر واشنطن، والغرب، الخطأ نفسه مرة ثانية، حيث إن جل الجهود هي لضمان أمن إسرائيل، رغم اعتدائها المستمر وغير المبرر على سوريا الجديدة. صحيح أن الغرب يضع شروطاً للإدارة الجديدة بسوريا، وهذا مستحق، لكن التركيز دائماً على إسرائيل.
كل وسيلة إعلامية غربية حاورت أحمد الشرع كان سؤالها الأبرز عن أمن إسرائيل، وموقف سوريا الجديدة من ذلك، والأمر نفسه في تصريحات المسؤولين الغربيين، وفي استفزاز صارخ للشعب السوري الذي يريد تضميد جراحه.
كما يطالب الغرب سوريا بتنفيذ ما لم ينفذه الأسد في 24 عاماً، وبأسبوع واحد، مع التركيز على أمن إسرائيل، ومن دون اكتراث لتقديم المساعدات الفورية للسوريين، وإجبار إسرائيل على وقف عدوانها على سوريا مع جهد دولي حقيقي لجلب الأسد للعدالة من جراء ما اقترفه من جرائم.
ولذلك أقول إن الغرب يخطئ في سوريا مرتين.
الشرق الأوسط
———————–
“المجلة” تدخل إلى “فرع فلسطين”… أخطر مقرات مخابرات الأسدم فراس كرم
وثائق توقيف بحق نساء سوريات تربطهن صلات قرابة بناشطين
18 ديسمبر 2024
في الطابق الأول إلى جهة الغرب داخل مقر “فرع فلسطين” التابع لشعبة المخابرات العسكرية أو ما يعرف بالرمز الأمني “235”، الذي كان يخشاه كل السوريين، قبل سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر/كانون الأول، ووسط الفوضى العارمة داخل مكاتبه وديوانه الرئيس الخاص بالمعتقلين، وبين مئات الوثائق التي تعرضت للحرق “عمداً” على أيدي عناصر هذا الجهاز، لإخفاء جرائم التعذيب والتجويع حتى الموت بحق المعتقلين وحول أعدادهم ومصير الآلاف منهم المجهول حتى الآن، عثرت “المجلة” على عدة وثائق تشير إلى اعتقال نساء سوريات لانتزاع اعترافات تخص ناشطين سوريين تربط بعضهم ببعض صلات قرابة.
الوثيقة الأولى كما هو مدون فيها تعود للمعتقلة السورية رامية نجيب المذيب، من مواليد منطقة نوى في محافظة درعا جنوبي سوريا، جرى اعتقالها من قبل فرع المخابرات العسكرية “248” بدمشق، في 28 أبريل/نيسان عام 2016، بعد ورود اسمها في التحقيقات الأمنية التي جرت مع شقيقتها رحاب نجيب المذيب، في الفرع الأمني ذاته أثناء اعتقالها، بعد الشك في علاقتها بأشقائها الناشطين الذين وصفوا بـ”المسلحين” ضمن الوثيقة.
وبتاريخ 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (أي بعد اعتقال دام 5 أشهر بحق رامية)، جرى نقلها إلى “فرع فلسطين” وإخضاعها للتحقيق حتى تاريخ 7 ديسمبر 2016، وإحالتها بعد ذلك إلى قاضي الفرد العسكري بدرعا لمقاضاتها، بما نسب إليها، وبكل جرم آخر يظهر خلال مرحلتي التحقيق والمحاكمة.
“المجلة” حاولت الوصول إلى المعتقلة وشقيقتها التي كانت معتقلة أيضاً، أو ذويهما، لمعرفة تفاصيل أخرى عنهما وعن مصيرهما، لكن ضعف وانعدام الاتصالات حالا دون ذلك.
وفي وثيقة ثانية عثر عليها في الموقع ذاته داخل أحد المكاتب التي تعرضت للحرق في “فرع فلسطين”، ظهر فيها اعتقال كل من محمد قاسم بن محمد 1960، وزوجته 1979، من ريف حلب، في 2 يوليو/تموز 2017، بناءً على ادعاءات ضد بعضهما البعض، وجه له “فرع فلسطين” تهمة “تزويد المسلحين بالأدوية”، وتوجيه عبارات مسيئة بحق القيادة السياسية العليا والجيش العربي السوري، وتبين أنها معلومات كيدية من الزوجة، في الوقت نفسه وجهت إدارة المركز الأمني (الزوجة)، إلى التحقيق، بتهمة ورود اسمها الثلاثي بلوائح المطلوبين للفرع، بأنها و3 من أشقائها المسلحين (أحمد ومحمد ومحمود)، مرتبطون مع المجموعات الإرهابية المسلحة، وبناءً عليه جرى توقيفها وإتخاذ الإجراءات الأمنية بحقها.
كما عثر على وثيقة ثالثة تشير إلى ملاحقة الأجهزة الأمنية و”فرع فلسطين” العسكري، للسورية فاطمة بنت محمد ماهر تتان (25 عاما)، في حلب عام 2017، بسبب ورود اسمها أثناء توقيف شقيقها محمود تتان (34 عاما) والتحقيق معه في فرع الشرطة العسكرية بحلب، بتهمة مغادرة الأراضي السورية وعبور الحدود نحو تركيا بطريقة غير شرعية، مع زوجها محمد فتال عام 2015، قبل أن يحصل بينهما طلاق وتعود إلى سوريا، وتتزوج بعد ذلك من عنصر في قوات النظام السوري المخلوع بريف دمشق، وأثناء محاولتها دخول الأراضي الللبنانية، جرى اعتقالها من قبل الأمن السوري واقتيادها إلى “فرع فلسطين”، والتحقيق معها، وإحالتها إلى المحكمة العسكرية بحلب، لمحاكمتها، بما نسب إليها، وإجراء المقتضى القانوني بحقها أصولاً، وفقا لما ورد في الوثيقة.
وأثناء تجول عدسة “المجلة” داخل الأبنية الإدارية في “فرع فلسطين”، رصدت مئات السجلات والوثائق التي كانت قد تعرضت للحرق، وبعضها أصبح رماداً، فضلاً عن الفوضى العارمة التي بدت عليها أبنية وغرف الفرع الإدارية.
يشير محتوى هذه الوثائق وغيرها لآلاف المعتقلين، أن المراكز والأفرع الأمنية كانت تتشارك في ما بينها بتبادل معلومات تخص المعتقلين، للاستفادة منها في تحديد وانتشار مواقع المسحلين وذويهم آنذاك، حيث ظهر في إحدى الوثائق مشاركة شعبة الأمن العسكرية مع كافة فروعها في المحافظات السورية، عدا عن الخارجة عن سيطرة النظام، نذكر منها توجيه نسخة من التحقيقات والاتهامات للمختفين قسرا، وتبادل المعلومات بين شعبة الأمن العسكري وأجهزة أخرى كأمن الدولة وشعبة الأمن السياسي.
“المجلة”، التقت بأحد المواطنين، يقطن في منزل إلى جوار “فرع فلسطين”، وتحدث عن عملية الحرق للمباني والغرف الإدارية، قائلاً: “في ليلة سقوط النظام السوري استفاق أهالي الحي المجاور للفرع على صوت نشوب حريق وانبعاث روائح الحرق من داخل فرع فلسطين، ونظراً لخطورة الاقتراب أو النظر إلى هذا المركز الأمني الذي يعد من أخطر الأجهزة والأفرع والمراكز الأمنية في دمشق، واعتقال عناصر حراسته لكل شخص يتجرأ بالنظر إليه وسجنه لأشهر طويلة، تردد الجميع بالاقتراب من أسوار الفرع خشية الاعتقال، ولكن مع ورود الأنباء العاجلة التي تحدثت عن سقوط النظام السوري، بدأ الأهالي ومن بينهم عشرات الشبان بالاقتراب من بوابة الفرع وتبين خلوه كاملاً من عناصره الذين يرجح أنهم هربوا في ساعة متأخرة من تلك الليلة. وعليه اقتحم عدد كبير من الشبان أبواب الفرع الداخلية والطرق المؤدية إلى سجن الفرع لإنقاذ المعتقلين من خطر الحريق الذي بدأ ينتقل من قسم إلى آخر، ضمن المبنى المخصص للأضابير والسجلات الخاصة بالمعتقلين.
وهنا نؤكد قطعاً أن إدارة وقيادة (فرع فلسطين) هي من أعطت الأوامر لعناصرها بإشعال الحريق في هذه المكاتب لإخفاء أسماء السوريين ممن تم اعتقالهم في هذا الفرع وتعذيبهم حتى الموت”.
أصوات ترعب جيران “الفرع”
ويضيف: “بعد منتصف الليل كنا نسمع دائماً وبشكل واضح صراخ المعتقلين وأصوات الضرب بأدوات حديدية على الأبواب داخل الفرع، وكنا نشعر بالحزن على مصيرهم وما يتعرضون له من تعذيب، بيد أن عددا كبيرا من عائلات المنطقة رحلت عنها بعيدا، بسبب حالات الخوف التي كانت تنتابهم أثناء سماع صراخ المعتقلين”.
وقد رصدت عدسة “المجلة” أيضاً، مركز الاعتقال الرئيس وهو عبارة عن قبو كبير ومظلم ومخيف، عدا عن انعدام مقومات العيش وغياب النظافة في عشرات الزنازين.
لماذا أخطر المعتقلات؟
تأسس “الفرع 235” أو ما يسمى “فرع فلسطين” عام 1969، ويعد من أهم أفرع “شعبة الأمن العسكري” ويمتلك صلاحيات تبدأ بمحاسبة الضباط العسكريين- بعد خلع رتبهم العسكرية- بمجرد دخولهم الفرع، كما خصصت في سجنه غرف للنساء المعتقلات والأطفال ومدنيين آخرين، بتهم مختلفة تهدف إلى إرهاب السوريين.
بدأ “الفرع 235” نشاطه الأمني وبشكل كبير عند تأسيسه، ضد الحركات الإسلامية خاصة وضد “جيش التحرير الفلسطيني” في سوريا، والجماعات الفلسطينية الأخرى المسلحة، ومع اندلاع الثورة السورية تكلف بملاحقة العسكريين المنشقين عن قوات النظام السوري المخلوع، واعتقال المدنيين على خلفيات سياسية معارضة للنظام.
ويصنف “فرع فلسطين”- بحسب معتقلين أُفرج عنهم سابقاً- بأنه: “لا يقل إجراما عن الأفرع والأجهزة الأمنية الأخرى في دمشق، فغالباً ما كان يتعرض المعتقلون لإصابات بليغة نتيجة الضرب المبرح بقطع معدنية إما على الرأس وإما على كامل الجسد، وبشكل يومي كان يفارق بين 7-10 معتقلين الحياة بسبب التعذيب والضرب المبرح وبأسلوب وحشي منقطع النظير، فضلاً عن معاقبة المعتقلين الذي يصل عددهم أحياناً داخل هذا الفرع إلى 4000 معتقل وأحياناً يتضاعف الرقم، بالحرمان من الطعام لأسبوع كامل وأيضاً مياه الشرب”.
المجلة
—————————
عشرية سوريا بلا بشار الأسد/ عصام اللحام
2024.12.18
لا تخطئ في التجوال ضمن المدن السورية قاطبة، فيكفي ما تملكه من مخزون الذاكرة من دون حاجة إلى السؤال لتصلَ إلى المكان المطلوب، فالتغيُّر لم يصل إليه على مدار عقود طويلة، وعُزِّز ذلك في السنوات الثلاث عشرةَ الماضية.
عشرة أيام وقليل على سقوط الطاغية بشار الأسد وانهيار منظومة حكمه بكل تفاصيلها وتعقيداتها، ولم يحدث شيء مما كان يُرعب الجميع عند غيابه، ولم يفعل معارضوه شيئًا كثيراً ممّا كان يُوهم به مؤيدو النظام ورماديّوه.
المدن لا تَشيخ مع الزمن، لكنْ بالإهمال، دمشق، زهرة الشرق وسيدة عواصم العالم، صادمة للمغرَّبين عنها وزائريها الجدد.. تمتزج مشاعر القادمين بين نشوة السقوط والدخول الفاتحيّ، والألم على حال المدينة التي يملؤها البؤس والقهر، يلفها السواد ليلاً ونهاراً، وطعامها، إن وجد، بلا لون أو طعم أو مذاق.
كان في غاية السوء حتى في سقوطه، هي العبارة التي تصف النظام الذي حكم بالنار والخوف والتفقير لأكثرَ من نصف قرن، فرَّ من البلاد من دون أن يخبر أحداً، حتى مرافقه وأخاه، تاركاً بلداً كاملاً بلا بنيان، وبطريقة هولاكية حديثة تجعل المقاربة مع الماضي واقعية.
يتفق كثيرون على أن ما جرى هو حلم يخشى نهايته، ويجب التعامل معه على أنه مؤقت، ولا بد للأسد أن يعيد فرض واقعه، فأحجم كثيرون عن الاحتفال، واكتفوا بالفرح الصامت المترافق مع الدموع المنهمرة لا إرادياً، فرحاً وخشية من عودة الكابوس.
لكنْ لا حلم يستمر لهذا الزمن، وهي النقطة التي التقطها الواعون بأنّ “الأسد” انتهى إلى غير رجعة، وأن الفرصة سانحة لإطلاق الفرح صُراخاً وهتافاً.. النظام سقط، والخوف انتهى، وحانت ساعة السعادة بلا أي موانع.
لم يتبدل شيء في البلاد الهرمة، وكل ما يجري هو تبديل ألوان العلم من الأحمر إلى الأخضر، اللون الذي اتخذ موقعاً في الأعلى، في إشارة إلى سنوات الخير المطلوبة بعد عقود الدم.
دخل المنتصرون العاصمة على عجالة، وكسروا خططهم الموضوعة التي تمتد إلى نحو عام ونيف للوصول إلى عاصمة الأمويين، والمهبط المنتظر للمسيح.
فالانهيار المعنوي، ومن ثم المُهين لبشار الأسد، شجَّعَ مجموعة غفلت عن التنظيم، زاحفةً من الجنوب إلى قلب العاصمة بلا قتال، لكنهم أضرّوها بشكل معيب، دفع ذلك بالقادمين من الشمال إلى حرق المراحل والتعجيل لكسر الزمن الفاصل بينهم وبين دمشق.
فكانت الساعات الست عشرة الفاصلةُ فرصةً لاستباحة العاصمة من قبل بعضهم بشكل لم يُقدّر حجم خسائره حتى اللحظة، وشكَّل نقطة سوداء في الطريق الممتد من أرياف حلب وإدلب إلى حماة وحمص، في معارك حملت خطاباً كان أكثر فاعلية من السلاح الذي لم يُستخدم بالشكل المخطط له إلا في معارك معدودة، أبرزها في حماة وسدّ النظام فيها جبل زين العابدين.
لا خوفَ بعد اليوم من الكلام، ولا قيد يربط العقل، فالسفاح رحل ورحل معه آلاف القتلة والمستفيدون والمرتزقة، وسجّل بعضهم انعكاسة كبيرة في الولاء نحو الطرف القادم، وأطلق عليهم “المكوّعين” تندّراً، معتمدين على فكرة الذاكرة السمكية للشعوب، لكن لا يبدو أن هذه الفكرة صائبة، فالسهو أو السلوّ لا يصل إلى حد النسيان.
لا يخشى البعض من ذاكرة السمك، وإنما كل الخوف من الشعوب السمكية، التي لا تستطيع العيش خارج مياه القائد الرمز المخلّص، فكما يتصاعد الدخان من حرائق إرث “الأسد”، يرفع بعضهم صور الجولاني أو أحمد الشرع بدلًا عنها، في تراجيديا مبهرة للبعض في تكرار منطق العبودية.
لا دعوة صدرت رسمياً برفع صور أحمد الشرع أو حتى إنزالها، فالأمر متروك للقرار الفردي، كما تُرك الجميع لفعل ما يشاؤون.. وتُرك إلى الآن كثير من المتهمين بارتكاب جرائم تتجاوز الحدود الفردية نحو الجماعية، وأُغلقت الأبواب أمام الانتقام، إذ يقول “الشرع” إنّ الانتقام ممنوع منعاً باتاً، وإنّ الأمر يجب أن يُدار بمنطق الدولة والقانون، وهو قرار حاسم وشخصي لا رجعة عنه ولا حتى نقاش.
الشاب الأربعيني، الظاهر كحالم صادق، يبدو سعيداً بوصوله إلى دمشق والجلوس على عرشها، مستعرضاً طريقه الشاقّ والخطط التي وُضعت، قبل سنوات، ووجدت طريقها إلى النجاح.. بات الهدف منجزاً، ولا خوف بعدها حتى من الموت، وهو لعبة يتقنها، فيستقبل مَن يستقبل بلا إجراءات أمنية أو حتى تفتيش، فالأمن كما يقول “لعبته”.
يحيط الشرع، أو الجولاني، الاسم الذي ألِفناه، ولكنْ لم نعتَدْ بعدُ على شكله واسمه الجديد، يُحيط نفسَه بمجموعة مقرّبة من الشبّان المبهورين به، والمؤمنين بمشروعه وخططه ورؤاه.. تحوّلوا خلال 11 يوماً من حكّام منطقة ضيّقة محاصَرة، إلى فضاء كبير بلا جيش أو أجهزة أمن أو حتى شرطة.
يقتحم “الشرع” ومن معه عالَماً لم يعهدوه؛ دولة هرمة، شاخت حواضرها، مثقلة بإرث مترهل بكل شيء، من النور إلى أبسط مقومات الحياة.. مطلوب منهم القيام بكل شيء بلمح البصر، مع رفع سقف التوقعات من الجميع، بمن فيهم “الشرع” نفسه، الذي قال: إنّه بعد عام لن تعرفوا سوريا، وبعد خمسة أعوام سيكون هناك فخر كبير لمن يحمل الجواز السوري.
“لم آتِ وحدي إلى دمشق، بل معي فريقي وتجربتي في إدلب”، هي كسيرة ذاتية يقدّمها الشرع لزواره، ويكررها وزراؤه، طامحين بتكرارها في عموم سوريا.. تبدو نظرياً وعلى مستوى العاطفة ممكنة، لكن الواقع صادم، فقد استحوذوا على بلاد ليست بلاداً، بل أشبه بمزرعة بلا أبواب، مستباحة من أعداء في الخارج وناهبين ومجرمين من الداخل، بلا أي مؤسسة يعتمد عليها، فتمددت المؤسسات في شمال غربي سوريا نحو كامل البلاد جبراً، ما أفقدها التركيز على المطلوب ومعالجة الإرث.
من دمشق، يقبع الجميع اليوم تحت هول التطورات بانتظار القادم، فالأحاديث والشائعات هي الشيء الوحيد الجديد فيما جرى، بانتظار أن يغلق باب مضافة مجلس الوزراء، حيث التقينا به، ويبدأ العمل على تنفيذ الوعود.
تلفزيون سوريا
——————————–
الحكم الانتقالي: بناء دولة لا نظام/ رفيق خوري
ديسمبر 18, 2024
من السهل أن تستعد إدارة بايدن للعمل مع الفصائل لتأسيس المرحلة الانتقالية في سوريا، إلا أنه من الصعب أن تضمن واشنطن وأنقرة والأمم المتحدة وأوروبا والعواصم العربية ما تفكر فيه الفصائل وما في حساباتها غير المعلنة.
لا مهرب من تلاقي البدايات والنهايات، ففي خريف عام 2015 كانت بداية إنقاذ بشار الأسد ونظامه من السقوط خلال أسبوعين بعملية عسكرية روسية، وفي شتاء عام 2024 كانت نهاية الأسد في موسكو كلاجئ إنساني، وفي الحالين فشل في امتحان المسؤولية عبر الاتكال على الحماية العسكرية الروسية والإيرانية، والرهان على اللا تسوية لاستمرار التفرد بسلطة العنف والقمع.
ولا مجال مع أن حسابه عسير وثقيل والدعوات في البيت الأبيض والقصور الأوروبية والشارع السوري والعربي إلى محاسبته، لأن يسمح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأي إجراء حيال الأسد، ومن يقفون أمام الامتحان اليوم هم “قادة الثورة” الذين أسقطوا النظام وداعموهم الأتراك والأوروبيون والأميركيون الذين يرون بلسان الرئيس جو بايدن أن سقوط النظام فرصة تاريخية لسوريا، أما المادة الأساس في الامتحان فهي تشكيل الحكم الانتقالي على الطريق إلى الترتيب الدائم لمستقبل السوريين، وأما الخطر فهو التراخي في مواجهة “داعش” وعودة الصراعات الدموية بين الفصائل المسلحة المتعددة، ذلك أن سقوط النظام هو الجائزة الكبرى لكن الميزان هو ما بعد الجائزة، فمن السهل أن تستعد إدارة بايدن للعمل مع الفصائل في تأسيس المرحلة الانتقالية، إلا أنه من الصعب أن تضمن واشنطن وأنقرة والأمم المتحدة وأوروبا والعواصم العربية ما تفكر فيه الفصائل وما في حساباتها غير المعلنة.
والمسألة على أية حال ليست إقامة نظام آخر محل نظام ساقط ومرتكب، فالأنظمة التي رأينا نماذجها فتّاكة بالشعب، وهي تعود جميعاً لتقليد ما فعله ستالين الذي اختصر مشكلات الحكم وأي اعتراض ومجادلة بعبارة مشهورة، “لا رجل… لا مشكلة”.
ما تحتاج إليه سوريا بعد عقود من التصحر السياسي هو عودة السياسة، والمهمة التاريخية هي بناء دولة لا نظام، دولة مؤسسات ودولة حق وقانون ودولة مواطنين في نظام ديمقراطي يحترم التداول في السلطة، ألم يقل أرسطو قبل أكثر من 2000 عام إن “الدولة هي جماعة مواطنين عاقلين أحرار لا جماعة مؤمنين”؟ وأليست كل بلايانا من الأنظمة الديكتاتورية العسكرية والأنظمة الأصولية الدينية؟ الكل يعرف أن ليس هناك وقت للتجارب، والأمثلة واضحة في الخيار بين نظام يجوّف الدولة ويطحن المواطن، وبين دولة على قياس شعبها واهتماماته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية، فليس الحكم الانتقالي تجربة جديدة بالنسبة إلى بلدان عدة كانت سبّاقة في الانتقال من كابوس الديكتاتورية إلى حلم الحرية، ولا سيما في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وأفريقيا.
والسؤال الآن هو ماذا عن الجيش الذي لم يقاتل وتولت إسرائيل تدمير أسلحته الإستراتيجية؟ وهل سيكون للمنتقين من عناصره دور خلال المرحلة الجديدة، ولا سيما أن سوريا الآن بلا جيش والفصائل المسلحة ليست جيشاً؟
أمامنا تجربة بول بريمر الجاهل في العراق حين حل الجيش وترك البلاد للفوضى وتفقيس الميليشيات، وإذا كان هناك من هو في حاجة ماسة إلى دولة فإن على رأس القائمة سوريا ولبنان، فسوريا التي لم تكن في صدد بناء دولة، لأن الإصرار على حكم الأقلية للغالبية يمنع مجرد المغامرة بفكرة الدولة، لا بل إن الواقع في سوريا كان حكم مجموعة صغيرة للأقلية والغالبية معاً وتوظيفها في خدمة حاكم توتاليتاري، فضلاً عن أعوام من ممارسات السلطة ومن الحرب أسهمت في التحريض الطائفي.
ولبنان الذي لا حياة له إن لم يبن دولة وطنية تعرّض للتلاعب بنسيجه الاجتماعي وإثارة النزاعات الطائفية والمذهبية، وهو دفع كثيراً خلال 30 عاماً من الحكم السوري القوي من وراء حكومات ورئاسات صورية ضعيفة، بل إن ضعاف النفوس فصّلوا، بطبائع الأمور، مداهنة الوصي السوري القوي للحصول على مناصب ومكاسب رخيصة، ولا أحد يعرف مدى الدمار النفسي الذي لحق بالشعبين السوري واللبناني تحت حكم ضيق قاسٍ يقال من باب التمويه إن رأس النظام كان يدير في وقت واحد نظامين: أحدهما توتاليتاري والآخر ديمقراطي مزيّف.
في مقالة عنوانها “انهيار القوة الأميركية” يقول آمي زيكارت إن “المعرفة قوة وأميركا تفقد المعرفة التي لها عنصران: الابتكار والقابلية لسبق الآخرين، لأن قوة الدول لم تعد بالجيوش واتساع الأرض، بل بالتعليم والتكنولوجيا”، والساعة دقت لبناء القوة على قدرة المجتمع والذكاء الاصطناعي، وليس على الضغط والقمع والتصحر والجهل.
اندبندنت عربية
————————-
وسائل الإعلام السورية في قبضة الإدارة الجديدة و”شام أف أم” تصارع في عهد الحرية/ عبدالله سليمان
ديسمبر 18, 2024
وجدت وسائل الإعلام السورية، بشقيها العام والخاص، وبأشكالها المختلفة، المرئية والمسموعة والمكتوبة، نفسها أمام واقع جديد صبيحة يوم الأحد، عندما تأكّد فرار الرئيس السوري بشار الأسد وسيطرة إدارة العمليات العسكرية على العاصمة دمشق، إذ كان مبنى التلفزيون السوري من أوائل المؤسسات التي حرصت قوات “ردع العدوان” على دخولها والسيطرة عليها، علماً أن قسماً من الإعلاميين والموظفين كان لا يزال موجوداً في المبنى يتابع عمله في تلك اللحظات العصيبة.
وعملت الإدارة الجديدة في الساعات الأولى من دخولها المبنى، على استغلال سيطرتها على الشاشة الرسمية لإذاعة بعض البيانات والأغاني ذات الطابع الديني، في خطوة الهدف منها توجيه رسالة إلى العالم بأنها أصبحت تتحكّم بالعاصمة السياسية للبلاد. لكن بعد ذلك توقف العمل في التلفزيون السوري باستثناء بث “سلايدات” للبيانات التي تصدر عن القيادة العامة. وبموازاة ذلك توقف العمل في الإذاعات والصحف، لا سيما صحيفة “الوطن” وإذاعة “شام أف أم”، وهما خاصتان. لكن الفرق بينهما أن صحيفة “الوطن” كانت متماهية مع النظام السابق، بل كانت تعدّ الأقرب إليه حتى من الصحف الرسمية مثل “البعث” و”تشرين” و”الثورة”. أما إذاعة “شام أف أم” فقد عُرفت باستقلاليتها ومحاولاتها الدائمة الشغب على القيود الأمنية، والعمل بهدوء لتوسيع نطاق الحرية، وقد عانت في سبيل ذلك الكثير من التضييق والضغوط من أجهزة الأمن ومؤسسات السلطة المختلفة.
وفي حين تعمل الإدارة الجديدة لسوريا على تكريس هيمنتها على وسائل الإعلام العامة، اذ عزلت المدير العام لهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون حبيب سلمان، وعيّنت مكانه علاء بسيلو، وهو شاب أربعيني من منظمة “مبدعون سوريون”، كما عيّنت مديرين جدداً لكل المحطات الرسمية، بما فيها “السوية” و”الإخبارية” و”دراما”، وكذلك استقدمت كوادر فنية وإعلامية من إدلب إلى دمشق للإشراف على عمل هذه المحطات، كان الأمر مختلفاً مع وسائل الإعلام الخاصة التي ليس بمقدور الإدارة الجديدة الهيمنة المباشرة عليها. وتبرز “شام أف أم” كمثال على طريقة التعاطي مع الوسائل الخاصة.
فقد أعلنت الإذاعة يوم الاثنين في 9 من الشهر الجاري، توقفها عن البث وتغطية الأخبار “نتيجة للظروف الحالية التي تمرّ فيها بلادنا العزيزة وعدم الاستقرار الحالي الذي نأمل بأن ينتهي قريباً”. ثم أعلنت يوم الجمعة أنها سوف تعاود اعتباراً من يوم غد السبت تغطيتها الإخبارية للأحداث في سوريا بعد استقرار الحالة الأمنية تباعاً في عموم البلاد. وتعود البرامج المنوّعة تدريجياً.
لكنها سرعان ما اعتذرت يوم الأحد عن عدم عودة بث برامجها وتغطياتها ونشراتها الإخبارية، وبررت ذلك بأنه جاء التزاماً بقرار وزارة الإعلام في حكومة الإنقاذ.
ويتولّى وزارة الإعلام محمد يعقوب العمر. وفي حديث إلى”النهار” قال مدير عام “شام أف أم” سامر يوسف إنه تبلّغ عبر وسطاء وبشكل شفوي عدم العودة للبث.
وتعقيباً على هذا القرار كتب يوسف على صفحته في “فايسبوك”: أوقفها الوزير محسن بلال في أيام الديكتاتورية عن العمل، وأوقفها الوزير محمد العمر في أيام “الحرية” عن العمل”. وأضاف بأسلوب ساخر: “ما كانوا متفقين على شي إلّا علينا يبدو”.
وعن التطورات التي يشهدها القطاع الإعلامي، لا سيما محطته الإذاعية، قال يوسف لـ”النهار” إن “التغيير الذي حصل لم يكن متوافقاً مع توقعاتنا، لأننا توقعنا أن يرتفع سقف الحريات، وأن يكون هناك هامش أكبر بكثير من الهامش الذي كنا نعمل به أيام النظام السابق، ولكن لم نكن نتوقع أن نصمت في عهد الحرية”.
وكشف يوسف كواليس ما جرى بين قرار العودة إلى البث والاعتذار عنه، بقوله: كان توقفنا عن العمل بسبب الفوضى الأمنية وخوفاً على حياة الموظفين. وعندما أعلنّا العودة طلبت منا وزارة الإعلام عبر مسؤول الإذاعات الجديد محمد الشيخ أن نتوقف أو أن لا نعود إلى العمل ريثما يبلغوننا”، مضيفاً أنه لا يعرف سبب منع الإذاعة من العودة للعمل.
وعن توقعاته للمرحلة القادمة وما إذا كان يأمل بالعودة إلى ممارسة النشاط الإعلامي بحرية أكبر، أجاب: “نعم أتوقع أن نعود إلى العمل في الفترة المقبلة، وأنا مصرّ على أن نعود إلى العمل، سواء من داخل البلاد أو من خارجه لأن صوت شام أف أم يجب ألّا يتوقف”.
وتابع يوسف: “نحن تحمّلنا طيلة السنوات الماضية كمية هائلة من الضغوط في عهد النظام السابق، وأجبرنا مراراً وتكراراً على حذف أخبار وتقارير، وكذلك من التهديد والوعيد، في سبيل أن يستمر صوتنا، وأنا مصرّ على أن يستمر في هذا العهد مهما جرى”.
وكانت وزارة الإعلام في حكومة تسيير الأعمال السورية أعلنت أنها تعمل على مراجعة آليات نشر المعلومات في الوسائل الإعلامية التي كانت تُعتبر رسمية. وأكّدت في تصريحات إلى وسائل إعلام سورية (كانت معارضة) أن الوزارة أجرت جلسة مع القائمين على بعض هذه الوسائل، وتمّ التوجيه نحو سياسات واضحة وإدارة المحتوى الإعلامي، بحيث تعكس هذه المؤسسات مصالح الشعب السوري ككل.
ولا يزال التواصل قائماً مع بقية الوسائل للهدف نفسه، كما بدأت الوزارة تسلم الصفحات الرسمية تباعاً.
أما الكوادر الإعلاميين، فوُجّهت لهم الوزارة دعوات إلى العودة إلى أماكن عملهم، وتستمر الترتيبات معهم من قبل فرق مختصة من الوزارة بهذا الخصوص.
ثم أصدرت وزارة الإعلام قراراً يقضي بأن “الإعلاميين الحرببين الذين كانوا جزءاً من آلة الحرب والدعاية لنظام الأسد المجرم، وساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في الترويج لجرائمه ومجازره ضدّ الشعب السوري، سيخضعون للمحاكمة العادلة ضمن إطار العدالة الانتقالية”.
وقد أثار هذا القرار مخاوف كثيرة تدل إلى أن الإدارة الجديدة لا تتفهم واقع الإعلام السوري في ظل حكم الأسد، وأنه كان مملوكاً ومقموعاً ولا يجرؤ أحد من العاملين فيه على الخروج عن نصوص التمجيد والولاء للسلطة البعثية. كما أنه يدل إلى أن الإدارة الجديدة التي بدأت بخطابات التسامح والعفو، بدأت تنتقل تدريجياً إلى خطاب الانتقام والثأر.
وعلّق سامر يوسف على هذا القرار ضمن الحوار الذي أجرته “النهار” معه فقال: “القرار القاضي بمحاكمة الإعلاميين الحربيين يناقض ما تقوله القيادة العامة، فهي جاءت بسياسة قائمة على التسامح، وأكّدت أننا في مرحلة انتقالية وسوف نطوي صفحة الماضي ….”. وسأل يوسف: “هل ستحاسبون الإعلاميين الذين كانوا في صف النظام لأنهم رقصوا على الجثث كما قيل لنا، ولن تحاسبوا إعلاميي الطرف الآخر”، مشدّداً على أنه “يجب أن تكون هناك عدالة، وإذا كنتم تريدون المحاسبة فليُحاسب الجميع”.
ووصف يوسف القرار بأنه انتقامي وعام، ويجب أن يكون محدداً أكثر من ذلك.
وعلمت “النهار” من مصادر إعلامية أن عشرات الإعلاميين السوريين ممن عملوا في تغطية المعارك وأعمال العنف منذ عام 2011 اختفوا بعد صدور هذا القرار، بسبب خشيتهم من أن يشملهم، وأن تكون الإحالة إلى القضاء مجرد ذريعة لقمعهم والانتقام منهم.
والمفارقة أن بعض الإعلاميين الذين تسرّبت أسماؤهم على أنها مشمولة بقرار المحاكمة سبق أن اعتُقلوا في عهد النظام السابق بسبب اتهامات مختلفة، وهذا من شأنه أن يخلق جواً يشيع الخوف لدى الإعلاميين، سواء أكان المسؤول يرفع شعار الاستبداد أم شعار الحرية، لأن النتيجة على ما يبدو واحدة، وهي أن من كان مغضوباً عليه في المرحلة السابقة سيظل مغضوباً عليه في المرحلة القادمة.
النهار العربي
———————-
=======================