سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024

لمتابعة التغطيات السابقة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

——————————————

 ياسين الحاج صالح: محاكمة القتلة تقطع طريق الثأر

أسامة فاروق

الخميس 2024/12/19

استضاف مركز “حلول للسياسات البديلة” التابع للجامعة الأميركية بالقاهرة، مساء أمس الأربعاء، الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، في جلسة حوارية عبر تطبيق زووم، طرح خلالها الأسباب التي أدت إلى سقوط نظام الأسد ورؤيته للمسارات المختلفة التي قد تسلكها سوريا في ظل التحولات الحالية.

في بداية اللقاء قال الحاج صالح الذي قضى 16 عاماً من عمره في سجون النظام السوري السابق إن يوم سقوط بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر الجاري كان من أبهج أيام حياته التي عاش معظمها في ظل حكم “السلالة الأسدية”. فسوريا كما يقول هي الجمهورية العربية الوحيدة التي جرى فيها توريث الحكم، في حين أفشلت الثورات في مصر وليبيا وتونس مخطط حكامها لنقل السلطة لأولادهم أو من في حكمهم “لكننا في سوريا دفعنا هذا الثمن الرهيب طوال 13 عاما وتسعة أشهر” وهي الفترة التي عنونها بـ”الدولة السلطانية المحدثة” وقدمها كمشروع شديد الرجعية “البعض قد يستغرب ذلك، لكني أصر على أن الرجعية في سوريا هي الأشد فاشية”. فسوريا الأسد في رأيه لا تشبه الممالك ولا الجمهوريات التي فشل فيها التوريث، بل “تشبه إسرائيل” بالتحديد؛ قوة استعمارية شديدة الوحشية تجاه المحكومين، تحكم بحالة استثناء دائمة ومستمرة، ووفق مبدأ فرق تسد، وتبيع للقوى الدولية النافذة فكرة حماية الأقليات.

حرب ضد المستقبل

يؤكد الحاج صالح على أن النموذج السياسي السوري لم يُنّظر له ولم يتم التفكير فيه جدياً، وهو ما حاول تقديمه في بعض أعماله عبر إضاءة الجانب الزمني الذي أسماه “الحاضر الأبدي” أي محاولة فرض نوع من الواقع للأبد “وهي ليست كلمة من اختراعي، فهو شعار يفرض ترداده على طلاب المدارس يومياً. إلى الأبد إلى الأبد يا حافظ الأسد. عبارة شديدة التداول بسوريا، ومن نسل الفكرة نفسها ظهرت عبارات أخرى: الأسد أو لا أحد، الأسد أو نحرق البلد وما إلى ذلك”. فكرة الأبد في رأيه هي حرب مستمرة ضد المستقبل، ووأد لأي بذور محتملة للتغيير، وهو ما أضفى على النظام السوري رجعية شديدة حمت نفسها بنوع من المظهر التحديثي، أو ما أسماه بـ”الفاشي بربطة عنق” الذي يحوز شرعية بالنظام الدولي النيو ليبرالي وزمن محاربة الإرهاب خصوصاً “وهذا ما عول عليه النظام وربح من ورائه، فإذا كانت سوريا دُمرت كل هذا التدمير فلأن هناك شرعية من النافذين على المستوى الدولي مُنحت للنظام، خصوصاً بعد صعود الإسلاميين”.

اليوم انطوى هذا كله، ككابوس أو صفحة سوداء قاتمة مرت وانتهت، لكنه يتعامل مع الواقع بحذر ولا يسلم نفسه للأوهام، فمشاعر الفرحة تمتزج بمشاعر القلق والتوجس والخوف من القادمين الجدد، يؤمن بأن هناك نهاية كان لا بد منها، أمر قطعي يجب أن يتحقق أياً كان ما سيأتي بعده، ثم بداية مفتوحة على مالات ومسارات متعدّدة يصعب توقعها والتحكم فيها “ما أثق فيه أن الفريق الحاكم الجديد حالياً لا يستطيع أن يطوي البلد تحت إبطه بالطريقة التي فعلتها عائلة الأسد طوال 54 عاما”.

خصخصة

في محاولة لتوصيف الوضع خلال الأعوام الأخيرة يقول الحاج صالح إنه تم نزع الصفة العامة للدولة أو “خصخصة الدولة السورية” بشكل حرفي، فعندما تقول وسائل الإعلام “سوريا الأسد” فهو برأيه ليس مصطلحاً إعلامياً كسولا للتعبير عن فترة حكم بل تعبير حرفي عن الملكية: أماكن لا تعد ولا تحصى في سوريا اسمها الأسد.. أكبر بحيرة، والمكتبة الوطنية، دار الأوبرا، وهناك ما لا يحصى من التماثيل، أكاد أشعر بالأسف أنها حطمت قبل حصرها، ولن أستغرب إذا علمت أنها كانت 10 آلاف تمثال لحافظ الأسد منثورة بالأحياء والمدن.

الوضع بعد الثورة زاد سوءاً “أصبح لدينا 5 احتلالات حدثت تباعا”: الإيرانيون من البداية بصورة خبراء ومستشارين عسكريين “كانت إيران بمثابة متعهد ميليشيات شيعية من بلدان مختلفة”، ثم الولايات المتحدة في 2014، فروسيا 2015، وتركيا 2017، وإسرائيل دائماً، إضافة إلى ميليشيات مسلحة متنوعة أو “منظمات ما دون الدولة السيدة” بدأت منذ 2012 وحتى 2018 “وعندما يدعو النظام حماة أجانب من أجل البقاء في الحكم فلا يمكن أن نتحدث عن سيادة في هذه الحالة”.

انتقام

يفضل صاحب “بالخلاص يا شباب” التمهل وعدم الاستعجال في الحكم على قدرة الجماعة الحاكمة الحالية على تغيير الصورة الذهنية المتعلقة بإرثهم القديم، وممارساتهم المرتبطة بتنظيمات كجبهة النصرة والقاعدة في وقت سابق، يقول إنهم تصرفوا بحكمة حتى الآن، والصحيح هو وضع السلطة أي سلطة تحت الضغط والنقد والرقابة طوال الوقت. والواضح أن الجماعة الحالية بحسب تحليله “طيف” وليسوا “كتلة” بمعنى أن هناك تعدد في الآراء والأصوات، ومن الواضح أيضا أن بعضهم متطرف بطبيعة الحال، لذا فمكمن الخشية أن تنفجر صراعات داخل هذا الطيف خصوصاً مع الإصرار على نزع السلاح وحصره بقوات وزارة الدفاع “الكرة بملعبهم، عليهم أن يثبتوا أنّ انفصالهم عن القاعدة انفصال فكري وليس سياسياً أو لاعتبارات برغماتية”. المؤشرات بنظره إيجابية، تدعهما التركيبة المعقدة للمجتمع السوري، التي تضمن أنه لا يمكن حكم سوريا بالمنطق السلفي الجهادي “المجنون” المفرط بالمزايدة الدينية أو الوحشية والعنف. إلخ، ولكنه في المقابل أيضاً يرى أن الجماعة الجديدة غير قادرة على التصرف كنخبة وطنية معتدلة ومحافظة. لذا فإنه يأمل أن يفرض النشاط السياسي والثقافي والمدني للسوريين والمهاجرين أيضا قدراً من الاعتدال.

في المجمل يبدو الوضع السوري شديد الصعوبة في نظره: “بشار الأسد هرب لكن الأسدية لا تزال هناك”، فلم يُعتقل أحد من كبار “قتلة” النظام السابق ورموزه الذين هربوا أو تخفوا داخل البلد “يجب معاقبتهم من أجل استكمال اجتثاث النظام السابق أولا، وثانياً من أجل قطع الطريق على الانتقام. فالعدالة مهمة لقطع الطريق على الثأر، ومهمة من أجل إمكانية الصفح”. وجود هؤلاء داخل البلد مصدر قلق في رأيه، إضافة إلى أن هناك كميات من السلاح بحوزة من كانوا موالين للنظام ولم تنزع بعد “هناك ركام من المشكلات يحتاج إلى ترتيب وطاقة ومساعدة وحظ أيضا”.

سياسة الضعفاء

لا يحب الحاج صالح إسداء النصائح. يقول إنه يقاوم إغراء نصح الحاكمين، لكن أولى الأولويات في نظره حالياً إعادة رأب النسيج الاجتماعي السوري، وبناء المؤسسات، والتوجه نحو انتخابات حرة ووضع دستور “الشرع يتحدث عن لجنة خبراء تضع الدستور، الدساتير لا تصدر عن لجان خبراء، الدستور يحتاج لجمعية تأسيسية منتخبة، فمن أجل أن يكون الدستور وثيقة سيدة يجب أن تكون الهيئة التي تصدره سيدة نفسها”.

تمتين الروابط الداخلية مقدم في نظره على الخطاب الزاعق تجاه الخارج، لذا فإنه يتفق مع ما قاله الشرع عن تجنب مواجهة إسرائيل. يقول إن سوريا حالياً لا تستطيع الدفاع عن نفسها وأول شيء فعلته إسرائيل عقب سقوط النظام هو تحطيم ما تبقى من مقدرات الجيش السوري “نحن ضعفاء وسياستنا يجب أن تكون سياسة ضعفاء”. وهي حسب تفسيره رعاية النفس وتمتين النسيج الاجتماعي والتعويل على المهارة والإبداع، وقدرة السوريين على إعادة بناء بلدهم، وفي الوقت نفسه البحث عما يوفره القانون والمؤسسات الدولية من حماية نسبية للضعفاء “سياستنا يجب أن تكون على قدر قوتنا وهي اليوم شديدة الضعف. والضعيف الذي يفكر بمنطق القوة يلجأ للإرهاب”.

وفي رده على السرعة الغربية في التعامل مع القيادة السورية الجديدة مقابل الحذر العربي، قال إن القوى الغربية عموماً أكثر ديناميكية وأسرع من الدول العربية، ولقاءاتهم لا تعني اعترافاً بالضرورة، هي قد تكون درجة من درجات الاعتراف لكنها في الوقت نفسه قد تكون جس نبض أو حتى ممارسة شكل من أشكال الضغط، لكن هذا لا ينفي أن التعامل العربي كان مؤسفا ومحبطا “فبدلا من التعبير عن بعض التضامن والأخوة والجوار استخدموا سوريا كفترينة عرض لتخويف شعوبهم. وهذا مقلق في الحقيقة”.

يخشى أيضاً من أن يسوء الوضع بشكل أكبر عقب مجيء ترامب “أخشى أن يكون داعماً لمزيد من العدوان ويطبع البذاءة والوحشية السياسية الإقليمية والدولية”، يعول فقط على القدرة الأميركية نفسها لأن تجد حلولاً لما قد يسببه رئيسها من مشكلات! “لأننا ببساطة لا نستطيع أن نجد حلولاً لبلطجي بهذا الشكل. نحن في وضع أشد ضعفاً من أن نؤثر عليه”.

أمل

ورداً على الدور المنتظر لليسار السوري بالوقت الحالي، قال إن اليسار تم تحطيمه كمنظمات في الثمانينيات والتسعينيات، ولم يتبق إلا بعض الأفراد المشتغلين بالشأن الثقافي أو الحقوقي “لم يعد لدينا تيار يساري متماسك، جرى نزع مدنية المجتمع السوري ونزع سياسته”. ورغم ذلك يقول إن أكثر ما يعطيه الأمل بالمستقبل هو مستوى “التسييس” العالي للمجتمع، فبسبب الأمد الطويل للصراع، ارتفع الوعي السياسي بجوار الغضب، وأصبح هناك اشتغال أكبر على الثقافة والفكر. في المجمل لا يرى أن الوضع السوري بحاجة لزعماء، بل مزيد من النشاط والحضور “أن نُرى في الفضاءات العامة” أن يكون لتلك القوى منابرها وأن تؤثر على أجندة العمل العام، إضافة إلى الدفاع عن فكرة العلمانية “وهي في تصوري ليست فصل الدين عن السياسة بل فصل الدين عن السيادة.. عن الولاية العامة وممارسة القوة”. وعلى المستوى الشخصي يتمنى أن يرى كتبه معروضة في دمشق بعد سنوات طويلة من المنع.

ياسين الحاج صالح

كاتب وناقد وباحث ومترجم سوري معارض، وسجين سياسي سابق. ولد في مدينة الرقة عام 1961، واعتقل عام 1980 بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي ديمقراطي معارض. ويعتبر من أهم الكتّاب والمنظرين السوريين في قضايا الثقافة والعلمانية والديمقراطية وقضايا الإسلام المعاصر، وله تأثير واسع في الساحة الثقافية السورية والعربية.

المدن

—————————–

    الدستور، الحُكْم الدستوري، والتاريخ السوري/  ياسين الحاج صالح

    في ضرورة جمعية تأسيسية مُنتخَبة لصياغة دستور البلد

19-12-2024

        قال السيد أحمد الشرع قبل أيام إن لجنة خبراء تعمل على إعداد دستور سوري جديد. هذا غير سديد. الدستور هو القانون الأساسي للدولة، المُعادِل القانوني للسيادة، الوثيقة السيّدة، وبهذه الصفة يَتعيّنُ أن يصدر عن جمعية تأسيسية منتخبة، سيّدة نفسها لأنها منتخبة، وليس عن لجنة خبراء مُعيَّنة، يَسودها من عَيَّنها. ما يتمخَّضُ عن لجنة مَسودة هو وثيقة مَسودة، لن تحظى بالاحترام العام أكثر مما حظيت به دساتير الحكم الأسدي البائد.

        لا يستجيب تصور دستور تُؤلِّفه لجنةُ خبراء لا للتحوُّل التاريخي الكبير الذي تشهده سورية، الأكبر في تاريخها منذ الاستقلال، ولا من جهة أخرى لمبدأ الحُكم الدستوري، أي المُقيَّد وغير المُطلَق على النقيض من الحكم الأسدي، ولا من جهة أخيرة لسوابق أساسية في تاريخ سورية قبل الأبد الأسدي.

         قبل كل شيء، البلد يخرج للتو من حُكْم استعماري داخلي، حَكَمَ بالتعذيب والسجون والمجازر، بحالة الاستثناء الدائمة، وبالتوجيهات والأوامر لا بالقوانين ولا بالدستور، وبسياسة فَرِّقْ تَسُد لا بتنمية الثقة الوطنية بين السوريين المختلفين، وبمبدأ حماية الأقليات الاستعماري، لا بالمواطنة والمساواة الحقوقية والسياسية. هذه كلها خصائص استعمارية، فلا نستخدم هذه الكلمة هنا من باب إغلاظ القول بحق نظام العائلة البائد. والتكوين الاستعماري الداخلي هو ما مَهَّدَ لدعوة النظام قوى استعمارية خارجية لمُشاركته قتل مَحكوميه، إيران وتوابعها وروسيا. والمهمّة المطروحة على السوريين بعد انطواء صفحة الكولونيالية الداخلية هي المهمة التي تطرح على بلد تَحرَّرَ لتوه من الاستعمار: البناء الوطني، أي بناء الدولة والمؤسسات بما فيه الجيش والقوى الأمنية، ويجري فيه بسط الأمن في أرجاء البلد ونزع سلاح أي ميليشيات مُحتمَلة واحتكار السلاح بيد سلطة الدولة على ما قال أحمد الشرع بحق، وتوحيدُ سورية جغرافياً. ومن البناء الوطني إصلاحُ البنية التحتية التعليمية والصحية والقضائية، وبالطبع المرافق العامة المُدمَّرة بقدر كبير. ومنه التَقدُّم في ملف العدالة الانتقالية وملاحقة كبار المجرمين (ربما بالمئات) والحجر السياسي على أعوانهم (ربما بالألوف) لسنوات محددة أو مدى الحياة، ومنه الكشف عن مصير المفقودين والمُغيَّبين قسراً، عند النظام أو عند ميليشيات أخرى «آجرت» في من وقعوا تحت رحمتها من سوريين مُستفيدة من تحول البلد إلى غابة، أو إلى جنة للجريمة والإفلات من العقاب.

        ثم إنه من البناء الوطني ما يجري سلفاً من نقاش سوري عام، في وسائل التواصل الاجتماعي، في صحف ومجلات وأقنية فضائية، في منتديات إلكترونية، وهو بحاجة إلى أن يجري بصور أقلَّ عشوائية وتناثراً، وأن يبلغ مداه وتتّضحَ مُشكلاته وتتبلور مسائله. ومن هذا البناء الوطني انتخابُ جمعية تأسيسية، تضع دستوراً للبلد بناءً على هذا النقاش العام، وعلى تاريخ الثورة السورية، وعلى مُجمَل تاريخ سورية ككيان سياسي وطني حديث. لا تكون الجمعية سيّدةً إن لم تكن مُنتخَبة، ولا يكون الدستور سيَّدَ القوانين إن لم يَصدُر عن جمعية سيّدة. هذه الجمعية تتحول بعد وضع الدستور إلى برلمان، أو تحلُّ نفسها ويجري انتخاب برلمان أو جمعية وطنية أو مجلس شعب إلخ.

        وهذه أشياء كبيرة، لا يمكن أن تجري بين ليلة وضحاها. فلا بدَّ من مرحلة انتقالية، فترة بين عام وعامين، يجري خلالها بسطُ السلم الأهلي وتهدأ فيها الانفعالات وتسترخي الأنفس، وتتحسّنُ الخدمات، وتُتاح الفرصة لسوريات وسوريين متنوعين أن يُنظّموا قواهم ويشكلوا جمعياتهم ومنظماتهم السياسية والاجتماعية والمهنية، ويستعيد المجتمع السوري شيئاً من مدنيته، من أجل الانتخابات والجمعية التأسيسية والدستور.

        فإذا أخذنا بالاعتبار، على ضوء خبرتنا التاريخية في زمن ما بعد الاستقلال، أن حجرَ الزاوية في البناء الوطني هو البناء المُواطني، أي الاستثمار في حرية السوريين واستقلال عقولهم وضمائرهم، كان ذلك داعياً إضافياً للتمهُّل وإعطاء أنفسنا ومجتمعنا فرصة للتنفس وتَمالُك النفس. وربما خلال هذا الزمن الانتقالي تجري مبادرات لتعزيز السلم الأهلي، مبادرات أهلية، لكن كذلك مبادرات من القوى السياسية المُحتملة، ومن الفريق المُسيطر الحالي.

        ربما يقال إنه خلال عام أو عامين يُعزّز الفريق المُسيطر مواقعه ويفرض تصوراته وقواعده، فلا يُطلق عملية انتخابية إن لم يضمن نتيجتها مسبقاً. ليس هذا ممّا يمكن استبعاده في واقع الأمر، إن صفا الجو لهذا الفريق. وقد تكون هناك فكرة مُكمّلة تتصل باللحظة الثورية الحالية ووجوب أن يجري التأسيس الجديد الآن، ربما خلال شهر أو شهرين، أو ربما حتى نهاية ولاية حكومة محمد البشير الحالية في آذار القادم، بدلاً من عام أو عامين. لكن هذا غير ممكن واقعياً ببساطة. جغرافيا البلد لا تزال غير مكتملة، ومحافظات الجزيرة الثلاثة أو أقسامٌ مهمة منها لا تزال خارج نطاق السلطة الجديدة. ثم إن انتخابات عامة دون حصر السلاح بالسلطة المركزية تضع الناخبين المحتملين تحت سيطرة الميليشيات.

        فإذا بنينا على ما نُعاين اليوم من ديناميكيات، ربما نرى تبلور سلطة جديدة أكثر وأكثر، وفي الآن ذاته ظهور مقاومات جديدة أكثر وأكثر. وصعودُ وانتشارُ المقاومات الاجتماعية وتنظيمُها هو ما يُعوَّل عليه من أجل نظام سياسي عاقل. عقلُ النظام السياسي في أي بلد علائقي، وليس في رؤوس أفراد متولي أعلى المناصب الحكومية أو تكتلاتهم. والنظام أقلُّ عقلاً حين لا يوازن نفسه بغير التعددية الدينية والثقافية التي لا يفكر الإسلاميون بغيرها، ولا يتجاوزها إلى تعددية أمر واقع سياسية أوثقَ صلة بعالم اليوم وتَطلُّعات الناس اليوم والمصالح القائمة اليوم، وفوق أنها هي وحدها ما تُبقي النظام السياسي مفتوحاً على قوى جديدة وأفكار جديدة. لم نفتقر إلى تَعدُّدية دينية وثقافية في الحقبة الأسدية، بل بالعكس تمت رعايتها على أكمل وجه، ما افتقرنا إليه هو بالضبط التعدُّدية السياسية، تَعدُّدية التنظيمات والبرامج والفلسفات.  

        وعلى مستوى التَعدُّدية الدينية والمذهبية الموروثة وحدها يشتغلُ منطق الطمأنة الذي اعتُمِدَ في الأيام الباكرة لتحرير المدن الأكبر، لكنه في سبيله لأن يستنفد نفسه سلفاً. ومنذ الآن صار يتعين أن تنضبط الأمور بقوانين وقواعد معلومة تُحيل إلى المواطنة وحقوق الإنسان والحريات العامة. نحن اليوم في زمنِ ما قبل الدستور، وهو زمنُ بناء المنظمات والأحزاب، وزمن التجارب والتمارين على إدارة الحياة العامة في سورية الجديدة على أُسس من التَعدُّد والحوار والثقة. 

        السوريون بحاجة إلى روح إيجابية تسود في بلدهم ليستعيدوا وطنيتهم (إن من براثن الطائفية أو التبعيات الأجنبية). لقد غُرِّبنا وأُذللنا طوال عقود، والأولوية اليوم لتكريم هذه المعاناة الرهيبة التي تَشارَكها أكثر السوريين بصور مختلفة. ينتهي عهد الذلُّ بالحرية لا بغيرها، وليس بالتأكيد بكثرة الكلام على الكرامة. ومن بين ما تعني الحرية أن يَحكُمَ سوريون منتخبون بَلدَهم، وأن يجري تداول السلطة بانتخابات حرة تجري دورياً. وهو مما يُفترَض أن ينظمه دستور البلد مثلما يضعه من ينتخبهم أهل البلد، وليس لجنة خبراء مجهولة، مُشكَّلة ربما من أمثال عبيدة أرناؤوط، ينتخبها أصحاب السلطة.

        ولا ننسى بعد هذا كله أن غاية الدستور هي أن يصير الحُكْم دستورياً، أي مُقيَّداً وغير مُطلَق. وهو ما لا يتأتى إن لم يصدر الدستور عن هيئة سيّدة لنفسها، هي ممّا عرفه تاريخ سورية ذاتها غير مرة باسم الجمعية التأسيسية، وهذا مثلما عَرَضَتْ مقالة محمد علي الأتاسي البارحة في الجمهورية.نت. الحُكْم الدستوري مُقيَّد من حيث الصلاحيات ومن حيث أمد التفويض، فيما يُرجَّح لحُكْم غير مُقيَّد أن يكون وحشاً كاسراً، غولاً. وقد كان للتو. وتستند فكرة الحُكْم الدستوري إلى أنه ليس هناك حاكمون مُمتنِعون لشخصهم أو مُعتقدهم على الفساد والطغيان، على ما يُدلِّل تاريخُنا وتواريخ غيرنا بما يزيد على الكفاية. الانضباط بقواعد عامة مُتَّفق عليها هو وحده ما يحمي المجتمع من الطغيان. هذه القواعد العامة المُلزِمة هي الدستور.

موقع الجمهورية

———————–

الثقافة السورية في عهد الأسدين: تجميل وجه “البعث”/ سامر محمد إسماعيل

سيطرة كتاب التقارير وأدباء المراكز الرسمية واستفحال الرقابة والمنع والاعتقال بدعم من الاستخبارات

الأربعاء 18 ديسمبر 2024

كيف نقرأ المشهد الثقافي السوري الشامل في عهد حزب البعث خلال حكم الأسد الأب والإبن؟ رقابة شاملة واستخبارات ومنع كتب ومعارض ومسرحيات وأفلام وتوقيف مبدعين وملاحقة معارضن، وسط جو من الحركة الثقافية المعارضة.

كثيرة هي أنواع الرقابة التي سادت الثقافة السورية في عهد النظام البائد، وأسهم مثقفون بعينهم في رعايتها وحمايتها، حتى أحالتهم السلطة الأسدية إلى نوع من العسس الثقافي الذي يعمل تحت إمرتها، فاستخدمتهم كي يسهروا على تلميع سمعة القائد الرمز المنزه عن الأخطاء.

 لعل اتحاد الكتاب العرب أولى المؤسسات التي دعمتها السلطة القمعية على مدى عقود طويلة من فترة حكمها لسورية، فمن ينسى حادثة طرد أدونيس من الاتحاد بتهمة التطبيع مع إسرائيل عام 1995، وما تلت هذه الحادثة من تجميد لعضوية سعدالله ونوس ونبيل سليمان وسليم بركات وحنا مينة؟ من ينسى اليوم الدور الذي لعبه هذا الاتحاد على مدار أعوام طويلة في جعل الثقافة السورية أقرب ما تكون إلى خردة ثقافية، والاشتغال يوماً إثر يوم على تكريس الرقابة المسبقة على الكتب والمطبوعات والصحف تحت شعار “لا صوت يعلو على صوت المعركة”.

لقد عمل مثقفو الأسد، الأب ومن بعده الأسد، الابن على كتابة تقاريرهم اليومية في حق عدد من الكتاب والمثقفين السوريين، وحاربوا بلا هوادة كل حساسية جديدة ومناوئة لهم. وهم بذلك أسهموا مع اندلاع الثورة السورية في مارس (آذار) من عام 2011، في الانقضاض على كل المؤسسات الثقافية، وكانت أولى هذه المؤسسات هي وزارة الثقافة، التي كانت تطرح هامشاً معقولاً لحرية النشر بحضور المفكر الراحل أنطون مقدسي كمشرف على إصداراتها. فإن هذا الأمر لم يستمر طويلاً، فسرعان ما تسرب مثقفو الاستخبارات إلى لجان القراءة، وسيطروا بقوة التخوين والترهيب على معظم مديرياتها.

هكذا مثلاً تم فصل الشاعر نزيه أبوعفش من عمله في مديرية التأليف في وزارة الثقافة، ونقله إلى مصلحة مكافحة المتسولين في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. وهكذا تم إتلاف ديوان “داكن” للشاعر منذر مصري الذي صدر عن الوزارة عام 1989 وسُحبت نسخه كاملة من التداول. وبالتوازي تم منع أقسام الأدب العربي في الجامعات السورية من تناول كتب أدونيس وعادل محمود ومحمد الماغوط ومنذر مصري ورياض الصالح الحسين في رسائل الماجستير والدكتوراه، مثلما تم تحريم تناول تجربة فواز حداد ونبيل سليمان وروزا ياسين حسن في الدراسة الأكاديمية، وقد صدرت قرارات صارمة من فروع حزب البعث في هذا الشأن.

الإرهاب الفكري

لم تكن الصحافة الثقافية السورية في منأى عن هذا الإرهاب الفكري، فقد تم التخلص على مراحل، من الصحافيين والكتاب المشاغبين في الصحف الرسمية، فكثرت الاستدعاءات لهؤلاء إلى الفروع الأمنية، فيما تم إيقاف عدد منهم عن الكتابة، في وقت تم نقل آخرين إلى محافظات ومدن بعيدة من العاصمة لإبعادهم عن المشهد. ولعل أبرز حادثة في هذا السياق هي إيقاف جريدة “الدومري” الخاصة، لصاحبها ورئيس تحريرها الفنان علي فرزات عام 2003، وذلك بعد صدور عدد للجريدة نشر ملفاً بعنوان “الإيمان بالإصلاح”. الملف شارك في تحريره نخبة من كتاب ومفكرين سوريين، ومنهم ممدوح عدوان وميشيل كيلو وعادل محمود وحكم البابا وفارس الحلو ومية الرحبي. أرسلت سلطات الأسد الابن وقتها قوات من الأمن والشرطة إلى المطبعة لمصادرته، بحجة “التطاول على القيادة السياسية”. ولعل الجميع بات يتذكر الحادثة التي تعرض لها رسام الكاريكاتير علي فرزات عندما قامت جماعات من الشبيحة باختطافه، وتكسير أصابع يديه بعد إعلان وقوفه إلى جانب الشعب السوري في ثورته.

زاولت السلطة الأسدية طوال نيف وخمسين عاماً شتى أنواع الترهيب ضد المثقفين، وهذا لم ينحصر في مجال النشر والطباعة. فقد أطلق على كل مؤسسة وطنية اسم عائلة الأسد، فالمكتبة الوطنية صارت “مكتبة الأسد” ودار الأوبرا السورية هي “دار الأسد للثقافة والفنون”… وسط هذا المناخ القاتم سيطر كتاب التقارير وشعراء المراكز الثقافية على مفاصل النشر والكتابة، وتم تطفيش كل من يوجه نقداً ولو بالتلميح إلى الرئيس المفدى. وتمت الاستعانة لأداء هذه المهمة بمن يطلق عليهم لقب “حراس البوابة”، وهم في الأصل مخبرون مستترون خلف مناصب مديرين ورؤساء تحرير. ويذكر عدد من المثقفين التعميم الشهير الذي أصدره وزير الإعلام في حكومة النظام عام 2002، الذي منع بموجبه الصحافيين والكتاب من نشر أي مادة تنتقد وزارة الثقافة إلا بعد أن تطلع وزيرة الثقافة عليها.

كل هذه الإجراءات تزامنت مع استيلاء اتحاد الكتاب ووزارة الإعلام على رقابة الدوريات والصحف والكتب، والجميع يذكر تلك الصفحات المجتزأة أو الممزقة من الصحف العربية، التي كان موظفو المؤسسة العامة للمطبوعات ينتزعونها من الصحف العربية قبل السماح بتداولها في منافذ البيع. كل شيء كان مراقباً في دولة البعث، لكن الثقافة هي أولى ضحايا هذا النظام، وأسهم مثقفو السلطة وأبواقها في تخوين كثيرين، فامتلأت قوائم منع السفر لمثقفين ومفكرين وكتاب، واكتظت السجون المرعبة بمعتقلي الرأي الذين قضوا أعواماً طويلة من أعمارهم خلف جدران السجون، لعل أبرزهم كان ميشيل كيلو وفاتح جاموس وغسان جباعي وفرج بيرقدار وثائر ديب وسلامة كيلة وجورج صبرا ورياض سيف.

السينما السورية هي الأخرى لم تسلم من هذا التضييق والرقابة وحملات التخوين، إذ لعبت المؤسسة العامة للسينما دوراً جوهرياً في إبعاد عدد من السينمائيين المعارضين عن خطة إنتاجاتها، وتباعاً تم منع عدد من أفلامهم من العرض. ولعل الجميع يتذكر كيف طلب حافظ الأسد شخصياً مشاهدة فيلم “نجوم النهار” لمخرجه أسامة محمد في صالة المكتبة الوطنية، وكيف تم دفن هذا الشريط الروائي الطويل بعد ذلك في أدراج المؤسسة. عقاب جماعي تعرضت له أفلام حققها كل من محمد ملص ونبيل المالح وسمير ذكرى وقيس الزبيدي ورياض شيا، فأبعد هؤلاء عن برامج الإنتاج، وتم وضعهم على القائمة السوداء.

هذا المصير لم يكن أسوأ من المصير الذي لقيته أفلام القطاع الخاص في سوريا مع مجيء الأسد الابن إلى السلطة عام 2000، فقد مارس الرئيس المخلوع سياسة أبيه، وكرست الرقابة في المؤسسة عسفها على أفلام سينمائية عدة، لعل أبرزها كان فيلم “الليل الطويل” لحاتم علي الذي تعرض فيه لواقع المعتقلين السياسيين في السجون السورية، فيما تم منع فيلم “غيلان الدمشقي” لمخرجه هيثم حقي، ومثله تم منع معظم أفلام عمر أميرالاي الوثائقية، مثل “طوفان في بلاد البعث” وفيلم “الحياة اليومية في قرية سورية”.

حال السينما السورية لم يختلف كثيراً مع موجة أفلام الحرب، فقد اضطر المخرج محمد عبدالعزيز إلى إعادة عمليات المونتاج لفيلمه “الحرائق” أكثر من 20 مرة، بعد أن طلبت لجان المشاهدة منه اقتطاع كل صور الرئيس الهارب من مشاهد الشريط الروائي الطويل. جاء ذلك وفق تفسير لكل لقطة من لقطات الفيلم، ومن ثم تأويلها بما يبعد عن أعضاء لجنة الرقابة أي مساءلة. كذلك الأمر كان بالنسبة لفيلم “ياسمين شوكي” لمخرجه غسان شميط، في حين رفضت الرقابة في مؤسسة السينما إنتاج عدد من السيناريوهات التي قدمها كل من سمير ذكرى ومحمد ملص وواحة الراهب.

وتجلت ممارسات سلطات الأسد ضد المثقفين في إحباط التجمعات الفنية المستقلة وتفكيكها، ولعل أبرزها كان في تعطيل أنشطة نادي دمشق السينمائي الذي كان مقره المنتدى الاجتماعي في دمشق. وشكل عمر أميرالاي ومحمد ملص ونبيل المالح وقيس الزبيدي وهيثم حقي وآخرون، خلية سينمائية نشطة في هذا النادي، وكانت مواقفها المعارضة علنية داخل الحياة الثقافية والاجتماعية في البلاد. لكن ذلك لم يتحقق إلا بعد صراع خاضته إدارة النادي ضد التيار الشيوعي البكداشي الذي كان يسيطر على النادي في ذلك الحين، وقد نجح السينمائيون عبر انتخابات ديمقراطية بانتزاعه من أيديهم. وقد استمر نشاطهم في ما بعد من 4 حتى 1981، حين اضطر النادي إلى تعليق أنشطته بالكامل بسبب أحداث حماة الدامية في سوريا، واشتداد وتيرة القمع في البلاد. وقد واكب النادي خلال عامي 1979 و1980 انتفاضة النقابات التي اعتبرت وقتها لحظة تاريخية استثنائية في حياة سوريا المعاصرة، بحيث جرى التعتيم عليها ليس من الإعلام الرسمي وحسب، وإنما أيضاً من المهتمين بالشأن السوري.

كان نادي دمشق السينمائي المنبر الوحيد المستقل الذي كان يمارس نشاطه بحرية نسبية، وإنما تحت رقابة أمنية مشددة. وتحول مقر النادي إلى منبر مفتوح للنخب المعارضة في المجتمع للتعبير عن أفكارها ومطالبها، وقد توالى على منبر هذا النادي وجوه من الحياة السياسية السورية بمختلف أطيافها، من أقصى اليسار إلى اليمين الديمقراطي. إلى أن صدر عن وزيرة الثقافة آنذاك نجاح العطار، توجيه إلى صالات السينما الخاصة بعدم استقبال أعضاء النادي، واضعة إدارته أمام خيار أوحد: إما أن يعرضوا في إحدى صالات المراكز الثقافية العائدة للوزارة أو لا يعرضوا أبداً. فقرر أعضاء النادي عندئذ تعليق أنشطتهم من جديد حفاظاً على استقلالهم، ولأنهم اشتموا أيضاً في قرار وزيرة الثقافة محاولة لتهميشهم وعزلهم في مراكز ثقافية مقفرة، لا تفتح أبوابها إلا لمجالس العزاء في أحسن الأحوال.

الرقابة الحديدية

هذه الرقابة الحديدية على النصوص والأفلام كانت بالقدر ذاته على العروض المسرحية، وهنا لا بد من التذكير بالمنع الذي تعرضت له مسرحية “ليل العبيد” لمؤلفها ممدوح عدوان ومخرجتها نائلة الأطرش. حدث ذلك في ليلة افتتاح المسرحية عام 1984، إذ تقاطر حينها أعضاء القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث، إضافة إلى وزيري الثقافة والأوقاف كي يراقبوا العرض في مسرح الحمراء. الأمر ذاته حدث مع مسرحية “السهروردي” لمؤلفها ومخرجها غسان جباعي. أمثلة كثيرة يمكن إيرادها عن واقع الرقابة على المسرح السوري في ظل نظام البعث، فعلى رغم استمرار الحركة المسرحية السورية بشق الأنفس في المسارح القومية، فإن هذا توقف على مبادرات فردية حاول مخرجوها وممثلوها وكتابها عدم التخلي عن دورهم في مناوئة سلطة الديكتاتور، وتقديم مواقفهم مما يجري من سلب للحريات العامة وكم الأفواه.

هكذا مثلاً تم إيقاف عرض “طقوس الإشارات والتحولات” لمخرجها فايز قزق ومؤلفها سعدالله ونوس. حدث ذلك في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق عام 2011، ومثلها حوادث عديدة تكررت في ما بعد، مع كل من أسامة حلال في عرضه “جثة على الرصيف” ونوار بلبل في عرضه “المنفردة”. وهذا الأخير قدم مقاربة مغايرة للضحية والجلاد، مثلما فعل سامر عمران في عرضه “المهاجران” عن نص للبولوني سلافومير مروجيك.

حاول مسرحيون كثر العمل خارج إطار المسارح الرسمية وقوانينها، فأسست الفنانة الراحلة مي إسكاف فضاءها “دارة الفنون”، وقدمت هناك عروضاً مسرحية وموسيقية وأمسيات شعرية، لكن هذا لم يستمر طويلاً، فسرعان ما تمت فرملة اندفاعة هذا الفضاء، والتضييق عليه إلى أن تم انتزاع المكان لمصلحة منظمة اتحاد شبيبة الثورة. الأمر ذاته حدث في التضييق على مخرجين وأساتذة داخل المعهد العالي للفنون المسرحية، ولعل أبرز من تعرض للتهميش كان الفنان سمير عثمان الباش، فبعد تهديدات بالقتل خرج الباش من أستوديوهات المعهد المسرحي، وقام بتأسيس مدرسة الفن المسرحي في جرمانا (ريف دمشق)، وأطلق من هناك فضاءه المسرحي المستقل، الذي لا يزال مستمراً رغم ضعف التمويل وقسوة الظروف المعيشية.

من مسرحية تحت ظلال الصفصاف في ضوء القمر لسمير عثمان الباش.jpg

مسرحية “تحت ظلال الصفصاف…” تحدت الرقابة (ملف المسرحية)

ومع مطلع السبعينيات أسست مجموعة من الفنانين التشكيليين ما عرف وقتها بـ”جماعة العشرة” التي انتهت عام 1974 بإيعاز شفوي بحلها من وزير الإعلام السابق عدنان بغجاتي. كانت هذه التجربة رداً على ممارسات اتحاد التشكيليين السوريين إزاء تهميش الفنان السوري المستقل. ضمت الجماعة في صفوفها كلاً من فاتح المدرس، وغسان السباعي، ونعيم إسماعيل وعبدالله مراد وآخرين. حادثة تعكس رغبة النظام الأسدي وقتها في إنهاء أي نوع من التجمعات الفنية المستقلة، وتعكس الممارسات ذاتها التي طبقها على الأدباء والمسرحيين والسينمائيين. إذ لم يسمح نظام الأسدين لأي نوع من الحراك التشكيلي الحر خارج اتحاداته ونقاباته الخلبية التي تعج بالمخبرين والدخلاء على المهنة.

وجاء اعتقال الفنان يوسف عبدلكي في الأعوام الأولى من الثورة السورية ليؤكد هذا السلوك، بل ليفتح الباب واسعاً على فضح كل التجاوزات التي قام بها النظام مقابل تهميش الفنانين والمثقفين السوريين، فجعلهم مجرد أعضاء في اتحادات نقابية شكلية، لا وظيفة لها إلا مراقبة الفنان أو المثقف والتبليغ عنه لأقرب جهة أمنية.

الولاء قبل الأداء قاعدة ذهبية في نظر أجهزة القمع الدموية، وعليه لم تناسب أعمال عبدلكي مزاج النظام البعثي، فلقد قدم هذا الفنان رسوماً عن شهداء الثورة السورية والأمهات المكلومات، ومنها لوحة “أطفال درعا “و”لاجئون”، مما أسهم في تقليص أدوات التعبير. وأحال ذلك إلى تعميم أنشطة التشريفات على حساب الثقافة السورية، فاستفرد مثقفو الاتحادات وفنانو النقابات بالفضاء العام، وللمفارقة معظم هؤلاء من عديمي الموهبة، أو ممن مهدوا لحضورهم عبر خدمات أمنية جليلة للنظام البائد.

ولعله يحسن التذكير بما فعله غياث الأخرس، وهو عم أسماء الأسد زوجة الرئيس المخلوع، فلقد أطلق النظام البعثي يده في مبنى كلية الفنون الجميلة في دمشق، فاقتطع أكثر من نصف مساحة هذه الأكاديمية العريقة لإقامة ما سماه “المركز الوطني للفنون البصرية”. وقد استخدم الأخرس هذا المكان مزرعة شخصية لإدارة صفقات تسويق أعمال فنية مهربة من مستودعات مديرية الفنون الجميلة في وزارة الثقافة السورية. مما أسهم في انفضاض معظم الرسامين والنحاتين السوريين عن “مركز الأخرس”، والذهاب باتجاه صالات عرض خاصة.

لقد حارب البعث أي مبادرة ثقافية، ومنها كانت مبادرة الفنان فارس الحلو في ملتقى النحت السوري في مشتى الحلو، وقام النظام بمصادرة محترف “البستان” الذي أسسه الحلو في حي الفيحاء بدمشق. وعلى هذا المنوال أصاب الشلل كل مرافق الثقافة، وأبعدت النخب عاماً بعد عام عن لعب دورها المؤثر.

————————————-

سوريا بلا أسد: نهاية عظيمة وبداية قلقة/ ياسين الحاج صالح

19 كانون الأول 2024

سقط الحكم الأسدي بالطريقة التي حكم بها سوريا طوال 54: طريقة جبانة، خسيسة، بلا ذرة من الكرامة. نظام الكراهية سقط مكروهاً، لا يستطيع أحد حتى ممن والوه عمراً أن يقول بحقه كلمة طيبة. وخرجت سوريا من كابوسه المديد مجهدة ومثخنة بالجراح، لكن بقدر من الفخر المستحق: إسقاط بشار وزبانيته دون دم، دون مجازر، دون دمار يذكر، دون انتهاكات مخجلة، مع تصرفات مسؤولة عموماً من قبل الفريق النافذ الجديد. تحرير السجناء والمشاهدة المؤثرة لخروجهم من سجن صيدنايا وغيره، يرجح أن تكون من أبقى الصور في البال لسنوات قادمة. عودة المهجرين من المخيمات، واللاجئين من تركيا ولبنان والأردن، وآخرين من بلدان قريبة وبعيدة تعيد التذكير بجذور أزمة اللاجئين: ليست معاناة أوروبا وتركيا ولبنان وغيرها منهم، بل معاناتهم هم من نظام إبادي في وطنهم. وتحقق هذا التحول الصاعق بأيد سورية أساساً، بعد أن كان صراعنا قد فقد صفته السورية بتسارع بدءاً من النصف الثاني مع عام 2012.

لدينا نهاية عظيمة، هي بمثابة «أمر قطعي» واجب مطلق لا تداخله النسبية. هذه الصفحة الحقيرة من تاريخ سوريا كان يجب أن تطوى منذ أمد بعيد لأنها أبد قاتل بلا نهاية، بلا أفق، بلا أمل. ولدينا اليوم بداية ولدينا أفق. ولدينا مجتمع سوري تسيّس الملايين منه خلال سنوات الثورة الطوال، ويصعب تصور أن يستطيع النافذون الجدد السيطرة فيه على الطريقة الأسدية. الأمر رهن بمقاومات السوريين وحسن تنظيمهم، وليس حصراً بما يريد أي فريق مسيطر. ليس الغرض من ذلك طرح الأمور بصورة ضدية، والمسارعة إلى منازعة العهد الجديد. فالأمر ذاته يبقى صحيحاً أياً يكن شاغلو موقع السلطة العمومية، هذا غير أن لدينا في مسار ما بعد الثورة الطويل ما يبرر ونيف الخشية من أن يتصرف إسلاميو هذا العهد على هذه الصورة الضدية بالذات، فيعتبرون الدولة جائزتهم ومكافأة لهم وحدهم على إسقاط نظام بشار، ويقمعون من يعترضون على ذلك. هناك سلفاً أصوات تقول ما يقارب ذلك.

ثم أن سوريا اليوم تواجه مشكلات كبيرة تحتاج إلى مشاركة واسعة من السوريين، من كفاءاتهم وطاقتهم ومبادراتهم وتطوعيتهم، وبالتأكيد حريتهم في التعبير والتنظيم والاحتجاج، أي بالضبط امتلاك السياسة المحرمة عليهم طوال جيلين ونيف. من أولى هذه المشكلات أن بشار الأسد هرب، لكن الأسدية في صورة تركة ثقيلة من الخراب المادي والاجتماعي، من خراب بشري يتمثل في الاستعداد الرخيص للتزلف والنفاق، مما وجد تعبيره بسرعة في ظاهرة «المُكوِّعين» وفي صورة تطييف الحقل العام، وفي صورة أزمة ثقة وطنية مديدة داخل المجتمع السوري، أوجه الأسدية هذه لا تزال هناك. ولا يبدو بعد ذلك أنه جرى توقيف أحد من كبار قتلة النظام ومديري أجهزة التعذيب فيه. هذا تحد أمني وسياسي وحقوقي من شأن استجابة فاعلة له فقط أن تحقق قدراً من العدالة للسوريين، وتقطع الطريق على المنازع الثأرية المحتملة، فضلاً عن استئناف الإجهاز الواجب على النظام السابق.

وفي المقام الثاني هناك تحديات بيئة إقليمية ودولية متوحشة، على ما تشهد تجربتنا السورية بالذات خلال 13 عاماً وتسعة أشهر، وعلى ما شهدت وحشية إيران وأتباعها، ليس في القتل والاحتلال فقط، بل في التلاعب القذر، الاستعماري النموذجي، بالنسيج الاجتماعي السوري. ثم على ما شهد بصورة غير مباشرة قبل أيام فقط بيان وزراء الخارجية العرب في عمان يوم 14 الشهر الجاري. روحية بيان الجماعة أقرب إلى اشتراطات على الانتقال الجاري وتشكك سلبي حياله منه إلى احتضان ودعم ربما يتوقعهما المرء من أخوة وجيران. الوزراء نسوا أن يحيوا الشعب السوري وأن يقولوا شيئاً عن معاناته الرهيبة. نسوا أن يقولوا شيئاً عن تسليم مجرمي النظام ولصوصه الفارين إلى بلدانهم هم بالذات، أو عن إعادة الأموال السورية المنهوبة، ونسوا قبل كل شيء دعوة أي سوريين ممكنين للكلام على… سوريا. كانت أكثر أنظمتهم قد استخدمت سورية «فترينة» لتخويف لشعوبهم، أما وقد خسروا «فترينة» المعاناة هذه فقد تسلل ما في الدواخل من خوف وقلة احترام إلى سطور للبيان. وكم ينبغي أن يكون المرء وقحاً وقليل الإحساس حتى يتكلم على «حماية الأقليات» مثلما فعل وزير الخارجية الأمريكية في مؤتمر الوزراء العرب (وقبله ممثل ألمانيا إلى سوريا) حين لم يقل الرجلان يوما كلمة واحدة، عن حقوق غير الأقليات، أو عن المواطنة والمساواة في المواطنة في سوريا. مبدأ حماية الأقليات لا ينفتح على ديمقراطية ومواطنة ومساواة، بل حصراً على ضمانات دولية خاصة للأقليات، تترك دولاً مثل أمريكا وألمانيا وفرنسا وروسيا في موقع المتدخل الدائم ضد الأكثرية المحاصرة في موقع المشتبه بها كقوة شريرة متوحشة. هذا مبدأ استعماري، وله تاريخ عريق منذ أيام المسألة الشرقية. وليس له من تحقق سياسي غير الحكم الأسدي أو ما يعادله.

على أن أكثر ما يكشف مدى توحش البيئة الإقليمية والدولية هو مسارعة إسرائيل يوم سقوط بشار الأسد إلى احتلال أراض سورية جديدة، وتدمير معظم مقدرات الجيش السورية الباقية التي لم تدمرها حرب بشار الأسد الطويلة. فإذا كان قد بدا لنا طوال سنوات أن الحكم الأسدي استمرار للكولونيالية بأيد محلية، فإننا نرى اليوم كيف أن الاستعمار الإسرائيلي استمرار صريح للأسدية: ما إن توقف بشار الأسد وحماته من الإيرانيين والروس عن القصف والتدمير في سوريا حتى تولت إسرائيل المهمة، وليس ضد مصالح إيران وميليشياتها، بل ضد مصالح وطنية سورية حصراً. وهو ما يظهر ليس فقط تعارض مصالح إسرائيل مع فرص سورية في إقامة نظام سياسي قابل للحياة، دع عنك نظاماً ديمقراطياً، ويظهر للمرة الألف الشرانية الجذرية لهذا البلاء الإسرائيلي المقيم.

وليس لدينا رغم كل ذلك غير هذه البيئة الإقليمية والدولية الجافية، التي لا يستطاع الانعزال عنها وإن كان لا يؤمن لها. قد يكون المسلك الأقل سوءاً تفاعلا إيجابيا حذرا، دون استعداء بالتأكيد، ودون رضوخ لها.

سوريا ما بعد الأسدية بلد ضعيف، وتحتاج إلى ممارسة سياسة الضعفاء: السعي وراء ما يتيحه القانون الدولي والمؤسسات الدولية من حمايات، العمل على تمتين النسيج الداخلي المتهتك كي لا يكون مدخلاً لأعداء متنوعين، بسط الأمن في الداخل وتعهد الخدمات والعمل على تطوير الاقتصاد، الاعتناء بتوسيع دوائر الحلفاء والداعمين في العالم وفي الإقليم. ليس للضعفاء أن يعتمدوا سياسة قوة تؤول بهم إلى الإرهاب، وخبرة المنحدرين من تيار السلفية الجهادية توفر كل ما يلزم من أمثلة لإثبات ذلك. وليس لهم بالمقابل الاستسلام لضعفهم لأنهم سيؤكلون سريعاً في غابة الوحوش. هذا الزمن الانتقالي هو زمن السياسة كفن، كحصافة وحسن تصرف وتقدير سديد، كدهاء وسعة حيلة وحسن تَخَلُّص.

يبقى أن هناك مشكلة بنيوية متصلة بالتعارض بين التكوين الإسلامي السني للفريق الحاكم الجديد والوطنية السورية الجامعة. ولا يحل التعارض حقيقة أن السنيين السوريين أكثرية السكان، وهي لم تنشأ في سنوات الحكم الأسدي الكابوسية عن كون العلويين ليسوا أكثرية. إنها تنشأ في كل حال من النفاذ التفاضلي إلى الدولة العامة من قبل فريق خاص. وليس في غير الانخراط الأوسع للسوريين في النقاش العام وفي النشاط العام، وتطوير قواعد ومؤسسات عامة استيعابية، ما من شأنه الحد من هذا التعارض، وربما تجاوزه.

كاتب سوري

القدس العربي

———————————-

السلطة الجديدة في دمشق بين ضغوط الداخل والخارج/ بكر صدقي

19 كانون الأول 2024

استبقت تركيا غيرها من الدول إلى التواصل المباشر مع السلطة الجديدة في دمشق، فأرسلت رئيس جهاز استخباراتها إبراهيم كالن إلى العاصمة السورية حيث التقى بقائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع وصلى في الجامع الأموي. كان لافتاً في التفاصيل المرئية لهذه الزيارة تلك الجولة بالسيارة التي جمعت الرجلين وانتهت عند مدخل الجامع الأموي، فدخله الضيف التركي لأداء الصلاة التي سبق وتوعد بها أردوغان في العام 2011 ولم تتحقق، في حين بقي الشرع خارج الجامع ولم يرافق كالن حين دخل.

لا نعرف شيئاً عن المباحثات التي تمت بين الرجلين بحكم طبيعة منصب كالن الأمنية، بل تولى وزير الخارجية هاكان فيدان إعلان أولويات تركيا في العلاقة مع المرحلة الجديدة، حكومة جامعة ومكافحة الإرهاب والاستعداد للمساهمة في إعادة الإعمار. وهي تعني في سياق السياسة التركية بشأن سوريا على التوالي: عدم استبعاد الكتل السياسية والعسكرية السورية المقربة من تركيا، وعدم السماح بإنشاء كيان كردي على حدودها الجنوبية، ونيل حصة في إعادة الإعمار للشركات ورجال الأعمال الأتراك.

ترى ماذا كان رد الشرع على المطالب التركية؟ في غياب الشفافية لا يمكننا إلا الاستنتاج من الإشارات الرمزية في اللقاء بين الرجلين. كان يمكن أن يجلسا معاً على المقعد الخلفي للسيارة على أن يقودها سائق، لكن الشرع على ما يبدو أراد أن يكون هو في مقعد «القائد» تأكيداً لموقعه السياسي الذي كرسه من خلال قيادته للحملة العسكرية التي انتهت بإسقاط نظام الأسد، ليبقى لكالن موقع الضيف الذي ينقل طلبات القيادة التركية من السلطة الجديدة. كذلك فإن حرصه على عدم دخول الجامع برفقة ضيفه التركي يمكن قراءته كإشارة إلى استقلال قراره عن تركيا على رغم وزنها الثقيل في المعادلات السورية، بل بسبب هذا الوزن.

في الجانب التركي الحكومي حاول الإعلام الموالي تصوير هذا التفصيل «الشكلي» بطريقة مختلفة وكأن الشرع «عمل سائقاً» لسيارة رجل الاستخبارات التركي وما يعنيه ذلك من «فوقية» تركية في نظر الرأي العام الداخلي في تركيا. أما الزيارة بحد ذاتها، وبصرف النظر عن مضمون المباحثات بين الرجلين، فهي رسالة تركية إلى كل الدول الأخرى بأنها الرابح الأكبر مما حدث حسب ما تطمح إليه في مستقبل سوريا. لذلك فقد سارعت إلى حجز مقعد لها في اجتماع العقبة الذي سنأتي إلى تناوله. فمن منظور إقليمي نشأ فراغ للقوة في أعقاب الانسحاب الإيراني من سوريا إضافة إلى الضربة الإسرائيلية الكبيرة التي تعرض لها حزب الله في لبنان، وترى القيادة التركية أنها مؤهلة لملء هذا الفراغ، بخلاف إسرائيل التي كان تدخلها في سوريا ما بعد الأسد بقضم مناطق حدودية جديدة والقضاء على ما تبقى من إمكانيات عسكرية لتتمكن من فرض شروطها «الأمنية» على سوريا الجديدة.

أما المنظومة العربية إذا جاز التعبير فكانت آخر من يبادر إلى إعلان مطالبها ومتطلباتها بشأن سوريا الجديدة، على رغم أن الدول الغنية بينها تملك ورقة قوة مهمة تتمثل في مساهمتها المحتملة في إعادة الإعمار، وقبل ذلك في فرصة مساعدة السلطة الجديدة في الوقوف على قدميها في المدى العاجل. لا أعرف ما الفائدة من اعتماد لجنة الاتصال العربية التي تشكلت في زمن سابق بهدف استمالة نظام الأسد للمشاركة في «حل عربي» للمأزق السوري. فمن حيث بنية هذه اللجنة لم يعد ثمة أي معنى لتمثيل لبنان فيها بعدما انسحبت إيران من سوريا، إلا إذا كان موضوع إعادة النازحين السوريين في لبنان يمنح هذا البلد المنكوب حصةً في الدور العربي في سوريا الجديدة. بالمقابل كان يجدر باجتماع العقبة، بمستوييه العربي والإقليمي ـ الدولي أن يدعو ممثلاً للسلطة الجديدة في دمشق للاستماع إليه ووضعه في صورة المشاورات.

أما إيفاد المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون إلى دمشق «لإبلاغ» الشرع بنتائج اجتماعي العقبة فقد نال ما يستحقه من جواب حين قال له الأخير إن قرار مجلس الأمن 2254 قد تجاوزه الواقع الجديد بحكم خروج أحد طرفيه، نظام الأسد، من المعادلة.

غير أن تقادم القرار المذكور لا يتعلق فقط بخروج أحد طرفيه، بل بخروج الطرف الآخر أيضاً ألا وهو «هيئة التفاوض» المشكلة من «الائتلاف الوطني» ومنصتي موسكو والقاهرة، من المعادلة وفقاً للأمر الواقع الجديد. نعرف منذ سنوات أن الائتلاف بات محكوماً بالظهير التركي، في حين تشكلت «هيئة التفاوض» في الرياض. وهذا ما يعيدنا إلى موقع تركيا في الوضع الجديد وما تطمح إليه في مستقبلها. لنتذكر، في هذا السياق، أنه ثمة «حكومة سورية مؤقتة» تشكلت منذ العام 2013، وكانت الذراع الحكومية للائتلاف المعارض، ويحمل كثير من أعضائهما الجنسية التركية. وقد سارع أحمد الشرع إلى تشكيل حكومة تسيير أعمال من خلال نقل كامل «حكومة الإنقاذ» التي كانت تدير محافظة إدلب تحت المظلة العسكرية لـ«هيئة تحرير الشام» إلى دمشق، ولم يشرك وزيراً واحداً من الحكومة المؤقتة فيها، ناهيكم عن التشاور مع الائتلاف أو هيئة التفاوض أو حكومة النظام المخلوع التي اقتصر دور رئيسها الجلالي على «تسليم السلطة» لحكومة الإنقاذ. هذا ما قد يعني رد الشرع السلبي على المطلب التركي بشأن «حكومة جامعة» في حين أن تعاطيه التوافقي مع قوات سوريا الديمقراطية، منذ بداية حملة «ردع العدوان» إلى اليوم، يشير إلى رده على المطلب التركي الثاني. لذلك نرى اليوم حشوداً عسكرية تركية قرب كوباني مع استعدادات فصائل «الجيش الوطني» للهجوم عليها، كمؤشر على عدم توافق تركي مع دمشق.

لا شك أن نزول ملايين السوريين إلى الشوارع للاحتفال بسقوط نظام الأسد، في المدن السورية والمهاجر القريبة والبعيدة قد منح أحمد الشرع و«إدارة العمليات العسكرية» شرعية شعبية هو بأمس الحاجة إليها، لكنها تبقى شرعية ثورية مؤقتة ومشروطة بطبيعتها. كذلك فإن التدفق الدبلوماسي الأمريكي ـ الأوروبي على دمشق الذي عبر عن اعتراف أولي، مؤقت ومشروط بدوره، يحتاجها الحكم الجديد وسوريا معاً.

بالنسبة للسوريين الذين كانوا عملياً خارج المعادلات السياسية في السنوات الماضية، ومحكومين بالتدخلات الإقليمية والدولية وحساباتها، فهم يتوقون إلى التحرر من تلك الوصايات وإمساك زمام الأمور بأيديهم وبناء سوريا الجديدة كما يريدون. لكنهم يدركون، في الوقت نفسه، أن الأمور ليست بهذه البساطة، لا فيما بينهم ولا في علاقاتهم مع المتدخلين من الدول الأخرى. ويدرك أحمد الشرع أنه يمشي في حقل ألغام شديد الخطورة ويحتاج في كل خطوة يقوم بها إلى دعم شعبي واسع وتوافقات إقليمية ودولية لا يمكن تجنبها.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————–

 مطالب متواضعة: سوريٌّ ولا أريد/ مالك داغستاني

2024.12.19

لا يستطيع حتى أشدّنا تفاؤلاً بحتمية انتصار الثورة، إنكار أنه قد ذهل لحظة انهيار نظام الأسد، وأنه احتاج كثيراً من الساعات، على الأقلّ ليصدّق أن النصر الذي آمن به وانتظره لسنوات قد حدث فعلاً. واليوم أكثر ما يشغل باله وبال معظم السوريين التساؤل: حسناً، وماذا بعد؟

في حالة الإرباك هذه، وبحكم عدم اعتياد السوريين، لعقود مضت، على أن يكون مستقبلهم ملكهم، حيث لم يشاركوا يوماً في صناعته، يبدون اليوم وكأنهم يتخبطون في أحلامهم عن سوريا القادمة، فنسمع لغة جديدة لم نألفها نحن الذين عشنا في “سوريا الأسد”.

قد لا يعرف كثير من السوريين اليوم، ماذا يريدون تماماً لمستقبل بلدهم، لكنهم بالتأكيد، ومما خبروه من تجارب كارثية، يعرفون كثيرا عما لا يريدونه.

كواحدٍ منهم، سأنتدب نفسي اليوم لأبحث عن بعض الأمور التي لا يريد السوريون أن يشهدوها ثانية في حياتهم، وقد يبدو خوضي في هذا الأمر شخصياً ورومانسياً، ومع ذلك من يستطيع القول إن الأحلام الكبيرة لا تبدأ مغلّفةً ببعض الرومانسيات قبل أن تتحقق واقعاً؟ حسناً، سأبدأ من واقع تجربة مريرة عشتُها مع مئات آلاف السوريين.

كسوريّ، لا أريد أن تُدهمَ بيوتنا لا في وضح النهار ولا بعد منتصف الليل، لأخذنا إلى المعتقلات من دون مذكرة قضائية صادرة عن جسم قضائي نزيه.

تلاحظون طبعاً أنني لا أشطح في أمنياتي، وأن أوّل أحلامي الشخصية المتواضعة، هو أن نغدو محكومين بالقوانين كمعظم سكّان الكرة الأرضية.. لا يسرق أحد ما أعمارنا في السجون السرية ولا حتى العلنية، ولا يقتلنا أحدٌ ما تحت التعذيب ويرمينا في مقابر جماعية.

لا أريد قائداً استثنائياً مُلهماً تهبهُ لنا السماء ليقودنا إلى الأبد بحكمته التي لا يدانيها أي خلل، ولا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها، ما أريده هو رئيس دولة ينتخبه السوريون، يخطئ في بعض قراراته، لأنه من البشر، ويتراجع عن خطئه، ويعتذر.

وحين يكون الخطأ جسيماً يستقيل، أو ربما يذهب إلى المحاكم، وحتى حين يكون هذا الرئيس موظفاً بارعاً، فإنه يعود إلى بيته محكوماً بالمدد الدستورية، ليمارس عملاً آخر، أو يتقاعد فيعيش حياته مُكرّماً مع أبنائه أو أحفاده.

لا أريد لأطفال المدارس السورية أن يرددوا شعارات لا يفهمونها، فيبدون كببغاءات غبية، بعقول مسطَّحة، يكررون جملاً فارغة تم تلقينها لهم في أبنية إسمنتية، تشبه السجن أكثر مما تشبه المدرسة.

ولا أريد أن أرى في الكتب المدرسية، ما يصادر عقول الأطفال لصالح رأي واحد، حتى لو كان هذا الرأي صائباً، ففي حقول الرأي لا صواب مطلقا، ولا أريد أن يكون في تلك الكتب، ما يمجّد القادة الملهمين وهم على قيد الحياة وفي مناصبهم.

لا أريد أن تذهب أكثر من نصف ميزانية الدولة لرواتب وتسليح الجيش وأجهزة الأمن، ليتبيّن لنا فيما بعد، أنها كانت مخصّصة لقتل السوريين وحماية الطغم الحاكمة، وليست لحماية البلد من الأعداء المحتملين، ولا أريد لموازنات التعليم والصحة والتنمية أن تكون في ذيل القائمة وكأنها ملحقات شكلية غير ضرورية، اضطر واضعوها لإضافتها ليقال إنهم يحكمون دولة لا مزرعة مافيا.

من واقع ما أشاهده اليوم على الشاشات، في مقابلات الشارع مع الناس، حتى في ظل ما يبدو أنها لحظات حريّة مطلقة، لا أريد أن أرى مواطنون مرحِّبون بكل شيء، تأخذهم الرهبة حين يشاهدون الكاميرا، فيقولون ما يحب أن يسمعه الحكام الجدد، دون أن يجرؤوا على التعبير عن مخاوفهم أو أقلّه الإشارة لما يشاهدونه من سلبيات. باختصار أحلم أن أرى مواطناً على الشاشة يقول: “ما جرى ويجري لا يعجبني”، حتى لو كنت أختلف معه.

في سوريا القادمة، لا أريد أن أذهب لإنجاز أية معاملة رسمية، فأقابل موظفاً حكومياً، يشعرني أنني يجب أن أكون ممتناً له، أنه غادر فراشه ومنزله صباحاً وأتى إلى العمل. وأكثر من ذلك لا أريد أن أرى درج مكتبه مفتوحاً ومليئاً بأوراق نقدية تجمّعت من رشاوى سابقة، تقول لي بصفاقة: يجب أن تدفع كي تتيسّر أمورك.. أحلم بموظف يبتسم مرحباً، وهو يعلم جيدا أنه موجود ويتقاضى راتبه، لأجل خدمتي، فيقول لي: كيف أستطيع خدمتك يا سيدي. أجل “يا سيدي”.

لا أريد لطلاب الجامعات السورية أن يدرسوا وهم يفكرون باختيار البلد الذي سيذهبون إليه بعد التخرج، ليعملوا ويبنوا مستقبلهم، مع إحساسهم أن لا إمكانية لبناء مستقبلهم الشخصي في بلدهم، ولا أريد أن تبقى البلد من دون الطبقة الوسطى التي هي عماد العمل فيه، ويشكل الخريجون الجامعيون عصبها.

في الختام، لا أريد اليوم عدالة المنتصرين التي تورث أحقادا جديدة، ومن المشكوك فيه أن استخدام مفردة “العدالة” في هذا السياق هو أمر جائز. شرّع الأسد الأب في الثمانينات، قوانين وأصدر مراسيم، ليرسخ عبرها انتصاره مع أعوانه على السوريين، وكان من ضحاياها مئات الآلاف، ممن فقدوا أرواحهم أو صودرت ممتلكاتهم.

طبعاً هذا لا يعني إطلاقاً، أن لا محاسبة للمجرمين والقتلة والفاسدين، فمن دون هذا الأمر لن يسترد السوريون حقوقهم ولا حتى كرامتهم، عدا عن الخشية من أن هؤلاء القتلة سوف يعيدون تنظيم أنفسهم لينقضّوا ثانية علينا. العدالة الحقيقية هنا هي استثمار في مستقبل سوريا.

على الصعيد الشخصي، مستلهماً خاتمة كتاب “الهويّات القاتلة” للأديب اللبناني أمين معلوف، أقصى ما أتمناه شخصياً، أن يكبر أحفادي، ويعودوا على سبيل الفضول ليقرؤوا كل ما كتبته عن “سوريا الأسد”، سوريا التي ابتلعها الوحش لأكثر من نصف قرن، هو جلّ عمري الذي قضيته إما مسجوناً أو لاجئاً، فيقول أحدهم ولو بينه وبين نفسه: لو تستطيع العودة يا جدّي، لترى كيف عادت تلك البلاد التي طالما تحدّثت عنها لتصبح “سوريا العظيمة”.

تلفزيون سوريا

—————————-

قلق مشروع أو غير مشروع على سورية؟/ دلال البزري

19 ديسمبر 2024

لا يمكن غير مشاركة السوريين فرحتهم. كما لا يمكن غير التألم على الثمن الذي دفعوه من أجلها. ولا يكلّ الواحد منا من التحديق في سجونها العامرة بفنون الموت في الموت، والموت في الحياة. وتلك القشعريرة التي تصيبنا لا تتوقف عن إصابتنا. هنا الحرية أغلى من الحياة.

ومن هذه الفرحة، طلع تحذيرَان من إفسادها بالقلق، نقول قلق، لا نقد أو معارضة. الأولوية المطلقة الآن للفرحة. لا مجال للقلق. ثم من المبكّر جداً إبداء رأي قلِق بما يخصّ تلك الثورة: علينا الانتظار. وهذان التحذيرَان يشبهان، إلى حدّ بعيد، ما كنا نتعرّض له في أثناء الحرب أخيراً، عشية هذه الثورة: ليس علينا محاسبة المقاومين لأنهم يحاربون إسرائيل.

ليست السعادة السياسية سعادة صوفية. ليست عشقاً إلهياً غير مشروط. إنها حالة ملموسة. تقوم على وقائع. وهي، في حالات عديدة، أو ربما في جميعها، وبحسب ما شاهدنا خلال أعمارنا، تترافق مع قلق غريزي. قلق على الحياة في بلداننا. هكذا أنظر إلى الثورة السورية. بهجة بسقوط الأسد وإطلاق العنان للحرية. وفرصة، بفضل هذه الحرية بالذات، أن تكون عقولنا مفتوحةً لأي إشارة قلق. هل نحتاج إلى المزيد للتأكيد على شرعية القلق؟

أولا: أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقا. الأصول القاعدية المعروفة، تجربته القمعية في إدلب، قاموسه الذي لا يعرف غير مفردات الإسلام السياسي، كلماته القليلة التي يعود فيها إلى الشرع الديني، خطبة رئيس وزرائه الجامع من على المنبر… هذا ما يحاول أحمد الشرع أن يغيّره، عندما صار وجها لوجه أمام المجتمع الدولي الذي يحتاجه بعد حاجته تركيا، فانتقل من العقيدة إلى التبدّل، ودرجة عالية من البراغماتية، وتدوير زوايا، وإعطاء فرص، وضبط العناصر المنفلتة، وتسيير أمور الدولة… وهذه مهمّة ساعده عليها هروب بشّار الأسد، وترك موظفي الدولة بعهدة فراغ شرع إلى ملئه بأريحية. حكومة انتقالية، إلغاء قوانين، الإبقاء على أخرى. صورته تتبدّل، رجل ذكي وعملي. بأناقةٍ يقول إنه سيترشح لمنصب رئاسة الجمهورية السورية “إذا طلب منه المواطنون، أو من هم حوله ذلك”، وكأنه يتخيّل زحفاً جماهيرياً نحو داره، يطالبه بتولي رئاسته عليهم… وبرشاقةٍ يُلْفت، مجرّد التفاتة، إلى أن “شكل السلطة في سورية متروك لقرارات الخبراء والقانونيين والشعب السوري هو من يقرّر”… بغموض يعبر عن رغبته بمراجعة قرار مجلس الأمن رقم 2254. وبلغتي المكان والجسد نفسيهما المعتمدتين لدى الأسد الأب والابن يستقبل مبعوث الأمم المتحدة غير بيدرسن.

ثمّة من سيقول إن كل هذا هراء، وإن الثورة الحقيقية لا تقوم من دون حزب منظّم، وبرنامج مفصَّل وقائد كاريزماتيكي. وهذا اعتراض كبُرنا عليه، هو نفسه هَلَك من كثرة فشل حامليه في بقع الأرض. والحال أن كل ثورة تأتي بما حملها، ولا مرّة كانت بهذا الثلاثي (حزب، برنامج، زعيم)، إلا في التأويلات التاريخية المنتصرة. القليل الذي ينبئ بعدم تكرار تجربة الاستبداد والشخصية الكاريزماتيكية لا يكفي. الأجندة الديمقراطية الآن وليس غداً، ليس بعد تسيير الشؤون “المصيرية”. إنها في صميمها.

هل كان الأمر أقلّ إلحاحا لو كان أحمد الشرع علمانيا؟ كلا بالتأكيد. أنظر كم من حولك من استبداد مبطن أو سافر قام على فكرة جمهورية، أو علمانية، أو إلحادية أو مُشْرِكة. ما يجمع أنظمتها وما يفرقها أنها ديمقراطية أو استبدادية، أو ما بينهما.

وهذه الأخيرة، أي الديمقراطية، مرتبطة بالنساء. النظام الراحل كانت له “واجهة” نسائية، وشخصيات. زوجة الرئيس التي أصبحت شريكته في السلطة والنهب. ثم بثينة شعبان ولونا الشبل، والفنانات، “المكوِّعات” منهن خصوصا. بل من يتذكّر حملة نزع الحجاب في وسط العاصمة على أيدي مظليات رفعت الأسد، قائد “سرايا الدفاع”، عام 1981، عندما اشتد الصراع بين النظام والإخوان المسلمين؟ كانت واقعة شرسة، نفذتها 15 مظلية درّبهن رفعت الأسد. ومهمتهن واضحة: تخبط السيارة برجلها، تَطْرُق بعنف على شباكها، تدخل رأسها إليها، وتصرخ على الركاب إن كان معهم امرأة محجّبة بداخله. وإذا توفقت بواحدة منهن، تنزع عنها حجابها بالقوة، وترفعه أمام الملأ، كأنه غنيمة، شاتمة صاحبته بأعلى صوت، بأحطّ العبارات… بعد ذلك، حصلت مجزرة حماه ضد الإخوان المسلمين، وصار الحجاب، بطبيعة الحال، رمزاً لمعارضة النظام، وصار السفور مقرونا بـ”تحرّر” لا يجيد النظام غير تصديره إلى الخارج.

لم نرَ في فعاليات الثورة هذه، في مسؤوليها، في احتمالاتها… أي وجه لامرأة. وحدها طلّ الملوحي، الخارجة لتوّها من سجن بشّار الأسد، طلعت إلى الشاشة، وكانت لها صورة، وبالحجاب.

الحجاب فرضه الشرع على الصحافية التي قابلته من سي.إن.إن. والأرجح أنها سألته إن كان يمانع بأن تكون سافرة فقال لها بلى، يمانع. وبسؤاله عن رأيه بالحجاب، قال الشرع، البراغماتي، كلاما غائما. ألقى من بعده عليه شيئاً من الضوء في كلمة الأخرى. وخلاصته أن الله لم يفرض النقاب، أي ذاك الذي “يغطّي كل شيء ما عدا العيون”… بل “سمح” بالحجاب الذي يغطي كل شيء ما عدا “كامل” الوجه والكفين (لاحظ هنا الدخول بـ”تفصيل” يُراد له أن يكون “صغيراً”، مقارنة بالقضايا الملحّة الأخرى. ومكتوب له المزيد من الإلحاح باسم الله).

الآن: مشكلة الحجاب هذه ليست متساوية جغرافيا ولا زمانيا. يكره النظام البائد الحجاب، من دون أن يرفع من شأن المرأة. ليس لحليفه النظام الإيراني موقف مختلف: منذ عامين، سحق ثورة نسائه الوطنية ضد الحجاب، وها هو برلمانُه يستعد للتصويت على قوانين أكثر تحكّماً به. فيما النظام السوري الجديد، الخصم للإيراني، قد يسرّبه بغفلةٍ من المبتهجين والمبتهجات به.

فماذا يختار الشرع؟ بماذا يستعين لبلورة خياره؟ هل من دوْر للنساء السوريات في هذا المجال الذي يخصّهن، محجّبات كنّ أو سافرات. ولا ننسى أن الحجاب قد يكون اختياره حرّاً، وقد يكون ضغطاً عائلياً اجتماعياً مهنياً دينياً… فهل تكون المرحلة المقبلة فرضاً سلطوياً إضافياً على المزيد منه؟ أم يقتصر على نساء السنّة وحدهن؟ إذ لا تلبسه العلويات ولا الدرزيات ولا المسيحيات؟

النساء والديمقراطية، وتلازمهما منطقي: تقوى الديمقراطية، فتعزّز أوضاع النساء. والعكس صحيح: تتراجع النساء عندما تتراجع الديمقراطية. هذا نظرياً. أما على أرض الواقع، فهناك انعدام للانسجام بين الاثنين. الديمقراطية تتراجع في بلدان “المجتمع الدولي”… فيما نساؤه يراكمن المواقع السياسية، حتى في أواسط كارهي الديمقراطية. إنه “المجتمع الدولي”، أي الغرب؛ تلك الدول التي تراعي حتى الآن الثورة السورية، والتي يقدّم لها الشرع أوراق اعتماده، بالقطّارة، كأنه في امتحان دقيق.

ثم، هل تلازم الديمقراطية والنساء مرهون بإرادة الشعب السوري وحده، أو إرادة نخبه؟ هل تزهو وتثمر من رماد الإسلام السياسي، تيمّناً بالتجارب المسيحية الديمقراطية في الغرب؟ أم نكون امام نفق طويل آخر، نمتنع عن الاقتراب إلى ظلمته؟ خوفاً مما يخبئه لنا من ألغام سوداء قد تنفجر بوجوهنا؟

العربي الجديد

————————

سورية في عين العاصفة/ كمال عبد اللطيف

19 ديسمبر 2024

أرفع صوتي متسائلاً: ماذا يقع اليوم في سورية؟ أحدث نفسي صامتاً: ماذا أسمع وماذا أرى؟ أقرأ في الصحافة وفي المواقع الإخبارية التي تفيض بها فضاءات التواصل الاجتماعي، حكايات ووقائع غير مُقْنِعة، بمقتضيات لغة التحليل السياسي، المستند إلى معطياتٍ ذات صلة بالسياسة والتاريخ، وذات صلة، أيضاً، بالتحوّلات والمتغيرات الجارية في سورية، وفي المشرق العربي وفي العالم.. فتزداد حيرتي من كل ما أرى وما أسمع، من مواقف وخطابات وصور، فماذا أفعل وأنا أواجه صراخاً متصاعداً، من مختلف زوايا أرض الشام، وفي قلب أرجائها، في الجنوب والشمال والوسط، وكذا في الأقاليم المحاذية. صراخ الغاضبين وصراخ المغتبطين. ماذا أفعل أمام جملٍ وشعارات، ووقائع وحروب مشتعلة منذ سنوات. وماذا أفعل أمام أصوات المليشيات التي تتصدّر اليوم المشهد السياسي؟ ولأنني أخافُ من ردود الفعل الانفعالية السريعة، في القضايا المُماثلة لهذا الذي يقع منذ أسبوع على أرض الشام، وفي قلب دمشق، فإنني أحدّث نفسي وأعانق صمتي.

أرفع صوتي متسائلاً ماذا يقع منذ أكثر من سنة في غزّة؟ وماذا وقع منذ أشهر في بيروت؟ فلا أجد الجواب المناسب لأسئلتي المرتبطة بدوّامة الأحداث المتلاحقة في المحيط العربي. إنني لا أُمَهِّد هنا لبكائيةٍ تمنحني مُتَنَفَّساً يساعد على تهدئة البال، ولا أريدُ، في الآن نفسه، تَذَكُّر أشعار نزار قباني منذ عقود عن أحوال كل من بغداد ودمشق.. كما أنني لا أريد تذكر أحوال صنعاء وطرابلس والقاهرة والخرطوم.. لا أفكر بمنطق البكائيات والملاحم في زمن التراجيديا العربية، ولا بمنطق الجنون في أبهى صوره، إنني أقف أمام حالةٍ قصوى من أحوال التأخر التاريخي العربي. أريد أن أفهم فقط بلغة السياسة والتاريخ والحرب.

أتعجّب لكثرة ما كُتب وما زال يكتب منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، عن هروب بشّار الأسد وسقوط النظام السوري، عن العنف والسجون، فلا أفهم كيف تطوّرت الأحداث واتخذت السياق الذي هي عليه، كيف تحوّلت توافقات الأطراف التي تحتل سورية، وكيف سمحت بالمآلات التي أصبح عليها الوضع اليوم؟ لا أجد الجواب على الأسئلة التي تتلاحق في ذهني، أمام الحدث الحاصل في جريانه الأول وحكاياته الأولى، ومختلف المواقف التي أرسلتها وترسلها الجهات المرتبطة بالأوضاع السورية والوضع في المشرق العربي، وكذا الجهات المهتمّة بنمط التحولات الإقليمية والعالمية، وبالأدوار التي تقوم بها منذ عقود، في قلب دول الخليج العربي وفي دول المشرق والمغرب العربيين.

هل أستمع إلى رسائل بشّار الصوتية؟ هل أتابع فيديوهات الجولاني؟ هل أقرأ مقالات الرأي في الإعلام الرقمي، أو أواصل الاستماع إلى قنوات التلفزيون العربية والدولية، بكل ما تحمله من مواقف متضاربة ومتناقضة؟ وقبل ذلك أتساءل: هل حكايات هروب الأسد يمكن قبولها، وتصديق ما تحمل من رسائل؟ أجد صعوبة في الانخراط في مسلسل ما أرى وأسمع اليوم، وأتساءل عن سبب انخراطي قبل سنوات في متابعة انفجارات الميادين العربية، رغم أنها تشبه، في كثير من مظاهرها جوانب من هذا الذي أرى وأسمع الآن؟ نعرف أن المليشيات التي تتصدّر المشهد السياسي اليوم، تُعَدُّ من فصائل المعارضة، لكن ما علاقتها بالمجتمع السوري؟ وما هو تصوُّرها للدولة وللحاضر السوري؟

أتساءل: ما علاقة ما يقع اليوم في سورية بكل ما وقع منذ أكثر من سنة في فلسطين، وما تواصل بعد ذلك في لبنان؟ وهل كان كل من الحادثين، الأول والثاني، يمهدان لما وقع اليوم؟ لا يرتبط السؤال بوحدة مصير الشام في العقود الأولى من القرن الجديد، وهو لا يشبه السؤال المرتبط بمعاهدة سايكس بيكو، التي أبرمت في العقود الأولى من القرن الماضي سنة 1916، رغم خيوط الربط القائمة والممكنة بين الحدثين، ورغم الفوارق والمسافات الفاصلة بين الأحداث والوقائع كما تحصل في التاريخ.

بدأ الحديث عن حكومة انتقالية بعد زلزال الثامن من ديسمبر، وبعد 14 سنة من العنف، لكن السؤال المحيّر هو كيف انهارت دمشق؟ والمليشيات التي تتحرّك اليوم فوق الأرض من يحركها؟ وما علاقتها بالأوضاع في كل من غزّة ولبنان؟ ومظاهر اختراق سورية من الكيان الصهيوني اليوم من ساهم في الترتيب لعمليات إطلاقها؟ ولمصلحة من؟ كنت قد رسمت سنة 2015 الملامح الكبرى لمفاجأة تصوّرت أنها البديل المناسب للتطلعات التي ترتبط بالشعارات التي رفعت سنوات الانفجارات التي ملأت المدن والأرياف السورية سنة 2011.

أعلن بشار في المفاجأة الترتيبات التي تسعف بنقل السلطة إلى هيئة وطنية، تُكَلَّفُ بتدبير مرحلة انتقالية تعيد الاستقرار إلى سورية.. كنت أحلم إذ ذاك، ولم يعُد بإمكاني أن أحلم اليوم بحكم أنه لا علاقة بين الرعب المتمثل اليوم في لعبة القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في عمليات تحريك ما جرى ويجري في الشام الكبرى.

لم تكن المفاجأة أكثر من حُلم، حصل في إغفاءةٍ نقلتني من جحيم أوضاع الشعب السوري الفعلية، وأوضاع معارضته الممزّقة، حيث تتواصل عمليات ترتيب الأوضاع في سورية، وِفْق أَجَندات وبرامج القِوَى الإقليمية والدولية. الأمر الذي تحولت فيه سورية اليوم إلى مناطق نفوذ إقليمية ودولية، في انتظار الفرصة المواتية لتقسيمها. وتحوَّلت المسألة من قضيةٍ، يُفْتَرَض أن توصل إلى خياراتٍ معيّنة بين سلطةٍ مستبدَّة ومعارضة إلى قضية عرفت وتعرف آلاف الضحايا والمُهَجَّرِين والهاربين والمختطفين، من دون أن نتحدّث عن أوضاع الذين يعيشون وسط التراب والخراب.

لن أحلم بعد اليوم، والحدث الذي وقع في الثامن من ديسمبر وضع سورية في قلب العاصفة، حيث يصعب تجاوز إرث سنوات الثورة المحاصرة معاناة الشعب السوري، معاناة النخب، إرث النظام السياسي الذي واكب تحولات كبرى ولم يتعلم منها.. تتحرّك اليوم القِوى العظمى في عين العاصفة التي تملأ الأرض والسماء، حيث لا يمكن أن نفصل بين ما وقع في غزّة وفي الجنوب اللبناني، وما يقع اليوم في سورية.. وفي قلب كل ما جرى ويجري، تزداد المسافة اتساعاً بيننا وبين التحرير والتحديث والتقدّم.

العربي الجديد

————————–

بعد نحو 12 عاماً… أنا في سوريا/ ملاذ الزعبي

19.12.2024

“احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي”, لطالما ارتبطت هذه الأغنية في ذهني بفيديوهات تبثها حسابات إنستغرام سوريّة تصور “سوريا المفيدة” والمناطق السياحية، وأصبحت بالنسبة إلي أغنية تُستخدم ضمن سياق تزييف واقع البلاد وفظاعة ما يحدث فيها

في الطائرة المتّجهة من لندن إلى اسطنبول، حصلت على أولى التهاني بعودتي إلى سوريا بعد غياب، فالشاب الإيراني الكردي الجالس بمحاذاتي أخبرني أنه يأمل  بحدث مماثل لسقوط نظام بشار الأسد في بلاده كي يعود إليها هو الآخر.

كانت اسطنبول محطتنا الأولى، فأنا متّجه إلى مطار بيروت ومنها براً إلى دمشق، وهو سيواصل طريقه إلى إربيل كي يلتقي بعض أفراد أسرته القادمين من إيران. لكن حديثنا السياسي هذا توقف هنا، إذ سرعان ما غلبه النعاس بينما جافاني النوم طيلة ساعات الرحلة. حاولت تصفّح كتاب عن سوريا جلبته معي لكنني فشلت في قراءة أكثر من صفحتين (مثلما كنت قد فشلت، أنا وسوريون كثر، في إنجاز أي وظيفة اعتيادية بما يشمل النوم، منذ سيطرة فصائل المعارضة السورية على حلب قبل أكثر من أسبوعين).

أخذتُ أدندن بشكل ساخر أغنية فيروز “احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي”، إذ لطالما ارتبطت هذه الأغنية في ذهني بفيديوهات تبثها حسابات إنستغرام سوريّة تصور “سوريا المفيدة” والمناطق السياحية، وأصبحت بالنسبة إلي أغنية تُستخدم ضمن سياق تزييف واقع البلاد وفظاعة ما يحدث فيها، أغنية عن الإخفاء القسري والتعذيب في السجون والبراميل المتفجّرة ودمار المدن وتهجير السكان.

فشلت مجدداً في النوم خلال ساعات الانتظار الليلية في مطار اسطنبول. وعندما جلست أخيراً بمقعد الطائرة المتّجهة إلى العاصمة اللبنانية، اكتشفت أن الشابين الجالسين بمحاذاتي شقيقان سوريان – فلسطينيان قادمان من ألمانيا لزيارة البلد بدورهما بعد غياب استمر أكثر من تسع سنوات.

 حازم ومحمد ترعرعا في منطقة السيدة زينب بضواحي دمشق، وتجنّبا الحديث بالتفصيل عن التطورات الأخيرة وسقوط النظام، هذا رغم إشارتهما الى أنهما شاهدا من سطح منزل الأسرة مجزرة ارتكبتها مروحية في الحي إثر قصفها تشييع أحد قتلى التظاهرات. اتفقت معهما فوراً على مشاركتهما تكاليف ورحلة التاكسي التي ستقلّهما إلى الحدود اللبنانية – السورية، ومن ثم التاكسي الأخرى التي ستتّجه إلى دمشق.

في السوق الحرة بالمطار، اشترى الشابان علبتي معسل للنرجيلة بناء على توصية من أبيهما، ثم انطلقنا في سيارة يقودها سائق ينحدر من بعلبك. كانت صور حسن نصرالله تملأ الطريق، بينما ما زالت مشاهد الأبنية المدمرة نتيجة الغارات الإسرائيلية مرئية بوضوح.

ركّز حديث الشابين مع السائق على جوانب متعلقة بوجود أقارب لهما يقطنون في الضاحية وأصدقاء جنوبيين يعيشون في ألمانيا، حتى أن السؤال عن الحي الذي قتل فيه نصرالله أتى بصيغة توقيرية عن مكان استهداف “السيّد”، وفق تعبير حازم.

عند إشارة مرور، اقتربت فتاة صغيرة محاولة بيعنا مناديل ورقية، سألتها إن كانت سورية، فأجابت بأنها من حلب، سألناها جميعاً بعفوية وبوقت واحد: ما بدك ترجعي؟ فابتسمت وهربت.

معظم أوقات الطريق باتجاه نقطة المصنع الحدودية، واصل حازم ومحمد الحديث مع الشوفير عن العيش المشترك وكلام غائم عن السياسة والسياسيين الذين يفرقون “بيننا”. تحدث أحد الشقيقين بإسهاب عن جمال بلادنا مقارنة بالملل الذي يعيشه في أوروبا.

بدا المشهد مشوشاً عند النقطة الحدودية: عشرات العائلات من اللاجئين تستعد للعودة، سيارات محملة بأغراض، سيارات أجرة لبنانية، أفراد سوريون يبدو واضحاً عليهم أنهم آتون من بلدان غربية، الجميع سعداء ومتحمسون، صحافيون أجانب، حركة هائلة كلها باتجاه واحد تقريباً.

 وعلى مرأى الجميع تعبر عائلات، كيلومترات عدة مشياً على الأقدام، وبشكل غير قانوني، تلة مجاورة للمعبر عائدة باتجاه سوريا. أخبرنا السائق الذي استلمنا من الجانب السوري من الحدود، لأنه لا يُسمح للسائقين الآن بالدخول إلى لبنان، بأن هؤلاء الذين يعبرون من التلال معظمهم لاجئون من دون أوراق ثبوتية أو إقامات.

والد محمد وحازم كان ينتظرهما مع السائق، انهمرت دموع الشابين وأبيهما عند اللقاء، كاد الأب أن يركع ليقبل قدمي ابنيه العائدين، امتد وقت العناق القوي والتربيت على الأكتاف. تأملت المشهد بتأثر بينما انهمك الشوفير بتعبئة سيارته بالبنزين بشكل يدوي من عبوات بلاستيكية تُباع عند الحدود وتجذب بدورها تجارة غير شرعية للمحروقات بسبب غلائها وفقدانها الجزئي من الأسواق في سوريا.

ختم الجوازات في الجانب اللبناني كان سريعاً. المشهد بعدها أصبح مغايراً. سيارات بلوحات لبنانية مهشّمة الزجاج وبعضها مهجور في وسط الطريق، قيل إنها تابعة لعناصر من حزب الله فروا بعيد سقوط النظام. لا يوجد أي موظف في الجانب السوري، لا أحد لختم الجوازات أو التدقيق فيها. الجميع يواصل طريقه إلى الداخل السوري. بعض نوافذ الأبنية محطمة، المنطقة الحرة منهوبة وبناؤها متضرر. سرعان ما تحولت نبرة حازم ومحمد، أخذا يشتمان النظام وكل ما يتعلق به وبعهده، كانت المرة الأولى في حياتي التي أشهد فيها مثل هذه المفارقة، أي أن يتجنب سوري نقد نظام الأسد خارج البلاد في مقابل الشعور بالحرية المطلقة بشتمه بأقذع الألفاظ داخل البلاد.

واجهت بعض الصعوبة لأصرف بعض الأموال، سعر الليرة مقابل الدولار كان يتأرجح في الأيام الأخيرة، أخذت رزمة هائلة من الأوراق النقدية مقابل 50 دولاراً، جميعها من فئة ألفي ليرة، أو الجحشين كما بات السوريون يقولون ساخرين عن هذه الورقة التي تحمل صورة بشار الأسد، في مقابل الجحش، أي ورقة الألف ليرة الأقدم التي تحمل صورة حافظ الأسد.

السائق  الذي أقلنا والذي يعمل على خط دمشق – بيروت، كان يشتم النظام بدوره، وكلما مررنا من مكان حاجز أمني أو عسكري سابق، عدّد أنواع الانتهاكات والإساءات التي تخصص بها هذا الحاجز، بدءاً من الشتائم اللفظية والتعامل الفج، مروراً ببعثرة الأغراض المتعمدة لدى التفتيش والسرقات والأتاوات، وصولاً إلى الضرب والاعتقالات والتعذيب والإخفاء القسري والاغتصاب. قال إنه موبايله كان لا يهدأ طيلة عمله سابقاً، لأن أسرته تواظب على الاتصال به كل بضعة دقائق للاطمئنان عليه.

 اختفت هذه الحواجز جميعها، مع بقاء آثار تدل عليها: غرفة صغيرة محروقة، جهاز الفحص الإلكتروني للسيارات وقد تعرض للتخريب، سيارة جيب عسكرية محطّمة.

على الطريق، ثمة دبابات مركونة ومهجورة كل كيلومترات عدة، رأينا كذلك راجمة صواريخ محترقة، وصوراً ممزقة للأسدين، بعض اللوحات الإسمنتية المرتفعة عن مسار الطريق والحاملة صورة حافظ الأسد ما زالت كما هي. قال أبو محمد مازجاً بين الغضب والسخرية، إن تدمير صورهما وشعاراتهما التي تملأ سوريا تحتاج إلى جهود وزارة منفصلة.

ودّعت رفيقَي الرحلة عند أول أوتوستراد المزة. استقليت سيارة أجرة مرتبكاً، أغنية المسجل تصدح بصوت عبد الباسط الساروت: جنة جنة يا وطنا. ياه كم دُفع ثمن أن تضع أغنية على مسجل السيارة بحرية. اتجهت نحو فرع لشركة سيرياتيل لشراء خط موبايل. المكان مزدحم ومنظم، بعض الزبائن مقاتلون وصحافيون ومغتربون عائدون للتو. أُخفي العلم السابق على إحدى اللوحات الإعلانية للشركة في الصالة بورقة بيضاء.

 للمرة الأولى في دمشق أسمع هذا التنوع من اللهجات السورية بوضوح وفي كل مكان، أدالبة وحماصنة وقلمونيون وحلبيون وحوارنة وديريون ودروز. واصلت طريقي مشياً على الأقدام باتجاه ساحة الأمويين، لم ألحظ تغييرات كبيرة. عبرت قبالة كلية الآداب والعلوم الإنسانية حيث درست. البلد مهترئة، وجوه المارة تجمع بين الفرح والتعب، بعض الطالبات الجامعيات ما زلن يلتحفن العلم الجديد بوضع احتفالي.

عند ساحة الأمويين، تحول تمثال حافظ الأسد المحطم والمرمي على الطريق والذي جُرّ من الجامعة، إلى قبلة للصور التذكارية. قابلت صديقتي سفانا بعد انقطاع، تعانقنا طويلاً ثم ركبنا سيارة أجرة باتجاه البرامكة. غاصت السيارة في الازدحام والتلوث وسط غياب جزئي لشرطة المرور. لاحظت لوحة إعلانية بصورة العلم الجديد مع شعار: “الآن سيبدأ بناء سوريا الجديدة”، بينما على الجدران بالإمكان ملاحظة صور المفقودين والمخفيين قسراً الذين ما زال أهاليهم يتمسكون بأي أمل للعثور عليهم.

درج

——————————

إيران في دمشق: النفوذ إذ يمس هوية المدينة/ حازم الأمين

19.12.2024

أسس النفوذ الإيراني في دمشق لمسار جديد وطويل من الضغينة التي لن تخبو لعقود طويلة.

 في دمشق، يحار المرء بشأن النفوذ الإيراني. ما ينقله أهل المدينة عن نفوذ طهران في مدينتهم لا يقل عن كونه احتلالاً. أما مرد الحيرة، فهو وضوح هذا الاحتلال، وصفاقة ممارساته. وميل الناس إلى تضخيم فداحة هذا الحضور صادر أيضاً عن شعورهم بأنه احتلال.

ففي المدينة، أبقى نظام البعث على حضوره البصري، فيما تفشّت “الخمينية” المذهبية في مفاصل الدورة الحياتية. هنا طريق مقطوع لأنه يُفضي إلى منطقة يستخدمها إيرانيون في طقوسهم المذهبية، وهنا كان حاجزاً لـ”حزب الله” يدقق في هويات العابرين، وهناك أقامت ميليشيا عراقية.

الحساسية من الحضور الإيراني في دمشق تتعدى بعدها المذهبي، وتمتد إلى جوهر “قومي”، فأن تُكتَب أسماء المزارات الدينية الشيعية باللغة الفارسية، وأن تُذيّل بالأسماء العربية بحرف أصغر، فهذا مدعاة لنميمة أهل المدينة، التي تحولت إلى صراخ بعد سقوط النظام. وأن ينافس تجار إيرانيون تجار المدينة على بيع الزجاج عبر المعمل الذي بنته شركة إيرانية في ريف دمشق، فهذا ما سيضاعف الضغينة.

قد لا يكون هذا الكلام جديداً، أو أنه بديهي بالنسبة إلى أهل دمشق، إلا أن مرد ذهول زائر المدينة بعد سقوط النظام وهرب رموزه، هو ذلك الوضوح الذي لم يعهده المرء في مناطق النفوذ الإيراني الأخرى، في بيروت وبغداد وربما صنعاء. ربما صدر هذا الوضوح عن مفارقة الاصطدام الشعائري بين “عاصمة الأمويين” وممارسات “الولائيين”، أو ربما بسبب الاندراج السلبي للمزاج المديني الدمشقي في الطقس الشعائري للقادمين إلى المدينة من الثغور المذهبية في الدول المجاورة.

ما حصل في دمشق خلال ما يزيد عن عقد من الزمان، هو عملية إخضاع غير ناجعة لمدينة ودودة وغير شقيّة. الأمر قد يختلف إذا ما تحدثنا عن مدن سورية أخرى، لكن دمشق التي لطالما لم تصطدم بنظام البعث الذي حكمها من خارجها، بدت في ظل النفوذ الإيراني أكثر مرارة.

ماذا أراد الإيرانيون فعلاً من تزخيم حضورهم في دمشق؟ فحجم الحضور يتعدى قضية النفوذ السياسي، وسيطرتهم على نظام البعث!

بهذا المعنى قد تجد مقولة “تشييع المدينة” أصداء لها في وجدانات الناس هنا. الخطوة تردّنا إلى نوع من الصدوع المذهبية الممتدة إلى الدولة الأموية، وتعيد إحياء انقسام لم يلتئم، إنما تم هضمه في مشاريع دولٍ حديثة، فاشلة، لكنها أخذت مجتمعاتها نحو مسارات انقسام أخرى.

الأخبار متضاربة عن حجم الاستثمارات العقارية الإيرانية في دمشق، التي يعزوها دمشقيون إلى رغبة “استيطانية” في مدينتهم. الميل واضح إلى تضخيم حجم هذه الاستثمارات، وهو ميل صادر عن شعور بالاستباحة، يميل أصحابه إلى تصديق الكثير من الحكايات، لكن ذلك لا ينفي أن مئات العقارات، لا سيما في الأحياء الشيعية وفي محيط مقامي السيدة زينب والسيدة رقية، اشتراها إيرانيون، بالإضافة إلى عدد كبير من الأبنية والعقارات في محيط السفارة الإيرانية والقنصلية أيضاً.

قضية الاستثمارات العقارية والتجارية الإيرانية في دمشق وفي سوريا عموماً، ستتحول إلى قضية شائكة في المرحلة المقبلة، ذاك أن “النظام الجديد” في سوريا ستربطه علاقة خصومة وعداوة مع طهران ومع “حزب الله” اللبناني طبعاً، فيما نُقلت هذه الملكيات في السجلات العقارية والتجارية في أمانة دمشق إلى أصحابها الجدد. ولوّحت طهران حديثاً بما لها على الدولة السورية من ديون، التي تفوق بحسب إيران الخمسين مليار دولار. وهذا ما يذكرنا بأزمة الديون بين العراق والكويت في أعقاب حرب الخليج، وما نجم عن هذه الأزمة من صدام أفضى إلى احتلال العراق الكويت.

إيران وأذرعها في دمشق أكثر من قصة نفوذ وهيمنة، إنها أيضاً القصف الإسرائيلي الذي تواصل على المدينة، مستهدفاً المقرات والقنصليات والشقق السكنية، التي استفاق دمشقيون على حقيقة أنها تُؤوي ضباطاً ومسؤولين من “حزب الله” أو من الحرس الثوري. لم يغضبهم أنها لم تستهدف مقرات النظام الذي يبغضونه، فهم يعرفون أن هذا الأخير لا يشكل خطراً على أحد غيرهم، لكن إسرائيل التي لا يحبونها والتي تحتل جولانهم، لم تزعجهم كثيراً باستهدافها غزاتهم. الحرب الإسرائيلية على الإيرانيين في سوريا، هي حرب غزاة على غزاة، على ما يقولون.

أسس النفوذ الإيراني في دمشق لمسار جديد وطويل من الضغينة التي لن تخبو لعقود طويلة. الرغبة في بث التشيع في دمشق، تقابلها رغبة في دفع المشاعر المضادة نحو حكايات تنطوي على الكثير من المبالغة.

ينقسم خصوم النظام السوري السابق على معظم العناوين، إلا أنهم جميعاً يتفقون على أن المرحلة الإيرانية في حياة مدينتهم، كانت الأشد قتامة، فقد اجتمع فيها بطش النظام بهم مع عامل خارجي أراد اللعب بهوية مدينتهم.  

درج

—————————–

وحدة وطنية سورية ستفشل خطط التفتيت الإسرائيلية/ جمال زحالقة

19 كانون الأول 2024

طفت على السطح في الأيام والأسابيع الأخيرة توجهات وخطط ومشاريع إسرائيلية للنيل من وحدة سوريا، لإضعاف وتفتيت الدولة السورية. ويجب أخذ الكلام الإسرائيلي عن هذا الموضوع بجدية، لعدة أسباب لعل أهمها تأثير الدولة الصهيونية على الإدارة الأمريكية، خاصة إدارة ترامب الجديدة، التي قد تتساوق مع مشاريع تقسيم سوريا. وقد بدأت إسرائيل بالترويج إلى ضرورة أن يقوم الغرب بحماية «الأقليات» في سوريا، وصولا إلى دعم وحتى خلق نزعات انفصالية تؤدي إلى تقسيمها إلى دويلات وكانتونات. وكان من غايات القصف الكثيف والموسع على مواقع ومرافق ومقدرات الجيش العربي السوري، إضعاف الحكم المركزي ودفع سوريا نحو هاوية التقسيم والتشرذم والحرب الأهلية. إسرائيل تحاول استغلال مصاعب الفترة الانتقالية، وتسعى للدفع نحو التقسيم، ولكن يمكن ويجب إفشالها وإحباط مؤامراتها كافة، وبمقدور شعب سوريا وعلى العرب أن يدعموه عموما، وفي مواجهة إسرائيل أيضا.

«حلف الأقليات»

لقد تبنت القيادة الصهيونية، وفي مقدمتها دافيد بن غوريون، استراتيجية «حلف الأقليات»، القائمة على بناء تحالفات مع جماعات غير عربية، أو غير مسلمة في الشرق الأوسط، لمواجهة المحيط العربي المعادي لها. وحاولت على الدوام استغلال مخاوف، وفي بعض الأحيان معاناة، هذه المجموعات لدعمها في مواجهة «الأكثرية العربية المسلمة» وفق مبدأ «عدو عدوي صديقي». وهدفت إسرائيل إلى تفكيك التضامن العربي، الذي اعتبرته تهديدا لوجودها ولأمنها، وسعت من خلال هذه الاستراتيجية إلى إضعاف الدول العربية من الداخل وحلمت حتى بتفكيكها.

وعلى سبيل المثال، اقترح دافيد بن غوريون على فرنسا، في خضم التنسيق والتحضير للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، إقامة دولة مسيحية في لبنان تقيم علاقات سلمية مع إسرائيل. ومن المعروف أيضا أن الدولة الصهيونية أقامت شبكة من الاتصالات مع أطراف لبنانية، عبر استغلال التوترات الطائفية والسياسية الداخلية في لبنان، وصلت إلى حد إقامة ميليشيا مسلحة داعمة لإسرائيل ومدعومة منها هي «جيش لبنان الجنوبي». ولم يعد سرّا عمق تدخل إسرائيل في كردستان العراق، ومساهمتها في تسليح وتدريب وتمويل ميليشيات كردية انفصالية. وعلى الرغم من بعد كردستان عنها، اعتبرت إسرائيل ما يحدث فيها مرتبطا بشكل مباشر بأمنها القومي، وكان من غايات التدخل الإسرائيلي تقوية التيار الانفصالي اليميني في كردستان، على حساب التيار اليساري الذي ناضل من أجل تلبية الحقوق الفردية والجماعية في إطار الدولة العراقية. وفي ظل اتفاقيات السلام مع عدد من الدول العربية والعلاقات السرية المتشعّبة مع دول عربية أخرى، قل وزن «استراتيجية حلف الأقليات»، وصار الخطاب الإسرائيلي الطاغي هو «التحالف مع المحور السنّي المعتدل»، ووصل الأمر إلى اعتبار بعض «الأقليات» في المنطقة خطرا على «أمن إسرائيل» وليس ذخرا استراتيجيا لها. ولكن، وبعد سقوط نظام الأسد، وما سببه من ريبة بشأن الذي يحدث، والذي سيحدث في سوريا، طفا مفهوم «حلف الأقليات» على السطح مجددا وتعالت المطالبة بالسعي لأجله ولقيادته.

يستند الخطاب الإسرائيلي بشأن سوريا عموما، وسوريا ما بعد الأسد خصوصا، إلى تغييب تام لمفهوم وكيانية الشعب السوري، وعدم الإقرار بأنّه شعب واحد، يوجد فيه تنوّع وتعددية إثنية ودينية وجهوية، مثل قسم كبير من شعوب الأرض، وينطلق هذا الخطاب من التعامل مع السوريين بوصفهم مجموعات مفككة ومتنافرة من الطوائف والأقليات. وإسرائيل تسعى إلى استغلال الوضع القائم في سوريا ـ كما تفهمه وتشخّصه هي – لمصلحتها ولتحقيق مآربها، وهي تقول ذلك جهارا، وتقوم بممارسات فعلية سعيا للوصول إلى مبتغاها.

مآرب ومؤامرات

توالت التصريحات الإسرائيلية الداعية إلى دعم ما تعتبره إسرائيل أقليات في سوريا، وقال الجنرال المتقاعد يئير غولان، زعيم حزب «الديمقراطيون»، الذي يمثل ما تبقى من اليسار الصهيوني إنّ «إسرائيل ملزمة بالقيام بالمبادرة، واستغلال القنوات العلنية والسرية لدعم الأكراد، لأن منطقة كردية قوية هي أمن لإسرائيل». وتعتبر إسرائيل الإقليم الكردي منطقة عازلة تمنع إدخال أسلحة ومعدات وقوات معادية لها، وتعتبرها أيضا سدّا أمام زحف تركي محتمل، وقال غولان حول ذلك: «على إسرائيل أن تكون قلقة من أمر أساسي واحد: هجوم تركي ضد الأكراد في سوريا، وإذا أخضع الاتراكُ الأكرادَ فمعنى ذلك أنه سيصبح عندنا بدل الإسلام الشيعي المتطرف، تركيا وإسلام سنّي متطرّف». تعكس تصريحات يئير غولان الاتجاه السائد لدى النخب الأمنية والسياسية في إسرائيل، وقد تحوّل هذا إلى سياسة رسمية، أكثر من يعبّر عنها ويحث عليها هو وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعار، الذي دعا سابقا، في عام 2015، إلى تفكيك سوريا إلى أربع دول: سنية وعلوية ودرزية وكردية. وخلال إحاطة صحافية مع المراسلين الأجانب، الأسبوع الماضي، قال ساعار: «من المهم الدفاع عن الأقليات في سوريا: أكراد ودروز ومسيحيون وعلويون. وفي هذا الشأن سنتابع ونراقب الأفعال وليس الأقوال». وأضاف: «يجب وقف الهجوم على الأكراد، يجب أن يكون هناك التزام دولي وخطوات فعلية لحماية الأكراد، الذين حاربوا ببسالة ضد تنظيم الدولة الإسلامية». وأكّد ساعار أن الإدارة الأمريكية ملتزمة بأمن الأكراد في سوريا، في إشارة إلى انسجام بين واشنطن وتل أبيب على هذا الصعيد. ونشرت صحيفة «يسرائيل هيوم» أن القيادة الأمنية الإسرائيلية تبحث موضوع تقسيم سوريا، ونشرت كذلك أن عضو لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الإسرائيلي عميت هليفي، توجه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مرتين وطالبه بالعمل بجدية لتقسيم سوريا إلى كانتونات، مضيفا «نحن أمام خطر واضح بأن تتحول سوريا إلى بؤرة مركزية للإسلام المتطرف.. هناك ضرورة ملحة بأن تبادر حكومة إسرائيل إلى مؤتمر دولي لإعادة ترسيم الحدود في سوريا ومع جيرانها». وشدّدت الصحيفة على أن التطورات الدراماتيكية في سوريا قد تؤثّر على الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية، وعلى إسرائيل التحرك واستغلال النافذة الزمنية القصيرة، قبل أن يترسّخ نظام «خطير» في دمشق، يمكن أن يشكل نموذجا يتكرر في أماكن أخرى في الشرق الأوسط.

ممارسات عدوانية

تكررت الدعوات الإسرائيلية لتقسيم سوريا، ومنها مباشرة، ومنها غير مباشرة متلحفة بحماية الأقليات، على غرار نظام الامتيازات في نهايات الدولة العثمانية. ولكن إسرائيل لم تكتف بالأقوال، بل قامت بأفعال فظيعة على الأرض لتسهيل «تقسيم وتفتيت سوريا»، وفي مقدمة ذلك الاستهداف الواسع لمقدرات الجيش العربي السوري، بهدف إضعافه ومنعه من التفكير في استرداد الجولان، أو حتى في الدفاع عن سوريا أمام هجمات إسرائيلية مستقبلية. ولكن الهدف الآخر غير المعلن من قبل إسرائيل هو التخريب على مشروع بناء دولة سورية مركزية قوية، ومتماسكة تستطيع بسط سيادتها وسلطتها على أراضيها. وتعتقد إسرائيل أن سلطة مركزية ضعيفة في دمشق تفتح الباب أمام نزعات انفصالية تشجّعها وتستفيد منها إسرائيل.

لقد تعلمت إسرائيل (وغيرها) درسا مهما من تفكيك الجيش العراقي بعد إسقاط نظام صدام حسين، ومن تفكّك الجيش الليبي تبعا للإطاحة بحكم معمر القذافي. في كلتا الحالتين دخلت البلاد في فوضى أمنية وحرب أهلية. وحين تيقنت القيادة الإسرائيلية من أنّ السلطة الجديدة في دمشق لا تنوي حل الجيش العربي السوري، سارعت إلى تنفيذ خطّتها، التي يجري إعدادها منذ حرب أكتوبر 1973، وقامت بتدمير معظم الآليات والقواعد العسكرية البحرية والجوية، وقسم كبير من المقدرات البرية والصناعات الحربية في أنحاء سوريا. في المقابل احتل الجيش الإسرائيلي أراضي سورية جديدة وتوغّل في منطقة جنوب سوريا، معلنا أنه لن يسمح لأحد بالاقتراب من حدوده الجديدة والقديمة. ويبدو أن إسرائيل تسعى إلى ترتيبات في جنوب سوريا مشابهة لتلك التي جرى التوصل إليها في جنوب لبنان. ويبدو أيضا أنها تريد فرض حالة خمسين عاما من الهدوء في الجولان المحتل، مثلما كان الوضع عليه خلال خمسين عاما مضت.

إفشال

من المؤكد أن الشعب السوري قادر على إفشال المشاريع والمؤامرات الإسرائيلية الهادفة للنيل من وحدته وتماسكه، عبر استغلال صراعات داخلية قديمة وجديدة، التي يجب حلّها بالتوافق والتفاهم، وتغليب المصلحة المشتركة العامة لجميع فئات الشعب السوري بلا استثناء. وحين يبني السوريون مؤسسات دولتهم من جديد على أسس ديمقراطية سليمة، وعلى قاعدة الوحدة الوطنية الشاملة والمواطنة المتساوية، فإنهم لن يتركوا لإسرائيل ثغرة تنفذ منها ولا عيبا تتسلل خلاله. وعلينا أن نتذكر ما قاله الشاعر الدمشقي الكبير، نزار قبّاني:

لم يدخل اليهود من حدودنا وإنما تسللوا كالنمل من عيوبنا

وحين تُسد الثغرات وتُصلح العيوب يكون لسوريا جدار حديدي تتحطّم عليه أحلام ومؤامرات إسرائيل، وترتطم به أطماعها التوسعية ومشاريع التخريب والهيمنة الإقليمية التي تسعى إليها. إسرائيل تعمل على تفتيت الدولة السورية، ويجب التصدي لها وتفويت الفرصة عليها وعلى من يشاطرها التآمر.

كاتب وباحث فلسطيني

القدس العربي

————————-

إلى أين ستصل براغماتية الشرع؟/ أحمد مولود الطيار

18 ديسمبر 2024

أبدى صديقي الكردي تخوّفه من هيئة تحرير الشام وزعيمها الشرع بعد سقوط النظام، قائلاً: “من تحت الدلف لتحت المزراب”، كناية عن أنّ ما يجري لا يستحق هذا الاحتفال الصاخب مني. هذا الصديق، مثل الكثير من “الجوهرانيين”، ينظر إلى الإسلام السياسي بطريقةٍ استشراقيّةٍ، حيث يرى جميع الحركات الإسلامية، سواء السياسية أو الجهادية، كطيفٍ فكري وقالب مفاهيمي واحد، دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ الإسلام السياسي، بشكل عام، ينتمي، كحقلٍ بحثي، إلى الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية، وأنّه بالمحصلة متغيّر تابع وليس مستقلاً. بتوضيح أكثر: فهم الإسلام السياسي يجب أن ينطلق من الواقع والسياسات الاجتماعية والاقتصادية، وليس من النصوص فقط.

قلت له: أعتقد أنه لكي نفهم ما يحدث، فإنّ التحليل الذي ينطلق من خلفيّةٍ أيديولوجيّةٍ أو من نظرةٍ قوميةٍ ضيقةٍ غير كافٍ لفهم ما حدث في سورية.

وتابعت: الإسلام السياسي، باعتقادي، أكثر براغماتية وقدرة على التحوّل والتكيّف من أصحاب الأيديولوجيات الأخرى. وضربت له أكثر من مثال على براغماتية ذلك التيار، وبدأتُ بالمثال التركي (كونه يكره تركيا كثيراً)، وشرحت له كيف أنّ البرلمان التركي، رغم سيطرة حزب العدالة والتنمية على الأغلبية فيه، لم يُلغِ “قانون البغاء”.

في عامي 2012، 2013، مع تصاعد النفوذ الإسلامي للحزب، وخاصّة خلال فترة رئاسة رجب طيب أردوغان، تزايدت الضغوط الشعبية على الحكومة لإعادة النظر في قوانين البغاء. ومع ذلك، فضّل الحزب عدم إثارة القضية، إذ قد يؤدي ذلك إلى صدام مع قطاعٍ اقتصادي واجتماعي منظّم ومرخّص. لقد تعامل الحزب في تركيا مع هذه القضيّة ببراغماتيّةٍ سياسيّةٍ حافظت على التوازن بين خطابه المحافظ واعتبارات الواقع الاجتماعي والاقتصادي. وبالتالي، ورغم قاعدته الشعبية المحافظة الكبيرة وادّعاء الحزب أنّ تطلعاته تتمحور حول تعزيز القيم الإسلامية في المجتمع التركي، لم يرد الاصطدام بقطاعاتٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ واسعة. كلّ ما فعله الحزب هو تشديد الرقابة الصحية والإدارية. وكان أردوغان وحزبه، بعد وصولهم إلى السلطة، يبرّرون ذلك بأنّ حظر البغاء قد يؤدي إلى انتشار الظاهرة بشكلٍ غير قانوني، ممّا يزيد من جرائم الاتجار بالبشر.

التجربة المغربية مثال آخر ساطع على براغماتية الإسلام السياسي وقدرته على التلوّن والتكيّف. ففي بحث مهم بعنوان “في مزادات السلطة: دراسة نقدية لتجربة الإسلاميين في الحكم بالمغرب” للدكتور عبد الحكيم أبو اللوز، يورد الباحث أمثلة وقضايا عن كيفية تعامل حزب “العدالة والتنمية” المغربي معها قبل تسلّمه السلطة وأثناءها. وهذه بعض الأمثلة:

– قبل الحكم: اعتبر الحزب أنّ العمل داخل الحكومة مسؤولية لخدمة الأمّة وليس سبيلاً للاغتناء، كما رفض شرعية تقاعد البرلمانيين. وأثناء الحكم: تشبّث الحزب بضرورة الحصول على تعويضات عن عملهم في الحكومة واعتبار ما يقومون به عملاً مشروعاً، وصوّت بالرفض على مقترح إلغاء تقاعد البرلمانيين.

    الجلوس في “قصر الشعب” يختلف تماماً عن الجلوس في كهوف ومغاور سرية

– قبل الحكم: حرّم المخدرات واعتبرها مُضرّة بشباب الأمة. وأثناء الحكم: صادق على قانون تقنين القنب الهندي.

– قبل الحكم: اعتبر التطبيع جريمة في حقّ فلسطين وخيانة للأمة. وأثناء الحكم وقّع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل.

– قبل الحكم: تشبّث بالعروبة باعتبارها الوعاء الجامع للأمّة، وأثناء الحكم فرنس التعليم.

– قبل الحكم: حرّم العلاقات الرضائية. وأثناء الحكم ظهرت توجّهات داخل الحزب تدعو إلى الحريات الفردية، مثل التي مثّلتها أمينة ماء العينين.

طبعاً، حزب العدالة والتنمية، سواء في تركيا أو المغرب، ليس استثناءً. هناك العديد من الأمثلة على البراغماتية السياسية التي أظهرها الإسلام السياسي في دولٍ متعدّدة، وهي تحتاج إلى أبحاث أكاديمية رصينة لتفسير هذا التكيّف. ومن هذه التجارب، التجربة الماليزية، حيث كان الحزب الإسلامي الماليزي شريكاً في حكومات ائتلافية متعدّدة، وتعامل بمرونة مع الدولة العلمانية. وهناك أيضا تجربة إيران، فهي رغم أيديولوجيتها الواضحة، برعت في نسج العلاقات الدولية ببراغماتية شديدة. كذلك، حزب النهضة في تونس، الذي حافظ على خطابٍ سياسي يدعو إلى فصل الدين عن الدولة بشكلٍ مرن، ممّا سمح له بالبقاء لاعباً سياسياً أساسياً في البلاد.

أما في سورية، فقد طرأ تغيّر هائل خلال أسبوع واحد فقط. خلال هذه الفترة القصيرة، أرسل الشرع إشارات عديدة عن براغماتيّةٍ لافتة للنظر. إلى أين سيصل؟ لا أحد يملك الجواب. بالتأكيد، لا يُتوقّع من الشرع أن يغيّر جذوره دفعة واحدة؛ هذا ربما مستحيل. ولكن الجلوس في “قصر الشعب” يختلف تماماً عن الجلوس في كهوف ومغاور سرية.

العربي الجديد

———————

عبد الباسط الساروت… بلبل الثورة ووجهها الأسمر/ عبد الرحمان حسنيوي

18 ديسمبر 2024

يقول الشاعر العراقي، محمد مهدي الجواهري، في قصيدته “يوم الشهيد”:

يومَ الشَهيد: تحيةٌ وسلامُ .. بك والنضالِ تؤرَّخُ الأعوام

بك والضحايا الغُرِّ يزهو شامخاً .. علمُ الحساب، وتفخر الأرقام

بك والذي ضمَّ الثرى من طيبِهم .. تتعطَّرُ الأرَضونَ والأيام

بك يُبعَث “الجيلُ” المحتَّمُ بعثُه .. وبك “القيامةُ” للطُغاة تُقام

وبك العُتاة سيُحشَرون، وجوهُهُم.. سودٌ، وحَشْوُ أُنوفهم إرغام

في يناير/ كانون الثاني 1992، وفي حي البياضة البسيط بمدينة حمص، وُلد عبد الباسط ممدوح الساروت. لم يكن ميلاده يومًا عاديًا، ولم يكن صبيًا كغيره، بل كان في دمه نداء الحرية، وفي صوته أهازيج الأمل. نشأ بين أزقة حيٍ فقير، بين أصوات الحياة اليوميّة وتحديات العيش اليومي. كما لم يكن يعلم حين كان صبيًا يلعب في شوارع حمص، أنّ أقداره ستقوده ليصبح أحد رموز سورية، وأيقونة ثورتها.

عبد الباسط، الطفل الذي كبر بين تسعة إخوة، كان يحمل في داخله حلمًا بسيطًا بالحياة، ككلّ الفقراء، أنّ يعيش بكرامة، ترك المدرسة في الصف التاسع ليعمل مع والده في الحدادة، لكنه سرعان ما ترك المطارق والألواح الحديدية لينطلقَ في مسارٍ آخر؛ مسار الأمل والكرامة والحرية والعدالة.

بدأت ملامح الموهبة تظهر مبكّرًا على الساروت في ملاعب كرة القدم، حيث التحق بنادي الكرامة السوري حارسًا للمرمى، وتألّق حتى صار حارس مرمى منتخب سورية للشباب، وحقّق جوائز عديدة، كان أبرزها جائزة ثاني أفضل حارس مرمى في آسيا، كان يحمل طموحًا رياضيًا قد ينقله إلى منصّات البطولات الكبرى، لكنه كان يحمل أيضًا شيئًا أعمق: روح الثورة.

حين اندلعت الثورة السورية في مارس/آذار 2011، كان عبد الباسط في التاسعة عشرة من عمره، شاب في ربيع العمر، يزهو بحلمه الرياضي، لكنه كان يزهو أكثر بحلمه في الحرية لوطنه، فترك ملاعب الكرة، وبدأ يخطو خطواته الأولى في المظاهرات السلمية التي اجتاحت شوارع حمص.

صعد الساروت سريعًا إلى صدارة المشهد الثوري، بصوته القوي وأهازيجه التي كانت تنبض بالحياة، فصار بلبل الثورة ووجهها الأسمر، يقود المظاهرات بحماسٍ وجُرأةٍ لم تعرف الخوف، كان يصدح بالأناشيد، صوتٌ يهتف للحرية حتى تكاد تشعر أنّ الكلمات تنبض بالحياة، أنفاسٌ تتردّد بين الأهازيج والأناشيد التي صار كلّ حرفٍ فيها نشيدًا للوطن: “جنة يا وطنا”، “حانن للحرية”، و”لأجل عيونك يا حمص بنقدم الأرواح”، كلماتٌ صارت راياتٍ ترفرف فوق رؤوس الأحرار، وصدى يطارد طغاة الظلام.

مع تحوّل الثورة إلى الكفاح المسلح، حمل الساروت السلاح للدفاع عن حيّه وأهل مدينته، وأسّس “كتيبة شهداء البياضة”، التي ضمّت أبناء حيّه وأقاربه، وواجهوا معًا أعتى الآلات العسكرية. صمد في حصار حمص مع رفاقه، وعاش معارك ضارية في محاولة لفكِّ الحصار عن المدينة، لم تكن طريقه سهلة إطلاقًا، ففي معركة “المطاحن” التي حفروا فيها نفقًا لنقل الطحين إلى المناطق المحاصرة، فقد الساروت عددًا كبيرًا من رفاقه، بينهم اثنان من أشقائه. لقد كان هذا الحدث مأساويًا، لكنه لم يكسر عزيمته.

بعد حصار دام قرابة 700 يوم، أُجبر الساروت ورفاقه على الخروج من حمص في أوّل عمليّةِ تهجيرٍ قسري تشهدها الثورة السورية، حيث نُقل مع المقاتلين إلى ريف حمص الشمالي، ومن هناك واصل نضاله، متحمّلًا اتهامات وشائعات من بعض الفصائل المسلّحة، ثم انتقل إلى تركيا لفترةٍ قصيرة، لكنه عاد سريعًا إلى ساحات المعارك في ريف حماة.

كان الساروت بلبلًا يغني، لكنه سرعان ما حمل البندقية ليحمي حلمًا لطالما أراد أن يبقى نقيًا بين الأحياء المحاصرة، وبين الحصار والرصاص، وقف كطود شامخ، يذود عن وطنه بيديه، حارسًا للثورة كما كان حارسًا لمرمى وطنٍ أراد أن يراه يومًا بلا قيود.

لم تكن حياة الساروت إلا سلسلة من الفقدان، فقد أشقاءه، ووالده، وأصدقاءه، حتى صار كلّ شهيدٍ يسقط بجانبه قطعةً من روحه، ومع كلِّ جنازةٍ مشاها، ومع كلّ بيتٍ دُمر، ازداد صوتُه قوةً وإصرارًا.

كيف لرجلٍ تكالبت عليه المآسي ألا ينكسر؟ لكنه كان أقوى من الحديد، وألين من نسمةِ الفجر، يُغني لشهدائه كما يُغني لأحلامه، يُهدهد جراحه بأنشودة، ويواسي روحًا منهكةً بأغنية جديدةٍ للحياة. لم يكن عبد الباسط الساروت فقط اسمًا يمرّ عبر صفحات الثورة، بل كان رمزًا لمعنى أن تكون إنسانًا في مواجهة الطغيان، فحين عزّت الكلمات، تكلّمت بندقيته، وحين خذلتهم الأرض، صار صوته أرضًا تحت أقدام الثوار، لكن في ذلك الصباح الحزين من يونيو/ حزيران 2019، رحل الساروت بجراحه، لكنه لم يغادر القلوب، فقد كان موته ولادةً جديدةً لروحه بين الجماهير، وكأنّ السماء اختارته ليكون شفيع الحالمين، ونجمًا يضيء ليل الثائرين.

في نهاية المطاف، وبعد سنواتٍ من الصبر والتضحيات، انتصرت الثورة التي أطلقها الساروت ورفاقه، فتحررت سورية من قبضة الطغيان، ورفرفت رايات الحرية فوق سماء الوطن، وصار صوت الأحرار الذي تغنى به الساروت نشيد النصر، وأحلام الشهداء صارت واقعًا يعيشه السوريون.

لعبد الباسط وأمثاله النصر والخلود، يا من صرت أيقونةً وأغنيةً وأرضًا تحت خطى السائرين، لك المجد كلما هبّت رياح الحرية، ولك الخلود كلما نبتت زهورٌ في ساحات النضال. يا عبد الباسط، لا قبرك يستطيع احتواءك، ولا حدود الأرض تكفي لذكراك. أنت لنا ملحمة، وأنت للوطن قصيدة، وأنت للحالمين بالنصر دربٌ لا ينتهي.

اليوم، كما كُنتَ تحلم، سورية حرّة، الثورة انتصرت، واسمك محفورٌ في ذاكرتها إلى الأبد.

العربي الجديد

———————–

ملاخظات/ ياسين السويحة

1- مهما كانت التحفظات عليه وجيهة وصحيحة، شرط رفض 2254، خصوصاً من أصحاب السلطة، هو اقتراح بديل متكامل عنه. اقتراحه أولاً وقبل كل شيء للسوريين والسوريات، بشكل واضح وجلي ومباشر، ودون المرور بالقطّارة على ما هب ودب من مؤسسات إعلامية ومراكز أبحاث أجنبية وإعلاميين أحمد منصوريين. أو، على الأقل، تقديم وعد واضح وصريح للسوريين بإطار زمني لتكوّين هذا الاقتراح في حال لم يكن جاهزاً، ومفهوم ألا يكون جاهزاً.

2- ولكن ليس فقط للسوريين. لـ”العالم” أيضاً. سوريا بحاجة للعالم، لغطاء العالم السياسي والمالي. العالم مليء بالعطالة، ومليء بمن ينوي شرّاً، ومليء بالمنحازين سلفاً ودون أي مراجعة ممكنة لأعداء هذا البلد ومحتلّي أراضيه. لكن العالم أوسع من هؤلاء بكثير. هذا السلوك والخطاب الارتيابي سلفاً وجملةً تجاه “الخارج” ليس إلا قميص “ممانعة” مقلوباً على قفاه.

3- رفع الرواتب 400%، وتشكيل جيش احترافي غير معتمد على الخدمة الإلزامية، و”إعادة إعمار البيوت”، وطباعة عملة جديدة.. هذه كلها مسائل خارج صلاحيات أي حكومة مؤقتة، وهي أولاً وأساساً خارج قدراتها.. كلها تحتاج لزمن طويل ومليارات كثيرة، وتحتاج العالم، وقبل كل شيء تحتاج السوريين والسوريات. كلها “خطط” طرحها رأس السلطة الحالية في مقابلات متفرقة، ويحسن ناصحوه صنعاً لو أشاروا عليه بالاقتصاد فيها.

4- إحالة قضايا عمومية تخص حاضر الناس ومستقبلهم، وفيها الكثير من السياسة والإيديولوجيا والمصالح والانحيازات والإرادات، وبالذات دستور البلد، لغرف مغلقة فيها “خبراء” هو كلام معادي للسياسة. إيديولوجيا “الخبراء” هي دوماً غطاء الإجراءات الاستثنائية ذات النَفس التسلطي.

وفي الدستور بالذات، في النص الناظم لسيادة الناس على أنفسهم وبلدهم، هذا الكلام غير مقبول. الدستور تضعه جمعية تأسيسية. خبراء يضعون دستوراً؟ دعونا نتذكر أن أبرز وألمع مثال على “فقيه دستوري” مرموق في عالمنا العربي هو سيادة الرئيس التونسي العابس قيس سعيّد.

الفيس بوك

——————————

هم سوريّون أيضاً/ يزن الحاج

19 ديسمبر 2024

دء عملية “ردع العدوان” التي شنّتها فصائل المعارضة السورية المسلّحة بقيادة هيئة تحرير الشام في 27 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، سادت مشاعر مختلطة بين الترقّب لمعرفة اختلاف هذه المعركة عن سابقاتها، والفرح لوجود إمكانية إحداث ضغط جدّي على النظام، والقلق من احتمال تضاعف سُلطة “الإسلاميين”. ولم يكن أحد يتوقّع، بمن فيهم الفصائل، أن تتطوّر العملية من محض ضغط على النظام ولجم لوحشيّة قصفه على ريف إدلب وحلب، إلى انهيار سريع للنظام وجيشه، إلى أن هرب بشار الأسد فجر يوم الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، وسقط نظام الأسد، وانتصرت المعارضة بقيادة الفصائل.

لم يحدُث تغيّر في المشاعر بقدر ما باتت مكثّفة أكثر، مع انتشار مشاعر خوف منطقية ومبرّرة، فسُلطة الفصائل لم تعد مقتصرة على إدلب وحدها، بل باتت هيئة تحرير الشام سُلطة الأمر الواقع في سورية كلها، باستثناء المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي خسرت بعد سقوط النظام مناطق في ريف حلب، علاوة على مدينة دير الزور. وهنا تردَّد السؤال الذي كان مؤجّلاً: هل ستتحوّل سورية إلى أفغانستان أو ليبيا جديدة؟

وتردّدت معه عبارات باتت مترافقة معظم الأحيان مع التبريكات والاحتفالات وكأنّها القدر المحتوم: “إمارة إسلامية”، “فرض الحجاب”، “التطرّف القادم إلى بلد الاعتدال”. وبعد أن سلّم رئيس الوزراء السابق، محمد غازي الجلالي، الحكومة إلى هيئة التحرير وحكومة الإنقاذ، بدا وكأنّ جميع هذه المخاوف ستتحقّق أخيراً، وأنّ “علمانية” سورية قد ذهبت أدراج الرياح.

وفي واقع الحال، لم يحدث أيٌّ من تلك السيناريوهات التخويفية. صحيح أنّ أناشيد إسلامية ترافقت مع بثّ التلفزيون الرسميّ، إلى جانب حوادث متفرقة من مضايقات لبعض النساء بشأن عدم ارتداء الحجاب، ورفع علم هيئة التحرير إلى جانب علم الثورة، غير أنّ ردّ فعل قيادة الهيئة كان سريعاً وحاسماً، حين لبّت مباشرةً جميع الطلبات المماثلة، فأوقفت بثّ الأناشيد الإسلامية، وأصدرت قرارات واضحة بشأن عدم التدخّل في اللباس، وتركت علم الثورة وحده في اللقاءات الرسمية. بدا الأمر وكأنّ هناك عقليّتَيْن أو ثلاثاً تحكم الهيئة حالياً، ولكنّ سرعة إصدار القرارات تومئ إلى أنّ القيادة (ممثّلة بالجولاني/ أحمد الشرع) تميل، ولو مؤقتاً، إلى إشاعة جو اعتدال لا يتطابق بالضرورة مع التزامات الهيئة ككل. ليس هدفنا هنا تحليل البيت الداخليّ للهيئة، أو الدعوة إلى إعادة ترتيبه، فتلك مسألةٌ تخصّ الهيئة وقيادتها، غير أن ما يهمّ هنا هو المبادرات السريعة والحقيقية التي تبديها سُلطة الأمر الواقع حيال أصغر طلب من الطلبات، حتى لو تعارضَ مع سياسة الهيئة المعلنة التي كانت ولا تزال مفروضة في إدلب.

في المقابل، لم يكن للمعارضة المدنية “العلمانية” حضور قويّ، طوال هذه الفترة. إذ لم تصدُر بيانات حيال معركة “ردع العدوان”، ولا حيال أيّ مسألة تخص الأمور المعيشية الصعبة التي يعيشها السوريّون في الداخل، ولا حتّى حيال تقييمهم الأولي لجهد الهيئة الواضح في تحسين الأمور المعيشية، والتواصل مع القوى الغربية والعربية بشأن استمرارية عمل السفارات الأجنبية. كلّ ما رأيناه هو انتقادات وصلت إلى حدّ مماحكات وابتزاز بالعودة إلى صفوف المعارضة لو لم تعمد الهيئة إلى تشكيل حكومة وطنية تشمل جميع أطياف المعارضة. وبالرغم من إيضاح الهيئة بأن الحكومة الحالية محض حكومة لتسيير الأعمال وتطوير الأمور المعيشية، لم تتغيّر نبرة المعارضة اليسارية والعلمانية التي ما زالت تتعامل مع الهيئة بوصفها البعبع القادم لالتهام الحريات.

ثمة فارق كبير بين التشكّك الصحيّ والبنّاء بالسُّلطة، أيّ سُلطة، والاتهامات المسبقة بـ “سرقة ثورتنا”، وكأنّ القادمين الجدد مجاهدون أجانب وليسوا سوريّين لهم حقوق أيّ سوريّ آخر. قد يبدو الأمر محض بداهة، غير أن التعامل مع هيئة تحرير الشام، ومع الحكومة بأنها حكومة أجانب أو حكومة همجية لمجرّد أنها إسلامية، سيكون له تبعات خطيرة. عزل الحكومة وكأنها ورم لا بدّ من استئصاله لن يؤلّب الفصائل الإسلامية وحدها، ويعيدها إلى خانة رد الفعل التي لم تُنبئ يوماً بخير، بل ستؤلّب معها عموم الناس الذين بدأت مخاوفهم تتبدّد شيئاً فشيئاً مع عودة الاستقرار إلى الأسواق والحياة اليومية.

سيبدو الأمر وكأنّها محض نكايات رخيصة (وهي ما عليه حقاً أحياناً)، بخاصة أن من يشنّ الهجوم لم يبادر بأيّ فعل وطنيّ أو محليّ باستثناء التخويف والترهيب والابتزاز، بدلاً من أن يبادر إلى عرض تعاونه مع حكومة الأمر الواقع، ومحاورتها في جميع المسائل.

ليس ثمّة إلا مخرج واحد من هذه الاستقطاب الكارثيّ، وهو نزول المعارضة اليسارية والعلمانية من برج شعارات الخمسينيات، والنزول إلى الشارع ومخاطبة الناس، كما تفعل حكومة الهيئة. الشوارع خالية الآن إلا من أجهزة حكومة الهيئة، ومن مبادرات محلية شبابية صغيرة تُبشّر بأنّ ثمة من لا يزال يؤمن بأنّ هذه البلاد بلاده، وأنها تستحق العمل من أجلها. العمل لا التنظير الأجوف الذي لا يستهدف إلا التخويف، بخاصة لدى شرائح شعبية، ما زالت تتلمّس طريقها بعد انهيار النظام.

هم سوريّون أيضاً. هذا ما يجدُر بالجميع أن يدركه كي تمضي الشهور الثلاثة التي وضعتها الهيئة مهلة لحكومة الإنقاذ، وصولاً إلى مؤتمر وطنيّ يشمل الجميع. سوريّون لا بد من انتقادهم ومواجهتهم بكل الأخطاء أو الملاحظات، لا لأنّهم إسلاميّون بل لأنّهم السُّلطة التي تحكم البلاد. لكلٍّ منّا مخاوفه وملاحظاته وانحيازاته، ولنا تساؤلاتنا بخاصة ما يرتبط بالقرارات ذات المدى الطويل التي تصدرها الحكومة وكأنها ستبقى لسنوات لا لأشهر، وعدم مبادرتها هي أيضاً للتواصل مع باقي الأطراف في البلاد، وتعاملها مع الاقتصاد بلا أيّ خطة واضحة. ولكنّ الوقت الآن ليس وقت مماحكات بل وقت بناء للبلاد التي دمّر النظام فيها كلّ شيء، وبات علينا إعادة بنائها من جديد.

العربي الجديد

————————————-

رسائل نتنياهو من قمة جبل الشيخ!

19 كانون الأول 2024

تساءلت الصحف العبرية، أمس، حول «المغلّف البنّي» الغامض الذي تلقّاه بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة إسرائيل، أثناء جلسة لمحاكمته، والذي غادر على إثر استلامه قاعة المحكمة ليصعد، بعد ذلك بساعات، 2800 متر فوق سطح البحر ليطلّ من قمّة جبل الشيخ السوري المحتلّ، على ثلاثة بلدان مشرقية، سوريا ولبنان والأردن، وليتفقّد «المنطقة العازلة» التي سيطرت عليها دولة الاحتلال وليعلن أن جيشه سيبقى هناك «حتى يحصل ترتيب أفضل يضمن أمن إسرائيل» على حد قوله.

تأتي خطوة نتنياهو الأخيرة كتتويج إعلانيّ فاقع لعمليات مكثفة تجاوزت 500 غارة استهدفت مواقع عسكرية واستراتيجية في معظم المحافظات السورية تضمنت مطارات ومستودعات أسلحة ومراكز أبحاث علمية ومنشآت دفاع جوي، كانت تحت سيطرة النظام السابق وحلفائه الإيرانيين، وفي إطار عملية منهجية لتدمير البنية التحتية العسكرية السورية.

قائد قوات الثوار الذين يقودون الحكم الجديد في دمشق، مرهف أبو قصرة (المدعو أبو حسن الحموي) اعتبر القصف الإسرائيلي وتوغل دولة الاحتلال في الأراضي السورية تصرفات «جائرة» وطالب «المجتمع الدولي» بإيجاد حل لإخراج القوات الإسرائيلية» وهو تصريح متوقّع من سلطات جديدة تحاول التعامل مع التداعيات الكبرى العسكرية والأمنية التي خلّفها سقوط نظام بشار الأسد.

قدّم سقوط النظام السوري تحدّيا جديدا لإسرائيل، التي اعتبرت، على مدى عقود، بقاء نظام الأسد خيارها المفضّل، بدعوى الخوف من إمكانيات حصول فوضى عسكرية وسياسية، أو صعود نفوذ التنظيمات الإسلامية، كما كان الحال في مجمل الدول التي شهدت صعود «الربيع العربي» وكانت هذه الاستراتيجية الإسرائيلية أحد الركائز التي انتشرت ضمن الدول الغربية، ولعبت، إضافة إلى عوامل أخرى، دورا في إثناء إدارة باراك أوباما، رئيس أمريكا الأسبق، عن قرار معاقبة نظام الأسد بعد قصفه غوطة دمشق بالسلاح الكيميائي.

لم يعترض نتنياهو، شخصيا، على مساعي الأسد للسيطرة على البلاد منذ قيام الثورة عام 2011، بل إنه، وخلال حرب دولة الاحتلال على نفوذ إيران و«حزب الله» في سوريا، صرّح قائلا: «لم تكن لدينا مشكلة مع نظام الأسد. منذ 40 عاما لم يتم إطلاق رصاصة واحدة على مرتفعات الجولان».

بناء على الآنف، وبمجرد إعلان سقوط نظام الأسد تحرّك جيش الاحتلال الإسرائيلي وسيطر على الجانب السوري من جبل الشيخ في هضبة الجولان وذلك لمنع النظام الثوري الجديد من السيطرة على المنطقة، وتبع ذلك أمر نتنياهو لجيشه ليس بالهيمنة على «المنطقة العازلة» فحسب، بل على «المواقع الاستراتيجية المجاورة» أيضا.

مقابل الغطرسة العسكرية التي أراد نتنياهو إظهارها بالوقوف على قمة جبل الشيخ، قدم وزير خارجيته، جدعون ساعر، السيناريو السياسي الذي تتبنّاه إسرائيل لسوريا حيث قال إن الاعتقاد بأنها «ستبقى دولة واحدة ذات سيطرة وسيادة فعالة على كامل أراضيها هو أمر غير واقعي» والواضح أن إسرائيل ستسعى لفرض واقع آخر عبر ما سمّاه «حماية الأقليات» و«وقف الهجمات على الأكراد» شمال سوريا، و«منع سيناريو مثل هجوم 7 أكتوبر من سوريا»!

السؤال الذي يخطر في البال، ما دام قادة إسرائيل خائفين على «الأقليات» في سوريا، هو: ماذا عن الفلسطينيين، وهل يمكن اعتبار «الإبادة الجارية» لهم هي نموذجهم الذي يقدّمونه للعالم في «حماية الأقليات»؟

القدس العربي

————————-

سوريا وتجليات «الليبرالية الطائفية»/ محمد جميح

19 كانون الأول 2024

الليبرالية هي الحرية والمساواة، والليبراليون هم الذين يقدسون الحريات السياسية والاقتصادية، ويؤمنون بالمساواة الاجتماعية، بغض النظر عن الانتماءات العرقية والدينية والثقافية وغيرها.

وعلى المستوى النظري، يفترض أن يفرح الليبراليون بسقوط الأنظمة الديكتاتورية المستبدة، بعيداً عن أي اعتبار، لكن بعض «الليبراليين العرب» يتصرفون بطريقة غريبة، ويتعمدون «الانتقائية» في التعاطي مع الأحداث في المنطقة العربية.

«الليبرالية العربية» ليبرالية غريبة، تبدو تارة مجرد غلالة رقيقة تغطي توجهات طائفية وعرقية وسياسية وأيديولوجية مختلفة، ووفقاً لهذه الليبرالية، يصبح الديكتاتور حامي حمى البلاد، وكافل الحقوق والحريات الشخصية، وضامن حقوق المرأة، والمنفتح على قيم الحداثة، لا لشيء إلا لأنه ينتمي لنوع من «الليبرالية الطائفية» التي يبدو أنها المفهوم السائد لدى بعض الليبراليين العرب، في حين أن الليبرالية السائدة لدى البعض الآخر من هؤلاء الليبراليين هي تلك الليبرالية التي تجسدها الأنظمة التي تقمع خصوم هؤلاء الليبراليين.

في السنوات الأولى لما سمي بثورات «الربيع العربي» شجع ليبراليون عرب تلك الثورات، وعدوها حركات تحرر جديدة، وثورات حقيقية للتحرر والانعتاق من الفساد والديكتاتورية، غير أن ذلك التشجيع كان انتقائياً، إذ تحمس هؤلاء الليبراليون لربيع تونس ومصر وليبيا واليمن، مع محاولة لإثارة ربيع في البحرين والمغرب، غير أن موجة الربيع عندما وصلت سوريا، اصطفَّت «الليبرالية الطائفية» إلى جانب النظام الديكتاتوري في وسوريا، بشكل فجّ، دون مراعاة لأي من طروحات الفكر السياسي الليبرالي الذي يلوكون مفرداته صباح مساء.

ومع أن النظام الإيراني وميليشياته – على سبيل المثال – لا ينتمون للسياق الليبرالي، إلا أن جوقة إعلامية كبيرة تحركها «الليبرالية العربية» اصطفت إلى جانب ذلك النظام الديني، وتلك الميليشيات الطائفية، ضاربة عرض الحائط بمقولات الليبرالية التي لا تحضر إلا عندما يظهر للواجهة حراك ديني مقابل، وهنا يرتفع الصوت المحذر من ضياع الحريات والحقوق، على يد «الملتحين المتشددين الدواعش» الذين يريدون العودة بنا إلى العصور الوسطى، وكأن النظام الإيراني يقوم على أحدث ما أنتجه الفكر الليبرالي المعاصر.

ما يدعو للسخرية أن «ليبراليات عربيات» هاجمْنَ زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، لأنه طلب من فتاة أرادت أن تتصور معه، طلب منها أن تغطي شعرها، ولو بشكل جزئي، قبل أن تأخذ صورة معه، لكن هؤلاء الليبراليات شوهدن محجبات، عندما التقين معممين في إيران والعراق، وكأننا إزاء ليبرالية تقف مع الحجاب في إيران، وضده في سوريا، لا لشيء إلا لأن الذي يأمر بالحجاب في طهران رجل دين من النسيج الطائفي الذي يؤطر فكر وحركة تلك «الليبرالية المعممة» وهو الأمر غير المتوفر لدى الآخر الذي طلب أن يغطى الرأس في دمشق، في انكشاف واضح لتوجهات تلك «الليبرالية الطائفية».

ما معنى أن يحظى نظام ديني بالقبول لدى ليبراليين يشنون حملات مسعورة ضد الجماعات والأحزاب السياسية الدينية؟! ما معنى أن يتغاضى هؤلاء الليبراليون عن سجون نظام طائفي، هي بالأساس مسالخ بشرية، فيما هم يشنعون على جماعة دينية بأنها ضد الحريات العامة؟! ما معنى أن يكون معمر القذافي ـ مثلاً ـ «دكتاتوراً، يجب أن يرحل ليتحرر الشعب الليبي من الظلم والاضطهاد» بينما يُعد بشار الأسد ضمانة لأمن سوريا واستقرارها، وخلوها من الإرهاب، رغم كل الفظائع التي ظهرت في سجون صيدنايا وتدمر وفرع فلسطين، وأكثر من ألف سجن سري وعلني كانت عبارة عن مسالخ بشرية، طافت الصور الخارجة منها جهات العالم الأربع، خلال الأيام الماضية؟!

ما معنى أن يكون «الليبرالي» ضد الحجاب في سوريا، ومع الحجاب في إيران، أن يكون لديه مخاوف من احتماليات فرض حكم ديني في بلد، فيما هو يؤيد حكماً دينياً قائماً – بالفعل – في بلد آخر، أن يرفض التدخل التركي، فيما هو يصفق للتدخل الإيراني، أن يؤيد وجود ميليشيات إيرانية وباكستانية وأفغانية وميليشيات حزب الله، ثم يحذر من خطورة المقاتلين الأجانب والإرهابيين في سوريا؟!

ألا ينطبق على هذا النوع من الليبرالية وصف «الليبرالية الطائفية» التي لم تعد تكيل بمكيالين وحسب، ولكنها تعدت إلى كونها تمثل حالة فصام مرضي، مهجوس بسيل من الخيالات المعلولة والافتراضات المسبقة والعقد الطائفية التي يحاول أصحابها تمويهها بغلالة ليبرالية لا تكاد تخفيها، رغم توظيفهم لغة تغترف من قواميس الليبرالية والحداثة والدولة المدنية، وغيرها من مصطلحات، يحلو لأصحابها أن يعبئوها بما يشاؤون من مفاهيم يفصلونها، حسب الهوى السياسي والطائفي الذي فضحت نفاقه الثورة السورية في 2011، قبل أن تجهز تلك الثورة على ذلك النفاق تماماً في اللحظة التي سقطت فيها دمشق في يد الثوار، لتسقط بسقوطها ورقة التوت التي كانت تستر كل ذلك العري الطائفي الفاضح.

إن ما ضخَّته ماكينات إعلامية معينة خلال الأيام الماضية من كتابات وتعليقات ومخاوف وانتقادات وتلفيق وتزوير ضد الثورة السورية يكشف بالفعل حالة مرضية نعانيها في البلاد العربية، حالة تكشف – بدورها – ضحالة البعد الحداثي لدى مثقفين لا يكفون عن التبشير بمفاهيم الحداثة والمعاصرة، وضرورة الانعتاق من التفكير الماضوي، والتخلص من الموروث القبلي والعصبوي في تراثنا العربي، والسير في أنساق سياسية وثقافية واقتصادية تودي بنا إلى الضفة الأخرى من النهر الفاصل بين الحداثة الغربية والتخلف العربي.

كان أحد النقاد العرب يقول إنه في «داخل كل منا بدوي صغير» ويبدو أن هذا البدوي لم يعد صغيراً، ولكنه بدوي يكبر مع كل منعطف من منعطفات تاريخنا المعاصر، ويظهر معه كمٌّ من التناقضات الناتجة عن كوننا لم نصل بعد إلى مرحلة الاقتناع بالمنتج الفكري والحضاري لليبرالية، قدر ما نحاول تسليع هذا المنتج في أسواقنا التي لا تزال تخضع لمعايير سوق عكاظ، وذلك بتكييف «المنتج الحداثي» بما يتواءم مع تفكيرنا العصبوي الذي نحاول أن نموهه بتصديره، من خلال كم كبير من المصطلحات الرنانة عن الحداثة والمعاصرة والليبرالية والحقوق والحريات، وغيرها من مصطلحات نعيد صياغة مفاهيمها، حسب المصالح الفئوية والعرقية والطائفية، التي نخفيها تحت تلك الغلالة الرقيقة من «الليبرالية الانتقائية» التي ترى الحجاب في طهران زينة وحشمة، وتراه في دمشق قسراً ورجعية.

ولله في خلقه شؤون!

كاتب يمني

القدس العربي

——————————-

أتاتورك واستقلال سوريا/ توران قشلاقجي

19 كانون الأول 2024

في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1937، هاجم الجيش الفرنسي ولاية هطاي، تحت ذريعة تنظيم بعض الاحتفالات، كان ذلك رسالة واضحة. وعلى خلفية الهجوم، دعَت تركيا رئيس وزراء سوريا جميل مردم، إلى زيارة أنقرة لمناقشة القضية. وبالفعل، قام رئيس الوزراء مردم بزيارة تركيا يومي 21 و22 ديسمبر/ كانون الأول 1937. بدأ اليوم الثاني لرئيس وزراء سوريا في أنقرة ببرنامج حافل، ففي الصباح، زار مزرعة الغابات ومعهد غازي للتربية، ومعهد عصمت باشا للبنات. وفي الساعة 13:30، شارك في غداء أقامه وزير الداخلية وأمين عام حزب الشعب الجمهوري شكر قايا في نادي الأناضول، ثم التقى بالرئيس مصطفى كمال أتاتورك، في مطعم «كاربيتش».

كان هذا اللقاء مختلفاً للغاية عن اللقاءات الرسميةـ التي كان أتاتورك يجريها مع الضيوف الأجانب، وخلال الاجتماع، شدد أتاتورك بوضوح على ضرورة استقلال سوريا، مؤكداً أن قضية هطاي هي «قضية شرف»، وأضاف أنه إذا لزم الأمر، فسيقوم الجيش بالتدخل لحل المشكلة، وقد أظهر أتاتورك دبلوماسية واثقة بتحليله الجيد للوضع الدولي، حيث كان يتوقع أن تؤدي التطورات في البحر الأبيض المتوسط إلى وقوف الدول الغربية إلى جانب تركيا.

ويستعرض الدبلوماسي والمؤرخ بلال شيمشير كلمات أتاتورك خلال هذا اللقاء قائلاً: «لم يقتصر أتاتورك على نقل تحياته وحبه لسوريا، بل قام أيضاً بإلقاء خطاب واسع النطاق. في الجلسة التي استمرت حتى منتصف الليل على المائدة. كان أتاتورك قد تحدث بصراحة كبيرة؛ وفي بعض الأحيان كان يشدد لهجته ويوجه انتقادات قاسية للفرنسيين، ثم قال: «لقد قيّد الفرنسيون أيادي السوريين وأرجلهم»، وبعدها توجه إلى جميل مردم قائلاً بصوت عال: «حلوا هذه القيود وحطموها!». وأضاف: «أقول إن الأمة الإسلامية والشعب السوري يجب أن يكونا مستقلين بشكل مطلق. التفكير في غير ذلك سيشكل ضعفا. على الحكومة الفرنسية أن تعود إلى رشدها». أما بالنسبة لقضية هطاي فقد قال: «هذه قضية شرف بالنسبة لي’». وحسب رواية أخرى، قال أتاتورك خلال اللقاء: «إذا صاغ الفرنسيون أحلاما فسيكون ذلك ضدهم. يجب عليهم أن يعودوا إلى رشدهم. إذا كانوا يشكون، يمكنهم أن يجربوا. أقسم بشرفي أنني لن أتنازل عن هطاي!». من خلال هذه التصريحات القوية، دعا أتاتورك أيضاً السفير الفرنسي بونسو إلى مطعم «كاربيتش» ليبعث له رسالة تهديد واضحة، وأكد أتاتورك بشكل صريح دعم تركيا لسوريا وغيرها من الدول الإسلامية ضد الاحتلال الفرنسي، قائلاً: «يقال إن الفرنسيين يريدون أن يجعلوا السوريين أناسا عقلاء. ولكن يجب عليهم أولاً أن يصبحوا هم أنفسهم عقلاء!».

وتروي الطيّارة التركية صبيحة غوكجن، أول امرأة تقود طائرة في تركيا، حادثة جرت في تلك الفترة، قائلة: «كان يتم الحديث عن قضية هطاي، وفي أحد الأمسيات قال لي أتاتورك: «هيا اصعدي، وارتدي زيك العسكري، وخذي مسدسكِ وعودي». فعلت ما قاله لي، ثم ذهبنا إلى كاربيتش. كان هناك متحدث سيقوم بإلقاء كلمة، وبعده كنت سأخرج أنا لأقول ما يلي: «نحن الشباب نريد أن تحل هذه القضية بطريقة أسرع. إذا تم التعامل مع المسألة بتراخٍ، فإننا سنقوم بما يلزم!». وطلب مني أن أطلق رصاصة في السقف. فعلت كما طلب. وعندما حدث ذلك، بدأ السفير الفرنسي يبحث عن مكان يختبئ فيه». ويتحدث السياسي عاصم أوس، الذي توفي عام 1967، عن تلك الأيام قائلاً: «جاء رئيس وزراء سوريا جميل مردم إلى أنقرة. وأجرى مباحثات حول قضايا هطاي. لو كان السوريون قد اتفقوا مع تركيا في العام الماضي، لكان استقلالهم قد بدأ في وقت مبكر. فالطريق إلى استقلال سوريا يمر عبر أنقرة». وقبل مغادرته إلى سوريا، أدلى جميل مردم بتصريح للصحافيين في محطة قطار أنقرة، قائلاً: «إنني أغادر تركيا وأنا في غاية الامتنان لما لقيته من ترحيب حار وكرم ضيافة. أود أن أعبر عن سعادتي لأننا تمكنا من حل القضايا بين تركيا وسوريا بطريقة تليق بشعبين شقيقين، وأن جميع المشاكل قد تم تجاوزها. كما أنني أؤمن بقوة أن العلاقات بين البلدين ستسير نحو مستقبل مشرق. وأشكر الصحافة التركية على اهتمامها اللطيف».

وتشير التقارير في تلك الفترة، إلى أن تركيا قدمت دعماً عسكرياً للمجموعات التي كانت تكافح من أجل استقلال سوريا ضد الفرنسيين. ومن بين المستفيدين من هذا الدعم كان الشيخ صالح أحمد العلي، أحد قادة الطائفة النصيرية، وسلطان باشا الأطرش، الذي كان من قادة الدروز. وتوجد في الأرشيف العسكري التركي (ATASE) بأنقرة رسالة كان قد أرسلها الشيخ صالح أحمد العلي في عام 1921 إلى مصطفى كمال أتاتورك، يطلب فيها أسلحة للمشاركة في «الجهاد» المشترك ضد الفرنسيين. من جهة أخرى، كان علي سليمان الوحش، جد بشار الأسد، قد انضم إلى صفوف الفرنسيين وقاتل ضد الشعب السوري. (غير حافظ الأسد، في ما بعد، لقب عائلته من «الوحش» إلى «الأسد»).

خلاصة القول؛ تعكس تصريحات جميل مردم التي عبر فيها عن سروره أثناء مغادرته تركيا، رغبة البلدين في حل القضايا بينهما بطريقة ودية. ومع ذلك، فإن الموقف الحازم والقوي لأتاتورك كان هو العنصر الأكثر حسما في هذه العملية. فمن خلال دعمه لكفاح سوريا من أجل الاستقلال ووضوح موقفه بشأن قضية هطاي، أظهر أتاتورك أنه لم يكن يدافع فقط عن مصالح تركيا، بل كان أيضاً يدافع عن نضال الشعوب الأخرى في المنطقة من أجل الحرية. وأثبتت هذه الأحداث أن الطريق إلى استقلال سوريا كان فعلاً يمر عبر أنقرة.

كاتب تركي

القدس العربي

—————————-

عندما يعود الدكتاتور يتيماً/ عبد الحكيم حيدر

19 ديسمبر 2024

هو من الأصل كان يتيماً من الأحبّة الحقيقيين، فصنع من يتماء آخرين جمعاً من اليتماء للحكم. اليتيم كما يأخذ يُعطي أيضاً، والبلاد واسعة، وأصحاب الطلب تحت الطلب في أي وقت، وخيول الحكم جيدة جداً في توصيل الطلب وفي الحرب أيضاً وجلب المنافع، فما بالك بحاكم ملكٍ وعن يمينه عود يطرب؟

تمرّ السنوات عليه وكأنها هكذا قد طابت له تماماً، إلى أن يصير يتيم المحبّة نزقاً وقاتلاً ومجرماً، ويستطيع أن يخلق من صيغ فضلات المعارف والحكم والفلسفات جُملاً مغلقةً لزوم البرود والاستمرار في باقي المهزلة، والناصحون كثر وعلى قارعة الطرق، وأحياناً بلا أجر. حينئذٍ تتقارب الأشياء كلها في كفّ يده، ويصير الكفّ هو مساحة البلد وخزينة البلد وماء البلد وشريان البلد وإعلام وإذاعة وتلفزيون البلد، وكل شيء في البلد قد صار أيضاً في مساحة الكفّ، كفّ محاط بالأسلاك والمخاوف والقوانين والدساتير التي تفصّل من أجله. حينئذٍ، يصبح اتساع الملك حلواً وطرياً، وعلى مقاس صاحبه حتى آخر نفس من الحياة، لولا ما يعكّر على الدكتاتور من طيب طربه، فيصنع الحرب أو يغيّر الدساتير أو الوزارة أو الخليلة أو الزوجة، إن استطاع أو بعض الأسلاك الشائكة حول معسكراته أو سجونه، وإن عجز يأتيه المثقف أو يأتي به. وبالطبع، يكون الممثل موجوداً حتى من غير طلبٍ مع الممثلة والشاعر ومعه قصيدته والملحّن في الأعياد وفي غير الأعياد، وإن احتاج الأمر للسفر خارج البلاد، فالأتباع على ظهر الطائرة مع الكاميرات وأوراق الدشت، حتى إن أخذ معه الخيمة أو النخلة أو الحصان أو البغلة أو صقوره للصيد من بلاد الفرنجة. المهم أن يكون بسيطاً وباسماً وملابسه على آخر صيحةٍ ويفكّ من تكشيرة وجهه، فالتكشيرة لشعبه فقط، وإن استطاع في يومين أن يزيل زبيبة الصلاة فمن الأجمل.

الدكتاتور تُقدّم له الأمنيات بملعقة من ذهب على راحة اليد، واليد وقد صارت قادرة على كل شيء، بناء السجون في أسرع من زراعة الورد أو الريحان أو النخيل أو القمح أو المدارس أو المستشفيات أو مزلقانات السكة الحديد.

الدكتاتور صناعة يضرب فيها كل عارف بسهم، ابتداء من صانع مفاتيح المخازن أو السجون حتى منسّق الحدائق ومدرّب الخيول أو جالب العسل من الجبال وصانع أدوات التعذيب، مروراً بالمايسترو في دار الأوبرا ورؤساء الأندية الرياضية وقارئة الفنجان السيدة حميدة الكعبرية حتى ناقشة الحناء في غرف الفنادق السبع نجوم، ولا تنتهي أبداً بالخدم أو الشماشرجية أو موظفي التشريفات والبروتوكول.

الدكتاتور مسكين جداً، لأنه يحتاج بحقّ إلى هؤلاء كلهم في كلّ لحظاته، خاصة قارئة الفنجان السيدة حميدة الكعبرية، ولا مانع من جلبها حتى من السنغال أو ساحل العاج أو زنجبار، ويعطى لها جواز سفرها في المطار، وإن ماتت في الطريق، فقد وقع أجرُها على الله، وهي من الشهيدات بإذن الله بشهادة الفقهاء على مختلف مذاهب الأئمة.

لا بد أن يتزوّج الدكتاتور فتاة حسناء، ولا بدّ أن تتعلم اللغات في أقل من سنة، ويكون لها “حنطور” بسيط للنزهة، حينما تريد أن تكون بسيطة وغير مطعم بالذهب بالطبع ولا تذهب إلى ملعب الجولف يوم الجمعة احتراماً للمشاعر، وإن كتبت الشعر أو الغزل سراً، فلا بد أن يترجم للغات الحية احتراماً لمشاعرها حتى إن كان بالأشعار نزقاً شبابياً ما، واعتبار ذلك من ترسّبات مرحلة المراهقة التي يعرفها نقّاد الأدب جيداً. لا بد أن تكون للدكتاتور أيضاً خلية عسل نحلٍ يجمع عسلها من الحديقة بنفسه، ولا مانع لو تذوقه وزير خارجية من بلد شقيق أو أجنبي غربي على سبيل الضيافة، هكذا لا بد أن يتباسط الدكتاتور أمام أشعة الشمس والكاميرا والضيوف، حتى إن صدرت منه بعض كلمات الغزل أمام عيون الكاميرا لمذيعةٍ أو مخرجة.

لا بد للدكتاتور من بعض الحكم الشرقية، حتى إن كانت من فم بوذا نفسه، وبعض الجمل التي تؤشّر إلى التبحّر الاقتصادي، كمنتج الحقل أو عائد البيدر. هكذا، فالدكتاتور أيضاً يقرأ ولا يعيش كما يتصوّره الناس داخل حمام سباحة، ولا يغطس يومياً في بركةٍ من العطر كما يُقال، فالرجل يحمل على ظهره عناء سنوات، كي يخرج البلاد من كبوتها، وأحدهم قال أبحرت في دراستها خمسين سنة، فكيف يقترب منها عيّل في يوم وليلة؟ كيف؟

العربي الجديد

——————–

إسقاط تماثيلهم فعلاً سياسياً/ مهيب الرفاعي

19 ديسمبر 2024

عبر التاريخ، استخدم الثوار إزالة تماثيل الحكام والقادة السياسيين أو العسكريين فعلاً سياسياً قوياً للتحدي، يشير إلى رفض الأنظمة القديمة وإعادة تخيّل القيم السياسية والثقافية المجتمعية والهوياتية. تتجاوز هذه الإيماءات الدرامية الفعل ذاته، إذ تقدّم لمحة عن السياسة المتعلقة بالسلطة، والهوية، والتاريخ ومستقبل البلاد. وبالتالي، هي ليست مجرّد فعل مادي؛ بل وسيلة جماعية للتعبير عن رفض الأنظمة الحاكمة، إعادة كتابة التاريخ، أو السعي نحو هوية وطنية جديدة تتناسب مع المرحلة المقبلة.

بالأصل، عند تصميم التماثيل وتنفيذها، هي مجسّمات للتعبير عن شرعية النظام الحاكم وأيديولوجيته. يتم ترسيخ هذه الشرعية عبر مسار تحكم صُوَري بالمشهد العام للمدينة، وجعل التمثال مجسّماً حيّاً في أذهان المواطنين، يمارس رقابة سياسية وامنية عليهم، بحيث تترسّخ سطوة الحاكم وتترسّخ معه فكرة الحاكم المراقب Omniscient Ruler. يتضمّن هذا المسار الصوري توزيعاً مناطقيّاً للتماثيل يتنوع بين مداخل المدن الرئيسية، والساحات العامة، والشوارع الحيوية؛ وصولاً إلى الجامعات والهيئات الإدارية والمؤسسات الحكومية؛ بحيث يشاهده الناس كل حين ويستشعرون وجوده بينهم في رمزية الوجود والتخليد.

وفي مرحلة غليان المجتمع وثورته على الطغمة الحاكمة، أول وجهة هي تمثال الحاكم وصوره المنسوخة على كل حائط وعلى مدخل كل مبنى، لتُرسِل رسالة واضحة أن السلطة لم تعُد مقبولة، وأن الشعب يسعى إلى إعادة تشكيل هويته السياسية والمجتمعية بما يتناسب مع إرادته في التغيير والمبادئ التي وضعها لذلك. في السياقات الثورية؛ ليست التماثيل مجرّد رموز سياسية فحسب؛ بل إنها تشكل جزءاً من هوية السلطة الديكتاتورية التي تلجأ إلى تأليه الفرد القائد وترسّخه بوصفه من الذاكرة الجمعية للشعب والوطن، وربط الوطن باسمه كحالة لفظ “سوريا الأسد” التي صاحبت النظام السوري السابق، وكانت شعار مرحلة اكتظت بالديكتاتورية والحكم الشمولي. يظهر فعل إزالة تماثيل حافظ الأسد وابنه المخلوع بشّار الأسد رغبة في إعادة النظر في السرديات التاريخية السائدة ومواجهة الإقصاء الطائفي والمناطقي الذي مثله النظام السابق في سورية وحاشيته الجماعات. لم يكتف السوريون، منذ مارس/ آذار 2011 حتى ديسمبر/ كانون الأول 2024، بإزالة تماثيل رموز نظام الأسد الوالد والابن؛ بل صاحب هذه المشاهد ما نسميه باللهجة الدمشقية “التجريصة” المرتبطة بفضح مرتكبي أعمال “الخسّة والنذالة”، والتدليل عليهم عبر المنابر وفضحهم في الساحات على أعين الأشهاد. هذه التجريصة التي مُنيت بها تماثيل حافظ الأسد وابنه باستحقاق تام لم تأتِ من فراغ، وأدّت إلى نقاش اجتماعي أوسع بشأن العدالة الاجتماعية والانتقام السياسي مع توديع حقبة من الإقصاء وغلق الفضاءات العامة.

كان إسقاط تماثيل حافظ الأسد وبشّار الأسد تعبيراً عن رفض عقود من القمع والاستبداد. لم يكن هذا الفعل مجرّد تحدٍ للنظام، بل إعلان عن رغبة في تأسيس هوية وطنية جديدة قائمة على الحرية والعدالة؛ وهي لحظة فاصلة تتيح إعادة تقييم التاريخ والسياسات التي مثلتها تلك الرموز. ومع ذلك، يجب أن تُصاحب هذه الأفعال خطواتٌ أعمق تعزّز قيم المصالحة وإعادة البناء. إزالة التماثيل والتجريصة التي لحقت بها عبر جرّ رأس التمثال على الأرض خلف السيارات أو الدرّاجات النارية أداء سياسي مليء بالرمزية والنيات. غالبًا ما يكون هذا العمل لحظة من التنفيس الجماعي، حيث يجمع الغضب والأمل والرغبة في التغيير؛ ويستخدم أداة لتأكيد السلطة الجديدة وإبراز القطيعة مع الماضي، حتى إنها لا يمكن أن تدخل في باب محو التاريخ الأسود ومنع إعادة تأطيره بأي حجّة كانت.

تُعتبر إزالة التماثيل أداة لمحو رموز القمع وتأكيد رؤية سياسية جديدة تتصف بالديمومة، والقوة، والشرعية. بالنسبة للثوار، يمثل تدمير هذه الرموز استعادة للمساحات العامة وإعادة تعريف السرديات الوطنية. مثال على ذلك كان تدمير تمثال صدّام حسين في العراق عام 2003، والذي اعتبر إعلانًا عن نهاية عصر الديكتاتورية وبداية حقبة جديدة في العراق. كان مشهداً أيقونيّاً للتغيير السياسي حينما أسقط العراقيون تمثال صدّام حسين في ساحة الفردوس في بغداد ليعلنوا انتهاء رمزيته وسطوته. في أوكرانيا، وخلال احتجاجات الميدان الأوروبي عام 2014، أزيل أكثر من 1300 تمثال للينين فيما عرف محليّاً وإعلامياً باسم “سقوط لينين”؛ سيما وأن هذه التماثيل مثلت حقبة القمع السوفييتي، وكانت إزالتها إعلانًا عن توجّه أوكرانيا نحو الهوية الأوروبية ونفضها غبار الارتباط بالاتحاد السوفييتي.

في الولايات المتحدة، تصاعدت حركة إزالة تماثيل الكونفدرالية خلال احتجاجات حركة “حياة السود مهمّة Black Lives Matter”. وكان تمثال روبرت إي لي في شارلوتسفيل من التي أزيلت، ما أثار جدلاً واسعاً بشأن الإرث التاريخي والعدالة الاجتماعية في البلاد. وفي جنوب أفريقيا، أثار وجود تمثال سيسيل رودس، وهو أحد مهندسي التوسّع الاستعماري البريطاني في أفريقيا الجنوبية، احتجاجات كبيرة في جامعة كيب تاون، وأطلق الطلاب حركة “رودس يجب أن يسقط”، مسلطين الضوء على إرث حقبة الاستعمار والعنصرية في العالم الذي يعجّ بهذه النداءات المناطقية والعنصرية.

العربي الجديد

————————-

ما يعنيه سقوط الأسد لروسيا/ أحمد قاسم حسين

19 ديسمبر 2024

لطالما شكلت العلاقات الروسية – السورية، التي تعود جذورها إلى أربعينيات القرن الماضي، ركيزة استراتيجية للنفوذ السوفييتي في الشرق الأوسط. في عهد حافظ الأسد، بلغت هذه العلاقة ذروتها، حيث أصبحت سورية الحليف الإقليمي الأهم لموسكو، مستفيدة من الدعمين، العسكري والسياسي، لمواجهة التحديات الإقليمية، خاصة في سياق الصراع العربي – الإسرائيلي. مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، تراجعت العلاقات بين البلدين نتيجة التحولات السياسية والاقتصادية التي عصفت بروسيا. انخفض مستوى التعاون العسكري والاقتصادي، وتفاقمت الأزمات بفعل الديون السورية المتراكمة.

لكن مع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000، شهدت العلاقة تحوّلاً نوعيّاً؛ إذ تبنت موسكو سياسة خارجية تركز على استعادة نفوذها الإقليمي، ما جعل سورية مرّة أخرى شريكاً استراتيجيّاً محوريّاً، أعادت روسيا تزويد سورية بأنظمة دفاع متطوّرة، مثل “بوك” و”بانتسير”، وفعّلت استخدام ميناء طرطوس قاعدة لوجستية للبحرية الروسية، ما عزّز حضورها العسكري في البحر المتوسّط، وأعاد صياغة دورها قوة مؤثرة في المنطقة.

شكّل قرار روسيا في عام 2005، إعادة جدولة نحو 73% من الديون السورية، خطوة بارزة في تطور العلاقات بين البلدين، حيث فتح هذا القرار المجال أمام استثمارات روسية جديدة، أبرزها في قطاعي الطاقة والبنية التحتية. استحوذت شركات مثل “ستروي ترانس غاز” على عقود استراتيجية لتطوير حقول الغاز السورية، ما عزّز التعاون الاقتصادي طويل الأمد بين الطرفين.

كما لعبت موسكو دوراً محوريّاً في دعم النظام السوري، خاصة خلال الفترات الحرجة، مثل أزمة اغتيال رفيق الحريري عام 2005، حيث عارضت التدخلات الغربية التي كانت تهدد استقرار دمشق. كما سعت روسيا إلى توظيف علاقاتها مع سورية لتعزيز مكانتها وسيطا دوليا في قضايا الشرق الأوسط، بما في ذلك الصراع العربي – الإسرائيلي.

ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، ارتقت العلاقات الروسية – السورية إلى مستوى جديد من التحالف الاستراتيجي. تبنّت روسيا منذ البداية نهجًا دبلوماسيّاً للدفاع عن النظام السوري، مستخدمة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن أكثر من 15 مرة لإفشال أي قرارات دولية تدين النظام، أو تفرض عليه عقوبات. كما دعمت موسكو الرواية الرسمية للنظام التي وصفت المعارضة بأنها تنظيمات إرهابية مدعومة خارجيّاً، ما هيّأ المبرّر للتدخل الروسي.

في سبتمبر/ أيلول 2015، اتخذت روسيا خطوة مفصلية بالتدخل العسكري المباشر، حيث أطلقت حملة جوية واسعة لدعم الجيش السوري، مستهدفة المعارضة السورية المسلحة والجماعات المسلحة الأخرى، ومنها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ما أدّى إلى سقوط عدد كبير من المدنيين السوريين في القصف الروسي. وقد ترافق هذا التدخّل مع تعزيز وجودها العسكري، عبر إنشاء قاعدة جوية في حميميم وتوسيع العمليات البحرية من ميناء طرطوس، ما عزّز نفوذها العسكري في المنطقة.

ومع تعمّق الأزمة السورية، قادت روسيا، مستغلة نفوذها المتنامي في سورية، عدة مسارات سياسية، بهدف تحقيق تسوية للأزمة، من أبرزها إطلاق مسار أستانة بالتعاون مع إيران وتركيا عام 2017، الذي ركز على وقف إطلاق النار وإنشاء مناطق “خفض التصعيد”، ما ساعد النظام السوري على استعادة السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، بفضل هذا الدعم الروسي. وهو ما قاد إلى تغير ديموغرافي في سورية نتيجة تهجير سكان عدة محافظات سورية إلى محافظة إدلب. وفي عام 2018، نظمت موسكو مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري، الذي انتهى إلى تشكيل اللجنة الدستورية بالتنسيق مع الأمم المتحدة، رغم أن عمل اللجنة تعثر نتيجة الخلافات بين الأطراف السورية.

رغم نجاحها في تعزيز نفوذها في سورية، إلا أن روسيا واجهت تحدّيات كبيرة، أبرزها تضارب مصالحها مع كل من تركيا وإيران، واستمرار الأزمة السورية التي لم تنجح موسكو، سواء عبر استخدام القوة العسكرية أو الأدوات الدبلوماسية، في التوصل إلى تسوية لها. كما أن العقوبات الغربية والأميركية (قانون قيصر) المفروضة على النظام السوري أثرت على جهود إعادة الإعمار التي تطمح روسيا للاستفادة منها اقتصاديّاً. ومع ذلك، استغلت موسكو الأزمة السورية منصّة لإعادة تأكيد مكانتها في السياسة الدولية.

وبعد انهيار نظام بشار الأسد، من المرحّج أن تتغير المعادلة جذريّاً، ليس فقط في العلاقات الروسية – السورية، بل أيضاً في موقع روسيا داخل النظام الدولي. قد تجد موسكو، التي استخدمت تدخّلها في سورية منذ عام 2015 لإبراز قدرتها على التأثير في الصراعات الإقليمية وحماية حلفائها، نفسها تواجه خسارة كبيرة لنفوذها في الشرق الأوسط، وهو ما يعتبر من الركائز الأساسية لدورها قوة كبرى ومشروعها لتشكيل نظام دولي متعدّد الأقطاب.

سيؤدّي فقدان سورية حليفاً استراتيجياً إلى تراجع موقع روسيا دوليّاً، خاصة في ظل استنزاف مواردها بسبب الحرب في أوكرانيا والضغوط الاقتصادية الناتجة من العقوبات الغربية. وهو ما يهدّد قدرة موسكو على الحفاظ على تحالفاتها الإقليمية مع دول مثل إيران والصين، ويدفع بعض الدول إلى إعادة تقييم شراكاتها الاستراتيجية مع موسكو. كما من المتوقع أن تتضرر المصالح الروسية طويلة الأمد في قطاعات الطاقة والبنية التحتية، مما يزيد من التحديات الاقتصادية التي تواجهها داخليًا. إضافة إلى ذلك، سيؤثر هذا التراجع على الطموحات الروسية لإعادة تشكيل النظام الدولي. إذ سيُضعف قدرتها على تقديم نفسها بديلاً للنظام القائم على الهيمنة الغربية، بينما ستتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من تعزيز وجودهم في الشرق الأوسط وإعادة صياغة التوازنات الإقليمية من دون وجود منافسة روسية فعّالة. بناءً على ذلك، قد تؤدّي خسارة سورية إلى تراجع دور روسيا من قوة عالمية ذات تأثير واسع إلى قوة إقليمية محدودة التأثير، ما يعمّق أزماتها الداخلية والخارجية ويقلل من قدرتها على مواجهة الضغوط الغربية.

العربي الجديد

—————————–

الأسد “دكتور جيكل” في صورة عائلية/ زياد بركات

19 ديسمبر 2024

تعود الصورة إلى عام 2022، وخلال زيارة الرئيس المخلوع إلى حلب، يتوسّط فيها زوجته وابنته الوحيدة زين، بينما يظهر نجلاه حافظ وكريم إلى يسار عقيلته. يرتدي بشّار الأسد بدلة سوداء بدون ربطة عنق، بينما تظهر الزوجة والأبناء بملابس عادية، وإنْ كانت فاخرة بعض الشيء.

تظهر أسماء في مركز الصورة: امرأة جميلة، طويلة القامة، ترتدي بنطالاً، وتضع يدها في جيبه، بينما تشير بإصبعها كأنها تشرح شيئاً. الأنظار، بل الانتباه للدقة، يتّجه إليها، وخاصة عيون النجليْن، بينما يبدو من كان رئيساً في حالة إصغاء.

تبدو أسماء متسيّدة، إن لم نقل مسيطرة أو مستبدة. ورغم ذلك، تقدّم الصورة لك عائلة ثرية، منسجمة مع طبقتها، حيث يتراجع الرجل أمام العامّة لصالح المرأة، ويلتفّ الأبناء حول الأبوين مع انحيازٍ لا يخفى إلى جانب الأم، بملابس تليق بجولةٍ على الأقدام، وبتواضعٍ يجهدُ الأب لإظهاره، وهو ما لا تفعله الزوجة التي تطلّ غطرسة الطبقة برأسها في مشيتها وحركة يديْها، حيث ثمة يد في جيب البنطال في دلالة على السيطرة التامة. لكنها ليست مجرّد عائلة صغيرة، ثرية، أنيقة، تزور معلماً تاريخياً، بل الأسرة الحاكمة أكثر من عقدين، في بلد نُكب، وفي مدينة دُمّرت، وفقد الحاكم الشاب الذي يبدو معاصراً بتطرّف، وودوداً على نحو غامض، سيطرته على نحو ثُلث المدينة التي كان يزورها.

نحن هنا أمام “بوتيك” أزياء، بسيطة وأنيقة ومن ماركات عالمية، و”البوتيك” كلمة تعني متجر ملابس، وأظنّها شاعت في سبعينيات القرن الماضي التي شهدت صعود ضابطٍ، لا يبتسم إلا ساخراً، إلى الحكم في بلاده، وحدث أنه أنجب عدة أبناء، كان من بينهم الرجل الذي يتوسّط ابنته وزوجته في الصورة.

لسوزان سونتاغ، وهي روائية أميركية وسينمائية، كتاب عن الصور الفوتوغرافية، حيث عليك أن تحدّق في الصورة جيداً لتسبر لاوعيها، فالصور مثل الكلمات تمتلك لاوعياً قد يكون شائكاً وشقياً، ووحشياً ومخاتلاً، وهو ما ينطبق على صورة الأسد وعائلته الصغيرة. … لكنك إذا دقّقتَ، ستتساءل لمَ يكون شارع في مدينة كبيرة مثل حلب فارغاً؟ ولن تحتاج وقتاً طويلاً لتعرف أنها في حالة حرب، فعلى يمين ابنة من كان رئيساً مبنى تعرّض للقصف، وفي الخلفية. هناك في البعيد… مبنى آخر تعرّضت أطرافه للتدمير، ما يفسّر خلو الشارع الذي أُفرغ من المارّة، والرجل الذي في الخلف رجل أمن يقوم بتأمين جولة السيّاح الذين جاؤوا من دمشق لالتقاط الصور التي تقول بخشونة إننا هنا ولم نُهزم. … لذلك علينا أن نتطابق مع صورة أخرى يراها القوم خلف البحار، للعائلة المعاصرة المتآلفة، السعيدة التي يمكنك أن تصادفها في الأحياء الفاخرة وفي الفنادق والمتاجر التي تعمل فيها نسوةٌ جميلاتٌ يتحدثن من أطراف أنوفهن. … علينا أن نتطابق مع صورة “الدكتور جيكل”.

كتب الروائي روبرت لويس ستيفنسون روايته القصيرة (نوفيلا) “دكتور جيكل ومستر هايد” عام 1886. فعل ذلك قبل فتوحات فرويد الباهرة في التحليل النفسي، وعن المستويات الثلاثة التي يتحرّك فيها وعي الإنسان. ليس ثمّة ثلاثة مستويات لدى ستيفنسون، بل هناك “شخصان” على الأقل في داخله، منفصلان، على طرفي نقيض، هما الطبيب مفرط الطيبة “الدكتور جيكل” والشرير، مطلق الشر، “مستر هايد”، وبينما يكون الأول طويل القامة عفيّ الجسم مثل الرجل الذي تركناه في الصورة مع عائلته، فإن الآخر قزم، بشع، شرّير في الحدود القصوى، وهو بالمناسبة “آخر” بشّار الأسد أيضاً.

لم يكن ستيفنسون محللاً نفسياً، بل كاتباً كبيراً حدّق طويلاً في عتمة الإنسان، ولم يقتصر اكتشافه على أن في الإنسان كائنيْن اثنيْن، بل كان هذا ما قدّمه فقط، مع إشارة ذكية، أن الإنسان سيُعرّف لاحقاً باعتباره “مجرّد هيكل يقطنه سكّان متنوّعون ومتنافرون ومستقلون”.

كثيرون كانوا يتصارعون في داخل السيدة أسماء التي تُتقن عدة لغات أجنبية ووُلدت في لندن، وإلا فما الذي يجعل سيدةً تبدو على هذه الرقّة تختزن كل هذا الشر والرغبة في إفناء الآخرين. وإذا كان هذا شأنها فالوضع أكثر تعقيداً في حالة زوجها، الذي وجد نفسه، بالمصادفة، رئيس شعبٍ عريقٍ، فما كان منه إلا أن أخرج مسدّسه وبدأ بإطلاق النار.

الصورة أعلاه تقول ذلك لو تمعّنت فيها.

العربي الجديد

—————————

فضيلة بشار الأسد اليتيمة والمحروقة الوالدين/ أحمد عمر

19 ديسمبر 2024

أعذر جميع المكوّعين الأفاضل والأماجد، حتى الذين ركعوا للنظام مثل زوج حسناء الشاشة السورية، الذي قال ردّاً على شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”: مال بعضهم ميلان الماء في مجراه، وكتب بعض الشجعان: لتكن الجمعة المقبلة جمعة الحياة المدنية. هذا كسر قد يتسبب بحوادث مهلكة على الطريق الدولي. وخرج من يقول مازحاً: لتكن جمعة إسقاط النظام، الذي لم يولد بعد. مات الملك عاش الملك.

منذ سقوط الطاغية الذي “لا تستطيع الملائكة إسقاطه” كما قال شريف شحادة يوماً، وأنا لا أصدّق حتى الآن سقوطه، وأنا أقول لأهلي وأصحابي وخلاني: اقرصوني، اطعنوني بالسكاكين، احرقوني بالجمر، حتى أصدّق أني في علم ولست في حلم.

تابعت بعضاً من إعلاميي المقاومة والممانعة، وهم يحثّون مواليهم وأشياعهم على الصبر، قائلين: حلب لم تسقط، إنما هو كمين، وتموضع، وحماة ستكون لهم “بالمرصادِ”، ثم قالوا: حمص عاصمة الموالين الأقوياء، ثم قالوا الشام، ثم علا هتاف الله أكبر: أعطينا مفاتيح الشام، وهرب “فشار” الأسد، الذي انتصر على 83 دولة، وانهزم أمام مقاتلين على درّاجات نارية، ترعرعوا في الخيام، فألقى سحرة الكلام عصيّهم وأقلامهم، وهم يحاولون تبرير ما وقع من هزائم، يندى لها أخمص قدم الإنسانية، ويشهدون فرار قائدهم صاحب الرقبة السحرية، بطل محور المقاومة والممانعة، فوجدوا له فضيلة وحيدة بعد ضرب الأخماس بالأسداس بالخلاط، وهي أنه تنحّى عن الحكم خوفاً من أنهار الدماء، لقد ظهر لهم أن قائدهم رؤوف رحيم بالإرهابيين والتكفيريين وخجولٌ وزاهدٌ في السلطة!

وقالوا: يكفيه فخراً أنه لم يطبع مع الصهاينة! لن نذكر حلفه مع إيران وانتظامه في محور المقاومة، سنذكر ضرب إسرائيل كل أسلحته وعتاده حال فراره، حتى لا تقع في أيدي الأعداء.

لم تُفتح دمشق إلا بعد 13 سنة من الدماء، أو بعد 44 سنة من الدماء، وما الـ11 يوماً التي هزّت العالم إلا قصّ شريط النظام الحريري، وبذلت فيها دماء، وصاحب الرقبة، أطال الله عمره، لم يعلن التنحّي، وكل الشهادات القريبة تقول إنه هرب، بل لاذ بالفرار، بل ولّى الأدبار، ولّى يوم الزحف من غير كلمة وداع، وأخذ معه كل المتاع، ونسي صوره الشخصية بالثياب الداخلية، فسقط في أيدي مناصريه وعبيده، وذُهلوا من خيانته. ولم يكونوا يريدون سوى كلمة مواساة، كأن يقول: فكّة كعب وأعود، أو أنا ذاهب إلى السرداب، أو أني فعلتُ ما في وسعي، أو أني سأموتُ على تراب سورية، كما قال حسني مبارك في مصر، أو يقول مثل معمّر القذافي: زنقة زنقة، بل لم يبلغ منزلة زين العابدين، الذي لجأ إلى بلاد الحرميْن… لقد ولّى المعفن إلى بلاد الصقالبة.

ولّى الأدبار من غير كلمة، لو قال سأموت دفاعاً عن مُلكي، أو عن وطني، أو عن ميراث أبي، أو عن قبر أبي، الذي تحوّل إلى مبولة غير عامة، لو قال: سأموت كما مات آلاف “الشهداء” من أتباعي، لكنه فرّ كالدجاجة، على طائرةٍ غير زلاجة.

شكراً لك، يا بشّار، فهذه نهاية لا يمكن إعادة إنتاجها، لا يمكن عمل جزء ثان لها كما في الأفلام الناجحة، التي تغري المنتج بإحياء الموتى وعمل جزء ثان لأسباب ربحية تجارية، وقد أعلن عن جزء ثان لفيلم “حرارة”، سيبعث فيه روبرت دينيرو على الأغلب حيّاً. ويمكن ذكر أعمال فنية عربية، مثل عودة حلاق باب الحارة إلى الحياة من الموت، الأحد عشري، الأبد لن يكون له جزء ثان.

من طباع الشعوب الحنين إلى الماضي، لكن السوريين لن يحنّوا إلى عهد الأسديْن، لن يقولوا: ولا يوم من أيامك يا حافظ أو يا بشار، فمهما بلغ النظام القادم من السوء، لن يبلغ عتبة الدناءة والحقارة والسفالة التي بلغ بها آل الأسد منها النهاية والغاية، وإنَّ للفار فضيلة، لا تبلغ شأو فضيلة فرعون، الذي قال عند غرقه: آمنتُ بربّ موسى وهارون. لصاحب المكبس والمقابر الجماعية بشار “الأسيد”، فضيلة وحيدة، أنه هرب من غير تكويع أو انعطاف “ون وي تيكيت”، وسيموت على ما عاش عليه.

… لقد صدّق نفسه، وما بدّل تبديلا.

العربي الجديد

—————————–

هل تكون سورية الجديدة استثناءً؟/ خليل ساكير

18 ديسمبر 2024

كان السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأوّل، ذكرى انطلاق أحداث الثورة التونسية عام 2011، ولهذا تغمرنا الفرحة اليوم بتحرّر سورية وهروب طاغيتها. ومع ذلك، يأتي التساؤل عما ينتظر سورية بعد الثورة وسط دروس الربيع العربي وتجاربه.

من الواضح أنّ سقوط نظام الأسد، وإن طال، كان أمرًا شبه محسوم منذ اللحظة الأولى التي فقد فيها شرعيته باستخدام الرصاص الحي ضدّ شعبه. استمرار هذا النظام لم يكن إلا بفعل الدعم الخارجي، ما جعله استثناءً مؤقتًا، إذ إنّ مصيره لم يختلف عن بقية أنظمة الربيع العربي التي سقطت. لكن إذا أمعنّا النظر في تجارب ما بعد الثورات العربية، نجد أنّ الاقتتال الداخلي والانقسام والثورات المضادة كانت قواسم مشتركة لكلّ الأنظمة التي أعقبت إسقاط الطغاة، والسؤال هنا: هل ستكون سورية استثناءً؟

القوى الداعمة للثورات المضادة، أو ما يُعرف بفريق الثورات المضادة، لن تدّخر جهدًا في محاولة اختراق المجتمع السوري وعرقلة مشروع الثورة، سواء عبر الطرق العسكرية أو السياسية. هذه القوى تسعى لتقويض أيّ حالة استقرار قد تنشأ في سورية، وذلك من خلال استغلال الانقسامات الداخلية ومحاولة فرض أجنداتها لتحقيق مصالحها. ولذا، يصبح من الضروري التصدّي بحزم لأيّ تدخل خارجي وتجريم أيّ فعل يُمهّد لاختراق هذه القوى للنسيج الوطني السوري، بما في ذلك الأنشطة التي تهدف إلى زرع التفرقة أو زعزعة الأمن والاستقرار.

في هذا السياق، تتقاطع مصالح إسرائيل مباشرةً مع مصالح فريق الثورات المضادة. إسرائيل، التي طالما استفادت من ضعف النظام السوري السابق، لن تقبل بوجود سورية قويّة ومستقرّة قادرة على حمايةِ مصالحها وسيادتها، بل ستعمل جاهدة لضمان بقاء سورية مكشوفة عسكريًا، ومخترقة أمنيًا، على الأصعدة كافة، تمامًا كما كان الحال في عهد نظام الأسد. هذا التوجّه ينسجم مع الأجندة الإسرائيلية التي تهدف إلى تحويل سورية إلى دولةٍ ضعيفة أو شبه فاشلة، ما يعزّز هيمنتها الإقليمية ويضمن استمرار حالة الفوضى داخل سورية لتفادي أيّ تهديدٍ مستقبلي مُحتمل على حدودها أو مصالحها الاستراتيجية.

على الجانب الآخر، تلعب تركيا دورًا محوريًا في الملف السوري، وتتمثّل مصلحتها الأساسية في الحفاظ على سورية موحّدة ومستقرة، تفاديًا لأي فوضى قد تمتدّ إلى أراضيها. من هذا المنطلق، ينبغي أن تعتمد تركيا نهجًا بنّاءً قائمًا على الحوار مع القيادات الكردية في شمال شرق سورية، بدلًا من اللجوء إلى التهديدات أو التصعيد الذي لا يؤدي إلا إلى تعقيد طاولة المفاوضات وخلق المزيد من التوتّرات التي تفاقم الوضع بدلًا من حلّه. تحقيق علاقة إيجابية مع الأطراف الكردية يمكن أن يساهم في تعزيز الاستقرار ويُجنّب المنطقة المزيد من الفوضى.

على الصعيد المحلي، تلقى السوريون إشارات إيجابية تعكس وجود نيّة حقيقيّة لتحقيق توافق داخلي. القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، وجّه طمأنات واضحة للأكراد، وهي خطوة قوبلت بردٍ إيجابي من رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود برزاني. هذا التفاعل الإيجابي يُظهر نضجًا سياسيًا وإرادة صادقة لبناء أرضية مشتركة تُجنّب البلاد المزيد من الصراعات. مثل هذه الخطوات البناءة تعدّ ضرورية لتعزيز الوحدة الوطنية وفتح آفاق لحوار شامل يضمن استقرار سورية على المدى الطويل.

إنّ خطوات الإدارة الجديدة، مثل تشكيل حكومة انتقالية مؤقتة لغاية شهر مارس/ آذار والتنظيف التدريجي للمناصب الوزارية والسيادية من رموز النظام السابق، تُعدّ خطوات حكيمة. إضافة إلى ذلك، إنّ تقديم لوائح بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة يشير إلى نيّة واضحة لبناء نظام جديد قائم على العدالة والمساواة. كذلك، من المهم الإسراع بصياغة دستور جديد يُنجز في غضون ثلاثة أشهر في حدٍّ أقصى، مع تجنّب الدخول في متاهات وتفاصيل صغيرة تؤدي إلى ارتباك أو خلق حالة من الفوضى.

الشعب السوري منهك اقتصاديًا، وملّ من الانتظار. لذلك، يجب أن تكون أولويات الحكومة الانتقالية معالجة الأوضاع المعيشية فورًا. تحسين الاقتصاد وإطلاق برامج تنموية عاجلة يُعدّان أساسًا لبناء الثقة بين الشعب والإدارة الجديدة.

تقف سورية الآن على مفترق طرق حاسم، حيث تتشابك التحديات مع الفرص. أبناؤها وحدهم، بوحدتهم ووعيهم، قادرون على رسم ملامح الغد الأفضل.

العربي الجديد

———————————

الولايات المتحدة وسورية… “عصا وجزرة” في انتظار قيادة دائمة

19 ديسمبر 2024

هناك إجماع في الولايات المتحدة، داخل أوساط القرار الرسمي، لاسيما في محيط الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، وكذلك في أوساط النخب البحثية والإعلام، على أن علاقات الولايات المتحدة وسورية محكومة بعوامل عدة بعد سقوط نظام الأسد، وأن سقوط هذا النظام في سورية يمثّل فرصةً لمرحلة أكثر استقراراً في الشرق الأوسط، وينهي مرحلة “الجمود” (Stalemate State) لإبقاء هذا النظام قائماً مع “إضعافه” إلى الحد الأقصى، التي هندسها باراك أوباما، وبقيت صامدة في عهدي دونالد ترامب وبايدن. ويساهم في هذا الاعتقاد، أن إسقاط النظام من قبل فصائل المعارضة السورية المرتبطة خصوصاً بهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، جاء متزامناً مع مرحلة إضعاف غير مسبوقة لإيران و”وكلائها” في المنطقة، في وقت تعتقد إسرائيل، الحليفة الأساسية للولايات المتحدة في المنطقة، أنها حقّقت عدداً من الأهداف الاستراتيجية من السياسة العدوانية التي انتهجتها في المنطقة منذ بدء حرب غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

هذا المشهد المتغيّر، ربما ينظر إليه أميركياً على أنه “مثالي” لتغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، وحصل بـ”صفر” خسارات للقوات الأميركية، وأعاد ترتيب المنطقة بشكل يُلائم أهداف الهيمنة الأميركية السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط. رغم ذلك، تشير ذات التوقعات إلى أن المرحلة المقبلة لن تكون سلسة إلى هذا الحدّ، فيما سياسة “العصا والجزرة” التي قد تنتهجها الإدارتان الأميركيتان، المنتهية ولايتها والمقبلة برئاسة ترامب، تجاه “تحرير الشام” وزعيمها أحمد الشرع (المعروف بأبو محمد الجولاني)، والمصنفة إرهابية على اللوائح الأميركية، قد لا يمكن تحقيقها مع تنظيم “داعش” الذي لا يزال خطره ماثلاً في سورية، وحتى مع تركيا، التي يُنظر إليها على أنها المستفيد الأول من التغيير السوري.

الولايات المتحدة وسورية الجديدة: اتصالات أولى

وأكدت إدارة بايدن أنها أجرت أول اتصالاتها المباشرة مع “تحرير الشام”، التي من جهتها تصبّ كل تصريحاتها منذ دخولها دمشق في 8 ديسمبر/كانون الأول الحالي، في محاولة الحصول على شرعية من المجتمع الدولي. وجاء التواصل الغربي مع “تحرير الشام” سريعاً نسبياً، ومع تنظيم ظلّ لوقت طويل مرتبطاً بـ”القاعدة”، الذي شنّت عليه الولايات المتحدة أطول حروبها في أفغانستان. ومع بدايات التواصل، أكدت إدارة بايدن أنها ستحتكم لما تراه من أفعال “الهيئة”، لتحديد مسار التعامل معها، حيث حدّدت مجموعة من العناصر هي عبارة عن خريطة طريق لما تريده من “انتقال سلمي” للسلطة في سورية، وصولاً لقيادة “شاملة” لا تستثني أياً من مكونات البلاد، مع الحفاظ على حقوق الأقليات. ويتلاءم ذلك مع ما يُطرح في الكونغرس الأميركي عن إمكانية رفع تدريجي للعقوبات عن سورية وعن “تحرير الشام”، بالتوازي مع التقدم السياسي نحو “الحلّ الشامل” الذي ستبديه هذه المجموعة على الأرض. ويعتبر ذلك عادلاً كفاية من وجهة نظر أميركية، في وقت لا تريد واشنطن تفويت فرصة حصد المكاسب من الإنجاز السوري، الذي سارعت إدارة بايدن في نسبه إليها، بعد مسار طويل في خنق نظام الأسد، بحسب ما أكده المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، في 9 ديسمبر. وعزا منسق الاتصالات في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، في اليوم التالي، الإنجاز السوري، إلى “السياسة الخارجية الحازمة للرئيس بايدن”.

وكانت الولايات المتحدة، وحليفتها إسرائيل، قد استخدمتا “العصا الغليظة” في الحرب الدائرة على غزة وفي حرب لبنان ضد حزب الله وفي ملاحقة قياديي الحرس الثوري في إيران، منذ 7 أكتوبر 2023، في حرب اعتبرتها دولة الاحتلال وجودية بالنسبة إليها، وقال عنها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، أنها ستبّدل شكل الشرق الأوسط. ومع سقوط الأسد، اتخذت إسرائيل خطوات عدوانية تجاه سورية، مع استمرار التوغل في الجولان السوري، وضرب القدرات العسكرية السورية، في وقت تتحضّر كما يبدو القوات الروسية لمغادرة سورية، وهو أحد الإنجازات الكبيرة للحرب وسقوط النظام، التي يمكن أن تعتد بها الإدارة الأميركية المنتهية ولايتها، وترسم بشكل أفضل مستقبل علاقات الولايات المتحدة وسورية بعد انتهاء مرحلة النفوذ الروسي.

وتحمل علاقات الولايات المتحدة وسورية بعد سقوط نظام الأسد، بالنسبة لواشنطن، 4 عناوين رئيسية، وأخرى متفرعة، مرتبطة بمستقبل العلاقة الأميركية مع الأكراد في سورية، وتهدئة مخاوف الدول العربية، من “الموجة الإسلامية” الناشئة في سورية بموقع قيادي. وتشمل العناوين الرئيسية كيفية التعامل مع “تحرير الشام” وإمكانية رفعها عن لائحة الإرهاب، بعدما أصبحت القائدة بحكم الأمر الواقع (دي فاكتو) للمشهد السوري الانتقالي، ومستقبل المعارضات العسكرية الأخرى، الأقل تشدداً، وكذلك الانخراط في مرحلة التحضير للمشهد السوري المقبل، وعدم تسليمه بالكامل لتركيا، ومواصلة العمل لعدم استغلال تنظيم “داعش” لأي فراغ في سورية، لملئه، بالإضافة أخيراً إلى لجم الاندفاعة التركية لتعزيز النفوذ في المنطقة.

وحتى اللحظة، تؤكد الولايات المتحدة أنها لم تلعب أي دور مباشر في الأحداث التي أدت إلى تقدم قوات “تحرير الشام” في سورية وصولاً إلى دمشق، لكنها ساهمت في بناء الحدث السوري بعد أكثر من عقد، عبر عقوباتها على النظام ودعمها المتواصل للمعارضة السورية. وأكد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، يوم الاثنين الماضي، أن تركيا هي “الطرف الفائز” في سورية بعد إسقاط الأسد، معتبراً أن أنقرة سيكون معها “مفتاح الأحداث” في هذا البلد. وقال ترامب للصحافيين في فلوريدا: “لا أحد يعرف النتيجة النهائية في سورية، ولا من هو الطرف الفائز، لكني أعتقد أنه تركيا. أنقرة سيكون معها المفتاح للأحداث” بسورية. وأضاف: “تركيا استولت على سورية بطريقة غير ودية دون سقوط الكثير من الأرواح”، مشيراً إلى أن سورية “فيها الكثير من الأمور التي لا تزال غير واضحة”. كما اعتبر أن تركيا “ذكية جدا” ورئيسها رجب طيب أردوغان “رجل ذكي جداً وقوي للغاية وأتفق معه جيدا ولقد بنى جيشاً قوياً للغاية”.

“تحرير الشام” و”داعش” و”قسد”

وكان ترامب خلال ولايته الأولى (2017 – 2021)، أبدى رغبة في سحب القوات الأميركية من سورية، والبالغ عددها حالياً 900 عسكري، وتعمل في إطار التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، وتنشط في شرق سورية، حيث تتعاون عسكرياً مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الكردية في هذا الإطار. وأصبح مستقبل سيطرة “قسد” على منطقة شرق الفرات الغنية بالثروات في سورية بعد الثورة السورية (2011)، اليوم، محفوفاً بالغموض، إذ تؤكد أنقرة كلّ يوم منذ سقوط النظام، أنه لن يكون هناك مكان في كل سورية للتنظيمات “الإرهابية” في إشارة إلى القوى الكردية التي تتهمها أنقرة بأنها فرع من حزب العمّال الكردستاني، المصنف إرهابياً في تركيا.

وهذا الأمر يبدو أنه محلّ نقاش مستفيض بين واشنطن وأنقرة، وهو ما أكده كيربي أول من أمس، بقوله إن الولايات المتحدة “تجري مباحثات مع الأتراك على مستويات مختلفة ونتفهم مخاوفهم بشأن التهديد الإرهابي على حدودهم”، في وقت يبدو أن تركيا تتحضر عبر فصائل المعارضة لشنّ هجوم على مدينة عين العرب (كوباني) ذات الأغلبية الكردية في شمال غرب سورية، والذي قد يمهّد الطريق أمام تقدم فصائل المعارضة إلى الحسكة والرقة. وأكد القائد العسكري لـ”تحرير الشام”، مرهف أبو قصرة، المعروف بأبو حسن الحموي، أول من أمس الثلاثاء، من جهته، أن مناطق سيطرة “قسد” التي يقودها الأكراد “ستُضمّ” إلى الإدارة الجديدة لسورية، مشدّداً على رفض وجود أي فيدرالية (أكد أيضاً أن “تحرير الشام” ستكون الأولى التي ستحلّ نفسها للاندماج بجيش موحد في البلاد)، كما تتسمك التصريحات التركية الرسمية بـ”سورية موحدة”.

ويأتي التعامل الأميركي مع “تحرير الشام” في سورية، كإحدى مسائل مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وسورية الأكثر تعقيداً، خصوصاً إذا ما التزمت الهيئة بعملية انتقال سياسي “شفّاف” قد يضعها في صدارة القوى الشعبية في سورية، بعد أي انتخابات تشريعية محتملة. ومن منظور علاقات الولايات المتحدة وسورية المستقبلية، تبدو واشنطن مهتمة بتمثيل شامل لقوى المعارضة، وهي قد ترغب حقيقة في رؤية “المعارضة العلمانية” في السلطة، وأن يكون لها دور في صياغة دستور سورية الجديد، خصوصاً أن أسماء كثيرة داخل هذه المعارضات ترتبط بعلاقات قوية في واشنطن وعواصم القرار الغربية، وفي الدول العربية المعتدلة، كما أن واشنطن تفضل انتهاء فصل من التعامل مع “الهيئة” بشكل حصري، لما يفرضه ذلك من ازدواجية في المعايير السياسية، قد تضّر بصورة واشنطن. ولذلك تتعامل الولايات المتحدة مع الحدث السوري، بحذر، وبصيغة أن “أي شيء لم ينته بعد”، وهو ما ردّد صداه أول من أمس، المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون، فيما دعا مجلس الأمن، الثلاثاء، إلى تنفيذ عملية سياسية جامعة في سورية تلبي تطلعات الشعب السوري بناء على المبادئ الأساسية المنصوص عليها في قرار المجلس رقم 2254 الخاص في سورية، في وقت لمّح الشرع أخيراً إلى أن هذا القرار يحتاج إلى تعديل.

ويبرز التساؤل لدى الحديث عن مستقبل علاقات الولايات المتحدة وسورية الجديدة، مرتبط بمدى الرغبة الأميركية الحقيقية برؤية سورية “موحدة”، إذ تعاقبت الإدارات الثلاث التي عاصرت الثورة السورية، على استخدام كل الطرق لإبقاء سورية مقسّمة، مع إضعاف الأسد وتشديد الخناق السياسي والاقتصادي عليه في مناطق سيطرته.

وكان ترامب وصف خلال ولايته الأولى سورية بـ”دولة جثّة” و”أرض الرمال والدماء”، وتسعى إدارة بايدن إلى إحيائها قبل تنصيب ترامب في محاولة للضغط من أجل بقاء القوات الأميركية في سورية. ورأى تقرير لموقع “فورين بوليسي إن فوكوس” الأميركي، نشر أول من أمس، أن الولايات المتحدة ورغم تصنيفها “تحرير الشام” إرهابية، لطالما وجدت في هذا التنظيم “مكسباً” لإبقاء سورية مفككة. ولفت إلى أنه بينما كان أوباما هندس سياسة “الجمود” طويلة الأمد في سورية، وهو ما أكمله ترامب، فإن إدارة بايدن لم تفصح طوال أربع سنوات عن نياتها بشأن سورية، رغم حفاظها على الوضع القائم، ومقاومتها محاولات دول غربية الضغط لاستعادة الحوار مع الأسد.

وبحسب صحيفة نيويورك تايمز، في تقرير لها بـ8 ديسمبر، فإن أولى الرسائل التي أرسلت من واشنطن عبر أنقرة إلى “تحرير الشام”، هي تحذير من مغبة التعامل مع “داعش”. ورأى موقع “ذا كونفرزايشون” الأميركي، في تقرير نشر بـ12 ديسمبر، أن دور واشنطن في سورية “غير واضح” بعد سقوط الأسد، وأنه بالنسبة لعلاقة الولايات المتحدة وسورية مستقبلاً، فإن واشنطن لم تخرج بـ”خلاصات جازمة” حول ما إذا التغيير سيكون جيداً لها، وفق جوردان تاما، الخبير في السياسة الخارجية الأميركية في الجامعة الأميركية بنيويورك. ويعتمد بذلك برأيه حول شكل القيادة المقبلة في دمشق، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة في عهد ترامب ستقلّل انخراطها في سورية، فقط لدرجة ألا تؤثر الأحداث على الأمن القومي الأميركي وأمن الحلفاء.

العربي الجديد

————————–

 التماثيل تموت أيضاً/ أحمد زين الدين

الخميس 2024/12/19

تتغيّر في سوريا اليوم المشهديات المألوفة التي تربّت عليها أجيال من الشباب السوري، الذين عاشوا حقبة سوداء من حكم الحزب الواحد، الذي لم تعد آلياته وطرائقه مقبولة، أو لم تعد قائمة عملياً، إلا في كوريا الشمالية وأشباهها، من الدول التي لا تزال خارج مدار الزمن. 

انقلاب المشهد في سوريا مما كان عليه، إلى مشهد نقيض، يستدعي حتماً انقلاباً في اللغة، والمعايير السياسية، و تبدلاً في خريطة التحالفات بين الأطراف المنخرطة في الميدان. ولا غرابة أن يصرّ البعض ممن  هُزموا على التشبث، بما كانوا عليه من رموز وأفكار، دلالة على نكرانهم، لما استجدّ، ولما خالف منطقهم، ونظرتهم التي اعتادوا حسبانها من بديهيات الأمور وطبائع الأحداث. لحظة الخيبة هذه تجعلهم أمام مفترق طريق بين الماضي المنتهك، والمستقبل الضبابي، والحاضر المتسارع الإيقاع.

مشهد نصف قرن من التعسّف، وكمّ الأفواه المعارضة لخطّ الحكم المتفرّد والمتسلّط. نصف قرن من الغربة داخل السجون المعتمة، التي كان لها زمنها وطقوسها الدموية، وكان لها لغتها الخاصة، ومفرداتها المبتكرة التي تتداولها ألسنة المعتقلين الممتحنين عذاباً وقهراً. مفردات هي حصيلة التجربة المريرة في الأقبية والمسالخ البشرية، دفعت الراحل لقمان سليم، أن يوعز لبعض الأصدقاء الذين منّ عليهم القدر بالخلاص، والخروج من السجن الصغير، إلى السجن الكبير، للإتفاق مع معتقلين سابقين، على  ترتيب معجم خاص عن صنوف العذابات، وتباريح الألم، والأوجاع التي عانوا منها وأقرانهم من السوريين واللبنانيين الكثر، فكانت ثمرة العمل الإحاطة بلغة السجن ومصطلحاته، تحت عنوان “مفاتيح السجن السوري” قبل أن تحطّمه قبضات الثوار السوريين، وتطلق سراح من بقي من المعتقلين حياً، أو شبه حي. ومع ذلك بقيت هذه اللغة ترنّ في آذانهم، وبقي طيف الزنازين الثقيلة الوطأة، يطبق على صدورهم.

في الأيام الأولى لتحطيم الخوف، بدأت محاولات تمهّد للاستيلاء الرمزي على مشهد الفضاء العام لسوريا ما بعد الأسد، من خلال استعادة الهتافات والأغاني الحماسية التي أطلقها المتظاهرون، في الموجة الأولى من الثورة، قبل انكفائها المؤقت ذاك الحين. وسرت الدعوة الشعبية الملحّة، إلى تغيير أسماء الطرقات والساحات والميادين والمراكز الحكومية، وتمزيق الشعارات التي رفعها الحزب الحاكم، والتشهير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بالألبومات الشخصية التي تركها الديكتاتور في منزله قبل فراره، والتي تتضمن صوره المبتذلة، وهو بملابسه الداخلية شبه عار، ما يدل على سمات نرجسية، لم تخطئها عين المراقبين والصحافيين، وأثارت التهكم لدى المتابعين على صفحات الفايسبوك والتويتر. ورأى فيها الزميل محمد الحجيري توظيفاً سياسياً.

أما المشهديات الاحتفالية بسقوط حكم آل الأسد الأكثر تواتراً، فهي تدمير المنحوتات والتماثيل الضخمة التي نُصبت في معظم ساحات المدن السورية، دون استثناء. ويذكر وليد بركسية أن عددها يناهز ثلاثة آلاف تمثال موزع على أنحاء البلاد.

وليس أمراً مستغرباً أن نرى اندفاعاً جماهيرياً لتدميرها، بل التفنّن بعملية إسقاطها. وقد سبق للبعض من هؤلاء أن حطّموا التماثيل والنصب في المناطق التي ثارت على الحكم الأسدي، قبل أكثر من عقد من الزمن. وقبل أن تعيدها الحكومة السورية إلى مكانها كاستعادة رمزية لسلطة، إن غابت فترة، فإنّ سطوتها حاضرة دوماً في الذاكرة. ورغم أنّ هذه التماثيل تفتقد إلى التشكيل الفني الراقي، ومفرغة من أية جمالية بصرية، فإنها هيمنت على الفضاء، بحكم الواقع الذي رسمته القيادة السورية لمسار سياسي اختطته، وسردية تاريخية فرضتها على أبناء سورية بمختلف أجيالهم ومراتبهم وأطيافهم.

وفي هذا الشأن تختلف عملية تدمير تماثيل الأسد الوالد والإبن، اليوم عما سبق من تحطيم قامت به داعش منذ سنوات، عند احتلالها مدناً سورية، إذ كانت تلك العملية نتيجة مفاهيم دينية متخلّفة عن العصر، ترى في التماثيل الجانب العبادي بوصفه كفراً وشِركاً بالله. أما ما يحصل اليوم فتُعزى عملية التحطيم إلى أسباب سياسية صرف، وعلى أيدي شعب تعرّض لاضطهاد مديد طوال نصف قرن من الزمن. وهو أمر مشهود عليه في حركة الشعوب الثائرة في كل ناحية ومكان، وكان سبق للثورة الفرنسية أن دعت عند انتصارها إلى تجريد البلاد من كل المعالم الأثرية، وتدمير الرموز الملكية، بموجب تشريع نيابي صدر عام 1792. فقُطعت رؤوس جميع تماثيل القديسين في كاتدرائية نوتردام دي باري، وأُشعلت النار في الأعمال النفيسة، ومُزقت اللوحات الفنية، وحُطّمت تماثيل القادة السابقين، باعتبار ذلك سلوكاً غايته محو تاريخ المهزومين. وبلغت هذه المغالاة حداً، أنه أُعيد صهر معدن البرونز الذي صُنعت منه التماثيل، وتحويله إلى مدافع لإطلاق المقذوفات. وكتبت jacqueline lalouette: إنّ التعامل مع هذه التماثيل البرونزية، يتمّ كما لو كانت كائنات من لحم ودم، فتُشنق او تُحرق، أو تُقطع رؤوسها، وتُمنح بطريقة ما وجوداً بيولوجياً. وكان القضاء عليها آنئذ يشفي الغليل، فتحطيم هذه الكتلة البرونزية التي تجسد صاحبها إذلال له، وتماثيله تموت معه أيضاً.

ومن المشهديات التي تزامنت مع هدم النُصب، وإزالة اللوحات التذكارية، كان استخراج جثمان حافظ الأسد وإحراقه. وإذا كانت ثمة محاذير دينية أو قانونية، تتطلبها عملية استخراج جثث الموتى من مدافنها، فإنّ بعضاً من هذه الحالات كان محدوداً، وتمّ لأسباب وطنية أو قومية، واكبتها مراسم ذات أبهة، أهمها في العصر الحديث، نقل جثمان نابليون بونابرت عام 1840 من جزيرة سانت هيلينا، لدفنه في منطقة ليزانفاليد، في عهد الملك لويس فيليب الاول، بعد ما كان الملك لويس الثامن عشر رفض نقله لتخوّفه عهد ذاك، من إمكانية تحوّل بونابرت لرمز قومي. وزعم الفرنسيون الذين حضروا إستعادة الرفات، أن الجثة كانت سليمة، وبحالة جيدة. وبالمقابل فإنّ التاريخ العربي والإسلامي يشهد على تخريب لقبور قادة المسلمين المتناحرين، وعلى التمثيل بجثث بعضهم بعضاً. وغالباً ما كانت الجثث تدفن ليلاً، أو في الفلوات البعيدة عن المدن والناس، حتى لا تطالها أيدي المناوئين والمتربّصين. وفي العصر الحديث كان التنكيل والإذلال في شوارع المدن، يجري دورياً بين الانقلابيين المتصارعين حول السلطة، كما في العراق واليمن والسودان. أما تخريب قبر حافظ الأسد وحرقه، فجاء ثأراً تلقائياً بأيدي من حفر لأهاليهم وأصدقائهم القبور الجماعية التي ما يزال العديد منها، لم يُكتشف مكانها. تخريب ربما لايُشفع له، من حيث مراعاة المبدأ الأخلاقي، لكن بالتوازي مع ما اقترفه نظامه الحديدي من بطش وتعذيب وتنكيل وقهر، فإنّ العدالة تأخذ حينذاك مجرى آخر.

المدن

———————-

 مئة عام مهدورة../ يوسف بزي

الخميس 2024/12/19

على مدى قرن ولد عشرات الملايين ومات مثلهم، هنا في ربوعنا. زُرعت الأرض، وشُيد العمران، وتأسست الدول، وتوراث الناس قصصهم وخبراتهم وأفكارهم. تصارعوا وتصالحوا، ثم أعادوا الكرّة مرات ومرات. أنتجوا ثروات وأهدروا مثلها. أبدعوا وأخطأوا وأحبوا وكرهوا. مئة عام صاخبة، هي أصلاً في السيرة البشرية أكثف وأسرع وأهم قرن في تاريخ الحضارة.

من البذور العظيمة لما سمي “عصر النهضة”، ومن وقائع انهيار الأمبراطورية العثمانية، ومن نتاج الانتصار الباهر للحضارة الغربية وقيمها، ابتدأت شعوبنا بتلمس طريقها، في بناء مجتمعاتها ومؤسساتها وكياناتها السياسية، وصوغ أساليب عيشها وثقافتها.

مئة عام صاخبة بخرائطها وحروبها وثوراتها ونزاعاتها، وآمالها وطموحاتها، كان من المفترض أن تنقلنا من أزمان سلطانية إلى عوالم الدول والمجتمعات الحديثة. فعشرينات القرن الماضي كانت “بدايات” كبرى لإنشاء وإعمار بلداننا، وتكوين هويات سياسية-اجتماعية، وتأليف ثقافة جديدة، ومشاركة العالم في مساراته وقفزاته الهائلة في حقول العلم والاقتصاد والتقانة والتمدن والحقوق والقيم والفنون. وبدت تلك الحقبة واعدة جداً، حين بدأت تتكرس الاستقلالات الوطنية وتتشكل العناصر الأساسية لقيام “الدولة الوطنية”، وتُكتب الدساتير المدنية، وتترسخ مفاهيم الحقوق والواجبات وأسس العدالة والقانون. ابتدأنا بتلقف الحداثة في كل مجالات حياتنا، بل إن تلك الحداثة كانت قدراً لا مفر منه رغم ظهور ممانعات دينية وثقافية.

باشرنا إنتاج الأفلام والروايات والمسرح، واقتناء السيارات. اعتمدنا ملابس عصرية، وتعرفنا إلى “السياحة” والقطار والطائرة، وبدأنا نستمع إلى موسيقات العالم ولغاته. ارتاد شباننا وشاباتنا الجامعات، وخرجت النساء إلى الفضاء العام والعمل.. وتحولت الطبقات الاجتماعية جذرياً، كما في أدوارها ووظائفها. لكن الأهم، هو ولادة “المواطن”. كائن جديد هو مصدر الحكم والسلطة، لا السماء ولا الغيب ولا “السلف الصالح”. كائن يقدم فرديته وحريته وحقوقه المكتسبة على أي اعتبار آخر.

كان ذلك اختماراً وتتويجاً لكل الإرهاصات التي عاشها النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطالع العشرين. منذ صدمة نابليون والمطبعة إلى تحديثات محمد علي باشا الكبير، ودستور السلطان عبد الحميد، وصولاً إلى المؤتمرات الوطنية والهيئات التأسيسية في بلاد المشرق العربي ومصر.

… وبعد مئة عام، عدنا إلى “البداية”: من كتابة الدستور إلى خروج المرأة. عدنا إلى انتظار ولادة “المواطن”، والسؤال حول مصدر السلطة وحدودها. سؤال الحريات والحقوق والواجبات. وأيضاً، عدنا إلى تأليف الدولة الوطنية ومعنى السيادة والحدود والهوية السياسية، وكأن شيئاً لم يكن.

مئة عام هباء؟ كيف بددنا حيوات وجهود ورصيد عشرات الأجيال؟

ليس فقط أهدرنا مكتسبات حقوقية وكيانية، بل أيضاً ثروات خيالية. اقتصادات ناشئة ونامية انتهت بعد قرن إلى إفلاسات، وإلى الصفر وما دونه.

تحطمت البرجوازيات الوطنية، وانحطّت الطبقة الوسطى، وأدقعت طبقة الفلاحين وتشوهت الطبقة العاملة، وانهارت البيروقراطيات وفسدت.

مئة عام من التعليم انتهت بعمومية الجهل، وسيطرة الأمية. مئة عام لبناء الجيوش لنعود اليوم إلى زمن قطاع الطرق والعصابات والعشائر المسلحة.. وعلى المثال نفسه، عدنا نحاول بناء قضاء ومحاكم وكتابة القوانين إياها التي أنجزناها ثم محيناها أو نسيناها.

أبسط من كل هذا، حقوق الإنسان التي كانت مكرسة في دساتيرنا، حق العمل والمسكن والرعايا..إلخ، وحصانة كرامته وملكيته. كلها مهدورة ونبحث عنها مجدداً.

ما هو المشهد المهيمن اليوم على أرض المشرق العربي؟ ببساطة مرعبة: المقابر الجماعية، السجون القروسطية (وأسوأ)، الدمار الشامل والعميم.

في بيروت كما في دمشق وبغداد، كأننا الآن نسافر بالزمن إلى الماضي، إلى عشرينات المؤتمرات الأولى، لإعادة تعريف أنفسنا، ولنغرق في السجالات إياها في شكل دولتنا وكيف ننتج سلطاتنا، ونحاول رسم حدود أوطاننا وإزالة الاحتلالات، ونناقش علاقة الدين بالدولة وحدود سلطته على الأفراد، كما حقوق التعبير وحرية الضمير والمعتقد. نعود لنتنازع حول “العورات” والنقاب والحجاب وصوت المرأة ووجهها، وسلطة الإنسان على جسده وعقله. عدنا إلى ما ظننا إنه مكتسبات وبديهيات.

لا ندري إن كان ثمة فشل حضاري إلى هذا الحد شهدته شعوب أخرى، أو استطاعت ممارسة هذا التدمير الذاتي إلى أقصاه.

المدن

———————

حين عبرت حواجز نظام الأسد: “ما في حساب!؟”/ غدي بو كامل

19.12.2024

رحل ضباط الأسد عن حواجزهم وفي جيوبهم “حسابات” لا تحصى. أمّا اليوم، فقد حلّ دور دافعي الحساب أن يطالبوا بالحساب.

منظمات الإغاثة ومكبرات الصوت تنادي بأسماء المفقودين على الحدود. عند مركز الجوازات داخل الأراضي السورية ترحّب بك ضحكته الخبيثة، أو نظرته القبيحة… لا أذكر تحديداً، وجهه في كل مكان، يحدّق، يراقب، يتتبع، يتنصت باستمرار. لكننا “عشنا وشفنا” أن الأسد الذي كان على تلك اللافتة هرب قبل أن يُمزَّق هو كما مُزِّقت صوره وحُطِّمت أصنامه وأصنام أبيه في مختلف المناطق والساحات في سوريا.

قصّتي كقصص آلاف اللبنانيين الذين عبروا نقطة المصنع عند الحدود اللبنانيّة- السورية هرباً من الحرب الإسرائيلية على لبنان. ذهبنا مستسلمين لأمر الواقع، عالقين بين خطر البقاء في ظل الحرب ومجازفة السفر عبر حواجز الأسد، مرغمين على اختيار إحدى المشقّتين. لحظة العبور راودني مزيجٌ من تشويق المغامرة والقلق مما نحن سائرون إليه. فقد سمعت وشاهدت القصص الكثيرة عن ارتكابات نظام الأسد وويلات حواجز التفتيش. أنا لم أزر سوريا من قبل ولم أرد أن تكون رحلتي الأولى إليها قسراً. وددت لو سنحت الفرصة أن أزورها في ظروف مختلفة، في عالمٍ موازٍ ليست فيه حرب في لبنان ولا جزّارٌ يحكم سوريا الجميلة.

كنّا داخل الأراضي السورية قرابة الساعة الثالثة بعد منتصف الليل. أولى محطاتنا بعد الحدود كانت محلّاً يلجأ إليه المسافرون على يسار الطريق، اعتلت واجهته صور لحسن نصرالله وقاسم سليماني ومصطفى بدر الدين، قادة حزب الله وإيران الذين كانوا حلفاء الأسد حتى في استقبالنا!

بعد اجتياز أولى المحطات، شرعنا بالقيادة شرقاً نحو دمشق، وجهتنا الأولى، قبل الانعطاف جنوباً باتجاه الحدود السوريّة-الأردنيّة. شققنا الليل الحالك نحو العاصمة، ليلٌ اعترضته حواجزٌ قد أمست مهجورةً من ضباطها وعناصرها اليوم. عشرات الحواجز والضباط لم يتوان واحد منهم عن انتزاع بضعة ليرات سورية منّا، ثمن مرورنا من دون مضايقةٍ أو تشبيح. عند اقترابنا من أحد الحواجز أشار إليه “أبو سامر” وهو يقود السيارة بنا: “هي جماعة ماهر الأسد، الوحيدين ما بيرتشوا…”. أوقفنا الضابط على يمين الطريق وأمرنا بالنزول من السيارة ففعلنا. فإذ  بـ”أبو سامر” يتبادل بضع كلماتٍ مع الضابط لم ألتقطها جيداً، حتى اتضح لي صوته. “قلّنا هيك من الأوّل يا زلمة”، مازحه وهو يناوله ثمن المرور. حتى ضباط الفرقة الرابعة لم يقصّروا أيضاً في انتزاع الأموال منا.

لامسنا أطراف دمشق مع انعطافنا جنوباً. لم يتسنّ لنا سوى رؤية صور سريعة من المدينة قبل الاستمرار نحو مزيدٍ من الطرقات الطويلة المتقطعة بالحواجز. لم يخفق أحد الحواجز في إدهاشي رغم مروري بالعشرات قبله. ما إن مررنا بأوّل عنصرٍ بعدما انتزع القليل من المال حتى تسلّل علينا الثاني من خلف مرقده ليأخذ حصّته هو أيضاً. وهكذا، خرج علينا حوالى أربعة عساكر، بين الواحد وزميله بضعة أمتارٍ على امتداد الحاجز ذاته. بعضهم لا ترى وجوههم الغارقة في قبعة الجاكيت. هم أشبه بقطّاع الطرق منه بقوات حفظ الأمن أو الجيش. لا عجب إذاً في انهيارهم بتلك السرعة أمام تقدّم قوات المعارضة!

وصلنا الحدود السوريّة- الأردنية قرابة الساعة الخامسة صباحاً، وانتظرنا حتى الثامنة ريثما فتح المعبر. مع طلوع الشمس، ترى بعض الأولاد يتجوّلون بين السياراتِ، أكبرهم مراهقٌ لم يتعدّ الخامسة عشرة من عمره، يعرضون عليك إتمام جوازاتك وأوراق سياراتك لقاء مبلغ من المال. أمّا الطرفة الأعجب فكانت عند إحدى محطات الخروج، حيث يقف ضابطٌ مهمته جمع إحدى الأوراق المطلوبة من المغادرين. اقترب أبو سامر بسيارته منه طالباً إذنه بمرورنا، موضحاً أنه لم يستطع جلب الورقة المطلوبة بسبب تعطّل الحاسوب عند الأمن العام السوري. رفض الضابط مراراً وأمرنا بالعودة لجلبها: “بالنظام! ممنوع، كله بالنظام!”. وما إن عاد أبو سامر بالورقة وهممنا بالمغادرة حتى أوقفه الضابط مجدّداً: “وين وين، ما في حساب!؟”.

عبرنا سوريا يومها وأتممنا رحلتنا لنعود إلى لبنان بعد حينٍ عبر مطار بيروت. ومع اندلاع المعارك وتقدّم المعارضة في المدن السورية، كنت أجلسُ أحدّقُ في الخرائط الملونة على الهاتف، وهي تتبدل معالمها كل ساعةٍ، وأستذكر حين مررنا من هنا وعبرنا من هناك…

كنت متردداً في مشاركة هذه القصّة. لكن الأسد قد زال، وزالت وجوه حلفائه عن جدران سوريا. رحل ضباط الأسد عن حواجزهم وفي جيوبهم “حسابات” لا تحصى. أمّا اليوم، فقد حلّ دور دافعي الحساب أن يطالبوا بالحساب.

درج

——————–

 آن الأوان لعودة “ب ك ك” إلى ساحتهم إبراهيم اليوسف

19 كانون الأول 2024

منذ عقود، كان الكرد في “روج آفا”، كما في سائر كردستان، على موعد مع معركة مستمرة ضد الأنظمة الاستبدادية التي تحاول سحق هويتهم وثقافتهم. كانت تلك المعركة في البداية محلية، لكنها سرعان ما تحولت إلى ساحة لصراع أوسع، حيث جرت محاولات لاستغلال الكرد وتحويلهم إلى أدوات في صراعات سياسية لا تتعلق بمصالحهم الحقيقية. مع ظهور حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) في المشهد السوري، دخلت روج آفا في مرحلة جديدة من هذا الصراع المعقد، حيث أصبح الكرد في سوريا عرضة لتصفية حسابات بين أطراف لا تمت لآمالهم وطموحاتهم بشيء.

كان حزب العمال الكردستاني قد بدأ كحركة مقاومة ضد السلطات التركية، وحقق لنفسه مكانة مهمة في نضال الكرد عبر المنطقة، على حساب كرد سوريا، لجعلهم ورقة ضغط على تركيا من أجل مشروعهم، ومع ذلك – وبمرور الوقت – أصبح الحزب نفسه أداةً لتحقيق مصالحه الخاصة، غير مبالٍ بما يعانيه الكرد في الأماكن الأخرى التي ينشط فيها. في “روج آفا”، تحولت المنطقة إلى ساحة لصراعات سياسية كانت أبعادها تتجاوز حقوق الكرد السوريين واحتياجاتهم المباشرة. ففي الوقت الذي كان فيه العديد من الكرد يطمحون إلى نيل حقوقهم الأساسية وتقرير مصيرهم، كان هناك من يعمل على تسخير دمائهم وأرواحهم لمصلحة أجندات حزبية تحت يافطة شعارات لا شأن لهم بها.

لقد كانت “روج آفا” منذ بداية الثورة السورية ساحة معركة ليس فقط بين النظام السوري وحماته من جهة وبين المعارضة بمن فيهم تنظيم داعش الإرهابي والفصائل المرتزقة، وبالرغم من تضحيات الكرد في معركتهم ضد تنظيم داعش والفصائل المسيرة والممولة من تركيا، فإنهم وقعوا ضحايا سياسة تقاسم النفوذ بين القوى الكبرى، فكان حزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د)، مضطراً تحت هيمنة حزب العمال الكردستاني أن يتعامل مع الواقع السوري على حساب مصالح الكرد السوريين بشكل خاص.

لا شك أن تركيا كانت دائمًا، ولا تزال، العدو التاريخي للكرد وكردستان بشكل عام، للأسف. فمنذ عقود طويلة، كانت تركيا تسعى بكل قوتها لإخضاع الكرد لمصالحها وأجنداتها، سواء كان ذلك بدعوى محاربة حزب العمال الكردستاني أو من خلال قمع أي محاولة لتحقيق حقوق الكرد في أي جزء من كردستان. وما شهدته “روج آفا” في السنوات الأخيرة من تدخلات تركية وانتهاكات لحقوق الإنسان – ومن بينها احتلال عفرين وسري كانيي وتل أبيض – هو نتيجة مباشرة لهذا التوجه العدائي تجاه الكرد، إذ لا تزال تركيا تعتبر أن أي شكل من أشكال الاستقلال الكردي يشكل تهديدًا لأمنها القومي.

ومع كل هذا وذاك، لا يمكن إغفال أن تركيا قد استغلت حالة التوتر بين حزب العمال الكردستاني والأنظمة الإقليمية الأخرى لتحقق مصالحها في المنطقة، حيث تجد في استمرار الوضع في “روج آفا” فرصة للضغط على القوى الدولية والإقليمية وتحقيق أهدافها الخاصة. ومن هذا المنطلق، أصبحت تركيا ترى في بقاء حزب العمال الكردستاني في “روج آفا” ذريعة لفرض المزيد من الضغوطات، حتى وإن كان هذا يعني التضحية بمستقبل الكرد في المنطقة. كما أن المهيمنين على حزب الاتحاد الديمقراطي يقدمون الذريعة تلو الذريعة لتركيا كي تحتل المدن الكردية، من رفع صور عبدالله أوجلان التي يجب أن ترفع في تركيا التي يزيد عدد أبناء الشعب الكردي فيها عن ثلاثين مليون نسمة!

لكن لا يمكن أن تستمر هذه اللعبة السياسية على حساب دماء الكرد السوريين. فقد حان الوقت لكرد “روج آفا” أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، بعيدًا عن أي أجندات خارجية. لا يمكن لبقية الكرد في المنطقة أن يكونوا مطية لأهداف لم يختاروها ولم يعايشوا تفاصيلها، فقد دفعوا من دمائهم وأرواحهم في معارك كانت خارج حساباتهم، في حين أن أيديولوجيات معينة تحاول استغلالهم لتحقيق مصالح لا تخصهم. لقد قدم الآلاف من الكرد السوريين حياتهم في تلك المعارك، ولكن في النهاية، كانت تلك التضحيات لصالح قوى غير مؤتمنة على مصالحهم الحقيقية.

من هنا، فإنه يجب أن يكون هناك موقف حاسم وواضح، وهو أن كرد “روج آفا” يجب أن يتمكنوا من إدارة شؤونهم بشكل مستقل، بعيدًا عن التدخلات الحزبية والسياسات الخارجية التي تهدد وجودهم. لا يمكن أن يظل الكرد في سوريا رهائن لسياسات خارجية أو أجندات حزبية، يجب أن يكون لهم الحق الكامل في اتخاذ قراراتهم بأنفسهم، وأن يكونوا قادرين على الدفاع عن حقوقهم دون أن يكونوا ضحية للعبة الأمم والمصالح السياسية.

إننا نقدر التضحيات التي قدمها حزب العمال الكردستاني في سبيل نضالهم، في مكانهم بما لها وما عليها، ضمن ظرف زمني محدد، ولكن ذلك يجب أن يكون في إطار قضيتهم الخاصة، في كردستان تركيا، تحديداً، وليس على حساب كرد سوريا الذين كانوا وما زالوا يحلمون بكردستان حرة ومستقلة. نحن مع حق كل جزء من كردستان في الدفاع عن حقوقه، لكن هذا الحق لا يمكن أن يتحقق على حساب تضحيات كرد سوريا التي كانت في كثير من الأحيان عبثية بل آن الأوان لمغادرة كل كوادره سوريا، لا سيما أنَّ وجودهم خارج جغرافيتهم ينذر ويهدد بإبادة كرد سوريا الذين يجب أن يتم التعاطف والتعاون بينهم ليس من منطلق الهيمنة والعمل على تهديد وجودهم!

حان الوقت لأن يختار الكرد في “روج آفا” طريقهم الخاص، بعيدًا عن أي أجندات خارجية. إن ما يحتاجه الكرد في سوريا هو الحرية الحقيقية والقدرة على إدارة شؤونهم دون أن يكونوا تحت تهديد الاحتلال أو الضغوطات الخارجية. إن خيارهم يجب أن يكون بين الحفاظ على هويتهم وحقوقهم أو العودة إلى مكان نضالهم في كردستان، حيث يمكنهم أن يعبروا عن أنفسهم بحرية، بعيدًا عن أي هيمنة أو استغلال.

نأمل أن تكون المرحلة القادمة مرحلة استقرار حقيقي لكرد سوريا، وأن يتمكنوا من بناء وطن حر يليق بتضحياتهم، دون أن يكونوا مجبرين على دفع ثمن صراعات وأجندات ليس لهم فيها سوى الخسارة.

———————

 دعم السوريين في بناء ديمقراطيتهم أمر واجب/ برهم صالح

الخميس 19 ديسمبر 2024

يجب أن يكون سقوط نظام حزب «البعث» الشمولي في سوريا خبراً ساراً للمنطقة والعالم، كما كان سقوط نظام «البعث» المستبد في العراق. ومع ذلك، يجب أن نكون حذرين؛ فبقاء الطغاة على سدة الحكم مأساة، وزوالهم قد يجلب مآسي إذا لم يتم التعامل مع الأوضاع الجديدة بحكمة، بعيداً عن الانتقامات الداخلية والتدخلات الخارجية.

لطالما كان نظام الأسد مصدراً لمأساة الشعب السوري لأكثر من خمسة عقود. تتكشف أدلة المجازر واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً وأساليب القتل المروعة والمعتقلات سيئة الصيت من خلال شهادات العيان ومشاهد السجون ووثائق الدولة.

كان هذا النظام أيضاً مصدراً لعدم استقرار المنطقة. تدخلاته في لبنان وتورطه في اغتيالات القادة والنخب اللبنانية، ومنهم رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، جلبت المآسي لهذا البلد الجميل الذي كان دوماً منارة للتعايش والثقافة. كما زعزع استقرار العراق بتسهيل تدريب ودخول شبكات الجماعات الإرهابية الجهادية بعد عام 2003، في وقت كان العراق بحاجة إلى مد يد العون، لا يد القتل.

يجب الاحتفاء بانهيار هذا النظام بوصفه انتصاراً للحرية والعدالة وبدايةً لخلاص الشعب السوري من مظالم قاسية. ومع ذلك، ومع التقدير لتصريحات متوازنة من قائد العمليات المشتركة أحمد الشرع، فإن الوضع الحالي يثير القلق، إذ توجد جماعات مسلحة ذات جذور في تنظيمَي «القاعدة» و«داعش» في أجزاء واسعة من الأراضي السورية.

آخر ما يحتاج إليه الشرق الأوسط اليوم هو صعود التنظيمات الجهادية المسلحة. فهذه المنطقة ليست أفغانستان المترامية، بل هي أكثر ترابطاً مع العالم وأكثر أهمية استراتيجياً. على المجتمع الدولي أن يتحرك بشكل حاسم، ليس فقط لمواجهة التهديد الإرهابي المحتمل، بل أيضاً لمساعدة الشعب السوري على طي صفحة الاستبداد، ودعم تطلعاته عبر تشكيل حكومة ديمقراطية مدنية تُعبِّر عن إرادة السوريين وتمثل جميع مكوناتهم من السنة والعلويين، والكرد والمسيحيين، والدروز، وباقي الأطياف. إطارٌ مدنيٌّ شاملٌ يمثِّلُ ضرورةً ليس لسوريا فحسب، بل لتحقيق السلام في المنطقة.

مصير سوريا محوري ليس فقط لشعبها، ولكن أيضاً لجيرانها. فلبنان بحاجة ماسة إلى استعادة دولته المدنية الديمقراطية والتنعم بالاستقرار والسلام بعد هذه السنين العصيبة من الصراعات والحروب.

في الوقت نفسه، وفي خضمّ هذه التحولات الكبرى في المنطقة، يقف العراق عند مفترق طرق. فقطعاً يجب أن يكون العراق مهتماً بما يجري في سوريا، ويجب أن يكون عوناً لأشقائه السوريين وجيرانه من أجل استتباب الأمن والاستقرار. لكننا لا نستطيع أن نلعب هذا الدور إذا لم تتم معالجة المشكلات البنيوية لمنظومة الحكم وتحصين الجبهة الداخلية في مواجهة مخاطر رجوع التطرف والتناحر الطائفي الذي عانى العراقيون بسببها خلال الفترة الماضية من كوارث كبيرة.

لا يمكن إنكار أهمية الإنجازات التي تحققت بعد إسقاط النظام الاستبدادي «البعثي» في عام 2003، مثل تبني الدستور والتداول السلمي للسلطة، وما نشهده اليوم من بوادر للإعمار والنمو الاقتصادي. ومع ذلك، فإن المشكلات البنيوية لا تزال قائمة، إذ أدى ضعف بنية الدولة، والفساد، وتمكن الجماعات المسلحة من أموال الدولة وتجاوزها على قرارها إلى تشكيل خطر وجودي على الدولة العراقية نفسها.

ويجب على العراق أيضاً إعادة صياغة علاقاته مع جيرانه، وذلك بناءً على مفهوم الدولة ذات السيادة وعلاقات الدولة بالدولة، مبنيةً على أساس المصالح المشتركة ورفض التدخل في شؤون الآخر، وألا يكون العراق قاعدة لأي طرف معادٍ للجوار. السماح لأي طرف خارجي بالهيمنة على القرار الوطني العراقي يقوّض السيادة ويغذي عدم الاستقرار وعدم التوازن على صعيد المنطقة. يجب تعزيز سلطة الدولة ذات السيادة، فاستقرار العراق لا يتقبل القيمومة والوصاية الخارجية والانتقاص من سيادته. العراق، كما أثبت التاريخ، غير مطواع للهيمنة الأجنبية!

وكان بيان المرجعية الدينية في النجف الذي أكد على سلطة الدولة وحصر السلاح بيدها ومعالجة الفساد، موقفاً حاسماً في لحظة تاريخية، كما تعودنا على مواقف النجف التي تمارس أقصى درجات المسؤولية والحرص على المصلحة العراقية.

كما قلنا سابقاً، هناك حاجة ملحَّة لحوار وطني حقيقي بين العراقيين لمراجعة الخلل في منظومة الحكم والوصول إلى صيغة تمكنهم من المشاركة الفعلية في حكم بلادهم ضمن نظام ديمقراطي مدني يرسخ مفهوم الدولة ذات السيادة، وتحصر السلاح بيدها، وتمكن الحوكمة الرشيدة من مجابهة الفساد المستشري وتقديم الخدمات للمواطنين.

دور العراق بوصفه محوراً في الشرق الأوسط يعتمد على قدرته على العمل بشكل مستقل وتعزيز علاقات سلمية مع جميع جيرانه، بما في ذلك عمقه العربي وإيران وتركيا. إن تعزيز السيادة والاستقرار السياسي يمكن أن يحوّل العراق إلى جسر بين دول الشرق الأوسط. ولدى العراق الإمكانية ليكون حجر الزاوية في نظام إقليمي جديد يركز على الاستقرار والتكامل الاقتصادي والتعاون بدلاً من الصراع.

حل القضية الكردية أمر ضروري أيضاً. فقد حُرم الكرد من حقوقهم السياسية والثقافية على مدى عقود، ويجب الإقرار بأولوية معالجة هذه المظالم واحترام حقوق الكرد، بصفته شعباً أصيلاً في هذه المنطقة. ففي سوريا، يتطلب الأمر ضمان هذه الحقوق الكردية في أي تسوية سياسية وتثبيت مبدأ الشراكة في الوطن ورفع السياسات التمييزية والإقصائية التي رافقت حكم «البعث». أما في العراق، فتجب مراجعة العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم كردستان بصورة بنيوية، ومعالجة النزاعات المتكررة المتعلقة بالموارد والأراضي والحوكمة والصلاحيات.

التحديات هائلة، لكنّ الفرص كذلك. الشرق الأوسط يقف عند نقطة تحول، والخيارات التي تُتخذ الآن ستحدد مسار المنطقة لعقود قادمة. دعم الشعب السوري في كفاحه من أجل الديمقراطية، واستعادة عافية لبنان، وإصلاح النظام السياسي في العراق، ليست فقط واجبات أخلاقية، بل هي أيضاً ضرورات استراتيجية.

هذه المنطقة عاشت ظروفاً عصيبة وحروباً مدمرة على مدى العقود الماضية بسبب الأنظمة الاستبدادية والعنف والقمع، وأيضاً بسبب حقبة الدولة المتآكلة والمتجاوز عليها من مجاميع مسلحة خارج إطار الشرعية، والتي أقحمت المنطقة وشعوبها في مغامرات خطيرة.

حان الوقت لهذه المنطقة أن تستقر، واستقرارها مرهون بشرعية منظومة الحكم المستمَدة من تراضى شعوبها، والتركيز على تحقيق النمو الاقتصادي والتطور وتوفير فرص العمل للشباب، واستئصال الإرهاب والتطرف.

إذا كان الآخرون قادرين على التحول في مجرى تاريخهم كما حدث في أوروبا وآسيا، فلا يوجد ما يمنع هذه المنطقة من التحول بهذا الاتجاه. وإلا، سيبقى هذا الجيل والأجيال القادمة أسرى لنزاعات تافهة على مفاهيم هامشية، فيما يتحول العالم إلى مسار التقدم والنمو الاجتماعي.

هذا واجبنا بصفتنا قادة وشعوب هذه البلاد لتحقيقه. ولكن، في تقديري، على المجتمع الدولي أيضاً أن يلعب دوره في دعم تصحيح المسار واستعادة الدول بناءً على القيم الديمقراطية والمدنية والسلام والتعايش ورفض العدوان، وكذلك العمل على إصلاح حقيقي في العراق بما يؤمِّن التعايش ليس فقط على صعيد الوطن العراقي، بل على صعيد المنطقة.

يجب على المجتمع الدولي أن يلعب دوراً استباقياً، من خلال تقديم الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والأمني لاستقرار المنطقة. لكن في نهاية المطاف، تقع المسؤولية على عاتق قادة وشعوب المنطقة.

شرق أوسط يقوم على التعاون والشمول في متناول اليد -إذا توفرت الإرادة لتحقيقه.

* الرئيس العراقي السابق

الشرق الأوسط

———————————–

سوريا… ولحظة سقوط الجدار/ هدى الحسيني

الخميس 19 ديسمبر 2024

حكمت عائلة الأسد بدءاً من حافظ الأسد ثم ابنه بشار سوريا لمدة 54 عاماً. استغرقت الثورة، لتنتصر عشرة أيام فقط ولم يسقط قتيل. يوم الأحد 8 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، استولى المتمردون بقيادة «هيئة تحرير الشام» على العاصمة السورية دمشق، ولم يواجهوا أي مقاومة تقريباً، وطردوا بشار الأسد من السلطة.

وأعلنت «الهيئة» على قناة «تلغرام» أنها سيطرت، وبعد بضع ساعات قالت إن الأسد قد رحل. وقالت إن سوريا أصبحت الآن «خالية من الطاغية». تجمع الآلاف من الناس في ساحة دمشق، يلوّحون ويهتفون لـ«الحرية». وبعدها قالت وسائل الإعلام الحكومية الروسية إن الأسد وصل إلى موسكو، حيث تم منحه اللجوء لأسباب إنسانية.

في المراحل الأخيرة من تقدمهم، أطلق المتمردون سراح السجناء؛ وأظهرت مقاطع الفيديو التي وزَّعتها مجموعات المراقبة رجالاً يسيرون تائهين في شوارع دمشق بعد إطلاق سراحهم من سجن صيدنايا، وقالت «هيئة تحرير الشام»: «نحتفل مع الشعب السوري بأخبار إطلاق سراح سجنائنا وتفكيك سلاسلهم».

وكان الأسد قد قمع تمرداً إلى حد كبير عام 2011، وذلك في موسم ثورات «الربيع العربي» لكن ظلت جماعات المتمردين المختلفة محصورة في جزء من الأراضي في شمال غربي سوريا، مما لا يشكل أي تهديد كبير للنظام.

ويطرح التمرد الجديد أسئلة كبيرة لمنطقة شهدت بالفعل تغيرات زلزالية منذ هجمات «حماس» على إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. تنطوي معظم هذه الأسئلة على مصدر قلق واحد: ما الذي سيتبع ذلك في أعقاب الأسد؟

جميع الثورات تجلب حالة من عدم اليقين، لكن في سوريا – «الجغرافيا الأكثر تعقيداً في المنطقة»، يتم تضخيم عدم اليقين من خلال عوامل عدة.

كانت سوريا حليفاً رئيسياً لروسيا وإيران، ولاعباً عسكرياً قوياً في المنطقة على مدار نصف القرن الماضي. وهي موطن للكثير من الميليشيات، إضافة إلى وحدة من القوات التركية التي تقاتل القوات الكردية في الشمال، و900 جندي أميركي منتشر في شمال شرقي سوريا، في الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد. الآن، البلاد في أيدي جماعة ثورية كانت بالكاد معروفة خارج المنطقة حتى استولت على حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا.

«الهيئة» في الواقع مؤلفة من عشر مجموعات مسلحة تحالفت عام 2012. كانت «الهيئة» تتألف في الأصل من مقاتلين سوريين قاتلوا إلى جانب تنظيم «القاعدة» ضد القوات الأميركية في العراق. في ذلك الوقت كانت تُعرَف باسم «جبهة النصرة»، وسببت لها روابطها بـ«القاعدة»، مكاناً في قائمة وزارة الخارجية الأميركية للمنظمات الإرهابية الأجنبية.

قطعت «الهيئة» رسمياً العلاقات مع تنظيم «القاعدة» في عام 2016 فتخلصت من الآيديولوجيا المتطرفة. ثم جاءت إلى سوريا، وأنشأت «الهيئة» في نهاية المطاف، فانشقت عن «داعش»، وعن تنظيم «القاعدة»، وانشقت أيضاً عن فكرة إنشاء دولة إسلامية خارج حدود سوريا.

وصحيح أن زعيم «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني يبدو أنه اتخذ نهجاً أكثر براغماتية على مدى السنوات الخمس إلى العشر الماضية، خلال قيادته «الهيئة» في محافظة إدلب؛ في محاولة لتخفيف حدة بعض العناصر الأكثر تطرفاً في الإسلاموية التي اتبعوها سابقاً، فنجح في تغيير آيديولوجيتهم المتطرفة إلى آيديولوجيا أكثر براغماتية.

مع انتشار «الهيئة» في كل سوريا، انقسم المحللون في تقييمهم أهداف المجموعة وآيديولوجيتها. هل ما زال المسلحون الإسلاميون المتشددون الذين استلهموا ذات مرة فكر تنظيم «القاعدة»؟ أم أنهم تخلوا حقاً عن ماضيهم وتحولوا مجموعة تهدف إلى جلب الحكم الرشيد إلى سوريا؟

يقول بعض الذين درسوا «الهيئة» إنه في حين أن الدليل سيأتي في الأيام المقبلة، كانت هناك علامات مشجعة. لقد حولت «الهيئة» نفسها بشكل أساسي في السنوات الأخيرة، وعملت ضد «داعش» و«القاعدة» في شمال غربي سوريا. وحولت طاقاتها من التشدد الإسلامي إلى بناء تحالف فعال للإطاحة بالأسد. فإن الشغل الشاغل الرئيسي هو «ما إذا كانت تغييرات (الهيئة) على مدى السنوات القليلة الماضية حقيقية ودائمة، وما إذا كانت هذه الزيادة في القوة ستشجعهم على العودة إلى ما كانوا عليه من قبل؟».

في نهاية المطاف، سيأتي الاختبار بعد ثلاثة أو ستة أشهر فيما إذا كان الأمر سينتهي بـ«الهيئة» إلى أن تحصل على نوع من الترحيب الشامل كما الحاصل اليوم؟

في الساعات التي تلت استيلاء «الهيئة» على دمشق، قالت إن «الثورة السورية العظيمة انتقلت من مرحلة النضال للإطاحة بنظام الأسد، إلى النضال من أجل بناء سوريا معاً تليق بتضحيات شعبها».

أما بالنسبة إلى «الجغرافيا المعقدة» لسوريا، فقد تغيرت بالفعل بطرق دراماتيكية أيضاً – لا سيما من حيث تحالفات الأسد الطويلة مع روسيا وإيران اللتين ساعدتاه على إطفاء الثورات السابقة إضافة إلى «حزب الله». إلا أنها قبل الإطاحة بالأسد لم تأتِ هذه المساعدة أبداً، لا، بل بدأ الأفراد العسكريون والدبلوماسيون الإيرانيون في مغادرة سوريا تماماً.

في عام 2015، تدخلت روسيا عسكرياً لمساعدة حكومة الأسد على إيقاف جماعات المعارضة المسلحة. لكن مؤخراً

واجه كلا البلدين تحديات في الإقدام على مساعدة الأسد الذي يُعدّ سقوطه هزيمة استراتيجية لهما، وعلامة أخرى على ضعف إيران. الاضطرابات السورية معقدة أيضاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، التي عارضت الأسد منذ فترة طويلة، لكنها قلقة بشأن ما قد يأتي بعد ذلك.

السوريون يبدون كأنهم أمام نوع من لحظة سقوط جدار برلين. وشاهدوا النهاية المفاجئة لنظام وحشي، وهي مشاهد شكك الشعب السوري بأنه لن يشاهدها على الإطلاق. إذ وصف أحدهم خبر سقوط الأسد بأنه «معجزة» وقال: «لقد نقشوا داخل عقولنا، أنهم سيحكمون إلى الأبد».

الشرق الأوسط

—————————

هل وصلت دمشق متلازمة 1979؟/ عبد الرحمن الراشد

19 ديسمبر 2024 م

معظم المنطقة عاشت وعانت من متلازمة التطرف التي يرمز لها بـ1979، وهي السنة التي وصل فيها آية الله الخميني إلى الحكم وأقام نظاماً ثيولوجياً آيدولوجياً متطرفاً نشر عدواه في أنحاء المنطقة. أصيبت به المجتمعات العربية وتسلل إلى عمق بعض الأنظمة، في التسعينات وما بعدها.

فهل الدور على سوريا التي تحتفل بالخلاص من واحد من أكثر الأنظمة فظاعة وقسوة في العالم؟ هل يعقل أن معظم العالم العربي الذي لفظ حديثاً التطرف وقضى على معظم «القاعدة» و«داعش»، وحاصر «حزب الله»، وأبعد «الإخوان»، يمكن أن يولد من جديد وفي دمشق؟

ليس خفياً أن هناك قلقاً إقليمياً ودولياً، وبالطبع سوريّاً، من أن يعتلي المتطرفون الحكم ويحيلوا حياة سوريا والمنطقة إلى أزمات وحروب في وقت يحتاج 23 مليون سوري إلى الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والعيش حياة كريمة.

«هيئة تحرير الشام»، حتى اليوم، أظهرت تقبلاً للأنظمة الاجتماعية والدولية، وتعاملت بحساسية مع مكونات البلاد المتنوعة، وصدر عن رئيسها أحمد الشرع العديد من التصريحات المطمئنة للحكومات والمواطنين، بأنه مع دولة للجميع، وأنهم ليسوا جماعة تريد تغيير سوريا والعالم وفق رؤية متطرفة.

ستتضح الصورة عندما يستقر الوضع، ويفعّل النظام الجديد نشاطه، ويدير عجلة مؤسساته. أما الآن فليس لنا إلا أن نفترض أن المنخرطين في الثورة السورية تعلموا دروساً صعبة من تجاربهم الطويلة. قائدهم، أحمد الشرع نفسه مر بتحولات فكرية كبيرة، وسبق له أن تحدث عنها. عندما كان شاباً في مطلع العشرينات يختلف عنه اليوم، 42 عاماً، حيث يبدو أكثر هدوءاً وحكمة. ونفترض كذلك أن المتطرفين لم يصلوا إلى أسوار دمشق إلا بعد سنوات من تجاربهم ومعرفتهم بما حدث للأمم التي في محيطهم الجغرافي.

لم ينجح نظام ديني متطرف واحد، كل ما وصل منها أو كاد يصل سقط، باستثناء نظام الخميني في طهران، وتجربته نموذج وعبرة يستحقان التأمل. نجح في نقل إيران من مزدهرة إلى فقيرة. سخّر كل إمكاناتها لأحلامه الدينية المتشددة، وها هو اليوم يواجه مخاطر مع سقوط الدومينو خارجياً، ورفضاً شعبياً واسعاً داخلياً لثقافته. استوطن المتطرفون أيضاً السودان وتركوه خراباً. مروا سريعاً على القاهرة، حكموها لعام واحد، كانت تجربة أيقظت المصريين وأعادتهم إلى الميادين للتظاهر لإقصائهم. وهناك الدول التي ابتليت قهراً بجماعات مسلحة متطرفة مثل «حزب الله» في لبنان، وميليشيات ليبيا والصومال واليمن وغيرها تسببت في تدمير بلدانها. ومن ثمّ ليس أمام حكام دمشق الجدد نموذج واحد ناجح.

تاريخ 1979 رمز يعبر عن تاريخ التطرف والفشل. يعبر عن كارثة نصف قرن حلت بالمنطقة. الخمينية، والقطبية، والسرورية، والسلالية مثل الحوثية، جاءت امتداداً لقطار الآيديولوجيات الساعية إلى الحكم، من شيوعية واشتراكية وبعثية.

سوريا البعثية أخذت نصيبها تحت نظام عسكري لجيلين من بيت الأسد. إنْ ترث الحكم وتحتكره آيديولوجيا إسلاموية متطرفة فسيعني ذلك أن ليل سوريا طويل. ولهذا تحث الأمم المتحدة والقوى الدولية المختلفة القابضين على السلطة في دمشق على تبني المشاركة السياسية لاستيعاب الجميع. ليس لأن المشاركة فقط تعكس تنوع الوضع الاجتماعي السياسي في سوريا، بل والأهم، لأنها الوصفة الوحيدة التي يمكن أن تتجنب الفوضى والاقتتال والتدخلات الخارجية.

الشرق الأزسط

—————————–

كيف يمكن الحفاظ على وحدة سوريا؟/ سام هيلير

في أعقاب سقوط الأسد، التهديد الأكبر هو الفوضى

الخميس 19 ديسمبر 2024

يشرع سقوط نظام بشار الأسد الأبواب أمام تحديات كبيرة في سوريا، حيث يتعين على المجتمع الدولي دعم انتقال سياسي شامل وتقديم مساعدات لإعادة بناء البلاد، مع مواجهة مخاوف من الفوضى والصراعات بين الجماعات المسلحة.

قبل فرار بشار الأسد من سوريا في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، لم ترغب سوى قلة من الدول فعلياً في سقوط حكومة الديكتاتور السوري. ولم يكُن السبب وراء ذلك أن الحكومات الأجنبية تحب الأسد أو توافق على الطريقة الوحشية التي حكم بها سوريا، بل لأنها كانت تخشى مما قد يحلّ محله: حكم الجماعات المسلحة المتطرفة والصراعات الطائفية والفوضى التي قد تبتلع سوريا لا بل معظم الشرق الأوسط.

كانت هذه الرؤية المخيفة أيضاً هي حجة نظام الأسد للبقاء، إذ كان يدّعي أن استمراره في الحكم يمنع الفوضى والمجازر، وكان كثير من الناس، بمن في ذلك صناع السياسات الدوليون، مقتنعين بذلك. فعام 2015، عندما اقتربت المعارضة المسلحة من الإطاحة بالأسد، اعتبر المسؤولون الأميركيون احتمال انتصار المعارضة بصورة كاملة وسقوط النظام بمثابة “نجاح كارثي”.

والآن، رحل الأسد. والسوريون يحتفلون في شوارع دمشق، وجماعات المعارضة تحاول تنظيم انتقال سياسي، والعالم على وشك اكتشاف ما سيحدث بعد سقوط النظام. لقد بقي الأسد قاسياً وظالماً حتى النهاية، على رغم أنه كان يدير دولة تزداد فقراً واختلالاً. ترك الأسد وراءه بلداً محطماً، وأي حكومة جديدة – ناهيك عن ائتلاف من جماعات المعارضة المسلحة المتناحرة – ستواجه تحديات جسيمة في هذه الظروف. ومع ذلك، فإن السجل السيئ للجماعات المتمردة السورية عندما سيطرت على مساحات كبيرة من الأراضي يجعل التفاؤل أمراً صعباً أيضاً.

مع ذلك، فإن نجاح سوريا يصب في مصلحة الجميع. فالسوريون لا يريدون مزيداً من المعاناة والدمار، والمجتمع الدولي لا يستطيع أن يقف موقف المتفرج أمام تفكك سوريا. والآن على الدول المعنية أن تبذل قصارى جهدها، بما في ذلك تشجيع انتقال سياسي سلمي وشامل، وتقديم مساعدات إنسانية واقتصادية سخية، لضمان عدم تحقق أسوأ المخاوف في شأن سوريا ما بعد الأسد.

سقوط الأسد

عام 2011، حاول نظام الأسد قمع حركة احتجاجية وطنية في جميع أنحاء البلاد. فتحولت هذه الاحتجاجات إلى تمرد مسلح، واجهه الأسد بعنف متصاعد ووحشي. وفي مراحل عدة من الحرب التي تلت ذلك، بدا أن حكومة الأسد كانت في خطر حقيقي من أن تدحرها قوات المعارضة المسلحة. ولكن التدخلات العسكرية من حليفَي الأسد، إيران وروسيا، أدت إلى استقرار الحكومة عسكرياً ومكنتها من استعادة السيطرة. بين عامي 2015 و2020، قصف الأسد المعاقل التي سيطرت عليها المعارضة في جميع أنحاء سوريا لإخضاعها، واستعاد معظم البلاد.

ثم دخلت الحرب في حال جمود لفترة مطولة. فعززت تركيا سيطرتها على معاقل المعارضة الباقية في شمال سوريا، في حين بسطت “قوات سوريا الديمقراطية” “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة نفوذها على شرق سوريا، بما في ذلك على الموارد الزراعية والبتروكربونية [المركبات العضوية المشتقة من البترول أو الغاز الطبيعي] الأكثر قيمة في البلاد. وبسبب العقوبات الأميركية الجديدة وانهيار الاقتصاد في لبنان المجاور، غرقت سوريا بأكملها، خصوصاً المناطق الخاضعة لحكم النظام، في أزمة اقتصادية عميقة. ومع ضعف مؤسسات الدولة السورية وجيشها تدريجاً، ظهر عجز الحكومة، بسبب ندرة الموارد، عن تحقيق الاستقرار وإعادة إعمار المناطق التي استعادتها من المعارضة.

لكن هذا العام، ومع انشغال إيران وروسيا في نزاعات أخرى، اغتنمت بقايا المعارضة السورية المسلحة هذه الفرصة. كانت “هيئة تحرير الشام” وغيرها من فصائل المعارضة تنظم صفوفها لأعوام في معقل محمي من تركيا في محافظة إدلب شمال غربي سوريا. وفي الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، شنت هذه الفصائل هجوماً على مدينة حلب الشمالية. وعندما اخترقت دفاعات الجيش السوري واستولت على المدينة، أدى ذلك إلى انهيار متسلسل للجيش السوري على مستوى البلاد. وبقيادة “هيئة تحرير الشام”، تقدمت القوات جنوباً من حلب باتجاه العاصمة دمشق، في وقت انتفض السوريون في المناطق الوسطى والجنوبية من البلاد، بما في ذلك المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة سابقاً. وفي الثامن من ديسمبر الجاري، مع تقدم فصائل المعارضة نحو دمشق من الشمال والجنوب، فر الأسد إلى روسيا. وبعد أكثر من 13 عاماً من الحرب الأهلية الطاحنة، انهار نظام الأسد في أقل من أسبوعين.

والآن، في دمشق ما بعد الأسد، تولت “هيئة تحرير الشام” زمام الأمور في محاولة لإدارة عملية انتقال سياسي منظمة، ونصّبت “حكومة الإنقاذ السورية” الموقتة التي أنشأتها سابقاً في إدلب، كسلطة انتقالية وطنية. علاوة على ذلك، نشرت قواتها الأمنية في العاصمة، وأقامت نقاط تفتيش على الطرق الرئيسة في جميع أنحاء البلاد، وحذرت بصورة متكررة مقاتلي المعارضة المنتصرين من إساءة معاملة المدنيين أو نهب ممتلكاتهم.

المتمردون في الحكم

يفترض كثيرون في الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية الآن أنه من الواضح أن “هيئة تحرير الشام” ستتولى حكم سوريا. ومع ذلك، هناك أسباب تدعو إلى الشك في أن الأمور ستكون بهذه البساطة. فحتى أسابيع عدة مضت، لم تسيطر “هيئة تحرير الشام” سوى على ثلثي إحدى المحافظات الواقعة في الأطراف الريفية السورية. وإدارة سوريا بأكملها ستشكل تحدياً مختلفاً تماماً.

“هيئة تحرير الشام” هي النسخة الأحدث من “جبهة النصرة” التي كانت في الأصل تمثل الطليعة السورية [الجناح السوري] لتنظيم “داعش”، ثم تحولت إلى فرع لتنظيم “القاعدة” في سوريا. وعام 2016، أعلنت الهيئة عن قطع علاقتها بتنظيم “القاعدة” والجهاد العابر للحدود الوطنية، على رغم أنها لا تزال تضم بعض المتشددين المخضرمين والمقاتلين الأجانب في صفوفها. وقد صنفها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والولايات المتحدة وحكومات وطنية أخرى كمنظمة إرهابية.

خلال الأعوام الأخيرة، عملت “هيئة تحرير الشام” بصورة دؤوبة على تحسين صورتها وضمان إزالتها من قوائم الإرهاب الدولية. ومع تقدم قوات المعارضة نحو دمشق، حاولت الهيئة وقائدها “أبو محمد الجولاني” تقديم صورة تتسم بالجدية والاعتدال. وأصدرت الهيئة بيانات تطمئن المكونات العرقية والطائفية المتنوعة في سوريا، وكذلك الأطراف الدولية المختلفة، في حين أجرى الجولاني مقابلات مع وسائل إعلام غربية أكد خلالها تاريخ التعايش في سوريا والتزامه الحكم القائم على المؤسسات.

مع اجتياح “هيئة تحرير الشام” لدمشق، أظهرت قواتها نسبياً درجة من الانضباط. وكانت التقارير عن عمليات الإعدام الفورية [من دون محاكمة] والانتقامات الطائفية محدودة، وربما يرجع هذا جزئياً إلى الطريقة التي سلّم بها جزء كبير من الجيش السوري الأراضي من دون مقاومة. ولا شك في وقوع بعض أعمال العنف الانتقامية وفرار آلاف السوريين الخائفين من سيطرة المتشددين إلى لبنان. ولكن في الوقت الراهن، لم تشن المعارضة المنتصرة حملة انتقامية ضد أعدائها السابقين، أو ضد المجتمعات المرتبطة بصورة واسعة بالنظام السابق.

للأسف، لا يبشر سجل “هيئة تحرير الشام” على المستوى المحلي بالخير في ما يتعلق ببناء حكومة وطنية تراعي التنوع الديني والعرقي والسياسي في سوريا. فقد أظهرت الهيئة في إدارتها لإدلب انعداماً حقيقياً لالتزام التعددية السياسية. ونظمت بعض الإجراءات الشكلية لإضفاء الشرعية على حكومة الإنقاذ التابعة لها في إدلب، بما في ذلك مؤتمر دستوري يفترض أنه شامل، لكنها لم تكُن عمليات ديمقراطية مفتوحة أو تشاركية. كان الجولاني دائماً المسيطر، على رغم أنه لم يكُن يشغل منصباً حكومياً رسمياً، وكان ينظر إليه ببساطة على أنه الزعيم الفعلي لإدلب. وقبل بضعة أشهر فحسب قمعت أجهزة الأمن التابعة لـ “هيئة تحرير الشام” بعنف الاحتجاجات في إدلب التي طالبت بالإفراج عن المعتقلين الذين تحتجزهم الهيئة وإنهاء حكم الجولاني.

تمكنت “هيئة تحرير الشام” من فرض النظام والاستقرار نسبياً في إدلب. ومع ذلك، يبدو من غير المرجح أن تتمكن الهيئة من تكرار نموذج سيطرتها على إدلب في جميع أنحاء سوريا. فقد كان ترسيخ سيطرة “هيئة تحرير الشام” في إدلب عملية استغرقت أعواماً طويلة وشهدت عنفاً متكرراً، فقامت الهيئة بسحق الفصائل المعارضة المنافسة والقضاء على المنشقين والمخالفين من داخلها. ويبدو من الوارد أن باستطاعة “هيئة تحرير الشام” توسيع أجهزتها الإدارية والأمنية من إدلب إلى حلب المجاورة بعد بسط سيطرتها هناك. لكن تعميم هذا النموذج على سوريا بكاملها يبدو مستحيلاً. فسوريا من الناحية الجغرافية أكبر بكثير، وتضم عدداً من السكان يوازي 10 مرات عدد سكان إدلب، وهي أكثر تنوعاً، كما أنها تعج الآن بالمسلحين الذين لا يخضعون لسيطرة “هيئة تحرير الشام” بصورة فاعلة. وعلى رغم أن “هيئة تحرير الشام” نجحت في ترسيخ ثقافة قوية من الانضباط الداخلي، فإن عدد مقاتليها الذي يقدر بنحو 30 ألفاً، لا يبدو كافياً لحكم سوريا بأكملها أو السيطرة على الجماعات المسلحة المتعددة التي قد تظهر أو تعمل في ظلها.

في الواقع، إن “هيئة تحرير الشام” ليست الممثل الوحيد للمعارضة المسلحة في سوريا، وهي لم تكُن حتى الممثل الوحيد للمعارضة المسلحة في إدلب نفسها، حيث جمعت الهيئة فصائل حليفة عملت كقوات مساندة لها. ولا يمكن للهيئة السيطرة على جميع الجماعات المسلحة النشطة الآن في أنحاء البلاد. ومن المؤكد أن الفصائل التي أعادت حشد قواتها في وسط البلاد وجنوبها خلال الأسابيع الماضية لا تخضع لأوامر الجولاني.

———————–

حافظ الأسد كان قلقا من أن تلقى سوريا مصير أوروبا الشرقية/ حامد الكناني

أكد الرئيس السوري السابق خلال أحد خطاباته أهمية الإصلاح الاقتصادي والسياسي التدريجي لتجنب الانهيار

الأربعاء 20 نوفمبر 2024

ملخص

قرأ حافظ الأسد عام 1994 المتغيرات العالمية بتمعن أكثر ونظرة مختلفة، لربما لإدراكه أن رياح التغيير التي شهدها العالم في تلك المرحلة قد تلفح بسوريا وقياداتها، وتنفرد “اندبندنت عربية” بنشر وثائق ومراسلات رفع الأرشيف الوطني البريطانية السرية عنها ضمن ملف يحمل التصنيف (FCO 93/8079)، وفيها قراءة بريطانيا لمقاربة الأسد نفسه للمتغيرات العالمية خلال تلك المرحلة.

يتذكر السوريون في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) كل عام الانقلاب الذي شهدته دمشق وأطاح رئيس البلاد نور الدين الأتاسي ليحل مكانه وزير الدفاع حينها حافظ الأسد رئيس الأركان مع قيادات عسكرية كبيرة، وهو الانقلاب الذي عرف حينها بالحركة التصحيحية في حزب البعث السوري، وقد عيّن أحمد الحسن الخطيب رئيساً موقتاً للبلاد قبل أن يصبح حافظ الأسد رئيساً ويبقى في سدة الحكم لنحو 30 عاماً.

وخلال تلك المرحلة شهدت الدولة السورية وكذلك المنطقة والعالم كثيراً من المتغيرات الجوهرية، مع اشتداد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي الذي تفكك في بدايات تسعينيات القرن الماضي، ومعه كذلك شهدت أوروبا الشرقية أحداثاً كبيرة أدت إلى تفكك دول كانت قائمة ونشوء دول أخرى.

قرأ حافظ الأسد حينها، وتحديداً عام 1994، المتغيرات بتمعن أكثر ونظرة مختلفة، لربما لإدراكه أن رياح التغيير التي شهدها العالم في تلك المرحلة قد تلفح بسوريا وقياداتها، وفي هذا السياق تنفرد “اندبندنت عربية” بنشر وثائق ومراسلات رفع الأرشيف الوطني البريطانية السرية عنها، ضمن ملف يحمل التصنيف FCO 93/8079))، وفيها قراءة بريطانيا لمقاربة الأسد نفسه للمتغيرات العالمية في تلك المرحلة.

خطاب الرئيس حافظ الأسد

في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 1994 أرسل المستشار ونائب رئيس البعثة البريطانية في دمشق ب. إي. ستيوارت تقريراً سرياً إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن، ركز فيه على أبرز النقاط الواردة في خطاب الرئيس السوري السابق حافظ الأسد الذي ألقاه أمام الفائزين بالانتخابات التشريعية في سوريا، والتي أُجريت في الـ 24 والـ 25 من أغسطس (آب) 1994، فيما كانت هذه الانتخابات السادسة التي تُجرى في ظل هيمنة حزب البعث ورئاسة حافظ الأسد المستمرة، وكانت نتيجتها كما سابقاتها بفوز حزب البعث العربي الاشتراكي بغالبية مقاعد البرلمان، ويذكر ستيوارت في تقريره السري كيف أن الأسد أكد في خطابه التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأهمية الإصلاح الاقتصادي والسياسي التدريجي لتجنب انهيار مشابه لما حدث في أوروبا الشرقية.

4

كيف دعا حافظ الأسد عام 1994 إلى الإصلاح التدريجي في سوريا؟

ومما جاء في نص التقرير “لقد أبلغنا بالفعل (في رسالتنا رقم 219- رسالة سابقة) عن الجزء من خطاب الرئيس الذي تناول عملية السلام، ولكن الجزء الأكبر من الخطاب كان عبارة عن مراجعة لحال الأمة، إذ قدم توجيهات للمجلس وللجمهور العام الأوسع حول الطريق المستقبلي”.

ويضيف، “بدأ الرئيس الأسد خطابه بفقرة طويلة تتحدث عن واجبات ومسؤوليات النواب الجدد، وأشاد بالعملية الديمقراطية التي أتت بهم إلى المناصب وأعطتهم حرية مناقشة القضايا الوطنية وانتقادها، وفي ظل هذه المبادئ ستحكم سوريا بشكل فعال من خلال علاقة تعاونية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا أعتقد أن الأسد كان يحاول خداع أو تضليل المستمعين، وأعتقد أنه يؤمن فعلاً بأن هذا النوع من العملية الديمقراطية يحدث بالفعل، ومن المحتمل أن يكون ذلك مجرد تفاؤل أو ربما إشارة إلى أنه قد يفكر في دور أكثر إيجابية لمجلس الشعب”.

لكن نائب رئيس البعثة البريطانية في دمشق حينها علق في خلفيات الخطاب معتبراً أن خلف كل الخطاب البلاغي حول قدرات الشعب السوري والإنجازات المحققة بفضل حركة التصحيح، والذي كان الموضوع الأبرز، هو الحاجة إلى التغيير الاقتصادي والسياسي في سوريا، وفيما يؤكد الأسد في كلامه أن “جهدنا المستمر هو تحقيق تنمية شاملة ومتوازنة”، لكنه ليس في عجلة من أمره لإجراء إصلاح جذري سريع، يقول ستيوارت.

ثم يتحدث الأسد بعد ذلك عن الحاجة إلى التغيير الاقتصادي والاجتماعي جنباً إلى جنب، وهو “أمر نادر في كثير من المجتمعات البشرية”، وهنا يعلق معد التقرير البريطاني بالقول “توضح هذه الملاحظات بوضوح كيف شاهد السوريون الأنظمة السابقة في أوروبا الشرقية تتفكك، وكيف أنهم عازمون على عدم حدوث شيء مماثل هنا”.

دعوة لتجاوز الأيديولوجيات القديمة

عرض الأسد في خطابه وفي تلك المرحلة عملية الإصلاح كجزء من تطور تدريجي للمجتمع السوري وليس كتحول جذري، متحدثاً عن ضرورة تجاوز الأيديولوجيات القديمة، وتضيف الوثائق البريطانية السرية كيف أن الرئيس السوري دعا إلى تعزيز الإيجابيات والتخلص من السلبيات التي تعيق التقدم، وركز على أهمية المصلحة الوطنية فوق المصالح الشخصية، كما أشار إلى تراجع دور المؤسسات التقليدية للنظام البعثي.

ويقدم الأسد عملية الإصلاح على أنها جزء من تطور مستمر للمجتمع السوري، مشيراً ضمنياً إلى أن النهج الأيديولوجي المرتبط بالماضي لم يعد مناسباً، وأكد أهمية توضيح العلاقة بين القديم والجديد وأهمية توضيح هويتنا، ووفقاً لمعايير السياسة السورية والخطاب العربي فإن هذا يُعد تأكيداً واضحاً للنهج البراغماتي، ولذلك يحث الأسد جمهوره على تعزيز كل ما هو إيجابي والتعرف إلى الجوانب السلبية والتخلي عنها، تلك الجوانب التي تعوق التقدم.

وهنا يقرأ ستيوارت في كلام الأسد قائلاً إن السوريين كانوا يعلمون تماماً ما يقصده، وفي الواقع فبعد أن دعا أعضاء المجلس إلى خدمة الوطن والمواطنين بدلاً من المصالح الفردية والشخصية، أضاف الأسد جملة مرتجلة بابتسامة جادة على نحو ساخر قائلاً “وهذا ينطبق على الوزراء أيضاً”، مما أثار تصفيقاً حاراً من أعضاء المجلس، كما تلقت العبارة نظرات متفاجئة من الوزراء الجالسين في الشرفة”، تكشف الوثائق السرية.

ويتوقف التقرير عند ذكر الأسد في خطابه المؤسسات التقليدية للنظام البعثي مرة واحدة فقط باعتبارها الأدوات التي نُفذ من خلالها العمل السياسي في الماضي، ويضيف “يبدو أن هذا يدل على أن هيكل الحزب وعلى رغم كونه لا يزال واسعاً، لم يعد المحرك الأساس في العملية السياسية”.

تطمينات للجيش وتعهد بالإصلاح والسلام

لم يغب الأسد عن ذكر الجيش السوري في هذا الخطاب مما أثار انتباه البريطانيين في تقريرهم السري الذي تنشر تفاصيله “اندبندنت عربية”، وهنا يقول نائب رئيس البعثة البريطانية إن الأسد اختتم خطابه بالتأكيد على دور الجيش المركزي لطمأنة المؤسسة العسكرية حيال التغييرات المتوقعة، وأبرز التزامه بالإصلاح السياسي والاقتصادي وتحقيق السلام، ويضيف معلقاً “كان الخطاب موجهاً إلى كل من الجمهور المحلي والدولي مع التركيز على التوازن بين التغيير والاستقرار”.

ويضيف، “كما تعلمون من تقاريرنا الأخيرة فهناك شعور بالقلق داخل الجيش السوري، وكان على الأسد أن يأخذ هذا بعين الاعتبار، لذا وبعد الإشارة إلى العواقب المؤلمة للتغيير والحاجة إلى التكيف، وهو أمر سيؤثر بشكل كبير في القوات المسلحة، كان على الأسد أن يقدم تأكيدات بأن الجيش سيحتفظ بدور مركزي”.

وفي خلاصة قراءة خطاب الأسد يقول ستيوارت إنه “يمكن مقارنة خطاب الأسد بتلك الكتب التي تعتمد على الأوهام البصرية وتتصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في لندن، فكلما نظرت إليها أكثر كلما بدت أكثر تعقيداً، وهناك رسالتان أساسيتان: أن سوريا ملتزمة بالإصلاح السياسي والاقتصادي مع تحقيق سلام حقيقي، وأعتقد أن هذه الرسائل كانت موجهة بقدر كبير إلى جمهور إقليمي ودولي كما كانت موجهة إلى الجمهور المحلي”.

هذا التحليل البريطاني عن تحقيق سوريا للسلام الحقيقي لم يأت من عبث، إذ قال الأسد في خطابه عن عملية السلام “نحن نريد السلام حقاً، والجميع مهتمون بالسلام، ولكننا نقاوم أيضاً كل من يجعل السلام حكراً عليه، فسوريا ولبنان عازمتان على التنسيق ونموذج العلاقات الذي يجب اتباعه”.

ولعل من يذكر ما حصل في تلك الفترة يفهم كلام الأسد بعمق أكثر، فهذا الخطاب أتى بعد أشهر قليلة من محاولة أميركية جديدة لإحياء مفاوضات السلام بين إسرائيل وسوريا، وتحديداً في يوليو (تموز) عام 1994، وحينها شهدت واشنطن جولة جديدة من المفاوضات بين البلدين تناولت الترتيبات الأمنية في الجولان بعد الانسحاب الاسرائيلي، لكن هذه المفاوضات التي استمرت لأشهر قادمة لم تصل إلى النهاية المرجوة.

خطوط الترسيم في الجولان

يكشف الملف البريطاني السري في سياق آخر كيف أن نائب رئيس البعثة البريطانية في دمشق ب. ستيوارت أرسل في مرحلة أخرى تقريراً إلى وزارة الخارجية البريطانية في سبتمبر (أيلول) 1994 يتناول المناقشات حول الحدود الإسرائيلية – السورية في سياق عملية السلام، ويشير التقرير إلى وجود خطوط حدودية مختلفة في مرتفعات الجولان التي قد تنسحب منها إسرائيل في حال التوصل إلى اتفاق سلام، ويستفسر ستيوارت في رسالته عن توافر ملخص شامل من وزارة الدفاع البريطانية يوضح جميع خطوط الترسيم السابقة، بما في ذلك حدود وقف إطلاق النار والحدود الانتدابية وحتى الحدود العثمانية، نظراً إلى تعقيد مسألة الحدود في المنطقة.

ومما أتى في رسالته أنه “في المناقشات التي أجريت مع الزملاء هنا (سوريا) خلال الأشهر الأخيرة وفي بعض التقارير عن عملية السلام، وردت إشارات إلى خطوط حدودية مختلفة على الجولان أو أسفله قد تنسحب إليها إسرائيل في سياق اتفاق سلام محتمل، ولدينا بعض الخرائط التي تظهر خطوط وقف إطلاق النار المختلفة، وأعتقد أنني حددت منطقة حماة التي يبدو أن الإسرائيليين غير راغبين في التخلي عنها، ولكن كل هذا يدفعني إلى التساؤل عما إذا كان أي شخص في قسم التخطيط الإقليمي أو في أقسام رسم الخرائط في وزارة الدفاع قد جمع ملخصاً شاملاً مصوراً مع خرائط توضح كل خطوط الترسيم وتشرح وضعها”.

————————

 سوريا بعد مملكة الظلام والكبتاغون.. الفرص والتحديات/ أحمد عيشة

2024.12.19

مما لا شك فيه أن عشرين مليون سوري يواجهون الآن مستقبلاً مليئاً بالتحديات والأخطاء، بعد خلاصهم بأيديهم من أسوأ نظام لصوصي عانوا خلال فترة حكمه من أفظع الإهانات، وشواهد مسلخ صيدنايا كافية، هذا المسلخ وغيره ترك غصة لدى الملايين نتيجة لفقدان أحبتهم، الذين لم يعرفوا أي شيء عن أثرهم، سوى أنه لا وجود لهم.

فمع هروب الأسد وحاشيته، أصبح لدى سوريا، بعد طول انتظار، فرصة لبناء نظام ديمقراطي تعددي يتيح لهم الآن فرصة، لم تكن موجودة من قبل، للعيش والعمل والازدهار في بلدهم الأم، بدلاً من ركوب دروب الموت بحثاً عن ملاذ آمن وفرصة للعيش في الخارج.

كل هذا الأمل لا ينسي الصعوبات والتحديات الكبرى أمام هذا المشروع-الحلم، وهي كثيرة (تشكيل الحكومة، البرلمان، مصير الجيش والأمن، الجيوش والميليشيات الأجنبية، إعادة الإعمار، المهجرين، العلاقات الخارجية..).

ما هو أكثر أهمية أن البلاد حرّرها السوريون بأيديهم مستفيدين من الظروف الإقليمية التي سادت قبل التحرير، فنظام الأسد الذي حوّل البلاد إلى ركام بفضل داعميه، وتحديداً إيران وروسيا، لم يكن أكثر من مجرد عصابات همها، بعد أن أفرغت البلاد من البشر والموارد، أن تجني أكبر ثروة، فهي تعرف أنها إلى زوال، فكانت تجارة الكبتاغون التي غمرت البلاد العربية وخلقت لها مشكلات لدرجة تحولت إلى ورقة مساومة مع نظام الأسد، وهذا ما كشفت عنه عملية التحرير وتهاوي عصابات الأسد وفرارها كلٌّ بما يحمل تبعًا لمكانه، تاركين البلد بحالة من الدمار والإفقار، الأمر الذي يضيف تحديات كبرى لعملية البناء، بما فيها إعادة تشكيل الدولة ومؤسساتها، هذه العملية التي تحتاج إلى تضافر جميع السوريين، خاصة أمام المخاطر التي تحيط بهم، سواء من الداخل أو الخارج.

ما يبديه قادة “هيئة تحرير الشام” -وهي الجهة الحاكمة الحالية- من مرونة في التعامل مع الناس أمرٌ إيجابي، ويجب البناء عليه ودعمها في عملها من خلال المشاركة، والمشاركة لا تستبعد النقد، خاصة مع التخوفات الناتجة عن سلوك “الهيئة” في تجربتها الصغيرة في إدلب، التي يتوجب الخروج منها نحو الدائرة الأوسع، نحو سوريا ككل، ومد الأيادي إلى جميع الوطنيين والديمقراطيين.

ومن الجهة الثانية، ينبغي البناء على أن الهيئة ليست كتلة صماء لا تطولها التغيرات، فهي كباقي القوى الاجتماعية والعسكرية تخضع لقوانين الحياة وتطوراتها، وخاصة بعد أن انتقلت إلى حكم البلاد. وبالتالي، فالتوقف عند سلوك سابق لها وتصنيف الغرب لها بأنها إرهابية مسألة لا بد من تجاوزها، وهذا التجاوز يمكن أن تساعد فيه جميع القوى الوطنية والديمقراطية من خلال مشاركتها في عملية بناء الدولة من جديد.

ثمة تحديات أخرى داخلية، منها سيطرة “وحدات حماية الشعب” على جزء مهم من سوريا، بثرواته وموقعه، ومواقف هذه الوحدات العدائية تجاه تطلعات السوريين، هذه القوة العسكرية، بما تملكه من قوات مدربة ومجهزة عسكرياً من الولايات المتحدة والغرب، الذي يشترط صباح مساء في خطابه وموقفه من السلطة الجديدة في سوريا أن تكون حامية للأقليات. خاصة مع معرفتنا بعلاقة تلك الميليشيا خلال فترة الثورة مع النظام وإيران، من خلال توجه حزبها الأم -حزب العمال الكردستاني- وعلاقته مع أنظمة القمع، ناهيك عن عقيدته وبنيته المخابراتية التي تجسدت بمعاملة السوريين، سواء العرب أو الكرد غير الموالين له.

وهذا يتطلب من السلطات الجديدة، بالتعاون مع القوى الوطنية والديمقراطية العربية والكردية، تقديم رؤية لحل المشكلة الكردية ضمن الإطار الوطني العام، بحيث يكشف دور ذلك الحزب ويعريه.

التحدي الآخر هو الأنظمة العربية المحيطة، وهو ما تجسد من خلال اجتماع العقبة ومطالبه التي عفا عليها الزمن، وهي ذات الأنظمة التي هرولت منذ أشهر للتطبيع مع نظام الأسد المتهالك، وقدمت له الإغراءات لكنها لم تحصد سوى الكلمات.

ناهيك عن أنها، مع المجتمع الدولي، لم تتمكن خلال تسعة أعوام من تطبيق أي بند من القرار 2254، حتى الكشف عن عدد المعتقلين وليس الإفراج عنهم، فهم كانوا يدركون أنهم قد تحولوا إلى جثث ومقابر جماعية.

فهذه الأنظمة تحاول إعادة تجربة مصر تحت حجة التخوف من حكم الإسلاميين، لكنها بجوهرها تسعى لتأبيد الاستبداد وخنق الشعوب، وهذه قضية هامة جداً لا بد من وعيها، فالعودة إلى ما قبل التحرير، سواء بوجود الأسد أم حاشيته ومن هم على شاكلته، كارثة كبرى، وما حدث في مصر وتونس مثالان نعيش آثارهما اليوم، حيث قتلت أولى التجارب الديمقراطية في الربيع العربي.

والدور المكمل الذي تقوم به إسرائيل، فمنذ اليوم الأول لسقوط الأسد وهروبه، تشن الهجمات على ما تبقى من بنى عسكرية لدرجة إفراغ البلاد من أي قدرة عسكرية، زيادة في إنهاكها وتحويلها إلى دولة-شركة قابضة فاقدة للسيادة والاستقلالية.

في حين كانت خلال حكم “الأسد”، ورغم ضرباتها المتواصلة على ميليشيات إيران، وخاصة “حزب الله”، تتجنب القوى والمراكز العسكرية الأخرى، كونها تدرك أنها موجهة ضد الشعب السوري ولن تكون أبداً ضد إسرائيل طالما “الأسد” موجود. فهو أفضل ضامن لأمن حدودها.

أما بعد التحرير، فقد غدا الأمر مختلفاً تحت حجج واهية من أن الحكام الجدد لهم جذور إسلامية، وسبق وتحدثوا بوعود عن القدس وغيره. لكن جوهر عملياتهم العدوانية هو إعاقة التحول في سوريا.

لا شك أن البلاد في حالة قاسية جداً على مستوى الخدمات، وحجم الدمار على مستوى البنية التحتية هائل، ومقدار نهب نظام الكبتاغون اللصوصي للبلاد لا مثيل له، ومن ثم، ستكون عملية البناء أكثر صعوبة.

لكن يجب أن يكون أمامنا وفي كل لحظة عدم السماح بالعودة عن ذلك الإنجاز الكبير: دحر الأسدية، الذي يمثل أكبر تغير جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين، هذا التغير الذي انتظره وناضل من أجله السوريون طوال (54) عاماً من حكم العائلة الأسدية وحصلوا عليه مؤخراً، لكنهم يواجهون أوقاتاً عصيبة، تتمثل في كيفية تحديد لحظة البداية المتعلقة بنمط الحكم.

وبالتأكيد، هناك يقين مطلق واحد: مع رحيل الأسد، أصبح لدى السوريين الآن فرصة ليعيشوا حياة تتسم باللياقة والكرامة والفرص، ويجب عدم تضييعها.

تلفزيون سوريا

——————————

 إسرائيل أول معتد على سوريا الجديدة/ محمود سمير الرنتيسي

2024.12.19

مع التغيير الكبير الذي حصل عقب سقوط نظام الأسد، وفرح الشعب السوري ببداية جديدة للدولة الجديدة، التي تنعقد الآمال فيها على حكم بإرداة الشعب وتوديع عقود من القمع والاستبداد والاعتداء على مقدرات وحقوق شعب كامل، كان الاحتلال الإسرائيلي أوّل طرف يعتدي على سوريا الجديدة.

لقد قصف الاحتلال مئات المواقع والمنشآت الحيوية والعسكرية السورية، حتى تحرم سوريا الجديدة من الاستفادة منها، كما احتل أراضي سورية جديدة، مما جعلها تضع نفسها بموقع معاد للدولة الجديدة.

كان المشهد العدواني الأوّل لأولئك الذين ملؤوا ساحات دمشق وحلب ودير الزور فرحاً ببارقة أمل جديد وإلى جانب الصور المؤسفة للإجرام الممتد على عقود من سجن صيدنايا، هي صور العدوان الإسرائيلي الذي زاد عن 300 غارة جوية مع مشهد الدبابات في القنيطرة.

طبع هذا المشهد في ذاكرة السوريين، أنّ الاحتلال الإسرائيلي هي من أرادت أن تبدأ هذه المرحلة بهذه الصورة لأنها تعتقد أن الردع والعنجهية واليد الطولى هي سياستها لفرض إرادتها، ولكن يبدو مرة أخرى أن الاحتلال أخطأ في التقديرات كما هي عادته.

في هذا السياق ثمة أصوات قليلة داخل دولة الكيان كانت تفكر بنوع من العقلانية مثل درور زئيفي في هآرتس الذي وصف ما فعله الاحتلال من قصف لسوريا واحتلال أراض فيها بأنه قصر نظر، وأنّه من المفترض أن “يكون هناك سياسة احتوائية لسوريا الجديدة، لضمها لكتلة الاعتدال العربي والحلف الإبراهيمي”، وفق قوله.

تعتقد إسرائيل أن ما حدث في سوريا هو جزء من رؤيتها لبناء شرق أوسط جديد لكن السوريين الذين ثاروا وواجهوا النظام على مدار عقد كامل لا يشاركون الاحتلال هذه الرؤية، ويبدو أن الأخير لا يفهم حتى الآن عقلية أبناء هذه المنطقة ومميزاتهم الثقافية، كما لم يفهم الشعب الفلسطيني ولم يفهم غزة ولم يتوقع طوفان الأقصى.

لقد قال يائير كراوس في “يديعوت أحرونوت” لـ نتنياهو: نحن على الجبل وسنبقى على الجبل أي على جبل الشيخ السوري، يريد الاحتلال استغلال الفراغ الحادث بين سقوط نظام وبناء دولة جديدة ليكرس واقعاً لصالحه، لكنه يضرب بعرض الحائط حقائق أخرى، كطبيعة أي احتلال، شعرت إسرائيل بالإغراء الشديد أمام الفرصة التي تولدت لكي تنقض بقوة على مقدرات وأراضي الشعب السوري، ولم تدرك أنها بذلك تبذر بذور التهديد ضد نفسها.

في قيادة الاحتلال يقولون: إنّ السوريين ليس لديهم حكومة الآن، يمكن أن تطالب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بسحب القوات، وعليه فهذه فرصة لتغيير الملامح وتغيير الجغرافيا في هذا الحدث التاريخي.

إن الاحتلال ما يزال يفكّر بعقلية الماضي، ولم يدرك بعد، التفاعلات الكامنة في سوريا سواء في معادلة العروبة والتاريخ والجغرافيا، ولهذا سيسعى كما بدأ من أوّل يوم، إلى الاستمرار في العبث بواقع سوريا، لكنّه لن ينجح، فهو في حالة إرباك معقّد وشديد، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، وهذا واضح في خطواته المتبعثرة التي يُضرّ بها نفسه.

تلفزيون سوريا

———————–

ما وراء الشال.. أحمد الشرع وصور النساء/ آلاء عوض

19-ديسمبر-2024

في عالم السياسة، تتجاوز الصور كونها مجرد لحظات عابرة، لتصبح رسائل مدروسة تحمل أبعادًا أيديولوجية واجتماعية وسياسية. هذا ما بدا واضحًا في الظهور الأخير لأحمد الشرع، قائد إدارة العمليات العسكرية، وهيئة تحرير الشام سابقًا، إلى جانب مجموعة من الفتيات غير المحجبات في سوريا، مع طلبه منهن وضع شال على رؤوسهن إن أردن التقاط صورة معه. يثير هذا المشهد، رغم بساطته الظاهرية، أسئلة متعددة حول طبيعة الرسائل التي أراد الشرع إيصالها من خلاله، خاصة في ظل محاولاته المستمرة لإعادة رسم صورة الهيئة وتقديمها كقوة أكثر اعتدالًا على الساحة السورية.

بدايةً، يمكن النظر إلى هذا الظهور كجزء من استراتيجية أكبر تسعى الهيئة من خلالها إلى التكيف مع الواقع السياسي والاجتماعي الجديد في سوريا. فمن خلال ظهور الشرع مع فتيات غير محجبات، يبدو أن الهيئة تحاول تقديم نفسها كجهة منفتحة وقادرة على التعايش مع مختلف أطياف المجتمع السوري، بما في ذلك الأقليات والفئات التي لا تتفق بالضرورة مع توجهاتها الأيديولوجية. يحمل هذا التوجه في طياته محاولة واضحة لتقديم تطمينات للمجتمع المحلي، وأيضًا للمجتمع الدولي الذي ينظر بحذر إلى القوى المسلحة ذات الخلفيات المتشددة.

لكن خلف هذا المظهر المنفتح، يكمن إصرار الشرع على وضع الشال/ الحجاب، وهو تفصيل صغير لكنه بالغ الأهمية. هذا الشرط، الذي يبدو وكأنه مجرد التزام بمظهر معين، يحمل دلالات أعمق تتعلق بفكرة الامتثال. فطلب تغطية الرأس هنا ليس مجرد رمز ديني، بل هو تعبير عن الهيمنة وفرض السيطرة. إذ يبدو أن الشرع، رغم محاولاته للتكيف مع الواقع، لا يزال غير قادر على تجاوز موروثه الأيديولوجي الذي يفرض قيودًا صارمة على الأفراد، وخاصة النساء، حتى في أكثر اللحظات التي يُراد لها أن تعكس انفتاحًا.

يمكن قراءة هذا التصرّف كرسالة مزدوجة: فمن جهة، يريد الشرع أن يظهر بمظهر القائد البراغماتي الذي يتعامل مع الجميع، بما في ذلك النساء غير المحجبات، ومن جهة أخرى، يصرّ على أن هذا التعامل لا يمكن أن يكون بلا شروط. الشال هنا يصبح أداة لإخضاع الآخر لقواعد الهيئة، حتى وإن كان ذلك بشكل مؤقت ومن أجل التقاط صورة. يعكس هذا الإصرار، بشكل أو بآخر، فشلًا في تقديم صورة حقيقية للتغيير أو الانفتاح، حيث لا يزال الانتماء إلى فضاء الهيئة مشروطًا بالتخلي عن جزء من الهوية الفردية والامتثال لمعاييرها.

في السياق السوري الأوسع، تحمل هذه الصورة دلالات تتعلق بمحاولات القوى المختلفة السيطرة على الفضاء العام وفرض قواعدها على الأفراد، حتى في أبسط التفاصيل. في الشرع وقيادته، يمكن القول إن محاولة التكيف مع الواقع السياسي والاجتماعي الجديد لا تزال محكومة بتصور أحادي يرفض الاعتراف بالتنوع الحقيقي ويفرض معايير محددة على الجميع. هذه المقاربة تجعل من الصعب تصديق أي محاولات للانفتاح أو التغيير، حيث تظهر الهيئة وكأنها تحاول فقط تغليف ممارساتها القديمة بمظهر جديد، دون التخلي عن جوهرها الحقيقي.

ورغم الرسائل المبطنة التي يمكن أن تحملها الصورة عن قبول الهيئة للمرأة غير المحجبة، فإن الإصرار على وضع الشال يقوّض هذه الرسائل ويكشف حدود التغيير الذي يمكن أن تصل إليه الهيئة. فالتغطية هنا ليست مجرد إجراء شكلي، بل هي رسالة واضحة بأن القبول مشروط، وأن التعايش مع الهيئة يعني التخلي عن جزء من الحرية الشخصية والركون لسلطتها، حتى ولو كان ذلك بشكل رمزي ومؤقت.

من جهة أخرى نرى أن التشكيلة الحكومية المؤقتة استبعدت النساء من المناصب القيادية بشكل ملحوظ، وأثار هذا الاستبعاد استياء الأوساط الحقوقية والنسائية التي كانت تأمل في تحسن الوضع بعد سنوات من التهميش الممنهج في عهد نظام الأسد. تجددت الخيبات بعد الإعلان عن التشكيلة الجديدة، التي كرّست نمطية الإقصاء وغياب التوازن الجندري في هياكل السلطة وبدا مشهد الإعلان الرسمي متجهمًا، حيث خلت القاعة من أي وجوه نسائية ذات ثقل سياسي، مما أثار تساؤلات حول مدى جدية الحكومة في تحقيق إصلاحات جذرية.

عبرّ حقوقيون عن قلقهم إزاء وضع النساء اللاتي، وطالبوا بالشفافية في طرح دور المرأة، وتطبيق سياسات شاملة تنصف المرأة وتضمن حضورها في المشهد العام لكن هذ الدعوات بدت وكأنها صرخات في وادٍ، حيث قوبلت بتجاهل رسمي واضح.

إن استمرار هذا التهميش، سواء في صورة القيادة السياسية أو في الفضاء العام الذي تسيطر عليه القوى الجديدة، يعكس عمق التحديات التي تواجهها المرأة السورية في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة. فإقصاء النساء من مواقع السلطة واتخاذ القرار ليس مجرد إشكالية عابرة، بل هو جزء من سياق أوسع يعكس تهميشًا ممنهجًا لدور المرأة في إعادة بناء سوريا الجديدة.

في ظل الحرب وتداعياتها، كانت النساء السوريات في مقدمة المتضررين، سواء من ناحية الأمان الشخصي أو الاجتماعي والاقتصادي. وعلى الرغم من تضحياتهن الكبيرة وقدرتهن على حمل أعباء الحياة اليومية وسط النزاعات والانهيار الاقتصادي، ظل تمثيلهن في العملية السياسية متواضعًا، بل ومعدومًا في كثير من الأحيان. يبعث هذا الإقصاء برسائل متناقضة: فمن جهة، يتم الاعتراف بالدور الأساسي للنساء كدعامة للمجتمع في أوقات الأزمات، ومن جهة أخرى، يتم إنكار حقهن في التمثيل والمشاركة في صنع القرار.

إن الإصرار على تغييب المرأة عن المشهد السياسي وخاصة على خلفية التصريحات الأخيرة لـ عبيدة أرناؤوط، المتحدث الرسمي باسم الإدارة السياسية التابعة لإدارة العمليات العسكرية، بتحجيم المرأة وإقصارها على أدوار معينة، يضع العديد من علامات الاستفهام حول جدية القوى في تقديم مشروع وطني شامل يعكس تطلعات جميع فئات المجتمع السوري. فمن دون إدماج حقيقي للنساء، يصعب الحديث عن أي إصلاح حقيقي أو إعادة بناء شاملة تضمن العدالة والمساواة للجميع. هذا الاستبعاد لا يؤثر فقط على النساء، بل يُضعف البنية السياسية والاجتماعية ككل، حيث يفقد المجتمع فرصته في الاستفادة من خبرات نصفه الآخر.

يُجسّد التهميش البنيوي للنساء والقيود الرمزية، كما في مشهد “الشال”، عمق الأزمة السياسية في سوريا، حيث تُستخدم قضية المرأة كورقة مساومة في صراعات القوى. الاعتراف بحقوق المرأة ومشاركتها ليس رفاهية، بل اختبار حقيقي لجدية أي مشروع سياسي يسعى نحو التغيير والعدالة.

الترا صوت

———————

انتصار المهزومين… الاعتراف بالهزيمة وإنكارها/ مصلح مصلح

18-ديسمبر-2024

يحيل مصطلح “التكويع”، تكويع أنصار النظام الأسدي البائد، في تخليهم عن سردية النظام القائمة على فكرة المؤامرة الكونية وأدواتها من التكفيريين الكونيين، لصالح سردية الثورة وأبطالها المحررين؛ إلى مصطلح رديف عنوانه “انتصار المهزومين”، أي انتصار الموالين أنفسهم، ذلك أن القاسم المشترك بين الاثنين هو الاعتراف بالهزيمة من جهة، ثم المسارعة إلى إنكارها على نحو مطلق، عبر تبني نقيضها، النصر المطلق، الأمر الذي يفتح الباب على المفارقة، والمفارقة على الضحك.

بدورها، تنهض فكرة المفارقة على الجمع بين الضد وقرينه (الهزيمة والنصر) كما لو كنا إزاء عملية تجاور سكونيّ، يتموضع فيها النصر جانب الهزيمة دون أدنى التفات لطبيعة الفاعلين الاجتماعيين، الذين قاموا بإنجاز النصر وأولئك التي حاقت بهم الهزيمة، الأمر الذي يسمح للمهزوم بأن يكون منتصرًا، وللمنتصر بأن يكون مهزومًا ما دامت لدى الآخرين الجرأة البلاغية بالسطو على النصر ومفاعليه، عبر ادعاء أسبقية التبشير به، وهو ما يزال بذرة جنينية في أعماق مخيلاتهم.

أو كما لو كنا إزاء لعب طفولي خالص، تحكمه قواعد الضحك المنفلت من شراك اللغة وألاعيبها، فالأنصار المهزومون يسرقون النصر من محاجر عيون محرريهم ليصيرونهم فرادى وجماعات!

يحجب عنا الضحك حقيقة مفارقة انتصار “المكوعين”، حقيقة الألم الطالع من الذات المهزومة وهي تتعاطف مع ذاتها في سقطتها الكبرى، كما لو أن الحياة حلم، وذل الهزيمة العالق بحلق البعض مجرد طاقة سلبية، يمكن التحرر من هالتها السوداء عبر التطهر بالكلمات، السحر، الاعتراف (لكم أن تعتبروني نذلًا)، في محاولة جريئة لإعلان هشاشة الإنسان الذي فقد قدرته على تحقيق النصر، فاضطرته وقائع زوال سلطته الباذخة أن يلوذ بنصر أحد غيره.

المكوّع ذلك البائس المسكين الذي قبل على نفسه أن يتنازل عن صورة الله في ذاته (الإنسان، إله ذاته مغتربًا)، لصالح صورة الشيطان في صورة صنم أحد غيره (الأسد)، يعود اليوم في استدارته الكبرى ليتصالح مع نفسه عبر التطهر بالذل، ذلّ الاعتراف بهيمنة الخوف على كيانه، بتحويله وغدًا. ولسان حاله يقول: لكم أن تعتبروني جبانًا، شرشوبة خرج، مداس أحذية، ولكن تذكروا للحظة، خوفي من الأسد، من فرقته الرابعة، من زعيم مافيتها يهم بارتداء بدلته المرقطة. لكم أن تعتبروني سلطويًا بغيضًا، أنانيًا مقيتًا، نصف حاقد، وثلاثة أثمان رعديد، لكن تذكروا خوفي من المخابرات الجوية، من جميل الحسن شخصيًا، يده على الزناد وقلبه من حجر. لكم أن تعتبروني كلب حراسة، ممسحة زفر، سقط متاع، بالله عليكم لا تؤاخذوني على خوفي، أيعقل أن أأخذ بجريرة خوفي من الحرية، بجريرة خوفي من الطغاة؟

يستنجد المكوع اليوم بالخوف كسلم نجاة من الوضع السلطوي، الذي دفعه لاستلاب نفسه، جعلها باردة، متبلدة، عديمة الايمان بالجنس البشري، فلا يجد أفضل من التعلق بوضعية الأضحية المثالية التي كانَهَا، أو التي وجد نفسه فيها: “ما أنا إلا أضحية كاملة، مجرد قربان سماوي، ألا ترون عجزي، استسلامي أمام سطوة الدعاية الأسدية، تصديقي أن مجزرة التضامن، طريقي إلى نيل حصتي التموينية من الخبز، وأن بطلها أمجد يوسف مجرد راع جميل كان يصحب الخراف إلى المرعى”.

يصر المكوع أن نأخذه على محمل الجد، على محمل الأضحية العاجزة عن الفعل، كي ينجو من نفسه، من لعنتها، من حقه في العقاب، ومن حقنا بالمساءلة، ولسان حاله يقول: “ما أنا إلا أضحية صغيرة، ألا نظرتم إلى عيني البريئتين وقلبي الطيب. أيحاسب من كان بلا إرادة، بلا حيلة؟ ما الذي كان بإمكاني فعله حيال العجز؟ ها أنا أعتذر ولكم كامل الحرية أن تعاملوني كبطل أو كسافل. هذا كل ما لدي، ها أنا أضع عجزي وقلة حيلتي على الطاولة، ولكم إطلاق الرصاص على صوتي، صورتي، بعض من ضميري الفائت، أو إعادة روحي البائسة إلى الحياة، لتصير قبسًا من انتصاراتكم الخضراء”.

لا يخرج المكوع عن كونه إنسانًا في حالة ضعف، عجز، خوف ماحق، إنسانًا كاملًا مثلنا، ونحن نتدرب على أدوار البطولة، منذ الولادة وحتى الفناء. من منا لم يطرب لصوت أمه وهي تحكي بصوتها على الحياة، على الفعل. تمجد أفعاله الصغيرة في دولة الأسد النافق “الحصول على ربطة خبز، جرة غاز، ترويض كلب”، لتحويله إلى ما تشتهي، بطلًا كامل الأوصاف: “برافو عليك يا بطل”. أليس هذا ما نعثر عليه في قصص الفرسان المتخيلين؟ أليس ما نبحث عنه في الروايات، في سير الفرسان الشعبيين، كي نتماهى مع إنجازاتهم الباذخة، بقصد أن نصيرهم، أبطالًا من لحم ودم؟

يولد المرء فينا ليجد نفسه منذورًا للبطولة المتحققة عبر النصر، ألا يمثل خروج الإنسان البدائي من التوحش (افتراس اللحم البشري) إلى التحضر (الاجتماع الإنساني) صناعة القبيلة والقرية والمدينة، أولى عمليات النصر على الذات، الانتصار على الرغبات البدائية “الحضارة عملية نكران كبرى لمستودع الغرائز”؟ أليس هذا ديدن الوصايا العشر أو السبع أو ما دون ذلك، كما هو في الوقت نفسه ديدن المتصوفة الكبار، الذين خاضوا معركة إخضاع رغباتهم لصالح هوس انتصاراهم على أجسادهم الفانية.

يولد المرء لينذر نفسه للبطولة للإنجاز، للعمل، فإن سقط وكبا أمسك بناصية النهوض مرة أخرى “الضربة التي لا تميتك تقويك”، ومن ثم ليمسك بناصية المثل الشعبي الآخر “لكل حصان كبوة”.

النهوض هو كل ما يسعى إليه الإنسان العاثر، إذا لا حياة ووجود وتقدم دون كفاح شامل مع مصاعب الحياة. هل سمعتم بأحد نظر إلى سقوطه الكبير كهزيمة مدمرة، ألم تحول قيادة البعث البائد هزيمة الـ 1967 الماحقة إلى نكسة صغيرة، كبوة من كبوات حصان جامح؟ ألم نستمع قبل أيام إلى الناطق باسم جيش الأسد وهو يخبرنا عن تراجع قواته، هزيمتها، تحت ضربات المقاومة، واصفًا تقهقرها بإعادة التموضع، دون أن يخبرنا عن حدود هذا التموضع الذي وصلت حدوده مشارف الصقيع الموكسوفيّ، الذي اضطر قائده الملهم للتخندق فيه!

إذا كان هذا هو منطق البطولة البشري وهذا هو ديدنها، الذي لا يقنع بتقبل الهزيمة والقبول بها، فهو بلا شك منطق التكويع الانبطاحي ذاته، حيث يصر فيه المكوع على وضع نفسه في صف المنتصرين ونسبة نصرهم لنفسه. ألا يتبدى لنا ذلك واضحا في ثنايا خطاب دريد لحام لحظة إعلان البراءة من هزيمة الأسد الهارب: “عندما قلت للهارب بشار أحبك وأعشقك، كنت اقصدي في داخلي أكرهك وأبغضك”.

ما هو جلي في قول لحام هو حرصه النأي عن المهزومين الفارين المجللين بالعار، فما يحبه الرجل في شخص الأسد هو صورة الرئيس المنتصر حتى ولو كان سفاحًا. أما وقد سقطت صورة البطل الممسك برقاب أعدائه، فلا محل لهذا العشق الذي طالما علقه على صدر رئيس منتصر.

بالعودة إلى منطق لحام يبدو الرجل عاقلًا إلى أقصى حد، وكيف لا يكون ذلك، وهو يلقي القبض على الحب ويفصله عن نقيضه الكراهية، العشق عن نقيضه الهجر. وقد كان له أن يظل عاقلًا إلى أبد الآبدين، رجل حكيم يحسن الفصل بين مكنونات ذاته وظاهر قولها، لو أنه سلم بالهزيمة، هزيمة الثغاء الفج لفبركة “المؤامرة الكونية”. ولكنها أبى على نفسه إلا أن يدخل النصر من أوسع أبوابه ومن ثم السطو عليه، بعد أن ضمن لنفسه الدخول من باب “الطلقاء” الواسع.

مع ذلك من الإنصاف أن نعذره، أن ننصت إلى مخاوفه، بدل أن ننهال عليه بالحجارة واللعنات، ذلك أن إنسان مثل “لحام” اعتاد وضع نفسه في صف المنتصرين الأبديين، لا يمكن له تخيلها في صف المهزومين أو الخاسرين المدحورين، الأمر الذي يجعله يسارع لوضع نفسه في صف خصومه المؤزرين بالنصر، متسلحا بمنطق منولوجه الداخلي: “لطالما كنت أكره الأسد، أكره الشعبية التي يحظى بها، فكيف لشخص تافه مثله، لا ترتقي وضعيته الفنية إلى وضعية كومبارس من الدرجة العاشرة أن يصير نجما بحجم أمة كاملة؟ الحمد لله الذي انتقم لي، لأحلام يقظتي في كراهيته، وأنا جاثم بالدار بجوار دفء العائلة”.

كان يمكن لدريد ان يكون أقل تواضعًا في تكويعته، كأن يتعلل بالخوف من الآخر (الثوار السوريين بلحاهم الطويلة) كما تعلل زميله أيمن زيدان: “أقولها بالفم الملآن، كم كنت واهمًا. ربما كنا أسرى ثقافة الخوف. بشجاعة أعتذر مما كنت أراه أو أفكر به”، لكنه آثر التعلل بالخوف من إمكانية حرمانه من النصر البهيج، متخذًا من المفارقة (الحب، الكراهية) مدخلًا للضحك على الذقون والسلوى.

بالعودة إلى المفارقة، أي مفارقة إصرار المهزوم على انتصاره، سواء عبر طلب العفو عن مخاوفه غير المبررة، أو التلطي وراء نكهة الاحتقار الذي يكنها لرئيس فار، متناسيًا عن عمد قبح كل جرائمه، رعايته لعديد المسالخ البشرية، كما هو الحال في وضعية بوق السلطة الأسدية شادي حلوة، أو في وضعية زوجة ماهر الأسد، التي لم تر من جملة الشرور التي اقترفها بحق السوريين، إلا خيانته المقذعة بحق عائلتها الصغيرة، التي تركها مصيرها بيد القضاء والقدر.

السؤال الذي يلح على الذهن هو سؤال النصر ذاته: لماذا عجز أنصار الأسد الاحتفاء بمجموع الانتصارات الفذة التي منحه إياهم رئيسهم المخلوع من الفترة الواقعة بين عامي 2015 وحتى 2019؟ أتراهم كانوا يدركون بأن عظمة النصر الحقيقي لم تك تكمن في فتات الرشوات الصغيرة التي كان يتفضل بها عليهم، بمقدار ما كان يتعداه إلى عظمة الشعور بقيمة كرامتهم الإنسانية التي طالما تعمد الأسد وآل بيته إهدارها في كل وقت وحين؟

—————————

سوريا ما بعد الأسد.. كيف يصنع السوريون مستقبلهم؟/ راشد إبراهيم

17-ديسمبر-2024

انهار نظام بشار الأسد بسرعة البرق، في مشهد لم يتخيّله أكثر الثوريين رومانسيةً. وبعد أكثر من 13 عامًا من الدم والتشريد والفقر والجوع، فرّ رأس النظام الاستبداديّ باتجاه موسكو، فخلعت شوارع سوريا الحرة عن نفسها صوره وأعلامه، وقامت بتكسير أصنام أبيه، معلنةً تحرير الفضاء العام في البلاد من كل رموز المرحلة الأسدية.

يأتي هذا السقوط بعد سنوات طويلة من المعاناة الإنسانية الهائلة، التي دفع فيها الشعب السوري أثمانًا باهظة من الأرواح والممتلكات. حيث إن الملايين من اللاجئين يعيشون في ظروف قاسية، في حين عانى الداخل السوري من نقص الغذاء والخدمات الأساسية، ودمار البنية التحتية.

والآن مع تحرر البلاد من كل هذا القهر، فإن التحدي الأكبر هو إعادة الأمل لأولئك الذين فقدوا كل شيء، وضمان عودة كريمة وآمنة لهم. إلى جانب مجموعة واسعة من التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجه المرحلة الجديدة.

لم يأتِ سقوط هذا النظام وفرار رؤوسه الخبيثة نتيجة الهجوم العسكري، بل لتراكمات طويلة من القمع والاستبداد والفساد، وبسبب فشله في الحفاظ على الدعم من حاضنته الشعبية التقليدية.

وقد أكّدت تقارير متعددة أن أهم أسباب هذا السقوط الدراماتيكي كان الاعتماد المفرط على الدعم الخارجي، دون تقديم إصلاحات داخلية حقيقية أو استيعاب المعارضة.

صحيح أن الدعم الخارجي، وعلى وجه الخصوص الإيراني والروسي، لعب دورًا حاسمًا في إبقاء النظام السوري على قيد الحياة طوال سنوات الحرب. إلا أن علامات الضعف راحت تتسرب إلى هذا التحالف مع تزايد التحديات الإقليمية والدولية. بدءًا من انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، ومن ثم تحويلها لمواردها العسكرية إلى تلك الجبهة، ما جعل سوريا أقرب إلى جبهة ثانوية. في الوقت ذاته راح الدعم الإيراني يتآكل بسبب العقوبات الاقتصادية وتزايد الضغط الداخلي في إيران، إلى جانب تصاعد حدة الضربات التي وجهتها إسرائيل لإيران والمليشيات الحليفة لها. وفوق هذا كله، جاء الموقف الصعب لحزب الله في العدوان الأخير على لبنان ليجعل الحزب ينكفئ عن تقديم الدعم للنظام.

كشفت هذه الأسباب عن ضعف وهزال النظام الأسدي أمام هجوم المعارضة، حيث لم يبق أمام بشار الأسد سوى الهروب متخليًا عن حلفائه وحاضنته.

لكن حدوث انتقال سلس للسلطة وعدم الذهاب إلى سيناريوهات دموية مثّل نوعًا من المؤشر الإيجابي على أن هناك حرصًا على تحقيق الاستقرار في سوريا بعد كل ما عرفته خلال قرابة عقد ونصف من الدمار والخراب والمجازر. وكان الإعلان عن حكومة انتقالية، برئاسة محمد البشير، بمثابة خطوة نحو بناء نظام سياسي جديد. ومع ذلك، تواجه هذه الحكومة تحديات كبيرة، مثل توحيد الفصائل المسلحة، وإشراك جميع الأطراف السياسية والاجتماعية، وتقديم رؤية موحدة ومقبولة داخليًا وخارجيًا.

وعلى هذا يمكن القول إن بناء نظام سياسي جديد في سوريا يشكل تحديًا كبيرًا، لأن البلد متعدد الطوائف والأعراق. وهناك حاجة لضمان تمثيل جميع المكونات السورية في العملية السياسية، بما في ذلك العرب السنة، والأكراد، والعلويين، والمسيحيين، لضمان عدم تكرار الاستبداد أو الإقصاء. وتجارب أخرى، مثل العراق ما بعد صدام حسين، التي أظهرت أن إقصاء مكونات معينة لن يؤدي سوى إلى تفاقم الانقسامات، وبالتالي إضعاف الدولة.

يعرف السوريون اليوم أنه من الضروري تشكيل حكومة انتقالية توافقية تحظى بشرعية داخلية وخارجية، وتضمن مشاركة كل القوى الوطنية لبناء مستقبل سلمي ومستقر. إلى جانب الملفات الأخرى: إعادة بناء الجيش وقوات الأمن، وإعادة الحياة للاقتصاد وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، وملف العدالة الانتقالية، وتأسيس لبنة النظام الديمقراطي والحكم الرشيد.

ولعل إعادة بناء الجيش السوري وقوات الأمن مسألة بالغة الأهمية، من أجل استعادة السيطرة على البلاد ومنع الفصائل المسلحة من التصرف بشكل مستقل. وهنا يمكن الإشارة إلى تقدير الموقف الذي أصدره “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، الذي أكّد على أهمية دمج الفصائل المسلحة في جيش وطني موحد تحت إشراف الحكومة الانتقالية، مع ضمان احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.

لا شك أن القيام ببناء جيش وطني يتطلب تبني برامج تدريجية لإعادة تأهيل أفراد الفصائل المسلحة ودمجهم في مؤسسات الدولة. وفي هذا الصدد لا بد من الاستفادة من تجارب دول أخرى، مثل البوسنة والهرسك، التي نجحت في دمج القوات المتصارعة في جيش موحّد.

من جانب آخر، يواجه السوريون تحديًا كبيرًا وملحًا يتمثّل في تحقيق العدالة الانتقالية، وسط دعوات متصاعدة وحثيثة لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم الكبرى خلال حقبة الأسد. ومن المعروف من تجارب دول أخرى عديدة أن العمل على التوازن بين العدالة والمصالحة كثيرًا ما يجنب البلاد جنون الفوضى أو متاهات الانتقام. وفي هذا الصدد تعمل عشرات الجهات المدنية في الداخل السورين والخارج أيضًا، على تبني آليات لتحقيق العدالة دون إشعال صراعات جديدة.

العدالة الانتقالية أحد أهم الملفات في سوريا ما بعد الأسد، حيث تتزايد الدعوات لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي حدثت خلال الحرب. ولنا في التجارب الدولية السابقة مثال، لا سيما تجربة جنوب أفريقيا ولجنة الحقيقة والمصالحة، التي تقدم نموذجًا ملهمًا لتحقيق التوازن بين العدالة والمصالحة.

معيشة السوريين التي أوصلها النظام السابق إلى مستويات غير مسبوقة من الفقر تحتاج معالجة فورية، فالاقتصاد الذي دمرته الحرب والنهب واللصوصية يحتاج إلى خطة إنعاش سريعة، ترتكز على دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتشجع على عودة رؤوس الأموال الوطنية، وذلك كله بالتوازي مع العمل على جذب استثمارات خارجية من الدول الصديقة. كما أنه لا بد من إعادة تأهيل القطاعات الإنتاجية وفتح المجال أمام التعاون الإقليمي، بما يمكن أن يساهم في توفير فرص العمل وتحسين معيشة المواطنين في أسرع وقت ممكن.

خلال الحرب

في ظل استمرار خطر التدخلات الخارجية، لا بد من صياغة سياسات خارجية متوازنة تحافظ على السيادة الوطنية وتمنع تقسيم البلاد. ولعل التعاون الإقليمي والضغط على القوى الدولية لاحترام وحدة الأراضي السورية، سيكونان عنصرين أساسيين لضمان استقرار البلاد ومنع تحولها إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية.

فإلى جانب التحدي القائم بخصوص “قسد” وإسرائيل، هناك إشكاليات تخص روسيا وإيران، فلا تزال الأولى تحتفظ بقواعد عسكرية، فيما تستمر الثانية بمحاولات لترسيخ نفوذها. وهذا يستدعي من الحكومة الجديدة التعامل بحكمة مع هذه الملفات عبر الحلول السياسية والقانون الدولي.

هناك فرصة أمام سوريا لإعادة بناء نفسها كدولة موحّدة ومستقلة، يعيش مواطنوها بكرامة وحرية، ولأجل تحقيق ذلك المطلوب هو سياسات تعزز الشفافية، وتحترم حقوق الإنسان، وتستعيد ثقة المجتمع الدولي. ولا يمكن لها النجاح في بناء مستقبل أفضل دون تحقيق التوازن بين الأمن والعدالة، والحفاظ على الوحدة الوطنية، والابتعاد عن السياسات الانتقامية.

لضمان انتقال سلس ومستدام نحو دولة ديمقراطية، تحتاج سوريا إلى خارطة طريق واضحة تتضمن مراحل زمنية محددة. ومن أولويات هذه المرحلة: وضع دستور جديد يضمن التعددية والعدالة، وتنظيم انتخابات حرة تحت إشراف دولي، وإطلاق حوار وطني شامل يضم كافة الأطراف السورية. كما أن تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية وتفعيل مؤسسات رقابية مستقلة سيكونان عاملين رئيسيين لتحقيق الشفافية وبناء ثقة الشعب في حكومته الجديدة.

سوريا عند مفترق طرق تاريخي. وبناء عليه يتحقق النهوض النهائي أو تعود الكبوة والسقوط مرةً ثانية. لهذا يظل هذا الانتصار ناقصًا إن قصرناه على مجرد إسقاط للطاغية وأغفلنا بناء الدولة.

تحتاج المرحلة الحالية إلى الكثير من الحكمة، وإلى دعم شعبي داخلي لعملية الانتقال الديمقراطي، فزمن الخوف والقمع قد انتهى، وبات على السوريين أن يأخذوا دورهم التاريخي، وأن يثبتوا قدرتهم على صنع التغيير، وتحقيق حلمهم الجماعي بالحرية والكرامة، وهم بالتأكيد قادرون على ذلك.

الترا صوت

—————————

الزلزال السوري… لا تحلموا بعالم سعيد، فالسلطة لمن غلب/ سعد القرش

الخميس 19 ديسمبر 2024

 السياسة لا تصوغها الأمنيات، ولا تبالي بالينبغيات، ولا تخضع للمثاليات، وإنما لحقائق القوة على الأرض. أتذكر ذلك، وأذكّر به أعدادا لا نهائية من المثاليين الأبرياء، وغير المثاليين غير الأبرياء، في العالم العربي. هؤلاء وهؤلاء، بنيّة طيبة لسوريا ما بعد الأسد أو برجاء لئيم يريد فشلَ التجربة قبل الاختبار، أدمنوا إسداء النصائح إلى القائد العام لإدارة سوريا أحمد الشرع، الذي تخلى عن لقبه الجهادي أبي محمد الجولاني. الوصايا الإلكترونية الموجزة، والتحليلات المطولة، لم يطلبها الجولاني ولا يريدها؛ فوقته لا يسمح بالمتابعة، وأظنه يستغني عن الاستجابة لأي دعوة لم ينصت إليه المنتصرون في التاريخ الإسلامي، أيّاً كان استحقاق النصر، أو سوء العاقبة.

التاريخ يسجل أن السلطة لمن غلب. المتغلب بالقوة أو بالحيلة، أو من دونهما، يفضّل أن يكون وحده، له شريك في الملك. أقترب بحذر من مآلات التجربة السورية الحالية، وإذا اقتربتُ أكثر من اللازم سألوذ بالتاريخ؛ لإنقاذي من التورط في مشروع استقطاب ديني علماني. وما يمكن الاتفاق عليه أنه في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 أُنجز شيء عظيم، هو فتح معتقلات معلنة وأخرى خفية، وإخراج عشرات الألوف من ضحايا بشار الأسد وأبيه. مرّت سوريا بربيعين قصيري العمر، ربيع دمشق عام 2000، والثورة السورية المغدورة عام 2011. كلا الربيعين، الإصلاحي والثوري، لم يحلم بإنجاز تحرير هؤلاء الأبرياء؛ لتخلو البلاد من مظلومين وراء الأسوار.

الأحزاب الشيوعية العربية لا يعلّمها التاريخ، ولا مآسيها القريبة. بيان الحزب الشيوعي السوري الموحد مثالي لا يصطدم بالسلطة الجديدة، ويتجاهل طبيعتها وداعميها، وفي الختام:  “نؤكد أننا نريد لسوريا المستقبل أن تكون حرة، ديمقراطية مدنية”، وقبل الختام يشدد على مواصلة النضال “من أجل إخراج القوات الأجنبية المحتلة وفي مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي والتركي”. وبيان حزب العمل الشيوعي السوري دعا إلى تشكيل جمعية وطنية ممثلة للسوريين كافة، لتصوغ الدستور الجديد، وأدان “بأشد العبارات الصمت الدولي والعربي على القصف الإسرائيلي لمقدرات الشعب السوري… حتى سلطة الأمر الواقع لم تصدر أي موقف تجاه ما جرى من قصف واحتلال لأرض سورية وصلت إلى مشارف العاصمة”.

 ومن الجوار القريب، تفاءل بيان الحزب الشيوعي اللبناني، في 10 كانون الأول/ديسمبر، بالرهان على “إرادة الشعب السوري”، بدعم من قوى اليسار والتقدم والديمقراطية في مواجهة المخاطر المحدقة بسوريا والمنطقة، واعياً بأن التغيير الجذري الشامل للنظام “وبناء الدول السيّدة العادلة، هي عملية أشد تعقيداً بكثير من مجرد رحيل رئيس وقدوم رئيس. وهذا ما يستوجب التنسيق والتكامل والوحدة بين مختلف أطياف القوى الوطنية والديمقراطية والعلمانية والتقدمية والشيوعية في سوريا”، لإعادة تشكيل مستقبل البلاد. أكتفي بهذه الإشارات إلى البيانات الثلاثة، وما يحمله خطابها من رغبات، آمل ألا يثبت المستقبل القريب أنها إبراء ذمة؛ فالجولاني ذو الخلفية الجهادية لا ترضيه اصطلاحات العلمانية والتقدمية والدولة المدنية.

حزب العمل الشيوعي السوري أدهشه صمت “سلطة الأمر الواقع” على توغّل العدو، والْتهام المزيد من الوطن، وبلوغ القصف والاحتلال مشارف دمشق. إسرائيل لا تخفي أطماعها، سارعت إلى خرق اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1974، واحتلت الجانب السوري من جبل الشيخ الإستراتيجي المطل على دمشق. بدأت النكبة الثانية، بقرار إخلاء القرى الجنوبية. سمعتُ أهالي قرية “الحرية” يقولون إنهم أُمروا بالرحيل، بلا عودة. إسرائيل دمرت ما قدّره الخبراء بثمانين في المئة من قدرات الجيش السوري. هذا كله يفترض أن يتصدر اهتمامات “سلطة الأمر الواقع”، أن يكون أكثر أهمية من الانتقام الفكاهي من الأسد الذي انتهى، ولا يمثل تهديداً. فكيف ردّ أحمد الشرع؟

 قال إن “الحجج الإسرائيلية باتت واهية ولا تبرر تجاوزاتها الأخيرة”. تجاوزات وليست عدواناً. صيغة تبحث عن تسويغ لمسوّغات العدو، انتقاد خجول لحجج يراها الجولاني واهية. ميوعة صاحب بيت اقتحمه لصوص تتمثل بقوله لهم: أسأتم التقدير، ما في البيت إلا الماء. في هذه الصيغة من الحنان ما يثير الأسى، ويطئْمِن العدو على عجز الضحية، فلم يُجرِم الإسرائيليون، فقط “تجاوزوا خطوط الاشتباك في سوريا بشكل واضح، مما يهدد بتصعيد غير مبرر في المنطقة”. العدو آمنٌ، فسوريا لن تدخل “في أي صراعات”. أين نضع آية “كُتب عليكم الجهاد وهو كُرهٌ لكم”، وقد اُعتدي علينا؟ يجيب: “الحلول الدبلوماسية هي السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار”.

أبتعد، كما وعدتُ، عن الشرع وسورياه، لائذا بالتاريخ، مستعيداً سلوك الظافرين. كان عبد الملك بن مروان عابداً تقياً، يُلقّب بحمامة المسجد، وبالمسجد اعتصم رافضاً مساس جيش يزيد بعبد الله بن الزبير. وبانقطاع نسل أبي سفيان، تولى مروان بن الحكم، وسرعان ما مات، فصعد ابنه عبد الملك. في أيام البراءة رفض عمرو بن سعيد بن العاص مبايعة عبد الملك، واتفقا على أن تكون الخلافة لعبد الملك، ومن بعده لعمرو. وثّقا الاتفاق وشهد عليه أشراف الشام. ولم يتأخر غدر “الخليفة”. صلى العصر، وأمر بعمرو “فأضجع، وذبح ذبحا، ولُفّ في بساط”. كما سجل الدينوري في “الأخبار الطوال”. ثم أرهب أصحاب عمرو، قتلا ومطاردة.

بقية المأساة معروفة. الخليفة استحلى السلطة؛ فواجه الناس: “والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه”. وأرسل الحجاج بن يوسف فحاصر مكة، وضرب الكعبة بالمنجنيق، وقتل ابن الزبير وصلبه، وبعث برأسه إلى “أمير المؤمنين”. هذا شأن رجل سعى إليه الحكم، واستمرأ لذة السلطة التي تثير جنون العسكريين أكثر، فيعايرون الشعب بمخاطرتهم حين قاموا بالانقلاب. كان معمر القذافي صواماً قواماً، ولم يحتمل أن يخالفه شركاؤه. فشل انقلاب زميله عمر المحيشي، فهرب إلى المغرب. وفي “صفقة قذرة”، تضمنت وقف دعم القذافي لجبهة البوليساريو ودفع 200 مليون دولار للحسن الثاني، استعاد المحيشي وذبح “كالخروف”، كما قال عبد الرحمن شلقم.

هل الجولاني استثناء؟ أستبعد أن يفرّط في السلطة لاعبٌ يتمتع بالنفس الطويل، ازداد نفوذ جماعته على المسرح، بعد أن ابتلع المشهد كثيرين، في مقدمتهم نجوم في المجلس الوطني الذي تشكل في خريف 2011. هل يتركها لبرهان غليون؟ فلأبتعد، وأذهب إلى تجربة الخميني الذي قطف ثمرة ثورة شعبية، تمّ تزوير صفتها. يرى سبهر ذبيح “أن زعامة الخميني جاءت عفوية، وكان يمكن تجنبها، بل إنه بعد ثلاثة أشهر من توليه السلطة بدأت معظم الجماعات السياسية المعادية للشاه في إدراك الخطأ الذي وقعت فيه بتأييدها له وانفضت من حوله”. وبنهاية عام 1979، تحولت الثورة الشعبية على النظام الديكتاتوري للشاه، إلى “اغتصاب ديني للسلطة”.

المرجع الشيعي محمد كاظم الحسيني شريعتمداري، الذي أنقذ الخميني من الإعدام في عهد الشاه، كان يشدد على النأي بالإسلام عن السياسة، ويعارض فكرة ولاية الفقيه والدستور الذي تضمن صلاحيات مطلقة للخميني تفوق ما كان للشاه. وفي كتابه “قصة الثورة الإيرانية”، الذي ترجمه إلى العربية عبد الوهاب علوب، يقول ذبيح إن الخميني “عقد العزم على أن يكون النظام الجديد جمهورية إسلامية خالصة ومطلقة”، واصفاً الأهمية السياسية لبيانات الخميني بأنها ظلت ضئيلة حتى نهاية عام 1978، فالثورة ولدت “داخل البلاد”، بمشاركة شعبية، وإن الجماعات اليسارية التي دعمت الخميني عام 1979 “لسحق أنصار شريعتمداري تحولت هي نفسها بعد قليل إلى ضحية لانتقام الخميني”.

 لم تتأخر الإفاقة، وانشق عن الخميني رجال دين وسياسيون حذروا من إعادة إنتاج الاستبداد، وتوالت الإعدامات بتهم “التمرد على الدولة، والفساد في الأرض، ومحاربة الله”. وقضت محكمة الثورة بإعدام الكثيرين من المناضلين ضد استبداد الشاه. ولم ينجُ رئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر من تهمة الخيانة، وعزله الخميني فاختبأ، فأصدر آية الله قدوسي المدعي العام لمحاكم الثورة أمرا باعتقاله، مع توعّد من يساعدونه على الهرب. تلك الدراما الإيرانية إحدى نتائج اختزال الثورة في شخص، واعتبار الشخص هو الوطن أو روح الله. يقل في الدرجة، لا النوع، إذا كان الحكم عسكرياً كما بدأ في مصر، ليلة 23 تموز/يوليو 1952، ولم ينته.

في الشهور السابقة لاستيلاء الضباط الأحرار على الحكم، تلاحقت الوقائع. في تشرين الأول/أكتوبر 1951 أعلن رئيس الوزراء مصطفى النحاس إلغاء معاهدة عام 1936 مع الاحتلال البريطاني. كان النحاس سياسيا عنيداً، رفض إقامة احتفال ديني لتتويج الملك فاروق.

كان التخطيط أن يجيب الملك عن أسئلة شيخ الأزهر، ثم يقسم اليمين. رفض النحاس هذا الطقس استناداً إلى ليبرالية حزب الوفد التي تفصل الدين عن الدولة. في تموز/يوليو 1952، كان النحاس المعزول في عطلة صيف في سويسرا، وتمكن الضباط الأحرار من خلع الملك، وإجباره على مغادرة مصر. وعاد النحاس سعيداً بمصر الجديدة، شامتا بالملك الديكتاتور الذي لم يتقن إلا إقالة حكومة حزب الوفد.

فوجئ النحاس بحكم ضباط شبان حققوا، بالضربة القاضية، ما عجزت عنه الحركة الوطنية بالنقاط منذ عقود. ما كان لضابط في سن الرابعة والثلاثين، يفاوض الإنجليز على اتفاقية الجلاء، ليترك السلطة غنيمة لرجال الأحزاب، ويرجع إلى خشونة المعسكر ينتظر ترقية من قائده. واختلف الضباط، وتعرض البعض منهم للاعتقال والإقصاء، هذا متوقع إذا أديرت السياسة بمنطق المعسكر.

معدات مدمرة من الجيش السوري

وما كان الفكاك من الحكم العسكري لينجح إلا بثورة شعبية، فكانت 25 كانون الثاني/يناير 2011، لولا عثرتين دبّرتهما القوى المضادة للثورة. ولأن “الثورة النصيحة”، مثل الدين، ففي المسألة السورية الحالية يؤكد السوريون عدم تكرار “السيناريو المصري”، يعايروننا بعودة العسكرة. والمصريون ينصحونهم ألا يتأفغنوا أكثر من اللازم.

رصيف 22

——————————

مصير الجولان المحتل بعد سقوط الأسد… هل يتكرر سيناريو التنازل؟/ معاذ سعد فاروق

الخميس 19 ديسمبر 2024

في خطوة وصفت بالاستباقية، ضربت إسرائيل، فور سقوط نظام الأسد، أهدافاً عسكرية للجيش السوري، لضمان “عدم وجود أسلحة توجه نحوها”. ثم دفعت بنفسها، زاحفةً زحفاً برياً، إلى المنطقة العازلة القائمة منذ فترة طويلة بين البلدين، في قرار أكدت أنه “مؤقت”. فضلاً عن طردها لسكان قريتي الحرية والحميدية، المحاذيتين للقنيطرة، والسيطرة على نقطة جبل الشيخ الشرقية التي كانت تحت سيطرة الجيش السوري.

“إقدام إسرائيل على هذه الحركة التوسعية، لا يمكن فصله عن مشروعها التوسعي في الفضاء العربي. ولا شك أن تواطؤ العالم الغربي ومعه معظم الدول العربية، في حرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بغزة، قد شجع إسرائيل على احتلال ما يُسمى بالمنطقة العازلة”، يقول د. نزيه بريك، المهندس المعماري والمخطط الحضري من الجولان المحتل، لرصيف22.

منذ عام 1967، أصبحت هضبة الجولان ورقة مهمة في العلاقة الإسرائيلية بالنظام الحاكم. خاصة أن محللين ومؤرخين كُثراً رأوا أن حافظ الأسد تنازل عنها للوصول إلى كرسي السلطة. والآن بعد مرور عقود على احتلاها، تعود المنطقة إلى الساحة السياسية، في ظل السيطرة الإسرائيلية التوسعية، والأسئلة الكثيرة التي تكتنف مستقبل سوريا السياسيّ، وبالتالي مستقبل الجولان، بجزأيه المحتل وغير المحتل.

كيف تستغل إسرائيل دروز الجولان؟

30 مستوطنة إسرائيلية أقيمت في الجولان، يقطنها نحو 20 ألف إسرائيلي، على نحو غير قانوني بموجب القانون الدولي. وعلى الرغم من ذلك، فقد وافقت الحكومة الإسرائيلية، في 15 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، على خطة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتوسيع الاستيطان في الجولان المحتل.

فند نتنياهو، الأسباب التي دفعت إلى هذا القرار، في بيان صادر عن مكتبه، قائلاً إن “تعزيز مرتفعات الجولان هو تعزيز لدولة إسرائيل، وهو أمر مهم بشكل خاص في هذا الوقت”، مؤكداً: “سنواصل التمسك بها، ونجعلها تزدهر، ونستوطن فيها، وليس لدينا نية لمواجهة سوريا. وسنحدد سياستنا بناء على الواقع في الميدان”.

ولاقى قرار الحكومة الإسرائيلية، إدانات عربية واسعة، وإدانة من تركيا التي أكدت أن الهدف الرئيسي من قرار تل أبيب هو توسيع حدود الأراضي المحتلة.

وفي مقابل ذلك، وجدت قرارات حكومة نتنياهو مساندة من ناحية أخرى؛ إذ اجتمعت شخصيات درزية في قرية الخضر في الجولان، بالقرب من الحدود الشمالية، وطالبوا بضمّ قراهم إلى أراضي هضبة الجولان، والعيش تحت الحماية الإسرائيلية.

وعلى الرغم من انتشار هذه الدعوات بشدة على منصات التواصل الاجتماعي، فإن الشيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، عقد اجتماعاً يوم 14 ديسمبر/كانون الأول، في مقام سيدنا النبي الخضر في كفر ياسيف في الجليل، شدد خلاله على “أهمية وحدة الصف وتبني موقف واحد لدعم ما أسماه “الإخوة في سوريا”، وعلى أن الموحدين الدروز كانوا منذ مطلع التاريخ مركباً أساسياً من لبنات الاستقلال السّوريّ، وعليهم أن يكونوا جزءاً من أي عملية سياسية هناك، دون تهميش دورهم”. وأجمع الحاضرون على موقف رسمي موحد، بعيداً عما وصفوه بـ”بعض الأصوات المحلية الفردية التي تؤثر سلباً على أبناء الطائفة في سوريا”.

انقسام الجولان في ظل الثورة

يصف بريك ما حدث في الجولان قبل سقوط النظام: “منذ بداية انتفاضة الشعب السوري ضد النظام الدموي، عاش سكان الجولان المحتل انقساماً واضحاً، بين فئة صغيرة مؤيدة لنظام الأسد، وأخرى أكبر معارضة له”.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

في السياق، يؤكد الباحث السياسي د. ثائر أبو صالح، على أن “هناك فرحة كبيرة في الجولان برحيل “الأسد”، وأن ثمة عودة للأمل لدى الشعب السوري في بناء دولة حديثة تقوم على أسس مدنية وديمقراطية”.

ويرى بريك أن هذا الانقسام في المجتمع الجولاني، أحدث فراغاً في مسار التصدي لمشروع “الأسرلة”، الذي تعمل عليه إسرائيل منذ بداية احتلال الجولان، قائلاً: “لأن فيزياء النضال لا تعترف بالفراغ، فكان من الطبيعي أن تستغل إسرائيل الانقسام الداخلي، وتسارع في تنفيذ برامج تصب في أسرلة المجتمع الجولاني المحتل، بعد أن ضمّت الجولان رسمياً تحت سلطة مشروعها الاستعماري. ولا أنكر أنها قطعت شوطاً كبيراً في مشروع الأسرلة. ويعود الفضل في ذلك أولاً لنظام الأسد المجرم، الذي قاد حرب إبادة مشبعة بالجرائم والفظائع ضد شعبه”.

“كان لذلك انعكاس سلبي على المجتمع الجولاني، فقد تشكلت، سيما لدى الشباب، أزمة وفراغاً في الهوية والانتماء. إذ ترى شريحة واسعة من المجتمع، أن سلطة الاحتلال أرحم من نظام الأسد”، يضيف بريك.

هل ستحرر “هيئة تحرير الشام” الجولان؟

في سؤاله عما إذا كان يعتقد أن هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني”، ستدخل في مناوشات مع إسرائيل بشأن الجولان، يجب بريك: “تحرير الجولان بحاجة أولاً لبناء الدولة المتماسكة اجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً. هذا التماسك لا يزال رهن الاختبار في الدولة السورية، خاصة بعد هذا الدمار الأفقي والعمودي الذي أنتجه النظام البائد. وبالتالي، فإن كل فعل باتجاه التحرير في هذه المرحلة سيكون مصيره الفشل، وستعود سوريا إلى مرحلة الشعارات الفارغة، والداخل الضعيف والمفتت، الذي لا يمكن أن يُنتج شيئا قويا ومُحكماً”.

من جانبه، يوضح أبو صالح أن “إسرائيل ستحاول البقاء في هذه المنطقة، حتى يتم فرض انسحابها عن طريق الضغط الدولي، خاصة الأمريكي، لكن بعد أن يطمئنوا بالنسبة لتوجهات هيئة تحرير الشام”.

ويتابع: “لا أعتقد دخول هيئة تحرير الشام في مناوشات مع إسرائيل، لكن ربما ستعتمد الهيئة على الضغط الدولي، وقد صرح أحمد الشرع أن الشعب السوري ليس بحاجة إلى حروب جديدة”.

“تحاول إسرائيل التأكيد في المرحلة الحالية أن الجولان أصبح إسرائيلياً. وأعتقد أن هذا يأتي نتيجة لشعور إسرائيل بأن فتح ملف الجولان وعودته للسيادة السورية أصبح أمراً وارداً. وربما يترتب على ذلك محاولة إقناع أهل الجولان بأنه لا أمل في عودته”، يقول أبو صالح.

أرضية الصراع الداخلي التي حكمت مصير الجولان

وفي ظل محاولات إسرائيل توسيع استغلال الأوضاع في سوريا، لتوسيع استيطانها في الجولان المحتل، من المهم أن نعرف قصة احتلاله ودور الأسد الأب في ذلك.

بدأت المناوشات بين سوريا وإسرائيل منذ نكسة عام 1967، حين هاجم القادة السوريون إسرائيل، من بينهم حافظ الأسد، وكان آنذاك وزيراً للدفاع، إذ قال في 13 يناير/كانون الثاني من العام نفسه: “إن الوجود الصهيوني في فلسطين يعني العدوان، والعدوان لا يستطيع التعايش مع السلام في منطقة واحدة”، وفقاً لما ذكره الكاتب الإسرائيلي موشيه ماعوز.

وعلى الرغم من أن إبرام سلام مزمع بين الطرفين الإسرائيلي والسوري كان محتملاً، إلا أن إسرائيل تراجعت عن قرارها المرن عام 1967 بإعادة الجولان مقابل اتفاق السلام. ويؤكد ماعوز أنه عندما تولى حافظ الأسد القيادة بدمشق في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1970، اعتبرت جولدا مائير، رئيس الوزراء الإسرائيلية، هذا الحدث إشارة إلى ضعف وصراع داخلي في سوريا، وأدركت أن ما حدث كان انعكاساً لأكثر من صراع على السلطة.

ويذكر ماعوز في كتابه “إسرائيل وسوريا من الحرب إلى صناعة السلام”، أنه منذ أواسط عام 1969، هاجمت القوات السورية مواقع إسرائيلية في الجولان بين فترة وأخرى، مستخدمةً الغارات الأرضية والهجمات الجوية، ضد قواعد الفدائيين في سوريا ولبنان، ما ساهم بدوره في تأجيج الصراع على السلطة بدمشق.

وسعى صلاح جديد، الرئيس السوري الأسبق (1966- 1970)، إلى الحفاظ على أيديولوجية الجيش السوري، وأعطى الأولوية في النفقات لدعم التطوير الاقتصادي الاجتماعي. أما حافظ الأسد، وزير الدفاع وقائد القوات الجوية، فقد طالب بإعطاء الأولوية لتعزيز القدرات العسكرية، على حساب التطوير الاقتصادي، بهدف بناء جيش نظامي قوي.

وأصر الأسد على ضرورة وضع الفدائيين الفلسطينيين، الذين يهاجمون إسرائيل من حين لآخر، تحت إدارة صارمة للجيش، حتى لا تجد تل أبيب ذريعة لمهاجمة المواقع السورية. كما سعى في الوقت نفسه إلى بناء علاقات تعاون مع الدول العربية الأخرى، بغض النظر عن دور أنظمتها في الصراع ضد إسرائيل.

حافظ الأسد يُطيح بصلاح جديد

واستمرت محاولات دمشق، حتى مطلع عام 1969، في تقليص عمليات الفدائيين، التي تنطلق من الحدود مع الجولان، لتتجنب الردود الانتقامية الإسرائيلية. لكن خلال العام نفسه، شجع نظام “جديد” المجموعات الفدائية، وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية، على تنفيذ عمليات ضد إسرائيل.

أما الأسد، الذي كان أكثر تحفظاً نحو الفدائيين، فقد وضع عام 1968 القوات الفلسطينية المسلحة تحت قيادته، كوزير للدفاع، بهدف الحد من هيمنة “جديد” على القوات، خاصة الصاعقة (منظمة قومية فلسطينية موالية للبعث في سوريا).

وفي مطلع أيار/مايو 1969، أصدر حافظ الأسد قراراً خاصاً ينظم بموجبه أسلوب مراقبة نشاطات القوات الفدائية المختلفة، واستغل الغارات الإسرائيلية الانتقامية ضد مخيمات الفدائيين في سوريا لإضعاف الثقة بصلاح جديد، تمهيداً لإزاحته عن السلطة.

وبناء عليه، نفذ الأسد انقلاباً مصغراً ضد صلاح جديد في 25 فبراير/شباط 1969، لكنه فشل في إزاحة الرئيس السوري، واستمرت جهوده للاستيلاء على السلطة في دمشق.

وهنا ظهرت نية حافظ الأسد تجاه السلطة، خاصة أنه في مارس/ آذار 1969، إذ أجبر المجتمعين في المؤتمر الإقليمي الطارئ، على تبني قرارات معينة تتوافق مع استراتيجيته وتتناقض مع استراتيجية جديد.

وفي سبتمبر/ أيلول 1970، اتخذ الأسد خطوة أخرى للتشكيك في منافسه، فقد استنكر بصفته وزيراً للدفاع، التغطية الجوية التي قدمها الرئيس السوري للوحدات المسلحة الفلسطينية المناهضة للنظام الأردني، إدراكاً منه للخطر الذي تشكله إسرائيل على القوات السورية المشاركة في التغطية.

ويشدد موشيه ماعوز على أن موت جمال عبد الناصر عام 1970، كان الحدث الآخر الذي أعطى الأسد ذريعة للتخلص من صلاح جديد. إذ زاد هذا الحدث من احتمال سقوط سوريا في وجه إسرائيل، خاصة أن عبد الناصر كان ملتزماً الدفاع عن سوريا في حالة شنت إسرائيل هجوماً عليها.

وبناء عليه، اعتقل حافظ الأسد، صلاح جديد وقادة كبار آخرين من حزب البعث، وتولى السلطة في دمشق، إثر انقلاب أبيض في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970.

هل باع الأسد الجولان؟

يقول مصعب قاسم عزاوي، في مؤلفه “الحلف المقدس ونظام عائلة الأسد”، إن “حافظ الأسد سلم الجولان السوري للكيان الصهيوني على طبق من ذهب، دون قيد أو شرط أو قتال خلال نكسة يونيو/حزيران عام 1967، حينما كان وزيراً للدفاع آنذاك.

ويشير إلى أن “ثمن الخيانة العظمى تمثل في إطلاق يد نظام الأسد الفاشي لاحتلال المجتمع اللبناني لاحقاً منذ عام 1976، بمباركة ضمنية من الولايات المتحدة لوأد التيارات الوطنية التقدمية التي كانت تعمل في لبنان، خاصة منظمة التحرير الفلسطينية”.

في السياق نفسه، أكد أحمد زكي، في مؤلفه “آل الأسد وأسرار سقوط آخر الطغاة”، أن “حافظ الأسد باع الجولان لليهود، مقابل مليون دولار له ولشقيقه رفعت، الذي كان همزة الوصل بينه وبين الموساد”. وهو ما ذكره د. محمود جامع في مؤلفه “عرفت السادات”، حين قال إن الرئيس المصري الأسبق أخبره بذلك. لكن يقول آخرون أن هذه الرواية ليست حقيقية.

ويشدد د. إبراهيم سلقيني، في مؤلفه “آل سلقيني في حلب”، على أن حافظ الأسد باع الجولان، موضحاً: “كان آنذاك وزيراً للدفاع، وكانت الجبهة السورية المرتفعة محصنة أعظم تحصين. وكان الاتفاق السري هو أن يسلم الأسد هذا الحصن الحصين لليهود من دون قتال وبسهولة فائقة، فأصدر وهو وزير الدفاع، أعلى سلطة في الجيش – بيان الخيانة، إذ أعلن فيه سقوط الجولان بيد اليهود، وأمر فيه الجنود بالانسحاب الكيفي، أي كل عسكري يترك سلاحه وعتاده وينجو بنفسه، فانصرف الجنود جميعاً بناء على هذا الأمر”.

ويتابع: “هكذا أخذ اليهود الجولان من دون مقاومة تذكر، وترك جنودنا لهم، كل ما في الأرض المحصنة من سلاح وعتاد وذخائر”، مشيراً إلى أن مكافأة الخيانة عندما “سلم اليهود رقابنا جميعا للأسد، من خلال ما أسموه الحركة التصحيحية، ثم أجروا استفتاءً على الدستور ليعدلوه على مقاسه، فيحكم بسلطة مطلقة على البلاد والعباد”.

لكن يختلف د. بريك مع هذا الطرح فيقول “لا توجد أي وثيقة تؤكد أن حافظ الأسد باع الجولان لإسرائيل، مستدركاً: “لكن يمكنني القول إنه باع الجولان لأنه تخلى عن تحرير الجولان. فمند عام 1974 لم يُطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، وكانت حدود الجولان أكثر أماناً من تل أبيب. لقد تاجر الأسد بتحرير الجولان وفلسطين، كما فعل غيره من الزعماء، للبقاء في السلطة. وداس بالحذاء العسكري كل مقومات الحياة الإنسانية، تحت شعار التحرير”.

ويتفق د. أبو صالح مع ذلك، فيقول: “لا أعتقد أن ما حدث مُدرج تحت مفاهيم البيع والشراء. فلو كانت إسرائيل تمتلك صكاً من هذا النوع لأخرجته، لكنه تنازل عن الجولان بالسكوت وحماية حدود إسرائيل، مقابل عدم المساس بحكمه. هذا وارد وقد يكون مؤكداً”.

على أية حال، فقد سقطت هضبة الجولان بيد إسرائيل، رغم اعترافات المؤلف الإسرائيلي موشيه ماعوز، بأن “القصف السوري للكيبوتسات الإسرائيلية كان يتم من مرتفعات الجولان”، ما يعني أنها كانت مؤثرة في الحرب ضد تل أبيب، وربما كانت ستغير المعادلة بأكملها في المنطقة”.

رصيف 22

———————-

من ينتصر في سوريا، بايدن أم ترامب؟/ عامر بدران

19 كانون الأول 2024

لقد استعرضنا في المقال السابق اللاعبين الإقليميين في سوريا وأدوارهم المتوقعة في المستقبل، أو لنقل إمكانية نفوذ كل واحد منهم بما تقدّمه له مزايا الحاضر أو تناقضاته، لكن هذا الاستعراض المبسّط، والمبني على التساؤلات أساساً، لا يفيدنا تماماً ولا يقدم لنا إجابة مقنعة إن لم يترافق مع تصور لما يريده اللاعب الأساس، أو شرطي العالم كما يقال، وهو الولايات المتحدة الأمريكية. هل يعني هذا أن لا شيء يتم إلا إذا قرّرت الولايات المتحدة الأمريكية، أو على الأقل أرادت؟ بالطبع لا، لكن وكما توصف إيران بأنها دولة قوية بأذرعها، فأمريكا دولة قوية بحلفائها في المنطقة.

القصد هو أنه في عالم اليوم، لا توجد دولة قوية لأنها تمتلك سلاحاً وجيشاً قويين فحسب، بل لأن حلفاءها وأوراق ضغطها وتشابك مصالحها مع مكونات بقعة جغرافية ما، أو إقليم ما، هو ما يجعل من هذه القوة قوة نافعة وذات جدوى أو مردود واضح. وأمريكا تجيد لعبة التحالفات، شئنا أو أبينا، وهي تجيد لعبة العصا والجزرة مع الخصوم والأصدقاء على حد سواء. ولهذه الاعتبارات فهي قوة عظمى أولاً، وهي اللاعب الأساس في سوريا حالياً، حتى لو بدا أن تركيا تمسك بزمام الأمور هنا، وإسرائيل تستولي على بقعة جغرافية هناك.

لنحاول إذن رؤية الموقف الأمريكي في سوريا، ومن سوريا الجديدة، من زاويتين؛ أي من زاوية الإدارة الحالية والإدارة القادمة، أو من الزاوية التي طرحناها قبل أسبوعين في عنوان مأخوذ من صحيفة “لوس أنجلوس تايمز”، وهو زاوية “السي آي إيه” مقابل زاوية “البنتاغون”، أو من زاوية الديمقراطيين الجدد، ممثلين بأوباما حول الشرق الأوسط الجديد، وزاوية الجمهوريين الجدد، ممثلين بـ ترامب حول صفقة القرن وسلام إبراهيم، أو من زاوية الحلفاء في المنطقة، وتحديداً في الخليج، آخذين كمثال دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر، وربما نستطيع استعراض الكثير من الزوايا المتوازية والمتضاربة، وصولاً إلى زاوية “كوكا كولا” و”بيبسي كولا” على سبيل التسلية، باعتبار أن كل واحدة منهما تعود إلى أحد الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة.

في عهد ترامب، أي في ولايته الرئاسية الأولى، تم تخصيص جائزة مقدارها عشرة ملايين دولار أمريكي لمن يساعد في اعتقال زعيم “هيئة تحرير الشام”، أبي محمد الجولاني، لكن وزير خارجية الإدارة الديمقراطية الحالية أنتوني بلينكن، يصرّح علناً في اجتماع العقبة قبل يومين، أن إدارته على اتصال دائم مع “هيئة تحرير الشام” وزعيمها “أحمد الشرع”.

في العام 2006 صدر كتاب الصحفية الأمريكية المخضرمة روبين رايت، بعنوان “أحلام وظلال… مستقبل الشرق الأوسط”، والذي تلقفته فيما بعد إدارة أوباما، واعتمدته في سياستها تجاه هذه المنطقة من العالم.

جلسات وندوات طويلة تم عقدها في الولايات المتحدة لدراسة الحلم عند الشباب العربي بأوطان مستقرة تلبي طموحاتهم وآمالهم، ولدراسة الظلال التي تغطي هذا الحلم وتمنع تحقيقه، وما هو دور أمريكا المطلوب من أجل تحقيق ذلك.

نتج عن هذه الندوات ما تم تكريسه فيما بعد كمصطلح في السياسة والإعلام بـ “الشرق الأوسط الجديد”، والذي تسعى الإدارة الديمقراطية له. لماذا نقول تم تكريسه؟ لأنه لم يكن جديداً تماماً، فقد نادت به كونداليزا رايس، بعد تمكن الجمهوريين من إسقاط نظام صدام حسين عام 2003 في عهد بوش الابن. إذن هذا المصطلح حمل أولاً مدلولات مختلفة في عهد أوباما عنها في عهد بوش، وثانياً تم تخصيص الدراسات والموارد لتحقيقه.

هذا التحقيق يتطلب إعادة صياغة لخارطة الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا وفلسطين. لا يطلب الكتاب تقسيم سوريا، لكن الخرائط المنشورة كنتاج للندوات اللاحقة تدعو صراحة لإعادة صياغة المنطقة على أساس طائفي، أو على الأقل انطلاقاً من مكوناتها الدينية ومن مصالح أقلياتها. كل ذلك من أجل الاستقرار لهذا الإقليم المضطرب طائفياً منذ زمن طويل، أما في الأساس منه فهو إعادة موضعة إسرائيل كدولة دينية، أو دولة لجماعة دينية، مقبولة وطبيعية في محيط من الدول المشابهة.

هذه الدول المشابهة معنية بها أمريكا الديمقراطيين كدول حليفة، للحفاظ بشكل أمثل على مصالحها في أمن الطاقة وأمن خطوط التجارة، فهي لا تكتفي بإسرائيل كحليف أوحد ما دامت وحدانية هذا الحليف يمكنها أن تتسبب في نشوء حركات وتنظيمات تزعزع استقرار المنطقة، لهذا فهي تريد حلفاء أكثر، وهذا أفضل بكل تأكيد.

لا يوجد برهان أفضل لهذه الفكرة من سياسة الإدارات الديمقراطية تجاه الملف النووي الإيراني، ففي حين يرى نتنياهو وترامب ضرورة القضاء على إيران، نجد أن أوباما وبايدن والسي آي إيه يعملون ليل نهار لإعادة فتح المفاوضات مع إيران والعمل على احتوائها. هل هذا جديد؟ بالطبع لا، فالصحفية روبين رايت في كتابها تدافع عن حق إيران في امتلاك سلاح نووي على اعتبار أن هذا السلاح هو سلاح ردع لا سلاح خوض حروب، وأن إيران في حال امتلاكه يمكنها أن تتخلى عن سوء سلوكها في المنطقة عبر وكلائها المسلحين.

ترامب لا يكترث كثيراً لهذه التقسيمات، وهو يعتقد أن السلام المبني على القوة هو الحل. فكرته باختصار هي أنه عليك أن تخاف لتعقد سلاماً مع إسرائيل التي تخيفك. سلام إبراهيم منطلق من هذا المبدأ، وصفقة القرن مبنية عليه، وإسرائيل كحليف قوي وأوحد هي في صميمه. أقصد في المحصلة أن ترامب، وأعتقد أنني غير مخطئ تماماً، لا يضع تقسيم سوريا في سلّم أولوياته من أجل إجبارها على عقد سلام مستقبلي مع إسرائيل، فدولة واحدة أسهل في المفاوضات من ثلاث دول في نهاية المطاف.

ماذا بخصوص البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية؟ في العام 2015 قررت وزارة الدفاع الأمريكية نشر 400 من الجنود في شمال شرق سوريا، لتدريب المعارضة السورية على قتال داعش. في تلك الفترة كانت داعش جزءاً من المعارضة، أو على الأقل تزاحم داخلها، وكان من الأولى للبنتاغون أن يتركها مؤقتاً إلى حين تحقيق غايات المعارضة في إسقاط النظام الذي يطالب الغرب، وعلى رأسه أمريكا، بإسقاطه. لماذا يحارب البنتاغون شقاً من المعارضة، في حين تعمل السي آي إيه في غرب سوريا مع المخابرات التركية لتقوية وتسليح هيئة تحرير الشام بأسمائها المختلفة؟

ما الذي يمكن استخلاصه، إن أضفنا استعجال قطر وتركيا فتح سفارات لها في دمشق، بينما تتريّث الإمارات؟ بالطبع يستطيع أي متابع أن يجري مقارنة إضافية بين خطاب قناة “الجزيرة” المتحمس لهيئة تحرير الشام، وخطاب سكاي نيوز عربية الذي يركز على انتهاكاتها ويضخّمها.

إن الخلاصة هي التالية وباختصار شديد:

لا ترغب الإدارة الحالية في رؤية سوريا موحدة، لذا فهي تستعجل تمكين “هيئة تحرير الشام” في الحكم بكل ما تملك من دعم مباشر، ودعم غير مباشر، عن طريق حلفائها في المنطقة وفي أوروبا، وهي تعرف تماماً أن لا المكونات الكردية يمكنها أن تسلم سلاحها ولا مكونات الجيش الوطني في محافظات درعا والسويداء. وهي تغض الطرف كذلك عن قضم المنطقة العازلة وجبل الشيخ من قبل إسرائيل، وهي تعرف وتسكت حول النوايا التركية في إدلب.

الجولاني من طرفه يدعو إلى “إنهاء الحكم المركزي في سوريا” وهذا يعني إما التقسيم، أو الفيدرالية بين كيانات مستقلة، أو مناطق حكم ذاتي ضمن مسمى واسع وفضفاض لدولة واحدة.

هل تنجح الإدارة الحالية في الوقت المتبقي لها بترك سوريا نهباً للاعبين الإقليميين كمناطق نفوذ، وقنبلة قابلة للانفجار في وجه ترامب وسلامه الإبراهيمي، أم تكون الدولة القادمة التي ستنضم إلى هذا السلام مقابل الحفاظ على وحدة أراضيها؟ هذا ما تتصارع حوله الإدارتان حالياً. 

رصيف 22

————————-

متى سيُفرَج عنهم؟… عن مصير المتهمين بالـ”إرهاب” بسبب الثورة السورية في سجون لبنان/ عائشة صبري

الخميس 19 ديسمبر 2024

ابن البقاع اللبناني عمر الأطرش (33 عاماً) شاهداً على الظلم المستمر منذ اعتقاله مطلع العام 2014، إذ لم تُسدل العدالة ستارها على قضيته، ليبقى عالقاً في دهاليز المحاكمة من دون صدور حكم، خلف أسوار السجن المركزي في بيروت المعروف باسم “رومية”، على خلفية مناصرته للثورة السورية.

حكاية عمر ليست مجرد سرد لمعاناة فردية، بل هي انعكاس لجراح المعتقلين بتهم “الإرهاب” أو ما يعرف بـ “الإسلاميين” المرتبطة بالثورة السورية، وتُقدّر أعدادهم حسب مصادر رصيف22 بنحو 400 معتقل في سجن “رومية”، مناصفةً ما بين لبنانيين وسوريين إضافة إلى عشرات من الفلسطينيين.

يقاسي هؤلاء من وضع صعب داخل السجن يدفع بعضهم إلى التهديد مراراً بالانتحار بسبب الجوع والعطش والمياه الملوثة ونقص الرعاية الصحية، أو اعتراضاً على تسليمهم لنظام الأسد، كما أضربوا عن الطعام من قبل في حملة “الأمعاء الخاوية”.

تراوح محكومياتهم ما بين المؤبد والإعدام والسجن من 10 إلى 20 سنة، بينما هناك سجناء غير محكومين جرمهم الوحيد معارضتهم لنظام الأسد أو الانشقاق عن جيشه.

مع خروج المعتقلين من سجون النظام السوري بعد إسقاطه، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الحالي، من جنسيات مختلفة عرب وأجانب بمن فيهم لبنانيون، فُتحت أبواب الأمل لدى أولئك المغيبين في سجن رومية بأن تكون معاناة اليوم بذرةً لحرية الغد، فكما انعكست الثورة السورية سلباً على مناصريها عندما ساهمت الحكومة اللبنانية بمساندة بشار الأسد باعتقالهم، يجب أن تنعكس الثورة بنصرها إيجاباً وتعاد محاكماتهم العادلة، كما يقول الأطرش لرصيف 22.

تحركات لبنانية عاجلة

تشهد الساحة اللبنانية تحركات عاجلة بهدف إطلاق سراح المعتقلين في سجن رومية بسبب مناصرتهم للثورة السورية، وخلال صلاة الجمعة 13 الشهر الحالي في مسجد محمد الأمين وسط بيروت، وجّه الشيخ أمين الكردي أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية، تحذيراً إلى أركان السلطة اللبنانية لحل قضية المعتقلين في سجن رومية، قال: “لن نرضى بالظلم بعد اليوم، ولن نقبل بأن يتحكم البعثيون بالمسلمين المعتقلين”.

في هذا السياق، قال الشيخ نبيل رحيم عضو لجنة متابعة المعتقلين بتهم “إرهاب” لرصيف22 إن الحكومة اللبنانية تبنّت السردية الإيرانية في تصنيف فصائل الجيش السوري الحر على أنّهم “إرهابيون”، إذ استخدم نظام الأسد منهجية تخويف المكونات المجتمعية من بعضها البعض لينصب نفسه حامياً للأقليات، عبر فبركة الأفلام عن المسلمين السنّة، واليوم بعد سقوطه نشاهد الثورة السورية دحضت كل الأكاذيب السابقة.

أضاف رحيم: “نطالب اليوم بإصدار قرار عفو عام عن جميع المعتقلين بتهم الإرهاب، مع تعويضهم لأنّهم سجنوا ظلماً وخسروا أعمالهم وأسرهم، وعلى رأسهم المشايخ اللبنانيون: أحمد الأسير، مصطفى الحجيري، عمر الأطرش”.

وأوضح أنّ المحاكم اللبنانية خاضعة لأطراف سياسية كانت تعرقل قانون العفو، وتحديداً “كتلة التيار الوطني الحر” بقيادة جبران باسيل، وبعض الكتل الأخرى، مؤكداً: “سنتحرّك بكل ما نستطيع من إجراءات من بينها لقاءات مع المسؤولين، واعتصامات بدأنا بها أمام سجن رومية يوم 10 الشهر الجاري وندعو لاعتصام يوم الأحد المقبل”.

كما دعا مفتي راشيا د. وفيق حجازي، في لقاء مع العلماء، يوم الجمعة الماضي، إلى متابعة ملف المعتقلين اللبنانيين في سوريا من خلال التواصل مع السلطة السورية الجديدة والمنظمات الدولية لمعرفة مصيرهم، وحذّر من مغبّة المماطلة في إطلاق سراح المتهمين بالإرهاب من السجون اللبنانية لأنّهم سجنوا لوقوفهم مع المظلوم ضد الظالم.

وفي خطوة رسمية، أعلن “تكتل الاعتدال الوطني”، بعد اجتماعه الدوري، في حضور أعضائه النواب أنه سيتقدم باقتراح قانون للعفو العام إلى مجلس النواب، وسيعقد مؤتمراً صحافياً في المجلس للإعلان عما يتضمنه القانون. حسب وكالة الأنباء اللبنانية.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

بدوره، رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وجّه بالإسراع في تكليف لجنة للكشف على السجون اللبنانية ومتابعة الأوضاع إلى حين حسم مجلس النواب موضوع العفو العام، وذلك خلال اجتماع مع وزيري الداخلية بسام مولوي والعدل هنري الخوري، 16 الشهر الحالي، بعدما ناقشوا أوضاع الموقوفين والسجون في لبنان، والمعتقلين في سوريا، مع تأكيد متابعة ملف السجناء غير المحكومين. وفقاً لصحيفة الأخبار اللبنانية.

جهود قانونية لإنقاذ المعتقلين

يقول مدير “مركز سيدار للدراسات القانونية” المحامي اللبناني محمد صبلوح لرصيف22: “قوى الثورة السورية انتصرت وباتت هي نظام الحكم الجديد في دمشق، لذلك على الحكومة اللبنانية إعادة النظر في ملفات المعتقلين بسبب الثورة”، مضيفاً: “نعمل على مشروع قانوني بالتعاون مع مجلس النواب اللبناني لتحقيق العدالة والاعتراف بالخطأ على مدى السنوات الماضية ورفع الضرر والظلم عن المعتقلين”.

ولفت إلى زوال كلّ المبررات التي كانت ذريعة لاعتقالهم، وتقرير منظمة العفو الدولية بعنوان “لبنان: كم تمنيت أن أموت: لاجئون سوريون احتجزوا تعسفياً بتهم تتعلق بالإرهاب وتعرضوا للتعذيب في لبنان”، يثبت كيف تم فبركة ملفات المتهمين بالإرهاب.

الخطوات القادمة، التي يعمل عليها صبلوح، ستكون رفع شكاوى قضائية ضد المسؤولين في سوريا ولبنان بتهم الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها بحق المعتقلين، كما يعمل على دراسات لاتخاذ إجراءات قانونية بحق المسؤولين السوريين الذين فرُّوا إلى لبنان. وفيما يخصّ المعتقلين اللبنانيين في سجون نظام الأسد، وضعت وزارة العدل اللبنانية يدها على ملفهم في مسعى لتحديد مصيرهم. يقول صبلوح: “نعمل على جمع بيانات المفقودين اللبنانيين بالتعاون مع حقوقيين سوريين لمعرفة مصيرهم، لدينا حالياً أكثر من 622 مفقوداً لبنانياً كانوا في السجون السورية، ومن أفرج عنهم خلال الأيام الأخيرة لا يتجاوز عددهم العشرة، من بينهم سهيل حموي، الذي وصل إلى بلاده بعد 33 عاماً سجنًا، وعلي حسن العلي بعد 40 عاماً في السجون السورية”.

عن الحلول المقترحة، يقول المحامي اللبناني طارق شندب، لرصيف22: “أفضل حلّ للمعتقلين السوريين هو تفعيل الاتفاق القضائي المعقود بين سوريا ولبنان والموقّع في دمشق بتاريخ 25 شباط/فبراير 1951، وهو يحدّد أسس التعاون القضائي بين البلدين وتسليم المطلوبين لكلتا الدولتين، علماً أن اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963 تضمن حقوق الرعايا الأجانب في السجون وتؤكد حقهم في الحصول على معاملة إنسانية.

ولفت شندب إلى أنّ صدور قرار العفو العام يأخذ وقتاً طويلاً ويتطلب النظر بالأحكام القضائية الثانية بحق المعتقلين مثل المخدرات. مشدداً على ضرورة إعادة المحاكمات للمعتقلين اللبنانيين الذين حوكموا بمحاكمات عسكرية غير عادلية على خلفية مناصرتهم للثورة السورية أو إصدار قانون يخفض المدة السجنية.

وأوضح شندب أنّ التحقيقات الأولية بقضايا الإرهاب المزعوم تنتهك حقوق المتهمين، إمّا بالمعاملة الشديدة والتعذيب، وهذه مخالفة صارخة لـ اتفاقية مناهضة التعذيب التي وقّع عليها لبنان منذ عام 2000، أو بمنع التواصل مع محامٍ للدفاع عنهم، وهو مخالف للمادة 47 التي تفرض حضور محامي إلى جانب الموقوف في التحقيقات الأولية.

ومن أبرز هذه القصص محاكمة اللاجئ السوري حسن محمد جميل حربا (44 عاماً) الحكم عليه بالمؤبد، من قبل النيابة العامة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع اللبنانية في 17 أيار/مايو 2021، رغم تقديم المحامية ديالا شحادة والشهود الأدلة القاطعة لبراءته، أبرزها اختلاف اسم الوالدَين عن اسم والدَيّ المتهم الحقيقي الذي قُتل في معارك مدينة تدمر بريف حمص عام 2015.

وقالت شقيقة المعتقل منذ 27 شباط/ فبراير 2015 آمنة حربا لرصيف22: “أخي كان يعمل في مدينته القصير بائع حليب واستمر بعمله في مخيمات عرسال ولم يسبق له القيام بأي عمل عسكري، وصلة القرابة بعيدة بين الاثنين”، موضحة أنّ والدتها اسمها فاطمة، بينما والدة المشتبه به حسن يونس حربا الملقب بـ”أبي علي الوادي” تدعى عزيزة، والتهمة مشاركة القيادي في معارك وقعت بين فصائل مسلحة سورية والجيش اللبناني في بلدة عرسال وجرودها في 02 آب/ أغسطس 2014، حيث اتهمت قاضية التحقيق نجاة أبو شقرا في 17 أيار/ مايو 2016 أكثر من 152 شخصاً في الضلوع بهذه الواقعة.

تأثير الضغط الإعلامي لدعم المعتقلين في لبنان

دعا القائمون على حملة “أنقذوا المعتقلين السوريين في لبنان”، المعنية بالدفاع عن حقوق المعتقلين السوريين، إلى الإفراج عن المعتقلين الذين تم توقيفهم على خلفية مواقفهم المؤيدة للثورة السورية، وطالبوا في بيان صادر عنهم في 9 الشهر الحالي، القيادة السورية الجديدة باتخاذ خطوات عاجلة لمعالجة هذا الملف، والعمل على تعزيز التعاون مع الدولة اللبنانية، لضمان الإفراج عن المعتقلين، مؤكدين على أهمية احترام القوانين الدولية. 

عن الإجراءات الهادفة إلى دعم المعتقلين السياسيين السوريين واللبنانيين بعد سقوط نظام الأسد، أوضح أحد القائمين على الحملة الإعلامية، الناشط الحقوقي السوري محمد بشير سنّو، لرصيف22، أنّ الإجراءات الحالية تتمثل بالتواصل مع الإدارة السياسية في القيادة السورية الجديدة، بهدف زيادة الضغط على الحكومة اللبنانية لتحقيق العدالة وإنهاء معاناة المعتقلين.

“كما نعمل على الضغط على الحكومة اللبنانية من أجل تنظيم محاكمات عادلة لكل المعتقلين السوريين بشكل عام، وذلك لضمان حقوقهم ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات، بالإضافة إلى حرصنا في نهاية المطاف على تسليم المعتقلين لسوريا الجديدة”، يقول سنّو.

ويرى أنّ القضية يجب أن تأخذ مداها عبر وسائل الإعلام، إذ إنّ ما قام به نظام الأسد هو بمثابة “هولوكوست حقيقي”، مضيفاً: “جهودنا مستمرة في دعم المعتقلين السياسيين، ونسعى لتحقيق العدالة من خلال الضغط على السلطات المعنية ومتابعة القضايا عبر وسائل الإعلام، ويجب أن يكون هناك ضغط إعلامي مستمر لملاحقة الأسد وكلّ المتورطين في هذه الجرائم”.

يختم صبلوح: “الإعلام يلعب دوراً مهماً في إيضاح الحقيقة للناس ونشر مظلومية هؤلاء المعتقلين الذين اتهموا بالإرهاب، والرأي العام الدولي مصدوم من مشاهد التعذيب في سجون النظام السوري خاصة سجن صيدنايا، وهذا ما كنا نحذّر منه على مدى السنوات الماضية من خطورة تسليم الموقوفين السوريين في لبنان لنظام الأسد”.

لا يمكن وصف مشاهد فتح السجون السورية لا سيما سجن صيدنايا، يقول عمر الأطرش، فما بين التحرّر وظهور مدى الإجرام الأسدي بحق المعتقلين، تتصارع مشاعر الأمل واليأس، بين توقٍ إلى الحرية وغصة الألم على ما فُقد.

رصيف 22

———————-

يا أول كلمة… عندما هتفنا لـلأسد بالفرنسية!/ خولة أبوسعدة

الخميس 19 ديسمبر 2024

لدينا جميعاً لحظات “المرات الأولى” التي تترك بصماتها في حياتنا: الكلمة الأولى، الخطوة الأولى، الحب الأول، وحتى الزواج الأول. تلك اللحظات الفريدة، التي تبقى محفورة في ذاكرتنا أو تُروى لنا عبر أقاربنا، غالباُ ما تمثل الفرح والدهشة، وتحمل معاني عميقة تؤثر في مسار حياتنا.

ريما البندلي تباغتني بـ “يا أول كلمة حلوة بالتم”، فتوقظ فيّ نوستالجيا بعيدة، وتثير سؤالاً غريباً يجول في داخلي: ما هي كلمتي الأولى بالعربية؟من أين أبدأ البحث؟

بدافع الفضول، اتصلت بأمي وسألتها مباشرة: “هل تتذكرين أول كلمة نطقت بها عندما كنت صغيرة؟”. ردت بسرعة وثقة: “مّام”.

ضحكت! لم تكن هذه الكلمة سوى محاكاة صوتية لطفلة ترتبط بالحنين إلى الحليب، بالكاد يمكن اعتبارها كلمة حقيقية.

كبرتُ، وتعلمتُ أن اللغة ليست مجرد كلمات، بل هي رحلة طويلة تبدأ بالأصوات الصغيرة التي يصدرها الأطفال، ثم تنتقل إلى المقاطع الصوتية التي تُكوّن الكلمات المُعبّرة عن الأشياء التي يحبونها أو يحتاجونها. هذا الإدراك ألهم المناهج التعليمية الحديثة، حيث أصبح التركيز على الأصوات أولاً  ثم الكلمات، وربطها دائماً بالأشياء المحببة كوسيلة أساسية لتعلم اللغة.

أبجدية الطاغية

ولكن، ماذا عن كلمتي الأولى بالفرنسية؟ كوني الآن لاجئة أحمل بطاقة إقامة، بدأ تعلّمي للفرنسية متأخراً، في سن الأربعين. لم يكن الأمر يشبه خطوات الطفل البريئة؛ فبدلاً من الأصوات البسيطة، واجهتُ القواعد النحوية والجمل المعقدة. كانت هذه التجربة بعيدة كل البعد عن السهولة، ومليئة بالتحديات، لكنها حملت في طياتها شغفاً واكتشافاً جديداً،  فكرتُ أن كلماتي الأولى بالفرنسية ربما كانت: “Bonjour”، أو “Salut”، أو “Ça va”.

لكن عندما استرجعت الماضي، أدركت أن كلماتي الأولى بالفرنسية لم تكن عبارات تحية… لا. لقد كانت: “يحيا شيراك… يحيا الأسد!”.

ففي عام 1996، كنت طالبة في المرحلة الثانوية في سوريا، أقف تحت الشمس الحارقة في مطار دمشق الدولي، مع مئات الطلاب والطالبات، مفصولين كما في مدارسنا: البنات في جهة، والصبيان في جهة أخرى. كان الشيء الوحيد الذي يخفف حرارة الشمس هو مشاهدة الشباب من بعيد، كما في مشهد عادل إمام وسعاد حسني في أحد الأفلام، حيث تتبادل الشخصيات الابتسامات والغمزات والنظرات، لكن دون القدرة حتى على الكلام؛ فهم بعيدون في الجهة المقابلة، ويفصلنا ممر كبير مليء بالمسلحين الملثمين بالسواد.

هتاف بين مدينتين

هنا نرفع رقابنا الرقيقة كل حين، للتأكد أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك حط رحاله في دمشق، في زيارته التاريخية كأول رئيس فرنسي يزور سوريا، منذ نهاية الانتداب الفرنسي  عام 1947.

كنا نهتف بالفرنسية: “يحيا شيراك، يحيا الأسد”. كنا نردّدها مستمتعين بجرسها الموسيقي دون أن نعي معناها، كانت السيارات السوداء تمر بسرعة، ساعات الانتظار الطويلة انتهت في لحظات لم نرَ فيها سوى عوادم  هذه السيارات والكثير الكثير من الملثمين.

إذن،  كلماتي الاولى بالفرنسية هي “يحيا شيراك، يحيا الأسد”. أعتقد أن هذا السبب الذي  يجعل علاقتي مع اللغة الفرنسية  باردة ومزعجة. سبب ناجم عن تروما، حتى بدء فصل جديد في حياتي مع لغة جديدة أفسدها الطاغية الهارب.

منبر الشجعان والشجاعات

بعد 26 عاماً من ذلك الهتاف البعيد، وبعد مجيئي إلى فرنسا كلاجئة، سألت صديقي الفرنسي: “هل هتفت يوماً لشيراك؟”. ضحك وقال لي: “لم أهتف سوى لأمي وأبي، عندما كنت طفلاً أٌسعد في الحصول على الهدايا في ذكرى مولدي أو أعياد الميلاد”.

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، اخترت كلماتي التي سأصدح بها في شوارع العالم كلّه، سأهتف باللغة الفرنسية وسأهتف باللغة العربية: “سقط الأسد… أنا حرّة، حرّة، حرّة”.

رصيف 22

————————–

==========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى