سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024

تحديث 20 كانون الأول 2024

لمتابعة التغطيات السابقة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

———————————-

مكاييل سوريا الجديدة: اتفاق «الأعداء/ الأصدقاء»/ صبحي حديدي

20 كانون الأول 2024

لامرئ أن يدع جانباً، ولكن إلى حين وجيز مرحلي فقط، التصريحات الحمقاء عن «كينونة المرأة» و«طبيعتها البيولوجية والنفسية» التي «لا تتناسب مع كلّ الوظائف في الدولة»؛ التي صدرت على لسان عبيدة أرناؤوط، المسمى متحدثاً رسمياً باسم الإدارة السياسية التابعة لـ«إدارة العمليات العسكرية». هذا نموذج عقل متخلف جاهلي وجاهل، لم يتمّ تشذيبه سياسياً أو هندمته سجالياً، بل لعله غير مسيّس أصلاً، ولم يًلقّن كما يبدو نزراً كافياً أو حتى يسيراً من مهارات التخاطب والمناورات اللفظية التي تكشفت لدى قادته من أمثال أحمد الشرع أو أحمد الدالاتي.

للمرء ذاته أن يدع، جانباً أيضاً وللأمد الوجيز إياه، سلسلة «التكويعات» حسب التعبير السوري الرائج هذه الأيام، والصائب تماماً، ليس لدى أمثال دريد لحام وعباس النوري وسواهما من نجوم الثقافة الشعبية؛ وليس، أيضاً، لدى الثالث بسام كوسا، الذي لم يبصر في انهيار نظام آل الأسد سوى مجرّد «انقلاب». مناخات التعبير الراهنة في سوريا الجديدة تتيح للجميع إبداء الرأي في الشؤون العامة من دون تقييد، ولا تثريب عليهم بمعزل عن عواقبها الأخلاقية والسياسية لدى السوريين، أصحاب ذاكرة ليست حسيرة إزاء مواقف سابقة لهؤلاء في خدمة النظام أو تلميع سجلاته السوداء الدامية.

ثمة، في المقابل، غابة من المكاييل التي أُعلنت سلسلة من المعايير مسبقة الصنع، تُساق على سبيل ضبط سوريا الجديدة، لا تتميّز بصفة أخرى أكثر هيمنة مثل اتفاق النقائض ومصالحة التنافر؛ بين مواقف عنصرية، صريحة أو مبطّنة على نحو رديء، صادرة عن قوى وحكومات ووسائل إعلام غربية، من جهة أولى؛ ونظائرها، لدى كتّاب ومعلّقين ونشطاء منظمات غير حكومية، ولكن في صفوف «اليسار» عموماً، وجبهات «مناهضة الإمبريالية» خصوصاً، من جهة ثانية. هنا تقع «معجزة» التلاقي بين المتناحرين، في تشكيل تلك الفئة العجيبة الغريبة التي تنطبق عليها تسمية «الأعداء/ الأصدقاء».

تتقاطر على دمشق وفود غربية وأممية شتى، وتلتقي مع الشرع أساساً ويندر أن تستمع إلى فعاليات شعبية أو ممثلين عن المجتمع المدني، لتذكّر بضرورة حكومة واسعة التمثيل (وهذه مفهومة، ضمن كليشيهات النصح الغربية الكلاسيكية)؛ وتشترط، أياً كان مستوى التهذيب اللفظي، الحفاظ على حقوق المرأة والأقليات (وهذه مفهومة بدورها، وإن كانت روائحها تفوح أكثر من تواريخ التنميط الكولونيالي قبل شرائع حقوق الإنسان). وقد يقول قائل إنها مطالبات حقّ، متغافلاً عن حقيقة أنّ الباطل هو ما يُراد من معظمها؛ لأنّ أياً من هذه المعايير وسواها لم، ولا، يُطلب من أنظمة عربية أخرى، استبدادية وفاسدة ومغتصبة لحقوق الإنسان والمرأة والتعبير، لكنّ امتيازها أنها مجرّات تابعة سائرة في المدارات الغربية.

مشهد السيدة السورية، التي استقبلت الموفد الأممي غير بيدرسون بالحذاء والبصاق على مشارف سجن صيدنايا، كان واحداً من التعبيرات الأعلى بلاغة حول وسيط دولي شاءت الأقدار أن يبقى على رأس عمله (بعد كوفي أنان، الأخضر الإبراهيمي، وستافان دي ميستورا) ساعة سقوط النظام؛ وشاء من جانبه أن يستعرض عضلاته الأممية بزيارة سجن أطلقت عليه منظمات حقوقية دولية تسمية «المسلخ البشري» ويصعب أنّ بيدرسون لم يقرأ عنه، ولكنه لم ينبس بمفردة واحدة حول أهواله. هذا جانب أوّل في غطرسة عنصرية تستهبل ذاكرة السوريين مسبقاً، وتفترض أنّ من واجبهم قبول المبدأ التالي، بل التهليل له أيضاً: وصول بيدرسون إلى السجن متأخراً 13 سنة، باحتساب أشغال سابقيه في الوظيفة، خير من عدم وصوله البتة!

لا أحد، في المقابل، ينطق بحرف واحد حول أكثر من 400 غارة إسرائيلية استهدفت ما تبقى من أسلحة وعتاد جيش بات اليوم ملكية الشعب السوري وليس نظام آل الأسد؛ بل لا أحد يتحلى بذرّة حياء، أو حرج بسيط، حين يصنّف تلك الاعتداءات في خانة الدفاع عن النفس، وهذا «حقّ» كان مقتصراً على دولة الاحتلال الإسرائيلي، ثمّ انقلب إلى امتياز حصري كيفما شاء أمثال بنيامين نتنياهو، وأينما اختاروا ممارسته. هذا، بدوره، خيار لا حاجة للغوص عميقاً في بواطنه لاستكشاف ما ينطوي عليه من أنماط بغيضة في التمييز العنصري بين عربدة القوة وحقّ المقاومة.

وفي الجانب الآخر من غابة المكاييل، ثمة تلك الشرائح من يسار غربي مناهض للإمبريالية، ولكنه التحق بصفوف النظام السوري من منطلق (زائف أصلاً ومزيف، إذا لم يكن مختلَقاً عن سابق قصد وتصميم) مفاده أنّ السلطة التي تحكم سوريا فاسدة وقمعية واستبدادية، نعم وصحيح (إذْ لا سبيل إلى إنكار هذه، وسواها!)؛ لكنها، في المقابل، «معادية للإمبريالية» و«علمانية» و«ممانعة» وشعبها ضحية العقوبات الأمريكية والأوروبية. وإذ يتعامى هؤلاء عن لجوء النظام إلى استخدام الأسلحة الكيميائية، أو يعمد بعضهم إلى اتهام المعارضة المسلحة باستخدامها؛ كان الأشنع في ترسانة مساندة ذلك اليسار المناهض للإمبريالية هو التعامي الفاضح عن تاريخ علاقات آل الأسد مع الولايات المتحدة… رأس الإمبريالية العالمية.

وذاك سجلّ حاشد يسرد انخراط نظام «الحركة التصحيحية» الأب حافظ مثل وريثه بشار، في جولات استجداء وخنوع، كان هدفها الأوّل، والثاني والثالث والعاشر أيضاً، هو منجاة النظام وحفظ بقائه، برعاية واشنطن وحليفاتها؛ صغيرات وكبيرات، من دولة الاحتلال إلى البحرين. وللتذكير المفيد، مجدداً ودائماً، فإنّ علم السياسة، في فصوله التي لا تُعلي على خدمة المصالح أيّ اعتبار، كان يجبر واشنطن على إبقاء وضعية الشدّ والجذب مع النظام السوري عند حدود منضبطة، لها أن تذهب أنّى تشاء في اللفظ والبلاغة، كما الحصار والحرد والإيحاء بالعزل والمقاطعة… ولكن ليس لها أن تجازف بصبّ أيّ زيت على نار متقدة، حتى وإنْ كان اتقادها تحت الرماد فقط.

فأيّ مصلحة لواشنطن ــ التي كانت تحتلّ العراق، وتحتل أفغانستان، وتواجه حصاد ما زرعت من «صناعة جهادية» وجبهات خصامها مع الشعوب وشتى الأعداء لا تتقلص بقدر ما تتسع… ــ في أن تسرّع بإسقاط نظام متداع متفكك متآكل؛ ينطوي بطءُ سقوطه على منافع عديدة، وقد يفضي العكس إلى عواقب نقيضة؟ وإذا جاز القول إنّ النظام السوري لم يكن صديقاً لأمريكا، على غرار الصداقات السعودية أو المصرية مثلاً، فهل يجوز الاستطراد بأنّ النظام عدوّ لدود للولايات المتحدة؟ كلاّ، أجاب على الدوام عدد من دبلوماسيي أمريكا المخضرمين، ممّن امتلكوا بعض الحصافة في قراءة خرائط الشرق الأوسط، لا سيما طبائع الحاكم والحكم، والاجتماع والعقيدة، والاستبداد والفساد.

لافت، إلى هذا، أنّ اليسار المناهض للإمبريالية تعاطف مع حركة «حماس» في قطاع غزّة لأسباب لا تتصل بالتضامن مع الشعب الفلسطيني في وجه حرب الإبادة الإسرائيلية، فحسب؛ بل كذلك لأنّ انخراط «حماس» في مواجهة دولة الاحتلال هو كفاح، بمعنى ما، ضدّ الإمبريالية. فكيف حدث أنّ مواقف التيارات اليسارية ذاتها اختلفت، وتختلف، عند النظر إلى «هيئة تحرير الشام» التي لا تقلّ إسلامية عن «حماس» فيسود حديث عن «عقيدة جهادية» لدى الأولى، معادية جوهرياً للديمقراطية وللعلمانية وللمرأة وللأقليات… مقابل الافتراض بأنّ الثانية مؤهلة لإنجاز كلّ تلك التحولات.

هذه، بدورها، عنصرية مبطنة تنسحب أيضاً على الوفود الرسمية الأوروبية التي تجتمع اليوم مع قادة «هيئة تحرير الشام» المصنّفة على الدوام في لوائح المنظمات الإرهابية، ورفضت وترفض لقاء قادة «حماس» لأسباب شتى مبطنة بالطبع وأخرى معلَنة تتكئ على حكاية التصنيف الإرهابي. ذلك لأنّ أعراف التقاء «الأعداء/ الأصدقاء» تستعصي على المنطق السليم، فلا تسير إلا على هدي منطقها الخاص، حيث يستقيم الاعوجاج.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

———————–

    التحالف السوري الديمقراطي:من هو؟ وما هي أولوياته في المرحلة الجديدة في سوريا؟/ حسان الأسود

17-12-2024

        تدعو الجمهورية.نت جميع أصحاب المشاريع السياسية الديمقراطية، سواء كانت أحزاباً أو مبادرات أو حركات أو هيئات مدنية، للتعريف بمشاريعهم على صفحاتها، ومُشاركة رؤيتهم بشأن اللحظة الراهنة بعد سقوط نظام الأسد، وبشأن أولويات عملية الانتقال السياسي.

        لا تتبنى الجمهورية.نت أياً من هذه الطروحات والمبادرات بشكل حزبي أو حصري، بل تهتم بتعزيز قيم الحوار والمُراكمة على أسس ديمقراطية تعددية وتوافقية جامعة.

        *****

        بعد الصدمات العديدة التي تعرّضنا لها على مدار السنوات الطوال من عمر الثورة، حاولنا كديمقراطيين سوريين البدء من جديد واستعادة شيء من التوازن، أو على الأقلّ حاول بعضُنا ذلك، فكانت عمليات المراجعة المستمرة من بعض الشخصيات لتاريخ العمل السياسي، وكانت عمليات استشراف المستقبل من خلال وضع أسس جديدة للتعامل مع الواقع ومُتغيراته المُستمرِّة والمتلاحقة.

        تمثّلَ ذلك في مشاريع فكرية وسياسية متعددة، حاول القائمون عليها وضع مداميك قويّة وراسخة لها. بعضها لم يُحالفه الحظّ في النجاح والاستمرار، وبعضها الآخر ما زال يحاول. نذكرُ على سبيل المثال لا الحصر في هذا السياق «مبادرة المناطق الثلاث» التي تحوّلت لتصبح «تضامنية العمل والاجتماع السوري». بقي هذا المشروعُ في حيّز المبادرة النظرية، ولم يتقدّم نحو الأمام لإنشاء واقع ميداني جديد، سواء في الداخل أم في الخارج، لكنّ القائمين عليه يعملون بصبر وأناة، وقد يقدّمون جديداً في المستقبل.

        كما يمكن الحديث عمّا كان يُسمّى «مسار ستوكهولم»، الذي بدأ منذ سنوات عديدة بمبادرة من أعضاء فاعلين في مجلس سوريا الديمقراطية «مسد»، وتطوّرَ ليشمل لاحقاً عدداً من القوى والشخصيات السورية التي ترى إمكانية العمل في هذا الإطار. تمخّضَ عن «مسار ستوكهولم» كيانٌ سياسيٌ جديدٌ لم تتضح معالمه بعد، فكان أن انتخبَ المجتمعون والمجتمعات في بروكسل يومي 25 و26 تشرين الأول (أكتوبر) 2024 أمانة عامة لقيادة ما سُمّي «المسار الديمقراطي السوري».

        نذكر من المبادرات أيضاً «اللقاء السوري الديمقراطي» الذي جرى في برلين يومي 20 و21 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، والذي تمخَّضَ عنه نشوء كيان سياسي جديد هو «التحالف السوري الديمقراطي»، وهذا الأخير هو ما سيكون مدار حديثنا هنا في هذا المقال.

        لكن لا بدّ من القول هنا، وقبل الخوض في الحديث عن التحالف السوري الديمقراطي لشرح بنيته وأهدافه، أنّ العمل السياسي السابق على التطورات الجذريّة الهائلة، التي حصلت مع اندحار النظام في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، قد بات كلّه قيدَ الفحص والتدقيق لمعرفة جدواه في المرحلة اللاحقة. مع ذلك، لا يمكن هدر الجهود المبذولة من القوى السياسية والمدنية، بل لا بدّ من دراستها وتسليط الضوء عليها لعدّة أسباب، فهي أولاً تجربة عشناها ويجب الاستفادة منها، وهي ثانياً جزءٌ من تاريخ سوريا، وهي ثالثاً مستمرّة حتى اللحظة في العمل والتأثير.

        التحالف السوري الديمقراطي؛ نهجٌ مختلف

        في اختلافٍ بيّنٍ عمّا سبقه من مؤتمرات أَنتجت تحالفات سياسية، قام «اللقاء السوري الديمقراطي» عبر لجنته التحضيرية بإنجاز الوثائق الأساسية للتحالف قبل موعد المؤتمر. تمّ وضع مسوّداتٍ لعددٍ من الوثائق هي: (وثيقة المبادئ الأساسية – الرؤية السياسية: محددات عمل وأهداف – الميثاق الوطني السوري – مدوّنة تفكير وسلوك سياسي – النظام الداخلي – النظام الانتخابي – الوثيقة الاستراتيجية – الهيكل التنظيمي)، وتم عرضُها على الهيئة العامة المؤلفة من أفراد مُستقلّين ومن ممثلي كيانات مدنية وسياسية مدعوّة لحضور «اللقاء» للتصويت عليها. وقد حصلت هذه الأوراق على الغالبية العظمى من أصوات المشاركين والمشاركات في التصويت، وتم اعتمادها كوثائق للتحالف تُنظِّم عمله.

        انعقد المؤتمر – اللقاء – في برلين على مدار يومين، شاركَ في الأول منهما حضورٌ ألمانيٌ رسميُّ لافت، وكان عددُ الحضور السوري كبيراً جداً وفقاً لمقاييس تُبيّنُ أسباب اعتباره كذلك، وهي التالية: زاد عدد المشاركين حضورياً في قاعة المؤتمر عن 200 شخص، وتجاوز عدد الحضور عبر الزووم الـ 100 في كل يوم. تمّ تمويل المؤتمر ذاتياً من قبل الكيانات الثلاث التي دعت إليه، والتي شكلت من بينها اللجنة التحضيرية، وهي: المجلس السوري للتغيير، تكتّل السوريين، والتجمّع الوطني الديمقراطي السوري. قدّمَ كل كيانٍ 5000 يورو لا غير، وتبرّعَ السياسي السوري الدكتور خلدون الأسود بمبلغ 5000 دولار. لم تتكفل اللجنة التحضيرية بسفرِ أو إقامةِ أيٍّ من المدعوّين، فكان أن حضرَ مُشارِكون ومُشارِكات، على نفقتهم الخاصّة، من الولايات المتحدة الأميركية ومن الخليج العربي ومن سوريا ودول الجوار ومن أغلب الدول الأوروبية (إسبانيا – إيطاليا – أوكرانيا – النمسا – فرنسا – السويد – الدانمارك – إيطاليا – بولندا – هولندا – بلجيكا – سويسرا).  نكاد نجزم أنّ هذا لم يحصل منذ الأشهر الأولى للثورة السورية، فأن يُسافر المشاركون والمشاركات من كل هذه البلدان، وأن يقيموا في برلين على نفقتهم الخاصة دون أن ينتظروا تعويضاً من أحد، لا من اللجنة التحضيرية ولا من غيرها، هو أمرٌ كبيرٌ له ما بَعده من تأثيرٍ على المُنتَج السياسي التنظيمي المُتولِّد عن المؤتمر.

        جرت الانتخابات لاختيار ممثلين عن الكيانات السياسية والمدنية والأفراد المستقلين لقيادة التحالف، وجرت انتخابات لأعضاء المكتب الرقابي وأعضاء المكتب التحكيمي بغرفتيه الابتدائية والاستئنافية، الذي هو بمثابة لجنة قضائية داخلية. فيما يتعلق بالأمانة العامة، التي هي بالتعريف قيادةُ التحالف، اختار المُستقلّون من بينهم ممثلين عنهم، واختارت الكيانات المدنية من بينها ممثلين عنها، وكذلك فعلت الكيانات السياسية. أمّا فيما يتعلق بالمكتبين المنبثقين من الهيئة العامة؛ الرقابي والتحكيمي، فكان للانتخاب ضوابط مختلفة بحيث لا يمكن أن يسيطر أي كيانٍ منفردٍ عليهما، وبحيثُ يَبقيان مُستقلّيَن عن الأمانة العامة وحيادييَن وقادرَين على ممارسة مهامهما.

        من بين أعضاء الأمانة العامة تم اختيار رئيس التحالف ونائبة له وأمينه العام، وذلك في أول جلسة عقدها الأعضاء الناجحون في الانتخابات مباشرة بعد انتهائها، وأصدر المجتمعون والمجتمعات البيانَ الختامي للمؤتمر. وما يمكن الإشارة إليه بكلّ وضوحٍ وقوّة هو أنّ «التحالف السوري الديمقراطي» قد اعتمدَ، نصّاً وتطبيقاً فعلياً، نظامَ الحصّة المحجوزة لفئتي النساء والشباب بما لا يقل عن 30% في جميع المراكز القيادية فيه. جاء ذلك نتيجة دراسة متأنيّة وفاحصة لتجارب التنظيمات والكيانات والمؤتمرات السورية السابقة.

        كان عزمُ أعضاء اللجنة التحضيرية ماضياً باتجاه إقرار وثائق التحالف قبل انعقاد المؤتمر، وأدّى هذا بشكل مباشر إلى أمور مهمّة لا بدّ من ذكرها لإظهار تَميُّز «اللقاء السوري الديمقراطي» والكيان السياسي التحالفي المتولّد عنه، أي التحالف. من هذه الأمور:

        – الاتفاق المُسبَق بين أعضاء الهيئة العامة على قواعد تنظيمية وفكرية وسياسية محددة، تُشكِّلُ بمجموعها منظومة متكاملة ومرجعية للعمل، يمكن الركون إليها والاحتكام لها لتسيير العمل وفضّ النزاعات وحلّ المشكلات بطرق ديمقراطية فعّالة وشفّافة.

        – إنتاج كيان متماسك تنظيمياً، محدد المعالم سياسياً، واضح الرؤية والرسالة والأهداف فكرياً. كيان تحالفي يجمع بين جنباته مجموعة من التنظيمات السياسية والمدنية والأفراد المستقلين من مختلف الجغرافيات السورية، تجمعهم كلهم قيمُ الديمقراطية.

        – إنشاء لبنةٍ أساسيّة للقُطب الديمقراطي السوري، قابلة للحياة والتطوّر، تنطلقُ من احترام الحقوق والحريات الأساسية السياسية والمدنية للأفراد وتؤمن بالحقوق العامة التي لا تقوم دولة المواطنة من دونها.

        – تحقيق المشاركة الفاعلة للفئات التي كانت على الأغلب مُستبعَدة في مسار السياسة السورية المُعارضِ منذ انطلاق الثورة، أي النساء والشباب، حيث تم تجاوز الشعارات إلى التطبيق الفعلي المباشر.

        – إرساءُ أُسسٍ جديدة للعمل المؤسساتي السوري المستقلّ البعيد عن الدوران في فلك الدول أو المنظمات المانحة.

        آفاق المستقبل

        يتطلّع «التحالف السوري الديمقراطي» لمدّ جسور التواصل مع القوى السياسية والمدنية والشخصيات السورية المستقلة، ويعمل على ذلك. ينتهج التحالف في سبيل الوصول إلى أهدافه نهجاً محوكماً برُشد، فيلتزم قواعدَ الشفافية والنزاهة والقانونية، والسياسة السليمة والمشاركة والمساءلة، والاستجابة، وغياب الفساد والمخالفات. كلّ ما يجب أن تعرفه الهيئة العامّة للتحالف يجري إعلانه ونشره. يُموَّل التحالف ذاتياً من اشتراكات أعضائه والتبرعات غير المشروطة، ويعمل على تأمين مصادر للتمويل غير المشروط. يعمل أعضاء التحالف متطوعين، ويتمّ اعتماد نظام الحوافز والتعويضات لزيادة الإنتاجية. يتّبعُ التحالف دورة مستندية متعددة المستويات الرقابية. كان التحالف يتشارك مع كيانات وأعضاء من خارجه في رسم خارطة طريق للحل السياسي السوري وهو يُخضِعُ مؤسساته وقياداته للمُساءلة، ويستجيب للتطورات بكفاءة وسرعة ومرونة ويُطوِّر من أدوات عمله باستمرار. يحاول التحالف منعَ أسباب الفساد والمخالفات وتجفيفَ منابعها، ويعمل على محاسبة كل من يقوم بخروقات في هذا المجال.

        يُشكّل «التحالف السوري الديمقراطي»، بتوزّعه الجغرافي داخل سوريا وخارجها في دول المحيط الإقليمي والعربي وفي أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأميركية، نقطة انطلاق واعدة للمساعدة في بناء القُطب الديمقراطي السوري. يتمّيز التحالف بثرائه النابع من تنوّع مكوناته وأعضائه، وهو الشيء الذي يُميّز سوريا كما هي في جوهرها وكما يجب أن تكون مستقبلاً. لا يتوقف التحالف عن التطوّر لحظة واحدة، وسيتأقلمُ مع التغييرات الهائلة التي حصلت في سوريا منذ 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، حيث سينتقل للعمل في الداخل السوري وسيكون مقرّه الرئيس في العاصمة دمشق.

        سقوط النظام وانتصار الثورة

        انطلقت معركة «ردع العدوان» في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 من إدلب، وحققت تقدّماً ملحوظاً وهائلًا عندما سيطرت على مدينة حلب على حساب قوات النظام السوري والميليشيات الداعمة لها بقيادة الحرس الثوري الإيراني. ومع تَقدُّم القوّات العسكرية تحت قيادة «إدارة العمليات العسكرية» باتجاه حماة، تشكّلت غرفة عمليات الجنوب وأطلقت معركة تحريره تحت مسمّى «معركة كسر القيود»، وبدأت المناوشات مع القطع العسكرية الموجودة في درعا والسويداء، ولحسن الحظّ لم تكن هناك مقاومة تُذكر إلّا في بعض الثكنات.

        انتهت العمليات نظرياً بإعلان سقوط النظام يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، وذلك بنزول الناس إلى الشوارع ودخول فصائل المعارضة السورية القادمة من الجنوب إلى العاصمة، حيث قامت بتأمين السفارات والمقارّ الدبلوماسية وبعثة الأمم المتحدة وأغلب المرافق العامّة والدوائر الرسمية. وصلت قوّات «ردع العدوان» لاحقاً، وأعلنت استلامها زمام الأمور.

        تحديات المرحلة الراهنة

        طرحت هذه التطورات الدراماتيكية والهائلة تحدياتٍ جمّةً على القوى السياسية والمدنية السورية، وعلى المجتمع السوري كله وعلى دول المنطقة بأسرها، ولا نبالغ إن قلنا على العديد من دول العالم خاصة في أوروبا. أصبحت سوريا من جديد بؤرة الاهتمام العالمي، وباتت جميع الدول المنخرطة بالشأن السوري أو المتأثرة به قلقة على مصالحها، فأخذت منذ لحظة إعلان السقوط تدرس الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع الواقع الجديد.

        فيما يتعلق بالساحة السورية، وجدت جميع القوى الفاعلة نفسها أمام استحقاقات كبيرة، وليس فقط القوى العسكرية التي يتوجّب عليها الآن حلُّ نفسها أو التفكير بالانضواء تحت قيادة عسكرية جديدة بحيث تكون جُزءاً من الجيش السوري القادم، بل أيضاً القوى السياسية والمدنية التي وجدت نفسها فجأة أمام دولة جديدة عادت مُلكيتها لهم ولو نظرياً على الأقل.

        في هذه الظروف، نرى أنّ «التحالف السوري الديمقراطي»، وحرصاً منه على وحدة سوريا وسلامة أراضيها واستقلالها، وعلى قطع الطريق على أي صراع داخلي مسلح جديد، قد يعمل على ما يلي:

        1- دعم جهود ضبط الأمن في البلاد وسحب السلاح، وحماية حياة السوريين والسوريات وصون كرامتهم، وحماية الممتلكات الخاصة والعامة، وإعادة تشغيل مؤسسات الدولة، وصيانة حق التعبير بما فيه التظاهر السلمي والاعتصام، ومنع الاعتقال التعسفي، ورفض التفرّد بالحكم، ورفضُ تشكيل حكومة من قبل شخصٍ واحد أو تيارٍ مُنفرِد.

        2-  عقد مؤتمر وطني في دمشق برعاية الأمم المتحدة، يتم من خلاله صياغة عقد اجتماعي جديد يساهم في تشكيل الهوية السورية الجامعة، وينتج عنه هيئة حكم انتقالي بكامل الصلاحيات، كخطوة أولى ضمن مسار متواصل يؤدي إلى دستور جديد وانتخابات حرّة نزيهة وديمقراطية، يختار من خلالها الشعب ممثليه وقياداته.

        3- وضع خطة زمنية لكافة المراحل والمهام التي ستقوم بها هيئة الحكم الانتقالي وفق روح القرار الأممي 2254 وأهدافه، وبيان العقبة تاريخ 14/12/2024، وجميع القرارات الأممية ذات الصلة بالملف السوري.

        ونرى أنّ التحالف السوري الديمقراطي قد يأخذ في الحسبان أولويات العمل وفق الترتيب التالي:

        1- تشكيل حكومة تصريف أعمال، مهمتها تقديم الخدمات من خلال مؤسسات الدولة السورية.

        2- تشكيل مجلس عسكري مهمته حفظ الأمن في البلاد وجمع السلاح وضبط الحدود، وعودة العسكريين المنشقين لأماكنهم.

        3- تسمية مجلس قضاء مؤقت من عشرة أعضاء، هم: ثلاثة من قُدامى المحامين الأحرار (المنشقين وغير المنشقين) وثلاثة من قُدامى القضاة الأحرار (منشقين وغير منشقين) وثلاثة من أساتذة القانون السوري الجامعيين (منشقين وغير منشقين) ويرأسه رئيس المحكمة الدستورية الحالي.

        4- تعديل اللجنة الدستورية وتعديل آليات عملها بحيث تكون مستقلة، وتحديد مهمتها بإعداد مسوّدة دستورٍ دائمٍ يحفظ حقوق الأفراد والجماعات السورية كافّة، ويكفل حقوق النساء، وتكون مرجعيته شرعة حقوق الإنسان، بحيث يُعرَض على الاستفتاء العام لإقراره.

        5- تشكيل هيئة انتخابات مُستقلّة، تعمل بموجب الدستور الجديد لانتخاب برلمان ورئيس للبلاد.

        6- تشكيل هيئة عدالة انتقالية مستقلّة، تكون مسؤولة عن جميع مفرداتها من حيث محاسبة المجرمين، وتعويض الضحايا، ومراعاة خصوصية النساء وحقوقهن، وخاصة اللواتي استُخدِمَ ضدهنَّ العنفُ الجنسي كسلاح حرب، وبيان مصير المفقودين ورعاية المعتقلين المحررين من الرجال والنساء وجبر ضررهم، وفرز الموظفين، وإصلاح المؤسسات، وتخليد الذكرى وشؤون المصالحة الوطنية والسلم الأهلي.

        7- تشكيل هيئة مُستقلّة لإعادة الإعمار، وهيئة مستقلّة للرقابة والتفتيش، وهيئة مستقلّة للنظر في القوانين وإصلاحها بما يتماشى مع الدستور الجديد، وسنّ قانون للانتخابات وقانون للأحزاب.

        8- تكثيف التواصل مع الدول العربية والإقليمية والمهتمّة بالشأن السوري، والسعي لعقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار سوريا، واعتبار ذلك جزءاً من السعي لبناء شرق أوسط جديد مستقر وآمن ومزدهر.

موقع الجمهورية

———————————–

أطفال المختفين قسراً في سوريا… ما مسؤوليّة المنظّمات المعنيّة بالطفولة؟/ زينة علوش

20.12.2024

ربما كانت قرى الأطفال في سوريا مجبرة على تنفيذ أوامر النظام بقبول الأطفال والطفلات من دون سجلات أو وثائق، إلا أن هذا لا يشكل مبرراً كافياً لمنع المنظمة من توثيق الحد الأدنى من المعطيات المستقاة عن الأعداد والأعمار وصور الأطفال والطفلات عند قدومهم/ن الى القرى، إضافة إلى فتح ملفات فردية خاصة بكل طفل/ة.

في عام 2013، اعتقلت قوات النظام في سوريا الطبيبة رانيا العباسي مع أطفالها الستة في العاصمة دمشق، حيث اقتحم عناصر النظام منزلها وأخذوها مع عائلتها إلى مكان مجهول، لتنقطع أخبارهم منذ ذلك الحين.

لم تفلح محاولات عائلتها في الوصول إلى أي معلومة حول مصيرها أو مصير أطفالها الذين تراوحت أعمارهم وقت الاعتقال بين عام واحد و14 عاماً. على الرغم من تبني منظمة العفو الدولية قضيتهم، وتوجيه رسائل مباشرة الى النظام السوري للإفراج عن الأطفال، لم يصدر أي رد أو تفاعل رسمي، ولم يتمكن أحد من معرفة مصير الطبيبة وأطفالها.

شكّل هذا الاعتقال حينها محطة مؤلمة في تاريخ الانتهاكات المتمادية، لا سيما المتعلقة باحتجاز أطفال وطفلات لأسباب سياسية. ومنذ إعلان سقوط النظام الحاكم في سوريا، توالت الأخبار عن احتمال تورط بعض دور الأيتام لا سيما “قرى الأطفال  SOS ” في سوريا في عملية إخفاء الأطفال. 

ظهر أخ الدكتورة المخطوفة، حسان العباسي، في تسجيل فيديو متحدثاً عن اتصالات أجراها مع” القرى” في دمشق للتحقق من هذا الأمر بعد تواتر معلومات عن وجود أطفال الدكتورة هناك ولكن تحت أسماء مستعارة.

ارتباط القرى بالنظام

تعتبر “قرى الأطفال SOS “، ومقرها الرئيسي في النمسا، منظمة دولية غير حكومية، لكنها تخضع للأنظمة المرعية الإجراء في الدول التي توجد فيها. وعليه فهي وكما في كل الدول، تخضع لنفوذ النظام المحلي.

 في سوريا، وجود المنظمة محكوم بعقود وشروط تتيح للنظام التدخل المباشر في تعيين أعضاء مجلس إدارة القرى والوظائف الأساسية فيها، لا سيما أن رواتب الموظفين والموظفات هو أعلى بكثير من الرواتب المحلية. و عليه كانت “القرى” على علاقة وطيدة مع النظام، بخاصة مع بداية تظهير صورة أسماء الأسد كسيدة أولى تهتم بشؤون الأطفال.

خصّت أسماء الأسد القرى باهتمام خاص بعدما تعرضت المنظمة لخضات كبيرة مع نهاية التسعينات، فكانت تحرص على زيارة القرى في مناسبات عدة لتلميع صورة الحريصة على توفير الرعاية للأطفال والطفلات، وكانت زيارتها الأخيرة في حفلة عيد الأم عام 2024.

البدايات الفعلية لهذه العلاقة الوطيدة بدأت بالظهور بي عامي 2004 و2005، إذ بالإضافة إلى استئثار النظام بالمناصب الأساسية في القرى كان له القرار الفاصل في تعيين مديرة القرى، والتي كانت مقرّبة من النظام خلال السنوات الماضية.

في عام 2019، تناولت تقارير صحافية معارضة، معلومات عن تعرض الأطفال للضرب والإيذاء النفسي على يد “الأمهات” و”الخالات” المسؤولات عن رعايتهم في قرية الأطفال في قدسيا، كما تم توثيق حالات تستر الإدارة على المتورطين بالإساءات، وإعادة توظيفهم في مواقعهم بعد فترات قصيرة.

والسؤال هنا لا بد من أن يطرح نفسه: هل فعلاً بإمكان منظمة محلية ذات بعد دولي أن تتورط في إخفاء الأطفال أو تنفيذ احتجاز حريتهم بأمر من السلطات المحلية؟

عالمياً، تعرضت منظمة قرى الأطفال إلى اهتزازات كبيرة نتيجة انتشار تقارير عن تعرض الأطفال إلى إساءة المعاملة وصولاً إلى الاعتداءات الجنسية، ناهيك بفساد مالي مستشرٍ.  وهذا ما أجبر المنظمة الدولية على تشكيل اللجنة المستقلة في عام 2021، للتحقيق في إخفاقات الحماية والتزام القوانين، بما في ذلك انتهاكات ضد الأطفال، الفساد، وسوء استخدام الموارد.

ولم تكن “قرى الأطفال” في عالمنا العربي، لا سيما في لبنان وسوريا، بعيدة من هذه الإساءات، إذ ظهرت تقارير عدة تؤكد انتهاكات أساسية تعّرض لها الأطفال في هذه القرى. وتم توثيق جزء أساسي من هذه الانتهاكات في تقرير اللجنة المستقلة، إذ زار فريق متخصص لبنان وأجرى تحقيقات معمقة أكدت تعرض الأطفال لاعتداءات بشكل ممنهج.

كل هذه التوثيقات دفعت بمنظمة قرى الأطفال الدولية إلى تقديم اعتذار علني عن الإخفاقات السابقة، وشجعت جميع من لديهم معلومات عن إساءة أو سوء سلوك للإفصاح عنها. وأطلقت خطة عمل تضم 24 نقطة لتحسين حماية الأطفال ومعالجة الإخفاقات السابقة. لكن المنظمة أخفقت في جبر ضرر الضحايا لا سيما الأطفال والطفلات الذين تعرضوا للاعتداءات، والعاملين والعاملات في هذه القرى المتصدين/ات لهذه الانتهاكات. ورغم نية المنظمة في تصحيح أوضاعها إلا أنها ما زالت تواجه تحديات أساسية في تطبيق إصلاحات عميقة على المستوى الدولي والمحلي.

توضيح مبهم من القرى

في تصريح صادر في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أقرت المنظمة الدولية بالمخاوف المتعلقة بالأطفال الذين تمت إحالتهم إلى منظمات الرعاية، بما في ذلك قرى الأطفال SOS – سوريا، “من الحكومة السابقة خلال الحرب الأهلية”. كما أكدت أن هؤلاء الأطفال، الذين فُصلوا عن عائلاتهم أثناء النزاع، وضعتهم السلطات في عهدة القرى من دون تقديم وثائق تُثبت أصولهم.

استمرت هذه الإحالات القسرية إلى القرى، بحسب البيان، حتى عام 2019، عندما طلبت من السلطات التوقف عن إرسال هذه الحالات المُسماة بـ”حالات أمنية”. إلا أن القرى لم توضح مصير هؤلاء الأطفال وكيفية حفظ سجلاتهم.

كما أوضحت الإدارة في بيان، أنها عملت بشكل مكثف لمساعدة عائلة العباسي، إلا أن أياً من أبناء رانيا العباسي لم يصل إلى فروع “قرى الأطفال” في دمشق وخارجها.

هيئة تحقيق مستقلّة

في ظل ما نشهد عليه من ممارسات وحشية ضد معتقلين ومعتقلات نظام الأسد في سوريا، هناك أسئلة كثيرة حول مناعة جمعيات وهيئات في مقاومة ما فرضه النظام. وربما كانت قرى الأطفال في سوريا مجبرة على تنفيذ أوامر النظام بقبول الأطفال والطفلات من دون سجلات أو وثائق، إلا أن هذا لا يشكل مبرراً كافياً لمنع المنظمة من توثيق الحد الأدنى من المعطيات المستقاة عن الأعداد والأعمار وصور الأطفال والطفلات عند قدومهم/ن الى القرى، إضافة إلى فتح ملفات فردية خاصة بكل طفل/ة.

هذه إجراءات روتينية كنا نقوم بها كجزء من عملي السابق كمديرة لقرى الأطفال في لبنان. فماذا الذي منع قرى الأطفال في سوريا من إجراء عملية توثيق رديف محلي بغرض لم الشمل عندما تتيح الفرصة لذلك. هل تورطت القرى مع النظام عبر توفير سجن للأطفال والطفلات؟ وإذا كانت القرى المحلية محكومة بمتطلبات النظام، فماذا فعلت المنظمة الدولية بهذا الخصوص على مدار السنوات السابقة؟

والمهم الآن أن نعرف ما هي الخطة الفعلية لقرى الأطفال للكشف عن مصير الأطفال والطفلات المخفيين/ات قسراً في صروحها؟ وما هي الخطة الآمنة التي ستتبعها للم شمل الأطفال والطفلات مع عائلاتهم/ن؟

قضية كهذه تتطلب تحقيقاً متخصصاً مستقلاً قبل أن يخفي المتورطون والمتورطات في الداخل الأدلة!

درج

———————————–

هل لدى “حزب الله” ما يقوله للسوريين عن دوره في بلدهم؟/ حازم الأمين

20.12.2024

 النظام في سوريا فضيحة حلفائه. فهو لم يحرص على من تولّى حمايته طوال الـ13 سنة الماضية وعلى مداراة الفضيحة التي تنتظره. فالوثائق يختلط فيها الكبتاغون مع المقابر الجماعية مع المهام الأمنية، بالأسماء والأرقام والمواقع والوظائف، وتُرفق بها كتب مسؤولين لبنانيين من “حزب الله” ومن غيره طلباً للإفراج عن موزع مخدرات لأنه “من جماعتنا”، أو طلباً لفتح الحدود أو إغلاقها تلبية لطلب مهرب، وعشرات من نماذج الفضائح التي تحفل بها الوثائق.

حسمها الحرس الثوري الإيراني في ردّه على “مزاعم” موسكو بأنها نقلت عبر طائراتها نحو أربعة آلاف مقاتل إيراني من سوريا إلى طهران، فأكد أن من نقلهم الجيش الروسي هم “مستشارون لبنانيون وأفغان كانوا يعملون في سوريا” وليسوا إيرانيين!

الحرس الثوري حرص على ضرورة الدقة في التمييز بين مقاتليه ومقاتلي أذرعه. فبين أن يكونوا إيرانيين، وأن يكونوا لبنانيين وأفغاناً فارق سياسي، وإلا لما استدعت “مزاعم” موسكو رداً. الفارق يتمثل بـ”أننا نقاتل في سوريا بأذرعنا وليس بجنودنا”.

أما صفة “المستشارين” التي أطلقها الحرس الثوري على اللبنانيين والأفغان الذين نقلتهم موسكو إلى طهران، فلهم هنا في دمشق قصص تكشفها جبال الوثائق المنثورة في الأفرع الأمنية التي تركها النظام خلفه.

كان من مهام مخابرات النظام السوري السابق كتابة تقارير تفصيلية عن هؤلاء “المستشارين”، وهذا ما يفترض أن يكون فضيحة الفضائح التي يمثلها نشاط هذه الجماعات. ومن المفترض أيضاً أن آلافاً من هذه الوثائق صارت في متناول وسائل الإعلام والأبحاث ومختبرات التحليل في كل العالم.

 النظام في سوريا فضيحة حلفائه. فهو لم يحرص على من تولّى حمايته طوال الـ13 سنة الماضية وعلى مداراة الفضيحة التي تنتظره. فالوثائق يختلط فيها الكبتاغون مع المقابر الجماعية مع المهام الأمنية، بالأسماء والأرقام والمواقع والوظائف، وتُرفق بها كتب مسؤولين لبنانيين من “حزب الله” ومن غيره طلباً للإفراج عن موزع مخدرات لأنه “من جماعتنا”، أو طلباً لفتح الحدود أو إغلاقها تلبية لطلب مهرب، وعشرات من نماذج الفضائح التي تحفل بها الوثائق.

ربما لسنا البيئة التي تستقبل هذا النوع من البيانات والمعلومات لإعادة النظر بالوظائف الفعلية خلف المشاركة في الحرب على السوريين، لكن هذه الوثائق ستكون جزءاً من وعي ما بعد سقوط النظام في سوريا. فقبل هذه الوثائق كان تناول هذه الوظائف شفهياً، وأقرب إلى توقعات وشائعات، لكنها اليوم موثقة بخط يد المخابرات السورية. وأدوار “المستشارين” كُتبت وقائعها على نحو يقتضي بالفعل رداً من أشخاصها ومن مشغليهم، لا سيما وأن قاعدة المعلومات واسعة.

والحال أن التمييز الذي أقامه الحرس الثوري بين عناصره وعناصر أذرعه، في رده على مزاعم حلفائه الروس، يصبح مفهوماً إذا ما لاحظنا ألا أسماء لإيرانيين، حتى الآن، في وثائق الأفرع الأمنية، وهي إن وُجدت فلا تُذكر في سياق الموبقات غير القتالية للنظام وحلفائه.

لكنّ أمراً آخر يحضر في هذا السياق، ويتمثل في أن مشاعر الخذلان التي خلفها هروب بشار الأسد في نفوس أجهزته وعائلته وبطانته، بعدما تركهم ولم يخبرهم بخطوة فراره، ليست شيئاً إذا ما قيست بما فتحته خطوته من أبواب فضائح لحلفائه غير السوريين لم يحرص الرئيس المخلوع على مداراتها. وللحقيقة أن جزءاً كبيراً من هذه الأدوار لم تكن معروفة قبل فتح الفروع الأمنية أبوابها للناس وللصحافة ولمن يبحث عن مفقود من السوريين وغير السوريين.

كما أن الوثائق تكشف عدم الثقة المتبادلة بين الجماعات التي تولت حماية النظام، وتنافساً هائلاً في السطو على المرافئ وعلى طرق التهريب، بحيث يحتاج المرء لكي يفهم خريطة النفوذ، إلى أنظمة إلكترونية تتولى فرز المعلومات ورسم سياقات لها، وهو ما سيفضي إلى محتوى تراجيدي يكون جزءاً من ذاكرة جماعية سورية وغير سورية على جميع اللاعبين توقّعها والاستعداد لها.

النقاش السوري اليوم يطاول المرحلة الانتقالية وما تستدعيه من أشكال ضغط على سلطة ما بعد السقوط. الدستور، ودور المرأة في مستقبل سوريا، والأقليات، والوضع الاقتصادي والخدمات وغيرها من مواضيع راهنة، وكلها تتطلب درجة من الحذر حيال المرحلة التي سبقت سقوط النظام. لبنان مثلاً، موضوع مؤجل في حلقات النقاش التي تحفل بها دمشق هذه الأيام، وكذلك إيران والعراق، لكن بالنسبة الى السوريين، هذه أنظمة قاتلت إلى جانب النظام، وهي على الأقل لم تبد حساسية حيال جرائمه، وعلى الأكثر كانت شريكة فيها.

الصمت لن يفيد، والتمنيات المستجدة لـ”الشعب السوري” بحياة أفضل بعد قراره “المفاجئ” بتغيير النظام، لن تغني عن جوع.

من الصعب انتظار حكمة ممن شاركوا النظام في قتاله السوريين، لكن بلداً كلبنان لا يملك حدوداً إلا مع سوريا، لن يكون بعافيته في ظل هذه الحقائق، إلا إذا أجرى مراجعة مقنعة وقدمها إلى السوريين. أما العراق، فقابليته لإجراء هذه المراجعة أكبر، ذاك أن مروحة القوى التي تشكل المشهد السياسي العراقي أكثر شجاعة وأريحية من قرينتها اللبنانية، وتصريحات مقتدى الصدر التي سبقت سقوط بشار الأسد نموذج عما نعنيه بهذه المقارنة.

درج

—————————

سوريا التي نحب… يدي على قلبي من المطبات/ عبد الحميد صيام

20 كانون الأول 2024

يوم الإثنين الماضي عقد مجلس الأمن الدولي جلسة خاصة مفتوحة حول سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد، ودعت رئيسة المجلس، الوفد السوري ليأخذ مقعده بانتظار كلمته، على طاولة المجلس، إلى جانب ممثلين من المجتمع المدني السوري: وعد الخطيب، المنتجة السينمائية، وبدر جاموس رئيس الهيئة الدستورية السورية. فوجئ الجميع بأن الوفد السوري برئاسة السفير قصي ضحاك، قام بالانسحاب من الجلسة دون إبداء أي سبب أو اعتذار.

لقد أثارت هذه الحادثة كثيرا من اللغط والأسئلة حول حالة الفوضى التي تعيشها سوريا. فقد أعد السفير الضحاك كلمة تتحدث عمّا يجمع السوريين لا ما يفرقهم، لكن تعليمات وصلت من دمشق، والوفد جالس على الطاولة طلبت منه الانسحاب. أما تفسير ذلك، فيبدو أن هناك من يصدر الفرمانات الفردية دون الالتفات إلى عواقب ذلك من أضرار على الصورة التي يحاول قادة سوريا الجدد أن يقدموها للعالم.

وبعد محادثات مع أطراف سورية عديدة، أقدم بعض الملاحظات على ما يتخوف منه السوريون الوطنيون، الذين يعملون على بناء دولة سوريا الحديثة التي تضم كل أبنائها وبناتها ولا تقصي أحدا ولا تظلم أحدا ولا تعيد إنتاج الديكتاتورية، حتى لو كانت ديكتاتورية ناعمة فالاستبداد شر في جوهره.

– من الواضح أن شخصا واحدا استفرد بالقرار، غير صورته من متطرف ملتح يلبس العمامة باسم «أبو محمد الجولاني» إلى رجل متحضر بعيد عن التطرف باسم أحمد الشرع، دون أن ينفي كونه إسلاميا، ولكنه إسلامي معتدل حضاري منفتح ينوي أن يقيم العدل والحرية وسيادة القانون. هذه صورته التي يعممها. في حكومة الإنقاذ في إدلب كان هناك فرض للباس الشرعي، خاصة الحجاب، وكانت الموسيقى ممنوعة في المدارس، لكن ذلك تغير ولم يطلب أحد من الناس في سوريا كلها الالتزام بأي قيود في موضوع اللباس. كما أن منح الأقليات الدينية حرية إقامة الشعائر والزينة ومظاهر الفرح أمر يبشر بالخير، إلا أن الخوف أن يكون ذلك عملا مؤقتا على رأي المثل الشامي «تمسكن لتتمكن».

– المثير للاستهجان أن حكومة الإنقاذ في إدلب نقلت بكاملها لتكون الحكومة الانتقالية في دمشق. فاقتصرت حكومة دمشق المؤقتة لمدة ثلاثة أشهر على لون واحد، مع إقصاء للآخرين، خاصة الائتلاف الوطني السوري ومقره إسطنبول، الذي يضم كوادر علمية وسياسة وتقنية عديدة، ويمكن الاستفادة منها والمساهمة في بناء الدولة الحديثة. كما أن قوى الجيش الحر التي أساسا انشقت عن الجيش السوري في مرحلة البداية عام 2011، يجب أن تكون ممثلة في الحكومة الانتقالية، كي لا يكون الإقصاء بذرة خلاف قد تتسع في المستقبل. من المهم أن تنضوي كل الفصائل تحت مظلة واحدة، وكل الجماعات المسلحة أن تصبح جزءا من جيش وطني مهمته الدفاع عن الوطن، لا حماية الديكتاتور، سواء كان دمويا أو ناعما.

– مخطئ من ينظر إلى هؤلاء الذين اجتمعوا في العقبة من أجل سوريا على قلب رجل واحد. أبسط النظريات أن هناك اتفاقا تركيا أمريكا إسرائيليا على إسقاط النظام واستبداله بنظام مهادن مسالم. وهنا أوضح بعض النقاط الأساسية، كما سمعتها من أطراف سورية مؤيدة للنظام الجديد.

هناك ثلاث مجموعات كل واحدة تريد أن تشد سوريا المستقبل إلى جانبها: الإمارات وإسرائيل ومن خلفهما الولايات المتحدة. هذه المجموعة تريد لسوريا أن تدخل محور المطبعين مع الكيان الصهيوني، مقابل رفع العقوبات وضخ أموال الإعمار بعد قيام إسرائيل بتدمير كل إمكانيات سوريا العسكرية، كي تترك البلاد عارية تماما من أي إمكانية لمقاومة أعداء البلاد. وقد ذكر لي صديق سوري أن بعض أطراف المعارضة في واشنطن طلب من الخارجية الأمريكية أن تتأخر في رفع العقوبات، من أجل الضغط على الحكومة الانتقالية لتشكيلها على هوى معين. هذا المحور لا يمانع أبدا أن تبقى مظاهر التطرف الديني المنضبط على البوصلة الأمريكية الإسرائيلية. وهذا المحور ليس معنيا بالديمقراطية ولا الانتخابات الحرة، ولا التعددية ولا سيادة القانون. المهم الانصياع للسياسة الأمريكية الإسرائيلية والانضمام لقطار التطبيع. وهناك محور آخر وهو محور تركيا ـ قطر الذي يريد أن يرى دولة على النمط التركي: طبعة من الإسلام الحضاري وانتخابات حرة وديمقراطية وتعددية وتثبيت تحالف عميق مع الدولة التركية، بحيث تأخذ الشركات التركية عقود الإعمار كافة، وستكون قطر حجر الرحى في إعادة الإعمار. المشكلة أن تركيا ليس لديها فائض مالي الآن للإعمار، وهمها الأول عودة اللاجئين والمهجرين وتحويل تلك المهمة إلى الأمم المتحدة عبر إنشاء بعثة مساعدة ضخمة. الولايات المتحدة وتركيا الآن في مواجهة عسكرية في مناطق قوات الحماية الكردية وقوات سوريا الديمقراطية، ودعم حزب العمال الكردستاني. ولن تقبل تركيا مساومة في موضوع الأكراد، وهذا ما قاله بكل وضوح سفير تركيا في الأمم المتحدة أحمد يلدز في جلسة مجلس الأمن يوم الإثنين، حيث قال:

«لا يمكن تحقيق الاستقرار في سوريا، دون معالجة التهديد المستمر للإرهاب. وينبغي لسوريا أن لا تصبح ملاذا للجماعات الإرهابية التي تستغل فترة الانتقال لتعزيز أجنداتها. وعلى وجه الخصوص، لا يزال حزب العمال الكردستاني/وحدات الحماية الكردية وما يسمى «قوات سوريا الديمقراطية» والجماعات التابعة لها تشكل تهديدا خطيرا – ليس فقط لوحدة سوريا وأمنها ولكن أيضا للأمن الوطني التركي والمنطقة الأوسع. وتسلط هجماتهم، خاصة تلك التي تستهدف المناطق ذات الأغلبية العربية مثل الرقة ودير الزور، إن الحاجة ملحة إلى القضاء على هذه الجماعات لضمان سلامة جميع السوريين». وكان الحديث موجها أصلا للولايات المتحدة الداعمة لهؤلاء. هذا التوجه التركي القطري قد يكتب له النجاح، إذا وضعت السعودية ثقلها خلف هذه المجموعة وهو أمر غير واضح الآن.

أما الأردن ومصر فهمهما الأساسي، هو ألا تصل مجموعات الإسلام السياسي إلى السلطة، وتدعم الإمارات التي تلعب على كل الحبال هذا التوجه. الإسلام السياسي الذي يأتي نتيجة ثورة شعبية عارمة، لا بد من إفشاله كما تم إفشال التجربة المصرية والتونسية والليبية واليمنية. الأردن تريد نظاما ناعما إلى جوارها، لا يكون مصدر تهديد أو مصدر تصدير لحبوب الهلوسة، نظام يسترد اللاجئين ويتعامل مع الجيران جميعهم باحترام، ولا يشكل سندا للتيارات الإسلامية في المنطقة.

لا أحد ينكر أن إسرائيل هي اللاعب الأساسي في المنطقة، بعد التطورات في غزة ولبنان وسوريا وإيران، خاصة بعد وصول ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة للمرة الثانية. لكن الذي يفرط في أرضه وكرامته وكرامة شعبه ويردد شعارات جوفاء ويكرس عبادة الشخص، لا تلبث الأيام أن تكشف هذا الزيف وينهار عاريا في وضح النهار أو يضطر لأن يهرب في جنح الظلام إلى منفاه الأبدي مذموما مدحورا، ولنا في شاه إيران وزين العابدين والشيخة حسينة وبشار الأسد عينة من هذه الظاهرة.

ما نتمناه أن تعود سوريا لعشاقها العرب الذي فرشوا على ثراها أهدابهم، ووقعوا في حب ياسمين دمشق وغوطتها وسوق الحميدية ومقهى هافانا، حيث كنا نلتقي بمظفر النواب يحتسي قهوته على مهل. سوريا لنا جميعا فهي مركز الروح والقلب من بلاد الشام، وهي المجد الذي لم يغب ويعود ليشرق من جديد.، نريد أن نعود إليها نمارس حق القول والغناء والسير على ضفاف بردى دون خوف من المارة، عشت أول أيامي المهنية في ربوعها وتعلقت بها ولم أفارقها إلا في عهد سنوات الرعب والبراميل والقتل على الحواجز والتعذيب اللانهائي، نريد أن نعود بعد أن تستقر الأمور ويستتب الأمن وتلغى الطائفية وتنتهي أجهزة الأمن السرية والعلنية، لا أحد يسأل عن مذهب وعن دين وعن عرق ولا مكانة اجتماعية ولا يبحث عن واسطة ليسترد جواز سفره الذي صودر في المطار. تلك الشام التي عشقناها صغارا وترددنا على حاراتها وأسواقها وبساتينها كبارا، ولم نترك فرصة لزيارتها إلا واغتنمناها. فانتظري عودتنا قريبا يا دمشق ولا تبدئي العتاب على هذا الغياب.

كاتب فلسطيني

القدس العربي

—————————–

مهد الأيديولوجيات: هل سوريا ليست أفغانستان فعلاً؟/ محمد سامي الكيال

20 كانون الأول 2024

تصاعدت المخاوف، عقب سيطرة ميليشيات المعارضة المسلحة، ذات الطابع الإسلامي، على العاصمة السورية دمشق. إذ بات من الممكن القول إن سوريا هي الدولة الأولى في العالم، التي تستفرد بالسيطرة على عاصمتها جماعة مسلحة، كانت في ما مضى جزءاً من تنظيم «القاعدة». كابول الأفغانية بالمناسبة لم تكن يوماً تحت حكم القاعدة، كما أن التنظيم آنذاك لم يكن معنياً بحكم وإدارة دول، بقدر انشغاله بالجهاد العالمي العابر للحدود.

إلا أن حكّام دمشق الجدد سعوا، قدر إمكانهم، لتقديم التطمينات، هم لم يعودوا «قاعدة» منذ سنوات، وأبدوا تفهّماً للتنوّع الديني في المجتمع السوري، كما قاموا بنوع من «النقد الذاتي» لممارساتهم السابقة، ولعدد من ممارسات الحكم الديني في المنطقة. والنتيجة: أعلن محمد البشير رئيس ما يسمى «الحكومة الانتقالية» في سوريا، أن هنالك نموذجاً جديداً للحكم، سمّاه «المدنيّة الشرعية»، ليثير حيرة كل مستمعيه، إذ لا يعلم أحد ما «المدنيّة الشرعية» حقاً، خاصة أن مفردة «مدنيّة» نفسها، التي انتشرت كثيراً إبان «الربيع العربي»، بوصفها نمطاً لنظام الدولة، لا معنى جديّاً لها في العلوم السياسية، فما بالك إذا أضيفت لها «شرعية».

كثيرون من المستبشرين بسقوط نظام الأسد، وخلاص السوريين منه أخيراً، حاولوا التمسّك بالأمل، ليؤكدوا أن الجهاديين تغيّروا حقاً، وباتوا «سوريين» أكثر، والمجتمع السوري سيمنع أي عملية أسلمة شاملة وعنيفة للقانون والحياة العامة، لأن «سوريا ليست أفغانستان». بالتأكيد سوريا ليست أفغانستان، والأخيرة ليست أوزبكستان مثلاً. ولكن يبقى هذا الطرح مثيراً لبعض الأسئلة، أهمها: لماذا التفاؤل بكون الحكّام الجدد قد باتوا أكثر «سوريةً»؟ هل في التاريخ والثقافة السياسية السورية ما يجعلنا نطمئن لميل السوريين إلى احترام قيم، مثل التعددية والتنوّع والحقوق الفردية والاجتماعية؟

الإجابة، ومنذ البداية، «لا» بالتأكيد. تاريخياً شهدت سوريا نشوء وتطور كثير من الأيديولوجيات المتطرفة، التي انبنت كلها على مفهوم الأمة الأحادية، المُلغية لكل فئة قد يشتبه بأنها لا تتسق، من حيث هويتها ولغتها ونمط حياتها وخياراتها السياسية، مع ما يفترض أنه جوهر «الشعب» الواحد المتجذّر في التاريخ، وثقافته وتطلعاته، بل يمكن القول إن سوريا «طليعية» في هذا المجال على المستوى العربي، وقدّمت عدداً من أهم منظري ومؤسسي تنظيمات مثل «البعث» و«القومي السوري» و«القوميين العرب» و«الإخوان المسلمين»، وصولاً إلى القاعدة، التي قد تكون تجربتها السورية متأثرة لحد كبير بأفكار مصطفى ست مريم، المعروف بأبي مصعب السوري. ولا ننسى في هذا السياق ازدهار الفكر الجهادي ومجموعاته في البلد، خاصة عقب احتلال العراق، وتدفّق الجهاديين، بعلم النظام السوري آنذاك وتسهيلاته، لزعزعة الوجود الأمريكي في الجار الشرقي. إلى أن وصلنا إلى ظهور أشد التنظيمات الإسلامية دمويةً، أي «داعش»، على أرض الشام والعراق.

سوريا ليست أفغانستان إذن، بمعنى أنها قد تتفوّق عليها أيديولوجياً في إنتاج العقائد السياسية الحديثة، التي تتخيّل أمماً منظّمة، في معارك تاريخية أو فوق تاريخية. إلا أن هذه الإجابة تطرح أسئلة جديدة: أي ثورة وتغيير ممكنين في «مهد الأيديولوجيات» هذا؟ وهل يمكن لتحديثات أيديولوجية، من نمط «المدنية الشرعية»، أن تطمئن أحداً، باستثناء أنصار هذه النسخة أو تلك من الأمة الأحادية؟

بعث وقاعدة

من اللافت في سيرة حياة أحمد الشرع قائد «هيئة تحرير الشام»، أنه يتحدّر من عائلة بعثية، فقد كان والده حسين الشرع أكاديمياً معروفاً، يميل، مثل عدد مهم من البعثيين السوريين، إلى النسخة العراقية من الحزب. وهذا الميل العراقي، إن صح التعبير، انتقل إلى الابن، الذي سافر إلى العراق ليشارك في النشاط الجهادي هناك. يمكن تتبّع خطوات تمازج بقايا البعث العراقي مع «القاعدة»، في إطار ما يسمى «المقاومة العراقية»، التي شارك فيها كثير من الضباط والحزبيين السابقين، وتطرّفت في إسلاميتها يوماً بعد آخر، إلا أن بداية الأسلمة لم تكن مع الاحتلال الأمريكي، إذ أمضى الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عقد التسعينيات في «حملات إيمانية»، طالت جهاز الدولة والقانون والحزب، والمجتمع عموماً.

الشرع الابن إذن نتيجة تجربة أيديولوجية عميقة، تجذّرت بين سوريا والعراق، ودمجت عناصر العروبة والإسلام والعشائرية، المُعاد إنتاجها بالعلاقة مع جهاز الدولة، أو في الحرب ضده. ولم يكن يوماً «نبتاً غريباً» عن الأرض السورية، حتى في عز مرحلته الجهادية المتطرّفة. إنه ابن «الأمة» إياها، التي لا يمكن أن تقوم إلا على ركيزتين: تنظيم المجتمع وحشده على عقيدة سياسية واحدة أولاً، عبر نخبة مؤدلجة جيداً؛ والدخول ثانياً في المعركة ضد العدو. أحياناً تنوب النخبة عن المجتمع في المعركة، كما في خلايا الجهاديين العابرة للحدود، وقبلها مناضلي الحركات القومية – اليسارية، الذين قاتلوا على مساحة المشرق كلها، من فلسطين إلى عُمان؛ وأحياناً أخرى تحاول إنتاج مؤسسات اجتماعية وسياسية راسخة، لـ»تعبئة» المجتمع، بما يتسق مع أهداف المعركة، كما في كل تجارب الدول القومية في العالم العربي. ولكن في كل الأحوال، لا بد من تأديب المجتمع، ورفع سويته، وإنتاج هوية متسقة له، ليكون أهلاً لمهمة تاريخية ما. يمكن اعتبار كل هذا جوهرياً في التحديث العربي، خاصة في مرحلة التحرر الوطني، ولا يشذّ عنه قوميون أو يساريون أو إسلاميون، إلا في ما ندر.

قد يكون الشرع انتقل إلى مرحلة «الحوكمة»، منذ حكمه لأجزاء من محافظة إدلب السورية، إذ بات لا بد من مؤسسات، تراعي الوضع الاجتماعي القائم، وتحاول «تطويره» ببعض الصبر، نحو الغاية الأسمى. وهذا يتسق تماماً مع أفكار أبي مصعب السوري، التي بدورها ليست غريبة عن أيديولوجيات أخرى شهدتها المنطقة. وهكذا فإن «المدنيّة الشرعية» قد تكون نمطاً من الحكم المؤسساتي، الذي يؤدّب المجتمع بصبر، وبالتدريج، ليكون صالحا لـ»القضية». لا ندري حتى الآن ما القضية التي سيحملها حكّام دمشق الجدد، بعد انتصارهم في قضيتهم الأولى بإسقاط النظام. غالباً لن تكون القضية الفلسطينية، فتصريحات الشرع واضحة بهذا الخصوص. هل هي بناء نموذج إسلامي في بلد متعدد طائفياً، ولكنه يبقى قاعدة «الأمة» الأساسية؟ خطبة الشرع في الجامع الأموي، التي أهدى فيها انتصاره للأمة، قد ترجّح هذا الاحتمال.

ليست «المدنية الشرعية» بالأمر الجديد، إنها التطور الطبيعي لمزيج من الأيديولوجيات. ومن البعث إلى «القاعدة» عايشنا أنماطاً متعددة منها، تختلف فقط في درجة تشددها وأسلمتها، ولكن ليس في طابعها الأساسي: نمط من الهندسة الاجتماعية، لإنتاج آلة حرب ما، ستشتغل أولاً بالتأكيد ضد جانب من مجتمعها، لضمان اتساقه، وإنتاج «الشعب» الحقيقي والأصيل، المتطابق مع هويته، المحددة بشكل سابق عليه، وعلى ممارساته وتعبيراته.

البراغماتية الشرعية

إلا أن كثيرين يركزون على «براغماتية» الشرع، وليس «أيديولوجيته». بمعنى أنه بات رجل سياسة، يهتم بمصالح وعلاقات معيّنة، في الداخل والخارج، وربما صار متأثراً بالنموذج الإسلامي التركي، الذي لا تمنعه إسلاميته من أن يكون عضواً في حلف الناتو، أو تدفعه لرفض العلاقات الجيدة مع إسرائيل. قد تكون مشكلة هذا التصور، افتراض أن «البراغماتية» أمر مختلف جذرياً عن الأيديولوجيا. وهذا غير صحيح، إذ أن تعريف المنفعة نفسه، وأفضل السبل لتحقيقها، مرتبط بسلسلة متسقة من التصورات والأفكار والعقائد، تشكّل إطاراً معيارياً، لا يمكن للبراغماتي أن يعي ذاته من دونه، أي أنها طرح أيديولوجي أيضاً. وتاريخياً لم يوجد قائد ناجح، لم يمارس «البراغماتية» ببراعة، ولكن أي براغماتية؟ علينا أن نفهم أيديولوجيته أولاً كي نحدد مقياساً لنفعيته. هل حركة طالبان اليوم مثلاً غير «براغماتية»؟ قد يسعى حاكم دمشق الجديد إلى «انفتاح على العالم»، لنيل الشرعية، واستجلاب الأموال، سواءً على هيئة مساعدات أو استثمارات، ولكن هذا لن يعني على الإطلاق أنه نسي وعوده للأمة، سواء الوعود القديمة، أو الجديدة التي أطلقها مؤخراً من حرم الجامع الأموي.

«تفكيك» سوريا

هنالك جانب آخر في الهندسة الاجتماعية، التي عرفناها مع التحديث المرتبط بحقبة التحرر الوطني وبعد الاستعمار: ليس فقط الانتصار في معركة تاريخية ضد العدو، بل أيضاً، وأساساً، إيجاد «حل» لأزمات التشكّل الوطني، في مساحات محددة بحدود صارمة، بات عليها أن تصبح دولاً حديثة.

الإسلام والعروبة كانا الاقتراحين الأساسيين، إلا أن سكان المساحات المذكورة لم يكونوا كلهم عرباً ومسلمين، أو لم يفهموا أنفسهم سياسياً بهذا الشكل. هكذا كان لا بد من صياغة «أغلبية» واضحة المعالم، يمكن تتبّع نشأتها عبر إجراءات متعددة، من المجازر والتهجير على أساس عرقي وديني، في الحالات الأكثر تطرفاً؛ إلى صياغة الهوية عبر القانون والتعليم والثقافة الجماهيرية والمؤسسات الدينية الرسمية، وغيرها من الإجراءات المرتبطة بأجهزة الدولة.

«الأغلبية» متغلّبة بطبعها، وقد تقبل بوجود أقليات إلى جانبها، ولكن تحت سقفها، وبما لا يخالف أساسيات شرعها. أي تقبلها بالصفة الذميّة المُحدّثة: التخلّي عن أساسيات المساواة في الحقوق، والخضوع للهوية العربية الإسلامية، المعاد إنتاجها سياسياً؛ مقابل السماح بممارسة بعض الطقوس، والاستمرار في الحياة. ربما فقدت «الأغلبية» صلاحيتها وقدرتها على الاستمرار، في الحالة السورية بالذات. والسعي لاستمرار تغلّبها وصفة لحرب أهلية دائمة، واضطرابات اجتماعية لا تنتهي، خاصة أن ثمن فهمنا لأنفسنا، بوصفنا عرباً ومسلمين بالهوية السياسية، قادنا من البعث إلى القاعدة، وفكك كل إمكانية لإنتاج الاجماع.

لا ندري إذا كان أحمد الشرع سيستمر حاكماً لدمشق سنوات طويلة، ولكن سلطته لن تترسخ بسهولة بالتأكيد. ربما كان الأجدى «تفكيك» سوريا التي تعودنا عليها، ليس بمعنى تقسيمها، وإنما تجاوز فكرة «الأغلبية»، المهيمنة بهويتها على دولة مركزية، سواء كانت عربية مسلمة، كما في حالة البعث؛ أو عربية سنيّة إسلاموية، كما في حالة الهيئة. يمكننا أن نردد طويلاً «سوريا ليست أفغانستان»، ولكن هذا بحد ذاته ليس مطمئناً أبداً، وربما يجب أن نفكر الآن بـ»سوريا ليست نفسها»، فقد عانينا كثيراً من «سوريا» التي نعرفها.

 كاتب سوري

 القدس العربي

—————————-

صدمة ما بعد النشوة/ رشا عمران

20 ديسمبر 2024

نعود، نحن السوريين، إلى الواقع بعدما شلتنا فرحة التخلص من كابوس نظام الأسد، تلك المعجزة التي يئسنا تماما من حدوثها ونحن على قيد الحياة. لوهلة ظننّا أن مفردة الأبد تبدو حقيقة مطلقة، وأن ما علينا فعله هو الرضوخ والاستسلام لهذا القدر الكارثي، لكن المعجزة حصلت عبر توافقات دولية جاءت لحظة في مصلحة الشعب السوري، أو على الأقل هذا ما نريده، فمن تلقّف فراغ السلطة اليوم لن يقل استبداداً عن الأسد فيما لو أتيح له ذلك، وسوف يسعى إلى فرض نمطه على سورية المتنوعة والمتعدّدة، لكن السوريين لن يوافقوا بعد اليوم على أن تُعاد تجربة الاستبداد في بلدهم، وهو ما يظهر رغم محاولات إسكات الأصوات التي تعترض على سلطة الأمر الواقع وسلوك عناصرها، فلكل فصيلٍ مؤيدوه، خصوصاً إن كان فصيلاً دينياً مؤدلجاً يدّعي تقديم الخلاص لشعبٍ عانى سنوات من العنف والقتل تحت رايات طائفية ومذهبية، ولم يعد لديه سوى التمسّك بدينه، بوصف الدين ملجأ وحماية للبنية النفسية والهوياتية لدى من جرى الفتك به تحت كل المسمّيات الوطنية والقومية والمذهبية.

نعود إلى الواقع لنكتشف، ومعنا العالم بأسره، أن كل ما قيل سابقاً عن إجرام النظام السوري لم يكن سوى جزء يسير من الحقيقة، ما حدث أشدّ هولاً مما قيل عنه. ليس فقط ما جرى الكشف عنه في سجن صيدنايا وغيره من السجون، وإنما الكشف أيضاً عن حقيقة أن مئات آلاف من المعتقلين من أبناء سورية وبناتها، ومن في حكمهم من الفلسطينيين، جرت تصفيتهم داخل المعتقلات؛ فهناك عشرات من المقابر الجماعية التي تُكتشف يوماً وراء يوم في كل سورية، وتضم كل منها مئات بل آلاف الهياكل العظمية، تحتاج خبراء ومخابر وأجهزة ومعدات طبية حديثة لمعرفة أصحابها وتاريخ رحيلهم وطريقة إعدامهم.

السوريون اليوم أمام واقع جديد، صادم إلى درجة الذهول: بلاد بأكملها مدمّرة، حجارتها وبشرها واقتصادها وميزانيتها وخيراتها، كل ما فيها قد فتك به نظام مجرم وخائن تبخّر في لحظة واحدة تماماً؛ ولأول مرة يجري الكشف عن مفهوم ارتباط شخص الحاكم بالدولة إلى هذا الحد. عادة عندما تحدُث ثورة أو انقلاب أو أي شيء شبيه، تبقى مؤسّسات الدولة قائمة كما هي، لكن ما حدث في سورية يفضح ذلك الارتباط الوثيق بين الحاكم والدولة. كان بشّار الأسد هو الدولة، لا توجد في سورية دولة عميقة، لا يمكن الحديث عن هذا، كان بشّار الأسد هو السطح والعمق في الدولة، حين اختفى تبخّر معه كل شيء: الجيش والأمن والشرطة ومؤسّسات الدولة الإدارية والخدمية، كل ما يمت للدولة بصلة اختفى، وانكشف السوريون على فراغ مهول وكوارث وجرائم لا يمكن وصفها أو تصديقها.

السوريون اليوم أمام واقع بالغ الخطورة: ثمة فصيل ما زال مصنّفاً تحت بند الإرهاب الدولي يسيطر على الحكم، فصيل عسكري راديكالي لديه تاريخ من الارتكابات في سورية بحق مدنيين وناشطين، وعناصره غير مؤهلين للتشاركية في الحيز العام السوري المتنوّع، حتى المدرّبين منهم لهذه اللحظة الفاصلة لم يتمكنوا من إخفاء أيديولوجيتهم. وهناك خوف من الانفجار الأمني والطائفي في أي لحظة، رغم ما أبداه السوريون من وعي وطني، رغم كل محاولات فلول النظام السابق والمليشيات المسلحة المختلفة لاستغلال الفراغ الأمني واللعب بمصير سورية وشعبها. وهناك إسرائيل التي دمّرت كل المنظومة الدفاعية السورية، وبدأت احتلال أراض وقرى جنوبية سورية من دون أن يعترض أحد، وهناك تركيا التي أعلن ترامب أنها سوف تكون المسؤولة عن سورية، ما يعني انتقال سورية من الحماية الروسية الإيرانية إلى الحماية التركية. … كل هذه ملفاتٌ بالغة الخطورة، تضاف إلى ملف الوضع المعيشي المنهار ومستقبل سورية وشكل الدولة القادمة والدستور والنشيد والعلم وعودة المهجرين والمفرج عنهم من المعتقلين. ما يعني أن ما مضى من التاريخ السوري شيء والقادم شيء آخر مختلف، لكنه ليس أقل خطورة أبدا مما كان. سورية اليوم مفتوحة على كل الاحتمالات، وأمامنا، نحن شعبها، فرصة فرض ما نريده لنا ولها.

العربي الجديد

———————————

سقوط النظام في الساحل السوري وأنسنة اللحظة التاريخية/ مالك ونوس

20 ديسمبر 2024

ربما ترقَّب الجميع بقلقٍ ما سيكون عليه حال الساحل السوري إذا ما هرب طاغية سورية، بشّار الأسد يوماً. وتساءلوا بشأن احتمال أن يقود سقوطه إلى قلاقل في هذه المنطقة الحساسة من البلاد، والتي كان يعدها الخزان البشري لجيشه، إذا ما دخلها ثوار، أو إذا وصل إليها ممثلون لسلطةٍ جديدةٍ تخلعه، أم سيكون الأمر سلساً، يجري بلا قتال ولا يؤدّي إلى مشكلاتٍ أمنيةٍ لاحقة. أما وقد سقط الديكتاتور ونظامه، وهرب بشّار إلى روسيا من دون أن يخبر أحداً، فقد حصل ما يدلّ على ذكاء إدارة العمليات العسكرية، والذي توقّعناه، وهو عدم توجّه قواتها إلى الساحل لإخضاع المنطقة، بل التوجّه إلى مركز السلطة في العاصمة. وقد أدّى هذا الأمر إلى ارتياحٍ في الساحل، وجعل سكّانه ينتظرون ما ستُفضي إليه معركة دمشق، مع كثيرٍ من القلق من أن يرفض أنصار النظام في منطقتهم تسليم أسلحتهم، ويعمدوا إلى مقاومة السلطة الجديدة، وبالتالي، إدخالها في معركةٍ تصيب الجميع بتداعياتها.

ظهرت حالة الترقب والقلق منذ اللحظة الأولى التي شنَّت فيها إدارة العمليات العسكرية التابعة لتحالف فصائل المعارضة السورية، هيئة تحرير الشام والجيش الوطني، في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، عملية “ردع العدوان”. وازدادت بعد الانتصار الماراتوني الذي سجلته تلك الفصائل، لدى استعادة ما تبقى من ريف إدلب وريف حلب، ثم السيطرة السريعة على حلب المدينة. في هذه اللحظة، تبين مدى ضعف جيش النظام، والذي يمكن إرجاعه إلى الضعف البنيوي المعروف تاريخياً، وكذلك إلى التعب الذي أصاب أفراد هذا الجيش، علاوة على تسريح من تجاوزت فترة خدمتهم زمناً محدّداً، وإلى غياب الانضباط وحال الفلتان، بسبب منح الضباط الإجازات المفتوحة لجنود مقابل مبالغ مالية (تفييش)، وهو ما كانت تتغاضى عنه قيادة الجيش عادةً، بسبب عدم قدرتها على دفع رواتب كافية لأولئك الضباط. حينها سادت في الساحل الأجواء ذاتها التي سادت سنة 2011، عندما عاد النظام إلى التجييش الطائفي، والبدء في التضييق على المعارضين. كما تخوَّف الأهالي أن يبدأ النظام بحملات تجنيد عشوائية، وهو ما حصل فعلاً؛ إذ ساقَ حتى من أتمَّ خدمته، بل والمعفيين من الخدمة لأسباب محدّدة. لذلك عمد الشبّان إلى ملازمة المنازل والتخفي، مخافة السوْق إلى ساحات القتال، وغالباً من دون الخضوع للتدريب اللازم، أي إلى الموت المحقّق.

على الجانب المقابل، ربما تملَّكت إدارة العمليات العسكرية المخاوف من أن تشهد عملية تحرير الساحل من نظام بشار معارك شديدة العنف، تؤدّي إلى سقوط أعداد كبيرة من المدنيين، واتهامها باستهداف الأقليات. معارك ليس مع الجيش النظامي، بل مع بقايا النظام، خصوصاً نتيجة تغلغل مليشيات الأسد بالتركيبة السكانية للمنطقة، وإمكانية فرضها على السكان الانخراط الكبير في التصدي لمقاتلي إدارة العمليات العسكرية بحجّة الدفاع عن أهاليهم ضد من واظب على النظام على تسميتهم “تكفيريين”. لذلك يمكن القول إن توجّه إدارة العمليات العسكرية إلى حسم المعركة عن طريق السيطرة على العاصمة، وإسقاط النظام هناك، قاد إلى تحرير الساحل، وجنَّبه حمّام دم كبير وتبعات صراع كان يمكن أن يصبح طويل الأمد. وعليه، كان الدخول السلس لقوات إدارة العمليات العسكرية إلى طرطوس، وبالتوازي معها إلى اللاذقية، ما أعطى إيحاءً، أو ربما أثبت، أن الولاء لبشّار الأسد في هذه المنطقة هشّ، جرت هندسته بالقوة والترهيب واللعب على الوتر الطائفي والإفقار، وهو ما ينطبق على مناطق أخرى خارج الساحل.

وبينما لم يعمد مسؤولو إدارة العمليات العسكرية إلى تطمين أهالي منطقة الساحل بخطاب مباشر وصريح، كما طُلب منهم عبر الإعلام من شخصياتٍ معارضة للنظام، كانت طريقتهم في دخول مناطق الأقليات في حماة وحمص ودمشق عاملاً ملطفاً، ولقي صدىً إيجابياً لدى نسبة كبيرة من أهالي المنطقة الساحلية. ثم كانت طريقة إدارة أحوال المدن الساحلية المعيشية التي قام بها أفراد إدارة العمليات العسكرية، وحرصهم وسعيهم الحثيث واللافت إلى تأمين الخبز للأهالي، وتأمين المحروقات للمنطقة من أجل تسيير حركة المرور، ومنع التعدّي على الأملاك العامة، كانت هذه الطريقة عاملاً في تغيير صورتهم لدى الجمهور؛ إذ إن فترة انتقالية شبيهة بالفترة التي تلت سقوط بشّار، كفيلة بإحداث فلتان واضطرابات في أي بلد مدّة ليست قصيرة، وهو ما لم يحصل في سورية. لذلك يُحسب للسوريين أنهم أظهروا درجة كبيرة من الوعي، واستطاعوا التغلب على الواقع الذي كرّسه نظام الأسد الأب والابن، والذي سعى إلى ضرب نسيج المجتمع السوري، من أجل بقاء التوتر الدائم داخله، وبث التفرقة بين أبناء هذا الشعب، ليسهل عليه إخضاعه وتوجيهه كما يريد.

يسجّل لأبناء المنطقة أنهم سعوا سريعاً إلى أنسنة هذه المرحلة، ومواجهة خوفهم من الآخر والتخلص من هذا الخوف، عن طريق التواصل المباشر مع مقاتلي إدارة العمليات العسكرية في مدن الساحل وقراه. وكانت لافتةً مسارعة فتيات، من الأيام الأولى لسقوط النظام، ودخول الثوار إلى الساحل، إلى التقاط الصور التذكارية معهم. وهي خطوة كسرت الحواجز والمحاذير والمخاوف التي زرعها نظام الأسد بين أبناء الشعب، وجعلهم يحملون الريبة تجاه بعضهم. وكان من بين الصور ما أظهر ذلك السمت الحيي في المقاتلين الأشداء الذين تركوا أهاليهم في إدلب، وقدموا إلى المناطق السورية لتخليصها من الجزار الذي قتل آلافاً من أبنائها، ورهن ماضيها ومستقبلها من أجل بقائه على كرسي الحكم.

ستبقى الصورة التي حرّر فيها مقاتلو إدارة العمليات العسكرية سورية من ديكتاتورية آل الأسد محط إعجاب كثيرين، غير أن ما سيبقى ماثلاً هو مسارعة أهالي هذه البلاد للتخلص من خوفهم بعد سقوط النظام، وأنسنة هذه اللحظة التاريخية عبر اللمسات الإنسانية في التعاطي مع الآخر. وقائع أحدثت واقعاً جديداً في العلاقة بين أبناء البلد الواحد، لم يكن لأحدٍ أن يتخيّل حدوثه، إلا أن رحيل النظام أذِنَ بحدوثه، وربما فتح باباً لسورية جديدة مغايرة لجمهورية الخوف التي أسسها آل الأسد.

العربي الجديد

———————–

العلمانيون” ليسوا فلولاً لنظام الأسد المخلوع!/ وليد بركسية

الجمعة 2024/12/20

لم يكن خروج مظاهرة في ساحة الأمويين بدمشق، للمطالبة بالدولة العلمانية والمدنية، كافياً لنشر الاطمئنان بشأن مستقبل سوريا، ليس لأن الفصائل الإسلاموية التي أسقطت حكم نظام الأسد الدكتاتوري الممتد لأكثر من 54 عاماً، قمعت ذلك الحراك مثلاً، حيث حمته في الواقع، بل لأن الجدال الممتد بشأنه وخطاب التخوين الذي انتشر بعده، أعطى انطباعاً متكرراً بمدى عبثية الاهتمام بأي شيء يجري في البلد المأزوم، والغارق في الانقسامات من دون هوية وطنية جامعة.

وبين الجدال حول عدم رفع كثيرين لعلم الثورة السورية، وانتشار أخبار مزيفة عن توجيهات برفع علم النظام السوري فقط، وصور مضللة عن هوية المشاركين في المظاهرة، وتسخيف المطالب بالقول إن الوقت الحالي ليس جيداً للحديث عن هوية الدولة مقابل الحزن والتضامن مع ضحايا نظام الأسد وعائلاتهم، والشتائم الجنسية التي طالت السيدات في المظاهرة، وغيرها، بدا المشهد محزناً بدل أن يبث التفاؤل بمستقبل أفضل لبلاد لم تعرف سوى المسيرات المليونية، التي كان يجبر فيها السوريون على الهتاف باسم القائد، أو المظاهرات المعارضة التي كانت تتعرض للرصاص الحي.

أحد الصحافيين المعارضين كما يعرف عن نفسه في مواقع التواصل، طالب قيادة العمليات العسكرية التي أسقطت الأسد، بإطفاء الكاميرات وإرسال القوات إلى ساحة الأمويين للتعامل مع المتظاهرين، الذين باتوا يوصفون بأنهم “فلول النظام” لمجرد مطالبتهم بدولة علمانية وبدستور جديد وفصل للسلطات وغيرها، بشكل يضمن الحريات لجميع مكونات الشعب السوري، بما في ذلك المسلمون السنة الذين يشكلون الأغلبية من ناحية عدد السكان، والذين لا يتشاركون حتى الدرجة نفسها من الالتزام الديني. وهي تفاصيل لطالما كررتها قيادة المعارضة في الأسبوعين الأخيرين، بشكل تصريحات تحدثت عن حماية الأقليات وعدم تحويل سوريا إلى أفغانستان جديدة، بانتظار تحولها إلى أفعال للحكم على مدى جديتها.

وهذا النوع من الدعوات، وصولاً للمنشورات التي تضع كل من يطالب بالعلمانية في خانة “فلول النظام” الذين يجب اجتثاثهم، مروعة، لأن الثورة السورية في أساسها بدأت كحراك مدني مطالب بالديموقراطية والتعددية السياسية، ولم تنتشر فيها الأسلمة إلا بعد عدة سنوات، خصوصاً عندما أطلق النظام السوري المخلوع آلاف المجاهدين والسجناء الإسلامويين من معتقلاته، بهدف أسلمة الثورة وتقديم نفسه كشريك في الحرب على الإرهاب حينها. وهو أمر لم يخدع أحداً بطبيعة الحال.

والمطالبة برفع صور ورموز الثورة السورية يجب أن تبدأ من ذلك الماضي الذي يبدو اليوم كذكرى بعيدة، وليس بالرايات الإسلامية التي تقصي كثيراً من الأفراد، الذين بكل بساطة قد يكونون من أديان أخرى أو من خلفية غير دينية أصلاً، وليس فقط بصور قادة الفصائل الحاليين، الذين كان تعاملهم في الملفات الحقوقية خلال السنوات الماضية إشكالياً، لدرجة خرجت ضدهم مظاهرات في الشمال السوري نفسه، خلال سنوات الحرب ضد النظام المخلوع، للتأكيد على مدنية الثورة وعلمانيتها البعيدة عن التشدد الديني.

وفيما يمكن الحديث عن شجاعة المتظاهرين المطالبين علناً بشكل الدولة التي يرغبون بها في سوريا المستقبلية، ورفع شعار “ديموقراطية لا دينوقراطية”، فإن المشهد لا يكتمل بالنظر لخطاب التخوين الذي يقابل أولئك بالقول: “أين كنتم قبل سنوات”، مع نشر معلومات غير دقيقة تفيد بأن الإسلاميين تحديداً كانوا من يثورون ضد نظام الأسد فقط، متناسين أسماء كانت تقود المظاهرات الشعبية ضد الأسد، وتأتي من خلفيات دينية مختلفة، مثل الممثلة الراحلة مي سكاف (مسيحية) وزميلتها الراحلة فدوى سليمان (علوية) وفارس الحلو (مسيحي) وميشيل كيلو (مسيحي) وفيصل القاسم (دروز)، وغيرهم كثيرون.

وإن كانت استعادة السوريين لساحاتهم وفضائهم العام إيجابياً، فإن معاملة كل من يتظاهر لسبب أو لآخر من منطلق التخوين، تعني أن الثورة نفسها قد تتحول على يد أبنائها إلى “بعث” جديد، وهو أمر يتنافى مع فكرة الثورة نفسها كإطار نبيل يهدف إلى الحرية لجميع السوريين على كافة اختلافاتهم. ولعل إطلاق صفة العمالة للنظام المخلوع على كافة العلمانيين بالتالي، لا تختلف عما كان يروج له النظام في السابق ضد المعارضة ككل بوصفها عميلة ومرتهنة للخارج أو تصوير اليمين المتطرف لكل المسلمين على أنهم إرهابيون، وكلها تعميمات لا يجب أن تكون حاضرة في مجتمع صحي.

ولذا، فإن المشكلة التي تظهر اليوم، لا تتعلق ربما برفع شعارات الثورة السورية التي كانت حاضرة في ساحة الأمويين، ولا بمطالبة كل من يتظاهر بالوقوف دقيقة صمت على أرواح الضحايا، بل تتعلق بمعنى أن يكون المرء سورياً، بعد عقود أفرغ فيها النظام السابق المفاهيم الوطنية من مضمونها لتصبح مجرد شعارات خشبية، فيما تم العمل بشكل ممنهج على تفرقة السوريين في خانات متصارعة إثنياً وعرقياً وجندرياً وطائفياً، مع تصوير النظام نفسه الحامي الوحيد لكل فئة ضد الفئات الأخرى. ولعل أكبر انتصار يحققه السوريون على ذلك النظام الذي ظلمهم جميعاً، هو إظهار وحدتهم اليوم ومحبتهم لبعضهم البعض، مهما كان الاختلاف الأيديولوجي بينهم كبيراً، وتقديم الاختلاف على أنه ظاهرة صحية في مجتمع يتعافى ويتطلع لمستقبل أفضل، بدلاً من خطاب التخوين والتشنج.

والمهمة قد لا تكون سهلة، خصوصاً مع انتشار فيضان من المعلومات المضللة من طرف جهات تروج للنظام السابق في محور الممانعة تحديداً، حسبما أفادت مؤسسات متخصصة في رصد الأخبار الكاذبة خلال الأسبوعين الأخيرين، والخوف من تكرار سيناريو دول الربيع العربي التي أطاحت بدكتاتوريات راسخة وحصلت فيها ثورات مضادة لاحقاً أعادتها إلى الوراء، كما هو الحال في تونس ومصر.

وإن كانت الثورة مشروعاً للإطاحة بالنظام، فإن تلك المهمة تمت بنجاح، والتقسيم السابق للسوريين بين موالين ومعارضين يجب أن ينتهي لأنه لا يساهم سوى في تأجيج الخلافات وينذر بحرب أهلية على المدى القصير أو البعيد، بسبب الاحتقان والتشنج، أو بحقبة من القمع أو التوترات السياسية، وكلها أمور يمكن للسوريين تجنبها إن أظهروا ميلاً للوحدة الوطنية من جهة واتجاهاً لعدم تسخيف مخاوف بعضهم وقضاياهم من جهة ثانية، لأن وجود مظلومية واحدة لا تعني عدم وجود غيرها بطبيعية الحال.

ولا يعني ذلك نسيان جرائم النظام وانتهاكاته لحقوق النظام، لكن مسار العدالة يجب أن يأخذ إطاراً قانونياً ضمن محاكم مستقلة، ويتعلق ذلك بالأشخاص المحرضين ضد الشعب السوري خلال السنوات الماضية بالطبع، لكن تلك العدالة لا تعني تحولها إلى خطاب للتخوين أو لتسخيف أي مخاوف من قبل أي سوري، أو لتأجيل النقاش في المواضيع السياسية، خصوصاً أن نظام الأسد كان يكرر القول بأن “الوقت غير مناسب” للمطالبة بالإصلاح السياسي أو الديموقراطية، لأسباب تافهة وهمية، وهو ما لا يجب أن يتكرر اليوم تحت أي ظرف كان، كما أن الوقت الحالي هو الأشد حرجاً والذي يجب ألا يتم تركه للفراغ بل يجب على السوريين الاحتجاج والمطالبة بصوت عال بكل ما يريدونه، خصوصاً أن السلطة المؤقتة الحالية، تبدي مؤشرات إيجابية تجاه هذه النوعية من التحركات.

المدن

——————————

ضمير الكاتب/ ممدوح عزام

20 ديسمبر 2024

من الذي يُمكن أن يثبت أنّ الكاتب أو الشاعر الذي يصطفّ إلى جانب الطاغية، ويدافع عنه، ويهاجم، أو يسخر أو لا يؤيد حركات الجماهير الثورية، أو الانتفاضات والتمرّدات وحركات الاحتجاج، ضدّ الطغيان، سيكون على حقّ؟ فالمشهد في سورية اليوم، حيث خرج مئات الألوف من السوريين للاحتفال برحيل طاغية صغير حكم البلاد أربعاً وعشرين سنة، دون أن يرغمهم أحد على الخروج، لا رقابة، ولا حزب شمولي، ولا موظّفي أمن يستقبلون التقارير، ولا عملاء لهم يكتبونها، لا شيء من هذا الذي لا يعرفه أحد غير السوريين أنفسهم، وهم اليوم لم يرفعوا صورة، ولم يحيُّيوا أحداً، ولم يهتفوا لأحد غير بلادهم، التي تخرج متعبة من النكبات. يجعلنا نسأل: هل يحتمل أن يصدق الشاعر ويكذب الشعب؟

المفارقة القديمة التي لم يستطع الزمن تبديلها، لا تزال تتكرّر، أي أن يُذكر أن بعض الكتّاب قد يقفون إلى جانب المستبدّ، غير أن تكرارها هذه المرّة اكتسى بالحقارة، بنذالة الكاتب أو الشاعر الذي لم يفكر لحظة أنه يناصر سفّاحاً، ضدّ شعب فقير جائع إلى الحرّية، وإلى العيش البسيط الخالي من الخوف والمراقبة والمعاقبة. ومنهم روائي لا يمكن النيل من جدارة أعماله فنّياً، يُعادي ثورة السوريين، كاتبة رقيقة تبرّر قصف مدينة دوما كاملة لأنها تؤوي “إرهابيين”، (أتذكّر اليوم وزيرة خارجية ألمانيا التي برّرت قصف المدنيّين في غزة)، شاعر كبير من جيل الستينيات يحيي المذبحة. القائمة طويلة قليلاً، ومحزنة.

وحين أنظر إلى سورية، وإلى الأردن، ومصر، وتونس، وأعدّ أسماء الكتّاب الذين وقفوا إلى جانب الهارب الذي هدم بلادنا، وطرد أكثر من عشرة ملايين سوري وسوريّة من بيوتهم، من أجل كرسي، أُصاب بالذهول. ألم يرَ أولئك الكتّاب الذين جاؤوا لزيارته، وتأييده، أن مدافع جيشه تقصف “دوما” وتقتل أهلها جميعاً، أطفالاً ونساءً ورجالاً؟ لِمَ لمْ يصدّقونا؟ لماذا أصرّ هؤلاء على تصديق خطاب الطاغية عن الممانعة، وكذّبوا همسات شعب سورية عن العذاب؟ لم لا يكون بوسعك أن تؤيّد الممانع وتسأله عن الديمقراطية؟ لم لا يكون بوسعك أن تُناصر “المقاوم” وتسأله لماذا ينهب أحلام شعب؟ ما العلاقة التي كانت، ولا تزال حاضرة، هنا وهناك، بين الممانعة العربية والاستبداد؟ بين المقاومة العربية وكَمّ الأفواه، والعِداء للحرّية، أو التخوين؟

قد يُشار إلى أن باسترناك لم يؤيّد ثورة أكتوبر، وباختين، وغوركي قليلاً، وقد ثبت في التاريخ اللاحق أنهم كانوا على حقّ، ولكن ضد من وقف باسترناك؟ ضدّ الطغيان، ضدّ الحاكم الأوحد، ضدّ الحزب الشمولي. وضدّ من وقف غوركي؟ ضدّ ستالين، لا ضدّ تطلّعات شعب يريد الحرّية والخبز.

لا يتعلّق الأمر هنا بالتاريخ، بل بالواقع، فإذا كانت حركات التاريخ تتّسم بالخُبث أو الدهاء، فإن حركة الواقع لا تقلّ ذكاءً ومهارة، بحيث يصعب علينا أن ندّعي معرفتهما، ولعلّ الأيام الأخيرة في سورية التي لم تُنه حكم الطاغية الصغير وحده، بل أنهت نفوذ دولة مثل إيران، وسيطرة حزب مثل حزب الله في بضعة أيام، تحمل الكثير من الدلالات على أن انتظارنا لم يكن سدى.

يتعلّق الأمر أيضاً بالوجدان، بالضمير الحيّ للكاتب عموماً.

* روائي من سورية

العربي الجديد

———————————–

العدالة الانتقالية في سورية: مسارات المساءلة/ إبراهيم جبر

19 ديسمبر 2024

يمكن تعريف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية في فتراتِ الانتقال السياسي أو ما بعد الصراع التي تهدف إلى معالجة انتهاكات حقوق الإنسان وتوفير سبل العدالة والمصالحة في المجتمعات التي تعرّضت لصراعاتٍ دموية. في سياقات ما بعد النزاع، تُعتبر العدالة الانتقالية أداة حاسمة لقطع حلقة العنف والإفلات من العقاب، حيث تساهم في بناء الثقة بالمؤسسات الحكومية، واستعادة سيادة القانون، وضمان كرامة الضحايا. ومن خلال التصدّي للفظائع السابقة، تضمن العدالة الانتقالية أسس السلام والاستقرار على المدى الطويل، وتبعث برسالة قوية مفادها أنّ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لن تمرّ دون عقاب.

في السياق السوري، بعد سقوط نظام بشّار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأوّل 2024 وهروبه إلى روسيا، ظهرت أدلة جديدة وفظائع لم تُكشف من قبل، تمثّلت في السجون السرّية التي كانت تغصّ بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين. هذه الفظائع تُلقي الضوء على حجم الانتهاكاتِ التي تعرّض لها الشعب السوري خلال سنوات الصراع، ما يزيد من الحاجة الملحة إلى العدالة الانتقالية لضمان محاسبة الجناة وإعادة الاعتبار للضحايا.

الأهمية العالمية للمساءلة في سورية

إنّ المساءلة عن الجرائم المُرتكبة خلال الصراع السوري ليست مجرّد قضية محلية، بل هي قضية تمسّ المجتمع الدولي بأسره. فقد كشف سقوط النظام حجم الانتهاكات التي كانت تحدث في السجون السريّة، حيث فُتح العديد من هذه السجون ليرى العالم الفظائع التي كانت تُرتكب بحقِّ المعتقلين السياسيين. ويجب أن يتوجّه اهتمام العالم إلى محاسبة النظام السابق على الجرائم التي ارتكبها. ولذلك ينبغي أن يُنظر إلى هذا الكم الهائل من الأدلة على أنّه فرصة لإظهار التزام المجتمع الدولي والسلطات السورية الجديدة بتحقيق العدالة الانتقالية بشكلٍ فعّال، وفي الوقت نفسه إرسال رسالة قوية إلى جميع الدول بأنّ الإفلات من العقاب لن يكون خيارًا مُجديًا بعد الآن.

آليات المساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية

إنّ محاسبة مرتكبي الجرائم في سورية تُعتبر حجر الزاوية للعدالة الانتقالية. تتنوّع الآليات المتاحة لتحقيق ذلك، بدءًا من المحاكم الدولية إلى المحاكم الوطنية التي تمارس الولاية القضائية العالمية. إحدى أهم المحاكم الدولية هي المحكمة الجنائية الدولية، التي تعمل على محاكمة الأفراد المسؤولين عن الجرائم مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. إلا أنّ سورية ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، ما يعوق المحكمة الجنائية الدولية من ممارسة الولاية القضائية عليها من دون إحالة من مجلس الأمن الدولي، الذي عرقلها عدّة مرّات باستخدام حقّ النقض.

من بين الآليات الهجينة، تبرز المحاكم الخاصة مثل المحكمة الخاصة بلبنان، التي تجمع بين القانون الدولي والمحلي، وتقدّم نموذجًا يمكن تطبيقه في سياق سورية. هذه المحاكم يمكن أن تدمج التقاليد القانونية السورية مع المعايير الدولية، ما يسهم في معالجةِ المخاوف المتعلّقة بالشرعية وإمكانية الوصول.

بالإضافة إلى ما سبق، يمكن اللجوء إلى محاكماتٍ محليّةٍ باستخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية. أحد النجاحات البارزة في هذا السياق كان محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب في ألمانيا. هذه المحاكمة كانت الأولى من نوعها لمقاضاة مسؤولين حكوميين سوريين بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، ما يؤكّد فعالية هذا الخيار إلى جانب المحاكم المحلية أو الدولية.

التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية في سورية

على الرغم من التقدّم في آليات المساءلة، تظلّ هناك تحديات كبيرة تواجه العدالة الانتقالية في سورية يمكن تلخيص أهم التحديات في ما يأتي:

– الانقسام السياسي والاجتماعي: بعد سقوط النظام وهروب بشار الأسد، ستواجه سورية تحديات كبيرة في تحقيق إجماع سياسي بين القوى المتعدّدة على شكل النظام الجديد.

– ضعف المؤسسات القانونية والقضائية: لقد أدى الصراع الطويل إلى تدمير المؤسسات القضائية والقانونية في سورية. إعادة بناء هذه المؤسسات بما يضمن استقلالها ونزاهتها تحدٍّ كبير، خصوصًا مع غياب الكوادر القانونية المدرّبة التي تستطيع إدارة ملفات الانتهاكات والمحاسبة.

– غياب الثقة بين الأطراف: الثقة شبه معدومة بين مكوّنات المجتمع السوري، خصوصًا مع الجرائم التي ارتُكبت على أساس طائفي أو سياسي. هذا الغياب للثقة يجعل المصالحة الوطنية وإجراءات العدالة الانتقالية أكثر تعقيدًا، إذ سيَخشى البعض من تحوّل العدالة الانتقالية إلى أداةِ انتقامٍ سياسي.

– نقص الموارد والدعم الدولي: عملية العدالة الانتقالية تتطلّب موارد هائلة لدعم التحقيقات، والمحاكم، وتعويض الضحايا، وإعادة بناء النظام القضائي، ما يجعل تأمين التمويل اللازم تحديًا إضافيًا، خصوصًا مع احتمال تراجع اهتمام المجتمع الدولي بعد سقوط النظام.

– الموازنة بين العدالة العقابية والتصالحية: تجمع العدالة الانتقالية بين العدالة العقابية، التي تركز على معاقبة الجناة، والعدالة التصالحية، التي تهدف إلى شفاء المجتمعات. في سياق سورية، وفي كثير من الأحيان، تُطرح قضية “السلام مقابل العدالة” عائقًا أمام تحقيق العدالة الانتقالية. بعض الأطراف قد تطالب بإعطاء الأولوية لإعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار على حساب المحاسبة الفورية للجرائم، ما قد يؤدي إلى تأجيل العدالة وإحباط الضحايا.

– التعامل مع العدد الكبير من الضحايا والجناة: خروج عشرات الآلاف من المعتقلين من السجون وظهور آلاف الجناة الذين شاركوا في الانتهاكات يخلق عبئًا كبيرًا على النظام القضائي المستقبلي. التعامل مع هذا العدد الكبير من القضايا يتطلّب توازنًا دقيقًا بين المحاسبة وعدم إثقال النظام الجديد.

– إعادة تأهيل الضحايا وإعادة إدماجهم في المجتمع: حيث يحتاج آلاف الناجين من السجون والانتهاكات إلى إعادة تأهيل نفسي واجتماعي واقتصادي.

العدالة الانتقالية في سورية ركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار الدائم. فهي ليست فقط وسيلة لمعالجة المعاناة الناجمة عن النزاع، ولكنها تشكل أيضًا عنصرًا أساسيًا لبناء السلام المستدام. بالرغم من التحديات السياسية واللوجستية، فإنّ الاستمرار في السعي لتحقيق المساءلة والعدالة يتطلّب جهودًا جماعية من المجتمع الدولي والحكومات الوطنية والمنظمات المدنية. من خلال الجمع بين العدالة العقابية والتصالحية، وضمان مشاركة الضحايا في العملية، يمكن لسورية أن تشرع في مسار طويل نحو التعافي والمصالحة.

العربي الجديد

———————–

روسيا وايران والزلزال السياسي السوري/ ناصر زيدان

الجمعة 2024/12/20

يرتبط البلدان الكبيران روسيا وايران بعلاقات تجارية مقبولة، وتصل التبادلات المباشرة بينهما الى 5 مليارات دولار، وقد تعاونا سياسياً وأمنياً في ملفات دولية ساخنة، خصوصاً في سوريا، وعلى درجة أقل في أوكرانيا، بينما لا يوجد معلومات كافية لتوضيح كامل صورة الرؤية الروسية الخاصة في ملف ايران النووي، برغم أن موسكو كانت شريكة في اتفاقية 5 + 1 التي تمَّ توقيعها في العام 2015. لكن مركز الصدارة في هذه الاتفاقية احتلتها الولايات المتحدة الأميركية، والمعلومات المتداولة في حينها تُشير الى أن إدارة الرئيس باراك أوباما قدَّمت تنازلات لطهران مقابل موافقتها على المعاهدة، وهي عبارة عن “قبة باط” مكَّنت ايران من الإنفلاش في بلاد المشرق العربي، وفي اليمن من دون معارضة مُهمة، برغم أن الرئيس دونالد ترامب عاد وانسحب من هذا الاتفاق في العام 2018.

لكن هذا التعاون الروسي – الإيراني لا يكفي لحرف أنظار موسكو عن مُغريات أخرى أكثر فائدة لها، لا سيما في العلاقة مع تركيا، حيث تجاوز التبادل التجاري معها 55 مليار دولار، ويطمح البلدان لإيصاله إلى 100 مليار، ويبدو أن أخصام ايران على استعداد للتعويض لروسيا أي خسائر قد تحصل إذا ما تراجع تعاونها مع طهران.

تراكضت ايران ثمَّ روسيا الى الساحة السورية في العام 2014، عندما شعرا لأن حليفهما بشار الأسد يواجه خطراً مؤكداً قد يُطيح بنظامه. فلإيران مصالح “ميثولوجية” واقتصادية وأمنية يحميها الأسد في سوريا، ولروسيا مصالح جيوسياسية تتمثل في وجود قواعد عسكرية استراتيجية على الساحل السوري، ولسوريا أهواء روسية قديمة، وجيشها مُجهَّز بالأسلحة الروسية، ولموسكو استثمارات كبيرة في البلاد.

بدأت مصاعب المساكنة السياسية بين البلدين الصديقين تظهر على الساحة السورية منذ أكثر من عام، فقد فتح حلفاء ايران جبهة عسكرية واسعة مع إسرائيل في غزة وفي لبنان، ويبدو أن هذه الحرب لم تكُن مُنسقة مع موسكو، ولا مع البيئة العربية والإسلامية المُحيطة، وبالغت طهران في استثمار الساحة السورية الاستراتيجية في المعركة، برغم الضغوطات التي مارستها موسكو على النظام السوري ليتجنَّب مخاطر الحرب. ومن ميدانيات العمل العسكري؛ تبين أن الشكوك بدأت تتسلَّل الى بنات أفكار الجهتين، وتبادل الاتهامات بين مقربين من الحليفين خرجت الى العلن في أكثر من مرَّة إبان العمليات العدوانية التي قامت بها إسرائيل ضد أهداف إيرانية، واتهم مسؤولون في الحرس الثوري بعض الضباط والأفراد المحسوبين على روسيا بتسريب معلومات أمنية عن المجموعات الموالية لإيران لجهات على صلة بإسرائيل، كما أن روسيا لم تقُم بأي جهد لردع الطائرات الإسرائيلية التي كانت تقصف مواقع في سوريا، ومنها مواقع قريبة من قواعدها العسكرية (كما في عملية الإنزال الاسرائيلية على مصانع الصواريخ في مصياف). وروسيا أخذت موقفاً محايداً نسبياً في الحرب، ويبدو أنها أعطت ضمانات لإسرائيل بعدم مشاركة النظام السوري فيها، وأبعدته نسبياً عن منظومة “وحدة الساحات” الممانعة التي تقودها طهران.

تؤكد المعلومات المتوافرة من أكثر من جهة؛ أن موسكو طلبت من الأسد مباشرة حواراً جدياً مع المعارضة لإجراء بعض التعديلات على الدستور، احتراماً للقرار الدولي 2254، ووفقاً لمقررات منصة أستانة التي رعتها روسيا وتركيا وايران، كما أنها طلبت من الأسد الاجتماع مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لأن ذلك يُنتج بعض التوازن ويساعد النظام على وقف تراجعه المُتسارع، لكن الأسد لم ينفذ أي من الوعود في هذا الاتجاه، أو أنه لم يكُن قادراً على تحقيق هذه الرؤى. وقد أدرك الروس أن بشار الأسد غير قادر على الإيفاء بأي من وعوده، او أنه أصبح أسيراً للمقربين من ايران، ولبعض الذين ينسِّقون مع الحرس الثوري داخل الجيش، لا سيما الفرقة الرابعة بقيادة شقيقه ماهر الأسد.

وقد أُضيفت هذه المعطيات الى الإختناق الروسي من ممارسات غير مقبولة، يقوم بها الأسد والمقربين منه في صناعة المخدرات والتجارة بها، وفي تنفيذ إعدامات لمعارضين من دون أي مُحاكمة، كما في القيام بعمليات تعذيب رهيبة للسجناء، وكل ذلك يُسيء لسمعة روسيا، كونها ترعى النظام وتحميه. والمفاوضات التي أجراها ضباط روس في مدينة السويداء الجنوبية خلال السنة الماضية، للتخفيف من حدة انتفاضتهم ضد الأسد، أكدت لهم أن رجال الدين في المحافظة؛ لا يمكنهم السكوت عن ترويج النظام للمخدرات بين أبنائهم، وذات الوضعية حصلت في محافظة درعا التي حيّدها الروس من مواجهة النظام بمصالحات لم يحافظ عليها مناصرو الأسد، وأجهضوها.

واضح أن نجاح الثورة السورية في 8 كانون الأول/ديسمبر، لم يكُن ليحصل بهذه السهولة، فيما لو كان موقف روسيا معارضاً بشدة للتغيير، وعلى أقل تقدير كان بإمكان القوات الروسية أن تحمي قوات النظام وتدفعها لقتال المعارضة في مناطق الساحل القريبة من قواعدها. لكن يبدو من المؤكد أن روسيا فضَّلت مجاملة المعارضة وداعميها – خصوصاً تركيا – وتوليف رسالة تحضيرية للرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وإرضاء الرأي العام الروسي “في القوقاز تحديداً” وعلى الساحة العربية، وهي منحازة لأن تكون سوريا ليبرالية، وأن لا تتحوّل بالكامل الى ساحة صافية لمحور الممانعة وبقيادة إيرانية، كما أنها لا تريد لنفسها الاشتباك مع طهران لمنع نجاح هذه الخطة، وهي تصرّ على عدم القطيعة معها. بينما المعلومات تؤكد أن روسيا تلقت ضمانات حول بقاء قواعدها العسكرية. أما قادة المعارضة فقد التقطوا هذه الإشارات وشرعوا لتحقيق النصر المُبين.

المدن

————————-

كيف أسقطت عصا السنوار نظام الأسد؟

20 كانون الأول 2024

أدّت عملية «طوفان الأقصى» 2023 إلى تحريك هائل لساعة تاريخ منطقة «الشرق الأوسط». شهدنا تحوّلات استراتيجية كبرى كان أكثرها مفاجأة، سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، في أكبر صدمة ارتدادية للأحداث التي بدأت في 7 تشرين أول / أكتوبر 2023.

كان يحيى السنوار، زعيم حركة «حماس» مهندس الهجوم الشهير، قد استشهد يوم الأربعاء الموافق 16 تشرين أول/أكتوبر الماضي، بعد تبادل إطلاق نار في رفح، جنوب قطاع غزة، في عملية عسكرية غير مخطط لها وعشوائية، وكان يقاتل على الأرض حتى النهاية، مرتديا زيّه العسكري وحاملا بندقيته، وعندما أصيب استخدم عصاه ليقذف بها طائرة مسيّرة تطارده.

فاجأ «الطوفان» الجميع، بمن فيهم إيران، الحليف الإقليمي لحركة «حماس». عملت طهران على بناء شبكة وكلاء دفاعية متعددة الطبقات ضمن نظرية «الدفاع الأمامي» وشكّلت ما يسمى «محور المقاومة» من شبكة مكوّنات وعناصر تعمل ضمن عقيدة «وحدة الساحات» ركنها الأساسي هو حماية إيران وردع أعدائها، بحيث تقوم فيها الساحات الأخرى بمواجهة أي هجوم على إيران.

قلب السنوار، بعملية «الطوفان» البوصلة والأولويات مما فرض على إيران الاستنفار وعلى أطراف «محور المقاومة» المشاركة في «حرب إسناد» غزة، والأغلب أن طهران و«حزب الله» القوة الرئيسية لها في المنطقة، افترضا أن تحافظ الحرب مع إسرائيل على وتيرة محددة، لكن ما ظهر عمليا هو أن الدولة العبرية كانت تخطط استخباراتيا وعسكريا لهذه المواجهة، وأنها انتقلت من «حرب النقاط» إلى توجيه ضربات قاصمة للحزب، وفرضت على طهران مواجهة مباشرة يمكن أن يؤدي تصعيدها إلى حرب شاملة مع إيران.

ما لم تتبينه إسرائيل خلال اندفاعها الأعمى لإبادة الفلسطينيين في غزة، وشعورها بغطرسة القوة بعد القضاء على عدة مراتب قيادية في «حزب الله» وتخطيطها المستمر لفتح حرب ضد إيران، هو الضعف الشديد الذي أصاب قدرة العائلة الحاكمة في دمشق على حكم البلد، مع تركيزها على تهريب الأموال والتجهّز للعيش في المنفى، ومع تحوّل «قوات النخبة» مثل «الحرس الجمهوري» والفرقة الرابعة، إلى آلة للقتل وإنتاج المخدرات.

لعبت هذه العناصر دورا كبيرا في انفكاك أقرب حلفاء النظام عنه، ومع تلقي القوات الإيرانية، والميليشيات المحسوبة عليها، ضربات كبيرة داخل الأراضي السورية، ومع سعي النظام الواضح لإبعاد نفسه عن حرب إسناد غزة، زادت شكوك طهران وحلفائها بوجود اختراقات كبرى ضمن القيادات العليا للنظام وأجهزة أمنه، أو باحتمالات تعاونه مع إسرائيل، كما أضاف سحب روسيا طائرات من قاعدتها في حميميم للمشاركة في حرب أوكرانيا من انكشاف النظام وضعف غطائه الجوي.

كانت قوات المعارضة السورية، خلال السنوات الماضية، تحسّن قدراتها، وتخطط لهجوم منسّق واسع، وتطوّر أسلحة جديدة فتاكة كمسيّرات الشاهين، وتجهّز خلايا نائمة في المدن السورية، وتناظر ذلك مع حراك مستمر في محافظة السويداء، وقلاقل مستمرة في درعا، وحين بدأت معركة لاستعادة مدينة حلب، فوجئت المعارضة بانفتاح الطريق لها في اتجاه حماة، حيث خاضت معارك عنيفة، أدى حسمها إلى إحساس لدى قادة النظام باقتراب سقوطه، فانفتح الطريق لمعارضة الجنوب والشمال وأرياف دمشق، واختفى مسؤولوه الكبار وفرّ رئيسه إلى روسيا!

حرّكت «حماس» بطوفانها أحجار الدومينو في الشرق الأوسط، ويظهر إعلانها قبل أيام، عن مباركتها للشعب السوري بتحقق تطلعاته نحو الحرية والعدالة، وإدانتها للعدوان الإسرائيلي على الأراضي السورية، فهما تاريخيا عميقا لما حصل.

في استعادة مذهلة للآية الكريمة «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» سقط السنوار شهيدا دفاعا عن تراب فلسطين، أما عصاه فساهمت في إسقاط نظام الجبروت والطغيان الأسدي في سوريا!

القدس العربي

—————————

من جبل الشيخ إلى سماء بيروت: استراتيجية إسرائيل للهيمنة/ منير الربيع

الخميس 2024/12/19

تختصر الطائرة الإسرائيلية المسيّرة التي تحلق يومياً وباستمرار في الأجواء اللبنانية وفي أجواء العاصمة بيروت خصوصاً، حكاية الانكشاف الأمني، العسكري والسياسي في لبنان ودول المشرق العربي، وبالتحديد فلسطين، سوريا، والعراق. يستعيض الإسرائيليون بها في بيروت، ما يتوفر لهم من وجودهم وتوغلهم على قمة جبل الشيخ في سوريا، والتي يصفها مسؤولوهم بأنها “العيون” الجديدة لإسرائيل. لم تعد إسرائيل تخفي أهدافها وطموحاتها والتي تريد من خلالها تطويع دول المنطقة وسط غياب جدّي لأي تصدٍ أو مواجهة، لا سيما بعدما تعرضت الدول المذكورة إلى ضربات قوية من الداخل بفعل أزماتها وصراعات مكوناتها، ومن الإسرائيليين الذين أرادوا استهداف كل مرتكزات القوة العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية، ويسعون إلى تغذية المزيد من الانشقاقات الأهلية.

تطويع المنطقة

يريد الإسرائيليون تكريس سيطرتهم، أمنياً وعسكرياً وسياسياً، من جبل الشيخ إلى طهران. في ظل هذا الانكشاف فإن لبنان وسوريا أمام دفاتر شروط إقليمية ودولية وإسرائيلية بالأخص، متلاحقة وضاغطة وهي دفاتر ليست متناسقة أو منسجمة، بل مختلفة ومتناقضة، في بعض الأحيان. من الشريط الحدودي في لبنان إلى الشريط الحدودي في الجولان، وإلى ما بين العراق وسوريا، أو ما بين سوريا وتركيا، يبدو البلدان ساحة لاندفاعات القوى الكبرى من الشمال ومن الجنوب، وهي بطبيعة الحال متنافسة على ملء الفراغ الكبير الذي نجم عن كل التطورات التي شهدتها المنطقة منذ الحرب الإسرائيلية التي وضع لها عنوان تغيير الشرق الأوسط، ووجهت تل أبيب فيها ضربات قاسية ضد حزب الله، وإيران وحلفائها، وصولاً إلى سقوط نظام بشار الأسد. وسط غياب أي مشروع عربي، وعدم جهوزية البدائل لمواكبة المرحلة ومواجهة هذه الاعتداءات الإسرائيلية.

تبقى نقطة قوة المشروع الإسرائيلي هي في انهيار الوضع العربي، وسط تسريبات يومية في تل أبيب عن التصعيد ضد إيران، والاستعداد لتوجيه ضربة لها، والتباحث الذي حصل بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، علماً أن الإسرائيليين يعتبرون أن الطريق إلى ضرب إيران أصبحت مفتوحة، وذلك استناداً إلى توجيههم ضربات لحزب الله، وتحييد العراق. فقد أفقدوا طهران أوراق قوتها الإقليمية وهو ما تم تتويجه بالتحولات التي شهدتها سوريا بسقوط نظام الأسد، ويعتبرون أن الانقضاض عليها قد أصبح أسهل. في مقابل وجهة نظر أخرى تشير إلى أن التركيز في هذا المرحلة سيكون على توجيه ضربات للحوثيين في اليمن، والتأثير على الوضع العراقي من خلال إضعاف الحشد الشعبي وحلفاء طهران هناك. ما سيشكل المزيد من عناصر الضغط على إيران لدفعها إلى تقديم التنازلات المطلوبة لتجنّب الضربة العسكرية الأكبر. وبذلك يحاول الإسرائيليون اللعب على وتر عربي من خلال تقديم نتنياهو لنفسه بأنه يوجه ضربات للمحور الإيراني ويعمل على إنهاء نفوذ إيران في المنطقة، لعلّه بذلك ينجح في استبدال الشرط العربي ببناء دولة فلسطينية، بالارتضاء بضرب إيران وتقويض نفوذها وإضعاف حلفائها.

أوهام التوسع

يقدّم الإسرائيليون عناوين كبيرة لمشروعهم والذي يُختصر بتغيير وجه الشرق الأوسط، أما بعض اليمينيين المتطرفين يغرقون في وهم القوة أيضاً، حول تغيير الحدود الجغرافية، وتكريس مطامع إسرائيلية تاريخية في جنوب لبنان أو جنوب سوريا، بالإضافة إلى التركيز على نظرية إسرائيل الكبرى من خلال محاولة تثبيت القواعد والوجود في قطاع غزة، والتركيز على ضم الضفة الغربية. بينما الواقع لا يشير إلى القدرة الإسرائيلية على التوسع الجغرافي وتثبيت النقاط والاحتلال. أما أوهام وأفكار التوسع لدى اليمين المتطرف فهي غير قابلة للتحقيق وهو ما يعرفه الإسرائيليون جيداً. لكن ذلك يحتاج إلى مشروع مضاد ومتكامل قابل لدحض كل الإدعاءات الإسرائيلية وإسقاط الأوهام.

يعلم الإسرائيليون أنه لن يكون بإمكانهم تعديل الحدود، في سوريا أو لبنان، لكن عمليات توسعهم تهدف إلى تحقيق نوع من التطويع الأمني والعسكري للبلدين، استدعاءً لتطويع سياسي مستقبلاً. فيما ذروة المشروع الإسرائيلي تتركز حالياً على ما يريدونه في قطاع غزة وفي الضفة الغربية من خلال إشغال العرب والمجتمع الدولي بخروقاتهم في لبنان، واعتداءاتهم في سوريا، وبملف إيران، لغض النظر عن ما تقوم به تل أبيب في فلسطين. بينما تغيب السلطة الفلسطينية عن أي مبادرة جدية لخوض نضال سياسي كبير ضد المشاريع الإسرائيلية، وبناء مشروع متكامل ما بين كل الفصائل والتنظيمات، والارتكاز على ما تبقى من قوة عسكرية لقوى المقاومة لأجل طرح مشروع المواجهة ضد ما يقوم به الإسرائيليون أو ما يطمحون إليه. وهذه مسؤولية كبرى على السلطة الفلسطينية وكل مكونات الشعب الفلسطيني، بدلاً من الانخراط في حرب أمنية ضد مجموعات المقاومة في الضفة، واستمرار الخلاف حول العناوين المتعلقة بكيفية إدارة قطاع غزة ومعابره.

تأبيد المشروع الإسرائيلي

لطالما ارتكزت إسرائيل على الصراعات العربية العربية، والعربية الإيرانية، والصراعات الداخلية بين المكونات المختلفة داخل كل دولة لأجل تأبيد مشروعها وتوسيعه، وهو ما تحاول تكراره مجدداً على وقع ما تعتبره “إنجازات” حققتها ضد إيران وحلفائها، من خلال ترك الفراغ هو الطرف الوحيد القائم كبديل، وتسعى إلى تزكية الصراعات البينية داخل كل مجتمع أو دولة، بما لا يتيح بناء مشروع واضح المعالم يتناقض مع الرؤية الإسرائيلية. وهنا تبقى الخطورة في عدم انتاج قوى بديلة اجتماعياً وسياسياً قادرة على تقديم مشروع، وجاهزة لتقديم إجابات عن الكثير من التساؤلات والهواجس والتحديات. خصوصاً في ظل المخاطر الكبرى التي قد تنتجها الصراعات الإقليمية وانكسار التوازنات الإجتماعية الهشة وعدم القدرة على بناء مشروع نقطة ارتكازه الأساسية تعزيز مفهوم الدولة الوطنية والعمل في سبيلها، فدون ذلك ستبقى هذه الدول خاضعة لاحتلالات أو تأثيرات تبقيها مفتوحة أمام المخاطر الأكبر مثل الحروب الأهلية أو الانقلابات أو الثورات المضادة.

المدن

———————–

هذه التحولات العاصفة في سورية/ بشرى المقطري

20 ديسمبر 2024

يحيل فشل تجارب مشاريع التغيير في المنطقة إلى تحدّيات ما بعد إسقاط الأنظمة، بحيث قد تدفع جملة من العوامل إلى عرقلة عملية التغيير وضمان ترتيب الانتقال السلمي للسلطة، بتحويله إلى مسار ارتدادي من العنف والفوضى، فإلى جانب الواقع السياسي والاجتماعي الذي قد يعيق إمكانية تجاوز المجتمع صراعات الماضي، فإن إعادة إنتاج الطغيان بتحالفات الهيمنة والانتقام، سواء من معسكر المنتصرين أو المهزومين، تعني الدفع نحو دورة جديدة من الحرب الأهلية، إلى جانب نفوذ المتدخلين، وإشكالية الحامل السياسي الذي يتصدّر عملية التغيير وافتقاره لرؤية جامعة تمثل المواطنين، ومن ثم فإن إسقاط نظام بشّار الأسد، وإن شكّل لحظة تاريخية فارقة في الانتصار على الاستبداد، وتحدّيات عملية التغيير في سورية أكثر خطورة من أي بلد عربي آخر شهد تحوّلات مماثلة، لتعقيدات الوضع الداخلي، وأيضاً عمق نفوذ المتدخلين وتعدّدهم، فضلاً عن استثمار الكيان الإسرائيلي حالة الفراغ السياسي في سورية.

في حالة المجتمعات العربية عموماً، يظلّ إرث الأنظمة الاستبدادية التحدّي الأكبر الذي يعيق عملية التغيير، من ممارساته السلطوية في حق المجتمع إلى نتائج علاقاته الداخلية والخارجية على مستقبل الدولة، وإذا كان الطابع البوليسي لنظام حكم أسرة الأسد في سورية، على مدى نصف قرن، قد جذّر من سطوة نظام دموي استبدادي، دفع السوريين كلفته من الإبادة والقتل والإخفاء وتدمير المدن وتهجير أبنائها، بالإضافة إلى شتات السوريين في الخارج، فإن هوية النظام الطائفي وحرصه على بقائه في السلطة، على الضد من رغبة السوريين، قد نجم عنهما واقع شبه دائم، انتزاع سيادة سورية واستقلالها، ففي مقابل الحماية، منح حليفيْه، الإيراني والروسي، امتيازات سيادية على الأرض، فيما دفع خصومه المحليين إلى تشبيك علاقات مع متدخلين إقليميين، إلى جانب القوى الدولية الأخرى التي تتقاسم الآن الجغرافيا السورية، كما أن العقوبات الاقتصادية على نظام معزول فاقم الانهيار الاقتصادي وتنامي الفقر في المجتمع، إلى جانب أن القمع السياسي (والمجتمعي) الذي كرّسه النظام عطّل استقرار البنى المدنية التي تمثل في أي مجتمع الضامن الحقيقي للتحوّل إلى مسار ديمقراطي، ومن ثم كانت حصيلة حكم سورية الأسد دولة بلا سيادة ومفرغة من المقدّرات.

يقتضي ضمان عملية التغيير، وتثبيت انتقال السلطة في سورية، وفي هذه الحالة من نظام بشّار الأسد الى إدارة المرحلة الانتقالية التي تزعمها هيئة تحرير الشام، تثبيت سيادة الدولة وإقامة سلطة مركزية موحّدة تسيطر على الأرض وعلى الثروات وتديرها لصالح السوريين، لكن الحقائق الحالية على الأرض هي سورية مقسّمة بين قوى دولية وإقليمية وتنظيمات مسلحة عديدة، ما يجعل إعادة توحيد سورية عائقاً حقيقيا أمام الإدارة الانتقالية، فمن الوجود الروسي على الأرض، من خلال قواعدها العسكرية، الى القواعد الأميركية، وبالطبع النفوذ التركي من خلال قواتها، وحلفائها المحليين من هيئة تحرير الشام إلى الجيش السوري الحر، إضافة إلى الفصائل المحلية التي تتوزّع السيطرة على الأرض، من جيوب تنظيم الدولة الإسلامية، إلى القوات الكردية في شمال سورية، ومن ثم، فإن هيئة تحرير الشام، وبوصفها سلطة انتقالية، لن تدير سورية موحّدة، ومن ثم فإن استمرار هذا الشرط لا يضمن، في أي حال، ولادة سورية جديدة مستقلة، بل استمرار هيمنة القوى الدولية والإقليمية على راهنها ومستقبلها، فضلا عن تحدّيات إحلال النموذج الإسلامي السني لسورية الانتقالية، بدل “النموذج العلماني” الذي كان يصدره نظام الأسد.

الصعود اللافت لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) إلى سلطة تدير المرحلة الانتقالية تحولٌ جذريٌّ في المشهد السوري وفي الإقليم. داخليا، أنضجت الديناميكيات والدعم العسكري التركي، إلى هيمنة هيئة تحرير الشام على الفصائل المسلحة المعارضة لبشّار الأسد، الى جانب التجربة العسكرية لكونه فصيلا كان يتبع تنظيم القاعدة، كما أن حالة العنف الشاملة التي شهدتها سورية طوال عقد من حرب نظام الأسد، وعسكرته الحياة وفرضه الصراع المذهبي على السلطة، كل ذلك أدّى إلى تصعيد الفصائل الراديكالية المسلحة السنية بوصفها معادلا موضوعيا لإدارة القوة مع نظام طائفي، كما أن هيمنة الحزب الواحد على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية في سورية خمسة عقود، ممثلا بحزب البعث السوري الحاكم، ومنع التعدّدية والعمل السياسي المدني أدت الى دفع التنظيمات السياسية الى الهامش، بل وتبنّي بعضها الخيار المسلح وسيلة للتغيير وإزاحة النظام، إلا أن التنظيم، وأيضا التمويل والدافعية، حسم الكفّة لصالح الفصائل الراديكالية، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام، إلى جانب دورها المحوري في إسقاط نظام بشّار الأسد، ما جعلها البديل المؤهل لإدارة المرحلة الانتقالية، باعتباره استحقاقاً سياسياً لها، وأيضا تغيير نموذج السلطة من النموذج العلماني إلى نظام مخلوع الى نموذج إسلامي سنّي، وإن أدّى هذا إلى صبغ السلطة الجديدة بهوية دينية. ومع أن الهوية الطائفية للنظام السوري الذي استند إلى تسيد الطائفة العلوية التي ينتمي لها في مفاصل الدولة السورية، إضافة إلى علاقته التحالفية مع إيران التي تحكمها أيضاً اعتبارات الانحياز للطائفة، قد جعلت الطابع الطائفي- الهوياتي- يهيمن على الصراع على السلطة، ومن ثم متوقع في الحالة الاستبدالية، أو الثورية، البحث عن نموذج مناقض لنظام سابق. وتسييس منجز التغيير في سورية، وصبغه بصبغة هوياتية دينية، له مخاطر عديدة، فإلى جانب مخاطر أسلمة الدولة، وتديين مظهر الحياة في سورية، يصعّد هذا التحول الراديكالي في السلطة، وفي ظرف حسّاس، مخاوف الطوائف والأقليات في المجتمع السوري، وأيضا مخاوف المجتمع الدولي الذي يراقب عملية التغيير، إذ إن هيئة تحرير الشام، وإن حاولت تقديم نفسها تياراً إسلامياً معتدلاً لضمان اعتراف المجتمع الدولي بها سلطة مؤقتةً انتقالية، فإن تجارب الإسلام السياسي، على اختلافها، أثبتت فشلها في إدارة عملية التوازن السياسي والمجتمعي في مرحلة التحوّلات، وضمان انتقال سلمي يحقّ استقرار السلطة، ويهدّئ مخاوف القوى المناوئة لها، إضافة إلى أن توليها السلطة، وفي هذا التوقيت، يعزّز المنحى الاستقطابي القائم على الصراع المذهبي بتمكين القوى السنية في السلطة وان كانت أكثرية في المجتمع، قوى منتصرة، ضد نظام مهزوم، وحلفائه، والتي تعني الأقلية العلوية، ومن ثم تكريس استمرارية التوترات المذهبية في سورية، كما أن الهوية الإسلامية- السنية- للسلطة الجديدة وعلاقتها بتركيا قد تعني، وفي ضوء استثمارات الهوية، تمثيل مصالحها في سورية.

الانتقال من العمل المسلح الى إدارة المرحلة الانتقالية في سورية، ومن تمثيل تنظيم ديني جهادي محلي مرّ بمراحل من التطور إلى تمثيل السوريين، على اختلاف طوائفهم، وفي مرحلة حسّاسة يضع هيئة تحرير الشام في اختبارٍ صعب، داخليا وخارجيا أيضاً، فإلى جانب غموض شكل النموذج السياسي الذي ستفرضه في هذه المرحلة، ونتاجه على المجتمع السوري، فإن افتقارها للتجربة السياسية يجعلها محكومة بالتحالفات المحلية في مرحلة ما بعد الأسد، ومدى استقرارها. وأيضا قدرتها على تجاوز تنافساتها البينية، فمع تعقيد خريطة تحالفات المعارضة السورية، وأيضا تعدّد ولاءاتها، فإن فتح حوار حقيقي مع فصائل المعارضة لتوحيد رؤية سياسية بشأن مستقبل سورية يمثل التحدّي الجوهري لاي سلطة في البلاد، إلى جانب تعدّد (وتعقيد) الملفات الداخلية التي عليها التعاطي معها من تثبيت مؤسّسات الدولة إلى مضامين المرحلة الانتقالية، وأيضا إدارة الأزمات المجتمعية والإنسانية والاقتصادية التي يواجهها السوريون، فضلاً عن التهيئة لتنفيذ العدالة الانتقالية لضمان ملاحقة المجرمين من النظام السوري، والقوى المتورّطة بالجرائم من الفصائل المسلحة الأخرى، ومنع تحوّل ذلك الى موجة انتقام وعنف طائفي، إضافة، وهو الأهم، أن كونها قوة من الفصائل المسلحة التي أطاحت نظام الأسد يجعلها محكومة بتوازنات العلاقة التركية- الأميركية وإدارتها المشهد السوري، وأيضا علاقتها مع الفصائل المحلية، وأهمها بالطبع الأكراد، خارجيا، فإن الاعتراف بهيئة تحرير الشام إدارةً انتقالية قد يكسر عزلتها، ويمنحها حلفاء إقليميين جددا، إلا أن تبنّي سياسة متوازنة يقيده أنها جزء من ديناميكية مشهد الصراع ضد النفوذ الإيراني في سورية وفي الإقليم، والذي شكل إطاحته في أهم معاقله، تحولا استراتيجيا وسياسيا لصالح تركيا وحلفائها في المحور الإسلامي السني.

في كل الحالات، عملية التغيير طويلة وشاقة، وفي سورية، كما في بلدان أخرى، يمثل تغيير السلطة فرصة للمجتمع لتجاوز صراعات الماضي، وبناء دولة حرّيات ومواطنة متساوية. ومع عدم وضوح المشهد السوري ومستقبله، فالأكيد هنا أن إسقاط نظام بشار الأسد، مثل لإسرائيل فرصة مناسبة لاستغلال حالة الفراغ السياسي في سورية لفرض أمر واقع في جبهة استراتيجية بالنسبة لها. فإلى جانب انتهاك اتفاقية فض الاشتباك بين الطرفين، بعد سقوط نظام الأسد، توغلت القوات الإسرائيلية في الأراضي السورية، بعد اختراق المنطقة المعزولة من السلاح في هضبة الجولان، وسيطرت على الجزء السوري من جبل الشيخ، ومن ثم محاولة استغلال الواقع السوري الحالي لفرض معادلة جديدة لصالحها، فضلاً عن تدمير مخازن الجيش السوري ومعسكراته وأصوله، والقضاء على أي مقدرةٍ عسكرية للدولة السورية مستقبلا لصدّ أي هجوم إسرائيلي، وبالتالي، ضمنت بسقوط أحد حلفاء إيران، وأهمهم انكفاء سورية، على الأقل في الوقت الحالي، منطقة تهديد، وطرفاً في معسكر المقاومة الإسلامية.

العربي الجديد

————————-

داء العرب السوري/ ناصر السهلي

20 ديسمبر 2024

مخاوف السوريين من أن يكون مصير أحبتهم في سجون نظام بشار الأسد المخلوع، المقابر الجماعية أو عظاماً متناثرة في العراء، يزيد فواجعهم. المأساة، التي تطاول أيضاً الفلسطيني واللبناني والأردني، ليست بحاجة إلى تزوير، فأهلها، بينهم مثلاً أهل وأحبة المناضل عبد العزيز الخير (رئيس مكتب الشؤون الخارجية لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، اعتقل في 2012 ولا يزال مصيره مجهولاً) ورفاقه جميعاً، مصدومون من فظائع زنازين شبيهة بتلك التي في أفلام سينمائية عن القرون الغابرة.

مع ذلك، ثمة من يفرك الملح في جروح السوريين العميقة. بعضهم، من الجوار القريب والبعيد لسورية، يخوض اليوم كما كان يفعل التشبيح الإعلامي الأسدي، معركة تقريع وذم واتهام بحق شعب “شقيق”، على وقع صدمة انهيار وفرار “نظام الممانعة”. بين هؤلاء، وعلى شاشات التلفزة ووسائل التواصل اجتماعي، من واصل فتح النار “الإعلامية” بلؤم وخبث، التشكيك في أحقية السوريين بالحرية. بالطبع يعلم العربي البسيط مصدر هذا الداء الممجد للاستبداد والقمع.

مشهد البروباغندا هذا مثير للسخرية، باستعارته أدوات الثورات المضادة بعد “الربيع العربي”. فالحزن المصطنع على فرار الأسد مرده عند بعضهم إلى أنه “لم يصافح الصهاينة”، متناسين أن سارية العلم الصهيوني ليست بعيدة عنهم. يدفع الانفصام إلى أكثر من ذلك في سياق داء تخصيب تربة صناعة الاستبداد، كتكذيب أهوال ما مر بسورية خلال أكثر من 50 سنة. بل يندفع آخرون إلى مرض التخوين واعتبار ما جرى “مؤامرة إسرائيلية”. بالمناسبة، ثمة تيار عربي، ومعه أوروبي خليط من جماعات يمين قومي متطرف إلى اليسار المتطرف، يعتبر أن سقوط الأسد “أم الكوارث” الوطنية والقومية والعلمانية والليبرالية والماركسية، بل له “ارتدادات عالمية”.

ولا ينسى المتسلحون بنظرية المؤامرة طرح سؤال: “أترون كيف أنهم لا يردون على القصف الإسرائيلي؟”. وما كان لهؤلاء أيام نظام الأسد أن يسألوا، ولأسباب تتعلق بتفضيلهم التطبيع، عن المعنى الحرفي لاحتفاظه بحق الرد منذ ما قبل قصف موقع الكبر في 2007 (المفترض أنه نووي قرب دير الزور)، أو عن مغزى عدم إطلاقه طلقة واحدة من حدود الجولان السوري المحتل منذ عام 1974. على كل، التشكيك والذم ليسا جديدين في سياق وباء الذعر من طلب الناس لحريتهم. فحتى غزة، وفلسطين عموماً، لم تسلم منهما. يتباكى أصحاب هذا التيار من ناحية على “محور الممانعة”، بينما في الأصل يشككون بحق مقاومة الاحتلال الصهيوني، ولا يترددون في التغزل بـ”فضائل التطبيع”، باسم الواقعية والعقلانية، ويزايدون بوصفهم مقاومين جذريين ببيع الناس شعارات قومجية و”الحفاظ على الأوطان من السقوط”. فالنظام عندهم هو الوطن، والأوطان تختزل في شخص الحاكم الأبدي، كما كانت “سورية الأسد”.

العربي الجديد

———————————-

من أسقط الأسد؟/ د.جيرار ديب

20 كانون الأول 2024

نشرت صحيفة «معاريف الإسرائيلية تقريرا جديدا قالت فيه إن العالم استيقظ يوم الأحد 8 ديسمبر الجاري على واقع جديد في الشرق الأوسط، إثر انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد، مشيرة إلى أنّ ذاك الانهيار كان «دراماتيكيا سريعا». أشار التقرير إلى أن ما أدى إلى تسريع انهيار نظام الأسد، كان بلا شكّ تأثر حزب الله الشديد نتيجة العملية العسكرية الإسرائيلية، التي بدأت قبل نحو شهرين بالهجوم على أجهزة «البيجر» و»اللاسلكي» التابعة للحزب، ومن ثم اغتيال أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله، خلال شهر سبتمبر الماضي، بالإضافة إلى قيادات أخرى في صفوف الحزب.

مما لا شكّ فيه، أن التقرير أصاب في قراءته، لاسيما وأن حزب الله تراجعت قوته كثيرا بعد حرب الستين يوما عليه من قبل إسرائيل، إذ لو كان السيد على قيّد الحياة لاعاد استخدام عبارته «لو كنت أعلم لما دخلنا الحرب»، حيث تلقى الحزب ضربات موجعة في الصميم، على الصعد كافة، لاسيما العسكرية والتنظيمية وحتى المالية، الأمر الذي أفقده القدرة على المبادرة لحماية نفسه قبل حماية الآخرين.

شكلّ الحزب منذ دخوله الحرب السورية تحت ذريعة «حماية المقدسات الدينية» في 25 مايو 2013، عقبة أمام الفصائل السورية المعارضة، وعمل على مهاجمتها ونعتها بالإرهاب، لهذا وقف إلى جانب النظام في سوريا، ودافع عنه في حربه الطويلة، واستطاع أن يجعل من سوريا ممرا آمنا لتمرير السلاح الإيراني وتخزينه في أرض لبنان. لم يكن يدرك حزب الله مدى الإصرار الأمريكي الإسرائيلي على تحجيم دوره، بعد دخوله في حرب إسناد حركة حماس في غزة، تحت شعار «وحدة الساحات». لهذا سارت الرياح بما لا تشتهيه سفنه، حيث ظنّ أنه قادر على فرض معادلة الردع على إسرائيل، بل على ضبط «قواعد الاشتباك» معها، من دون أن يدري أنّ الإسرائيلي ساعة يضعف حماس في غزة سيأتي إلى لبنان، ومن دون أن يستمع إلى نصائح دولية حذّرته من اللعب في النار، إن لم يوقف حربا لا يريدها الجميع حتى اللبناني بحدّ ذاته. هزم حزب الله في لبنان، فذهب إلى مفاوضات تحت القصف، بعدما اشترط أن تكون بعد وقف النار، وقبل مرغما بفصل الساحات بعدما أكدّ الحزب مرارا أن جبهته الإسنادية لن تتوقف طالما الحرب في غزة مستمرة. هُزم الحزب، وكان ذلك مع إعلان الموافقة على المقتراحات الأمريكية، التي أخذته إلى تسوية كان يرفضها في السابق، ألا وهي تطبيق بنود قرار 1701 بلاس كافة.

شكّل يوم 27 نوفمبر الحدث، حيث وقع لبنان على تسوية أوقفت الحرب على أرضه، باستثناء الخروقات اليومية من الجانب الإسرائيلي. وفي اليوم ذاته على الجبهة السورية، بدأت الفصائل المعارضة بشنّ أكبر هجوم عسكري منسق وموسع وعلى عدة محاور على النظام لإسقاطه، حيث أعلن ذلك بشكل واضح زعيم «هيئة تحرير الشام» أحمد الشرع الذي يعرف بـ»أبو محمد الجولاني»، من أن الحرب لن تتوقف إلا بسقوط بشار الأسد. تراجع قدرة حزب الله عن حماية ذاته، ليست السبب الوحيد لسقوط الأسد، بل كان للتجاذبات الحاصلة بين حلفاء الأسد واضحة وفاضحة وعلنية، وقد أسفرت في الكثير من الأحيان عن اشتباكات مسلحة بين الفريقين، على الرغم من التعتيم الإعلامي. فما كان يحصل بين الفرقة الرابعة في الجيش السوري بقيادة ماهر الأسد شقيق بشار، والفرقة الخامسة التابعة لروسيا، التي تأخذ قراراتها من القيادة المركزية الروسية المتركزة في سوريا، شكّل تصدعا للنظام، وأفرغه من مضمونه الأمني، وجعل من وزير الدفاع السوري وقائد الجيش أشباه مسؤولين، الأمر الذي ساعد على إحداث فراغ في القيادة والتنسيق، فأصبح الجيش السوري بنية هرمة منهكة آيلة إلى السقوط عند أول هجوم.

دخلت الورقة السورية لعبة البازارات السياسية والمقايضات من قبل الممسكين بها، على رأسهم الروسي والتركي والأمريكي، أما الإيراني فقد شعر بأنّه أصبح خارج اللعبة اللبنانية والسورية على حدّ السواء، وها هو اليوم يستعدّ لمواجهة السيناريوهات التي ستطال نظامه، والذي يتوقع الكثيرون أن يشهدوا على عودة الثورات وإنّ يسقط النظام ولكنّ هذه المرة يتساءل المتابع إلى أين سيرحل المرشد الأعلى؟

سقوط الأسد قد يكون نتيجة تسوية تركية روسية برضى أمريكي، إذ تحتاج روسيا إلى اللاعب التركي والعكس صحيح، فالعلاقة تبادلية بين البلدين، إذ إن روسيا تجد في تركيا ضمانة لعدم إدخال بلادها في حرب مع حلف شمال الأطلسي، فجيشها أيضا أنهكته حرب أوكرانيا، وهو ينظر إلى تسوية هناك. وهناك من ذهب بعيدا في التحليل عندما ربط تسليم الأسد مقابل تسليم زيلينسكي. ما ينطبق على روسيا ينطبق على تركيا التي تحتاج هي أيضا لروسيا، لاسيما في استخدامها ورقة تفاوضية مع الغرب، التي تأبى أنقرة الانعتاق منه، ولكنّ في الوقت ذاته تريد تأمين مصالحها وتحصين ساحتها وتقوية نفوذها. لهذا تحرّكت الفصائل، ولهذا أيضا لم يدعم الروسي النظام كما فعل في السابق، وها هو اليوم يفتح صفحة جديدة ومرنة في التعامل مع تلك الفصائل، ومستعد لإجلاء عسكره وتفريغ قواعده من أرض سوريا إن اضّطره الأمر لذلك. تعامل الجميع مع سقوط الأسد بحذر وترقب، لأنّ الفضل لإسقط الأسد يعود إلى عاملين أساسيين، الأول هو إصرار الشعب السوري على التغيير، الذي تمّثل في هجوم المعارضة، على هذا النظام الذي لم يترك وسيلة إجرامية إلا وطبقها على شعبه، وما مشاهد سجن صيدنايا إلا دلالة واضحة. والعامل الثاني تمثل في تلك الدعوات التي رفعت إلى السماء لأمهات عانين الأمرين على أولادهن من هذا النظام.

نظام لم يكن ليستمر طويلا، لاسيما بعدما أفرغ من مضمونه، وأصبح هيكلا من ورق، لهذا لم يعد السؤال من أسقط الأسد، لأن المرحلة المقبلة ستبقى مرحلة تحديات لما بعد الأسد، لاسيما حول الإجابة عن سؤال «أي سوريا نريد»؟

كاتب لبناني

القدس العربي

—————————

المتغير السوري والدولة الموازية في العراق/ يحيى الكبيسي

20 كانون الأول 2024

لا يمكن فصل الموقف العراقي من سوريا بشكل عام، ومن الثورة السورية بوجه خاص، عن الصراع الهوياتي الذي يحكم العراق منذ لحظة الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان 2003. فأطراف الصراع في العراق يعرفون أنَ أي تغيير في سوريا سيكون له تأثير مباشر على علاقات القوة في العراق. لقد أعادت الطبقة السياسية الشيعية تصنيف نظام بشار من كونه نظاما بعثيا معاديا، إلى كونه نظاما علويا وحليفا استراتيجيا مع إيران وجب على العراق دعمه لمنع وصول «الأكثرية السنية» إلى الحكم. وفي المقابل، أعاد الفاعلون السياسيون السنة تصنيف النظام السوري فنظروا إليه بوصفه نظاما علويا وحليفا استراتيجيا لإيران، لذلك فإن سقوطه سيعيد صياغة التحالفات الإقليمية، ويزيد الضغط على القوى السياسية الشيعية التي تحتكر القرار السياسي في العراق.

لهذا كان رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي يردد دائما أن نجاح الثورة في سوريا سيخلف حربا طائفية في العراق، وأن سقوط سوريا يعني سقوط بغداد (بالمعنى الطائفي)!

اليوم تكرر المشهد نفسه، وبشكل أكثر تحديا، فالمتغير السوري هذه المرة لم يأت منفردا، بل جاء في سياق عملية قطع أذرع إيران في الإقليم ككل. وبات الفاعلون السياسيون الشيعة ينظرون إلى ما جرى في سوريا سوى بوصفه تهديدا سياسيا لهم بالدرجة الأولى، قبل أن يشكل تهديدا أمنيا، ذلك أنهم غير مستعدين للاعتراف بحالة الانقسام المجتمعي الحاد في العراق، وانعكاسات ذلك على المستوى السياسي، وغير مستعدين لمراجعة حقيقية لأزمة الحكم في العراق، والمتعلقة باحتكار السلطة، ورفض منهجي لشراكة سياسية حقيقية أومشاركة الآخرين في صناعة القرار السياسي، أو مراجعة سلوكهم الإقصائي ضد معارضيهم عبر الاستخدام المسيس للقانون والقضاء.

إن مراجعة خطابات الفاعلين السياسيين الشيعة خلال الأيام العشرة التي سبقت السيطرة على دمشق، والتي وصلت إلى حد الدعوات للتدخل المباشر عسكريا في سوريا لإسناد النظام. وخطاباتهم بعد السيطرة على دمشق، يكشف عجز هذه الطبقة عن إخفاء هيمنة البعد الطائفي على موقفهم، كما عجزوا قبل ذلك عن إخفاء خشيتهم من التطورات التي يمكن أن تنتج عن هذا التغيير، تحديدا فيما يتعلق بهيمنتهم المطلقة على الحكم في العراق، وفيما يتعلق بتعزيز الوضع السني من خلال نظام سني حاكم في سوريا يشتركون معه بحدود تزيد عن 600 كيلو متر، وبنسيج عشائري واجتماعي متداخل.

المعضلة الأساسية هنا أن المهيمنين على الحكم في العراق لا يزالون يتوهمون أن الحلول الأمنية -لا السياسية- هي السبيل للمواجهة. ولم يتعلموا من درس داعش من قبل؛ وبدلا من السعي إلى مصالحة داخلية تاريخية، وإعادة إنتاج نظام سياسي يقبله الجميع، ويشترك في إدارته الجميع، يصرون على الإبقاء على كل المقدمات التي أنتجت داعش، بل يضيفون مقدمات أخرى عليها، وهم غير مستعدين للتخلي عن «المكاسب المتحققة» والتي جاءت في لحظة اختلال في علاقات القوة، ويصرون أيضا على الإبقاء على الأمر الواقع المختل قائما، عبر السيطرة على أدوات السلطة، والمقلق أكثر هو عدم استعداد هؤلاء لمراجعة تحالفهم، القائم على أسس عقائدية، مع إيران.

على أن الخشية الحقيقية لدى الفاعلين السياسيين الشيعة، إنما تتعلق ببقاء الميليشيات العقائدية (الشيعية) التي عملت منذ العام 2003 على تثبيت الحكم الشيعي في العراق، وعلى الوقوف ضد أي خطر يهدد هذه «الحاكمية» الشيعية، حين استغلت أمر سلطة الإئتلاف المؤقتة رقم 91 الصادر في 2003 المعنون «تنظيم القوات المسلحة والميليشيات في العراق» الذي سمح بدمج تلك الميليشيات في القوات المسلحة العراقية، والقوات الأمنية التابعة لوزارة الداخلية، لتحول تلك المؤسسات إلى مؤسسات ذات بنية طائفية (الشرطة الاتحادية في العراق هي عمليا مجرد غطاء لمنظمة بدر). ثم استغلال الفاعل السياسي الشيعي فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني، لتكون غطاء للميليشيات التي تشكلت أو تلك التي أعيد انتاجها في حكومة السيد نوري المالكي الثانية (2010 ـ 2011) التي استطاعت أن تنافس الدولة وتنتج حرفيا دولة موازية!

في تقرير أصدرته أكاديمية الدفاع في المملكة المتحدة عام 2006 بعنوان «عمليات فرق الموت في العراق» جاء: «بعد انتخابات كانون الثاني 2005 أصبحت وزارة الداخلية تحت سيطرة [منظمة] بدر بالكامل». وأن ألوية الذئب والبركان والعقرب التي كانت يتكون أغلبها من أعضاء منظمة بدر، كانت تعمل كفرق موت! وأنه «طوال عام 2005، بدأت فرق الموت التي تعمل بزي الشرطة الخاصة، وبطاقات الهوية، والمعدات، في الظهور في المدن الكبرى، خاصة في بغداد وما يسمى بالمثلث السني»!

مع تصاعد الثورة السورية، عمد الفاعلون السياسيون الشيعة إلى إعادة انتاج ميليشيات عديدة ودعم تشكيل ميليشيات أخرى. وكانت الغالبية العظمى من هذه الميليشيات تقلد المرشد الأعلى الإيراني السيد علي الخامنئي، وتعده «نائبا» للإمام المهدي وطاعته ملزمة. وقد شاركت هذه الميليشيات بغطاء رسمي في دعم نظام بشار الأسد، كما كان لبعضها أدوار عسكرية في محيط بغداد. وقد استغل رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي سيطرة داعش على الموصل ليصدر بتاريخ 11 حزيران 2024 أمرا ديوانيا بشرعنة هذه المليشيات رسميا. أي قبل فتوى «الجهاد الكفائي» التي صدرت يوم 13 حزيران 2014 والتي دعت المواطنين إلى «التطوع للانخراط في القوات الأمنية» لكن الفاعل السياسي الشيعي «دلس» على الفتوى ليستخدمها من أجل تشكيل كيان ذي طبيعة عقائدية أطلق عليه اسم الحشد الشعبي.

اليوم، وبعد المتغير السوري، لم يعد مقبولا (للدولة الموازية التي أقامتها الميليشيات) أن تبقى ذراعا لإيران في الإقليم، لاسيما وأنها لم تعد مجرد ميليشيات مسلحة، بل أصبح لها نفوذ سياسي، وكارتلات اقتصادية. كما لم يعد متاحا لها أن تكون حارسا للحاكمية الشيعية، وضامنا لها.

بالتأكيد لن يكون قرار حل هذه الميليشيات سهلا، ليس بسبب قوتها الذاتية، فهذا مجرد وهم تم تسويقه، بل بسبب إصرار الفاعلين السياسيين الشيعة على بقائها، كما أن إيران ستقاتل من أجل بقائها، وقد يعاد تفعيل قرار الأمر 91 مرة أخرى، أي بدمجها في القوات العسكرية والأمنية العراقية شكليا، على أن تبقى محتفظة بجميع الأطر العقائدية والسياسية والحزبية والاجتماعية كما هي، تماما كما انحصر أثر قانون هيئة الحشد الشعبي على تحويل اسم هذه الميليشيات إلى ألوية وأرقام فقط. لكن المتغير السوري سيدفع الفاعل السياسي الشيعي بلا شك إلى مراجعة أوراقه فيما يخص مسألة دولته الموازية!

كاتب عراقي

القدس العربي

————————–

من أي طائفة أنت؟/ د. ابتهال الخطيب

20 كانون الأول 2024

استثار مقالي السابق غضبة البعض من المتابعين والقراء الأعزاء من حيث تناوله، بعد الاحتفاء بالسقوط المدوي للنظام السوري القمعي البائس، لبعض المخاوف والمخاطر التي قد ينطوي عليها وجود قوى أصولية جديدة حليفة للنظام الأمريكي على الأراضي السورية، أولاً تجاه الاستقرار السوري والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وثانياً تجاه المقاومة الفلسطينية وما يعنيه سقوط النظام الأسدي الحليف للنظام الإيراني من قطع للإمدادات العسكرية وإضعاف، إن لم يكن إنهاء، لكل أذرع المقاومة الفلسطينية.

لم تتوقف الغضبة عند المؤيدين المستائين من ذكري لأي مخاطر أو توجسات، ولكنها أتت كذلك من الاتجاه المعاكس؛ من المستائين من ذكري لأي نتائج مرضية أو فوائد ممن يرون في هذه الثورة سلبيات جمة تتعدى إيجابياتها، وكذلك من أصحاب الانحيازات الطائفية الذين يرون في الإطاحة بنظام الأسد خطورة على طائفتهم.

لم يكن المقال مرضياً لطرفي القطب، فنحن العرب والمسلمين، لا نعرف سوى الاصطفاف التام، إذا كنت مع فلا تنقد مطلقاً، وإذا كنت ضد فلا ترى أي بارقة أمل. كن منحازاً متطرفاً تكن أيديولوجياً عربياً مسلماً.

وكيف لا ونحن أولاً، كعرب تحديداً، لا بد أن نمجد أي قيادة جديدة وننفخ في صورتها ونحولها إلى كيان شبه إلهي غير قابل للنقد أو التحليل. هذا هو ديدننا الذي طالما أدخلنا في أنفاق مظلمة والذي يبدو أننا لن نتعلم منه، فالقائد الجديد الذي أسقط سلفه القمعي الظالم، يصبح رمزاً عصياً على التشكك أو التقييم، يصبح هو الثورة والثورة هو، تُبرر كل تصرفاته ويُغفر كل ماضيه ليجبّ حاضره بدايته أياً كانت وأياً كان معناها وتبعاتها.

نحن دوماً في حاجة لمخلّص، لأسطورة، لرمز مقدس، “لرجل” فوق كل الشبهات نبقى ننفخ في أناه حتى يأتي اليوم، والذي لا بد أن يأتي، لينفجر هذا الإنسان في وجوهنا.

لا نخطئها نحن العرب ولا مرة، بأيادينا وعقولنا وسلوكياتنا، نفسد حتى أفضل المناضلين، ذلك أنه متى ما أتى ثوري، جهادي، قائد ملهم، مفكر حاكم، متمرد، وينجح في مسعاه، حتى ننصبه مباشرة مكان الديكتاتور السابق، المقدس، العصي على التقييم، دع عنك النقد أو التوبيخ.

وكيف لا ونحن ثانياً، كمسلمين تحديداً، نحكم ونحاكم دينياً وطائفياً، فطائفتك هي أول إطار يقدمك للناس، وهي محفز لأي رأي تقدمه وخلفية لكل كلمة تقولها.

وعليه، لا بد ممن يقدم قراءة متخوفة من مرجعية الحكم الجديد في سوريا وتحالفاته، أن يكون إما “ليبرالياً أخرق” معادياً للإسلام ككل، أو “شيعياً متآمراً” لا يستطيع أن يرى أبعد من انحيازاته الحزبية. وهكذا يتحول مجرد التفكر في أو التوجس من أو النقد لنظام الحكم الجديد ذي الخلفية الأصولية المتطرفة بعلاقاتها بالقاعدة وداعش وذي التحالفات المخيفة بأمريكا وتركيا، إلى تماد على البطل الرمز وعلى الثورة السورية بأكملها، بل ومن المؤكد أن كل متوجس أو ناقد هو إما معاد للإسلام في أحسن الظروف أو شيعي “خارج عنه” في أسوئها. هذه هي تحديداً بداية التوجه الشعبي لخلق نظام ديكتاتوري جديد.

ورغم احتفائي الحقيقي في مقالي السابق بسقوط واحد من أبشع الأنظمة الديكتاتورية الفاشية في العالم العربي، ورغم أنني أشير إلى فصائل المقاومة على أنهم ثوار حقيقيون، ورغم أنني أؤكد أنه وإن كانت إحدى نتائج سقوط هذا النظام القمعي هي إضعاف أذرع المقاومة، فإن هذه النتيجة لا يجب أن تؤثر على احتفائنا بسقوط النظام السوري الفاحش، ذلك أن مسؤولية مقاومة العدو الصهيوني ليست، ولا يجب أن تكون، منوطة بالسوريين وحدهم ليدفعوا ثمنها منفردين تحت نظام حكم قمعي يمعن فيهم القتل ويحيلهم أشباه بشر في السجون، وينهب خيرات بلدهم كل يوم، أقول، رغم كل محاولات التحليل المنطقي و”التبرئة الذاتية”، مازلت إما ليبرالية كارهة للدين في أفضل التقييمات، أو شيعية متآمرة في أسوئها، أو “متسننة” خائنة متملقة في أغربها، لا مهرب من هذا الحكم ولا مخرج خارج هذا الإطار. وعليه، ليكن ما يكون.

لا يوجد الكثير ليقال للمتخوفين من الخطة الأمريكية التركية.

خوفكم في محله، لكن الاحتفاء بسقوط هذا النظام الفاشي وبتحرر أبناء سوريا من سجون مرعبة مخيفة يفترض أن يَجُب، ولو لحظياً، كل المخاوف والتوجسات أو على الأقل يتساير معها، كما ولا يوجد ما يقال مطلقاً للمتأثرين طائفياً سوى أن نظام الأسد كان عبئاً على الطائفة ومدمراً لها ولسمعتها السياسية، فاحمدوا الله على سقوطه، والعقبى للتحرر الإيراني من نظام الحكم القمعي، عودة للنظام الذي كان موجوداً ذات يوم، نظام رئيس الوزراء محمد مصدق الذي خلق ديموقراطية حقيقية في إيران أرعبت النظام الأمريكي ودفعته للقضاء عليه وصاحبه، ولإثقال إيران بحكم الشاه الفاسد ومن بعده حكم المرشد الشمولي.

وبعد، نبارك للشعب السوري تحرره، تحرر وإن أتى متأخراً وبعد أن كلف الشعب السوري أرواحاً وأمناً وسلاماً واستقراراً وأموالاً طائلة، يبقى مستحقاً وباعثاً على الفرح والشعور بالقدرة على سحب الأنفاس أخيراً. إلا أن هذه المباركة لا تعني ولا يجب أن تعني التخلي عن النظرة التقيمية الواقعية للوضع الحالي، كما أن العنونة والوصم والهجوم والأحكام المؤلمة لا يجب أن تحيلنا إلى صمت خائف ينحو لتجنبها كلها. واقع الحال أنه على الرغم من أن سوريا حرة وأن نظاماً متوحشاً قمعياً بعثياً قد اندحر، فإننا على مسافة بعيدة من الاستقرار والأمن المستحقين لسوريا، وعلى مسافة قريبة مرعبة من العديد من المخاطر التي ستهدد الأراضي السورية، ثم تتعداها لمحيطها الإقليمي.

هذا يعني أننا معنيون الآن بالتفكر أن أي دور منوط بنا لمساعدة سوريا على البقاء موحدة وبمنأى عن أي حكم متطرف، وكيف سنساعد المقاومة الفلسطينية التي أصبحت، بعد طول تخلّ وإهمال، وكما كان يجب دوماً أن تكون- مسؤولية العرب والعالم أجمع، لا سوريا بمفردها، التي دفعت لذلك ثمناً باهظاً. وبعد كل هذه الصراعات والمنازعات “الإلكترونية”، هل مازالت أعيننا على غزة؟

القدس العربي

————————–

سورية الجديدة… الدِّين والأخلاق والمصالح/ أسامة عثمان

20 ديسمبر 2024

هذه الثلاثة، الدين والأخلاق والمصالح، تتداخل في معترك الحياة، وفي حمأة الصراعات. وبالتوازي، ينشط التأويل، إذ من النادر جدّاً أن يسفر المعتدي، ويقرّ بأنه المعتدي، وأن يتواضع المفرِّط بانتمائه، من دون أن تضطرّه ظروف خارجية، أنه انحاز لمحض أسباب نفعية وضيعة، لعدوِّ شعبه، وأُمَّته. فالكلُّ يريد أن يكون الشريف المتورِّع. وقد يقتنع بذلك، فعلاً، أو يُقنِع نفسَه، أو تقنعُه اصطفافاتُه العصبوية، الطائفية، مثلاً، أو غيرها.

وقبل الدين، أو من دونه، يتنازع الإنسان أخلاقُه ومصالحُه، وأما الدين فإنه حَمَّالُ أوجه، وتأويلات، مع أنه يشتمل على واضحات، كحُرْمة الاعتداء على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، إلى أساسيات الأفكار العقدية والتعبُّدية، والمرجعية التشريعية.

ولا نضيف جديداً، حين نقول إن القوة الحاكمة المتغلِّبة، عند جمهرة الناس، هي المصالح، وحينها يكون العقل أداةً خادمة، بالتأويل، يؤوِّل الدين، ويؤوِّل الأخلاق. ولهذا تجد، مثلاً، شخصيات (متديِّنة) سِمَتُها العامة هي الغلظة والتعنيف، الذي قد يصير دمويّاً، ثم هي تصوِّر شخصيتها، بهذا الطراز، مُنْتَجَاً دينياً، فيما الذي حصل أنَّ التكوين النفسي القَبْلي لتلك الشخصيات دعاها إلى انتقاء ما تحبُّ من أفكار الدين وأحكامه انتقاءً، لا يخلو من تعسُّف، كما أظهرته تنظيماتٌ استحلّت أرواحَ الأبرياء وأموالهم، وأعراضهم، بذريعة إظهار القوة والتوحُّش اللازمَيْن. وهكذا تستولي فكرة العنف المركزية عندهم على سائر الأفكار، وتنمحي الحدود بين أحكام السِّلْم وأحكام الحرب، وبين المعتدين والمسالمين.

وإلى جانب الجماعات الدموية المستبيحة للحدود، نشأت الجماعات الطائفية، لتوظيف الطائفية لأغراضٍ سياسيةٍ صراعية، ولتنتعش على الأضغان التاريخية، كالخلفية الشيعية والسُّنيَّة، لتظهر وكأنها تنتصر للحقِّ الديني، وكأنّ الدِّين هو الباعث على نشوئها، وهو الراسم لغايتها، وهو المحدِّد لسلوك أفرادها. هذا المفترَض، أن يمنح الدين هذه الأفضلية، في المرجعية؛ لكونه السَّنَد، والأساس في النشأة والتحفيز. فيما الحاصل تجييشٌ عصبويٌّ، ممتزِج بالمصالح، يقفز عن الدين باعتباره مرجعية، في تكوين الأفراد، وحتى في مواقف تلك الجماعات؛ وهي تلعب في ميدان السياسة، وهي تعادي هذه الجهة، أو تسالم، وتتحالف مع تلك الجهة، وحتى في مواقفها الدولية، التي لم تكن بريئة من البراغماتية السياسية في أحرج صورها، كما كان من التموضع الطائفي، الانتهازي، في العراق، ضمن السياق الأميركي الغازي والمحتل. وهذا التعاون مع المحتل الأميركي لم يقتصر على الأحزاب الآتية من خلفية شيعية، وإن كانت الأغلب، إذ انخرطت فيه بعض القوة الآتية من خلفية سنّية. وكل ذلك تحت تأويلات، وأولويات، لم يكن الدين هو الفاعل فيها، بل مصالح الطائفة في الظاهر، فيما هي مصالح فئاتٍ منها، أو قيادات، أو دول.

وفي سورية اليوم، تشترك هذه المرجعيات الثلاث، الدين والأخلاق والمصالح، في التأثير، والتوجيه. سورية هذه التي دمَّرها حكمُ آل الأسد، داخليّاً، ثم أكملت إسرائيل، (بعد أن افتقدت ضامِنَ أمْنِها)، مهمة تدميرها، خارجيّاً، حين قضت، عبر غاراتها المتتابعة، على القدرات العسكرية الثقيلة.

عمل نظام الأسد، الوالد والولد، على خنْق البنية الاجتماعية، والحياة السياسية، بل حاول قهْر روح الشعب، وهزيمة السوريين، حاول إطفاء جذوة الحياة فيهم، وإحباط طاقاتهم، بأدوات القهر والسجن والتعذيب، والتعامل الاستعلائي الطائفي، أو الطائفوي، بالتفرُّد في الحكم، والاستبداد بالقرار، وبالبلد ومقدّراته، دون أن يحقق لسورية أدنى حقوقها الوطنية، مثلاً، استرداد المحتل من أرضها. ومن دون أن ينجح في اجتراح نموذج جاذب لأبنائه، يستبقيهم في بلدهم، ويجنّب عشرات الألوف منهم عذابات الهجرة، والاغتراب. ولولا أن الشعب السوري يتوافر على طبيعة صبورة وعزيمة مذخورة واثقة بذاتها، وبأصالتها، لانطفأت روحه، ولانهزم.

وعليه، سورية اليوم، من دون أن نصدر حُكْمَ قيمةٍ على الجهات المتصدِّرة، كهيئة تحرير الشام، وغيرها، سورية اليوم، بحاجة أوليّة، إلى البناء، بناء الإنسان والمجتمع، وبناء البلد واستعادة الدولة. ذلك أن من غير الوارد أن تنخرط في مواجهات خارجية، وهي في هذه الحالة من الاختلال والهلهلة، سيراً إلى الاستواء والالتئام، في هذه الحالة التي يتصدّر اهتمام الناس فيها تأمين الحاجيات الأساسية، رغيف الخبز، وسائر المطالب اليومية.

وعلى الجهة التي تتصدّى لإدارة البلد والناس أنْ تقدِّم نموذجاً في الرعاية يُحدِث قطيعةً مع النظام السابق الفاشل، أنْ يكون نقيضاً له، في أهمِّ مفاصله، لجهة تعميم الحقوق المتساوية، وفي البِنى التحتية، وفي الخدمات الطبية والتعليمية. وفي المجمل، استباق الجدل والتنظير بالنتائج الملموسة.

وتدلُّ الأقوال الصادرة عن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) قائد هيئة تحرير الشام، والمواقف، والأعمال التي بدأت على الأرض في دمشق، على أن توجُّههم الأهم استنساخ تجربة “الشمال السوري المحرَّر”. وكانت مناطق إدلب وريفي حماة الشمالي وحلب الغربي كلها خاضعة لسيطرة المعارضة، وبسكَّان فاق عديدهم خمسة ملايين نسمة، حين حكمت الهيئةُ، من إدلب، باسم “حكومة الإنقاذ السورية”، منذ عام 2017. وتعميم ما اعتبروه نجاحاً في الإدارة والحكم، (قبل انخذال الأسد)، على سائر المحافظات السورية، مع إدراك عِظَم المسؤوليات، مع هذا التوسُّع والشمول والتنوُّع.

وهذا الانهماك في البيت الداخلي لا يعفي من احتفاظ سورية برؤيتها، تجاه الأخطار الخارجية، والعدوان السافر الذي فاقمته دولة الاحتلال، بعد هروب بشّار الأسد، بتوسيع احتلالها، وبتدمير سلاح البلد، ذلك أن الكرامة في الداخل لا تنفكّ عن الكرامة أمام عدو خارجي، وذلك أن الدين والأخلاق والمصالح قد تتقاطع في مراكز معينة، منها عدالة في الداخل لا بد أن تترجَم، لاحقاً، كرامة في الخارج، لا أن تحصَر التصوّرات عن الصديق والعدو في سياق الثورة والنظام، فلا تغطِّي إيرانُ وأطماعها، على إسرائيل وعدوانها، الماثل. أقلُّه في الخطاب؛ فليسعد القول، حين لا يُواتينا العمل.

العربي الجديد

—————————–

فرصة الطيور المهاجرة في بناء سورية الجديدة/ عبد التواب بركات

20 ديسمبر 2024

بعد مرور أكثر من 13 سنة على اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار سنة 2011، هرب بشار الأسد وترك سورية مدمرة بعدما ضرب مدنها بالأسلحة الكيميائية وقصفها بالبراميل المتفجرة ورجمها بالصواريخ. وعندما فشل في إخماد الثورة وأصبح على بعد أيام من السقوط، استعان بإيران وروسيا وحزب الله اللبناني لإنقاذه. ودمرت العمليات العسكرية التي شنتها القوات الأجنبية البنية التحتية لشبكة المواصلات والكهرباء والصحة ولتعليم والمياه والصرف الصحي والمصانع والمزارع والمستشفيات، وأتت على 85% من الاقتصاد السوري، وتحولت سورية إلى ركام.

وبعدما وصل الاقتصاد السوري إلى ذروته في سنة 2011 بناتج محلي إجمالي بلغ نحو 67.5 مليار دولار، واحتلت سورية المرتبة 68 بين 196 دولة في تصنيف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متفوقة في هذا التوقيت على دولة مثل كرواتيا ذات الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ 63 ملياراً، هبط الاقتصاد السوري في 2024 إلى المرتبة 129 في التصنيف العالمي، وانكمش الناتج المحلي إلى أقل من تسعة مليارات دولار فقط، وفق تقديرات البنك الدولي.

وهذا ما يضع سورية حالياً في مرتبة أقل من الصومال التي وصل الناتج المحلي الإجمالي لها إلى 11.6 مليار دولار. أما كرواتيا التي اعتمدت مبادئ الحوكمة والشفافية والحرية، فقد بلغ ناتجها الإجمالي هذا العام 82.7 مليار دولار.

وفي سنة 2020، قدرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، بأن خسائر الاقتصاد السوري بلغت 442 مليار دولار خلال ثماني سنوات بسبب الحرب. وقدرت دراسة أخرى أعدها المركز السوري لبحوث الدراسات أن خسائر الاقتصاد السوري في الفترة نفسها بلغت 530 مليار دولار، وهو ما يعادل عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي قبل الثورة.

وأظهرت الدراسة الآثار الكارثية لاعتداء قوات الأسد وحلفائه على الشعب السوري ومقدراته بكل الأسلحة المحرمة، والتي أحالت السوريين إلى مشردين وعاطلين من العمل، فارتفع معدل البطالة من 14.9% في عام 2011 إلى 51.8%، وارتفعت نسبة الفقر في البلاد من 1% في عام 2010 إلى نحو 86% من السكان مع نهاية 2019.

هذه الخسائر الاقتصادية، رغم فداحتها، لا تقارن بقتل قوات الأسد وحلفائه أكثر من 600 ألف سوري، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان، منهم 26 ألف طفل و16 ألف امرأة، ولا بتهجير 13 مليون سوري قسرا، من بينهم 7.2 ملايين نازح داخليا، و6.5 ملايين لاجئ في الخارج، وفقا لآخر إحصائيات الأمم المتحدة، فضلا عن تدمير مستقبل الدولة بفقدان مليونين ونصف مليون طفل حقهم في التعليم.

وإذا كان الرئيس المخلوع قد نجح في جعل الواقع السوري مأساوياً بكل معنى الكلمة، في مقابل الحفاظ على كرسي الحكم، لكن سقوطه وهروبه خارج سورية أزال الكابوس الذي جثم على صدر السوريين ومنحهم فرصة لتنفس الهواء الصحي من جديد. ومن الإيجابيات في المشهد الحالي، أن سورية الجديدة لديها فرص اقتصادية واعدة ومتنوعة إذا أحسنت حكومة وطنية استثمارها، فالحياة الكريمة للشعب السوري، الذي فقد حقوقه الإنسانية والسياسية والاقتصادية منذ تولى حافظ الأسد الحكم قبل 54 سنة في 1970، جديرة بأن تتحقق في وقت ليس بعيد.

الأموال المهاجرة من سورية

هناك فرصة لعودة رجال الأعمال السوريين ومليارات الدولارات وإعادة استثمارها في سورية الجديدة. فمن بين ملايين السوريين اللاجئين، خرج كثير من الأثرياء السوريين بأموالهم إلى تركيا ولبنان ومصر والأردن، ونقلوا معهم معاملهم ومصانعهم وتجارتهم من محافظات سورية، وخاصة من حلب، عاصمة المال والأعمال، والتي كانت تساهم بربع الناتج المحلي الإجمالي و50% من صادرات البلاد.

وبلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا 3 ملايين و112 ألف سوري، وفقا لبيانات دائرة الهجرة التركية. عدد ضخم من هؤلاء السوريين رجال صناعة وأرباب أعمال، وتقدر استثماراتهم في تركيا بما بين خمسة مليارات وعشرة مليارات دولار، بحسب تقرير لمركز حرمون للدراسات.

وتتوزع هذه الاستثمارات في شركات برأس مال بين 100 ألف دولار وأكثر من مليون دولار، بالإضافة إلى شركات قابضة برؤوس أموال تبلغ عدة ملايين من الدولارات. وصرح المستثمرون في غازي عنتاب التركية بأن حجم الاستثمارات السورية في هذه المحافظة وحدها يراوح بين مليار وخمسة مليارات دولار. ويقدر رجال أعمال سوريون استثماراتهم في تركيا بأكثر من عشرة مليارات دولار.

وهناك أموال ضخمة خرجت من سورية إلى لبنان عبر الحدود المفتوحة بين البلدين. وتعليقاً على أزمة سورية المالية في سنة 2020، قال الرئيس المخلوع بشار الأسد إن سبب الأزمة السورية أن ما بين 20 مليار دولار و42 مليارا من الودائع فقدت، أو نقلت، في القطاع المصرفي اللبناني الذي يملك عملة صعبة تزيد عن 170 مليار دولار. ورد الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف اللبنانية سمير حمود بأن حجم ودائع السوريين في المصارف اللبنانية تشكل نحو 6% من إجمالي الودائع، أي لا تتجاوز سبعة مليارات دولار فقط، وتم تحويل نحو ستة مليارات دولار منها إلى خارج لبنان.

لكن موقع “بي بي سي” عربي يقدر الأموال السورية في لبنان بنحو 30 مليار دولار، وذلك وفق مصادر مصرفية. ويرجح أن تكون معظمها قد نقلت قبل الأزمة اللبنانية في 2019 إلى تركيا. وتقدر منظمة الهجرة الدولية أن في مصر ما يقارب مليونا ونصف المليون لاجئ سوري بين عامَي 2011 و2022، من بينهم 30 ألفا مستثمرون. كما بلغ عدد الشركات السورية المسجلة لدى دائرة مراقبة الشركات الأردنية 4100 شركة، تتوزع على قطاعات الصناعة والتجارة والعقارات، مع إجمالي رؤوس أموال تجاوزت الـ310 ملايين دولار.

هذه الأموال والأعمال والعلاقات التجارية تحتاج إلى حوافز استثمارية وبيئة سياسية مستقرة لاستقطابها وإعادة توطينها في سورية الجديدة. وسوف تكون هذه الأموال، أو جزء كبير منها، قاطرة للتنمية في سورية الجديدة. ومن المتوقع أن تقوم شراكات اقتصادية وتجارية بين الشركات والمصانع السورية القائمة في تركيا ولبنان والأردن ومصر وبين الكيانات الاقتصادية المنتظرة في سورية الجديدة.

وسوف تكون هذه الكيانات الجديدة بيوت خبرة عصرية وقاطرة للاقتصاد والتنمية في سورية الجديدة، وروافد لتوظيف الملايين من الشباب السوري الذي يعاني من البطالة والفقر منذ سنوات بسبب ويلات الحرب. وبدأت بالفعل الطيور السورية المهاجرة من أرباب الصناعات والتجارة والأعمال الدخول للأراضي السورية من المعابر على الحدود التركية، لدراسة كيفية نقل أموالهم وأعمالهم وتجارتهم وخبراتهم إلى وطنهم الأم في أقرب وقت.

الطيور المهاجرة

تعمدت قوات أمن النظام السوري تصفية الأطباء والمسعفين ميدانيا منذ بداية الثورة، وقصفت المستشفيات ودمرتها على من فيها، دون اعتبارها ملاذات آمنة في وقت السلم والحرب وفقا لقواعد القانون الدولي الإنساني، واعتبرت أن الطبيب أخطر من الثوار أنفسهم. ومبررهم في ذلك، كشفه أحد الأطباء السوريين في شهادته لمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان بقوله إن المحقق قال له “أنت بصفتك طبيباً أخطر بكثير من الإرهابيين.. نحن نقتلهم وأنت تعيدهم”. المنظمة وثقت قتل 900 اختصاصي طبي، وسجن 3364 من مقدمي الرعاية الصحية وطلاب الطب بشكل غير قانوني من قبل الأجهزة الأمنية السورية خلال عشر سنوات من أحداث الثورة، وظلوا محتجزين أو مختفين قسريا حتى آخر لحظة من عمر النظام.

وكان من بين المهجرين قسريا من هاجر إلى أوروبا والولايات المتحدة، ويقدر عددهم بنحو 15 ألف طبيب، يمثلون نصف عدد الأطباء تقريبا في عموم سورية، البالغ عددهم سنة 2010 حوالي 30 ألفا. وتصدر السوريون قائمة الأطباء الأجانب في ألمانيا، إذ بلغ عددهم ستة آلاف و120 طبيباً سورياً، بحسب إحصائيات الجمعية الطبية الفيدرالية الألمانية، ويعمل ما يقرب من خمسة آلاف منهم في المستشفيات الألمانية، مع خمسة آلاف سوري آخرين يعملون في التخصصات الطبية معاونة.

اكتسبوا جميعاً الخبرة الألمانية في كل تخصصات الطب، والكثيرون منهم يعدون العدة للعودة والنهوض بالقطاع الطبي في سورية الجديدة. وفي إحدى مجموعات “فيسبوك” للأطباء السوريين في ألمانيا، أظهر استطلاع سريع للرأي أُجري في يوم سقوط الأسد أن 74% من 1200 مشارك قالوا إنهم يفكرون في العودة الدائمة، وفق وكالة رويترز. حتى أنّ رئيس جمعية دعم المستشفيات الألمانية غيرالد غراس حذر من خطورة مغادرة الأطباء السوريين بلاده بشكل مفاجئ بعد سقوط النظام السوري السابق، لتأثير ذلك الكبير على الرعاية الصحية الألمانية.

كما هاجر إلى ألمانيا منذ بداية العنف ضد المتظاهرين نحو 3000 مهندس سوري، مع نحو 43 ألف سوري يعملون في قطاع التصنيع الألماني، ضمن 1.2 مليون سوري وصلوا إلى ألمانيا منذ بداية الثورة وبتسهيلات من حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. نسبة كبيرة من هؤلاء المهندسين والعمال المهرة يريدون العودة لسورية الجديدة، ويعتبرون ثروة لا تقدر بثمن، وسيكون لهم دور كبير في بناء نهضة حقيقية بخبرات ألمانية.

والحكومة في سورية الجديدة معنية باستقطاب هذه الكفاءات وتمكينها من قيادة التنمية والتطوير في مجالات التكنولوجيا والصحة والتعليم. وهي ثروة سورية في الأساس. وفي تقرير للتلفزيون الألماني في خضم الثورة السورية في سنة 2015، يكلف إعداد الطبيب السوري خلال سبع سنوات نحو مليون دولار، وتتضمن تكاليف الدراسة الجامعية والبنية التحتية التعليمية والتدريبية التي تسبق حصوله على شهادة ممارسة المهنة. وتراوح كلفة إعداد المهندس ما بين نصف مليون دولار وثلاثة أرباع مليون دولار.

وبحسبة بسيط، هاجر إلى ألمانيا فقط نحو عشرة آلاف طبيب ومهندس، أنفقت عليهم سورية نحو ثمانية مليارات دولار خلال سنوات تعليمهم وتدريبهم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن حملة الشهادات الجامعية العليا، ولا سيما من المهندسين والأطباء، يشكلون نسبة تزيد على 15% من مجمل اللاجئين السوريين، وحملة الشهادة الثانوية يشكلون 35% منهم، فإنّ هذه الإمكانات هي رأس المال البشري السوري، والثروة الاقتصادية المستنزفة من سورية خلال ثورتها العادلة، وعلى الحكومة العمل بجد وعزيمة لتهيئة البيئة الاستثمارية والتشريعية وتشجيعها على العودة لوطنها وإشراكها في بناء سورية الجديدة.

العربي الجديد

—————————-

ديون إيران على سوريا.. هل يمكن إلغاؤها؟/ محمد الشيخ

الجمعة 2024/12/20

يبدو أن الحكومة السورية المستقبلية ستخوض معركة قانونية دولية مع إيران، لإلغاء العقود والاتفاقيات التي أبرمتها الأخيرة مع نظام الأسد المخلوع، خصوصاً بعد أن خرجت طهران عن صمتها الرسمي بخصوصها، وتأكيدها أن جميعها ستنتقل إلى النظام السياسي الجديد، مع الأموال التي دفعتها في الماضي على تثبيت الأسد في حكمه، على هيئة مساعدات عسكرية واقتصادية، وسجّلتها على حكومته كديون يتوجب سدادها.

مصير الاتفاقات

وإيران التي تعرضت لضربة جيوسياسية وعسكرية بسقوط نظام الأسد السريع والمفاجئ، خلال 11 يوماً، وقّعت عشرات الاتفاقيات والمعاهدات مع حكومة الأسد، مع بدء استعادة الأسد السيطرة على معظم الأرضي السورية من المعارضة المسلحة في 2016، بينما كانت الاتفاقيات الموقعة قبل ذلك، أقل بكثير.

ومنذ العام 2011، وحتى الأيام التي سبقت سقوط الأسد، بلغ عدد الاتفاقيات الايرانية الموقعة مع حكومته نحو 126 اتفاقية، في مختلف القطاعات مثل الطاقة والتجارة والصحة والتعليم والزراعة والصناعة والاتصالات والتمويل وغيره، لكنها توزعت بين التنفيذ الكامل وتحت التنفيذ وعدم التنفيذ، حسب مركز “جسور” للدراسات.

وكثرت الأسئلة حول مصير الاتفاقيات مع الحكومة السورية المستقبلية، بعد سقوط الأسد، وكيف ستتصرف إيران حيالها، ليأتي الجواب من المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي، قبل يومين، بأنها ستنتقل إلى النظام السياسي الجديد، مؤكداً أنها “معاهدات ومذكرات التفاهم بين البلدين هي اتفاقيات بين الحكومات والدول، وليس بين مجموعات أو أفراد”.

ولأن إيران وقعت تلك الاتفاقيات لتحصيل ديون صرفتها على تثبيت حكم الأسد، ونشله من القاعين العسكري والاقتصادي، لا لأجل نشل الشعب السوري من أزماته بسبب حرب نظام الأسد الوحشية ضدهم، فإن أحد خيارات الحكومة المستقبلية في سوريا أن تعمل على إلغاء تلك الاتفاقات أو بعضها، لكن السؤال ما هي خياراتها لذلك في ظل القانون الدولي الذي كان يعتبر حكومة الأسد شرعية؟

يقول الخبير في القانون الدولي المعتصم كيلاني لـ”المدن”، إن الإلغاء يعتمد على عوامل قانونية، سياسية، واقتصادية معقدة. فمن الناحية القانونية، تخضع العقود للقانون الدولي، ولإلغائها قد تحتاج الحكومة الجديدة لإثبات أنها عقود غير شرعية، ووقّعت بظروف غير متكافئة، مثل الإكراه او الضغط السياسي، أو الإضرار بمصلحة الدولة.

الضغط العسكري

وحول التحديات التي قد تواجه الحكومة لذلك، يجيب الكيلاني أن إيران، ويشمل ذلك روسيا، “قد ترفضان أي محاولة لإلغاء أو تعديل العقود، وقد تلجآن إلى التحكيم الدولي، وقد تستخدمان الضغط السياسي والتهديد العسكري، بسبب نفوذهما السياسي والعسكري في سوريا”.

ويؤكد أن الحكومة بحاجة إلى حلفاء دوليين لدعم موقفها، مثل الأمم المتحدة أو الدول الداعمة لسوريا الجديدة، والذي قد يساعد في ممارسة ضغوط لإعادة التفاوض على العقود.

تحصيل الديون

وإلى جانب العقود، فإن الأسد ترك ديوناً يتوجب سدادها لإيران، بقيمة تتراوح بين 20 و30 مليار دولار أميركي، حسب ما كشف عنه في أيار/مايو 2020، النائب في لجنة الأمن القومي والسياسية الخارجية في إيران، حشمت الله فلاحت بيشه.

وعاد المسؤول الإيراني عقب سقوط نظام الأسد، لإثارة قضية الديون، قبل أن يرد عليه بقائي خلال مؤتمره الصحافي، بالقول إن الأرقام “مبالغ فيها” إن الديون ستنتقل للنظام السياسي الجديد بمبدأ خلافة الدول.

في الاثناء، نشرت صحيفة “صاندي تايمز” البريطانية تقريراً كشفت فيه أن ديون طهران على الأسد، تبلغ 50 ملياراً، مقابل مساعدات نفطية وعسكرية، مشيرةً إلى أن المسؤولين الإيرانيين ومنذ ما يقرب من ثلاث سنوات، كانوا قلقين بشأن كيفية استرداد الديون إذا قُتل الأسد أو أُطيح به، وذلك وفق وثائق مسربة من الخارجية الإيرانية، حصلت عليها من قراصنة معارضين إيرانيين.

وتفاعل بقائي مع الرقم المتداول في الصحيفة بالقول إن “هذه الأرقام، مثل الادعاء بوجود دين قيمته 50 مليار دولار على سوريا لصالح إيران، مبالغ فيها بشكل كبير”.

ويقول الكيلاني إن الحكومة الجديدة لديها خيار التفاوض على الديون الإيرانية مستقبلاً، لتقليل قيمتها او جدولتها بشروط ميسرة، أو قد تلجأ للحصول على دعم دولي من الدول المانحة مثل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، او على دعم إقليمي من دول الخليج.

ويضيف أن لديها خيار استغلال المواد الطبيعية، وإعادة هيكلة العقود لاستثمار هذه الموارد بطرق تعود بالفائدة على الشعب السوري، بدلاً من الاستغلال الأجنبي. وكذلك فإن خيار مكافحة الفساد، واستعادة الأموال المنهوبة داخليا وخارجياً، أحد الخيارات.

المدن

—————————-

يوم تكسرت فيه الأقفال/ سهى هشام الصوفي

20 كانون الأول 2024

في الطابق العلوي خبط أقدام، وفي الطابق السفلي صراخ مكبل يصطدم بقضبان مجنزرة، وبين الطابقين طوابق بكماء لم يسمع لها صوت من زمن طويل.. مساجين الطابق العلوي يقفون بطوابير متهالكة وراء باب حديدي لا ثقب فيه لمفتاح، اقترابهم من الباب كان آلياً كفراش يقترب من الضوء، وإن كان من المعيب أن نستحضر علاقة الفراش بالضوء، ونحن نتحدث عما يحدث وراء باب جهنم… صوت تكسير الأبواب بشيء حاد كان يملأ صدورهم بالفزع، فالباب لم يفتح من قبل، إنه مجرد رسم مستطيلي بلون غامق يتوسط حائط من الحيطان الأربعة التي تسور رقعة إقامتهم.. ومن يسأل عن طريقة تزويدهم بالطعام أو بقرار الإعدام، فعلى خياله أن يصل إلى أبعد تصور ممكن، وإن وافقني الجميع على استحالة نجاحه…

الباب تم كسره، ليخرج أشباه الأحياء من السجناء مترددين خائفين متوجسين ممن فتح الباب، وممن سبق وأقفله عليهم بتواريخ نسوا أرقامها ومناسباتها.. كانت طريقة خروجهم من منطقة الموت الصامت، لا تشبه التصور المتعارف عليه للخارجين من سراديب السجن، خطوة للأمام وخطوات للوراء في حالة من التيه الذي لا يستطيع التفرقة بين الممكن واستحالته.. خروجهم من دون أصفاد، كان محكم الإقفال بأصفاد الخوف، لم يفهموا كلمة «أخرجوا» التي رددتها الأصوات الغريبة المعلنة تحريرهم، فمشوا كخرفان هزيلة البنية تساق إلى المسلخ، سنوات التعذيب أنستهم كيف بإمكان الخلاص أن يكون الضوء في غياهب العتمة، فبدوا كمن يفضل البقاء على ما هو عليه من الخروج إلى مساحة مجهولة، لا يتذكرون فيها خريطة الطريق إلى هويتهم!

«أخرجوا.. أخرجوا» نداء يتكرر في رواق أبواب تُكسر لتوها، «أسرعوا بالخروج» صراخ يحاول جر المساجين، مما كان يُقربهم من نهايتهم أو بالأحرى مما كان سينهي عذاباتهم بحبل أو محرقة أو مكبس…

النداء يشتد من دون أن يفهم أصحابه أن الصوت لا يصلهم وأن الصمت يلفهم بأسلاك كهربائية ثبتها سجانهم على أرواحهم قبل أفواههم، وفي حواسهم قبل إحساسهم حتى فقدوا القدرة على سماع حتى أصواتهم، أو أنينهم المتبقي في حناجر يعلوها الصدأ… وفي غمرة التردد بالخروج القسري من زمنهم الضائع، تنتصر أنفاس الحياة الأخيرة فيستسلمون من دون أن يفهموا أو يدركوا ما الذي عليهم فعله بعد إتمام عملية النزوح إلى الحياة خارج الزنزانة… كانوا يركضون وراء بعضهم، جنب بعضهم بغريزة القطيع، لا يشعرون بأقدامهم وهي تركض ولا بالأرض التي يركضون عليها، كل ما يقومون به هو الركض، أو الهرولة، حيث لا تتمكن أقدامهم الضعيفة من حمل أجسادهم الأضعف.. ما من أحد منهم ينظر إلى أحد، ففي يوم الحشر لا يعرف الأب ابنه ولا الإبن أبيه.. الوجوه كانت غاطسة في زوبعة من ظلام وبشر والعيون متيبسة بعد أن مضى وقت طويل على آخر مرة قاموا فيها بغسل وجوههم.. الأكتاف ترتطم ببشر وحيطان والأقدام حفاة تدوس على مسامير، وفي نهاية السرداب وجه الضوء الخجول يمد يده أن امسكوني ولا تخشوا الخذلان..

القدس العربي

————————–

سورية… من أقبية القتل والتعذيب إلى الشمس/ راسم المدهون

20 ديسمبر 2024

قبل أربع وخمسين سنة، وتحديدًا بعد يوم أو يومين لا أكثر من انقلاب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين، كنت أجلس عصرًا في “مقهى السفراء” الملحق بسينما “السفراء” في شارع 29 أيار في قلب دمشق حين أعلنت الإذاعة السورية بيان “القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث العربي الاشتراكي” التي عينها الأسد، وكان في ذهني سؤال رئيس: ماذا سيقول هؤلاء الانقلابيون عن رموز النظام السابق ومنهم الرجل القوي آنذاك صلاح جديد والرئيس الراحل الدكتور نور الدين الأتاسي ورئيس الوزراء الراحل يوسف زعين ووزير الخارجية إبراهيم ماخوس وغيرهم؟

فاجأني البيان بعبارة اعتبرتها جديدة تمامًا على البيانات رقم واحد التي تبدأ بها الانقلابات العسكرية العربية عادة ومنها الانقلابات في سورية، إذ وصف الأسد نظام من سبقوه بـ “العقلية المناورة”، وقبلها بيومين أي صبيحة السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر سارت في ساحة “السبع بحرات” أمام مبنى المصرف المركزي مظاهرة يهتف المشاركون فيها ضد “حكم العسكر” حتى داهمتهم قوات المخابرات فتفرقوا، أما من كان يهتف محمولًا على كتفي رجل ضخم الجسم فقد حاول النزول فتشبث به من يحمله وأخذه راكضًا به إلى شاحنة المخابرات: تلك كانت لحظة انطلاق طوفان القمع والذي لم يعد مجرد إجراءات عقابية تقليدية تقوم بها السلطة ضد معارضيها، بل سياسة شاملة وممنهجة طاولت كل مجالات الحياة في سورية.

ففي الساعات الأولى لانقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر تم اعتقال القيادة البعثية السابقة وعلى رأسها صلاح جديد ونور الدين الأتاسي رئيس الدولة ويوسف زعين رئيس الوزراء وكل أعضاء “القيادة القطرية لحزب البعث” لفترة قاربت ربع قرن وتم الإفراج عنهم تباعًا حين كان كل واحد منهم يلفظ أنفاسه الأخيرة فتفضل السلطة أن يموت في بيته.

في دمشق يتذكر من عاش تلك الفترات القاسية من الأزمات الاقتصادية والمعيشية كيف كان النظام يكرس لغة قمعية لتصرفاته، فمنح فئة من العاملين زيادة مالية في أجورهم كان يسمى في إعلام النظام “عطاءات القائد”، وأتذكر أن المعلمين أُجبروا ذات مرة على المرور في مسيرة من أمام القصر الجمهوري كي يشكروا “الأب القائد” على منحهم زيادة بلغت خمسين ليرة، بينما “القائد” يقف في شرفة القصر ملوحًا بيديه لهم.

حماة… امتحان عسير

في أواخر السبعينيات وحتى مطلع الثمانينيات شهدت سورية أحداث مدينة حماة التي دمرها النظام بذريعة تمرد قامت به جماعة الإخوان المسلمين، وراح ضحية تلك المذبحة ما يزيد عن أربعين ألفًا، ومن شهد مدينة حماة بعد المذبحة مثلي رأى بأم عينه حطام بيوت فوق قتلاها من النساء والأطفال والمدنيين العزل الذين ذبحهم بدم بارد رجال “سرايا الدفاع” بأوامر رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، والذي طاولت إجراءاته القمعية – الاستئصالية أهل المدينة منذ ذلك التاريخ، ولا أنسى هنا أن أهل محافظة حماة ظلوا عقودًا طويلة يطالبون بتطبيق مبدأ إنساني تعرفه وتطبقه دول العالم كله وهو الحق في استخراج “شهادة وفاة” للضحايا كي تتمكن العائلات من إجراء “حصر إرث” لأملاكهم الشخصية كلما احتاجوا توزيع ميراث العائلة بينهم وظل الأسد الأب يرفض.

وقع ذلك كله فيما كانت سلطة القمع الأسدي مشغولة بمحاولاتها التي لم تتوقف في السطو على قرار الفلسطينيين، حيث هاجم إعلام النظام كما قادته أبو عمار ياسر عرفات وزج النظام كافة المنتسبين لحركة فتح في المعتقلات لعقد ونصف العقد من السنوات، وهو تسلط سرعان ما انتقل إلى لبنان الذي حكمه رجال الأمن بالعسف والحديد والنار وساقوا قياداته وشخصياته السياسية لمركز قمعهم في “عنجر” حيث كان يقود غازي كنعان ومن بعده رستم الغزالي المخابرات السورية الساهرة على إرهاب اللبنانيين وتطويعهم، وهو “النشاط” الذي بلغ ذروته مع اغتيالهم لرئيس الحكومة اللبنانية الشهيد رفيق الحريري وقائمة طويلة من الشخصيات اللبنانية المؤثرة والمكافحة من أجل استقلال لبنان وخروجه من قبضة الهيمنة الأسدية.

أخطر ما فعله النظام البائد هو سطوه العلني على إرث سورية القومي – الحضاري وإجراءاته الغزيرة التنوع لتحويل سورية لمزرعة لإيران تحت مسمى كاذب هو “محور المقاومة” والذي أخضع البلاد ومقدراتها لسيطرة إيرانية قتلت وصادرت البيوت وزرعت ساكنين جددًا في بيوت السوريين وحولت مناطق واسعة من سورية إلى “مستوطنات” سورية خصوصًا في الزبداني في ريف دمشق وفي “القصير” في محافظة حمص ودير الزور وأطلقت أيديهم في تشكيل ميليشيات عسكرية شاركت بدور أساسي في ذبح السوريين بالتعاون والمشاركة المباشرة من كتائب حزب الله.

حين شاهدت الطاغية المخلوع يتحدث في أول ظهور له على الشاشة الصغيرة بعد المظاهرات الأولى ضده عام 2011 أدركت أنه ذاهب لذبح سورية ولن يقدم ولو تنازلًا بسيطًا للشعب السوري هو الذي اعتاد تقديم تنازلات كبرى ومجانية للخارج.

عصر صيدنايا

اليوم تعرض الشاشات ونسمع من كانوا هناك والذي يجعل العقل السليم يتوقف مذهولًا أمام ما يرعب المخيلة من مشاهد وقصص وحكايات تشبه “الفانتازيا التاريخية” التي قدمتها في مرحلة سابقة الدراما السورية، والمضحك المبكي أن نجد اليوم من يهبّون للدفاع عن الديكتاتور الساقط بذرائع تافهة وحجج مخزية غير آبهين بعذابات السوريين على مدار نصف قرن ويزيد في ظل سلطة المقابر الجماعية والتغييب القسري في سجون سورية التي لا تُحصى والتي تجسدت في “صيدنايا” الذي رأى العالم من خلاله كيف “برع” الطغاة في نهش لحوم البشر وتقطيع أوصالهم كما لم يحدث ولا تتذكره ذاكرة السوريين في العصور الحديثة.

أغرب ما يقوله من هبّوا للدفاع عن المخلوع أنه كان علمانيًا ويدافع عن الأقليات بل ومقاوم ممانع، هو الذي ظل يتلقى ضربات الطائرات الإسرائيلية محتفظًا بحق الرد وهو الرد الذي لم يحدث أبدًا.

سورية تنهض من كابوسها، البلاد التي أسس دولتها المعاصرة رجال كبار كشكري القوتلي وفارس الخوري وخالد العظم صار يتحدث باسمها رجال الأمن والعصابات التي حولت البلاد إلى مصانع للكبتاغون وغيره من المخدرات وتصديرها للبلدان العربية، وها نحن نستعيد صور الحياة تنهض من ركام التدمير الشامل للبلاد ونفرح بوجوه أحبة وأصدقاء يعودون من تغييبهم القسري وراء جدران السجون والمعتقلات فأتذكر قصيدة “شاعر الشام” شفيق جبري يوم الجلاء:

“حلم على جنبات الشام أم عيد لا الهم هم ولا التسهيد تسهيد”…

سورية مشعل ضوء وحضارة، أسست منذ استقلالها دولة تسير بثبات نحو الديمقراطية والحداثة والصناعة المتقدمة واستحقت أن يرشحها الخبراء العالميون في خمسينيات القرن الماضي أن تكون في مستقبلها دولة في الصفوف الأولى من دول العالم المتطورة قبل أن تعصف بها أيدي المستبدين.

منذ انطلقت ثورة الشعب السوري ضد نظام القتل والقمع والمعتقلات، شهدت سورية حربًا قاسية صب خلالها النظام البائد بالتعاون مع حلفائه حربًا ضروسًا شردت الشعب في أصقاع الأرض، ودمرت المدن والقرى وخربت الصناعة والزراعة واستمرت في ذلك أمام سمع العالم وبصره حتى دخل الثوار قلب دمشق وتحقق نصر الشعب السوري فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الجاري فعاد لسورية وجهها المشرق وفتحت المعتقلات والسجون وشاهد العالم كله ما كان يجري من تنكيل وقمع خصوصًا في المعتقلات المنتشرة في عموم البلاد وبصورة خاصة في “صيدنايا” المروع والذي لم يعرف العالم الحديث مثيلًا له.

ضفة ثالثة

————————————

ماذا فعلت تركيا في سوريا؟/ كمال أوزتورك

20/12/2024

أثارت تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، بشأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، دهشة ليس في تركيا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم. حيث قال:

“لا أحد يعرف حقًا من الرابح، لكنني أعتقد أن تركيا هي الرابح. أردوغان رجل ذكي وقوي جدًا..  كان الأسد جزارًا. رأينا ما فعله بالأطفال.. مفتاح سوريا في يد تركيا”.

عندما أدلى ترامب بهذه التصريحات، كنتُ قد عدت للتو من سوريا. زرت معظم المدن، وبعدها أجريت مقابلة مع القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع . في البرامج التلفزيونية التي شاركت فيها وحساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي، قلت: “رأيت في سوريا عقل دولة، هذا العقل ليس أميركيًا، ولا إسرائيليًا، ولا بريطانيًا. هذا العقل الذي يحكم الساحة هناك هو تركيا”.

لكن ماذا فعلت تركيا في سوريا، وكيف أصبحت بهذا التأثير الكبير؟ لم يناقش أحد هذا الموضوع بتفصيل كافٍ.

أكبر ضحية للحرب الأهلية السورية أصبحت تملك المفتاح

كانت تركيا هي أكثر المتضررين من الحرب الأهلية السورية. على مدار 13 عامًا، استقبلت موجات متتالية من اللاجئين دون انقطاع، حتى تجاوز عدد اللاجئين السوريين في البلاد 3.5 ملايين شخص.

نفذت الجماعات شبه العسكرية التابعة لنظام الأسد، وعناصر المخابرات العديد من الهجمات التفجيرية في تركيا، مما أسفر عن مقتل العديد من الأشخاص.

إلى جانب ذلك، شنّت الجماعات المؤيدة لإيران ونظام الأسد حملات إعلامية؛ بهدف إضعاف حكومة أردوغان. وبسبب وجود اللاجئين السوريين، نشبت احتجاجات ومشاحنات في العديد من المدن. وفي الانتخابات المحلية الأخيرة، قادت الأحزاب المعارضة حملات ضد اللاجئين، مما أدى إلى خسارة حزب أردوغان للعديد من البلديات لصالح المعارضة.

رغم كل ذلك، رفض الرئيس أردوغان مطالب إعادة اللاجئين إلى سوريا قسرًا، ووقف إلى جانبهم دون أن يتراجع.

لكن، هناك خطوة أكثر أهمية قام بها أردوغان ولم يلتفت إليها كثيرون: لقد واصل الاستثمار في المعارضة السورية، وكذلك داخل سوريا نفسها.

تركيا استثمرت داخل سوريا

شنّت تركيا عدة عمليات عسكرية عبر الحدود لمواجهة الهجمات القادمة من حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب الكردية (YPG). أنشأت تركيا “مناطق آمنة” في جرابلس، عزاز، عفرين، والباب بموجب اتفاقيات أستانا وسوتشي.

ساعدت تركيا الفصائل المعارضة في إنشاء إدارات محلية، وضمان الأمن، وتأسيس نظام اقتصادي في هذه المناطق. شَيدت مدارس ومباني للجامعات، وبنت مستشفيات ومرافق صحية، وقدمت دعمًا لمشاريع البنية التحتية. على سبيل المثال، قامت بلدية غازي عنتاب بإنشاء الطرق في مدينة الباب، بينما أنشأت وزارة الصحة التركية المرافق الصحية.

كما قامت منظمات المجتمع المدني التركية بتنفيذ مشاريع إنسانية وإغاثية، بالإضافة إلى أنشطة تعليمية وثقافية.

وهيأت تركيا أرضية مرنة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين تركيا وشمال سوريا. ولذلك، تم السماح بتوريد جميع المواد اللازمة لتلبية احتياجات تلك المناطق مثل الاتصال، والنقل، والغذاء، والصحة، والتعليم من تركيا.

إنشاء الجيش الوطني السوري

ونفذت تركيا مشروعًا لضمان الأمن في مدن شمال سوريا؛ حيث دعمت تأسيس الجيش الوطني السوري، وقدمت الدعم في التدريب العسكري، وتوفير الأسلحة. وقامت تركيا أيضًا بإنشاء قوات شرطة في المدن، ووفرت الدعم لضمان الأمن من خلال منسقين.

مع مرور الوقت، سيطر الجيش الوطني السوري على آلاف الكيلومترات المربعة التي يقطنها ملايين الأشخاص. وعندما بدأ الهجوم ضد الأسد في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، بدأ الجيش الوطني السوري أيضًا في السيطرة على المناطق التي كانت تحت سيطرة المليشيات الانفصالية الكردية في الشمال.

الموضوع الحرج: العلاقات مع هيئة تحرير الشام

كنتُ في سوريا عندما سقطت حلب في عام 2016 بيد نظام الأسد، وتدفقت موجة هجرة ضخمة باتجاه تركيا. في ذلك الوقت، شاهدت الخيام والهياكل العشوائية في ريف إدلب. وكانت إدلب آنذاك مكانًا صغيرًا لا يُسمع به كثيرًا. لكن مع تدفق أعداد هائلة من المهجرين من حلب والمناطق المحيطة بها، تحولت فجأة تلك البلدة الصغيرة إلى مدينة يقطنها مليون شخص.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي عام 2017، حدثت هجرات جماعية من حماة، وفي 2018 من دمشق ودرعا، ليتم نقلهم جميعًا إلى إدلب. وحسب تقارير الأمم المتحدة، بلغ عدد سكان إدلب اليوم 4.1 ملايين نسمة.

كانت هيئة تحرير الشام موجودة في إدلب منذ فترة طويلة، ولكن بسبب الهجمات التي شنها حزب الله ونظام الأسد وروسيا على مواقعها في حلب وحماة ودمشق ودرعا، نقلت الهيئة جميع قواتها العسكرية إلى إدلب، مما سمح لها بتشكيل قوة كبيرة هناك.

نظرًا لأن تركيا كانت الدولة الضامنة في إدلب وفقًا لاتفاقيات أستانا وسوتشي، فقد بدأت بتأسيس علاقات مع المنطقة. ومع ذلك، نشب صراع بين قوات الجيش الوطني السوري في إدلب وبعض الفصائل داخل هيئة تحرير الشام. بسبب ذلك، وضعت تركيا هيئة تحرير الشام على قائمة المنظمات الإرهابية باعتبارها امتدادًا لتنظيم جبهة النصرة.

غير أنه بسبب موقف تركيا كدولة ضامنة في إدلب والوجود الفعلي لقوات الجيش الوطني السوري في المنطقة، اضطرت تركيا إلى بناء علاقات مع إدارة إدلب، وبالتالي بدأت عملية تحول هيئة تحرير الشام.

كيف تحولت هيئة تحرير الشام؟

كانت إدلب منطقة تتعرض بشكل متكرر للقصف والحصار من قبل نظام الأسد وروسيا، ولهذا كان لا بد لهيئة تحرير الشام من الاقتراب من تركيا للحفاظ على بقاء المدينة ذات الـ 4 ملايين نسمة. بسبب الهجمات المستمرة من قبل عناصر أجنبية داخل الهيئة واشتباكاتها مع الجيش الوطني السوري، طالبت تركيا الهيئة بتطهير صفوفها من هذه العناصر الأجنبية وضمان مركزية التنظيم، وهو ما استجاب له قائدها.

دخلت هيئة تحرير الشام في علاقة وثيقة مع تركيا خلال هذه الفترة من أجل إدارة الشؤون العامة والاجتماعية في إدلب، خاصة بعد أن أصبح دافع تركيا الأساسي هو منع حدوث موجة نزوح جديدة من إدلب بسبب الهجمات المستمرة من نظام الأسد. ومع مرور الوقت، ومع رؤية تركيا لتحولات الهيئة، ازدادت العلاقة بين الجانبين.

أُحرز أكبر تأثير في الدورة الاقتصادية، حيث تم مد خطوط كهرباء عبر تركيا، مما سمح للعديد من الأنظمة في إدلب بالعمل. كما تم تأسيس أنظمة اشتراك عبر البنوك، مما أتاح إحياء قطاع المصارف.

مع انخفاض أسعار المواد الأساسية مثل الطعام والملابس والأثاث في إدلب، بسبب فرصة الحرب التي استفاد منها نظام الأسد، بدأ العديد من الناس من اللاذقية وطرطوس بالتسوق من إدلب، كما قدمت تركيا الدعم في مجالات الخدمات العامة في مدن مثل أعزاز، جرابلس، وعفرين، وامتد هذا الدعم إلى إدلب، مما ساعد على تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي في المدينة وجعلها مركز جذب.

تراجع التطرف في هيئة تحرير الشام بشكل تدريجي. على سبيل المثال، تم رفع الحظر عن قيادة النساء للسيارات، وتم توفير التعليم لجميع الفئات، ولم تُمارَس ضغوط على الناس. وسمع سكان سوريا بذلك، مما ساهم في كسر بعض الأحكام المسبقة ضد الهيئة.

وبفضل الدعم التركي، تحولت الهيئة التي كانت تُصنف في العالم كتنظيم إرهابي، إلى قوة أكثر اعتدالًا وتحضرًا. في البداية كان أحمد الشرع شخصية عسكرية متشددة، ولكن من خلال هذه التفاعلات، أصبح أكثر مدنيًا وعقلانية.

وفي النهاية، نجحت تركيا في تحويل هيئة تحرير الشام إلى هيئة أكثر مرونة وقدرة على التكيف.

دمشق لم تكن هدف هيئة تحرير الشام

في فترة التهدئة التي نسي العالم فيها سوريا، كانت هذه التطورات تحدث في الداخل. من جهة أخرى، خلال العامين الماضيين، تغيرت التوازنات الجيوسياسية في المنطقة بشكل مفاجئ؛ بسبب الحروب في أوكرانيا، غزة، ولبنان.

في عام 2015، دخلت ثلاث قوى في الحرب السورية غيّرت التوازنات بشكل مفاجئ، لكن في العامين الماضيين، تعرضت هذه القوى لانتكاسات كبيرة، وفقدت الكثير من قوتها. فقد فقدت روسيا قوتها في أوكرانيا، وتعرض حزب الله في لبنان لعدة ضربات، كما تراجع دور إيران في صراعها مع إسرائيل، مما أثر على وجودهم في ساحة سوريا. مع تراجع هذه القوى، حاولت المليشيات الكردية ملء الفراغ، لكن لم تنجح بشكل كامل.

استفادت هيئة تحرير الشام من هذه الفجوة في ساحة المعركة، وبدأت في التحضير للسيطرة على المناطق التي كانت تستهدفها في ريف إدلب ومحيط حلب. دفعت تركيا هيئة تحرير الشام لإرجاء العمليات العسكرية في تلك المناطق. وعندما انتهت الحرب في لبنان، بدأت العمليات العسكرية في الساحة السورية.

لم تفكر هيئة تحرير الشام أبدًا في السيطرة على دمشق، أو حتى السيطرة الكاملة على حلب. ومع ذلك، عندما نزلوا إلى الساحة ووجدوا أن نظام الأسد قد أصبح هشًا، وأن حزب الله والمليشيات الإيرانية وروسيا ليس لديهم القدرة على القتال، فقرروا التقدم.

بعد أن تمكنت هيئة تحرير الشام من السيطرة على حلب بسهولة، توجهت نحو حماة. وعندما سقطت حماة بسهولة أيضًا، تحركوا نحو حمص. كانت خطة هيئة تحرير الشام هي التوقف هناك والتفاوض مع نظام الأسد. لكن عندما علموا أن الجماعات المدعومة من الأردن والولايات المتحدة قد دخلت إلى ريف دمشق، أمر أحمد الشرع جميع قواته بالتوجه نحو دمشق.

في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، تمت السيطرة على دمشق، وسقط نظام البعث بعد 61 عامًا من حكمه، وهرّب بشار الأسد من البلاد.

ليس لديهم خبرة كافية ويتلقون الدعم

قال لي أحد المسؤولين في هيئة تحرير الشام: “كأننا في حلم، لا نصدق أننا سيطرنا على دمشق”. وعندما أجريت مقابلة مع الشرع، سألته: “كيف تمكنتم من السيطرة على كل شيء بهذه السهولة؟”، فأجاب: “النظام ظلم شعبنا إلى حد كبير، وكأنهم كانوا ينتظرون مجيئنا”.

في الواقع، كان الوضع الجيوسياسي المتغير على الأرض قد تطور بشكل مضر للنظام وملائم لهيئة تحرير الشام، وكان النظام المتعفن ينهار بسهولة بضربة واحدة.

لقد اكتسبت هيئة تحرير الشام خبرة في إدارة شؤون الدولة في إدلب، ونجحت جزئيًا في استخلاص العبر من جميع الأخطاء التي وقعت في الحرب الأهلية. في حلب، عاد الوضع إلى طبيعته خلال يومين، ولم يتم الانتقام من أحد. وهذا ساعد في إضعاف النظام في دمشق.

ومع كل هذه الإنجازات، لا تمتلك هيئة تحرير الشام الخبرة أو المعرفة أو الموارد البشرية اللازمة لإدارة الدولة. ولذلك، قدمت تركيا دعمها في هذا المجال أيضًا؛ فالتصريحات التي تم إصدارها إلى الرأي العام الدولي عززت فكرة أن هيئة تحرير الشام ليست منظمة إرهابية مخيفة.

والخطوات التي تم اتخاذها كانت محسوبة بشكل جيد، وتم تجنب حدوث الفوضى. في دمشق، شهدت كيف أن الحياة عادت إلى طبيعتها في غضون ثلاثة أيام. ذهب الناس إلى جبل قاسيون للنزهة، وعاد النشاط التجاري إلى أسواق دمشق القديمة على الفور. في وقت كان يتم فيه توزيع الخبز والوقود وفقًا للبطاقات، اختفت هذه الممارسات فجأة.

كيف ستكون الدولة الجديدة؟

أحد أكبر التحديات هو تحديد شكل النظام الإداري في سوريا التي تضم العديد من الهويات العرقية والمعتقدات الدينية المختلفة. ومع وجود أمثلة مؤلمة من العراق ولبنان وليبيا وأفغانستان، كان من الضروري اتخاذ موقف حازم من تركيا من أجل منع ظهور هيكل مشابه للفوضى. لأن تركيا، التي تشترك في حدود تبلغ 900 كيلومتر مع سوريا ولديها ما يقارب 4 ملايين لاجئ سوري، ستكون أكثر الدول تأثرًا بتلك الفوضى.

أعلنت هيئة تحرير الشام ثلاثة مبادئ رئيسية:

    ستكون الأراضي السورية موحدة تحت إدارة واحدة، ولن يكون هناك نظام فدرالي.

    جميع الجماعات المسلحة ستكون جزءًا من وزارة الدفاع، وسيتم نزع السلاح.

    جميع المكونات العرقية والدينية في سوريا ستشارك في إدارة البلاد، ولن يتدخل أحد في حياة الآخرين.

هذه المبادئ، التي ستهدئ الكثير من الدول، كانت أيضًا بمثابة حاجز ضد احتمال نشوب الفوضى الداخلية. السبب في تراجع آمال أولئك الذين كانوا ينتظرون “دولة الشريعة” أو حكومة مسيطرة تفرض سلطتها على الجميع هو هذه المبادئ المعلنة والالتزام بها.

لكن لا يعني ما سبق أن الوضع سيكون مثاليًا؛ حيث إن عملية إعادة بناء سوريا سياسيًا واجتماعيًا وجغرافيًا لن تكون سهلة، الأشهر القادمة ستكون حاسمة جدًّا.

الشعب السوري عانى بما فيه الكفاية من النزاع والصراعات، وتعرض لآلام كبيرة. لذلك، فإنهم يعلقون آمالهم على تأسيس نظام وحكومة هيكلية ترضي الجميع. ومن المهم أن تدعم جميع الدول هذا الهدف.

    كاتب وصحفي تركي

———————————-

سوريا إلى أين؟/ سعد بن طفلة العجمي

هناك تفاؤل طوباوي مفرط يراهن على طبيعة الشعب السوري المتسامحة في مقابل قراءة متشائمة حد السواد

الجمعة 20 ديسمبر 2024

من يجرؤ على إجابة واثقة لهذا السؤال، فإما أنه “يعلم الغيب” وهذا مستحيل، أو أنه “يضرب الودع” وهذا تنجيم.

سقط نظام الأسد الذي جثم على أنفاس الشعب السوري مدة تجاوزت نصف قرن، مارس خلالها أقسى أنواع التنكيل والبطش والبشاعة، فالشعب السوري قدم تضحيات لم يقدمها شعب آخر عبر التاريخ للتخلص من الطغيان والاستبداد، عبر ثورة لعلها الأطول في تاريخ ثورات الشعوب، إذ استمرت نحو 14 عاماً راح خلالها أكثر من نصف مليون، وجرح واعتقل واختفى ضعفهم في الأقل، وتشرد وهاجر ونزح أكثر من 8 ملايين من السوريين، وتحولت البلاد بحواضر مدنها إلى خرائب ينعق فيها غراب البين، وتلفها أشباح القتلى والجرحى والمهجرين والنازحين، وخسائر اقتصادية هائلة لا يزال حصرها قيد الجمع والطرح والكساد والإفلاس.

بسقوط نظام الأسد فرح كل إنسان يتمنى الخير لأخيه الإنسان في سوريا، وفرح معظم العرب إلا من ارتبط بإيران، وانتشى الشعب السوري للمرة الأولى منذ عقود، وخرج ملايين السوريين يهتفون لشهدائهم وأهليهم ومعتقليهم ومهجريهم “حرية حرية”، و”واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”.

بدأت سكرة النصر تتلاشى شيئاً فشيئاً، وتراجعت نشوة الانتصار على استحياء مفسحة الطريق للسؤال الملح الذي يتردد صداه في ذهن كل سوري وكل متابع وحريص على مستقبل سوريا: سوريا إلى أين؟

المتابع للمنتديات والحوارات، والقارئ للتحليلات والمقالات، والمتردد على الديوانيات، يخلص إلى قراءتين يتمحور حولهما استقراء الحال السورية المستقبلية، بين تفاؤل طوباوي مفرط يراهن على طبيعة الشعب السوري الخلاقة والمتسامحة والمتحضرة و”الشاغولة” (باللهجة الخليجية)، تفاؤل يتوقع ألا يعود السوريون لفرض ديكتاتورية مكان أخرى، ويدلل أصحاب هذه النظرية بالهدوء النسبي الذي أعقب هرب بشار الأسد “بليلة ما فيها قمرا”، ويقارنون ما جرى في سوريا بذاك الذي جرى في العراق بعد سقوط طاغية البعث العراقي صدام حسين، ففي العراق نهب العراقيون بلدهم وقتلوا بعضهم وسحلوا طوائفهم واجتثوا من اختلف معهم، ولا يزالون مستمرين في سياسات الإخفاء القسري والتعذيب والنهب والسلب لخيرات بلادهم.

أما في سوريا كما يرى المتفائلون فقد أطلقت شعارات التسامح والتسامي والتعايش والتجاوز عن الماضي إلا مع من ثبت تورطه بجرائم حقبة الأسد، ويضيفون أن من سيطروا على سوريا حافظوا على الممتلكات العامة، وجلسوا مع آخر رئيس وزراء في حكومة الأسد وجرى تسليم انتقالي وسلس نسبياً لمؤسسات ووزارات الدولة للقادمين الجدد، ويصر أصحاب هذه النظرية على أن حوادث فردية حدثت ومستمرة في الحدوث، لكن الفوضى لم تتسيد الموقف بعد هرب بشار وانهيار نظامه وجيشه.

حدثني صديق سوري متفائل حد المثالية قائلاً “صدقني لم يقدم الشعب السوري كل هذه التضحيات كي تذهب سدى، ولن يخون من قدموا التضحيات من أجل حريته ويتركها تذهب هباء منثوراً”.

أما القراءة الثانية لما قد تؤول إليه الأوضاع في سوريا فهي قراءة متشائمة حد السواد اليائس البائس، ويدلل أصحابها على أن من وصلوا إلى الواجهة احتكروها وأزاحوا باكراً كل القوى السورية المعارضة الأخرى التي لا تقل تضحياتها عن تضحياتهم، كما أن من في الواجهة اليوم هم بالأمس القريب “قاعديون إرهابيون داعشيون”، فأنى لهم أن يتحولوا إلى ديمقراطيين متسامحين مع طوائف وأديان وأعراق سوريا المتنوعة بين عشية وضحاها؟

يعتقد أصحاب هذه النظرية أن “داعشيي سوريا” الذين هم في الواجهة اليوم “يتمسكنون حتى يتمكنون”، وسيطلقون تصريحات انفتاحية ديمقراطية يخجل منها فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو، كما يرى أصحاب هذا الرأي المتشائم أن سوريا إن نجت من الاقتتال الداخلي المذهبي الديني والعرقي فإنها لن تنجو من تضارب الأجندات الإقليمية والغربية والإسرائيلية التي ستؤدي إلى تشظي البلاد وتقسيمها، قسم تركي وآخر كردي وعلوي ودرزي وسنّي وهكذا.

ويزيد المتشائمون بأن غياب المشروع العربي القوي، أو قل الحضور العربي الضعيف في سوريا لتتجاوز كبواتها وتضمد جراحها وتستقل بقرارها، سبب رئيس لهشاشة الوضع السوري والخوف من انزلاقه للهاوية، وذكرني المتشائمون بصديق عراقي عرفته منذ تسعينيات القرن الماضي حين كان من المعارضين لنظام صدام حسين، وهو يقول بلهجة عراقية بعد سقوط الطاغية بنحو 20 عاماً “كنا بصدام واحد صار عدنا 1000 صدام”.

سألني الأستاذ الأديب والمسرحي الكويتي الكبير عبدالعزيز السريع قبل يومين عن رأيي كمتابع أين تتجه الأمور في سوريا؟ وأجبته بأن من يجرؤ على إجابة واثقة لهذا السؤال اليوم، فإما أنه “يعلم الغيب” وهذا مستحيل، أو أنه “يضرب الودع” وهذا تنجيم.

———————————

تركيا وسوريا الجديدة… تفاهمات سياسية وميدانية/ عمر اونهون

يتعين على أنقرة توخي الحذر واتخاذ خطوات مدروسة

20 ديسمبر 2024

يوما بعد يوم، تتزايد التكهنات بأن العملية التي أطاحت في النهاية بنظام الأسد لم تكن ابنة لحظتها، بل بدأ الإعداد لها منذ أكثر من عام، بمشاركة تركيا، والولايات المتحدة، ودول أخرى بدرجات متفاوتة، ولكن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، نفى وجود أي تنسيق مسبق مع دول أو مجموعات أخرى للتخطيط لهذه العملية. ووفقا لفيدان، بدأت مشاركة تركيا فقط بعد أن أطلقت “هيئة تحرير الشام” وجماعات المعارضة الأخرى العملية، حيث ركزت الجهود التركية على تقليل الخسائر البشرية وتجنب التعقيدات، كما قال في مقابلة مع قناة “الحدث” السعودية.

في أعقاب الإطاحة بالأسد، برز فاعلان محليان رئيسيان في المشهد السوري: “هيئة تحرير الشام” و”وحدات حماية الشعب.”

تسيطر “هيئة تحرير الشام”، التي انبثقت عن تنظيم القاعدة وجبهة النصرة، على إدلب منذ عام 2015. وعلى الرغم من تصنيفها كمنظمة إرهابية، يبدو أنها استطاعت أن تطور علاقات مع تركيا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى.

ويحاول زعيم “هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع (الذي كان يُعرف باسمه الحركي أبو محمد الجولاني) إعادة تشكيل صورتها، وقد تبنى، علانية، في سبيل ذلك خطاب أكثر اعتدالا. ودعا إلى “الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة،” مشددا على الحاجة إلى “تأسيس دولة قائمة على القانون والمؤسسات لضمان استقرار مستدام”.

ويبدو أن “هيئة تحرير الشام” هي من يدير سوريا حاليا، ومن الواضح أنها تنوي الاستمرار في هذا الدور بعد الفترة الانتقالية. باختصار، تحاول “هيئة تحرير الشام” إعادة صياغة صورتها، مرسلة إلى العالم رسالة، مفادها “لسنا كما كنا.” ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت الأفعال ستتطابق مع الأقوال.

في الوقت نفسه، تراجعت جماعات المعارضة الأخرى، مثل الحكومة السورية المؤقتة، والائتلاف الوطني السوري، و”الجيش الوطني السوري”، وجماعات مسلحة أخرى، إلى الظل إما بصمتها أو غيابها الواضح.

مناورات “وحدات حماية الشعب”

على النقيض من ذلك، ظلت “وحدات حماية الشعب” قوة ثابتة في الشأن السوري، حيث تتنقل بين العلاقات مع جميع الأطراف الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وإيران ونظام الأسد. وهي تقوم بمناورات مدروسة للبقاء، في مواجهة سقوط الأسد، وعمليات تركيا ضد بنيتها التحتية وقياداتها، وتقدم “الجيش الوطني السوري” شرقا، وموقف ترامب، الذي عبّر عن رغبته في النأي عن الملف السوري.

وفاجأت “وحدات حماية الشعب” بقولها إنها كانت منذ البداية إلى جانب الثورة السورية. كما أعلن قائدها، مظلوم عبدي، عن اتفاق مع “هيئة تحرير الشام” ينص على التزام كل طرف بحدوده على جانبي نهر الفرات وتجنب المواجهة. وأشار عبدي أيضا إلى وجود حوارات مع تركيا بوساطة الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي لهزيمة “داعش”.

من جانبها، أكدت تركيا أنْ لا مشكلة لديها مع الأكراد كعرق، سواء في العراق أو سوريا، ولكنها كررت، على لسان وزير دفاع هايشار غولر، هدفها الرئيسي وهو القضاء على حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب.

وأشار غولر إلى أن الروابط بين “وحدات حماية الشعب” و”حزب العمال الكردستاني”، الذي يتخذ من جبل قنديل شمالي العراق مقرا له، روابط مؤكدة ولا يمكن إنكارها، وكذلك الأهداف السياسية الأوسع نطاقا المرتبطة بهذه الروابط، بما في ذلك ما يُسمى عملية السلام الجديدة في تركيا.

وأوضح الوزير التركي أنْ لا خيار أمام “وحدات حماية الشعب” سوى حل نفسها، مؤكدا على شرطي تركيا الأساسيين، وهما مغادرة جميع الأعضاء غير السوريين، وخاصة كوادر حزب العمال الكردستاني من تركيا والعراق، للأراضي السورية؛ وتسليم المقاتلين من الجنسية السورية أسلحتهم.

انتقال معقد

تظل الفترة الانتقالية في سوريا مليئة بعدم اليقين، حيث تسعى الفصائل المتنافسة والجهات المحلية والقوى الدولية إلى تحقيق أهداف متباينة. وقد تفضي إعادة تشكيل صورة “هيئة تحرير الشام” ومناورات وحدات حماية الشعب إلى اتجاهات جديدة، ولكن من غير المؤكد ما إذا كانت نتيجة تلك التحولات ستؤدي إلى استقرار دائم أو مزيد من الصراعات، فذلك يعتمد على مدى تطابق أقوال هذه الجماعات مع أفعالها – وكيفية استجابة المجتمع الدولي لهذه التطورات.

وبيّن وزير الدفاع أن بلاده أبلغت الولايات المتحدة بهذه النقاط، وطُلبت منها إعادة النظر في سياستها تجاه “وحدات حماية الشعب”، ولكن لا يبدو أن السياسة الأمريكية تشهد تغيرا كبيرا في هذا الميدان، على الأقل في الوقت الحالي.

تتمثل أولويات سوريا في هذه المرحلة بما يلي:

– منع انهيار الدولة، الحفاظ على النظام العام، وتوفير الاحتياجات الأساسية للشعب.

– تأسيس هيكل سياسي وإداري جديد للدولة السورية.

– تفكيك الجماعات المسلحة وجمع الكم الهائل من الأسلحة المنتشرة في أيدي مختلف الفصائل.

كما يطالب السوريون بمحاسبة المسؤولين عن التعذيب والقتل الممنهج الذي أودى بحياة آلاف المعتقلين في سجون النظام، وفي مقدمتها سجن صيدنايا الذي أصبح رمزا لتلك الانتهاكات. غير أن من الضروري أن تجري هذه المحاسبة دون أن تتحول إلى حملة انتقامية عشوائية تؤدي إلى فرض عقوبات جماعية أو استهداف جماعات بعينها، مثل العلويين.

يمضي تشكيل الهيكل السياسي-الإداري الجديد في سوريا وفق المراحل التالية:

أولا، تشكيل حكومة تصريف أعمال تتألف من أعضاء حكومة الإنقاذ التي حكمت إدلب لسنوات، بمن فيهم رئيس الوزراء. وبينما ينتمي جميع أعضاء الحكومة إلى “هيئة تحرير الشام”، تخلو الحكومة من النساء أو ممثلين عن المعارضة والأقليات (العلويين، الدروز، التركمان، الأكراد، والمسيحيين).

ثانيا، المرحلة الانتقالية المقبلة، والتي يُفترض أن تبدأ بعد انتهاء ولاية حكومة تصريف الأعمال في مارس/آذار، من المتوقع أن تعالج هذا النقص عبر تشكيل حكومة انتقالية أكثر شمولا، ولن نعرف مدى تحقق ذلك إلا بمرور الوقت.

ثالثا، صياغة دستور جديد يحل محل دستور 2012 لنظام الأسد. وستتركز أبرز نقاط الخلاف على:

   – طبيعة الهيكل الإداري (هل سيكون نظاما مركزيا أم سيعتمد الحكم المحلي).

   – هوية الدستور (هل سيكون مدنيا أم سيستند إلى الشريعة الإسلامية).

رابعا، إجراء انتخابات حرة وتعددية في موعد يُحدد لاحقا، بحيث يتمكن الشعب السوري من اختيار من يحكمه.

وستكون إعادة بناء الاقتصاد السوري بعد سنوات من التدمير تحديا بالغ الصعوبة للجميع، فقد انكمش الاقتصاد السوري بنسبة 85% بين عامي 2011 و2023، بينما تُقدر تكلفة إعادة الإعمار بما لا يقل عن 300 مليار دولار.

ورغم احتمال تقديم المجتمع الدولي وبعض القوى الإقليمية دعما ماليا فسيبقى هذا الدعم محدودا، وستظل سوريا بحاجة إلى إيجاد مواردها الخاصة من خلال:

– تحصيل الضرائب من السكان.

– جذب الاستثمارات الأجنبية.

– تعزيز القطاعات الإنتاجية والصناعية والتصدير.

– الاستغلال الأمثل لمواردها الطبيعية.

ولعل المورد الأهم لسوريا هو النفط، الذي بلغ إنتاجه قبل عام 2011 نحو 380,000 برميل يوميا. وتخضع حقول النفط، اليوم، لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، التي تموّل عملياتها العسكرية والإدارية عبر بيع النفط بأسعار تقل كثيرا عن الأسعار العالمية.  فلا بد إذا من تحرير النفط من سيطرة وحدات حماية الشعب واستغلاله لصالح الشعب السوري.

وفيما يتطلع السوريون إلى رفع العقوبات، فإن ذلك سيظل مرهونا بشروط سياسية وقانونية قد يستغرق تحقيقها زمنا طويلا.  وقد صرح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بأنه يعتزم الابتعاد عن الملف السوري باعتباره “شأنا سوريا،” غير أن هذا يبدو أمرا عزيزا على التحقق. ويبقى حجم الدور الأميركي في سوريا مسألة محورية خلال المرحلة المقبلة.

ومع ذلك، فثمة مخاوف من حدوث أسوأ السيناريوهات في الفترة المقبلة، تبرز هذه  السيناريوهات الاحتمالات التالية:

– قد تفرض الجماعات السلفية رؤيتها المتشددة للإسلام على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، وتؤسس حكومة تستند إلى مبادئها الأيديولوجية.

– بالمقابل، قد تسعى “وحدات حماية الشعب” إلى ترسيخ مشروع “الإدارة الذاتية” وتطويره إلى مراحل أخرى أبعد مستقبلا.

– وقد تتعرض وحدة الأراضي السورية للتهديد إذا سعت الأطراف الكردية والدرزية والعلوية إلى تحقيق طموحات انفصالية. (ويجدر بنا أن ننتبه هنا إلى إشارات إسرائيل الأخيرة حول حماية الأقليات في سوريا، ولا سيما الأكراد والدروز، فهي ليست مجرد صدفة).

– وقد يحاول نظام الأسد استعادة نفوذه بدعم من إيران وروسيا.

– وقد تنزلق سوريا مجددا إلى حالة من الفوضى والحرب الأهلية.

لا ريب في أن الرئيس أردوغان قد نجح، بعد اثنتي عشرة سنة، في تحقيق اختراق مهم فيما يخص الملف السوري، وهو أحد أصعب الملفات التي واجهها، بعد الوضع الاقتصادي في تركيا. ومن هنا يمكن فهم زيارة رئيس المخابرات التركية، إبراهيم قالن، إلى دمشق والتي قُصِد منها أن تبدو كاستعراض واضح لنفوذ تركيا، فإذا كانت مشاهد قالن وهو يتجول في شوارع المدينة بسيارة يقودها أحمد الشراع، وصورته أثناء الصلاة في الجامع الأموي، رسالة رمزية مدروسة تُظهر الثقل السياسي والدبلوماسي لأنقرة في سوريا، فقد حققت هدفها بوضوح.

لكن هذه الخطوة الاستثنائية أثارت جدلًا واسعًا وطرحت تساؤلات بين السوريين والمراقبين الأجانب. وفي هذا السياق، سارع وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى توضيح أن زيارة رئيس المخابرات إلى دمشق جاءت لنقل التفاهمات التي أُبرمت مع القوى الإقليمية والدولية. وأكد فيدان أن الرسائل التي حملها إلى دمشق تضمنت:

•        منع التنظيمات الإرهابية من استغلال المرحلة السياسية الجديدة.

•        ضمان معاملة عادلة للأقليات، وبخاصة المسيحيين والأكراد والعلويين والتركمان.

•        تشكيل حكومة شاملة تمثل جميع الأطياف في المرحلة المقبلة.

•        التأكيد على ألا تشكل سوريا تهديدا لجيرانها.

وفي خطوة لافتة، أعادت تركيا فتح سفارتها في دمشق بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول، بعد إغلاق دام اثنتي عشرة سنة، وهو القرار الذي اتخذته شخصيا خلال فترة عملي سفيرا لتركيا آنذاك.

باختصار، خلال الأسبوعين الماضيين، حققت تركيا مكاسب غير مسبوقة على الساحة الدولية، وأصبحت تُطرح كفاعل رئيسي في الملف السوري، وبرزت كطرف محوري قادر على تشكيل مستقبل سوريا في شتى الميادين، من تسهيل العملية السياسية وإعادة الإعمار، إلى منع عودة “داعش” وضمان عودة اللاجئين.

ولكن على الرغم من الموقف المتميز الذي تحتله تركيا حاليا، لا تزال التحديات قائمة وعدم اليقين ماثلا. ولذلك، يتعين على أنقرة توخي الحذر واتخاذ خطوات مدروسة، لأن الفشل في تحقيق انتقال سياسي ناجح في سوريا واحتمالية العودة إلى الفوضى سيُلقيان بظلالهما الثقيلة على تركيا.

لهذا السبب، تؤكد تركيا التزامها بدور بناء وداعم لتحقيق حل شامل ومستدام ودائم للأزمة السورية. 

المجلة

——————————————

العدالة الانتقالية.. حجر الزاوية لبناء سوريا ما بعد التحرير/ نبراس إبراهيم

2024.12.20

في الثامن من ديسمبر، طوى الشعب السوري صفحة مظلمة من تاريخه بعد عقود من حكم نظام الأسد الطاغية، الذي ترك خلفه إرثًا من الجرائم والانتهاكات المروعة. ومع تحرير البلاد، انفتحت أبواب السجون لتكشف عن فظائع التعذيب، في حين تعيد صور المدن المدمرة إلى الأذهان أهوال القصف الوحشي الذي استهدف المدنيين الأبرياء. ومع كل حالة تظهر، يتجدد السؤال المحوري: كيف يمكن مواجهة هذا الإرث الثقيل من دون السقوط في دوامة الانتقام؟

الإجابة ليست سهلة، ولكنها تبدأ بالعدالة الانتقالية، كمسار شامل لمعالجة آثار الماضي المؤلم وإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة.

جرائم النظام: ضرورة المحاسبة

مع تحرير سوريا وفتح السجون، تتوالى التقارير عن الجرائم المروعة التي ارتكبها النظام بحق أبناء الشعب السوري. صور الجثث الهزيلة في أقبية التعذيب، وقصص المعتقلين الذين فقدوا حياتهم تحت وطأة التعذيب الممنهج، أظهرت جانبًا من المأساة. لكن الكارثة الكبرى تكمن في مشاهد الدمار التي خلفها القصف الوحشي الذي استهدف أحياء سكنية، أسواقًا مكتظة، ومستشفيات مليئة بالجرحى والأطفال.

المحاسبة هنا ليست مجرد مطلب شعبي، بل ضرورة قانونية وأخلاقية لضمان العدالة ومنع تكرار هذه الجرائم. يجب أن تشمل المحاسبة:

    محاكمة الضباط العسكريين المسؤولين عن القصف الوحشي: قادة الفرق العسكرية والطائرات الذين أمروا أو نفذوا هجمات عشوائية أو ممنهجة ضد المدنيين.

    محاسبة المسؤولين عن استهداف المستشفيات والمدارس: استهداف المنشآت المدنية هو انتهاك صريح للقانون الدولي الإنساني، ويجب أن يُواجه بالعدالة.

    تقديم مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية إلى العدالة الدولية: ضمان أن تصل المحاسبة إلى أعلى هرم القيادة العسكرية والمدنية في النظام، الذين خططوا وأشرفوا على هذه الجرائم.

دور العدالة الانتقالية في سوريا المحررة

العدالة الانتقالية في سوريا لا تقتصر على محاسبة المسؤولين عن التعذيب فقط، بل تشمل مواجهة كل الجرائم الكبرى التي ارتكبها النظام، بما في ذلك القصف الوحشي، من خلال خطوات شاملة:

1. جبر الضرر للضحايا وأسرهم

ضحايا القصف، سواء كانوا من الجرحى أو من عائلات القتلى، يحتاجون إلى تعويضات مادية ومعنوية. إعادة بناء منازلهم ومدنهم المدمرة هو جزء أساسي من تحقيق العدالة.

2. تأسيس لجنة للكشف عن الحقيقة

على غرار تجارب دول أخرى، يجب تشكيل لجنة وطنية تعمل على توثيق الجرائم التي ارتكبها النظام، بما في ذلك الهجمات الجوية والبرية التي استهدفت المدنيين، للكشف عن المسؤولين عنها.

3. الإصلاح العسكري

إعادة هيكلة الجيش والمؤسسات الأمنية ضرورة لضمان عدم تكرار الجرائم. يجب فصل القادة الذين تورطوا في الجرائم واستبدالهم بقيادات ملتزمة بحماية المدنيين واحترام القانون الدولي.

4. تعزيز المحاكمات العادلة

محاسبة المسؤولين عن القصف الوحشي، سواء كانوا طيارين، ضباطًا، أو مخططين، يجب أن تتم عبر محاكمات عادلة وشفافة تحترم حقوق الإنسان، لتعزيز الإيمان بالعدالة بعيدًا عن الانتقام.

التحديات أمام العدالة الانتقالية في سوريا

تطبيق العدالة الانتقالية يواجه تحديات ضخمة، أبرزها:

    غياب مؤسسات قضائية قوية: النظام السابق دمر القضاء وجعل منه أداة للقمع. بناء قضاء مستقل هو ضرورة لتطبيق العدالة.

    التعقيد السياسي والعسكري: وجود قوى وأطراف متباينة قد يجعل المحاسبة عملية حساسة تحتاج إلى توافق داخلي ودعم دولي.

    حجم الدمار والمعاناة: ضخامة الانتهاكات وضيق الموارد قد يؤخر جبر الضرر وإعادة الإعمار.

العدالة أم الانتقام؟

رغم فداحة الجرائم، يجب على سوريا أن تميز بين العدالة والانتقام. ففي حين يغذي الانتقام الكراهية والانقسام، تقدم العدالة الانتقالية مسارًا للمحاسبة الشفافة التي تعالج جذور الأزمة وتمنع تجددها.

ختامًا: نحو سوريا عادلة ومستقرة

تحرير سوريا من حكم الأسد الطاغية هو خطوة أولى نحو الحرية، لكن السلام الحقيقي لن يتحقق من دون معالجة إرث الجرائم التي خلفها النظام. العدالة الانتقالية ليست رفاهية، بل ضرورة لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، وجعل سوريا نموذجًا لدولة تحترم حقوق الإنسان وتضمن العدالة لجميع مواطنيها.

محاسبة العسكريين الذين أمروا ونفذوا القصف الوحشي، مع محاكمة المسؤولين عن التعذيب والانتهاكات الأخرى، هي الطريق الوحيد لإعادة الحقوق لأصحابها وضمان عدم تكرار هذه الجرائم. سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية لتأسيس دولة قانون وعدالة، ولن يتحقق ذلك إلا عبر إرادة وطنية ودولية صادقة تضع العدالة في صدارة الأولويات.

تلفزيون سوريا

————————–

مستقبل سوريا.. ثقة تُبنى وتشاركية تُصنع/ علي سفر

2024.12.20

خوفان يسيطران على نفوس السوريين، الأول، هو خوف تاريخي من مقاربة السياسة، إذ جعل النظام البعثي الأسدي، وعبر سياسته القمعية الدموية الناس تخاف من المشاركة، في أي فعل يتعلق بالحكم والسيطرة، وما السجون التي تتكشف اليوم مآسيها إلا تلك البقعة المخيفة التي كان الجميع يعيش الرهبة من أن يقادوا إليها في ليل بهيم!

الثاني، وهو خوف البشر من المستقبل. وهو هنا في حالة السوريين مركّب بطريقة معقدة؛ فالأسد هرب، وهناك من أمسك بزمام السلطة، وثمة مشاريع شتى مطروحة ومتداولة، للمضي في المرحلة الانتقالية.

لكن هؤلاء الذين يمسكون بالدفة، وسط هذا الظرف المتلاطم، لا يستجيبون وفق الإيقاع المتعجل، الذي يحكمنا جميعاً بعد زوال الغمة الكارثية. فنحن، دون مجاملة، أصحاب حاجة، ويمكن أن يتهمنا مؤيدوهم بأننا رُعنٌ! بناء على ذلك، لكنهم لا يستطيعون الإجابة عن الأسئلة الملحة التي يطرحها الجميع، من المعارضة السياسية في الخارج والداخل، وحتى الشباب الفَتِيّ الذي نزل إلى الشوارع، ليمنح المنتصرين توكيلاً، بناء على إنجازهم التاريخي، مروراً بكل النخب، في كل المسارات والمجالات!

الخوف هنا ومع الإلحاح، يتحول إلى رعبٍ من سقوط التجربة في فخاخ منصوبة لها، تستدعي الكلام عن ثورة مضادة، ولا يخفى على أحد أن ثمة من يُوقد النار تحتها، على مستويي الداخل والإقليم، وتظهر علاماتها من حجم أنشطة الذباب الإلكتروني الذي يغرق صفحات التواصل الاجتماعي، على مدار الساعة بالأخبار الصحيحة والكاذبة، من أجل خلق التشويش المطلوب، لزعزعة ثقة السوريين بالقوى السياسية والعسكرية، الناهضة الآن.

كيف يمكن للإدارة الجديدة؟ ولنقل: كيف يستطيع أحمد الشرع قائد إدارة العمليات العسكرية، أن يدير الوقائع، على المستوى الشعبي، لتفويت الفرصة على أعداء حرية السوريين، داخل سوريا وخارجها؟

هنا، لا نريد أن ننصب أنفسنا حكماء، بل نريد مقاربة الأمر من خلال تجارب الشعوب الأخرى، وتاريخ الثورات المضادة الشائن، لنطرح الأفكار، ولنتحدث عن مخاوفنا وهواجسنا، بوضوح كامل، إذا لا يمكن لنا وبعد أن مضى على سقوط نظام الإبادة الأسدي أكثر من عشرة أيام، تجاهل معرفتنا بالخطوات المطلوبة، دون الإفصاح عنها، في سياق تحتاج إليه البلاد، يقوم على التشاركية.

الخوف السوري التاريخي من الحديث بالسياسة، وطالما انتفت أدوات القمع يحتاج إلى روافع يراها الجميع، وهي هنا ذات وجهين، وجه يبدأ من سعي السوريين لإنشاء تشكيلاتهم السياسية والمجتمعية، كأطر للمشاركة في القرارات المصيرية، ووجه يتعلق بدعوة السيد الشرع السوريين (قوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني ونقابات وتجمعات مهنية، وشرائح تكنوقراط، تتمثل فيها النساء مناصفة) إلى صناعة مستقبلهم بأنفسهم، عبر الاجتماع في المؤتمر السوري العام، ليضعوا مساراً متفقاً عليه يمشي فيه الجميع نحو الضفة الأخرى، لقد سبق له أن أطلق تصريحات تقارب هذا التوجه، لكن آن أوان الأفعال، وانقضى زمن الأقوال.

اللقاء بين الوجهين لا يُفترض أن يكون محكوماً بالبشاشة دائماً، بل يمكن أن تكون الوجوه متجهمة، إذا شعر أحد الطرفين بأن الآخر يريد أن يستولي على ما لدى الآخر. السوريون يريدون أن تتحقق أحلامهم بالدولة المدنية الديمقراطية، وأحمد الشرع يريد أن يضمن المضي بالإنجاز نحو حالة الاستقرار، والبدء ببناء الدولة الجديدة.

عشرة أيام لا تكفي لقراءة الهواجس بإفصاح كامل، لأن الوقت يمضي بالتبريكات والاحتفالات، وباللقاءات الدبلوماسية، في حين يجري الاستعداد عند كثيرين للمعركة السياسية القادمة، ويستعد آخرون على مستوى الإقليم للعبث بالوضع السوري، فيما تضع القوى الدولية الفاعلة الثائرين تحت الاختبار، قبل أن يبادروا تجاهها بالخطوات التي تساعدها!

هذه الأيام المنقضية، مرت وسيمر غيرها، ولن تعلق في الذاكرة إلا حين تتحول النوابض فيها، نحو الإنجازات، ولعل أهم ما يجب تحقيقه الآن، هو أن يشعر السوريون بقدرتهم على التغيير عبر التشاركية، والثقة المتبادلة، وهذا لن يتحقق إلا إذا فتح الجميع الأبواب والنوافذ، لتمر الأفكار والهواجس بيسر بين أصحاب البيت الواحد.

تلفزيون سوريا

————————-

أصداء سقوط الأسد تتردّد عبر المتوسط/ فريدريك ويري

20 كانون الأول 2024

تقدّم مدوّنة “ديوان” الصادرة عن مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تحليلات معمّقة حول منطقة الشرق الأوسط، تسندها إلى تجارب كوكبةٍ من خبراء كارنيغي في بيروت وواشنطن. وسوف تنقل المدوّنة أيضاً ردود فعل الخبراء تجاه الأخبار العاجلة والأحداث الآنيّة، وتشكّل منبراً لبثّ مقابلات تُجرى مع شخصيّات عامّة وسياسية، كما ستسمح بمواكبة الأبحاث الصادرة عن كارنيغي.

للمزيد من المعلومات

في أعقاب التطورات الكبرى في سورية، كان الإتيان على ذكر ليبيا أمرًا لا مفرّ منه، لكن حدث ذلك في معظم الأحيان في سياق مقارنات مضلّلة وغير مناسبة بين الوضع في سورية من جهة، والانقسامات التي شهدتها ليبيا وانزلاقها إلى لُجج الحرب الأهلية بعد الإطاحة بالدكتاتور معمّر القذافي في العام 2011 من جهة أخرى. افتقرت هذه التحليلات إذًا إلى فهمٍ معمّق للعوامل المشابهة التي ساهمت خلال العقد الذي أعقب الانتفاضات العربية في تشابك مصيرَي البلدَين وتشكيلهما، والأهم، لآلية تأثير الانهيار المذهل لنظام بشار الأسد على الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية للفصائل الليبية.

تتخبّط الفصائل الليبية منذ سنواتٍ عدة في حالة جمودٍ سياسي حال في الغالب دون نشوب صراعٍ كبير في البلاد، لكنه اعتمد إلى حدٍّ بعيد على تفاهمٍ بين روسيا وتركيا اللتَين تنتشر قواتهما العسكرية بشكلٍ كبير على الأراضي الليبية. وقد يؤثّر سقوط الأسد على هذا التوازن الهشّ، من خلال تغيير المواقف الاستراتيجية لكلٍّ من هاتَين القوتَين في المنطقة، وبخاصّةٍ من خلال عرقلة قدرة موسكو على نقل المقاتلين والأسلحة إلى ليبيا.

غالب الظن أن تبلغ هذه التداعيات ذروتها في شرق ليبيا، حيث وفّر نظام الأسد منذ مدّة طويلة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، الدعم للإدارة القمعية التابعة للمشير خليفة حفتر وأبنائه، وذلك من خلال إيديولوجيا مشتركة عمادها السلطوية وحكم القلّة، وشبكات الأعمال غير المشروعة التي ساهمت في تعظيم ثروات النظامَين، فضلًا عن المساعدات العسكرية التي تلقّياها من روسيا.

بعد أن عمَد حفتر إلى توطيد أركان حكمه في شرق ليبيا، عَقِب صراع دموي على السلطة في مدينة بنغازي امتدّ من العام 2014 إلى العام 2017، سُرعان ما أدرك أن الأسد يمكن أن يوفّر نموذجًا للشرعية السياسية ومصدرًا للدعم العسكري والاقتصادي. لذا، أعادت حكومة حفتر ومقرّها شرق البلاد افتتاح السفارة الليبية في دمشق في العام 2020، وحظيت هذه الخطوة بتشجيع وتسهيل الإمارات العربية المتحدة التي تضطلع منذ فترة طويلة بدور سياسي وعسكري داعمٍ له، وكانت آنذاك تقود الجهود العربية لإعادة تطبيع العلاقات مع الدكتاتور السوري. وبدت رمزية هذه الخطوة واضحة للمواطنين في البلدَين. فقد مالت الدفّة لصالح الثورة المضادّة والمناهضة للإسلاميين بعد العام 2011، بقيادة أبو ظبي، وبدرجة أقلّ المملكة العربية السعودية، وكذلك للسردية القائلة إن الحكّام السلطويين ذوي القبضة الحديدية، على غرار حفتر والأسد، هم وحدهم القادرون على ضمان الاستقرار.

في الوقت نفسه، حين عمَدت الحكومة التركية إلى إرسال آلاف المرتزقة السوريين الذين قاتلوا نظام الأسد لفترةٍ طويلة، إلى طرابلس ومحيطها – في إطار تدخّلٍ عسكري أوسع نطاقًا لدعم الحكومة الليبية المُعترَف بها دوليًا والتي كانت قوات الميليشيا التابعة لحفتر تحاول إسقاطها – لجأ حفتر إلى استقدام آلاف المقاتلين السوريين الموالين للأسد، والذين عملت روسيا على تسهيل وتنسيق سفرهم إلى ليبيا بتفويضٍ من النظام السوري. ومع أن تأثير هؤلاء المقاتلين في ساحة المعركة لم يكن كبيرًا في نهاية المطاف، ساهم توافدهم في توسيع التعاون اللوجستي بين موسكو ودمشق، وتجلّى ذلك من خلال زيادة الدعم العسكري والاقتصادي لنظام حفتر، واستمرّ إلى حين وقوع الأحداث الجسام في سورية مؤخرًا.

إضافةً إلى العلاقات السياسة وتدفّقات الأسلحة، ارتبط الشرق الليبي بسورية عبر شبكات متينة ومتداخلة من التجارة غير المشروعة، شملت بيئتَين واسعتَين من الجريمة المنظّمة صبّ التفاعل بينهما في خدمة الطرفَين. فعلى مدى سنوات، نشطت شركة الطيران السورية الخاصة “أجنحة الشام”، التي لطالما دعمت نظام الأسد من خلال نقل الأموال والمخدّرات والمعدّات والمقاتلين، ومن ضمنهم المرتزقة الروس، في عمليات نقل المهاجرين غير النظاميين من بنغلادش وباكستان وسورية وفلسطين ومصر والهند إلى شرق ليبيا. وبعد وصولهم إلى هناك، تولّت الميليشيات المرتبطة بحفتر تيسير وتنسيق رحلتهم المحفوفة بالمخاطر عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، بقيادة ابنه الطموح صدام الذي حقّق أرباحًا طائلة من هذه التجارة. وعلى الرغم من الاتفاقات التي أبرمتها بعض دول الاتحاد الأوروبي مع حفتر لكبح موجات الهجرة، لم تتأثّر عمليات نقل المهاجرين عبر “أجنحة الشام” من دمشق إلى شمال شرق ليبيا واستمرّت من دون انقطاع. وأصبحت هذه الرحلات جزءًا لا يتجزّأ من شبكات الإتجار بالبشر عبر البحر الأبيض المتوسط، وبلغ عدد الذين سافروا على متنها أحيانًا حوالى نصف إجمالي الوافدين إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر ليبيا. حقّقت هذه التجارة إيراداتٍ سنوية بملايين الدولارات، وتمّ تخصيص جزءٍ كبير منها لتحالف حفتر المسلّح.

لم يستفِد حكم حفتر في شرق ليبيا من الإتجار بالبشر فحسب، بل أيضًا من التعاون مع النظام السوري في تهريب المخدّرات. فقد أصبح إنتاج الكبتاغون، وهو منشّط يحتوي على مادّة الأمفيتامين، قطاعًا يدرّ مليارات الدولارات في سورية خلال عهد الأسد، وانتشرت هذه الحبوب في السوق الليبية عبر ممرّ دمشق-بنغازي، ما أسهم في إثراء صدام حفتر وشركائه. ومع أن هذا المخدّر الخطير والمُسبّب للإدمان محظورٌ في الكثير من البلدان، فقد انتقل من ليبيا جنوبًا وغربًا نحو السودان ومنطقة الساحل والجزائر وغيرها. في موازاة ذلك، كانت رحلات “أجنحة الشام” نفسها تُستخدم بصورة منتظمة لنقل الأسلحة من السوق السوداء في سورية إلى ليبيا التي كانت تشهد ازدهارًا في تجارة السلاح.

علاوةً على ذلك، ازدهر طريق بحري بين البلدَين، أتاح نقل شحنات السلع غير المشروعة، بما في ذلك عمليات تهريب الوقود التي انتشرت بشكل واسع في شرق ليبيا خلال السنتَين الماضيتَين تحت إشراف صدام حفتر. فقد أُعيد، بصورةٍ غير قانونية، تصدير قسم كبير من الوقود الذي استوردته المؤسسة الوطنية للنفط الليبية، ووصل بعض هذه الشحنات إلى سورية في نهاية المطاف. وكشف خبراء لدى منظمة The Sentry للتحقيقيات الاستقصائية الدولية عن أن قيمة الإيرادات السنوية التي أدرّها إجمالي التبادلات التجارية غير المشروعة بين ليبيا وسورية بلغت 300 مليون دولار تقريبًا.

اضطلع ماهر الأسد، شقيق بشار الأصغر وقائد الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة المُدرّعة النخبوية في الجيش السوري، بدورٍ أساسي في جميع مفاصل شبكة الجريمة المنظّمة السورية الليبية، إذ أشرف على إنتاج الكبتاغون وتنسيق عمليات غسل الأموال التي عظّمت ثروات الموالين الأساسيين للنظام وساعدته في التهرّب من العقوبات الدولية. يُشار إلى أن ماهر الأسد سافر في آذار/مارس 2023 إلى شرق ليبيا للقاء صدام حفتر ومناقشة سبُل تعزيز تعاونهما في الأنشطة غير المشروعة، ما سلّط الضوء على العلاقات الشخصية للغاية والروابط الرفيعة المستوى التي عزّزت دعم النظام السوري لسلطة حفتر.

نتيجة التطورات الأخيرة في سورية والقطع المفاجئ لهذه الروابط، بات حفتر وجماعته في وضعٍ جديد غير مريح. وبدا ذلك جليًا في التغطية المحدودة التي خصّصتها وسائل الإعلام الموالية له للأحداث في سورية، فضلًا عن غياب ردود فعلٍ شعبية ملحوظة في المدن الواقعة شرق ليبيا، ما تعارض بشكل صارخ مع الاحتفالات الصاخبة التي شهدتها مدينتا مصراتة وطرابلس في غرب البلاد. فالرحيل السريع للأسد، الذي صوّر نفسه، على غرار المشير الليبي، بأنه حصنٌ منيع ضدّ الإسلاموية ونعت خصومه بالإرهابيين والجهاديين، أضرّ بسرديّة ديمومة الرجل القوي، مع أن القادة العرب السلطويين الآخرين المؤيّدين لحفتر، مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الإماراتي محمد بن زايد، ما زالوا راسخين في مناصبهم. مع ذلك، قد تدفع التغييرات في سورية حفتر إلى إعادة تشكيل الركائز اللوجستية التي تقوم عليها شبكته الإجرامية، وربما العمل مع فلول نظام الأسد في المنفى والعصابات التابعة لها، أو التركيز بشكلٍ أكبر على مصادر تمويل أخرى. وقد يحثّه الوضع الجديد أيضًا على إعادة النظر في اصطفافاته السياسية داخل البلاد وخارجها، ولا سيما أن أحد داعميه الخارجيين الأساسيين يرزح أيضًا تحت وطأة الضغوط.

وبالفعل، ترتبط النتيجة الرئيسة الثانية التي يمكن أن تحدث في ليبيا عَقِب إسقاط الأسد بهذا الداعم، أي روسيا. لقد أدّت موسكو دورًا مهمًّا في تشجيع وصول حفتر إلى السلطة بدءًا من أوائل العام 2014، عبر مساندة حملته العسكرية في شرق ليبيا، وتوفير الفنيين والمستشارين وتقديم الدعم الاستخباراتي والدعائي، وطباعة الأوراق النقدية لحكومته غير المُعترَف بها – حتى في ظلّ انخراطها مع قوى أخرى في ليبيا. ومع هجوم حفتر على حكومة طرابلس في العام 2019، زادت روسيا تواجدها في ليبيا من خلال نشر آلاف المرتزقة من مجموعة فاغنر (التي أُعيدت هيكلتها منذ ذلك الحين)، وأفراد عسكريين نظاميين، وطائرات، وأنظمة دفاع جوي. وفيما فشلت قوات حفتر في السيطرة على السلطة في العاصمة بسبب التدخّل العسكري التركي، تكيّفت موسكو بسرعة مع الوضع، واحتفظت بالكثير من عناصرها وأسلحتها في قواعد جوية رئيسة بالقرب من منشآت النفط. وفي السنوات الأخيرة، إلى جانب دعم موسكو المستمر لحفتر، استخدمت روسيا ليبيا كقاعدة حيوية لإرسال مقاتلين وإمدادات عسكرية إلى دول منطقة الساحل الأفريقي وغيرها.

قد يهدّد سقوط الأسد، أو يعقّد على أقلّ تقدير، طريق الإمداد هذا إلى أفريقيا، وإلى شرق ليبيا، وهذا أمرٌ بالغ الأهمية لحفتر. يُعزى ذلك إلى أن معظم الإمدادات مرّت عبر سورية، وخصوصًا عبر قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية في اللاذقية. وقد اتّخذ الكرملين خطوات للتوصّل إلى اتفاق مع القيادة الجديدة في سورية بشأن الاحتفاظ بهاتَين القاعدتَين العسكريتَين الحيويتَين، إلّا أن حصيلة هذه المفاوضات غير مؤكّدة. فمن دون السلطة المركزية لنظام الأسد الاستبدادي، قد يكون الحفاظ على قاعدتَي طرطوس وحميميم أكثر تكلفة وأشدّ تعقيدًا لموسكو، ولا سيما في ظلّ وجود معارضة محلية أو بنى لوجستية هشّة، وكلّ هذا من شأنه أن يؤثّر على حفتر.

في وجه حالة اللايقين هذه، قد تُقرّر روسيا ممارسة ضغوط على حفتر من أجل تأمين وصول بحري أكثر ديمومة إلى ميناء طبرق، الذي يشكّل مركزًا يتدفّق عبره الأفراد والمعدّات الروسية إلى أفريقيا. لكن هذه الخطوة قد تلقى معارضةً أكبر من جانب حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، ما يفاقم المعضلة التي يواجهها حفتر في تحقيق توازنٍ بين مطالب داعميه كافة.

بدلًا من ذلك، يمكن لروسيا توجيه شحناتها الجوية إلى القواعد الليبية الخاضعة لسيطرتها. لكن هذا الخيار مكلفٌ أيضًا، والأهم أنه يتطلب إذنًا من تركيا لاستخدام مجالها الجوي. ونظرًا إلى التوتّرات بين البلدَين حول عددٍ من القضايا، وخصوصًا التفاهم القائم بينهما في ليبيا، غالب الظن أن تضع أنقرة شروطًا مقابل بادرة حسن النية هذه.

أما التأثير المُحتمَل الثالث، والأكثر غموضًا، فهو ما إذا سيتغيّر سلوك تركيا في ليبيا، وكيف سيتغيّر، نتيجة التحوّل في موازين القوى الإقليمية لصالحها، عَقِب سقوط الأسد. لم تكتفِ حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد ترسيخ الوجود التركي في شمال غرب ليبيا في العام 2020، بالحفاظ على السلام المنقوص في العاصمة وحولها. بل سعت إلى تحقيق أهداف اقتصادية على ارتباط متزايد بشرق ليبيا – أي الأراضي التي يحكم قبضته عليها الفصيل التابع لحفتر، والذي خاضت أنقرة سابقًا معارك ضدّه خلال الحرب من أجل السيطرة على طرابلس. لكن منذ العام 2021، بذلت تركيا جهودًا كبيرة لزيادة التعاون مع أسرة حفتر وحلفائها، إذ افتتحت قنصلية في الشرق الليبي الخاضع لسيطرة حفتر، وأدّت دورًا فعّالًا في ضمان توقيع الشركات التركية الكثير من العقود لتنفيذ مشاريع في مدن مثل بنغازي ودرنة، حيث تجري عملية إعادة الإعمار تحت إشراف الأسرة بشكلٍ يفتقر إلى الشفافية. يسلّط هذا المسار الضوء على تركيز تركيا الحازم على توسيع نطاق نفوذها في شرق ليبيا. وكما اتّضح في سورية مؤخّرًا، عندما ترى تركيا فرصةً لتعزيز نفوذها، فهي تغتنمها بصورةٍ سريعة وحاسمة، حتى لو تطلّب ذلك الانقلاب على روسيا.

أحد السيناريوهات المحتملة هو أن عملية عرقلة أو تقويض الممرّ السلس الذي كانت تستخدمه روسيا لتزويد حفتر بالمساعدات قد تشجّع الفصائل الليبية المتحالفة مع تركيا في غرب البلاد على تحدّي سلطة أمير الحرب في شرق البلاد، نظرًا إلى أن قدرته على فرض حصار نفطي وإملاء الشروط على حكومة طرابلس اعتمدا جزئيًا على القوة الرادعة المتمثّلة في الوجود العسكري الروسي. وإذا اعتبرت الفصائل المناهضة لحفتر أن هذا الدعم قد تراجع بسبب إجراء موسكو عملية إعادة تقييم لحساباتها أو إعادة نشر لقوّاتها في مرحلة ما بعد الأسد، قد تسعى هذه الفصائل إلى انتزاع السيطرة على منشآت نفطية حيوية، معتبرةً أن تكلفة المواجهة باتت أقلّ في الوقت الراهن.

أما السيناريو البديل، والأكثر واقعيةً، هو احتمال أن تكثّف تركيا تواصلها السياسي والاقتصادي مع حفتر، مستفيدةً من الفرصة التي يتيحها راهنًا انشغال روسيا في التداعيات الناجمة عن سقوط الأسد. إذا اتّبع أردوغان هذا المسار، سيسعى على الأرجح إلى الحفاظ على دورٍ لموسكو على الأرض في ليبيا، ولكنه سيكون أقلّ من السابق، ما قد يزيد من قيمة تركيا لحلف شمال الأطلسي باعتبارها محاورًا وثقلًا موازيًا. وقد يُبدي حفتر استعدادًا لقبول مثل هذه المبادرات من أنقرة، وخصوصًا إذا شعر بأن مكانته على المستوى المحلي قد تتأثّر بسبب إضعاف الشبكة السورية الروسية، فيما يتعرّض لضغوط أميركية وأوروبية من أجل ثنيه عن منح مزيدٍ من القواعد الدائمة إلى روسيا التي تحاول إعادة تجميع ونشر قواتها بعد انهيار النظام السوري.

من الضروري عدم تصوير ليبيا على أنها خاضعة بالكامل للديناميات الخارجية، أو لسياسات الدول الأجنبية التي تتدخّل في شؤونها، والتي لا يقتصر على روسيا وتركيا فحسب، بل تشمل أيضًا منذ فترة طويلة الإمارات العربية المتحدة ومصر وقطر والولايات المتحدة وفرنسا. مع ذلك، غالب الظن أن الأحداث التي شهدتها سورية هذا الشهر، والتي تُضاف إلى الحرب المستمرة منذ عامٍ ونيّف في غزة، سيتردّد صداها داخل المجتمع الليبي، حيث لا تزال القوى السياسية المحلية والفصائل المسلحة تضطلع بالأهمية وتؤدّي دورًا فعّالًا.

صحيحٌ أن الحمى الثورية التي أشعلت انتفاضات العام 2011 قد تبدو خامدة، إلّا أنها لم تنطفئ بعد. كذلك، لا تزال تيارات الإسلام السياسي والجهادي تنشط في الخفاء ومن خلف الكواليس، على الرغم من تراجعها الملحوظ في السنوات الأخيرة، علمًا أن التعبئة السياسية والمسلحة في ليبيا حدثت في الكثير من الأحيان بمعزلٍ عن هذه التصنيفات المحدّدة بشكلٍ فضفاض والتي كثيرًا ما يُساء استخدامها. فمن المهمّ التذكير بمئات الشباب الليبيين الذين ذهبوا إلى سورية للمشاركة في القتال هناك في ذروة الحرب الأهلية، بعد أن جنّدتهم في الكثير من الأحيان شبكاتٌ إسلامية أو جهادية، ولكن مصدر إلهامهم الأعمق تمثّل في تعاطفهم مع النضال الثوري ضدّ طاغية مستبدٍّ شبيهٍ بذاك الذي أطاحوا به في بلدهم. أخبرني أحد هؤلاء المقاتلين المتطوعين ما مفاده: “لقد ذقنا طعم المعاناة، وكنا نعرف أن السوريين يعانون أيضًا”. ولا بدّ من الانتظار لرؤية أي شكلٍ من أشكال التضامن أو التعبئة الأعمق سيلهمه في ليبيا الانتصار المُلفت الذي حقّقته هيئة تحرير الشام والفصائل المرتبطة بها في سورية، وكيف ستتردّد أصداء ذلك في المشهد السياسي في البلاد.

من المُحتمل للغاية أن المأزق السياسي الليبي، الذي منع البلاد من المضيّ قدمًا نحو إنهاء الفترة الانتقالية عبر إرساء سلطة تنفيذية مُنتخَبة شعبيًا وحلّ الانقسامات المؤسسية الكبيرة، قد يتفاقم ويشعل جذوة الصراع في المستقبل القريب. ولن تحدث هذه الانتكاسة نتيجة التحولات المفاجئة في موازين القوى الإقليمية وحدها، بل من خلال تضافر هذه التغييرات مع صدمةٍ كبيرة في الداخل، مثل انكماش الاقتصاد الكلّي، ما من شأنه أن يقوّض مساومات النخب السياسية التي ضمنت حالةً من الاستقرار الهشّ على مدى السنوات الماضية.

مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

——————————

أسلمة سوريا، وتركة الأسد/ ساطع نورالدين

20 كانون الأول 2024

لم تتضح حتى الآن معالم الدولة الإسلامية التي تولد في سوريا هذه الأيام. لكن المقدمات الأولى لا تخطىء، ولا توحي بأن النموذج التركي سيكون هو المثال، والمرجع. لدى “هيئة تحرير الشام” نموذجها الخاص، المبني على تجربة إمتدت اكثر من 15 عاماً..وكانت اخفاقاتها أكثر من نجاحاتها.

هروب الجيش السوري من مواقعه، وفرار عائلة الأسد من قصورها، أمام وحدات عسكرية مسلحة بأسلحة فريدة، خفيفة ومتوسطة، ما زال يطغى على صورة “الانقلاب الأبيض” الذي نفذته الهيئة، وتلقفته واحتفت به على الفور الغالبية الشعبية السورية، بعدما ضاقت ذرعاً بالنظام المخلوع، ونهجه المدمِّر للاقتصاد والامن والاجتماع السوري. لم يكن هناك بديل آخر، وكان الانطباع الشعبي، ولا يزال، هو أن بشار الأسد خان الأمانة، ولم يسلم السلطة لأحد..لأنه فعلا، أراد ان يسلمها الى الهيئة حصراً.

ولا يوصف ما جرى في دمشق في الأيام العشرة الماضية، سوى أنه عملية تسليم وتسلم، سلمية وهادئة ومنظمة، بين النظام وبين الهيئة. وبدا أن الموالين السابقين، كانوا يحذون حذو رئيسهم الفار، ويلتزمون عملياً بآخر أوامره وتوجيهاته، في ما خص نقل السلطة الى الهيئة..في خطوة تشي بأنه كان في فراره المشين، ينتقم من الجيش الذي خذله، ومن المجتمع الذي أنفض عنه. وفي ذلك الخيار ما يبعث فكرة “حرق البلد”، التي لطالما لوح بها نظامه طوال السنوات ال24 الماضية.

لم يكن بشار ينجو بنفسه من المحرقة، بل كان على الأرجح يفتعل حريقاً لن تستطيع سوريا ان تتجنبه إلا بمعجزة. وهذا ليس تقديراً فقط، بل هو في الغالب ميراث أخير من الرئيس الذي لم يعرف عنه، أنه، وحسب علماء وأطباء، كان مصاباً بانفصام الشخصية ( الشيزوفرينيا)، حتى في مستهل رئاسته، مرورا بجميع المحطات الحرجة من حكمه، التي كان يثبت فيها أنه يعيش في عزلة عن الواقع.

أثبت الشعب السوري حتى الأن، أنه لن يعمل بوصية بشار ولن يستجيب لنصيحته. حرق البلد عمل انتحاري مناقض للطبيعة البشرية، والتعاليم الدينية، وهو أيضا خيار سياسي فات أوانه، ولم يعد يخدم أي هدف، لا في السلطة ولا خارجها.. ولا يستجيب لأي نداء يمكن أن يأتي من خارج الحدود السورية، حيث ينفتح نقاش بين تركيا وبين العرب والغرب، حول سبل حفظ الاستقرار الداخلي والوحدة الوطنية..وبناء الدولة الجديدة، ومؤسساتها.

وفي هذا السياق، تستفيد الهيئة، حتى الآن من حقيقة أنها النقيض الفعلي الأقوى والأوحد للنظام المخلوع، الذي ستظل موروثاته شاهداً على أسوأ ما أنتجته سوريا (وبقية الدول العربية، والعالم الثالث) في تاريخها، من سلطة همجية قد يحتاج السوريون الى خمسة عقود جديدة للتخلص من آثارها وعواقبها.

لكن الاعتماد على تلك الصفة الحصرية، أي النقيض للاسدية، لا يخدم طويلاً، ولا ينتظر ثلاثة أشهر، هي عمر الفترة الانتقالية المحددة، وهي أقرب حتى الآن، الى الفراغ الذي يمكن أن يسده آخرون، من داخل السلطة الراهنة، ومن محيطها، قبل خصومها.. تحت الذريعة نفسها التي توفرها الهيئة نفسها، وهي أسلمة سوريا التي تمضي على قدم وساق، ومن المرجح أن تصطدم بقوى تقف على يمين الهيئة، وعلى يسارها ايضاً، حتى قبل ان تبدأ عملية صياغة الدستورالجديد، المؤجلة الى ما بعد شهر آذار المقبل.

تهمة “الاقصاء” التي سارع الائتلاف السوري المعارض الى توجيهها للهيئة، تحدثت بلسان قوى سياسية واجتماعية متعددة، ما زالت تنتظر دعوة من الهيئة للاجتماع، الملحّ فعلا، والبحث في تشكيل المؤتمر( أو المجلس) الوطني من ممثلي مختلف المحافظات والانتماءات السورية المتعددة، باعتبارها خطوة ضرورية لا تحتمل التأجيل لتحديد خطوات ومهل زمنية لتنظيم هيكل الدولة، من دون ربطها بمسألة رفع العقوبات الدولية عن الهيئة، أو عودة النازحين السوريين من الخارج، وهو ما كان رد الغرب عليها سلبياً..بإعتبار ان الشرعية تكتسب من الداخل السوري أولاً، وفي ضوء عملية أسلمة سوريا وحدّها الأقصى.

صفحة الكاتب

———————————-

هؤلاء هم رجال الظل حول الجولاني/ عبدالله سليمان علي

20 كانون الأول 2024

من هم أركان الجولاني؟

يتشكل في سوريا نظام جديد على أنقاض النظام السابق. وجوهٌ وأسماءٌ جديدة ورثت تركة المناصب بامتيازاتها وصلاحياتها، وبدأت توزيعها في ما بينها. وزراء ومحافظون ومديرون عامون وقادة شرطة. إنهم واجهة النظام الجديد الذي يبنيه أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) وسوف يكونون لسانه الناطق ومتحملي المسؤولية أمام الناس، غير أن من لديه قدر قليل من الخبرة بالبناء الهيكلي لـ”هيئة تحرير الشام” وطريقة توزع مراكز النفوذ في مفاصلها الحاكمة، وكيفية تطبيقها أسلوب القيادة من الخلف حفاظاً على سرية هوية بعض الشخصيات، سوف لن يهتم كثيراً بالأسماء والوجوه التي يتسابق حالياً الجميع، من الأمم المتحدة إلى وفود الدول الأوروبية، إلى وسائل الإعلام الغربية والعربية، للاجتماع معها، إلا بمقدار ما كان لديه قناعة بأن وزراء الحكومات السورية المتعاقبة في عهد “البعث” كانوا أصحاب قرار حقيقي وفاعل. وهو ما انكشف عملياً باعتراف آخر رئيس حكومة، محمد غازي الجلالي بأنه لم يكن يتواصل مع الرئيس إلا نادراً، أما الوزراء فقد كان دون تواصلهم معه طوق شديد لا يمكن اختراقه بحسب الاعترافات التي أدلى بها بعض الوزراء بعد إطاحة الرئيس الفارّ، وهو ما يمكن الاستناد إليه لتقييم أهمية الوزراء في هيكلية النظام السابق ومدى تضاؤل دورهم أمام أصحاب النفوذ الحقيقي أو شركاء السلطة مع آل الأسد، كقادة الأجهزة الأمنية والقيادة المركزية لحزب “البعث” (القيادة القطرية سابقاً) وكذلك بعض كبار رجال الأعمال.

واليوم تكاد ترتسم هيكلية جديدة لها المفاصل والدرجات نفسها لكن بمسميات مختلفة ومظاهر مغايرة. فهناك رجال من قادة الصف الأول في “هيئة تحرير الشام”، بل من الحلقة الضيقة التي تحيط بالجولاني منذ سنوات، لم تظهر أسماؤهم في التعيينات الجديدة ولم يتصدروا الشاشات. وذلك ليس استخفافاً بهم أو إنقاصاً من قدرهم، بل لأن قيمتهم وأهميتهم ومتطلبات حمايتهم تقتضي منهم العمل من خلف الستار ومن دون ترك بصماتهم وراءهم. لكن هؤلاء هم من يرسمون ملامح سوريا الجديدة، وليس الجالسون على كراسي المناصب. وهم من يمتلكون النفوذ الحقيقي والكلمة الأخيرة، وليس من يتحدثون عبر الإعلام. وهؤلاء هم من سيحكم بهم الجولاني سوريا في المرحلة المقبلة.

ومن أبرز هؤلاء:

– أبو أحمد حدود، واسمه الحقيقي على الأرجح أنس خطاب من مدينة جيرود في ريف دمشق. وهو الأمير الأمني العام في إدلب و”هيئة تحرير الشام”. وهو بالتالي المسؤول عن “لعبة الأمن” التي تفاخر الجولاني بمدى خبرته بها في معرض حديثه عن موضوع حمايته الشخصية من الاغتيال. وحدود هو المشرف على جهاز الأمن العام الذي انتشر في معظم المحافظات التي سيطرت عليها الهيئة وبدأ يتولى فيها مهمات تثبيت الأمن وجمع المعلومات وبناء شبكات استعلام (تجسس) عن أبناء كل منطقة. ويفترض أن يكون حدود هو اليد الضاربة في الخفاء لكل من يعارض الجولاني في المستقبل، وذلك اقتداءً بما حدث في إدلب.

– مختار التركي، وهو تركي الجنسية، واسمه الحقيقي غير معروف، لكنه يمثل الرقم الأول من حيث الأهمية العسكرية في “هيئة تحرير الشام”، بغض النظر عمن يقود الجناح العسكري أو الألوية المختلفة. ومختار التركي هو من قاد غرفة عمليات “ردع العدوان” التي أطاحت النظام. وقد أحيطت هويته بكتمان شديد طوال الأعوام السابقة، فلم يتسرب منها أي تفاصيل إلى الإعلام، وهو ما يدل على مدى مركزية الرجل في هيكلية الهيئة، ومدى أهميته لكل من الهيئة والاستخبارات التركية، لأنه لو كانت تركيا غير راضية عن أدائه لكانت سربت شيئاً عنه، وهو ما لم يحدث. ويأتي بعده شخص آخر هو أبو حسين الأردني، من الأردن، وهو شديد الولاء للجولاني.

ومن المتوقع أن يكون لمختار التركي دور كبير في تأسيس الجيش السوري الجديد، ولكن نظراً إلى جنسيته الأجنبية فالاحتمال الأرجح أن يتولى الإشراف على التشكيلات الجهادية ضمن الهيئة مثل “العصائب الحمراء” و”كتائب ابن الوليد” التي من المرجح أن الجولاني لن يفرط بها ويقبل بدمجها في الجيش المستقبلي بل سيحافظ على استقلاليتها ووحدة بنيتها مع تبعيتها الشكلية لوزارة الدفاع.

وفي المجال السياسي والإعلامي يبرز اسم زيد العطار الذي جرى تداوله منذ سنوات على أنه مسؤول الإدارة السياسية في قيادة إدلب. لكن الإسم غير حقيقي بدليل أن الرجل نفسه يستخدم أكثر من اسم مستعار وأبرزها: حسام الشافعي، وأبو عائشة الحسكاوي. ولم تعرف حتى اليوم هويته الحقيقية، رغم أن عبيدة أرناؤوط يتحدث إلى وسائل الإعلام بصفته ناطقاً بإسم الإدارة السياسية التي لم يكن يعلم أحد من يقودها. وقد قررت الإدارة السياسية المجهولة الرئيس تعيين ثلاثة أشخاص مسؤولين عن الملف الديبلوماسي وعمل السفارات داخل سوريا، هم: محمد عبد الله الغار، ومحسن محمد مهباش، ومحمد قناطري.

ومن المتوقع أن يمسك زيد العطاء بملف الخارجية والعلاقات مع الدول، سواء تم تعيينه بمنصب وزير، أم ظل محافظاً على سريته.

وهناك أشخاص آخرون عديدون يستند إليهم الجولاني في تحسين علاقاته العشائرية أو يثق بهم في إدارة الملفات المالية، أبرزهم من يمتون إليه بصلة مصاهرة كشقيقي زوجته حذيفة وقتيبة بدوي، وفيما عُرف أن الأخير تسلم مديرية الجمارك العامة التي قرر حلها، فإنَّ الأول كان يتسلم “لواء طلحة” العسكري، ومن المتوقع أن يكون من الأشخاص الذي سوف يكلفهم الجولاني العديد من المهمات السرية.

النهار العربي

———————————–

دم ورصاص.. وكيماوي/ عقبة زيدان

20-ديسمبر-2024

فرّ هذا المخلوق المسخ الذي يدعى بشار الأسد؛ فرّ تاركًا وراءه كل ما يثبت خياناته وأمراضه النفسية والعقلية، وآخذًا معه “أبديته” ومال وذهب سوريا، ليحل لاجئًا مهانًا، لا يحمل شرف أي لاجئ هرب من قمعه عبر البحر أو بين الغابات.

لم يكن بشار يومًا عزيزًا، ولم يكن سوى جزار يتلذذ بقتل الناس وتعذيبهم، ويضحك ببلاهة وكأنه فاتح عظيم.

ما الذي تركه هذا المختلّ خلفه. تجيب امرأة تحمل بين يديها جمجمة، وتقول: “هذا ما تركوه لنا من أولادنا”. وتتذكر أخرى ما شاهدته وهي في السجن: “أدخلوني إلى غرفة، وشاهدت عشرة شباب يافعين تخترقهم الخوازيق وكانوا لا يزالون على قيد الحياة”. وتخرج كلمات مخنوقة من شاب: “جلبوا إلى المعتقل طفلًا صغيرًا، وأحرقوه بقاذف اللهب، حتى انسلخ جلده عنه، ثم تركوه في الزنزانة وخرجوا، وبعد يومين مات بين يديّ”.

يمكن أن تكتب شهادات مئات آلاف، وربما ملايين الناس، عن هذا الإرث الفظيع الذي خلّفه الأسدان المختلان: الأب والابن.

لا يمكن لأي عقل أن يصدق ما كان يحدث في سوريا. ولكننا – نحن الذين كنا في الداخل- كنا نرى ونسمع شهادات كثير من أقاربنا ومعارفنا الذين كانوا في زنازين تحت الأرض. 

سوريا كانت أكبر مكان مرعب على الأرض. تمتلك مواصفات عيش/ موت فريدة؛ رعب في وجوه الناس وأنت تمر بجانبهم في الشارع، رعب في العيون التي لا تمتلك بريق أمل- عيون جليدية لا حياة فيها- هواء ثقيل تفوح منه رائحة الدماء. نعم، يمكنك أن تشم رائحة الدماء في كل مكان. يمكنك أن ترى الرعب في وجوه بعض رفاقك بعد خروجهم من المعتقلات، وحين تسألهم عن فترة اعتقالهم، كانوا يقولون ببساطة: “شيء مرعب، لا يمكن لأحد أن يصدق ماذا يجري في السجون”.

كنا نعلم كل شيء، ولا يمكننا أن نتفوه بكلمة؛ فقط يمكننا أن نراقب وجوهنا في المرآة ونحزن ونبكي، بصمت، وصمت، وصمت.

كنا نعلم أننا نسير في شوارع مدينة يرتع تحتها أناس يعذَّبون، وندرك ذلك، ندرك أن إخوتنا وأخواتنا وأصدقاءنا وصديقاتنا يعانون أشد أنواع التعذيب، ومنهم من يرحل بعد جولة أو اثنتين من أشد وأبشع ما يمكن أن يتعرض له إنسان من ألم.

بلد فريد في فن التعذيب؛ فالتعذيب فن ومتعة، وقتل لأي أمل يمكن أن يظهر على وجه أحد.

تعذيب الآخرين هو رسالة إليك. يجعلونك تسمع الأنين الخافت يتسلل من شقوق الأرض. ولكنك شبه حيّ وخائف، أكثر من الذين يطلبون الموت وهم يُسلخون ويُطعنون ويُشوون. وبينما تعبر الشارع وتشعر بأنك بالكاد على قيد الحياة، تنزلق قدمك في سرداب صغير، وتجد نفسك في مسلخ تحت الأرض بعشرات الأمتار.

طاغيان لم يفعلا شيئًا سوى إشادة قبور للناس قبل أن يولدوا. ولكنها ليست قبورًا عادية؛ إنها قبور يصعب الوصول إليها. فعلى مدى أربعة وخمسين عامًا، لم يجرؤ شخص على مراجعة مقر أمني ليسأل عن ابنه الذي خرج من الجامعة ولم يعد إلى البيت. ثم يرسلون إليه بطاقة هويته، ولا يسلمون له الجثة، لأنهم يعدمون السجين داخل مكبس ضخم فتسيل دماؤه ودماء المعذبين في نفس اليوم، وتجري في نهر يسقي أشجار المناطق المحيطة بالسجن.

هل هناك من قهر أكبر من أن يشرب الأهل دماء أبنائهم؟

تورق الأشجار وتحمل ثمارًا طعمها دم.

في الهواء رائحة غريبة، فكل من لم يمت في السجون العميقة تحت الأرض، يجب أن يموت بالمواد السامة. إنها مواد كيميائية ليست محرمة على السفاح الذي يقتل شعبه بمباركة دولية، تحت يافطات كبيرة: الإدانة، التحقيق، وبيانات المنظمات الدولية.

مجرد يافطات بلهاء، تؤيد إلقاء الكيماوي على المدنيين؛ يافطات إدانة فقط؛ مجرد رسائل تطمين ليتابع القتل. ثم تتبعها بيانات تهديد بلهاء. ومزيد من القتل والدم والرصاص والكيماوي.

دم يسيل في الساحات، رصاص يصم الآذان، وكيماوي يملأ أنوف كل السوريين.

مدينتي هذه، هي كل المدن في سوريا، تلك المدن التي أمعن نظام السلخ والترهيب في قتل أرواح أهلها، وحولهم إلى أشباح. مدن صرفت عصابة تحكم بلدًا معظم ميزانيتها لبناء السجون والمعتقلات والفروع الأمنية ومراقبة الناس: كيف يسيرون في الشوارع، وكيف يذهبون إلى الصلاة، وماذا يقولون على الهاتف. الكل مستهدف، من دون أن يُستثنى الخادم الأمين الذي يلعق أحذية زعيم العصابة.

عندما انطلقت الثورة السورية في الخامس عشر من آذار/مارس عام 2011، كان كل شيء جاهزًا: السجون والرجال العنيفون والسلاح الذي أوهموا الناس أنه من أجل قتال العدو. إضافة إلى ضوء أخضر من الدول الحليفة وميليشياتها الحاقدة والقاتلة، والتي لا تعرف سوى القتل والتعذيب.

لقد فرّ بشار الأسد، تاركًا وراءه وثائق هائلة في أراشيف مخابراته، وكلها تدل على أنه – وكوالده تمامًا- كان خائنًا لوطنه، وعميلًا، وكائنًا مسخًا ومضطربًا عقليًا، وغير قادر حتى على إقناع زوجته الدموية مثله، بأن العيش معه أمر يمكن تحمّله.

الترا صوت

———————-

ما وراء الشال.. أحمد الشرع وصور النساء/ آلاء عوض

19-ديسمبر-2024

في عالم السياسة، تتجاوز الصور كونها مجرد لحظات عابرة، لتصبح رسائل مدروسة تحمل أبعادًا أيديولوجية واجتماعية وسياسية. هذا ما بدا واضحًا في الظهور الأخير لأحمد الشرع، قائد إدارة العمليات العسكرية، وهيئة تحرير الشام سابقًا، إلى جانب مجموعة من الفتيات غير المحجبات في سوريا، مع طلبه منهن وضع شال على رؤوسهن إن أردن التقاط صورة معه. يثير هذا المشهد، رغم بساطته الظاهرية، أسئلة متعددة حول طبيعة الرسائل التي أراد الشرع إيصالها من خلاله، خاصة في ظل محاولاته المستمرة لإعادة رسم صورة الهيئة وتقديمها كقوة أكثر اعتدالًا على الساحة السورية.

بدايةً، يمكن النظر إلى هذا الظهور كجزء من استراتيجية أكبر تسعى الهيئة من خلالها إلى التكيف مع الواقع السياسي والاجتماعي الجديد في سوريا. فمن خلال ظهور الشرع مع فتيات غير محجبات، يبدو أن الهيئة تحاول تقديم نفسها كجهة منفتحة وقادرة على التعايش مع مختلف أطياف المجتمع السوري، بما في ذلك الأقليات والفئات التي لا تتفق بالضرورة مع توجهاتها الأيديولوجية. يحمل هذا التوجه في طياته محاولة واضحة لتقديم تطمينات للمجتمع المحلي، وأيضًا للمجتمع الدولي الذي ينظر بحذر إلى القوى المسلحة ذات الخلفيات المتشددة.

لكن خلف هذا المظهر المنفتح، يكمن إصرار الشرع على وضع الشال/ الحجاب، وهو تفصيل صغير لكنه بالغ الأهمية. هذا الشرط، الذي يبدو وكأنه مجرد التزام بمظهر معين، يحمل دلالات أعمق تتعلق بفكرة الامتثال. فطلب تغطية الرأس هنا ليس مجرد رمز ديني، بل هو تعبير عن الهيمنة وفرض السيطرة. إذ يبدو أن الشرع، رغم محاولاته للتكيف مع الواقع، لا يزال غير قادر على تجاوز موروثه الأيديولوجي الذي يفرض قيودًا صارمة على الأفراد، وخاصة النساء، حتى في أكثر اللحظات التي يُراد لها أن تعكس انفتاحًا.

يمكن قراءة هذا التصرّف كرسالة مزدوجة: فمن جهة، يريد الشرع أن يظهر بمظهر القائد البراغماتي الذي يتعامل مع الجميع، بما في ذلك النساء غير المحجبات، ومن جهة أخرى، يصرّ على أن هذا التعامل لا يمكن أن يكون بلا شروط. الشال هنا يصبح أداة لإخضاع الآخر لقواعد الهيئة، حتى وإن كان ذلك بشكل مؤقت ومن أجل التقاط صورة. يعكس هذا الإصرار، بشكل أو بآخر، فشلًا في تقديم صورة حقيقية للتغيير أو الانفتاح، حيث لا يزال الانتماء إلى فضاء الهيئة مشروطًا بالتخلي عن جزء من الهوية الفردية والامتثال لمعاييرها.

في السياق السوري الأوسع، تحمل هذه الصورة دلالات تتعلق بمحاولات القوى المختلفة السيطرة على الفضاء العام وفرض قواعدها على الأفراد، حتى في أبسط التفاصيل. في الشرع وقيادته، يمكن القول إن محاولة التكيف مع الواقع السياسي والاجتماعي الجديد لا تزال محكومة بتصور أحادي يرفض الاعتراف بالتنوع الحقيقي ويفرض معايير محددة على الجميع. هذه المقاربة تجعل من الصعب تصديق أي محاولات للانفتاح أو التغيير، حيث تظهر الهيئة وكأنها تحاول فقط تغليف ممارساتها القديمة بمظهر جديد، دون التخلي عن جوهرها الحقيقي.

ورغم الرسائل المبطنة التي يمكن أن تحملها الصورة عن قبول الهيئة للمرأة غير المحجبة، فإن الإصرار على وضع الشال يقوّض هذه الرسائل ويكشف حدود التغيير الذي يمكن أن تصل إليه الهيئة. فالتغطية هنا ليست مجرد إجراء شكلي، بل هي رسالة واضحة بأن القبول مشروط، وأن التعايش مع الهيئة يعني التخلي عن جزء من الحرية الشخصية والركون لسلطتها، حتى ولو كان ذلك بشكل رمزي ومؤقت.

من جهة أخرى نرى أن التشكيلة الحكومية المؤقتة استبعدت النساء من المناصب القيادية بشكل ملحوظ، وأثار هذا الاستبعاد استياء الأوساط الحقوقية والنسائية التي كانت تأمل في تحسن الوضع بعد سنوات من التهميش الممنهج في عهد نظام الأسد. تجددت الخيبات بعد الإعلان عن التشكيلة الجديدة، التي كرّست نمطية الإقصاء وغياب التوازن الجندري في هياكل السلطة وبدا مشهد الإعلان الرسمي متجهمًا، حيث خلت القاعة من أي وجوه نسائية ذات ثقل سياسي، مما أثار تساؤلات حول مدى جدية الحكومة في تحقيق إصلاحات جذرية.

عبرّ حقوقيون عن قلقهم إزاء وضع النساء اللاتي، وطالبوا بالشفافية في طرح دور المرأة، وتطبيق سياسات شاملة تنصف المرأة وتضمن حضورها في المشهد العام لكن هذ الدعوات بدت وكأنها صرخات في وادٍ، حيث قوبلت بتجاهل رسمي واضح.

إن استمرار هذا التهميش، سواء في صورة القيادة السياسية أو في الفضاء العام الذي تسيطر عليه القوى الجديدة، يعكس عمق التحديات التي تواجهها المرأة السورية في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة. فإقصاء النساء من مواقع السلطة واتخاذ القرار ليس مجرد إشكالية عابرة، بل هو جزء من سياق أوسع يعكس تهميشًا ممنهجًا لدور المرأة في إعادة بناء سوريا الجديدة.

في ظل الحرب وتداعياتها، كانت النساء السوريات في مقدمة المتضررين، سواء من ناحية الأمان الشخصي أو الاجتماعي والاقتصادي. وعلى الرغم من تضحياتهن الكبيرة وقدرتهن على حمل أعباء الحياة اليومية وسط النزاعات والانهيار الاقتصادي، ظل تمثيلهن في العملية السياسية متواضعًا، بل ومعدومًا في كثير من الأحيان. يبعث هذا الإقصاء برسائل متناقضة: فمن جهة، يتم الاعتراف بالدور الأساسي للنساء كدعامة للمجتمع في أوقات الأزمات، ومن جهة أخرى، يتم إنكار حقهن في التمثيل والمشاركة في صنع القرار.

إن الإصرار على تغييب المرأة عن المشهد السياسي وخاصة على خلفية التصريحات الأخيرة لـ عبيدة أرناؤوط، المتحدث الرسمي باسم الإدارة السياسية التابعة لإدارة العمليات العسكرية، بتحجيم المرأة وإقصارها على أدوار معينة، يضع العديد من علامات الاستفهام حول جدية القوى في تقديم مشروع وطني شامل يعكس تطلعات جميع فئات المجتمع السوري. فمن دون إدماج حقيقي للنساء، يصعب الحديث عن أي إصلاح حقيقي أو إعادة بناء شاملة تضمن العدالة والمساواة للجميع. هذا الاستبعاد لا يؤثر فقط على النساء، بل يُضعف البنية السياسية والاجتماعية ككل، حيث يفقد المجتمع فرصته في الاستفادة من خبرات نصفه الآخر.

يُجسّد التهميش البنيوي للنساء والقيود الرمزية، كما في مشهد “الشال”، عمق الأزمة السياسية في سوريا، حيث تُستخدم قضية المرأة كورقة مساومة في صراعات القوى. الاعتراف بحقوق المرأة ومشاركتها ليس رفاهية، بل اختبار حقيقي لجدية أي مشروع سياسي يسعى نحو التغيير والعدالة.

————————–

سوريا الجديدة… آمال وردية قد لا تدوم طويلاً/ عمار جلّو

الجمعة 20 ديسمبر 2024

من الصعب، أو من المستحيل، تفوّق أحد على الرئيس السوري الفارّ بشار الأسد، بالسوء على سوريا والدول الإقليمية والدولية. مع ذلك، يتكاثف الضباب بدلاً من تبدّده في الفضاء السياسي السوري، بعد انهيار نظام الأسد صبيحة الثامن من كانون الأول/ديسمبر الحالي، منهياً، وبشكل مفاجئ، خمسة عقود من حكم العائلة الدموي والشمولي في سوريا. وفي حدثٍ أثار ابتهاجاً بعموم الجغرافية السورية، يثير أيضاً حالة من عدم اليقين تجاه مستقبل البلاد المضطربة أصلاً.

فمع خروج سوريا والسوريين من نفقها الطويل المظلم، يراود السوريين حلم مفعم بالأمل إلا أنه غير مؤكد، حيث تختلط رسائل الحكم الجديد أحياناً وتتناقض في أحيان أخرى، وما بينهما غياب شبه تام لتلافي أخطر ما قد تواجهه سوريا، بعد سنوات الاحتراب والاستقطاب الحاد.

ففي الوقت الذي ينثر الحكم الجديد، على المجتمعات المحلية المتمايزة والأطراف الدولية، ضمانات موثوقة نسبياً تجاه الأقليات، تجهل حكومة دمشق أو تتغافل عن أن أولى الضمانات يجب تقديمها للأكثرية التي مورست بحقها جرائم وانتهاكات فاقت الكوابيس، وهي من يحتاج طمأنتها لجدية محاسبة المجرمين بحقها، وبدون ذلك فإن القصاص والانتقام الفردي سيشكلان كرة ثلج تتدحرج نحو هاوية الاقتتال المحلي والحرب الأهلية.

ورغم كراهة استخدام تعابير أضحت متلازمات دولية ومحلية أيضاً لبناء الأنظمة السياسية لدولنا الشرق أوسطية في عصر المواطنة والحقوق المتساوية، إلا أن الاسترسال في تطمينات الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية والجندرية، كبوابة للاعتراف الدولي، مع رفع العقوبات المفروضة على سوريا، قد تؤدي لنتائج عكسية وكارثية على السلم الأهلي، في ظل أطنان الانتهاكات الممارسة بحق أكثرية عابرة للأديان والأعراق والمذاهب لا باك عليها.

فالمأساة السورية لم تكن نتاج حساسيات دينية أو عرقية أو مذهبية، وإنما نتاج إجرام نظام استبدادي سادي ضاعفهما في مواجهة معارضيه، وعلى ذلك، فإن قفز الأمم المتحدة والقوى الإقليمية والدولية الفاعلة على أس المشكلة للحديث عن حقوق المرأة والأقليات لا يبشّر بحلول واعدة للمسألة السورية، ولا يمنح الطمأنينة بألا تستخدم هذه الشعارات البرّاقة بوابة لتقاسم النفوذ في الساحة السورية، بجانب مقايضات تفضي لحكم توافقي يطوي تطلعات السوريين إلى الحرية والديمقراطية مع الحكم الرشيد.

ومع تصّدر واجهة المشهد السوري من قبل منظمة مصنّفة على قوائم الإرهاب لدى العديد من المنظمات الدولية والقوى العالمية، قد تفرّخ هذه المعضلة أزمات فرعية لا يحمد عقباها، في حال ذهاب هيئة تحرير الشام مع هذا التوجّه، بهدف رفعها عن قوائم الإرهاب. وإلى جانب المطالب الدولية بصيانة حقوق أقليات أثبتت الأيام الماضية عدم التجاوز على حقوقها، تطالب المعارضة التقليدية اعتبار قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 ركيزة الانتقال السياسي في سوريا، وهو ما تجاوزته الأحداث فعلياً، نتيجة سقوط أحد طرفيه عسكرياً، وسقوط طرفه الآخر واقعياً، إلا أن هذه المعارضة مصرّة على المحاصصة بالسلطة الجديدة، وغالباً ما ستعمل علناً أو من وراء الكواليس على خلق تحديات جديدة أمام عملية انتقال سياسي لا ترضي طموحاتها الجمعية أو الفردية، مع صبّ جهودها على عكس التوجه الإقليمي والدولي للاعتراف بالحكم الجديد في دمشق، ما يضاعف أزمة نيل الاعتراف الدولي من قبل الحكم الجديد. بجانب فتح صراعات سياسية لحسابات شخصية، تشكل مدخلاً لتدخلات إقليمية ودولية تُعنى بأجندتها الخاصة ولا تُعنى باستقرار سوريا أو مصلحتها.

من جانبها، فإن سلطة دمشق، التي تتشكل من فصائل متباينة بالمصالح والأيديولوجيا، لا تبدو معنية بإطلاق مسار انتقال سياسي يلبي تطلعات السوريين، بقدر عنايتها بتوسيع مساحة قبضتها على دفّة القرار السوري، وصولاً لهيمنتها على كامل القرار، كما أن توافقها قد لا يدوم طويلاً، بعد زوال هدفها المشترك، بجانب جهود محتملة من قبل هذه الفصائل منفردة لتعزيز مكاسبها السياسية والميدانية، بما يؤدي لإعادة تشكيل الدولة السورية بطريقة تقاسم الغنيمة من قبل مخلّصيها من براثن مغتصبها، أو جعلها رهينة لدى أحدهم.

ولعل الجهود المعلنة من قبل قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع، لإعادة هيكلة وزارة الدفاع قد تكشف صحة هذا التقدير من عدمه، ما قد يؤدي لإعادة تدوير عجلة الحرب السورية بين شركاء الأمس، إضافة لفلول النظام البائد التي ستعيد تنظيم صفوفها في مثل هذه الظروف، وتالياً تهديد وحدة الدولة السورية فعلياً.

بالمحصلة، حتى مع توافق هذه القوى فيما بينها، تثور العديد من الأسئلة حول قدرتها على التوافق على نظام ديموقراطي فشلت بتطبيقه حينما كانت تمثل حاضنتها الشعبية ومجتمعاتها المحلية الضيقة، وهي التي تتسابق حالياً لتعبئة فراغات السلطة برجال الولاء بدلا عن الأكفاء أو التكنوقراط، والفئة الأخيرة هي الأجدر والأوثق لقيادة مرحلة الانتقال السياسي في مثل هذه الظروف. كما أن إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، إن تمت بسلاسة، ستؤدي إلى بناء جيش هش وغير متجانس، موزّع التوجهات، وبعيد كل البعد عن المعايير الحديثة لبناء المؤسسات العسكرية. وتتعقد المسألة مع وجود جنسيات غير سورية تحمل السلاح ضمن فصائل تتماهى مع هيئة تحرير الشام، رغم استقلاليتها، ما يطرح الأسئلة حول إمكانية دمجهم بوزارة الدفاع المأمولة، أم تجنيسهم بعد تجريدهم من السلاح.

أما ما يخص وحدة الدولة وإعادة فرض سيادتها على كامل الجغرافية السورية، تكشف المغازلات المتبادلة بين قائد إدارة العمليات العسكرية وقيادات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن تفاهمات ضمنية بين الطرفين، ستتحوّل عاجلاً إلى مفاوضات علنية بأرضية نجاح عالية، في ظل حاجة كلا منهما للآخر لأسبابه الخاصة، ولتجّنب ضرورة الصدام بينهما، وفي ظل مفاوضات تركية كردية سابقة ومتقدمة ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية، قد تبلغ نهايتها المرضية في المنظور القريب، ما لم تتشدّد أنقرة بشروطها بعد إمساك شركائها المحليين بالسلطة في دمشق.

ويشكل المشهد السوري الحالي بيئة مثالية لعودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لاسيما بعد انسحاب قوات النظام البائد من نقاط التماس التي كانت تغطيها في أجزاء من البادية السورية حيث ينتشر أعضاء التنظيم الإرهابي، مع عجز قوات الحكم الجديد عن تغطية هذه النقاط، نظراً لقلة عددها مقارنة بالواجبات الضخمة العاجلة الملقاة على عاتقها حالياً. ورغم خسارة داعش بسقوط الأسد جاذبية مهمة لكسب اتباع ومؤيدين، إلا أن مؤشرات التسامح الديني والمذهبي التي غطت الفضاء السوري بعد زوال النظام قد يسدّ لها هذه الثغرة، لاسيما بعد الكم الهائل من الجرائم التي ارتكبت تحت مسميات عرقية/دينية/مذهبية مزعومة، وقد تلجأ داعش لإعادة ترويجها للدعاية لنفسها كحامية للدين والمذهب.

كما أن تحولات الهيئة وقائدها أبو محمد الجولاني، الذي بات يعرف باسم ولادته أحمد الشرع، تمنح داعش باباً لاستقطاب شخصيات متشدّدة، معارضة لهذه التحولات ضمن الهيئة والفصائل المتشدّدة المنضوية تحت لوائها، بما قد يؤدي لخلخلة داخلية أو انشقاقات في صفوف النواة الصلبة للحكم الجديد، حيث سيجد هؤلاء صعوبة في استيعاب التحولات الجديدة، والطروحات المعلنة لبناء الدولة، المتعلقة بالانتخابات وصياغة الدستور وحقوق المرأة والأقليات، مع انفتاح على الدول الغربية وتنظيم العلاقة مع المجتمع الدولي. لذا، فإن أكبر تحديات حاكم سوريا الفعلي تأتي من صفوف المجاميع التي يقودها ويمثلها قبل غيرها من المجاميع العسكرية والمدنية الطامحة.

لكن من أي دستور وتصريحات فضفاضة يتخوّف هؤلاء، بعد أن أثبتت الأيام الماضية تجاهل الأسس الدستورية الخاصة بإدارة مراحل الانتقالية السياسي في الحالات المماثلة، مع تقزيم تام للدستور، من خلال إعلان حكومة تفتقر للأهلية الدستورية والقانونية عن تجميد الدستور القائم وتشكيل لجنة لمراجعته وتعديل بعض مواده. ما يؤشر لانعدام الرؤية لدى سلطة دمشق الناشئة حيال القواعد السليمة لبناء الدول الحديثة، مع الإصرار على البقاء في حيز الجماعة وتوافقات قوى الأمر الواقع.

ومع تركيز العالم الغربي على تراجع الدور الروسي والإيراني في سوريا، تبدو نوايا إدخال سوريا في ساحة الاستقطاب الدولي بين الدول الغربية من جهة، وروسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية من جهة أخرى، وهو ما قد يؤدي لإطالة حالة عدم الاستقرار، وربما لإشعال حرب الوكالة ثانية على الأرض السورية.

أثبتت الأيام القليلة الماضية قدرة الحاكم الفعلي لسوريا على جذب الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، مع حسّ سياسي واعٍ لإدارة المشهد السوري الحالي، بخلاف سابقيه ممن تصّدروا واجهة معارضات نظام الأسد البائد. لكن هل ستكون لدى أحمد الشرع إرادة حقيقية لتنفيذ عملية انتقال سياسي، تفضي لانتخاب هيئة تأسيسية أو برلمانية تؤسس لحكومة سوريا الجديدة؟ وفي حال الإيجاب، هل سيتمكن الشرع من تجاوز حقول ألغام دهاليز السياسة وأوكارها، مع القنابل الموقوتة أعلاه؟

الأيام والأشهر القليلة القادة ستجيب على ذلك.

رصيف 22

—————————-

=======================

========================

تحديث 20 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024

—————————-

لمتابعة التغطيات السابقة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

———————————-

مكاييل سوريا الجديدة: اتفاق «الأعداء/ الأصدقاء»/ صبحي حديدي

20 كانون الأول 2024

لامرئ أن يدع جانباً، ولكن إلى حين وجيز مرحلي فقط، التصريحات الحمقاء عن «كينونة المرأة» و«طبيعتها البيولوجية والنفسية» التي «لا تتناسب مع كلّ الوظائف في الدولة»؛ التي صدرت على لسان عبيدة أرناؤوط، المسمى متحدثاً رسمياً باسم الإدارة السياسية التابعة لـ«إدارة العمليات العسكرية». هذا نموذج عقل متخلف جاهلي وجاهل، لم يتمّ تشذيبه سياسياً أو هندمته سجالياً، بل لعله غير مسيّس أصلاً، ولم يًلقّن كما يبدو نزراً كافياً أو حتى يسيراً من مهارات التخاطب والمناورات اللفظية التي تكشفت لدى قادته من أمثال أحمد الشرع أو أحمد الدالاتي.

للمرء ذاته أن يدع، جانباً أيضاً وللأمد الوجيز إياه، سلسلة «التكويعات» حسب التعبير السوري الرائج هذه الأيام، والصائب تماماً، ليس لدى أمثال دريد لحام وعباس النوري وسواهما من نجوم الثقافة الشعبية؛ وليس، أيضاً، لدى الثالث بسام كوسا، الذي لم يبصر في انهيار نظام آل الأسد سوى مجرّد «انقلاب». مناخات التعبير الراهنة في سوريا الجديدة تتيح للجميع إبداء الرأي في الشؤون العامة من دون تقييد، ولا تثريب عليهم بمعزل عن عواقبها الأخلاقية والسياسية لدى السوريين، أصحاب ذاكرة ليست حسيرة إزاء مواقف سابقة لهؤلاء في خدمة النظام أو تلميع سجلاته السوداء الدامية.

ثمة، في المقابل، غابة من المكاييل التي أُعلنت سلسلة من المعايير مسبقة الصنع، تُساق على سبيل ضبط سوريا الجديدة، لا تتميّز بصفة أخرى أكثر هيمنة مثل اتفاق النقائض ومصالحة التنافر؛ بين مواقف عنصرية، صريحة أو مبطّنة على نحو رديء، صادرة عن قوى وحكومات ووسائل إعلام غربية، من جهة أولى؛ ونظائرها، لدى كتّاب ومعلّقين ونشطاء منظمات غير حكومية، ولكن في صفوف «اليسار» عموماً، وجبهات «مناهضة الإمبريالية» خصوصاً، من جهة ثانية. هنا تقع «معجزة» التلاقي بين المتناحرين، في تشكيل تلك الفئة العجيبة الغريبة التي تنطبق عليها تسمية «الأعداء/ الأصدقاء».

تتقاطر على دمشق وفود غربية وأممية شتى، وتلتقي مع الشرع أساساً ويندر أن تستمع إلى فعاليات شعبية أو ممثلين عن المجتمع المدني، لتذكّر بضرورة حكومة واسعة التمثيل (وهذه مفهومة، ضمن كليشيهات النصح الغربية الكلاسيكية)؛ وتشترط، أياً كان مستوى التهذيب اللفظي، الحفاظ على حقوق المرأة والأقليات (وهذه مفهومة بدورها، وإن كانت روائحها تفوح أكثر من تواريخ التنميط الكولونيالي قبل شرائع حقوق الإنسان). وقد يقول قائل إنها مطالبات حقّ، متغافلاً عن حقيقة أنّ الباطل هو ما يُراد من معظمها؛ لأنّ أياً من هذه المعايير وسواها لم، ولا، يُطلب من أنظمة عربية أخرى، استبدادية وفاسدة ومغتصبة لحقوق الإنسان والمرأة والتعبير، لكنّ امتيازها أنها مجرّات تابعة سائرة في المدارات الغربية.

مشهد السيدة السورية، التي استقبلت الموفد الأممي غير بيدرسون بالحذاء والبصاق على مشارف سجن صيدنايا، كان واحداً من التعبيرات الأعلى بلاغة حول وسيط دولي شاءت الأقدار أن يبقى على رأس عمله (بعد كوفي أنان، الأخضر الإبراهيمي، وستافان دي ميستورا) ساعة سقوط النظام؛ وشاء من جانبه أن يستعرض عضلاته الأممية بزيارة سجن أطلقت عليه منظمات حقوقية دولية تسمية «المسلخ البشري» ويصعب أنّ بيدرسون لم يقرأ عنه، ولكنه لم ينبس بمفردة واحدة حول أهواله. هذا جانب أوّل في غطرسة عنصرية تستهبل ذاكرة السوريين مسبقاً، وتفترض أنّ من واجبهم قبول المبدأ التالي، بل التهليل له أيضاً: وصول بيدرسون إلى السجن متأخراً 13 سنة، باحتساب أشغال سابقيه في الوظيفة، خير من عدم وصوله البتة!

لا أحد، في المقابل، ينطق بحرف واحد حول أكثر من 400 غارة إسرائيلية استهدفت ما تبقى من أسلحة وعتاد جيش بات اليوم ملكية الشعب السوري وليس نظام آل الأسد؛ بل لا أحد يتحلى بذرّة حياء، أو حرج بسيط، حين يصنّف تلك الاعتداءات في خانة الدفاع عن النفس، وهذا «حقّ» كان مقتصراً على دولة الاحتلال الإسرائيلي، ثمّ انقلب إلى امتياز حصري كيفما شاء أمثال بنيامين نتنياهو، وأينما اختاروا ممارسته. هذا، بدوره، خيار لا حاجة للغوص عميقاً في بواطنه لاستكشاف ما ينطوي عليه من أنماط بغيضة في التمييز العنصري بين عربدة القوة وحقّ المقاومة.

وفي الجانب الآخر من غابة المكاييل، ثمة تلك الشرائح من يسار غربي مناهض للإمبريالية، ولكنه التحق بصفوف النظام السوري من منطلق (زائف أصلاً ومزيف، إذا لم يكن مختلَقاً عن سابق قصد وتصميم) مفاده أنّ السلطة التي تحكم سوريا فاسدة وقمعية واستبدادية، نعم وصحيح (إذْ لا سبيل إلى إنكار هذه، وسواها!)؛ لكنها، في المقابل، «معادية للإمبريالية» و«علمانية» و«ممانعة» وشعبها ضحية العقوبات الأمريكية والأوروبية. وإذ يتعامى هؤلاء عن لجوء النظام إلى استخدام الأسلحة الكيميائية، أو يعمد بعضهم إلى اتهام المعارضة المسلحة باستخدامها؛ كان الأشنع في ترسانة مساندة ذلك اليسار المناهض للإمبريالية هو التعامي الفاضح عن تاريخ علاقات آل الأسد مع الولايات المتحدة… رأس الإمبريالية العالمية.

وذاك سجلّ حاشد يسرد انخراط نظام «الحركة التصحيحية» الأب حافظ مثل وريثه بشار، في جولات استجداء وخنوع، كان هدفها الأوّل، والثاني والثالث والعاشر أيضاً، هو منجاة النظام وحفظ بقائه، برعاية واشنطن وحليفاتها؛ صغيرات وكبيرات، من دولة الاحتلال إلى البحرين. وللتذكير المفيد، مجدداً ودائماً، فإنّ علم السياسة، في فصوله التي لا تُعلي على خدمة المصالح أيّ اعتبار، كان يجبر واشنطن على إبقاء وضعية الشدّ والجذب مع النظام السوري عند حدود منضبطة، لها أن تذهب أنّى تشاء في اللفظ والبلاغة، كما الحصار والحرد والإيحاء بالعزل والمقاطعة… ولكن ليس لها أن تجازف بصبّ أيّ زيت على نار متقدة، حتى وإنْ كان اتقادها تحت الرماد فقط.

فأيّ مصلحة لواشنطن ــ التي كانت تحتلّ العراق، وتحتل أفغانستان، وتواجه حصاد ما زرعت من «صناعة جهادية» وجبهات خصامها مع الشعوب وشتى الأعداء لا تتقلص بقدر ما تتسع… ــ في أن تسرّع بإسقاط نظام متداع متفكك متآكل؛ ينطوي بطءُ سقوطه على منافع عديدة، وقد يفضي العكس إلى عواقب نقيضة؟ وإذا جاز القول إنّ النظام السوري لم يكن صديقاً لأمريكا، على غرار الصداقات السعودية أو المصرية مثلاً، فهل يجوز الاستطراد بأنّ النظام عدوّ لدود للولايات المتحدة؟ كلاّ، أجاب على الدوام عدد من دبلوماسيي أمريكا المخضرمين، ممّن امتلكوا بعض الحصافة في قراءة خرائط الشرق الأوسط، لا سيما طبائع الحاكم والحكم، والاجتماع والعقيدة، والاستبداد والفساد.

لافت، إلى هذا، أنّ اليسار المناهض للإمبريالية تعاطف مع حركة «حماس» في قطاع غزّة لأسباب لا تتصل بالتضامن مع الشعب الفلسطيني في وجه حرب الإبادة الإسرائيلية، فحسب؛ بل كذلك لأنّ انخراط «حماس» في مواجهة دولة الاحتلال هو كفاح، بمعنى ما، ضدّ الإمبريالية. فكيف حدث أنّ مواقف التيارات اليسارية ذاتها اختلفت، وتختلف، عند النظر إلى «هيئة تحرير الشام» التي لا تقلّ إسلامية عن «حماس» فيسود حديث عن «عقيدة جهادية» لدى الأولى، معادية جوهرياً للديمقراطية وللعلمانية وللمرأة وللأقليات… مقابل الافتراض بأنّ الثانية مؤهلة لإنجاز كلّ تلك التحولات.

هذه، بدورها، عنصرية مبطنة تنسحب أيضاً على الوفود الرسمية الأوروبية التي تجتمع اليوم مع قادة «هيئة تحرير الشام» المصنّفة على الدوام في لوائح المنظمات الإرهابية، ورفضت وترفض لقاء قادة «حماس» لأسباب شتى مبطنة بالطبع وأخرى معلَنة تتكئ على حكاية التصنيف الإرهابي. ذلك لأنّ أعراف التقاء «الأعداء/ الأصدقاء» تستعصي على المنطق السليم، فلا تسير إلا على هدي منطقها الخاص، حيث يستقيم الاعوجاج.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

———————–

    التحالف السوري الديمقراطي:من هو؟ وما هي أولوياته في المرحلة الجديدة في سوريا؟/ حسان الأسود

17-12-2024

        تدعو الجمهورية.نت جميع أصحاب المشاريع السياسية الديمقراطية، سواء كانت أحزاباً أو مبادرات أو حركات أو هيئات مدنية، للتعريف بمشاريعهم على صفحاتها، ومُشاركة رؤيتهم بشأن اللحظة الراهنة بعد سقوط نظام الأسد، وبشأن أولويات عملية الانتقال السياسي.

        لا تتبنى الجمهورية.نت أياً من هذه الطروحات والمبادرات بشكل حزبي أو حصري، بل تهتم بتعزيز قيم الحوار والمُراكمة على أسس ديمقراطية تعددية وتوافقية جامعة.

        *****

        بعد الصدمات العديدة التي تعرّضنا لها على مدار السنوات الطوال من عمر الثورة، حاولنا كديمقراطيين سوريين البدء من جديد واستعادة شيء من التوازن، أو على الأقلّ حاول بعضُنا ذلك، فكانت عمليات المراجعة المستمرة من بعض الشخصيات لتاريخ العمل السياسي، وكانت عمليات استشراف المستقبل من خلال وضع أسس جديدة للتعامل مع الواقع ومُتغيراته المُستمرِّة والمتلاحقة.

        تمثّلَ ذلك في مشاريع فكرية وسياسية متعددة، حاول القائمون عليها وضع مداميك قويّة وراسخة لها. بعضها لم يُحالفه الحظّ في النجاح والاستمرار، وبعضها الآخر ما زال يحاول. نذكرُ على سبيل المثال لا الحصر في هذا السياق «مبادرة المناطق الثلاث» التي تحوّلت لتصبح «تضامنية العمل والاجتماع السوري». بقي هذا المشروعُ في حيّز المبادرة النظرية، ولم يتقدّم نحو الأمام لإنشاء واقع ميداني جديد، سواء في الداخل أم في الخارج، لكنّ القائمين عليه يعملون بصبر وأناة، وقد يقدّمون جديداً في المستقبل.

        كما يمكن الحديث عمّا كان يُسمّى «مسار ستوكهولم»، الذي بدأ منذ سنوات عديدة بمبادرة من أعضاء فاعلين في مجلس سوريا الديمقراطية «مسد»، وتطوّرَ ليشمل لاحقاً عدداً من القوى والشخصيات السورية التي ترى إمكانية العمل في هذا الإطار. تمخّضَ عن «مسار ستوكهولم» كيانٌ سياسيٌ جديدٌ لم تتضح معالمه بعد، فكان أن انتخبَ المجتمعون والمجتمعات في بروكسل يومي 25 و26 تشرين الأول (أكتوبر) 2024 أمانة عامة لقيادة ما سُمّي «المسار الديمقراطي السوري».

        نذكر من المبادرات أيضاً «اللقاء السوري الديمقراطي» الذي جرى في برلين يومي 20 و21 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، والذي تمخَّضَ عنه نشوء كيان سياسي جديد هو «التحالف السوري الديمقراطي»، وهذا الأخير هو ما سيكون مدار حديثنا هنا في هذا المقال.

        لكن لا بدّ من القول هنا، وقبل الخوض في الحديث عن التحالف السوري الديمقراطي لشرح بنيته وأهدافه، أنّ العمل السياسي السابق على التطورات الجذريّة الهائلة، التي حصلت مع اندحار النظام في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، قد بات كلّه قيدَ الفحص والتدقيق لمعرفة جدواه في المرحلة اللاحقة. مع ذلك، لا يمكن هدر الجهود المبذولة من القوى السياسية والمدنية، بل لا بدّ من دراستها وتسليط الضوء عليها لعدّة أسباب، فهي أولاً تجربة عشناها ويجب الاستفادة منها، وهي ثانياً جزءٌ من تاريخ سوريا، وهي ثالثاً مستمرّة حتى اللحظة في العمل والتأثير.

        التحالف السوري الديمقراطي؛ نهجٌ مختلف

        في اختلافٍ بيّنٍ عمّا سبقه من مؤتمرات أَنتجت تحالفات سياسية، قام «اللقاء السوري الديمقراطي» عبر لجنته التحضيرية بإنجاز الوثائق الأساسية للتحالف قبل موعد المؤتمر. تمّ وضع مسوّداتٍ لعددٍ من الوثائق هي: (وثيقة المبادئ الأساسية – الرؤية السياسية: محددات عمل وأهداف – الميثاق الوطني السوري – مدوّنة تفكير وسلوك سياسي – النظام الداخلي – النظام الانتخابي – الوثيقة الاستراتيجية – الهيكل التنظيمي)، وتم عرضُها على الهيئة العامة المؤلفة من أفراد مُستقلّين ومن ممثلي كيانات مدنية وسياسية مدعوّة لحضور «اللقاء» للتصويت عليها. وقد حصلت هذه الأوراق على الغالبية العظمى من أصوات المشاركين والمشاركات في التصويت، وتم اعتمادها كوثائق للتحالف تُنظِّم عمله.

        انعقد المؤتمر – اللقاء – في برلين على مدار يومين، شاركَ في الأول منهما حضورٌ ألمانيٌ رسميُّ لافت، وكان عددُ الحضور السوري كبيراً جداً وفقاً لمقاييس تُبيّنُ أسباب اعتباره كذلك، وهي التالية: زاد عدد المشاركين حضورياً في قاعة المؤتمر عن 200 شخص، وتجاوز عدد الحضور عبر الزووم الـ 100 في كل يوم. تمّ تمويل المؤتمر ذاتياً من قبل الكيانات الثلاث التي دعت إليه، والتي شكلت من بينها اللجنة التحضيرية، وهي: المجلس السوري للتغيير، تكتّل السوريين، والتجمّع الوطني الديمقراطي السوري. قدّمَ كل كيانٍ 5000 يورو لا غير، وتبرّعَ السياسي السوري الدكتور خلدون الأسود بمبلغ 5000 دولار. لم تتكفل اللجنة التحضيرية بسفرِ أو إقامةِ أيٍّ من المدعوّين، فكان أن حضرَ مُشارِكون ومُشارِكات، على نفقتهم الخاصّة، من الولايات المتحدة الأميركية ومن الخليج العربي ومن سوريا ودول الجوار ومن أغلب الدول الأوروبية (إسبانيا – إيطاليا – أوكرانيا – النمسا – فرنسا – السويد – الدانمارك – إيطاليا – بولندا – هولندا – بلجيكا – سويسرا).  نكاد نجزم أنّ هذا لم يحصل منذ الأشهر الأولى للثورة السورية، فأن يُسافر المشاركون والمشاركات من كل هذه البلدان، وأن يقيموا في برلين على نفقتهم الخاصة دون أن ينتظروا تعويضاً من أحد، لا من اللجنة التحضيرية ولا من غيرها، هو أمرٌ كبيرٌ له ما بَعده من تأثيرٍ على المُنتَج السياسي التنظيمي المُتولِّد عن المؤتمر.

        جرت الانتخابات لاختيار ممثلين عن الكيانات السياسية والمدنية والأفراد المستقلين لقيادة التحالف، وجرت انتخابات لأعضاء المكتب الرقابي وأعضاء المكتب التحكيمي بغرفتيه الابتدائية والاستئنافية، الذي هو بمثابة لجنة قضائية داخلية. فيما يتعلق بالأمانة العامة، التي هي بالتعريف قيادةُ التحالف، اختار المُستقلّون من بينهم ممثلين عنهم، واختارت الكيانات المدنية من بينها ممثلين عنها، وكذلك فعلت الكيانات السياسية. أمّا فيما يتعلق بالمكتبين المنبثقين من الهيئة العامة؛ الرقابي والتحكيمي، فكان للانتخاب ضوابط مختلفة بحيث لا يمكن أن يسيطر أي كيانٍ منفردٍ عليهما، وبحيثُ يَبقيان مُستقلّيَن عن الأمانة العامة وحيادييَن وقادرَين على ممارسة مهامهما.

        من بين أعضاء الأمانة العامة تم اختيار رئيس التحالف ونائبة له وأمينه العام، وذلك في أول جلسة عقدها الأعضاء الناجحون في الانتخابات مباشرة بعد انتهائها، وأصدر المجتمعون والمجتمعات البيانَ الختامي للمؤتمر. وما يمكن الإشارة إليه بكلّ وضوحٍ وقوّة هو أنّ «التحالف السوري الديمقراطي» قد اعتمدَ، نصّاً وتطبيقاً فعلياً، نظامَ الحصّة المحجوزة لفئتي النساء والشباب بما لا يقل عن 30% في جميع المراكز القيادية فيه. جاء ذلك نتيجة دراسة متأنيّة وفاحصة لتجارب التنظيمات والكيانات والمؤتمرات السورية السابقة.

        كان عزمُ أعضاء اللجنة التحضيرية ماضياً باتجاه إقرار وثائق التحالف قبل انعقاد المؤتمر، وأدّى هذا بشكل مباشر إلى أمور مهمّة لا بدّ من ذكرها لإظهار تَميُّز «اللقاء السوري الديمقراطي» والكيان السياسي التحالفي المتولّد عنه، أي التحالف. من هذه الأمور:

        – الاتفاق المُسبَق بين أعضاء الهيئة العامة على قواعد تنظيمية وفكرية وسياسية محددة، تُشكِّلُ بمجموعها منظومة متكاملة ومرجعية للعمل، يمكن الركون إليها والاحتكام لها لتسيير العمل وفضّ النزاعات وحلّ المشكلات بطرق ديمقراطية فعّالة وشفّافة.

        – إنتاج كيان متماسك تنظيمياً، محدد المعالم سياسياً، واضح الرؤية والرسالة والأهداف فكرياً. كيان تحالفي يجمع بين جنباته مجموعة من التنظيمات السياسية والمدنية والأفراد المستقلين من مختلف الجغرافيات السورية، تجمعهم كلهم قيمُ الديمقراطية.

        – إنشاء لبنةٍ أساسيّة للقُطب الديمقراطي السوري، قابلة للحياة والتطوّر، تنطلقُ من احترام الحقوق والحريات الأساسية السياسية والمدنية للأفراد وتؤمن بالحقوق العامة التي لا تقوم دولة المواطنة من دونها.

        – تحقيق المشاركة الفاعلة للفئات التي كانت على الأغلب مُستبعَدة في مسار السياسة السورية المُعارضِ منذ انطلاق الثورة، أي النساء والشباب، حيث تم تجاوز الشعارات إلى التطبيق الفعلي المباشر.

        – إرساءُ أُسسٍ جديدة للعمل المؤسساتي السوري المستقلّ البعيد عن الدوران في فلك الدول أو المنظمات المانحة.

        آفاق المستقبل

        يتطلّع «التحالف السوري الديمقراطي» لمدّ جسور التواصل مع القوى السياسية والمدنية والشخصيات السورية المستقلة، ويعمل على ذلك. ينتهج التحالف في سبيل الوصول إلى أهدافه نهجاً محوكماً برُشد، فيلتزم قواعدَ الشفافية والنزاهة والقانونية، والسياسة السليمة والمشاركة والمساءلة، والاستجابة، وغياب الفساد والمخالفات. كلّ ما يجب أن تعرفه الهيئة العامّة للتحالف يجري إعلانه ونشره. يُموَّل التحالف ذاتياً من اشتراكات أعضائه والتبرعات غير المشروطة، ويعمل على تأمين مصادر للتمويل غير المشروط. يعمل أعضاء التحالف متطوعين، ويتمّ اعتماد نظام الحوافز والتعويضات لزيادة الإنتاجية. يتّبعُ التحالف دورة مستندية متعددة المستويات الرقابية. كان التحالف يتشارك مع كيانات وأعضاء من خارجه في رسم خارطة طريق للحل السياسي السوري وهو يُخضِعُ مؤسساته وقياداته للمُساءلة، ويستجيب للتطورات بكفاءة وسرعة ومرونة ويُطوِّر من أدوات عمله باستمرار. يحاول التحالف منعَ أسباب الفساد والمخالفات وتجفيفَ منابعها، ويعمل على محاسبة كل من يقوم بخروقات في هذا المجال.

        يُشكّل «التحالف السوري الديمقراطي»، بتوزّعه الجغرافي داخل سوريا وخارجها في دول المحيط الإقليمي والعربي وفي أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأميركية، نقطة انطلاق واعدة للمساعدة في بناء القُطب الديمقراطي السوري. يتمّيز التحالف بثرائه النابع من تنوّع مكوناته وأعضائه، وهو الشيء الذي يُميّز سوريا كما هي في جوهرها وكما يجب أن تكون مستقبلاً. لا يتوقف التحالف عن التطوّر لحظة واحدة، وسيتأقلمُ مع التغييرات الهائلة التي حصلت في سوريا منذ 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، حيث سينتقل للعمل في الداخل السوري وسيكون مقرّه الرئيس في العاصمة دمشق.

        سقوط النظام وانتصار الثورة

        انطلقت معركة «ردع العدوان» في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 من إدلب، وحققت تقدّماً ملحوظاً وهائلًا عندما سيطرت على مدينة حلب على حساب قوات النظام السوري والميليشيات الداعمة لها بقيادة الحرس الثوري الإيراني. ومع تَقدُّم القوّات العسكرية تحت قيادة «إدارة العمليات العسكرية» باتجاه حماة، تشكّلت غرفة عمليات الجنوب وأطلقت معركة تحريره تحت مسمّى «معركة كسر القيود»، وبدأت المناوشات مع القطع العسكرية الموجودة في درعا والسويداء، ولحسن الحظّ لم تكن هناك مقاومة تُذكر إلّا في بعض الثكنات.

        انتهت العمليات نظرياً بإعلان سقوط النظام يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، وذلك بنزول الناس إلى الشوارع ودخول فصائل المعارضة السورية القادمة من الجنوب إلى العاصمة، حيث قامت بتأمين السفارات والمقارّ الدبلوماسية وبعثة الأمم المتحدة وأغلب المرافق العامّة والدوائر الرسمية. وصلت قوّات «ردع العدوان» لاحقاً، وأعلنت استلامها زمام الأمور.

        تحديات المرحلة الراهنة

        طرحت هذه التطورات الدراماتيكية والهائلة تحدياتٍ جمّةً على القوى السياسية والمدنية السورية، وعلى المجتمع السوري كله وعلى دول المنطقة بأسرها، ولا نبالغ إن قلنا على العديد من دول العالم خاصة في أوروبا. أصبحت سوريا من جديد بؤرة الاهتمام العالمي، وباتت جميع الدول المنخرطة بالشأن السوري أو المتأثرة به قلقة على مصالحها، فأخذت منذ لحظة إعلان السقوط تدرس الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع الواقع الجديد.

        فيما يتعلق بالساحة السورية، وجدت جميع القوى الفاعلة نفسها أمام استحقاقات كبيرة، وليس فقط القوى العسكرية التي يتوجّب عليها الآن حلُّ نفسها أو التفكير بالانضواء تحت قيادة عسكرية جديدة بحيث تكون جُزءاً من الجيش السوري القادم، بل أيضاً القوى السياسية والمدنية التي وجدت نفسها فجأة أمام دولة جديدة عادت مُلكيتها لهم ولو نظرياً على الأقل.

        في هذه الظروف، نرى أنّ «التحالف السوري الديمقراطي»، وحرصاً منه على وحدة سوريا وسلامة أراضيها واستقلالها، وعلى قطع الطريق على أي صراع داخلي مسلح جديد، قد يعمل على ما يلي:

        1- دعم جهود ضبط الأمن في البلاد وسحب السلاح، وحماية حياة السوريين والسوريات وصون كرامتهم، وحماية الممتلكات الخاصة والعامة، وإعادة تشغيل مؤسسات الدولة، وصيانة حق التعبير بما فيه التظاهر السلمي والاعتصام، ومنع الاعتقال التعسفي، ورفض التفرّد بالحكم، ورفضُ تشكيل حكومة من قبل شخصٍ واحد أو تيارٍ مُنفرِد.

        2-  عقد مؤتمر وطني في دمشق برعاية الأمم المتحدة، يتم من خلاله صياغة عقد اجتماعي جديد يساهم في تشكيل الهوية السورية الجامعة، وينتج عنه هيئة حكم انتقالي بكامل الصلاحيات، كخطوة أولى ضمن مسار متواصل يؤدي إلى دستور جديد وانتخابات حرّة نزيهة وديمقراطية، يختار من خلالها الشعب ممثليه وقياداته.

        3- وضع خطة زمنية لكافة المراحل والمهام التي ستقوم بها هيئة الحكم الانتقالي وفق روح القرار الأممي 2254 وأهدافه، وبيان العقبة تاريخ 14/12/2024، وجميع القرارات الأممية ذات الصلة بالملف السوري.

        ونرى أنّ التحالف السوري الديمقراطي قد يأخذ في الحسبان أولويات العمل وفق الترتيب التالي:

        1- تشكيل حكومة تصريف أعمال، مهمتها تقديم الخدمات من خلال مؤسسات الدولة السورية.

        2- تشكيل مجلس عسكري مهمته حفظ الأمن في البلاد وجمع السلاح وضبط الحدود، وعودة العسكريين المنشقين لأماكنهم.

        3- تسمية مجلس قضاء مؤقت من عشرة أعضاء، هم: ثلاثة من قُدامى المحامين الأحرار (المنشقين وغير المنشقين) وثلاثة من قُدامى القضاة الأحرار (منشقين وغير منشقين) وثلاثة من أساتذة القانون السوري الجامعيين (منشقين وغير منشقين) ويرأسه رئيس المحكمة الدستورية الحالي.

        4- تعديل اللجنة الدستورية وتعديل آليات عملها بحيث تكون مستقلة، وتحديد مهمتها بإعداد مسوّدة دستورٍ دائمٍ يحفظ حقوق الأفراد والجماعات السورية كافّة، ويكفل حقوق النساء، وتكون مرجعيته شرعة حقوق الإنسان، بحيث يُعرَض على الاستفتاء العام لإقراره.

        5- تشكيل هيئة انتخابات مُستقلّة، تعمل بموجب الدستور الجديد لانتخاب برلمان ورئيس للبلاد.

        6- تشكيل هيئة عدالة انتقالية مستقلّة، تكون مسؤولة عن جميع مفرداتها من حيث محاسبة المجرمين، وتعويض الضحايا، ومراعاة خصوصية النساء وحقوقهن، وخاصة اللواتي استُخدِمَ ضدهنَّ العنفُ الجنسي كسلاح حرب، وبيان مصير المفقودين ورعاية المعتقلين المحررين من الرجال والنساء وجبر ضررهم، وفرز الموظفين، وإصلاح المؤسسات، وتخليد الذكرى وشؤون المصالحة الوطنية والسلم الأهلي.

        7- تشكيل هيئة مُستقلّة لإعادة الإعمار، وهيئة مستقلّة للرقابة والتفتيش، وهيئة مستقلّة للنظر في القوانين وإصلاحها بما يتماشى مع الدستور الجديد، وسنّ قانون للانتخابات وقانون للأحزاب.

        8- تكثيف التواصل مع الدول العربية والإقليمية والمهتمّة بالشأن السوري، والسعي لعقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار سوريا، واعتبار ذلك جزءاً من السعي لبناء شرق أوسط جديد مستقر وآمن ومزدهر.

موقع الجمهورية

———————————–

أطفال المختفين قسراً في سوريا… ما مسؤوليّة المنظّمات المعنيّة بالطفولة؟/ زينة علوش

20.12.2024

ربما كانت قرى الأطفال في سوريا مجبرة على تنفيذ أوامر النظام بقبول الأطفال والطفلات من دون سجلات أو وثائق، إلا أن هذا لا يشكل مبرراً كافياً لمنع المنظمة من توثيق الحد الأدنى من المعطيات المستقاة عن الأعداد والأعمار وصور الأطفال والطفلات عند قدومهم/ن الى القرى، إضافة إلى فتح ملفات فردية خاصة بكل طفل/ة.

في عام 2013، اعتقلت قوات النظام في سوريا الطبيبة رانيا العباسي مع أطفالها الستة في العاصمة دمشق، حيث اقتحم عناصر النظام منزلها وأخذوها مع عائلتها إلى مكان مجهول، لتنقطع أخبارهم منذ ذلك الحين.

لم تفلح محاولات عائلتها في الوصول إلى أي معلومة حول مصيرها أو مصير أطفالها الذين تراوحت أعمارهم وقت الاعتقال بين عام واحد و14 عاماً. على الرغم من تبني منظمة العفو الدولية قضيتهم، وتوجيه رسائل مباشرة الى النظام السوري للإفراج عن الأطفال، لم يصدر أي رد أو تفاعل رسمي، ولم يتمكن أحد من معرفة مصير الطبيبة وأطفالها.

شكّل هذا الاعتقال حينها محطة مؤلمة في تاريخ الانتهاكات المتمادية، لا سيما المتعلقة باحتجاز أطفال وطفلات لأسباب سياسية. ومنذ إعلان سقوط النظام الحاكم في سوريا، توالت الأخبار عن احتمال تورط بعض دور الأيتام لا سيما “قرى الأطفال  SOS ” في سوريا في عملية إخفاء الأطفال. 

ظهر أخ الدكتورة المخطوفة، حسان العباسي، في تسجيل فيديو متحدثاً عن اتصالات أجراها مع” القرى” في دمشق للتحقق من هذا الأمر بعد تواتر معلومات عن وجود أطفال الدكتورة هناك ولكن تحت أسماء مستعارة.

ارتباط القرى بالنظام

تعتبر “قرى الأطفال SOS “، ومقرها الرئيسي في النمسا، منظمة دولية غير حكومية، لكنها تخضع للأنظمة المرعية الإجراء في الدول التي توجد فيها. وعليه فهي وكما في كل الدول، تخضع لنفوذ النظام المحلي.

 في سوريا، وجود المنظمة محكوم بعقود وشروط تتيح للنظام التدخل المباشر في تعيين أعضاء مجلس إدارة القرى والوظائف الأساسية فيها، لا سيما أن رواتب الموظفين والموظفات هو أعلى بكثير من الرواتب المحلية. و عليه كانت “القرى” على علاقة وطيدة مع النظام، بخاصة مع بداية تظهير صورة أسماء الأسد كسيدة أولى تهتم بشؤون الأطفال.

خصّت أسماء الأسد القرى باهتمام خاص بعدما تعرضت المنظمة لخضات كبيرة مع نهاية التسعينات، فكانت تحرص على زيارة القرى في مناسبات عدة لتلميع صورة الحريصة على توفير الرعاية للأطفال والطفلات، وكانت زيارتها الأخيرة في حفلة عيد الأم عام 2024.

البدايات الفعلية لهذه العلاقة الوطيدة بدأت بالظهور بي عامي 2004 و2005، إذ بالإضافة إلى استئثار النظام بالمناصب الأساسية في القرى كان له القرار الفاصل في تعيين مديرة القرى، والتي كانت مقرّبة من النظام خلال السنوات الماضية.

في عام 2019، تناولت تقارير صحافية معارضة، معلومات عن تعرض الأطفال للضرب والإيذاء النفسي على يد “الأمهات” و”الخالات” المسؤولات عن رعايتهم في قرية الأطفال في قدسيا، كما تم توثيق حالات تستر الإدارة على المتورطين بالإساءات، وإعادة توظيفهم في مواقعهم بعد فترات قصيرة.

والسؤال هنا لا بد من أن يطرح نفسه: هل فعلاً بإمكان منظمة محلية ذات بعد دولي أن تتورط في إخفاء الأطفال أو تنفيذ احتجاز حريتهم بأمر من السلطات المحلية؟

عالمياً، تعرضت منظمة قرى الأطفال إلى اهتزازات كبيرة نتيجة انتشار تقارير عن تعرض الأطفال إلى إساءة المعاملة وصولاً إلى الاعتداءات الجنسية، ناهيك بفساد مالي مستشرٍ.  وهذا ما أجبر المنظمة الدولية على تشكيل اللجنة المستقلة في عام 2021، للتحقيق في إخفاقات الحماية والتزام القوانين، بما في ذلك انتهاكات ضد الأطفال، الفساد، وسوء استخدام الموارد.

ولم تكن “قرى الأطفال” في عالمنا العربي، لا سيما في لبنان وسوريا، بعيدة من هذه الإساءات، إذ ظهرت تقارير عدة تؤكد انتهاكات أساسية تعّرض لها الأطفال في هذه القرى. وتم توثيق جزء أساسي من هذه الانتهاكات في تقرير اللجنة المستقلة، إذ زار فريق متخصص لبنان وأجرى تحقيقات معمقة أكدت تعرض الأطفال لاعتداءات بشكل ممنهج.

كل هذه التوثيقات دفعت بمنظمة قرى الأطفال الدولية إلى تقديم اعتذار علني عن الإخفاقات السابقة، وشجعت جميع من لديهم معلومات عن إساءة أو سوء سلوك للإفصاح عنها. وأطلقت خطة عمل تضم 24 نقطة لتحسين حماية الأطفال ومعالجة الإخفاقات السابقة. لكن المنظمة أخفقت في جبر ضرر الضحايا لا سيما الأطفال والطفلات الذين تعرضوا للاعتداءات، والعاملين والعاملات في هذه القرى المتصدين/ات لهذه الانتهاكات. ورغم نية المنظمة في تصحيح أوضاعها إلا أنها ما زالت تواجه تحديات أساسية في تطبيق إصلاحات عميقة على المستوى الدولي والمحلي.

توضيح مبهم من القرى

في تصريح صادر في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أقرت المنظمة الدولية بالمخاوف المتعلقة بالأطفال الذين تمت إحالتهم إلى منظمات الرعاية، بما في ذلك قرى الأطفال SOS – سوريا، “من الحكومة السابقة خلال الحرب الأهلية”. كما أكدت أن هؤلاء الأطفال، الذين فُصلوا عن عائلاتهم أثناء النزاع، وضعتهم السلطات في عهدة القرى من دون تقديم وثائق تُثبت أصولهم.

استمرت هذه الإحالات القسرية إلى القرى، بحسب البيان، حتى عام 2019، عندما طلبت من السلطات التوقف عن إرسال هذه الحالات المُسماة بـ”حالات أمنية”. إلا أن القرى لم توضح مصير هؤلاء الأطفال وكيفية حفظ سجلاتهم.

كما أوضحت الإدارة في بيان، أنها عملت بشكل مكثف لمساعدة عائلة العباسي، إلا أن أياً من أبناء رانيا العباسي لم يصل إلى فروع “قرى الأطفال” في دمشق وخارجها.

هيئة تحقيق مستقلّة

في ظل ما نشهد عليه من ممارسات وحشية ضد معتقلين ومعتقلات نظام الأسد في سوريا، هناك أسئلة كثيرة حول مناعة جمعيات وهيئات في مقاومة ما فرضه النظام. وربما كانت قرى الأطفال في سوريا مجبرة على تنفيذ أوامر النظام بقبول الأطفال والطفلات من دون سجلات أو وثائق، إلا أن هذا لا يشكل مبرراً كافياً لمنع المنظمة من توثيق الحد الأدنى من المعطيات المستقاة عن الأعداد والأعمار وصور الأطفال والطفلات عند قدومهم/ن الى القرى، إضافة إلى فتح ملفات فردية خاصة بكل طفل/ة.

هذه إجراءات روتينية كنا نقوم بها كجزء من عملي السابق كمديرة لقرى الأطفال في لبنان. فماذا الذي منع قرى الأطفال في سوريا من إجراء عملية توثيق رديف محلي بغرض لم الشمل عندما تتيح الفرصة لذلك. هل تورطت القرى مع النظام عبر توفير سجن للأطفال والطفلات؟ وإذا كانت القرى المحلية محكومة بمتطلبات النظام، فماذا فعلت المنظمة الدولية بهذا الخصوص على مدار السنوات السابقة؟

والمهم الآن أن نعرف ما هي الخطة الفعلية لقرى الأطفال للكشف عن مصير الأطفال والطفلات المخفيين/ات قسراً في صروحها؟ وما هي الخطة الآمنة التي ستتبعها للم شمل الأطفال والطفلات مع عائلاتهم/ن؟

قضية كهذه تتطلب تحقيقاً متخصصاً مستقلاً قبل أن يخفي المتورطون والمتورطات في الداخل الأدلة!

درج

———————————–

هل لدى “حزب الله” ما يقوله للسوريين عن دوره في بلدهم؟/ حازم الأمين

20.12.2024

 النظام في سوريا فضيحة حلفائه. فهو لم يحرص على من تولّى حمايته طوال الـ13 سنة الماضية وعلى مداراة الفضيحة التي تنتظره. فالوثائق يختلط فيها الكبتاغون مع المقابر الجماعية مع المهام الأمنية، بالأسماء والأرقام والمواقع والوظائف، وتُرفق بها كتب مسؤولين لبنانيين من “حزب الله” ومن غيره طلباً للإفراج عن موزع مخدرات لأنه “من جماعتنا”، أو طلباً لفتح الحدود أو إغلاقها تلبية لطلب مهرب، وعشرات من نماذج الفضائح التي تحفل بها الوثائق.

حسمها الحرس الثوري الإيراني في ردّه على “مزاعم” موسكو بأنها نقلت عبر طائراتها نحو أربعة آلاف مقاتل إيراني من سوريا إلى طهران، فأكد أن من نقلهم الجيش الروسي هم “مستشارون لبنانيون وأفغان كانوا يعملون في سوريا” وليسوا إيرانيين!

الحرس الثوري حرص على ضرورة الدقة في التمييز بين مقاتليه ومقاتلي أذرعه. فبين أن يكونوا إيرانيين، وأن يكونوا لبنانيين وأفغاناً فارق سياسي، وإلا لما استدعت “مزاعم” موسكو رداً. الفارق يتمثل بـ”أننا نقاتل في سوريا بأذرعنا وليس بجنودنا”.

أما صفة “المستشارين” التي أطلقها الحرس الثوري على اللبنانيين والأفغان الذين نقلتهم موسكو إلى طهران، فلهم هنا في دمشق قصص تكشفها جبال الوثائق المنثورة في الأفرع الأمنية التي تركها النظام خلفه.

كان من مهام مخابرات النظام السوري السابق كتابة تقارير تفصيلية عن هؤلاء “المستشارين”، وهذا ما يفترض أن يكون فضيحة الفضائح التي يمثلها نشاط هذه الجماعات. ومن المفترض أيضاً أن آلافاً من هذه الوثائق صارت في متناول وسائل الإعلام والأبحاث ومختبرات التحليل في كل العالم.

 النظام في سوريا فضيحة حلفائه. فهو لم يحرص على من تولّى حمايته طوال الـ13 سنة الماضية وعلى مداراة الفضيحة التي تنتظره. فالوثائق يختلط فيها الكبتاغون مع المقابر الجماعية مع المهام الأمنية، بالأسماء والأرقام والمواقع والوظائف، وتُرفق بها كتب مسؤولين لبنانيين من “حزب الله” ومن غيره طلباً للإفراج عن موزع مخدرات لأنه “من جماعتنا”، أو طلباً لفتح الحدود أو إغلاقها تلبية لطلب مهرب، وعشرات من نماذج الفضائح التي تحفل بها الوثائق.

ربما لسنا البيئة التي تستقبل هذا النوع من البيانات والمعلومات لإعادة النظر بالوظائف الفعلية خلف المشاركة في الحرب على السوريين، لكن هذه الوثائق ستكون جزءاً من وعي ما بعد سقوط النظام في سوريا. فقبل هذه الوثائق كان تناول هذه الوظائف شفهياً، وأقرب إلى توقعات وشائعات، لكنها اليوم موثقة بخط يد المخابرات السورية. وأدوار “المستشارين” كُتبت وقائعها على نحو يقتضي بالفعل رداً من أشخاصها ومن مشغليهم، لا سيما وأن قاعدة المعلومات واسعة.

والحال أن التمييز الذي أقامه الحرس الثوري بين عناصره وعناصر أذرعه، في رده على مزاعم حلفائه الروس، يصبح مفهوماً إذا ما لاحظنا ألا أسماء لإيرانيين، حتى الآن، في وثائق الأفرع الأمنية، وهي إن وُجدت فلا تُذكر في سياق الموبقات غير القتالية للنظام وحلفائه.

لكنّ أمراً آخر يحضر في هذا السياق، ويتمثل في أن مشاعر الخذلان التي خلفها هروب بشار الأسد في نفوس أجهزته وعائلته وبطانته، بعدما تركهم ولم يخبرهم بخطوة فراره، ليست شيئاً إذا ما قيست بما فتحته خطوته من أبواب فضائح لحلفائه غير السوريين لم يحرص الرئيس المخلوع على مداراتها. وللحقيقة أن جزءاً كبيراً من هذه الأدوار لم تكن معروفة قبل فتح الفروع الأمنية أبوابها للناس وللصحافة ولمن يبحث عن مفقود من السوريين وغير السوريين.

كما أن الوثائق تكشف عدم الثقة المتبادلة بين الجماعات التي تولت حماية النظام، وتنافساً هائلاً في السطو على المرافئ وعلى طرق التهريب، بحيث يحتاج المرء لكي يفهم خريطة النفوذ، إلى أنظمة إلكترونية تتولى فرز المعلومات ورسم سياقات لها، وهو ما سيفضي إلى محتوى تراجيدي يكون جزءاً من ذاكرة جماعية سورية وغير سورية على جميع اللاعبين توقّعها والاستعداد لها.

النقاش السوري اليوم يطاول المرحلة الانتقالية وما تستدعيه من أشكال ضغط على سلطة ما بعد السقوط. الدستور، ودور المرأة في مستقبل سوريا، والأقليات، والوضع الاقتصادي والخدمات وغيرها من مواضيع راهنة، وكلها تتطلب درجة من الحذر حيال المرحلة التي سبقت سقوط النظام. لبنان مثلاً، موضوع مؤجل في حلقات النقاش التي تحفل بها دمشق هذه الأيام، وكذلك إيران والعراق، لكن بالنسبة الى السوريين، هذه أنظمة قاتلت إلى جانب النظام، وهي على الأقل لم تبد حساسية حيال جرائمه، وعلى الأكثر كانت شريكة فيها.

الصمت لن يفيد، والتمنيات المستجدة لـ”الشعب السوري” بحياة أفضل بعد قراره “المفاجئ” بتغيير النظام، لن تغني عن جوع.

من الصعب انتظار حكمة ممن شاركوا النظام في قتاله السوريين، لكن بلداً كلبنان لا يملك حدوداً إلا مع سوريا، لن يكون بعافيته في ظل هذه الحقائق، إلا إذا أجرى مراجعة مقنعة وقدمها إلى السوريين. أما العراق، فقابليته لإجراء هذه المراجعة أكبر، ذاك أن مروحة القوى التي تشكل المشهد السياسي العراقي أكثر شجاعة وأريحية من قرينتها اللبنانية، وتصريحات مقتدى الصدر التي سبقت سقوط بشار الأسد نموذج عما نعنيه بهذه المقارنة.

درج

—————————

سوريا التي نحب… يدي على قلبي من المطبات/ عبد الحميد صيام

20 كانون الأول 2024

يوم الإثنين الماضي عقد مجلس الأمن الدولي جلسة خاصة مفتوحة حول سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد، ودعت رئيسة المجلس، الوفد السوري ليأخذ مقعده بانتظار كلمته، على طاولة المجلس، إلى جانب ممثلين من المجتمع المدني السوري: وعد الخطيب، المنتجة السينمائية، وبدر جاموس رئيس الهيئة الدستورية السورية. فوجئ الجميع بأن الوفد السوري برئاسة السفير قصي ضحاك، قام بالانسحاب من الجلسة دون إبداء أي سبب أو اعتذار.

لقد أثارت هذه الحادثة كثيرا من اللغط والأسئلة حول حالة الفوضى التي تعيشها سوريا. فقد أعد السفير الضحاك كلمة تتحدث عمّا يجمع السوريين لا ما يفرقهم، لكن تعليمات وصلت من دمشق، والوفد جالس على الطاولة طلبت منه الانسحاب. أما تفسير ذلك، فيبدو أن هناك من يصدر الفرمانات الفردية دون الالتفات إلى عواقب ذلك من أضرار على الصورة التي يحاول قادة سوريا الجدد أن يقدموها للعالم.

وبعد محادثات مع أطراف سورية عديدة، أقدم بعض الملاحظات على ما يتخوف منه السوريون الوطنيون، الذين يعملون على بناء دولة سوريا الحديثة التي تضم كل أبنائها وبناتها ولا تقصي أحدا ولا تظلم أحدا ولا تعيد إنتاج الديكتاتورية، حتى لو كانت ديكتاتورية ناعمة فالاستبداد شر في جوهره.

– من الواضح أن شخصا واحدا استفرد بالقرار، غير صورته من متطرف ملتح يلبس العمامة باسم «أبو محمد الجولاني» إلى رجل متحضر بعيد عن التطرف باسم أحمد الشرع، دون أن ينفي كونه إسلاميا، ولكنه إسلامي معتدل حضاري منفتح ينوي أن يقيم العدل والحرية وسيادة القانون. هذه صورته التي يعممها. في حكومة الإنقاذ في إدلب كان هناك فرض للباس الشرعي، خاصة الحجاب، وكانت الموسيقى ممنوعة في المدارس، لكن ذلك تغير ولم يطلب أحد من الناس في سوريا كلها الالتزام بأي قيود في موضوع اللباس. كما أن منح الأقليات الدينية حرية إقامة الشعائر والزينة ومظاهر الفرح أمر يبشر بالخير، إلا أن الخوف أن يكون ذلك عملا مؤقتا على رأي المثل الشامي «تمسكن لتتمكن».

– المثير للاستهجان أن حكومة الإنقاذ في إدلب نقلت بكاملها لتكون الحكومة الانتقالية في دمشق. فاقتصرت حكومة دمشق المؤقتة لمدة ثلاثة أشهر على لون واحد، مع إقصاء للآخرين، خاصة الائتلاف الوطني السوري ومقره إسطنبول، الذي يضم كوادر علمية وسياسة وتقنية عديدة، ويمكن الاستفادة منها والمساهمة في بناء الدولة الحديثة. كما أن قوى الجيش الحر التي أساسا انشقت عن الجيش السوري في مرحلة البداية عام 2011، يجب أن تكون ممثلة في الحكومة الانتقالية، كي لا يكون الإقصاء بذرة خلاف قد تتسع في المستقبل. من المهم أن تنضوي كل الفصائل تحت مظلة واحدة، وكل الجماعات المسلحة أن تصبح جزءا من جيش وطني مهمته الدفاع عن الوطن، لا حماية الديكتاتور، سواء كان دمويا أو ناعما.

– مخطئ من ينظر إلى هؤلاء الذين اجتمعوا في العقبة من أجل سوريا على قلب رجل واحد. أبسط النظريات أن هناك اتفاقا تركيا أمريكا إسرائيليا على إسقاط النظام واستبداله بنظام مهادن مسالم. وهنا أوضح بعض النقاط الأساسية، كما سمعتها من أطراف سورية مؤيدة للنظام الجديد.

هناك ثلاث مجموعات كل واحدة تريد أن تشد سوريا المستقبل إلى جانبها: الإمارات وإسرائيل ومن خلفهما الولايات المتحدة. هذه المجموعة تريد لسوريا أن تدخل محور المطبعين مع الكيان الصهيوني، مقابل رفع العقوبات وضخ أموال الإعمار بعد قيام إسرائيل بتدمير كل إمكانيات سوريا العسكرية، كي تترك البلاد عارية تماما من أي إمكانية لمقاومة أعداء البلاد. وقد ذكر لي صديق سوري أن بعض أطراف المعارضة في واشنطن طلب من الخارجية الأمريكية أن تتأخر في رفع العقوبات، من أجل الضغط على الحكومة الانتقالية لتشكيلها على هوى معين. هذا المحور لا يمانع أبدا أن تبقى مظاهر التطرف الديني المنضبط على البوصلة الأمريكية الإسرائيلية. وهذا المحور ليس معنيا بالديمقراطية ولا الانتخابات الحرة، ولا التعددية ولا سيادة القانون. المهم الانصياع للسياسة الأمريكية الإسرائيلية والانضمام لقطار التطبيع. وهناك محور آخر وهو محور تركيا ـ قطر الذي يريد أن يرى دولة على النمط التركي: طبعة من الإسلام الحضاري وانتخابات حرة وديمقراطية وتعددية وتثبيت تحالف عميق مع الدولة التركية، بحيث تأخذ الشركات التركية عقود الإعمار كافة، وستكون قطر حجر الرحى في إعادة الإعمار. المشكلة أن تركيا ليس لديها فائض مالي الآن للإعمار، وهمها الأول عودة اللاجئين والمهجرين وتحويل تلك المهمة إلى الأمم المتحدة عبر إنشاء بعثة مساعدة ضخمة. الولايات المتحدة وتركيا الآن في مواجهة عسكرية في مناطق قوات الحماية الكردية وقوات سوريا الديمقراطية، ودعم حزب العمال الكردستاني. ولن تقبل تركيا مساومة في موضوع الأكراد، وهذا ما قاله بكل وضوح سفير تركيا في الأمم المتحدة أحمد يلدز في جلسة مجلس الأمن يوم الإثنين، حيث قال:

«لا يمكن تحقيق الاستقرار في سوريا، دون معالجة التهديد المستمر للإرهاب. وينبغي لسوريا أن لا تصبح ملاذا للجماعات الإرهابية التي تستغل فترة الانتقال لتعزيز أجنداتها. وعلى وجه الخصوص، لا يزال حزب العمال الكردستاني/وحدات الحماية الكردية وما يسمى «قوات سوريا الديمقراطية» والجماعات التابعة لها تشكل تهديدا خطيرا – ليس فقط لوحدة سوريا وأمنها ولكن أيضا للأمن الوطني التركي والمنطقة الأوسع. وتسلط هجماتهم، خاصة تلك التي تستهدف المناطق ذات الأغلبية العربية مثل الرقة ودير الزور، إن الحاجة ملحة إلى القضاء على هذه الجماعات لضمان سلامة جميع السوريين». وكان الحديث موجها أصلا للولايات المتحدة الداعمة لهؤلاء. هذا التوجه التركي القطري قد يكتب له النجاح، إذا وضعت السعودية ثقلها خلف هذه المجموعة وهو أمر غير واضح الآن.

أما الأردن ومصر فهمهما الأساسي، هو ألا تصل مجموعات الإسلام السياسي إلى السلطة، وتدعم الإمارات التي تلعب على كل الحبال هذا التوجه. الإسلام السياسي الذي يأتي نتيجة ثورة شعبية عارمة، لا بد من إفشاله كما تم إفشال التجربة المصرية والتونسية والليبية واليمنية. الأردن تريد نظاما ناعما إلى جوارها، لا يكون مصدر تهديد أو مصدر تصدير لحبوب الهلوسة، نظام يسترد اللاجئين ويتعامل مع الجيران جميعهم باحترام، ولا يشكل سندا للتيارات الإسلامية في المنطقة.

لا أحد ينكر أن إسرائيل هي اللاعب الأساسي في المنطقة، بعد التطورات في غزة ولبنان وسوريا وإيران، خاصة بعد وصول ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة للمرة الثانية. لكن الذي يفرط في أرضه وكرامته وكرامة شعبه ويردد شعارات جوفاء ويكرس عبادة الشخص، لا تلبث الأيام أن تكشف هذا الزيف وينهار عاريا في وضح النهار أو يضطر لأن يهرب في جنح الظلام إلى منفاه الأبدي مذموما مدحورا، ولنا في شاه إيران وزين العابدين والشيخة حسينة وبشار الأسد عينة من هذه الظاهرة.

ما نتمناه أن تعود سوريا لعشاقها العرب الذي فرشوا على ثراها أهدابهم، ووقعوا في حب ياسمين دمشق وغوطتها وسوق الحميدية ومقهى هافانا، حيث كنا نلتقي بمظفر النواب يحتسي قهوته على مهل. سوريا لنا جميعا فهي مركز الروح والقلب من بلاد الشام، وهي المجد الذي لم يغب ويعود ليشرق من جديد.، نريد أن نعود إليها نمارس حق القول والغناء والسير على ضفاف بردى دون خوف من المارة، عشت أول أيامي المهنية في ربوعها وتعلقت بها ولم أفارقها إلا في عهد سنوات الرعب والبراميل والقتل على الحواجز والتعذيب اللانهائي، نريد أن نعود بعد أن تستقر الأمور ويستتب الأمن وتلغى الطائفية وتنتهي أجهزة الأمن السرية والعلنية، لا أحد يسأل عن مذهب وعن دين وعن عرق ولا مكانة اجتماعية ولا يبحث عن واسطة ليسترد جواز سفره الذي صودر في المطار. تلك الشام التي عشقناها صغارا وترددنا على حاراتها وأسواقها وبساتينها كبارا، ولم نترك فرصة لزيارتها إلا واغتنمناها. فانتظري عودتنا قريبا يا دمشق ولا تبدئي العتاب على هذا الغياب.

كاتب فلسطيني

القدس العربي

—————————–

مهد الأيديولوجيات: هل سوريا ليست أفغانستان فعلاً؟/ محمد سامي الكيال

20 كانون الأول 2024

تصاعدت المخاوف، عقب سيطرة ميليشيات المعارضة المسلحة، ذات الطابع الإسلامي، على العاصمة السورية دمشق. إذ بات من الممكن القول إن سوريا هي الدولة الأولى في العالم، التي تستفرد بالسيطرة على عاصمتها جماعة مسلحة، كانت في ما مضى جزءاً من تنظيم «القاعدة». كابول الأفغانية بالمناسبة لم تكن يوماً تحت حكم القاعدة، كما أن التنظيم آنذاك لم يكن معنياً بحكم وإدارة دول، بقدر انشغاله بالجهاد العالمي العابر للحدود.

إلا أن حكّام دمشق الجدد سعوا، قدر إمكانهم، لتقديم التطمينات، هم لم يعودوا «قاعدة» منذ سنوات، وأبدوا تفهّماً للتنوّع الديني في المجتمع السوري، كما قاموا بنوع من «النقد الذاتي» لممارساتهم السابقة، ولعدد من ممارسات الحكم الديني في المنطقة. والنتيجة: أعلن محمد البشير رئيس ما يسمى «الحكومة الانتقالية» في سوريا، أن هنالك نموذجاً جديداً للحكم، سمّاه «المدنيّة الشرعية»، ليثير حيرة كل مستمعيه، إذ لا يعلم أحد ما «المدنيّة الشرعية» حقاً، خاصة أن مفردة «مدنيّة» نفسها، التي انتشرت كثيراً إبان «الربيع العربي»، بوصفها نمطاً لنظام الدولة، لا معنى جديّاً لها في العلوم السياسية، فما بالك إذا أضيفت لها «شرعية».

كثيرون من المستبشرين بسقوط نظام الأسد، وخلاص السوريين منه أخيراً، حاولوا التمسّك بالأمل، ليؤكدوا أن الجهاديين تغيّروا حقاً، وباتوا «سوريين» أكثر، والمجتمع السوري سيمنع أي عملية أسلمة شاملة وعنيفة للقانون والحياة العامة، لأن «سوريا ليست أفغانستان». بالتأكيد سوريا ليست أفغانستان، والأخيرة ليست أوزبكستان مثلاً. ولكن يبقى هذا الطرح مثيراً لبعض الأسئلة، أهمها: لماذا التفاؤل بكون الحكّام الجدد قد باتوا أكثر «سوريةً»؟ هل في التاريخ والثقافة السياسية السورية ما يجعلنا نطمئن لميل السوريين إلى احترام قيم، مثل التعددية والتنوّع والحقوق الفردية والاجتماعية؟

الإجابة، ومنذ البداية، «لا» بالتأكيد. تاريخياً شهدت سوريا نشوء وتطور كثير من الأيديولوجيات المتطرفة، التي انبنت كلها على مفهوم الأمة الأحادية، المُلغية لكل فئة قد يشتبه بأنها لا تتسق، من حيث هويتها ولغتها ونمط حياتها وخياراتها السياسية، مع ما يفترض أنه جوهر «الشعب» الواحد المتجذّر في التاريخ، وثقافته وتطلعاته، بل يمكن القول إن سوريا «طليعية» في هذا المجال على المستوى العربي، وقدّمت عدداً من أهم منظري ومؤسسي تنظيمات مثل «البعث» و«القومي السوري» و«القوميين العرب» و«الإخوان المسلمين»، وصولاً إلى القاعدة، التي قد تكون تجربتها السورية متأثرة لحد كبير بأفكار مصطفى ست مريم، المعروف بأبي مصعب السوري. ولا ننسى في هذا السياق ازدهار الفكر الجهادي ومجموعاته في البلد، خاصة عقب احتلال العراق، وتدفّق الجهاديين، بعلم النظام السوري آنذاك وتسهيلاته، لزعزعة الوجود الأمريكي في الجار الشرقي. إلى أن وصلنا إلى ظهور أشد التنظيمات الإسلامية دمويةً، أي «داعش»، على أرض الشام والعراق.

سوريا ليست أفغانستان إذن، بمعنى أنها قد تتفوّق عليها أيديولوجياً في إنتاج العقائد السياسية الحديثة، التي تتخيّل أمماً منظّمة، في معارك تاريخية أو فوق تاريخية. إلا أن هذه الإجابة تطرح أسئلة جديدة: أي ثورة وتغيير ممكنين في «مهد الأيديولوجيات» هذا؟ وهل يمكن لتحديثات أيديولوجية، من نمط «المدنية الشرعية»، أن تطمئن أحداً، باستثناء أنصار هذه النسخة أو تلك من الأمة الأحادية؟

بعث وقاعدة

من اللافت في سيرة حياة أحمد الشرع قائد «هيئة تحرير الشام»، أنه يتحدّر من عائلة بعثية، فقد كان والده حسين الشرع أكاديمياً معروفاً، يميل، مثل عدد مهم من البعثيين السوريين، إلى النسخة العراقية من الحزب. وهذا الميل العراقي، إن صح التعبير، انتقل إلى الابن، الذي سافر إلى العراق ليشارك في النشاط الجهادي هناك. يمكن تتبّع خطوات تمازج بقايا البعث العراقي مع «القاعدة»، في إطار ما يسمى «المقاومة العراقية»، التي شارك فيها كثير من الضباط والحزبيين السابقين، وتطرّفت في إسلاميتها يوماً بعد آخر، إلا أن بداية الأسلمة لم تكن مع الاحتلال الأمريكي، إذ أمضى الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عقد التسعينيات في «حملات إيمانية»، طالت جهاز الدولة والقانون والحزب، والمجتمع عموماً.

الشرع الابن إذن نتيجة تجربة أيديولوجية عميقة، تجذّرت بين سوريا والعراق، ودمجت عناصر العروبة والإسلام والعشائرية، المُعاد إنتاجها بالعلاقة مع جهاز الدولة، أو في الحرب ضده. ولم يكن يوماً «نبتاً غريباً» عن الأرض السورية، حتى في عز مرحلته الجهادية المتطرّفة. إنه ابن «الأمة» إياها، التي لا يمكن أن تقوم إلا على ركيزتين: تنظيم المجتمع وحشده على عقيدة سياسية واحدة أولاً، عبر نخبة مؤدلجة جيداً؛ والدخول ثانياً في المعركة ضد العدو. أحياناً تنوب النخبة عن المجتمع في المعركة، كما في خلايا الجهاديين العابرة للحدود، وقبلها مناضلي الحركات القومية – اليسارية، الذين قاتلوا على مساحة المشرق كلها، من فلسطين إلى عُمان؛ وأحياناً أخرى تحاول إنتاج مؤسسات اجتماعية وسياسية راسخة، لـ»تعبئة» المجتمع، بما يتسق مع أهداف المعركة، كما في كل تجارب الدول القومية في العالم العربي. ولكن في كل الأحوال، لا بد من تأديب المجتمع، ورفع سويته، وإنتاج هوية متسقة له، ليكون أهلاً لمهمة تاريخية ما. يمكن اعتبار كل هذا جوهرياً في التحديث العربي، خاصة في مرحلة التحرر الوطني، ولا يشذّ عنه قوميون أو يساريون أو إسلاميون، إلا في ما ندر.

قد يكون الشرع انتقل إلى مرحلة «الحوكمة»، منذ حكمه لأجزاء من محافظة إدلب السورية، إذ بات لا بد من مؤسسات، تراعي الوضع الاجتماعي القائم، وتحاول «تطويره» ببعض الصبر، نحو الغاية الأسمى. وهذا يتسق تماماً مع أفكار أبي مصعب السوري، التي بدورها ليست غريبة عن أيديولوجيات أخرى شهدتها المنطقة. وهكذا فإن «المدنيّة الشرعية» قد تكون نمطاً من الحكم المؤسساتي، الذي يؤدّب المجتمع بصبر، وبالتدريج، ليكون صالحا لـ»القضية». لا ندري حتى الآن ما القضية التي سيحملها حكّام دمشق الجدد، بعد انتصارهم في قضيتهم الأولى بإسقاط النظام. غالباً لن تكون القضية الفلسطينية، فتصريحات الشرع واضحة بهذا الخصوص. هل هي بناء نموذج إسلامي في بلد متعدد طائفياً، ولكنه يبقى قاعدة «الأمة» الأساسية؟ خطبة الشرع في الجامع الأموي، التي أهدى فيها انتصاره للأمة، قد ترجّح هذا الاحتمال.

ليست «المدنية الشرعية» بالأمر الجديد، إنها التطور الطبيعي لمزيج من الأيديولوجيات. ومن البعث إلى «القاعدة» عايشنا أنماطاً متعددة منها، تختلف فقط في درجة تشددها وأسلمتها، ولكن ليس في طابعها الأساسي: نمط من الهندسة الاجتماعية، لإنتاج آلة حرب ما، ستشتغل أولاً بالتأكيد ضد جانب من مجتمعها، لضمان اتساقه، وإنتاج «الشعب» الحقيقي والأصيل، المتطابق مع هويته، المحددة بشكل سابق عليه، وعلى ممارساته وتعبيراته.

البراغماتية الشرعية

إلا أن كثيرين يركزون على «براغماتية» الشرع، وليس «أيديولوجيته». بمعنى أنه بات رجل سياسة، يهتم بمصالح وعلاقات معيّنة، في الداخل والخارج، وربما صار متأثراً بالنموذج الإسلامي التركي، الذي لا تمنعه إسلاميته من أن يكون عضواً في حلف الناتو، أو تدفعه لرفض العلاقات الجيدة مع إسرائيل. قد تكون مشكلة هذا التصور، افتراض أن «البراغماتية» أمر مختلف جذرياً عن الأيديولوجيا. وهذا غير صحيح، إذ أن تعريف المنفعة نفسه، وأفضل السبل لتحقيقها، مرتبط بسلسلة متسقة من التصورات والأفكار والعقائد، تشكّل إطاراً معيارياً، لا يمكن للبراغماتي أن يعي ذاته من دونه، أي أنها طرح أيديولوجي أيضاً. وتاريخياً لم يوجد قائد ناجح، لم يمارس «البراغماتية» ببراعة، ولكن أي براغماتية؟ علينا أن نفهم أيديولوجيته أولاً كي نحدد مقياساً لنفعيته. هل حركة طالبان اليوم مثلاً غير «براغماتية»؟ قد يسعى حاكم دمشق الجديد إلى «انفتاح على العالم»، لنيل الشرعية، واستجلاب الأموال، سواءً على هيئة مساعدات أو استثمارات، ولكن هذا لن يعني على الإطلاق أنه نسي وعوده للأمة، سواء الوعود القديمة، أو الجديدة التي أطلقها مؤخراً من حرم الجامع الأموي.

«تفكيك» سوريا

هنالك جانب آخر في الهندسة الاجتماعية، التي عرفناها مع التحديث المرتبط بحقبة التحرر الوطني وبعد الاستعمار: ليس فقط الانتصار في معركة تاريخية ضد العدو، بل أيضاً، وأساساً، إيجاد «حل» لأزمات التشكّل الوطني، في مساحات محددة بحدود صارمة، بات عليها أن تصبح دولاً حديثة.

الإسلام والعروبة كانا الاقتراحين الأساسيين، إلا أن سكان المساحات المذكورة لم يكونوا كلهم عرباً ومسلمين، أو لم يفهموا أنفسهم سياسياً بهذا الشكل. هكذا كان لا بد من صياغة «أغلبية» واضحة المعالم، يمكن تتبّع نشأتها عبر إجراءات متعددة، من المجازر والتهجير على أساس عرقي وديني، في الحالات الأكثر تطرفاً؛ إلى صياغة الهوية عبر القانون والتعليم والثقافة الجماهيرية والمؤسسات الدينية الرسمية، وغيرها من الإجراءات المرتبطة بأجهزة الدولة.

«الأغلبية» متغلّبة بطبعها، وقد تقبل بوجود أقليات إلى جانبها، ولكن تحت سقفها، وبما لا يخالف أساسيات شرعها. أي تقبلها بالصفة الذميّة المُحدّثة: التخلّي عن أساسيات المساواة في الحقوق، والخضوع للهوية العربية الإسلامية، المعاد إنتاجها سياسياً؛ مقابل السماح بممارسة بعض الطقوس، والاستمرار في الحياة. ربما فقدت «الأغلبية» صلاحيتها وقدرتها على الاستمرار، في الحالة السورية بالذات. والسعي لاستمرار تغلّبها وصفة لحرب أهلية دائمة، واضطرابات اجتماعية لا تنتهي، خاصة أن ثمن فهمنا لأنفسنا، بوصفنا عرباً ومسلمين بالهوية السياسية، قادنا من البعث إلى القاعدة، وفكك كل إمكانية لإنتاج الاجماع.

لا ندري إذا كان أحمد الشرع سيستمر حاكماً لدمشق سنوات طويلة، ولكن سلطته لن تترسخ بسهولة بالتأكيد. ربما كان الأجدى «تفكيك» سوريا التي تعودنا عليها، ليس بمعنى تقسيمها، وإنما تجاوز فكرة «الأغلبية»، المهيمنة بهويتها على دولة مركزية، سواء كانت عربية مسلمة، كما في حالة البعث؛ أو عربية سنيّة إسلاموية، كما في حالة الهيئة. يمكننا أن نردد طويلاً «سوريا ليست أفغانستان»، ولكن هذا بحد ذاته ليس مطمئناً أبداً، وربما يجب أن نفكر الآن بـ»سوريا ليست نفسها»، فقد عانينا كثيراً من «سوريا» التي نعرفها.

 كاتب سوري

 القدس العربي

—————————-

صدمة ما بعد النشوة/ رشا عمران

20 ديسمبر 2024

نعود، نحن السوريين، إلى الواقع بعدما شلتنا فرحة التخلص من كابوس نظام الأسد، تلك المعجزة التي يئسنا تماما من حدوثها ونحن على قيد الحياة. لوهلة ظننّا أن مفردة الأبد تبدو حقيقة مطلقة، وأن ما علينا فعله هو الرضوخ والاستسلام لهذا القدر الكارثي، لكن المعجزة حصلت عبر توافقات دولية جاءت لحظة في مصلحة الشعب السوري، أو على الأقل هذا ما نريده، فمن تلقّف فراغ السلطة اليوم لن يقل استبداداً عن الأسد فيما لو أتيح له ذلك، وسوف يسعى إلى فرض نمطه على سورية المتنوعة والمتعدّدة، لكن السوريين لن يوافقوا بعد اليوم على أن تُعاد تجربة الاستبداد في بلدهم، وهو ما يظهر رغم محاولات إسكات الأصوات التي تعترض على سلطة الأمر الواقع وسلوك عناصرها، فلكل فصيلٍ مؤيدوه، خصوصاً إن كان فصيلاً دينياً مؤدلجاً يدّعي تقديم الخلاص لشعبٍ عانى سنوات من العنف والقتل تحت رايات طائفية ومذهبية، ولم يعد لديه سوى التمسّك بدينه، بوصف الدين ملجأ وحماية للبنية النفسية والهوياتية لدى من جرى الفتك به تحت كل المسمّيات الوطنية والقومية والمذهبية.

نعود إلى الواقع لنكتشف، ومعنا العالم بأسره، أن كل ما قيل سابقاً عن إجرام النظام السوري لم يكن سوى جزء يسير من الحقيقة، ما حدث أشدّ هولاً مما قيل عنه. ليس فقط ما جرى الكشف عنه في سجن صيدنايا وغيره من السجون، وإنما الكشف أيضاً عن حقيقة أن مئات آلاف من المعتقلين من أبناء سورية وبناتها، ومن في حكمهم من الفلسطينيين، جرت تصفيتهم داخل المعتقلات؛ فهناك عشرات من المقابر الجماعية التي تُكتشف يوماً وراء يوم في كل سورية، وتضم كل منها مئات بل آلاف الهياكل العظمية، تحتاج خبراء ومخابر وأجهزة ومعدات طبية حديثة لمعرفة أصحابها وتاريخ رحيلهم وطريقة إعدامهم.

السوريون اليوم أمام واقع جديد، صادم إلى درجة الذهول: بلاد بأكملها مدمّرة، حجارتها وبشرها واقتصادها وميزانيتها وخيراتها، كل ما فيها قد فتك به نظام مجرم وخائن تبخّر في لحظة واحدة تماماً؛ ولأول مرة يجري الكشف عن مفهوم ارتباط شخص الحاكم بالدولة إلى هذا الحد. عادة عندما تحدُث ثورة أو انقلاب أو أي شيء شبيه، تبقى مؤسّسات الدولة قائمة كما هي، لكن ما حدث في سورية يفضح ذلك الارتباط الوثيق بين الحاكم والدولة. كان بشّار الأسد هو الدولة، لا توجد في سورية دولة عميقة، لا يمكن الحديث عن هذا، كان بشّار الأسد هو السطح والعمق في الدولة، حين اختفى تبخّر معه كل شيء: الجيش والأمن والشرطة ومؤسّسات الدولة الإدارية والخدمية، كل ما يمت للدولة بصلة اختفى، وانكشف السوريون على فراغ مهول وكوارث وجرائم لا يمكن وصفها أو تصديقها.

السوريون اليوم أمام واقع بالغ الخطورة: ثمة فصيل ما زال مصنّفاً تحت بند الإرهاب الدولي يسيطر على الحكم، فصيل عسكري راديكالي لديه تاريخ من الارتكابات في سورية بحق مدنيين وناشطين، وعناصره غير مؤهلين للتشاركية في الحيز العام السوري المتنوّع، حتى المدرّبين منهم لهذه اللحظة الفاصلة لم يتمكنوا من إخفاء أيديولوجيتهم. وهناك خوف من الانفجار الأمني والطائفي في أي لحظة، رغم ما أبداه السوريون من وعي وطني، رغم كل محاولات فلول النظام السابق والمليشيات المسلحة المختلفة لاستغلال الفراغ الأمني واللعب بمصير سورية وشعبها. وهناك إسرائيل التي دمّرت كل المنظومة الدفاعية السورية، وبدأت احتلال أراض وقرى جنوبية سورية من دون أن يعترض أحد، وهناك تركيا التي أعلن ترامب أنها سوف تكون المسؤولة عن سورية، ما يعني انتقال سورية من الحماية الروسية الإيرانية إلى الحماية التركية. … كل هذه ملفاتٌ بالغة الخطورة، تضاف إلى ملف الوضع المعيشي المنهار ومستقبل سورية وشكل الدولة القادمة والدستور والنشيد والعلم وعودة المهجرين والمفرج عنهم من المعتقلين. ما يعني أن ما مضى من التاريخ السوري شيء والقادم شيء آخر مختلف، لكنه ليس أقل خطورة أبدا مما كان. سورية اليوم مفتوحة على كل الاحتمالات، وأمامنا، نحن شعبها، فرصة فرض ما نريده لنا ولها.

العربي الجديد

———————————

سقوط النظام في الساحل السوري وأنسنة اللحظة التاريخية/ مالك ونوس

20 ديسمبر 2024

ربما ترقَّب الجميع بقلقٍ ما سيكون عليه حال الساحل السوري إذا ما هرب طاغية سورية، بشّار الأسد يوماً. وتساءلوا بشأن احتمال أن يقود سقوطه إلى قلاقل في هذه المنطقة الحساسة من البلاد، والتي كان يعدها الخزان البشري لجيشه، إذا ما دخلها ثوار، أو إذا وصل إليها ممثلون لسلطةٍ جديدةٍ تخلعه، أم سيكون الأمر سلساً، يجري بلا قتال ولا يؤدّي إلى مشكلاتٍ أمنيةٍ لاحقة. أما وقد سقط الديكتاتور ونظامه، وهرب بشّار إلى روسيا من دون أن يخبر أحداً، فقد حصل ما يدلّ على ذكاء إدارة العمليات العسكرية، والذي توقّعناه، وهو عدم توجّه قواتها إلى الساحل لإخضاع المنطقة، بل التوجّه إلى مركز السلطة في العاصمة. وقد أدّى هذا الأمر إلى ارتياحٍ في الساحل، وجعل سكّانه ينتظرون ما ستُفضي إليه معركة دمشق، مع كثيرٍ من القلق من أن يرفض أنصار النظام في منطقتهم تسليم أسلحتهم، ويعمدوا إلى مقاومة السلطة الجديدة، وبالتالي، إدخالها في معركةٍ تصيب الجميع بتداعياتها.

ظهرت حالة الترقب والقلق منذ اللحظة الأولى التي شنَّت فيها إدارة العمليات العسكرية التابعة لتحالف فصائل المعارضة السورية، هيئة تحرير الشام والجيش الوطني، في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، عملية “ردع العدوان”. وازدادت بعد الانتصار الماراتوني الذي سجلته تلك الفصائل، لدى استعادة ما تبقى من ريف إدلب وريف حلب، ثم السيطرة السريعة على حلب المدينة. في هذه اللحظة، تبين مدى ضعف جيش النظام، والذي يمكن إرجاعه إلى الضعف البنيوي المعروف تاريخياً، وكذلك إلى التعب الذي أصاب أفراد هذا الجيش، علاوة على تسريح من تجاوزت فترة خدمتهم زمناً محدّداً، وإلى غياب الانضباط وحال الفلتان، بسبب منح الضباط الإجازات المفتوحة لجنود مقابل مبالغ مالية (تفييش)، وهو ما كانت تتغاضى عنه قيادة الجيش عادةً، بسبب عدم قدرتها على دفع رواتب كافية لأولئك الضباط. حينها سادت في الساحل الأجواء ذاتها التي سادت سنة 2011، عندما عاد النظام إلى التجييش الطائفي، والبدء في التضييق على المعارضين. كما تخوَّف الأهالي أن يبدأ النظام بحملات تجنيد عشوائية، وهو ما حصل فعلاً؛ إذ ساقَ حتى من أتمَّ خدمته، بل والمعفيين من الخدمة لأسباب محدّدة. لذلك عمد الشبّان إلى ملازمة المنازل والتخفي، مخافة السوْق إلى ساحات القتال، وغالباً من دون الخضوع للتدريب اللازم، أي إلى الموت المحقّق.

على الجانب المقابل، ربما تملَّكت إدارة العمليات العسكرية المخاوف من أن تشهد عملية تحرير الساحل من نظام بشار معارك شديدة العنف، تؤدّي إلى سقوط أعداد كبيرة من المدنيين، واتهامها باستهداف الأقليات. معارك ليس مع الجيش النظامي، بل مع بقايا النظام، خصوصاً نتيجة تغلغل مليشيات الأسد بالتركيبة السكانية للمنطقة، وإمكانية فرضها على السكان الانخراط الكبير في التصدي لمقاتلي إدارة العمليات العسكرية بحجّة الدفاع عن أهاليهم ضد من واظب على النظام على تسميتهم “تكفيريين”. لذلك يمكن القول إن توجّه إدارة العمليات العسكرية إلى حسم المعركة عن طريق السيطرة على العاصمة، وإسقاط النظام هناك، قاد إلى تحرير الساحل، وجنَّبه حمّام دم كبير وتبعات صراع كان يمكن أن يصبح طويل الأمد. وعليه، كان الدخول السلس لقوات إدارة العمليات العسكرية إلى طرطوس، وبالتوازي معها إلى اللاذقية، ما أعطى إيحاءً، أو ربما أثبت، أن الولاء لبشّار الأسد في هذه المنطقة هشّ، جرت هندسته بالقوة والترهيب واللعب على الوتر الطائفي والإفقار، وهو ما ينطبق على مناطق أخرى خارج الساحل.

وبينما لم يعمد مسؤولو إدارة العمليات العسكرية إلى تطمين أهالي منطقة الساحل بخطاب مباشر وصريح، كما طُلب منهم عبر الإعلام من شخصياتٍ معارضة للنظام، كانت طريقتهم في دخول مناطق الأقليات في حماة وحمص ودمشق عاملاً ملطفاً، ولقي صدىً إيجابياً لدى نسبة كبيرة من أهالي المنطقة الساحلية. ثم كانت طريقة إدارة أحوال المدن الساحلية المعيشية التي قام بها أفراد إدارة العمليات العسكرية، وحرصهم وسعيهم الحثيث واللافت إلى تأمين الخبز للأهالي، وتأمين المحروقات للمنطقة من أجل تسيير حركة المرور، ومنع التعدّي على الأملاك العامة، كانت هذه الطريقة عاملاً في تغيير صورتهم لدى الجمهور؛ إذ إن فترة انتقالية شبيهة بالفترة التي تلت سقوط بشّار، كفيلة بإحداث فلتان واضطرابات في أي بلد مدّة ليست قصيرة، وهو ما لم يحصل في سورية. لذلك يُحسب للسوريين أنهم أظهروا درجة كبيرة من الوعي، واستطاعوا التغلب على الواقع الذي كرّسه نظام الأسد الأب والابن، والذي سعى إلى ضرب نسيج المجتمع السوري، من أجل بقاء التوتر الدائم داخله، وبث التفرقة بين أبناء هذا الشعب، ليسهل عليه إخضاعه وتوجيهه كما يريد.

يسجّل لأبناء المنطقة أنهم سعوا سريعاً إلى أنسنة هذه المرحلة، ومواجهة خوفهم من الآخر والتخلص من هذا الخوف، عن طريق التواصل المباشر مع مقاتلي إدارة العمليات العسكرية في مدن الساحل وقراه. وكانت لافتةً مسارعة فتيات، من الأيام الأولى لسقوط النظام، ودخول الثوار إلى الساحل، إلى التقاط الصور التذكارية معهم. وهي خطوة كسرت الحواجز والمحاذير والمخاوف التي زرعها نظام الأسد بين أبناء الشعب، وجعلهم يحملون الريبة تجاه بعضهم. وكان من بين الصور ما أظهر ذلك السمت الحيي في المقاتلين الأشداء الذين تركوا أهاليهم في إدلب، وقدموا إلى المناطق السورية لتخليصها من الجزار الذي قتل آلافاً من أبنائها، ورهن ماضيها ومستقبلها من أجل بقائه على كرسي الحكم.

ستبقى الصورة التي حرّر فيها مقاتلو إدارة العمليات العسكرية سورية من ديكتاتورية آل الأسد محط إعجاب كثيرين، غير أن ما سيبقى ماثلاً هو مسارعة أهالي هذه البلاد للتخلص من خوفهم بعد سقوط النظام، وأنسنة هذه اللحظة التاريخية عبر اللمسات الإنسانية في التعاطي مع الآخر. وقائع أحدثت واقعاً جديداً في العلاقة بين أبناء البلد الواحد، لم يكن لأحدٍ أن يتخيّل حدوثه، إلا أن رحيل النظام أذِنَ بحدوثه، وربما فتح باباً لسورية جديدة مغايرة لجمهورية الخوف التي أسسها آل الأسد.

العربي الجديد

———————–

العلمانيون” ليسوا فلولاً لنظام الأسد المخلوع!/ وليد بركسية

الجمعة 2024/12/20

لم يكن خروج مظاهرة في ساحة الأمويين بدمشق، للمطالبة بالدولة العلمانية والمدنية، كافياً لنشر الاطمئنان بشأن مستقبل سوريا، ليس لأن الفصائل الإسلاموية التي أسقطت حكم نظام الأسد الدكتاتوري الممتد لأكثر من 54 عاماً، قمعت ذلك الحراك مثلاً، حيث حمته في الواقع، بل لأن الجدال الممتد بشأنه وخطاب التخوين الذي انتشر بعده، أعطى انطباعاً متكرراً بمدى عبثية الاهتمام بأي شيء يجري في البلد المأزوم، والغارق في الانقسامات من دون هوية وطنية جامعة.

وبين الجدال حول عدم رفع كثيرين لعلم الثورة السورية، وانتشار أخبار مزيفة عن توجيهات برفع علم النظام السوري فقط، وصور مضللة عن هوية المشاركين في المظاهرة، وتسخيف المطالب بالقول إن الوقت الحالي ليس جيداً للحديث عن هوية الدولة مقابل الحزن والتضامن مع ضحايا نظام الأسد وعائلاتهم، والشتائم الجنسية التي طالت السيدات في المظاهرة، وغيرها، بدا المشهد محزناً بدل أن يبث التفاؤل بمستقبل أفضل لبلاد لم تعرف سوى المسيرات المليونية، التي كان يجبر فيها السوريون على الهتاف باسم القائد، أو المظاهرات المعارضة التي كانت تتعرض للرصاص الحي.

أحد الصحافيين المعارضين كما يعرف عن نفسه في مواقع التواصل، طالب قيادة العمليات العسكرية التي أسقطت الأسد، بإطفاء الكاميرات وإرسال القوات إلى ساحة الأمويين للتعامل مع المتظاهرين، الذين باتوا يوصفون بأنهم “فلول النظام” لمجرد مطالبتهم بدولة علمانية وبدستور جديد وفصل للسلطات وغيرها، بشكل يضمن الحريات لجميع مكونات الشعب السوري، بما في ذلك المسلمون السنة الذين يشكلون الأغلبية من ناحية عدد السكان، والذين لا يتشاركون حتى الدرجة نفسها من الالتزام الديني. وهي تفاصيل لطالما كررتها قيادة المعارضة في الأسبوعين الأخيرين، بشكل تصريحات تحدثت عن حماية الأقليات وعدم تحويل سوريا إلى أفغانستان جديدة، بانتظار تحولها إلى أفعال للحكم على مدى جديتها.

وهذا النوع من الدعوات، وصولاً للمنشورات التي تضع كل من يطالب بالعلمانية في خانة “فلول النظام” الذين يجب اجتثاثهم، مروعة، لأن الثورة السورية في أساسها بدأت كحراك مدني مطالب بالديموقراطية والتعددية السياسية، ولم تنتشر فيها الأسلمة إلا بعد عدة سنوات، خصوصاً عندما أطلق النظام السوري المخلوع آلاف المجاهدين والسجناء الإسلامويين من معتقلاته، بهدف أسلمة الثورة وتقديم نفسه كشريك في الحرب على الإرهاب حينها. وهو أمر لم يخدع أحداً بطبيعة الحال.

والمطالبة برفع صور ورموز الثورة السورية يجب أن تبدأ من ذلك الماضي الذي يبدو اليوم كذكرى بعيدة، وليس بالرايات الإسلامية التي تقصي كثيراً من الأفراد، الذين بكل بساطة قد يكونون من أديان أخرى أو من خلفية غير دينية أصلاً، وليس فقط بصور قادة الفصائل الحاليين، الذين كان تعاملهم في الملفات الحقوقية خلال السنوات الماضية إشكالياً، لدرجة خرجت ضدهم مظاهرات في الشمال السوري نفسه، خلال سنوات الحرب ضد النظام المخلوع، للتأكيد على مدنية الثورة وعلمانيتها البعيدة عن التشدد الديني.

وفيما يمكن الحديث عن شجاعة المتظاهرين المطالبين علناً بشكل الدولة التي يرغبون بها في سوريا المستقبلية، ورفع شعار “ديموقراطية لا دينوقراطية”، فإن المشهد لا يكتمل بالنظر لخطاب التخوين الذي يقابل أولئك بالقول: “أين كنتم قبل سنوات”، مع نشر معلومات غير دقيقة تفيد بأن الإسلاميين تحديداً كانوا من يثورون ضد نظام الأسد فقط، متناسين أسماء كانت تقود المظاهرات الشعبية ضد الأسد، وتأتي من خلفيات دينية مختلفة، مثل الممثلة الراحلة مي سكاف (مسيحية) وزميلتها الراحلة فدوى سليمان (علوية) وفارس الحلو (مسيحي) وميشيل كيلو (مسيحي) وفيصل القاسم (دروز)، وغيرهم كثيرون.

وإن كانت استعادة السوريين لساحاتهم وفضائهم العام إيجابياً، فإن معاملة كل من يتظاهر لسبب أو لآخر من منطلق التخوين، تعني أن الثورة نفسها قد تتحول على يد أبنائها إلى “بعث” جديد، وهو أمر يتنافى مع فكرة الثورة نفسها كإطار نبيل يهدف إلى الحرية لجميع السوريين على كافة اختلافاتهم. ولعل إطلاق صفة العمالة للنظام المخلوع على كافة العلمانيين بالتالي، لا تختلف عما كان يروج له النظام في السابق ضد المعارضة ككل بوصفها عميلة ومرتهنة للخارج أو تصوير اليمين المتطرف لكل المسلمين على أنهم إرهابيون، وكلها تعميمات لا يجب أن تكون حاضرة في مجتمع صحي.

ولذا، فإن المشكلة التي تظهر اليوم، لا تتعلق ربما برفع شعارات الثورة السورية التي كانت حاضرة في ساحة الأمويين، ولا بمطالبة كل من يتظاهر بالوقوف دقيقة صمت على أرواح الضحايا، بل تتعلق بمعنى أن يكون المرء سورياً، بعد عقود أفرغ فيها النظام السابق المفاهيم الوطنية من مضمونها لتصبح مجرد شعارات خشبية، فيما تم العمل بشكل ممنهج على تفرقة السوريين في خانات متصارعة إثنياً وعرقياً وجندرياً وطائفياً، مع تصوير النظام نفسه الحامي الوحيد لكل فئة ضد الفئات الأخرى. ولعل أكبر انتصار يحققه السوريون على ذلك النظام الذي ظلمهم جميعاً، هو إظهار وحدتهم اليوم ومحبتهم لبعضهم البعض، مهما كان الاختلاف الأيديولوجي بينهم كبيراً، وتقديم الاختلاف على أنه ظاهرة صحية في مجتمع يتعافى ويتطلع لمستقبل أفضل، بدلاً من خطاب التخوين والتشنج.

والمهمة قد لا تكون سهلة، خصوصاً مع انتشار فيضان من المعلومات المضللة من طرف جهات تروج للنظام السابق في محور الممانعة تحديداً، حسبما أفادت مؤسسات متخصصة في رصد الأخبار الكاذبة خلال الأسبوعين الأخيرين، والخوف من تكرار سيناريو دول الربيع العربي التي أطاحت بدكتاتوريات راسخة وحصلت فيها ثورات مضادة لاحقاً أعادتها إلى الوراء، كما هو الحال في تونس ومصر.

وإن كانت الثورة مشروعاً للإطاحة بالنظام، فإن تلك المهمة تمت بنجاح، والتقسيم السابق للسوريين بين موالين ومعارضين يجب أن ينتهي لأنه لا يساهم سوى في تأجيج الخلافات وينذر بحرب أهلية على المدى القصير أو البعيد، بسبب الاحتقان والتشنج، أو بحقبة من القمع أو التوترات السياسية، وكلها أمور يمكن للسوريين تجنبها إن أظهروا ميلاً للوحدة الوطنية من جهة واتجاهاً لعدم تسخيف مخاوف بعضهم وقضاياهم من جهة ثانية، لأن وجود مظلومية واحدة لا تعني عدم وجود غيرها بطبيعية الحال.

ولا يعني ذلك نسيان جرائم النظام وانتهاكاته لحقوق النظام، لكن مسار العدالة يجب أن يأخذ إطاراً قانونياً ضمن محاكم مستقلة، ويتعلق ذلك بالأشخاص المحرضين ضد الشعب السوري خلال السنوات الماضية بالطبع، لكن تلك العدالة لا تعني تحولها إلى خطاب للتخوين أو لتسخيف أي مخاوف من قبل أي سوري، أو لتأجيل النقاش في المواضيع السياسية، خصوصاً أن نظام الأسد كان يكرر القول بأن “الوقت غير مناسب” للمطالبة بالإصلاح السياسي أو الديموقراطية، لأسباب تافهة وهمية، وهو ما لا يجب أن يتكرر اليوم تحت أي ظرف كان، كما أن الوقت الحالي هو الأشد حرجاً والذي يجب ألا يتم تركه للفراغ بل يجب على السوريين الاحتجاج والمطالبة بصوت عال بكل ما يريدونه، خصوصاً أن السلطة المؤقتة الحالية، تبدي مؤشرات إيجابية تجاه هذه النوعية من التحركات.

المدن

——————————

ضمير الكاتب/ ممدوح عزام

20 ديسمبر 2024

من الذي يُمكن أن يثبت أنّ الكاتب أو الشاعر الذي يصطفّ إلى جانب الطاغية، ويدافع عنه، ويهاجم، أو يسخر أو لا يؤيد حركات الجماهير الثورية، أو الانتفاضات والتمرّدات وحركات الاحتجاج، ضدّ الطغيان، سيكون على حقّ؟ فالمشهد في سورية اليوم، حيث خرج مئات الألوف من السوريين للاحتفال برحيل طاغية صغير حكم البلاد أربعاً وعشرين سنة، دون أن يرغمهم أحد على الخروج، لا رقابة، ولا حزب شمولي، ولا موظّفي أمن يستقبلون التقارير، ولا عملاء لهم يكتبونها، لا شيء من هذا الذي لا يعرفه أحد غير السوريين أنفسهم، وهم اليوم لم يرفعوا صورة، ولم يحيُّيوا أحداً، ولم يهتفوا لأحد غير بلادهم، التي تخرج متعبة من النكبات. يجعلنا نسأل: هل يحتمل أن يصدق الشاعر ويكذب الشعب؟

المفارقة القديمة التي لم يستطع الزمن تبديلها، لا تزال تتكرّر، أي أن يُذكر أن بعض الكتّاب قد يقفون إلى جانب المستبدّ، غير أن تكرارها هذه المرّة اكتسى بالحقارة، بنذالة الكاتب أو الشاعر الذي لم يفكر لحظة أنه يناصر سفّاحاً، ضدّ شعب فقير جائع إلى الحرّية، وإلى العيش البسيط الخالي من الخوف والمراقبة والمعاقبة. ومنهم روائي لا يمكن النيل من جدارة أعماله فنّياً، يُعادي ثورة السوريين، كاتبة رقيقة تبرّر قصف مدينة دوما كاملة لأنها تؤوي “إرهابيين”، (أتذكّر اليوم وزيرة خارجية ألمانيا التي برّرت قصف المدنيّين في غزة)، شاعر كبير من جيل الستينيات يحيي المذبحة. القائمة طويلة قليلاً، ومحزنة.

وحين أنظر إلى سورية، وإلى الأردن، ومصر، وتونس، وأعدّ أسماء الكتّاب الذين وقفوا إلى جانب الهارب الذي هدم بلادنا، وطرد أكثر من عشرة ملايين سوري وسوريّة من بيوتهم، من أجل كرسي، أُصاب بالذهول. ألم يرَ أولئك الكتّاب الذين جاؤوا لزيارته، وتأييده، أن مدافع جيشه تقصف “دوما” وتقتل أهلها جميعاً، أطفالاً ونساءً ورجالاً؟ لِمَ لمْ يصدّقونا؟ لماذا أصرّ هؤلاء على تصديق خطاب الطاغية عن الممانعة، وكذّبوا همسات شعب سورية عن العذاب؟ لم لا يكون بوسعك أن تؤيّد الممانع وتسأله عن الديمقراطية؟ لم لا يكون بوسعك أن تُناصر “المقاوم” وتسأله لماذا ينهب أحلام شعب؟ ما العلاقة التي كانت، ولا تزال حاضرة، هنا وهناك، بين الممانعة العربية والاستبداد؟ بين المقاومة العربية وكَمّ الأفواه، والعِداء للحرّية، أو التخوين؟

قد يُشار إلى أن باسترناك لم يؤيّد ثورة أكتوبر، وباختين، وغوركي قليلاً، وقد ثبت في التاريخ اللاحق أنهم كانوا على حقّ، ولكن ضد من وقف باسترناك؟ ضدّ الطغيان، ضدّ الحاكم الأوحد، ضدّ الحزب الشمولي. وضدّ من وقف غوركي؟ ضدّ ستالين، لا ضدّ تطلّعات شعب يريد الحرّية والخبز.

لا يتعلّق الأمر هنا بالتاريخ، بل بالواقع، فإذا كانت حركات التاريخ تتّسم بالخُبث أو الدهاء، فإن حركة الواقع لا تقلّ ذكاءً ومهارة، بحيث يصعب علينا أن ندّعي معرفتهما، ولعلّ الأيام الأخيرة في سورية التي لم تُنه حكم الطاغية الصغير وحده، بل أنهت نفوذ دولة مثل إيران، وسيطرة حزب مثل حزب الله في بضعة أيام، تحمل الكثير من الدلالات على أن انتظارنا لم يكن سدى.

يتعلّق الأمر أيضاً بالوجدان، بالضمير الحيّ للكاتب عموماً.

* روائي من سورية

العربي الجديد

———————————–

العدالة الانتقالية في سورية: مسارات المساءلة/ إبراهيم جبر

19 ديسمبر 2024

يمكن تعريف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية في فتراتِ الانتقال السياسي أو ما بعد الصراع التي تهدف إلى معالجة انتهاكات حقوق الإنسان وتوفير سبل العدالة والمصالحة في المجتمعات التي تعرّضت لصراعاتٍ دموية. في سياقات ما بعد النزاع، تُعتبر العدالة الانتقالية أداة حاسمة لقطع حلقة العنف والإفلات من العقاب، حيث تساهم في بناء الثقة بالمؤسسات الحكومية، واستعادة سيادة القانون، وضمان كرامة الضحايا. ومن خلال التصدّي للفظائع السابقة، تضمن العدالة الانتقالية أسس السلام والاستقرار على المدى الطويل، وتبعث برسالة قوية مفادها أنّ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لن تمرّ دون عقاب.

في السياق السوري، بعد سقوط نظام بشّار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأوّل 2024 وهروبه إلى روسيا، ظهرت أدلة جديدة وفظائع لم تُكشف من قبل، تمثّلت في السجون السرّية التي كانت تغصّ بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين. هذه الفظائع تُلقي الضوء على حجم الانتهاكاتِ التي تعرّض لها الشعب السوري خلال سنوات الصراع، ما يزيد من الحاجة الملحة إلى العدالة الانتقالية لضمان محاسبة الجناة وإعادة الاعتبار للضحايا.

الأهمية العالمية للمساءلة في سورية

إنّ المساءلة عن الجرائم المُرتكبة خلال الصراع السوري ليست مجرّد قضية محلية، بل هي قضية تمسّ المجتمع الدولي بأسره. فقد كشف سقوط النظام حجم الانتهاكات التي كانت تحدث في السجون السريّة، حيث فُتح العديد من هذه السجون ليرى العالم الفظائع التي كانت تُرتكب بحقِّ المعتقلين السياسيين. ويجب أن يتوجّه اهتمام العالم إلى محاسبة النظام السابق على الجرائم التي ارتكبها. ولذلك ينبغي أن يُنظر إلى هذا الكم الهائل من الأدلة على أنّه فرصة لإظهار التزام المجتمع الدولي والسلطات السورية الجديدة بتحقيق العدالة الانتقالية بشكلٍ فعّال، وفي الوقت نفسه إرسال رسالة قوية إلى جميع الدول بأنّ الإفلات من العقاب لن يكون خيارًا مُجديًا بعد الآن.

آليات المساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية

إنّ محاسبة مرتكبي الجرائم في سورية تُعتبر حجر الزاوية للعدالة الانتقالية. تتنوّع الآليات المتاحة لتحقيق ذلك، بدءًا من المحاكم الدولية إلى المحاكم الوطنية التي تمارس الولاية القضائية العالمية. إحدى أهم المحاكم الدولية هي المحكمة الجنائية الدولية، التي تعمل على محاكمة الأفراد المسؤولين عن الجرائم مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. إلا أنّ سورية ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، ما يعوق المحكمة الجنائية الدولية من ممارسة الولاية القضائية عليها من دون إحالة من مجلس الأمن الدولي، الذي عرقلها عدّة مرّات باستخدام حقّ النقض.

من بين الآليات الهجينة، تبرز المحاكم الخاصة مثل المحكمة الخاصة بلبنان، التي تجمع بين القانون الدولي والمحلي، وتقدّم نموذجًا يمكن تطبيقه في سياق سورية. هذه المحاكم يمكن أن تدمج التقاليد القانونية السورية مع المعايير الدولية، ما يسهم في معالجةِ المخاوف المتعلّقة بالشرعية وإمكانية الوصول.

بالإضافة إلى ما سبق، يمكن اللجوء إلى محاكماتٍ محليّةٍ باستخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية. أحد النجاحات البارزة في هذا السياق كان محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب في ألمانيا. هذه المحاكمة كانت الأولى من نوعها لمقاضاة مسؤولين حكوميين سوريين بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، ما يؤكّد فعالية هذا الخيار إلى جانب المحاكم المحلية أو الدولية.

التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية في سورية

على الرغم من التقدّم في آليات المساءلة، تظلّ هناك تحديات كبيرة تواجه العدالة الانتقالية في سورية يمكن تلخيص أهم التحديات في ما يأتي:

– الانقسام السياسي والاجتماعي: بعد سقوط النظام وهروب بشار الأسد، ستواجه سورية تحديات كبيرة في تحقيق إجماع سياسي بين القوى المتعدّدة على شكل النظام الجديد.

– ضعف المؤسسات القانونية والقضائية: لقد أدى الصراع الطويل إلى تدمير المؤسسات القضائية والقانونية في سورية. إعادة بناء هذه المؤسسات بما يضمن استقلالها ونزاهتها تحدٍّ كبير، خصوصًا مع غياب الكوادر القانونية المدرّبة التي تستطيع إدارة ملفات الانتهاكات والمحاسبة.

– غياب الثقة بين الأطراف: الثقة شبه معدومة بين مكوّنات المجتمع السوري، خصوصًا مع الجرائم التي ارتُكبت على أساس طائفي أو سياسي. هذا الغياب للثقة يجعل المصالحة الوطنية وإجراءات العدالة الانتقالية أكثر تعقيدًا، إذ سيَخشى البعض من تحوّل العدالة الانتقالية إلى أداةِ انتقامٍ سياسي.

– نقص الموارد والدعم الدولي: عملية العدالة الانتقالية تتطلّب موارد هائلة لدعم التحقيقات، والمحاكم، وتعويض الضحايا، وإعادة بناء النظام القضائي، ما يجعل تأمين التمويل اللازم تحديًا إضافيًا، خصوصًا مع احتمال تراجع اهتمام المجتمع الدولي بعد سقوط النظام.

– الموازنة بين العدالة العقابية والتصالحية: تجمع العدالة الانتقالية بين العدالة العقابية، التي تركز على معاقبة الجناة، والعدالة التصالحية، التي تهدف إلى شفاء المجتمعات. في سياق سورية، وفي كثير من الأحيان، تُطرح قضية “السلام مقابل العدالة” عائقًا أمام تحقيق العدالة الانتقالية. بعض الأطراف قد تطالب بإعطاء الأولوية لإعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار على حساب المحاسبة الفورية للجرائم، ما قد يؤدي إلى تأجيل العدالة وإحباط الضحايا.

– التعامل مع العدد الكبير من الضحايا والجناة: خروج عشرات الآلاف من المعتقلين من السجون وظهور آلاف الجناة الذين شاركوا في الانتهاكات يخلق عبئًا كبيرًا على النظام القضائي المستقبلي. التعامل مع هذا العدد الكبير من القضايا يتطلّب توازنًا دقيقًا بين المحاسبة وعدم إثقال النظام الجديد.

– إعادة تأهيل الضحايا وإعادة إدماجهم في المجتمع: حيث يحتاج آلاف الناجين من السجون والانتهاكات إلى إعادة تأهيل نفسي واجتماعي واقتصادي.

العدالة الانتقالية في سورية ركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار الدائم. فهي ليست فقط وسيلة لمعالجة المعاناة الناجمة عن النزاع، ولكنها تشكل أيضًا عنصرًا أساسيًا لبناء السلام المستدام. بالرغم من التحديات السياسية واللوجستية، فإنّ الاستمرار في السعي لتحقيق المساءلة والعدالة يتطلّب جهودًا جماعية من المجتمع الدولي والحكومات الوطنية والمنظمات المدنية. من خلال الجمع بين العدالة العقابية والتصالحية، وضمان مشاركة الضحايا في العملية، يمكن لسورية أن تشرع في مسار طويل نحو التعافي والمصالحة.

العربي الجديد

———————–

روسيا وايران والزلزال السياسي السوري/ ناصر زيدان

الجمعة 2024/12/20

يرتبط البلدان الكبيران روسيا وايران بعلاقات تجارية مقبولة، وتصل التبادلات المباشرة بينهما الى 5 مليارات دولار، وقد تعاونا سياسياً وأمنياً في ملفات دولية ساخنة، خصوصاً في سوريا، وعلى درجة أقل في أوكرانيا، بينما لا يوجد معلومات كافية لتوضيح كامل صورة الرؤية الروسية الخاصة في ملف ايران النووي، برغم أن موسكو كانت شريكة في اتفاقية 5 + 1 التي تمَّ توقيعها في العام 2015. لكن مركز الصدارة في هذه الاتفاقية احتلتها الولايات المتحدة الأميركية، والمعلومات المتداولة في حينها تُشير الى أن إدارة الرئيس باراك أوباما قدَّمت تنازلات لطهران مقابل موافقتها على المعاهدة، وهي عبارة عن “قبة باط” مكَّنت ايران من الإنفلاش في بلاد المشرق العربي، وفي اليمن من دون معارضة مُهمة، برغم أن الرئيس دونالد ترامب عاد وانسحب من هذا الاتفاق في العام 2018.

لكن هذا التعاون الروسي – الإيراني لا يكفي لحرف أنظار موسكو عن مُغريات أخرى أكثر فائدة لها، لا سيما في العلاقة مع تركيا، حيث تجاوز التبادل التجاري معها 55 مليار دولار، ويطمح البلدان لإيصاله إلى 100 مليار، ويبدو أن أخصام ايران على استعداد للتعويض لروسيا أي خسائر قد تحصل إذا ما تراجع تعاونها مع طهران.

تراكضت ايران ثمَّ روسيا الى الساحة السورية في العام 2014، عندما شعرا لأن حليفهما بشار الأسد يواجه خطراً مؤكداً قد يُطيح بنظامه. فلإيران مصالح “ميثولوجية” واقتصادية وأمنية يحميها الأسد في سوريا، ولروسيا مصالح جيوسياسية تتمثل في وجود قواعد عسكرية استراتيجية على الساحل السوري، ولسوريا أهواء روسية قديمة، وجيشها مُجهَّز بالأسلحة الروسية، ولموسكو استثمارات كبيرة في البلاد.

بدأت مصاعب المساكنة السياسية بين البلدين الصديقين تظهر على الساحة السورية منذ أكثر من عام، فقد فتح حلفاء ايران جبهة عسكرية واسعة مع إسرائيل في غزة وفي لبنان، ويبدو أن هذه الحرب لم تكُن مُنسقة مع موسكو، ولا مع البيئة العربية والإسلامية المُحيطة، وبالغت طهران في استثمار الساحة السورية الاستراتيجية في المعركة، برغم الضغوطات التي مارستها موسكو على النظام السوري ليتجنَّب مخاطر الحرب. ومن ميدانيات العمل العسكري؛ تبين أن الشكوك بدأت تتسلَّل الى بنات أفكار الجهتين، وتبادل الاتهامات بين مقربين من الحليفين خرجت الى العلن في أكثر من مرَّة إبان العمليات العدوانية التي قامت بها إسرائيل ضد أهداف إيرانية، واتهم مسؤولون في الحرس الثوري بعض الضباط والأفراد المحسوبين على روسيا بتسريب معلومات أمنية عن المجموعات الموالية لإيران لجهات على صلة بإسرائيل، كما أن روسيا لم تقُم بأي جهد لردع الطائرات الإسرائيلية التي كانت تقصف مواقع في سوريا، ومنها مواقع قريبة من قواعدها العسكرية (كما في عملية الإنزال الاسرائيلية على مصانع الصواريخ في مصياف). وروسيا أخذت موقفاً محايداً نسبياً في الحرب، ويبدو أنها أعطت ضمانات لإسرائيل بعدم مشاركة النظام السوري فيها، وأبعدته نسبياً عن منظومة “وحدة الساحات” الممانعة التي تقودها طهران.

تؤكد المعلومات المتوافرة من أكثر من جهة؛ أن موسكو طلبت من الأسد مباشرة حواراً جدياً مع المعارضة لإجراء بعض التعديلات على الدستور، احتراماً للقرار الدولي 2254، ووفقاً لمقررات منصة أستانة التي رعتها روسيا وتركيا وايران، كما أنها طلبت من الأسد الاجتماع مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لأن ذلك يُنتج بعض التوازن ويساعد النظام على وقف تراجعه المُتسارع، لكن الأسد لم ينفذ أي من الوعود في هذا الاتجاه، أو أنه لم يكُن قادراً على تحقيق هذه الرؤى. وقد أدرك الروس أن بشار الأسد غير قادر على الإيفاء بأي من وعوده، او أنه أصبح أسيراً للمقربين من ايران، ولبعض الذين ينسِّقون مع الحرس الثوري داخل الجيش، لا سيما الفرقة الرابعة بقيادة شقيقه ماهر الأسد.

وقد أُضيفت هذه المعطيات الى الإختناق الروسي من ممارسات غير مقبولة، يقوم بها الأسد والمقربين منه في صناعة المخدرات والتجارة بها، وفي تنفيذ إعدامات لمعارضين من دون أي مُحاكمة، كما في القيام بعمليات تعذيب رهيبة للسجناء، وكل ذلك يُسيء لسمعة روسيا، كونها ترعى النظام وتحميه. والمفاوضات التي أجراها ضباط روس في مدينة السويداء الجنوبية خلال السنة الماضية، للتخفيف من حدة انتفاضتهم ضد الأسد، أكدت لهم أن رجال الدين في المحافظة؛ لا يمكنهم السكوت عن ترويج النظام للمخدرات بين أبنائهم، وذات الوضعية حصلت في محافظة درعا التي حيّدها الروس من مواجهة النظام بمصالحات لم يحافظ عليها مناصرو الأسد، وأجهضوها.

واضح أن نجاح الثورة السورية في 8 كانون الأول/ديسمبر، لم يكُن ليحصل بهذه السهولة، فيما لو كان موقف روسيا معارضاً بشدة للتغيير، وعلى أقل تقدير كان بإمكان القوات الروسية أن تحمي قوات النظام وتدفعها لقتال المعارضة في مناطق الساحل القريبة من قواعدها. لكن يبدو من المؤكد أن روسيا فضَّلت مجاملة المعارضة وداعميها – خصوصاً تركيا – وتوليف رسالة تحضيرية للرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وإرضاء الرأي العام الروسي “في القوقاز تحديداً” وعلى الساحة العربية، وهي منحازة لأن تكون سوريا ليبرالية، وأن لا تتحوّل بالكامل الى ساحة صافية لمحور الممانعة وبقيادة إيرانية، كما أنها لا تريد لنفسها الاشتباك مع طهران لمنع نجاح هذه الخطة، وهي تصرّ على عدم القطيعة معها. بينما المعلومات تؤكد أن روسيا تلقت ضمانات حول بقاء قواعدها العسكرية. أما قادة المعارضة فقد التقطوا هذه الإشارات وشرعوا لتحقيق النصر المُبين.

المدن

————————-

كيف أسقطت عصا السنوار نظام الأسد؟

20 كانون الأول 2024

أدّت عملية «طوفان الأقصى» 2023 إلى تحريك هائل لساعة تاريخ منطقة «الشرق الأوسط». شهدنا تحوّلات استراتيجية كبرى كان أكثرها مفاجأة، سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، في أكبر صدمة ارتدادية للأحداث التي بدأت في 7 تشرين أول / أكتوبر 2023.

كان يحيى السنوار، زعيم حركة «حماس» مهندس الهجوم الشهير، قد استشهد يوم الأربعاء الموافق 16 تشرين أول/أكتوبر الماضي، بعد تبادل إطلاق نار في رفح، جنوب قطاع غزة، في عملية عسكرية غير مخطط لها وعشوائية، وكان يقاتل على الأرض حتى النهاية، مرتديا زيّه العسكري وحاملا بندقيته، وعندما أصيب استخدم عصاه ليقذف بها طائرة مسيّرة تطارده.

فاجأ «الطوفان» الجميع، بمن فيهم إيران، الحليف الإقليمي لحركة «حماس». عملت طهران على بناء شبكة وكلاء دفاعية متعددة الطبقات ضمن نظرية «الدفاع الأمامي» وشكّلت ما يسمى «محور المقاومة» من شبكة مكوّنات وعناصر تعمل ضمن عقيدة «وحدة الساحات» ركنها الأساسي هو حماية إيران وردع أعدائها، بحيث تقوم فيها الساحات الأخرى بمواجهة أي هجوم على إيران.

قلب السنوار، بعملية «الطوفان» البوصلة والأولويات مما فرض على إيران الاستنفار وعلى أطراف «محور المقاومة» المشاركة في «حرب إسناد» غزة، والأغلب أن طهران و«حزب الله» القوة الرئيسية لها في المنطقة، افترضا أن تحافظ الحرب مع إسرائيل على وتيرة محددة، لكن ما ظهر عمليا هو أن الدولة العبرية كانت تخطط استخباراتيا وعسكريا لهذه المواجهة، وأنها انتقلت من «حرب النقاط» إلى توجيه ضربات قاصمة للحزب، وفرضت على طهران مواجهة مباشرة يمكن أن يؤدي تصعيدها إلى حرب شاملة مع إيران.

ما لم تتبينه إسرائيل خلال اندفاعها الأعمى لإبادة الفلسطينيين في غزة، وشعورها بغطرسة القوة بعد القضاء على عدة مراتب قيادية في «حزب الله» وتخطيطها المستمر لفتح حرب ضد إيران، هو الضعف الشديد الذي أصاب قدرة العائلة الحاكمة في دمشق على حكم البلد، مع تركيزها على تهريب الأموال والتجهّز للعيش في المنفى، ومع تحوّل «قوات النخبة» مثل «الحرس الجمهوري» والفرقة الرابعة، إلى آلة للقتل وإنتاج المخدرات.

لعبت هذه العناصر دورا كبيرا في انفكاك أقرب حلفاء النظام عنه، ومع تلقي القوات الإيرانية، والميليشيات المحسوبة عليها، ضربات كبيرة داخل الأراضي السورية، ومع سعي النظام الواضح لإبعاد نفسه عن حرب إسناد غزة، زادت شكوك طهران وحلفائها بوجود اختراقات كبرى ضمن القيادات العليا للنظام وأجهزة أمنه، أو باحتمالات تعاونه مع إسرائيل، كما أضاف سحب روسيا طائرات من قاعدتها في حميميم للمشاركة في حرب أوكرانيا من انكشاف النظام وضعف غطائه الجوي.

كانت قوات المعارضة السورية، خلال السنوات الماضية، تحسّن قدراتها، وتخطط لهجوم منسّق واسع، وتطوّر أسلحة جديدة فتاكة كمسيّرات الشاهين، وتجهّز خلايا نائمة في المدن السورية، وتناظر ذلك مع حراك مستمر في محافظة السويداء، وقلاقل مستمرة في درعا، وحين بدأت معركة لاستعادة مدينة حلب، فوجئت المعارضة بانفتاح الطريق لها في اتجاه حماة، حيث خاضت معارك عنيفة، أدى حسمها إلى إحساس لدى قادة النظام باقتراب سقوطه، فانفتح الطريق لمعارضة الجنوب والشمال وأرياف دمشق، واختفى مسؤولوه الكبار وفرّ رئيسه إلى روسيا!

حرّكت «حماس» بطوفانها أحجار الدومينو في الشرق الأوسط، ويظهر إعلانها قبل أيام، عن مباركتها للشعب السوري بتحقق تطلعاته نحو الحرية والعدالة، وإدانتها للعدوان الإسرائيلي على الأراضي السورية، فهما تاريخيا عميقا لما حصل.

في استعادة مذهلة للآية الكريمة «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» سقط السنوار شهيدا دفاعا عن تراب فلسطين، أما عصاه فساهمت في إسقاط نظام الجبروت والطغيان الأسدي في سوريا!

القدس العربي

—————————

من جبل الشيخ إلى سماء بيروت: استراتيجية إسرائيل للهيمنة/ منير الربيع

الخميس 2024/12/19

تختصر الطائرة الإسرائيلية المسيّرة التي تحلق يومياً وباستمرار في الأجواء اللبنانية وفي أجواء العاصمة بيروت خصوصاً، حكاية الانكشاف الأمني، العسكري والسياسي في لبنان ودول المشرق العربي، وبالتحديد فلسطين، سوريا، والعراق. يستعيض الإسرائيليون بها في بيروت، ما يتوفر لهم من وجودهم وتوغلهم على قمة جبل الشيخ في سوريا، والتي يصفها مسؤولوهم بأنها “العيون” الجديدة لإسرائيل. لم تعد إسرائيل تخفي أهدافها وطموحاتها والتي تريد من خلالها تطويع دول المنطقة وسط غياب جدّي لأي تصدٍ أو مواجهة، لا سيما بعدما تعرضت الدول المذكورة إلى ضربات قوية من الداخل بفعل أزماتها وصراعات مكوناتها، ومن الإسرائيليين الذين أرادوا استهداف كل مرتكزات القوة العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية، ويسعون إلى تغذية المزيد من الانشقاقات الأهلية.

تطويع المنطقة

يريد الإسرائيليون تكريس سيطرتهم، أمنياً وعسكرياً وسياسياً، من جبل الشيخ إلى طهران. في ظل هذا الانكشاف فإن لبنان وسوريا أمام دفاتر شروط إقليمية ودولية وإسرائيلية بالأخص، متلاحقة وضاغطة وهي دفاتر ليست متناسقة أو منسجمة، بل مختلفة ومتناقضة، في بعض الأحيان. من الشريط الحدودي في لبنان إلى الشريط الحدودي في الجولان، وإلى ما بين العراق وسوريا، أو ما بين سوريا وتركيا، يبدو البلدان ساحة لاندفاعات القوى الكبرى من الشمال ومن الجنوب، وهي بطبيعة الحال متنافسة على ملء الفراغ الكبير الذي نجم عن كل التطورات التي شهدتها المنطقة منذ الحرب الإسرائيلية التي وضع لها عنوان تغيير الشرق الأوسط، ووجهت تل أبيب فيها ضربات قاسية ضد حزب الله، وإيران وحلفائها، وصولاً إلى سقوط نظام بشار الأسد. وسط غياب أي مشروع عربي، وعدم جهوزية البدائل لمواكبة المرحلة ومواجهة هذه الاعتداءات الإسرائيلية.

تبقى نقطة قوة المشروع الإسرائيلي هي في انهيار الوضع العربي، وسط تسريبات يومية في تل أبيب عن التصعيد ضد إيران، والاستعداد لتوجيه ضربة لها، والتباحث الذي حصل بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، علماً أن الإسرائيليين يعتبرون أن الطريق إلى ضرب إيران أصبحت مفتوحة، وذلك استناداً إلى توجيههم ضربات لحزب الله، وتحييد العراق. فقد أفقدوا طهران أوراق قوتها الإقليمية وهو ما تم تتويجه بالتحولات التي شهدتها سوريا بسقوط نظام الأسد، ويعتبرون أن الانقضاض عليها قد أصبح أسهل. في مقابل وجهة نظر أخرى تشير إلى أن التركيز في هذا المرحلة سيكون على توجيه ضربات للحوثيين في اليمن، والتأثير على الوضع العراقي من خلال إضعاف الحشد الشعبي وحلفاء طهران هناك. ما سيشكل المزيد من عناصر الضغط على إيران لدفعها إلى تقديم التنازلات المطلوبة لتجنّب الضربة العسكرية الأكبر. وبذلك يحاول الإسرائيليون اللعب على وتر عربي من خلال تقديم نتنياهو لنفسه بأنه يوجه ضربات للمحور الإيراني ويعمل على إنهاء نفوذ إيران في المنطقة، لعلّه بذلك ينجح في استبدال الشرط العربي ببناء دولة فلسطينية، بالارتضاء بضرب إيران وتقويض نفوذها وإضعاف حلفائها.

أوهام التوسع

يقدّم الإسرائيليون عناوين كبيرة لمشروعهم والذي يُختصر بتغيير وجه الشرق الأوسط، أما بعض اليمينيين المتطرفين يغرقون في وهم القوة أيضاً، حول تغيير الحدود الجغرافية، وتكريس مطامع إسرائيلية تاريخية في جنوب لبنان أو جنوب سوريا، بالإضافة إلى التركيز على نظرية إسرائيل الكبرى من خلال محاولة تثبيت القواعد والوجود في قطاع غزة، والتركيز على ضم الضفة الغربية. بينما الواقع لا يشير إلى القدرة الإسرائيلية على التوسع الجغرافي وتثبيت النقاط والاحتلال. أما أوهام وأفكار التوسع لدى اليمين المتطرف فهي غير قابلة للتحقيق وهو ما يعرفه الإسرائيليون جيداً. لكن ذلك يحتاج إلى مشروع مضاد ومتكامل قابل لدحض كل الإدعاءات الإسرائيلية وإسقاط الأوهام.

يعلم الإسرائيليون أنه لن يكون بإمكانهم تعديل الحدود، في سوريا أو لبنان، لكن عمليات توسعهم تهدف إلى تحقيق نوع من التطويع الأمني والعسكري للبلدين، استدعاءً لتطويع سياسي مستقبلاً. فيما ذروة المشروع الإسرائيلي تتركز حالياً على ما يريدونه في قطاع غزة وفي الضفة الغربية من خلال إشغال العرب والمجتمع الدولي بخروقاتهم في لبنان، واعتداءاتهم في سوريا، وبملف إيران، لغض النظر عن ما تقوم به تل أبيب في فلسطين. بينما تغيب السلطة الفلسطينية عن أي مبادرة جدية لخوض نضال سياسي كبير ضد المشاريع الإسرائيلية، وبناء مشروع متكامل ما بين كل الفصائل والتنظيمات، والارتكاز على ما تبقى من قوة عسكرية لقوى المقاومة لأجل طرح مشروع المواجهة ضد ما يقوم به الإسرائيليون أو ما يطمحون إليه. وهذه مسؤولية كبرى على السلطة الفلسطينية وكل مكونات الشعب الفلسطيني، بدلاً من الانخراط في حرب أمنية ضد مجموعات المقاومة في الضفة، واستمرار الخلاف حول العناوين المتعلقة بكيفية إدارة قطاع غزة ومعابره.

تأبيد المشروع الإسرائيلي

لطالما ارتكزت إسرائيل على الصراعات العربية العربية، والعربية الإيرانية، والصراعات الداخلية بين المكونات المختلفة داخل كل دولة لأجل تأبيد مشروعها وتوسيعه، وهو ما تحاول تكراره مجدداً على وقع ما تعتبره “إنجازات” حققتها ضد إيران وحلفائها، من خلال ترك الفراغ هو الطرف الوحيد القائم كبديل، وتسعى إلى تزكية الصراعات البينية داخل كل مجتمع أو دولة، بما لا يتيح بناء مشروع واضح المعالم يتناقض مع الرؤية الإسرائيلية. وهنا تبقى الخطورة في عدم انتاج قوى بديلة اجتماعياً وسياسياً قادرة على تقديم مشروع، وجاهزة لتقديم إجابات عن الكثير من التساؤلات والهواجس والتحديات. خصوصاً في ظل المخاطر الكبرى التي قد تنتجها الصراعات الإقليمية وانكسار التوازنات الإجتماعية الهشة وعدم القدرة على بناء مشروع نقطة ارتكازه الأساسية تعزيز مفهوم الدولة الوطنية والعمل في سبيلها، فدون ذلك ستبقى هذه الدول خاضعة لاحتلالات أو تأثيرات تبقيها مفتوحة أمام المخاطر الأكبر مثل الحروب الأهلية أو الانقلابات أو الثورات المضادة.

المدن

———————–

هذه التحولات العاصفة في سورية/ بشرى المقطري

20 ديسمبر 2024

يحيل فشل تجارب مشاريع التغيير في المنطقة إلى تحدّيات ما بعد إسقاط الأنظمة، بحيث قد تدفع جملة من العوامل إلى عرقلة عملية التغيير وضمان ترتيب الانتقال السلمي للسلطة، بتحويله إلى مسار ارتدادي من العنف والفوضى، فإلى جانب الواقع السياسي والاجتماعي الذي قد يعيق إمكانية تجاوز المجتمع صراعات الماضي، فإن إعادة إنتاج الطغيان بتحالفات الهيمنة والانتقام، سواء من معسكر المنتصرين أو المهزومين، تعني الدفع نحو دورة جديدة من الحرب الأهلية، إلى جانب نفوذ المتدخلين، وإشكالية الحامل السياسي الذي يتصدّر عملية التغيير وافتقاره لرؤية جامعة تمثل المواطنين، ومن ثم فإن إسقاط نظام بشّار الأسد، وإن شكّل لحظة تاريخية فارقة في الانتصار على الاستبداد، وتحدّيات عملية التغيير في سورية أكثر خطورة من أي بلد عربي آخر شهد تحوّلات مماثلة، لتعقيدات الوضع الداخلي، وأيضاً عمق نفوذ المتدخلين وتعدّدهم، فضلاً عن استثمار الكيان الإسرائيلي حالة الفراغ السياسي في سورية.

في حالة المجتمعات العربية عموماً، يظلّ إرث الأنظمة الاستبدادية التحدّي الأكبر الذي يعيق عملية التغيير، من ممارساته السلطوية في حق المجتمع إلى نتائج علاقاته الداخلية والخارجية على مستقبل الدولة، وإذا كان الطابع البوليسي لنظام حكم أسرة الأسد في سورية، على مدى نصف قرن، قد جذّر من سطوة نظام دموي استبدادي، دفع السوريين كلفته من الإبادة والقتل والإخفاء وتدمير المدن وتهجير أبنائها، بالإضافة إلى شتات السوريين في الخارج، فإن هوية النظام الطائفي وحرصه على بقائه في السلطة، على الضد من رغبة السوريين، قد نجم عنهما واقع شبه دائم، انتزاع سيادة سورية واستقلالها، ففي مقابل الحماية، منح حليفيْه، الإيراني والروسي، امتيازات سيادية على الأرض، فيما دفع خصومه المحليين إلى تشبيك علاقات مع متدخلين إقليميين، إلى جانب القوى الدولية الأخرى التي تتقاسم الآن الجغرافيا السورية، كما أن العقوبات الاقتصادية على نظام معزول فاقم الانهيار الاقتصادي وتنامي الفقر في المجتمع، إلى جانب أن القمع السياسي (والمجتمعي) الذي كرّسه النظام عطّل استقرار البنى المدنية التي تمثل في أي مجتمع الضامن الحقيقي للتحوّل إلى مسار ديمقراطي، ومن ثم كانت حصيلة حكم سورية الأسد دولة بلا سيادة ومفرغة من المقدّرات.

يقتضي ضمان عملية التغيير، وتثبيت انتقال السلطة في سورية، وفي هذه الحالة من نظام بشّار الأسد الى إدارة المرحلة الانتقالية التي تزعمها هيئة تحرير الشام، تثبيت سيادة الدولة وإقامة سلطة مركزية موحّدة تسيطر على الأرض وعلى الثروات وتديرها لصالح السوريين، لكن الحقائق الحالية على الأرض هي سورية مقسّمة بين قوى دولية وإقليمية وتنظيمات مسلحة عديدة، ما يجعل إعادة توحيد سورية عائقاً حقيقيا أمام الإدارة الانتقالية، فمن الوجود الروسي على الأرض، من خلال قواعدها العسكرية، الى القواعد الأميركية، وبالطبع النفوذ التركي من خلال قواتها، وحلفائها المحليين من هيئة تحرير الشام إلى الجيش السوري الحر، إضافة إلى الفصائل المحلية التي تتوزّع السيطرة على الأرض، من جيوب تنظيم الدولة الإسلامية، إلى القوات الكردية في شمال سورية، ومن ثم، فإن هيئة تحرير الشام، وبوصفها سلطة انتقالية، لن تدير سورية موحّدة، ومن ثم فإن استمرار هذا الشرط لا يضمن، في أي حال، ولادة سورية جديدة مستقلة، بل استمرار هيمنة القوى الدولية والإقليمية على راهنها ومستقبلها، فضلا عن تحدّيات إحلال النموذج الإسلامي السني لسورية الانتقالية، بدل “النموذج العلماني” الذي كان يصدره نظام الأسد.

الصعود اللافت لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) إلى سلطة تدير المرحلة الانتقالية تحولٌ جذريٌّ في المشهد السوري وفي الإقليم. داخليا، أنضجت الديناميكيات والدعم العسكري التركي، إلى هيمنة هيئة تحرير الشام على الفصائل المسلحة المعارضة لبشّار الأسد، الى جانب التجربة العسكرية لكونه فصيلا كان يتبع تنظيم القاعدة، كما أن حالة العنف الشاملة التي شهدتها سورية طوال عقد من حرب نظام الأسد، وعسكرته الحياة وفرضه الصراع المذهبي على السلطة، كل ذلك أدّى إلى تصعيد الفصائل الراديكالية المسلحة السنية بوصفها معادلا موضوعيا لإدارة القوة مع نظام طائفي، كما أن هيمنة الحزب الواحد على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية في سورية خمسة عقود، ممثلا بحزب البعث السوري الحاكم، ومنع التعدّدية والعمل السياسي المدني أدت الى دفع التنظيمات السياسية الى الهامش، بل وتبنّي بعضها الخيار المسلح وسيلة للتغيير وإزاحة النظام، إلا أن التنظيم، وأيضا التمويل والدافعية، حسم الكفّة لصالح الفصائل الراديكالية، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام، إلى جانب دورها المحوري في إسقاط نظام بشّار الأسد، ما جعلها البديل المؤهل لإدارة المرحلة الانتقالية، باعتباره استحقاقاً سياسياً لها، وأيضا تغيير نموذج السلطة من النموذج العلماني إلى نظام مخلوع الى نموذج إسلامي سنّي، وإن أدّى هذا إلى صبغ السلطة الجديدة بهوية دينية. ومع أن الهوية الطائفية للنظام السوري الذي استند إلى تسيد الطائفة العلوية التي ينتمي لها في مفاصل الدولة السورية، إضافة إلى علاقته التحالفية مع إيران التي تحكمها أيضاً اعتبارات الانحياز للطائفة، قد جعلت الطابع الطائفي- الهوياتي- يهيمن على الصراع على السلطة، ومن ثم متوقع في الحالة الاستبدالية، أو الثورية، البحث عن نموذج مناقض لنظام سابق. وتسييس منجز التغيير في سورية، وصبغه بصبغة هوياتية دينية، له مخاطر عديدة، فإلى جانب مخاطر أسلمة الدولة، وتديين مظهر الحياة في سورية، يصعّد هذا التحول الراديكالي في السلطة، وفي ظرف حسّاس، مخاوف الطوائف والأقليات في المجتمع السوري، وأيضا مخاوف المجتمع الدولي الذي يراقب عملية التغيير، إذ إن هيئة تحرير الشام، وإن حاولت تقديم نفسها تياراً إسلامياً معتدلاً لضمان اعتراف المجتمع الدولي بها سلطة مؤقتةً انتقالية، فإن تجارب الإسلام السياسي، على اختلافها، أثبتت فشلها في إدارة عملية التوازن السياسي والمجتمعي في مرحلة التحوّلات، وضمان انتقال سلمي يحقّ استقرار السلطة، ويهدّئ مخاوف القوى المناوئة لها، إضافة إلى أن توليها السلطة، وفي هذا التوقيت، يعزّز المنحى الاستقطابي القائم على الصراع المذهبي بتمكين القوى السنية في السلطة وان كانت أكثرية في المجتمع، قوى منتصرة، ضد نظام مهزوم، وحلفائه، والتي تعني الأقلية العلوية، ومن ثم تكريس استمرارية التوترات المذهبية في سورية، كما أن الهوية الإسلامية- السنية- للسلطة الجديدة وعلاقتها بتركيا قد تعني، وفي ضوء استثمارات الهوية، تمثيل مصالحها في سورية.

الانتقال من العمل المسلح الى إدارة المرحلة الانتقالية في سورية، ومن تمثيل تنظيم ديني جهادي محلي مرّ بمراحل من التطور إلى تمثيل السوريين، على اختلاف طوائفهم، وفي مرحلة حسّاسة يضع هيئة تحرير الشام في اختبارٍ صعب، داخليا وخارجيا أيضاً، فإلى جانب غموض شكل النموذج السياسي الذي ستفرضه في هذه المرحلة، ونتاجه على المجتمع السوري، فإن افتقارها للتجربة السياسية يجعلها محكومة بالتحالفات المحلية في مرحلة ما بعد الأسد، ومدى استقرارها. وأيضا قدرتها على تجاوز تنافساتها البينية، فمع تعقيد خريطة تحالفات المعارضة السورية، وأيضا تعدّد ولاءاتها، فإن فتح حوار حقيقي مع فصائل المعارضة لتوحيد رؤية سياسية بشأن مستقبل سورية يمثل التحدّي الجوهري لاي سلطة في البلاد، إلى جانب تعدّد (وتعقيد) الملفات الداخلية التي عليها التعاطي معها من تثبيت مؤسّسات الدولة إلى مضامين المرحلة الانتقالية، وأيضا إدارة الأزمات المجتمعية والإنسانية والاقتصادية التي يواجهها السوريون، فضلاً عن التهيئة لتنفيذ العدالة الانتقالية لضمان ملاحقة المجرمين من النظام السوري، والقوى المتورّطة بالجرائم من الفصائل المسلحة الأخرى، ومنع تحوّل ذلك الى موجة انتقام وعنف طائفي، إضافة، وهو الأهم، أن كونها قوة من الفصائل المسلحة التي أطاحت نظام الأسد يجعلها محكومة بتوازنات العلاقة التركية- الأميركية وإدارتها المشهد السوري، وأيضا علاقتها مع الفصائل المحلية، وأهمها بالطبع الأكراد، خارجيا، فإن الاعتراف بهيئة تحرير الشام إدارةً انتقالية قد يكسر عزلتها، ويمنحها حلفاء إقليميين جددا، إلا أن تبنّي سياسة متوازنة يقيده أنها جزء من ديناميكية مشهد الصراع ضد النفوذ الإيراني في سورية وفي الإقليم، والذي شكل إطاحته في أهم معاقله، تحولا استراتيجيا وسياسيا لصالح تركيا وحلفائها في المحور الإسلامي السني.

في كل الحالات، عملية التغيير طويلة وشاقة، وفي سورية، كما في بلدان أخرى، يمثل تغيير السلطة فرصة للمجتمع لتجاوز صراعات الماضي، وبناء دولة حرّيات ومواطنة متساوية. ومع عدم وضوح المشهد السوري ومستقبله، فالأكيد هنا أن إسقاط نظام بشار الأسد، مثل لإسرائيل فرصة مناسبة لاستغلال حالة الفراغ السياسي في سورية لفرض أمر واقع في جبهة استراتيجية بالنسبة لها. فإلى جانب انتهاك اتفاقية فض الاشتباك بين الطرفين، بعد سقوط نظام الأسد، توغلت القوات الإسرائيلية في الأراضي السورية، بعد اختراق المنطقة المعزولة من السلاح في هضبة الجولان، وسيطرت على الجزء السوري من جبل الشيخ، ومن ثم محاولة استغلال الواقع السوري الحالي لفرض معادلة جديدة لصالحها، فضلاً عن تدمير مخازن الجيش السوري ومعسكراته وأصوله، والقضاء على أي مقدرةٍ عسكرية للدولة السورية مستقبلا لصدّ أي هجوم إسرائيلي، وبالتالي، ضمنت بسقوط أحد حلفاء إيران، وأهمهم انكفاء سورية، على الأقل في الوقت الحالي، منطقة تهديد، وطرفاً في معسكر المقاومة الإسلامية.

العربي الجديد

————————-

داء العرب السوري/ ناصر السهلي

20 ديسمبر 2024

مخاوف السوريين من أن يكون مصير أحبتهم في سجون نظام بشار الأسد المخلوع، المقابر الجماعية أو عظاماً متناثرة في العراء، يزيد فواجعهم. المأساة، التي تطاول أيضاً الفلسطيني واللبناني والأردني، ليست بحاجة إلى تزوير، فأهلها، بينهم مثلاً أهل وأحبة المناضل عبد العزيز الخير (رئيس مكتب الشؤون الخارجية لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، اعتقل في 2012 ولا يزال مصيره مجهولاً) ورفاقه جميعاً، مصدومون من فظائع زنازين شبيهة بتلك التي في أفلام سينمائية عن القرون الغابرة.

مع ذلك، ثمة من يفرك الملح في جروح السوريين العميقة. بعضهم، من الجوار القريب والبعيد لسورية، يخوض اليوم كما كان يفعل التشبيح الإعلامي الأسدي، معركة تقريع وذم واتهام بحق شعب “شقيق”، على وقع صدمة انهيار وفرار “نظام الممانعة”. بين هؤلاء، وعلى شاشات التلفزة ووسائل التواصل اجتماعي، من واصل فتح النار “الإعلامية” بلؤم وخبث، التشكيك في أحقية السوريين بالحرية. بالطبع يعلم العربي البسيط مصدر هذا الداء الممجد للاستبداد والقمع.

مشهد البروباغندا هذا مثير للسخرية، باستعارته أدوات الثورات المضادة بعد “الربيع العربي”. فالحزن المصطنع على فرار الأسد مرده عند بعضهم إلى أنه “لم يصافح الصهاينة”، متناسين أن سارية العلم الصهيوني ليست بعيدة عنهم. يدفع الانفصام إلى أكثر من ذلك في سياق داء تخصيب تربة صناعة الاستبداد، كتكذيب أهوال ما مر بسورية خلال أكثر من 50 سنة. بل يندفع آخرون إلى مرض التخوين واعتبار ما جرى “مؤامرة إسرائيلية”. بالمناسبة، ثمة تيار عربي، ومعه أوروبي خليط من جماعات يمين قومي متطرف إلى اليسار المتطرف، يعتبر أن سقوط الأسد “أم الكوارث” الوطنية والقومية والعلمانية والليبرالية والماركسية، بل له “ارتدادات عالمية”.

ولا ينسى المتسلحون بنظرية المؤامرة طرح سؤال: “أترون كيف أنهم لا يردون على القصف الإسرائيلي؟”. وما كان لهؤلاء أيام نظام الأسد أن يسألوا، ولأسباب تتعلق بتفضيلهم التطبيع، عن المعنى الحرفي لاحتفاظه بحق الرد منذ ما قبل قصف موقع الكبر في 2007 (المفترض أنه نووي قرب دير الزور)، أو عن مغزى عدم إطلاقه طلقة واحدة من حدود الجولان السوري المحتل منذ عام 1974. على كل، التشكيك والذم ليسا جديدين في سياق وباء الذعر من طلب الناس لحريتهم. فحتى غزة، وفلسطين عموماً، لم تسلم منهما. يتباكى أصحاب هذا التيار من ناحية على “محور الممانعة”، بينما في الأصل يشككون بحق مقاومة الاحتلال الصهيوني، ولا يترددون في التغزل بـ”فضائل التطبيع”، باسم الواقعية والعقلانية، ويزايدون بوصفهم مقاومين جذريين ببيع الناس شعارات قومجية و”الحفاظ على الأوطان من السقوط”. فالنظام عندهم هو الوطن، والأوطان تختزل في شخص الحاكم الأبدي، كما كانت “سورية الأسد”.

العربي الجديد

———————————-

من أسقط الأسد؟/ د.جيرار ديب

20 كانون الأول 2024

نشرت صحيفة «معاريف الإسرائيلية تقريرا جديدا قالت فيه إن العالم استيقظ يوم الأحد 8 ديسمبر الجاري على واقع جديد في الشرق الأوسط، إثر انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد، مشيرة إلى أنّ ذاك الانهيار كان «دراماتيكيا سريعا». أشار التقرير إلى أن ما أدى إلى تسريع انهيار نظام الأسد، كان بلا شكّ تأثر حزب الله الشديد نتيجة العملية العسكرية الإسرائيلية، التي بدأت قبل نحو شهرين بالهجوم على أجهزة «البيجر» و»اللاسلكي» التابعة للحزب، ومن ثم اغتيال أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله، خلال شهر سبتمبر الماضي، بالإضافة إلى قيادات أخرى في صفوف الحزب.

مما لا شكّ فيه، أن التقرير أصاب في قراءته، لاسيما وأن حزب الله تراجعت قوته كثيرا بعد حرب الستين يوما عليه من قبل إسرائيل، إذ لو كان السيد على قيّد الحياة لاعاد استخدام عبارته «لو كنت أعلم لما دخلنا الحرب»، حيث تلقى الحزب ضربات موجعة في الصميم، على الصعد كافة، لاسيما العسكرية والتنظيمية وحتى المالية، الأمر الذي أفقده القدرة على المبادرة لحماية نفسه قبل حماية الآخرين.

شكلّ الحزب منذ دخوله الحرب السورية تحت ذريعة «حماية المقدسات الدينية» في 25 مايو 2013، عقبة أمام الفصائل السورية المعارضة، وعمل على مهاجمتها ونعتها بالإرهاب، لهذا وقف إلى جانب النظام في سوريا، ودافع عنه في حربه الطويلة، واستطاع أن يجعل من سوريا ممرا آمنا لتمرير السلاح الإيراني وتخزينه في أرض لبنان. لم يكن يدرك حزب الله مدى الإصرار الأمريكي الإسرائيلي على تحجيم دوره، بعد دخوله في حرب إسناد حركة حماس في غزة، تحت شعار «وحدة الساحات». لهذا سارت الرياح بما لا تشتهيه سفنه، حيث ظنّ أنه قادر على فرض معادلة الردع على إسرائيل، بل على ضبط «قواعد الاشتباك» معها، من دون أن يدري أنّ الإسرائيلي ساعة يضعف حماس في غزة سيأتي إلى لبنان، ومن دون أن يستمع إلى نصائح دولية حذّرته من اللعب في النار، إن لم يوقف حربا لا يريدها الجميع حتى اللبناني بحدّ ذاته. هزم حزب الله في لبنان، فذهب إلى مفاوضات تحت القصف، بعدما اشترط أن تكون بعد وقف النار، وقبل مرغما بفصل الساحات بعدما أكدّ الحزب مرارا أن جبهته الإسنادية لن تتوقف طالما الحرب في غزة مستمرة. هُزم الحزب، وكان ذلك مع إعلان الموافقة على المقتراحات الأمريكية، التي أخذته إلى تسوية كان يرفضها في السابق، ألا وهي تطبيق بنود قرار 1701 بلاس كافة.

شكّل يوم 27 نوفمبر الحدث، حيث وقع لبنان على تسوية أوقفت الحرب على أرضه، باستثناء الخروقات اليومية من الجانب الإسرائيلي. وفي اليوم ذاته على الجبهة السورية، بدأت الفصائل المعارضة بشنّ أكبر هجوم عسكري منسق وموسع وعلى عدة محاور على النظام لإسقاطه، حيث أعلن ذلك بشكل واضح زعيم «هيئة تحرير الشام» أحمد الشرع الذي يعرف بـ»أبو محمد الجولاني»، من أن الحرب لن تتوقف إلا بسقوط بشار الأسد. تراجع قدرة حزب الله عن حماية ذاته، ليست السبب الوحيد لسقوط الأسد، بل كان للتجاذبات الحاصلة بين حلفاء الأسد واضحة وفاضحة وعلنية، وقد أسفرت في الكثير من الأحيان عن اشتباكات مسلحة بين الفريقين، على الرغم من التعتيم الإعلامي. فما كان يحصل بين الفرقة الرابعة في الجيش السوري بقيادة ماهر الأسد شقيق بشار، والفرقة الخامسة التابعة لروسيا، التي تأخذ قراراتها من القيادة المركزية الروسية المتركزة في سوريا، شكّل تصدعا للنظام، وأفرغه من مضمونه الأمني، وجعل من وزير الدفاع السوري وقائد الجيش أشباه مسؤولين، الأمر الذي ساعد على إحداث فراغ في القيادة والتنسيق، فأصبح الجيش السوري بنية هرمة منهكة آيلة إلى السقوط عند أول هجوم.

دخلت الورقة السورية لعبة البازارات السياسية والمقايضات من قبل الممسكين بها، على رأسهم الروسي والتركي والأمريكي، أما الإيراني فقد شعر بأنّه أصبح خارج اللعبة اللبنانية والسورية على حدّ السواء، وها هو اليوم يستعدّ لمواجهة السيناريوهات التي ستطال نظامه، والذي يتوقع الكثيرون أن يشهدوا على عودة الثورات وإنّ يسقط النظام ولكنّ هذه المرة يتساءل المتابع إلى أين سيرحل المرشد الأعلى؟

سقوط الأسد قد يكون نتيجة تسوية تركية روسية برضى أمريكي، إذ تحتاج روسيا إلى اللاعب التركي والعكس صحيح، فالعلاقة تبادلية بين البلدين، إذ إن روسيا تجد في تركيا ضمانة لعدم إدخال بلادها في حرب مع حلف شمال الأطلسي، فجيشها أيضا أنهكته حرب أوكرانيا، وهو ينظر إلى تسوية هناك. وهناك من ذهب بعيدا في التحليل عندما ربط تسليم الأسد مقابل تسليم زيلينسكي. ما ينطبق على روسيا ينطبق على تركيا التي تحتاج هي أيضا لروسيا، لاسيما في استخدامها ورقة تفاوضية مع الغرب، التي تأبى أنقرة الانعتاق منه، ولكنّ في الوقت ذاته تريد تأمين مصالحها وتحصين ساحتها وتقوية نفوذها. لهذا تحرّكت الفصائل، ولهذا أيضا لم يدعم الروسي النظام كما فعل في السابق، وها هو اليوم يفتح صفحة جديدة ومرنة في التعامل مع تلك الفصائل، ومستعد لإجلاء عسكره وتفريغ قواعده من أرض سوريا إن اضّطره الأمر لذلك. تعامل الجميع مع سقوط الأسد بحذر وترقب، لأنّ الفضل لإسقط الأسد يعود إلى عاملين أساسيين، الأول هو إصرار الشعب السوري على التغيير، الذي تمّثل في هجوم المعارضة، على هذا النظام الذي لم يترك وسيلة إجرامية إلا وطبقها على شعبه، وما مشاهد سجن صيدنايا إلا دلالة واضحة. والعامل الثاني تمثل في تلك الدعوات التي رفعت إلى السماء لأمهات عانين الأمرين على أولادهن من هذا النظام.

نظام لم يكن ليستمر طويلا، لاسيما بعدما أفرغ من مضمونه، وأصبح هيكلا من ورق، لهذا لم يعد السؤال من أسقط الأسد، لأن المرحلة المقبلة ستبقى مرحلة تحديات لما بعد الأسد، لاسيما حول الإجابة عن سؤال «أي سوريا نريد»؟

كاتب لبناني

القدس العربي

—————————

المتغير السوري والدولة الموازية في العراق/ يحيى الكبيسي

20 كانون الأول 2024

لا يمكن فصل الموقف العراقي من سوريا بشكل عام، ومن الثورة السورية بوجه خاص، عن الصراع الهوياتي الذي يحكم العراق منذ لحظة الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان 2003. فأطراف الصراع في العراق يعرفون أنَ أي تغيير في سوريا سيكون له تأثير مباشر على علاقات القوة في العراق. لقد أعادت الطبقة السياسية الشيعية تصنيف نظام بشار من كونه نظاما بعثيا معاديا، إلى كونه نظاما علويا وحليفا استراتيجيا مع إيران وجب على العراق دعمه لمنع وصول «الأكثرية السنية» إلى الحكم. وفي المقابل، أعاد الفاعلون السياسيون السنة تصنيف النظام السوري فنظروا إليه بوصفه نظاما علويا وحليفا استراتيجيا لإيران، لذلك فإن سقوطه سيعيد صياغة التحالفات الإقليمية، ويزيد الضغط على القوى السياسية الشيعية التي تحتكر القرار السياسي في العراق.

لهذا كان رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي يردد دائما أن نجاح الثورة في سوريا سيخلف حربا طائفية في العراق، وأن سقوط سوريا يعني سقوط بغداد (بالمعنى الطائفي)!

اليوم تكرر المشهد نفسه، وبشكل أكثر تحديا، فالمتغير السوري هذه المرة لم يأت منفردا، بل جاء في سياق عملية قطع أذرع إيران في الإقليم ككل. وبات الفاعلون السياسيون الشيعة ينظرون إلى ما جرى في سوريا سوى بوصفه تهديدا سياسيا لهم بالدرجة الأولى، قبل أن يشكل تهديدا أمنيا، ذلك أنهم غير مستعدين للاعتراف بحالة الانقسام المجتمعي الحاد في العراق، وانعكاسات ذلك على المستوى السياسي، وغير مستعدين لمراجعة حقيقية لأزمة الحكم في العراق، والمتعلقة باحتكار السلطة، ورفض منهجي لشراكة سياسية حقيقية أومشاركة الآخرين في صناعة القرار السياسي، أو مراجعة سلوكهم الإقصائي ضد معارضيهم عبر الاستخدام المسيس للقانون والقضاء.

إن مراجعة خطابات الفاعلين السياسيين الشيعة خلال الأيام العشرة التي سبقت السيطرة على دمشق، والتي وصلت إلى حد الدعوات للتدخل المباشر عسكريا في سوريا لإسناد النظام. وخطاباتهم بعد السيطرة على دمشق، يكشف عجز هذه الطبقة عن إخفاء هيمنة البعد الطائفي على موقفهم، كما عجزوا قبل ذلك عن إخفاء خشيتهم من التطورات التي يمكن أن تنتج عن هذا التغيير، تحديدا فيما يتعلق بهيمنتهم المطلقة على الحكم في العراق، وفيما يتعلق بتعزيز الوضع السني من خلال نظام سني حاكم في سوريا يشتركون معه بحدود تزيد عن 600 كيلو متر، وبنسيج عشائري واجتماعي متداخل.

المعضلة الأساسية هنا أن المهيمنين على الحكم في العراق لا يزالون يتوهمون أن الحلول الأمنية -لا السياسية- هي السبيل للمواجهة. ولم يتعلموا من درس داعش من قبل؛ وبدلا من السعي إلى مصالحة داخلية تاريخية، وإعادة إنتاج نظام سياسي يقبله الجميع، ويشترك في إدارته الجميع، يصرون على الإبقاء على كل المقدمات التي أنتجت داعش، بل يضيفون مقدمات أخرى عليها، وهم غير مستعدين للتخلي عن «المكاسب المتحققة» والتي جاءت في لحظة اختلال في علاقات القوة، ويصرون أيضا على الإبقاء على الأمر الواقع المختل قائما، عبر السيطرة على أدوات السلطة، والمقلق أكثر هو عدم استعداد هؤلاء لمراجعة تحالفهم، القائم على أسس عقائدية، مع إيران.

على أن الخشية الحقيقية لدى الفاعلين السياسيين الشيعة، إنما تتعلق ببقاء الميليشيات العقائدية (الشيعية) التي عملت منذ العام 2003 على تثبيت الحكم الشيعي في العراق، وعلى الوقوف ضد أي خطر يهدد هذه «الحاكمية» الشيعية، حين استغلت أمر سلطة الإئتلاف المؤقتة رقم 91 الصادر في 2003 المعنون «تنظيم القوات المسلحة والميليشيات في العراق» الذي سمح بدمج تلك الميليشيات في القوات المسلحة العراقية، والقوات الأمنية التابعة لوزارة الداخلية، لتحول تلك المؤسسات إلى مؤسسات ذات بنية طائفية (الشرطة الاتحادية في العراق هي عمليا مجرد غطاء لمنظمة بدر). ثم استغلال الفاعل السياسي الشيعي فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني، لتكون غطاء للميليشيات التي تشكلت أو تلك التي أعيد انتاجها في حكومة السيد نوري المالكي الثانية (2010 ـ 2011) التي استطاعت أن تنافس الدولة وتنتج حرفيا دولة موازية!

في تقرير أصدرته أكاديمية الدفاع في المملكة المتحدة عام 2006 بعنوان «عمليات فرق الموت في العراق» جاء: «بعد انتخابات كانون الثاني 2005 أصبحت وزارة الداخلية تحت سيطرة [منظمة] بدر بالكامل». وأن ألوية الذئب والبركان والعقرب التي كانت يتكون أغلبها من أعضاء منظمة بدر، كانت تعمل كفرق موت! وأنه «طوال عام 2005، بدأت فرق الموت التي تعمل بزي الشرطة الخاصة، وبطاقات الهوية، والمعدات، في الظهور في المدن الكبرى، خاصة في بغداد وما يسمى بالمثلث السني»!

مع تصاعد الثورة السورية، عمد الفاعلون السياسيون الشيعة إلى إعادة انتاج ميليشيات عديدة ودعم تشكيل ميليشيات أخرى. وكانت الغالبية العظمى من هذه الميليشيات تقلد المرشد الأعلى الإيراني السيد علي الخامنئي، وتعده «نائبا» للإمام المهدي وطاعته ملزمة. وقد شاركت هذه الميليشيات بغطاء رسمي في دعم نظام بشار الأسد، كما كان لبعضها أدوار عسكرية في محيط بغداد. وقد استغل رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي سيطرة داعش على الموصل ليصدر بتاريخ 11 حزيران 2024 أمرا ديوانيا بشرعنة هذه المليشيات رسميا. أي قبل فتوى «الجهاد الكفائي» التي صدرت يوم 13 حزيران 2014 والتي دعت المواطنين إلى «التطوع للانخراط في القوات الأمنية» لكن الفاعل السياسي الشيعي «دلس» على الفتوى ليستخدمها من أجل تشكيل كيان ذي طبيعة عقائدية أطلق عليه اسم الحشد الشعبي.

اليوم، وبعد المتغير السوري، لم يعد مقبولا (للدولة الموازية التي أقامتها الميليشيات) أن تبقى ذراعا لإيران في الإقليم، لاسيما وأنها لم تعد مجرد ميليشيات مسلحة، بل أصبح لها نفوذ سياسي، وكارتلات اقتصادية. كما لم يعد متاحا لها أن تكون حارسا للحاكمية الشيعية، وضامنا لها.

بالتأكيد لن يكون قرار حل هذه الميليشيات سهلا، ليس بسبب قوتها الذاتية، فهذا مجرد وهم تم تسويقه، بل بسبب إصرار الفاعلين السياسيين الشيعة على بقائها، كما أن إيران ستقاتل من أجل بقائها، وقد يعاد تفعيل قرار الأمر 91 مرة أخرى، أي بدمجها في القوات العسكرية والأمنية العراقية شكليا، على أن تبقى محتفظة بجميع الأطر العقائدية والسياسية والحزبية والاجتماعية كما هي، تماما كما انحصر أثر قانون هيئة الحشد الشعبي على تحويل اسم هذه الميليشيات إلى ألوية وأرقام فقط. لكن المتغير السوري سيدفع الفاعل السياسي الشيعي بلا شك إلى مراجعة أوراقه فيما يخص مسألة دولته الموازية!

كاتب عراقي

القدس العربي

————————–

من أي طائفة أنت؟/ د. ابتهال الخطيب

20 كانون الأول 2024

استثار مقالي السابق غضبة البعض من المتابعين والقراء الأعزاء من حيث تناوله، بعد الاحتفاء بالسقوط المدوي للنظام السوري القمعي البائس، لبعض المخاوف والمخاطر التي قد ينطوي عليها وجود قوى أصولية جديدة حليفة للنظام الأمريكي على الأراضي السورية، أولاً تجاه الاستقرار السوري والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وثانياً تجاه المقاومة الفلسطينية وما يعنيه سقوط النظام الأسدي الحليف للنظام الإيراني من قطع للإمدادات العسكرية وإضعاف، إن لم يكن إنهاء، لكل أذرع المقاومة الفلسطينية.

لم تتوقف الغضبة عند المؤيدين المستائين من ذكري لأي مخاطر أو توجسات، ولكنها أتت كذلك من الاتجاه المعاكس؛ من المستائين من ذكري لأي نتائج مرضية أو فوائد ممن يرون في هذه الثورة سلبيات جمة تتعدى إيجابياتها، وكذلك من أصحاب الانحيازات الطائفية الذين يرون في الإطاحة بنظام الأسد خطورة على طائفتهم.

لم يكن المقال مرضياً لطرفي القطب، فنحن العرب والمسلمين، لا نعرف سوى الاصطفاف التام، إذا كنت مع فلا تنقد مطلقاً، وإذا كنت ضد فلا ترى أي بارقة أمل. كن منحازاً متطرفاً تكن أيديولوجياً عربياً مسلماً.

وكيف لا ونحن أولاً، كعرب تحديداً، لا بد أن نمجد أي قيادة جديدة وننفخ في صورتها ونحولها إلى كيان شبه إلهي غير قابل للنقد أو التحليل. هذا هو ديدننا الذي طالما أدخلنا في أنفاق مظلمة والذي يبدو أننا لن نتعلم منه، فالقائد الجديد الذي أسقط سلفه القمعي الظالم، يصبح رمزاً عصياً على التشكك أو التقييم، يصبح هو الثورة والثورة هو، تُبرر كل تصرفاته ويُغفر كل ماضيه ليجبّ حاضره بدايته أياً كانت وأياً كان معناها وتبعاتها.

نحن دوماً في حاجة لمخلّص، لأسطورة، لرمز مقدس، “لرجل” فوق كل الشبهات نبقى ننفخ في أناه حتى يأتي اليوم، والذي لا بد أن يأتي، لينفجر هذا الإنسان في وجوهنا.

لا نخطئها نحن العرب ولا مرة، بأيادينا وعقولنا وسلوكياتنا، نفسد حتى أفضل المناضلين، ذلك أنه متى ما أتى ثوري، جهادي، قائد ملهم، مفكر حاكم، متمرد، وينجح في مسعاه، حتى ننصبه مباشرة مكان الديكتاتور السابق، المقدس، العصي على التقييم، دع عنك النقد أو التوبيخ.

وكيف لا ونحن ثانياً، كمسلمين تحديداً، نحكم ونحاكم دينياً وطائفياً، فطائفتك هي أول إطار يقدمك للناس، وهي محفز لأي رأي تقدمه وخلفية لكل كلمة تقولها.

وعليه، لا بد ممن يقدم قراءة متخوفة من مرجعية الحكم الجديد في سوريا وتحالفاته، أن يكون إما “ليبرالياً أخرق” معادياً للإسلام ككل، أو “شيعياً متآمراً” لا يستطيع أن يرى أبعد من انحيازاته الحزبية. وهكذا يتحول مجرد التفكر في أو التوجس من أو النقد لنظام الحكم الجديد ذي الخلفية الأصولية المتطرفة بعلاقاتها بالقاعدة وداعش وذي التحالفات المخيفة بأمريكا وتركيا، إلى تماد على البطل الرمز وعلى الثورة السورية بأكملها، بل ومن المؤكد أن كل متوجس أو ناقد هو إما معاد للإسلام في أحسن الظروف أو شيعي “خارج عنه” في أسوئها. هذه هي تحديداً بداية التوجه الشعبي لخلق نظام ديكتاتوري جديد.

ورغم احتفائي الحقيقي في مقالي السابق بسقوط واحد من أبشع الأنظمة الديكتاتورية الفاشية في العالم العربي، ورغم أنني أشير إلى فصائل المقاومة على أنهم ثوار حقيقيون، ورغم أنني أؤكد أنه وإن كانت إحدى نتائج سقوط هذا النظام القمعي هي إضعاف أذرع المقاومة، فإن هذه النتيجة لا يجب أن تؤثر على احتفائنا بسقوط النظام السوري الفاحش، ذلك أن مسؤولية مقاومة العدو الصهيوني ليست، ولا يجب أن تكون، منوطة بالسوريين وحدهم ليدفعوا ثمنها منفردين تحت نظام حكم قمعي يمعن فيهم القتل ويحيلهم أشباه بشر في السجون، وينهب خيرات بلدهم كل يوم، أقول، رغم كل محاولات التحليل المنطقي و”التبرئة الذاتية”، مازلت إما ليبرالية كارهة للدين في أفضل التقييمات، أو شيعية متآمرة في أسوئها، أو “متسننة” خائنة متملقة في أغربها، لا مهرب من هذا الحكم ولا مخرج خارج هذا الإطار. وعليه، ليكن ما يكون.

لا يوجد الكثير ليقال للمتخوفين من الخطة الأمريكية التركية.

خوفكم في محله، لكن الاحتفاء بسقوط هذا النظام الفاشي وبتحرر أبناء سوريا من سجون مرعبة مخيفة يفترض أن يَجُب، ولو لحظياً، كل المخاوف والتوجسات أو على الأقل يتساير معها، كما ولا يوجد ما يقال مطلقاً للمتأثرين طائفياً سوى أن نظام الأسد كان عبئاً على الطائفة ومدمراً لها ولسمعتها السياسية، فاحمدوا الله على سقوطه، والعقبى للتحرر الإيراني من نظام الحكم القمعي، عودة للنظام الذي كان موجوداً ذات يوم، نظام رئيس الوزراء محمد مصدق الذي خلق ديموقراطية حقيقية في إيران أرعبت النظام الأمريكي ودفعته للقضاء عليه وصاحبه، ولإثقال إيران بحكم الشاه الفاسد ومن بعده حكم المرشد الشمولي.

وبعد، نبارك للشعب السوري تحرره، تحرر وإن أتى متأخراً وبعد أن كلف الشعب السوري أرواحاً وأمناً وسلاماً واستقراراً وأموالاً طائلة، يبقى مستحقاً وباعثاً على الفرح والشعور بالقدرة على سحب الأنفاس أخيراً. إلا أن هذه المباركة لا تعني ولا يجب أن تعني التخلي عن النظرة التقيمية الواقعية للوضع الحالي، كما أن العنونة والوصم والهجوم والأحكام المؤلمة لا يجب أن تحيلنا إلى صمت خائف ينحو لتجنبها كلها. واقع الحال أنه على الرغم من أن سوريا حرة وأن نظاماً متوحشاً قمعياً بعثياً قد اندحر، فإننا على مسافة بعيدة من الاستقرار والأمن المستحقين لسوريا، وعلى مسافة قريبة مرعبة من العديد من المخاطر التي ستهدد الأراضي السورية، ثم تتعداها لمحيطها الإقليمي.

هذا يعني أننا معنيون الآن بالتفكر أن أي دور منوط بنا لمساعدة سوريا على البقاء موحدة وبمنأى عن أي حكم متطرف، وكيف سنساعد المقاومة الفلسطينية التي أصبحت، بعد طول تخلّ وإهمال، وكما كان يجب دوماً أن تكون- مسؤولية العرب والعالم أجمع، لا سوريا بمفردها، التي دفعت لذلك ثمناً باهظاً. وبعد كل هذه الصراعات والمنازعات “الإلكترونية”، هل مازالت أعيننا على غزة؟

القدس العربي

————————–

سورية الجديدة… الدِّين والأخلاق والمصالح/ أسامة عثمان

20 ديسمبر 2024

هذه الثلاثة، الدين والأخلاق والمصالح، تتداخل في معترك الحياة، وفي حمأة الصراعات. وبالتوازي، ينشط التأويل، إذ من النادر جدّاً أن يسفر المعتدي، ويقرّ بأنه المعتدي، وأن يتواضع المفرِّط بانتمائه، من دون أن تضطرّه ظروف خارجية، أنه انحاز لمحض أسباب نفعية وضيعة، لعدوِّ شعبه، وأُمَّته. فالكلُّ يريد أن يكون الشريف المتورِّع. وقد يقتنع بذلك، فعلاً، أو يُقنِع نفسَه، أو تقنعُه اصطفافاتُه العصبوية، الطائفية، مثلاً، أو غيرها.

وقبل الدين، أو من دونه، يتنازع الإنسان أخلاقُه ومصالحُه، وأما الدين فإنه حَمَّالُ أوجه، وتأويلات، مع أنه يشتمل على واضحات، كحُرْمة الاعتداء على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، إلى أساسيات الأفكار العقدية والتعبُّدية، والمرجعية التشريعية.

ولا نضيف جديداً، حين نقول إن القوة الحاكمة المتغلِّبة، عند جمهرة الناس، هي المصالح، وحينها يكون العقل أداةً خادمة، بالتأويل، يؤوِّل الدين، ويؤوِّل الأخلاق. ولهذا تجد، مثلاً، شخصيات (متديِّنة) سِمَتُها العامة هي الغلظة والتعنيف، الذي قد يصير دمويّاً، ثم هي تصوِّر شخصيتها، بهذا الطراز، مُنْتَجَاً دينياً، فيما الذي حصل أنَّ التكوين النفسي القَبْلي لتلك الشخصيات دعاها إلى انتقاء ما تحبُّ من أفكار الدين وأحكامه انتقاءً، لا يخلو من تعسُّف، كما أظهرته تنظيماتٌ استحلّت أرواحَ الأبرياء وأموالهم، وأعراضهم، بذريعة إظهار القوة والتوحُّش اللازمَيْن. وهكذا تستولي فكرة العنف المركزية عندهم على سائر الأفكار، وتنمحي الحدود بين أحكام السِّلْم وأحكام الحرب، وبين المعتدين والمسالمين.

وإلى جانب الجماعات الدموية المستبيحة للحدود، نشأت الجماعات الطائفية، لتوظيف الطائفية لأغراضٍ سياسيةٍ صراعية، ولتنتعش على الأضغان التاريخية، كالخلفية الشيعية والسُّنيَّة، لتظهر وكأنها تنتصر للحقِّ الديني، وكأنّ الدِّين هو الباعث على نشوئها، وهو الراسم لغايتها، وهو المحدِّد لسلوك أفرادها. هذا المفترَض، أن يمنح الدين هذه الأفضلية، في المرجعية؛ لكونه السَّنَد، والأساس في النشأة والتحفيز. فيما الحاصل تجييشٌ عصبويٌّ، ممتزِج بالمصالح، يقفز عن الدين باعتباره مرجعية، في تكوين الأفراد، وحتى في مواقف تلك الجماعات؛ وهي تلعب في ميدان السياسة، وهي تعادي هذه الجهة، أو تسالم، وتتحالف مع تلك الجهة، وحتى في مواقفها الدولية، التي لم تكن بريئة من البراغماتية السياسية في أحرج صورها، كما كان من التموضع الطائفي، الانتهازي، في العراق، ضمن السياق الأميركي الغازي والمحتل. وهذا التعاون مع المحتل الأميركي لم يقتصر على الأحزاب الآتية من خلفية شيعية، وإن كانت الأغلب، إذ انخرطت فيه بعض القوة الآتية من خلفية سنّية. وكل ذلك تحت تأويلات، وأولويات، لم يكن الدين هو الفاعل فيها، بل مصالح الطائفة في الظاهر، فيما هي مصالح فئاتٍ منها، أو قيادات، أو دول.

وفي سورية اليوم، تشترك هذه المرجعيات الثلاث، الدين والأخلاق والمصالح، في التأثير، والتوجيه. سورية هذه التي دمَّرها حكمُ آل الأسد، داخليّاً، ثم أكملت إسرائيل، (بعد أن افتقدت ضامِنَ أمْنِها)، مهمة تدميرها، خارجيّاً، حين قضت، عبر غاراتها المتتابعة، على القدرات العسكرية الثقيلة.

عمل نظام الأسد، الوالد والولد، على خنْق البنية الاجتماعية، والحياة السياسية، بل حاول قهْر روح الشعب، وهزيمة السوريين، حاول إطفاء جذوة الحياة فيهم، وإحباط طاقاتهم، بأدوات القهر والسجن والتعذيب، والتعامل الاستعلائي الطائفي، أو الطائفوي، بالتفرُّد في الحكم، والاستبداد بالقرار، وبالبلد ومقدّراته، دون أن يحقق لسورية أدنى حقوقها الوطنية، مثلاً، استرداد المحتل من أرضها. ومن دون أن ينجح في اجتراح نموذج جاذب لأبنائه، يستبقيهم في بلدهم، ويجنّب عشرات الألوف منهم عذابات الهجرة، والاغتراب. ولولا أن الشعب السوري يتوافر على طبيعة صبورة وعزيمة مذخورة واثقة بذاتها، وبأصالتها، لانطفأت روحه، ولانهزم.

وعليه، سورية اليوم، من دون أن نصدر حُكْمَ قيمةٍ على الجهات المتصدِّرة، كهيئة تحرير الشام، وغيرها، سورية اليوم، بحاجة أوليّة، إلى البناء، بناء الإنسان والمجتمع، وبناء البلد واستعادة الدولة. ذلك أن من غير الوارد أن تنخرط في مواجهات خارجية، وهي في هذه الحالة من الاختلال والهلهلة، سيراً إلى الاستواء والالتئام، في هذه الحالة التي يتصدّر اهتمام الناس فيها تأمين الحاجيات الأساسية، رغيف الخبز، وسائر المطالب اليومية.

وعلى الجهة التي تتصدّى لإدارة البلد والناس أنْ تقدِّم نموذجاً في الرعاية يُحدِث قطيعةً مع النظام السابق الفاشل، أنْ يكون نقيضاً له، في أهمِّ مفاصله، لجهة تعميم الحقوق المتساوية، وفي البِنى التحتية، وفي الخدمات الطبية والتعليمية. وفي المجمل، استباق الجدل والتنظير بالنتائج الملموسة.

وتدلُّ الأقوال الصادرة عن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) قائد هيئة تحرير الشام، والمواقف، والأعمال التي بدأت على الأرض في دمشق، على أن توجُّههم الأهم استنساخ تجربة “الشمال السوري المحرَّر”. وكانت مناطق إدلب وريفي حماة الشمالي وحلب الغربي كلها خاضعة لسيطرة المعارضة، وبسكَّان فاق عديدهم خمسة ملايين نسمة، حين حكمت الهيئةُ، من إدلب، باسم “حكومة الإنقاذ السورية”، منذ عام 2017. وتعميم ما اعتبروه نجاحاً في الإدارة والحكم، (قبل انخذال الأسد)، على سائر المحافظات السورية، مع إدراك عِظَم المسؤوليات، مع هذا التوسُّع والشمول والتنوُّع.

وهذا الانهماك في البيت الداخلي لا يعفي من احتفاظ سورية برؤيتها، تجاه الأخطار الخارجية، والعدوان السافر الذي فاقمته دولة الاحتلال، بعد هروب بشّار الأسد، بتوسيع احتلالها، وبتدمير سلاح البلد، ذلك أن الكرامة في الداخل لا تنفكّ عن الكرامة أمام عدو خارجي، وذلك أن الدين والأخلاق والمصالح قد تتقاطع في مراكز معينة، منها عدالة في الداخل لا بد أن تترجَم، لاحقاً، كرامة في الخارج، لا أن تحصَر التصوّرات عن الصديق والعدو في سياق الثورة والنظام، فلا تغطِّي إيرانُ وأطماعها، على إسرائيل وعدوانها، الماثل. أقلُّه في الخطاب؛ فليسعد القول، حين لا يُواتينا العمل.

العربي الجديد

—————————–

فرصة الطيور المهاجرة في بناء سورية الجديدة/ عبد التواب بركات

20 ديسمبر 2024

بعد مرور أكثر من 13 سنة على اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار سنة 2011، هرب بشار الأسد وترك سورية مدمرة بعدما ضرب مدنها بالأسلحة الكيميائية وقصفها بالبراميل المتفجرة ورجمها بالصواريخ. وعندما فشل في إخماد الثورة وأصبح على بعد أيام من السقوط، استعان بإيران وروسيا وحزب الله اللبناني لإنقاذه. ودمرت العمليات العسكرية التي شنتها القوات الأجنبية البنية التحتية لشبكة المواصلات والكهرباء والصحة ولتعليم والمياه والصرف الصحي والمصانع والمزارع والمستشفيات، وأتت على 85% من الاقتصاد السوري، وتحولت سورية إلى ركام.

وبعدما وصل الاقتصاد السوري إلى ذروته في سنة 2011 بناتج محلي إجمالي بلغ نحو 67.5 مليار دولار، واحتلت سورية المرتبة 68 بين 196 دولة في تصنيف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متفوقة في هذا التوقيت على دولة مثل كرواتيا ذات الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ 63 ملياراً، هبط الاقتصاد السوري في 2024 إلى المرتبة 129 في التصنيف العالمي، وانكمش الناتج المحلي إلى أقل من تسعة مليارات دولار فقط، وفق تقديرات البنك الدولي.

وهذا ما يضع سورية حالياً في مرتبة أقل من الصومال التي وصل الناتج المحلي الإجمالي لها إلى 11.6 مليار دولار. أما كرواتيا التي اعتمدت مبادئ الحوكمة والشفافية والحرية، فقد بلغ ناتجها الإجمالي هذا العام 82.7 مليار دولار.

وفي سنة 2020، قدرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، بأن خسائر الاقتصاد السوري بلغت 442 مليار دولار خلال ثماني سنوات بسبب الحرب. وقدرت دراسة أخرى أعدها المركز السوري لبحوث الدراسات أن خسائر الاقتصاد السوري في الفترة نفسها بلغت 530 مليار دولار، وهو ما يعادل عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي قبل الثورة.

وأظهرت الدراسة الآثار الكارثية لاعتداء قوات الأسد وحلفائه على الشعب السوري ومقدراته بكل الأسلحة المحرمة، والتي أحالت السوريين إلى مشردين وعاطلين من العمل، فارتفع معدل البطالة من 14.9% في عام 2011 إلى 51.8%، وارتفعت نسبة الفقر في البلاد من 1% في عام 2010 إلى نحو 86% من السكان مع نهاية 2019.

هذه الخسائر الاقتصادية، رغم فداحتها، لا تقارن بقتل قوات الأسد وحلفائه أكثر من 600 ألف سوري، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان، منهم 26 ألف طفل و16 ألف امرأة، ولا بتهجير 13 مليون سوري قسرا، من بينهم 7.2 ملايين نازح داخليا، و6.5 ملايين لاجئ في الخارج، وفقا لآخر إحصائيات الأمم المتحدة، فضلا عن تدمير مستقبل الدولة بفقدان مليونين ونصف مليون طفل حقهم في التعليم.

وإذا كان الرئيس المخلوع قد نجح في جعل الواقع السوري مأساوياً بكل معنى الكلمة، في مقابل الحفاظ على كرسي الحكم، لكن سقوطه وهروبه خارج سورية أزال الكابوس الذي جثم على صدر السوريين ومنحهم فرصة لتنفس الهواء الصحي من جديد. ومن الإيجابيات في المشهد الحالي، أن سورية الجديدة لديها فرص اقتصادية واعدة ومتنوعة إذا أحسنت حكومة وطنية استثمارها، فالحياة الكريمة للشعب السوري، الذي فقد حقوقه الإنسانية والسياسية والاقتصادية منذ تولى حافظ الأسد الحكم قبل 54 سنة في 1970، جديرة بأن تتحقق في وقت ليس بعيد.

الأموال المهاجرة من سورية

هناك فرصة لعودة رجال الأعمال السوريين ومليارات الدولارات وإعادة استثمارها في سورية الجديدة. فمن بين ملايين السوريين اللاجئين، خرج كثير من الأثرياء السوريين بأموالهم إلى تركيا ولبنان ومصر والأردن، ونقلوا معهم معاملهم ومصانعهم وتجارتهم من محافظات سورية، وخاصة من حلب، عاصمة المال والأعمال، والتي كانت تساهم بربع الناتج المحلي الإجمالي و50% من صادرات البلاد.

وبلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا 3 ملايين و112 ألف سوري، وفقا لبيانات دائرة الهجرة التركية. عدد ضخم من هؤلاء السوريين رجال صناعة وأرباب أعمال، وتقدر استثماراتهم في تركيا بما بين خمسة مليارات وعشرة مليارات دولار، بحسب تقرير لمركز حرمون للدراسات.

وتتوزع هذه الاستثمارات في شركات برأس مال بين 100 ألف دولار وأكثر من مليون دولار، بالإضافة إلى شركات قابضة برؤوس أموال تبلغ عدة ملايين من الدولارات. وصرح المستثمرون في غازي عنتاب التركية بأن حجم الاستثمارات السورية في هذه المحافظة وحدها يراوح بين مليار وخمسة مليارات دولار. ويقدر رجال أعمال سوريون استثماراتهم في تركيا بأكثر من عشرة مليارات دولار.

وهناك أموال ضخمة خرجت من سورية إلى لبنان عبر الحدود المفتوحة بين البلدين. وتعليقاً على أزمة سورية المالية في سنة 2020، قال الرئيس المخلوع بشار الأسد إن سبب الأزمة السورية أن ما بين 20 مليار دولار و42 مليارا من الودائع فقدت، أو نقلت، في القطاع المصرفي اللبناني الذي يملك عملة صعبة تزيد عن 170 مليار دولار. ورد الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف اللبنانية سمير حمود بأن حجم ودائع السوريين في المصارف اللبنانية تشكل نحو 6% من إجمالي الودائع، أي لا تتجاوز سبعة مليارات دولار فقط، وتم تحويل نحو ستة مليارات دولار منها إلى خارج لبنان.

لكن موقع “بي بي سي” عربي يقدر الأموال السورية في لبنان بنحو 30 مليار دولار، وذلك وفق مصادر مصرفية. ويرجح أن تكون معظمها قد نقلت قبل الأزمة اللبنانية في 2019 إلى تركيا. وتقدر منظمة الهجرة الدولية أن في مصر ما يقارب مليونا ونصف المليون لاجئ سوري بين عامَي 2011 و2022، من بينهم 30 ألفا مستثمرون. كما بلغ عدد الشركات السورية المسجلة لدى دائرة مراقبة الشركات الأردنية 4100 شركة، تتوزع على قطاعات الصناعة والتجارة والعقارات، مع إجمالي رؤوس أموال تجاوزت الـ310 ملايين دولار.

هذه الأموال والأعمال والعلاقات التجارية تحتاج إلى حوافز استثمارية وبيئة سياسية مستقرة لاستقطابها وإعادة توطينها في سورية الجديدة. وسوف تكون هذه الأموال، أو جزء كبير منها، قاطرة للتنمية في سورية الجديدة. ومن المتوقع أن تقوم شراكات اقتصادية وتجارية بين الشركات والمصانع السورية القائمة في تركيا ولبنان والأردن ومصر وبين الكيانات الاقتصادية المنتظرة في سورية الجديدة.

وسوف تكون هذه الكيانات الجديدة بيوت خبرة عصرية وقاطرة للاقتصاد والتنمية في سورية الجديدة، وروافد لتوظيف الملايين من الشباب السوري الذي يعاني من البطالة والفقر منذ سنوات بسبب ويلات الحرب. وبدأت بالفعل الطيور السورية المهاجرة من أرباب الصناعات والتجارة والأعمال الدخول للأراضي السورية من المعابر على الحدود التركية، لدراسة كيفية نقل أموالهم وأعمالهم وتجارتهم وخبراتهم إلى وطنهم الأم في أقرب وقت.

الطيور المهاجرة

تعمدت قوات أمن النظام السوري تصفية الأطباء والمسعفين ميدانيا منذ بداية الثورة، وقصفت المستشفيات ودمرتها على من فيها، دون اعتبارها ملاذات آمنة في وقت السلم والحرب وفقا لقواعد القانون الدولي الإنساني، واعتبرت أن الطبيب أخطر من الثوار أنفسهم. ومبررهم في ذلك، كشفه أحد الأطباء السوريين في شهادته لمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان بقوله إن المحقق قال له “أنت بصفتك طبيباً أخطر بكثير من الإرهابيين.. نحن نقتلهم وأنت تعيدهم”. المنظمة وثقت قتل 900 اختصاصي طبي، وسجن 3364 من مقدمي الرعاية الصحية وطلاب الطب بشكل غير قانوني من قبل الأجهزة الأمنية السورية خلال عشر سنوات من أحداث الثورة، وظلوا محتجزين أو مختفين قسريا حتى آخر لحظة من عمر النظام.

وكان من بين المهجرين قسريا من هاجر إلى أوروبا والولايات المتحدة، ويقدر عددهم بنحو 15 ألف طبيب، يمثلون نصف عدد الأطباء تقريبا في عموم سورية، البالغ عددهم سنة 2010 حوالي 30 ألفا. وتصدر السوريون قائمة الأطباء الأجانب في ألمانيا، إذ بلغ عددهم ستة آلاف و120 طبيباً سورياً، بحسب إحصائيات الجمعية الطبية الفيدرالية الألمانية، ويعمل ما يقرب من خمسة آلاف منهم في المستشفيات الألمانية، مع خمسة آلاف سوري آخرين يعملون في التخصصات الطبية معاونة.

اكتسبوا جميعاً الخبرة الألمانية في كل تخصصات الطب، والكثيرون منهم يعدون العدة للعودة والنهوض بالقطاع الطبي في سورية الجديدة. وفي إحدى مجموعات “فيسبوك” للأطباء السوريين في ألمانيا، أظهر استطلاع سريع للرأي أُجري في يوم سقوط الأسد أن 74% من 1200 مشارك قالوا إنهم يفكرون في العودة الدائمة، وفق وكالة رويترز. حتى أنّ رئيس جمعية دعم المستشفيات الألمانية غيرالد غراس حذر من خطورة مغادرة الأطباء السوريين بلاده بشكل مفاجئ بعد سقوط النظام السوري السابق، لتأثير ذلك الكبير على الرعاية الصحية الألمانية.

كما هاجر إلى ألمانيا منذ بداية العنف ضد المتظاهرين نحو 3000 مهندس سوري، مع نحو 43 ألف سوري يعملون في قطاع التصنيع الألماني، ضمن 1.2 مليون سوري وصلوا إلى ألمانيا منذ بداية الثورة وبتسهيلات من حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. نسبة كبيرة من هؤلاء المهندسين والعمال المهرة يريدون العودة لسورية الجديدة، ويعتبرون ثروة لا تقدر بثمن، وسيكون لهم دور كبير في بناء نهضة حقيقية بخبرات ألمانية.

والحكومة في سورية الجديدة معنية باستقطاب هذه الكفاءات وتمكينها من قيادة التنمية والتطوير في مجالات التكنولوجيا والصحة والتعليم. وهي ثروة سورية في الأساس. وفي تقرير للتلفزيون الألماني في خضم الثورة السورية في سنة 2015، يكلف إعداد الطبيب السوري خلال سبع سنوات نحو مليون دولار، وتتضمن تكاليف الدراسة الجامعية والبنية التحتية التعليمية والتدريبية التي تسبق حصوله على شهادة ممارسة المهنة. وتراوح كلفة إعداد المهندس ما بين نصف مليون دولار وثلاثة أرباع مليون دولار.

وبحسبة بسيط، هاجر إلى ألمانيا فقط نحو عشرة آلاف طبيب ومهندس، أنفقت عليهم سورية نحو ثمانية مليارات دولار خلال سنوات تعليمهم وتدريبهم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن حملة الشهادات الجامعية العليا، ولا سيما من المهندسين والأطباء، يشكلون نسبة تزيد على 15% من مجمل اللاجئين السوريين، وحملة الشهادة الثانوية يشكلون 35% منهم، فإنّ هذه الإمكانات هي رأس المال البشري السوري، والثروة الاقتصادية المستنزفة من سورية خلال ثورتها العادلة، وعلى الحكومة العمل بجد وعزيمة لتهيئة البيئة الاستثمارية والتشريعية وتشجيعها على العودة لوطنها وإشراكها في بناء سورية الجديدة.

العربي الجديد

—————————-

ديون إيران على سوريا.. هل يمكن إلغاؤها؟/ محمد الشيخ

الجمعة 2024/12/20

يبدو أن الحكومة السورية المستقبلية ستخوض معركة قانونية دولية مع إيران، لإلغاء العقود والاتفاقيات التي أبرمتها الأخيرة مع نظام الأسد المخلوع، خصوصاً بعد أن خرجت طهران عن صمتها الرسمي بخصوصها، وتأكيدها أن جميعها ستنتقل إلى النظام السياسي الجديد، مع الأموال التي دفعتها في الماضي على تثبيت الأسد في حكمه، على هيئة مساعدات عسكرية واقتصادية، وسجّلتها على حكومته كديون يتوجب سدادها.

مصير الاتفاقات

وإيران التي تعرضت لضربة جيوسياسية وعسكرية بسقوط نظام الأسد السريع والمفاجئ، خلال 11 يوماً، وقّعت عشرات الاتفاقيات والمعاهدات مع حكومة الأسد، مع بدء استعادة الأسد السيطرة على معظم الأرضي السورية من المعارضة المسلحة في 2016، بينما كانت الاتفاقيات الموقعة قبل ذلك، أقل بكثير.

ومنذ العام 2011، وحتى الأيام التي سبقت سقوط الأسد، بلغ عدد الاتفاقيات الايرانية الموقعة مع حكومته نحو 126 اتفاقية، في مختلف القطاعات مثل الطاقة والتجارة والصحة والتعليم والزراعة والصناعة والاتصالات والتمويل وغيره، لكنها توزعت بين التنفيذ الكامل وتحت التنفيذ وعدم التنفيذ، حسب مركز “جسور” للدراسات.

وكثرت الأسئلة حول مصير الاتفاقيات مع الحكومة السورية المستقبلية، بعد سقوط الأسد، وكيف ستتصرف إيران حيالها، ليأتي الجواب من المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي، قبل يومين، بأنها ستنتقل إلى النظام السياسي الجديد، مؤكداً أنها “معاهدات ومذكرات التفاهم بين البلدين هي اتفاقيات بين الحكومات والدول، وليس بين مجموعات أو أفراد”.

ولأن إيران وقعت تلك الاتفاقيات لتحصيل ديون صرفتها على تثبيت حكم الأسد، ونشله من القاعين العسكري والاقتصادي، لا لأجل نشل الشعب السوري من أزماته بسبب حرب نظام الأسد الوحشية ضدهم، فإن أحد خيارات الحكومة المستقبلية في سوريا أن تعمل على إلغاء تلك الاتفاقات أو بعضها، لكن السؤال ما هي خياراتها لذلك في ظل القانون الدولي الذي كان يعتبر حكومة الأسد شرعية؟

يقول الخبير في القانون الدولي المعتصم كيلاني لـ”المدن”، إن الإلغاء يعتمد على عوامل قانونية، سياسية، واقتصادية معقدة. فمن الناحية القانونية، تخضع العقود للقانون الدولي، ولإلغائها قد تحتاج الحكومة الجديدة لإثبات أنها عقود غير شرعية، ووقّعت بظروف غير متكافئة، مثل الإكراه او الضغط السياسي، أو الإضرار بمصلحة الدولة.

الضغط العسكري

وحول التحديات التي قد تواجه الحكومة لذلك، يجيب الكيلاني أن إيران، ويشمل ذلك روسيا، “قد ترفضان أي محاولة لإلغاء أو تعديل العقود، وقد تلجآن إلى التحكيم الدولي، وقد تستخدمان الضغط السياسي والتهديد العسكري، بسبب نفوذهما السياسي والعسكري في سوريا”.

ويؤكد أن الحكومة بحاجة إلى حلفاء دوليين لدعم موقفها، مثل الأمم المتحدة أو الدول الداعمة لسوريا الجديدة، والذي قد يساعد في ممارسة ضغوط لإعادة التفاوض على العقود.

تحصيل الديون

وإلى جانب العقود، فإن الأسد ترك ديوناً يتوجب سدادها لإيران، بقيمة تتراوح بين 20 و30 مليار دولار أميركي، حسب ما كشف عنه في أيار/مايو 2020، النائب في لجنة الأمن القومي والسياسية الخارجية في إيران، حشمت الله فلاحت بيشه.

وعاد المسؤول الإيراني عقب سقوط نظام الأسد، لإثارة قضية الديون، قبل أن يرد عليه بقائي خلال مؤتمره الصحافي، بالقول إن الأرقام “مبالغ فيها” إن الديون ستنتقل للنظام السياسي الجديد بمبدأ خلافة الدول.

في الاثناء، نشرت صحيفة “صاندي تايمز” البريطانية تقريراً كشفت فيه أن ديون طهران على الأسد، تبلغ 50 ملياراً، مقابل مساعدات نفطية وعسكرية، مشيرةً إلى أن المسؤولين الإيرانيين ومنذ ما يقرب من ثلاث سنوات، كانوا قلقين بشأن كيفية استرداد الديون إذا قُتل الأسد أو أُطيح به، وذلك وفق وثائق مسربة من الخارجية الإيرانية، حصلت عليها من قراصنة معارضين إيرانيين.

وتفاعل بقائي مع الرقم المتداول في الصحيفة بالقول إن “هذه الأرقام، مثل الادعاء بوجود دين قيمته 50 مليار دولار على سوريا لصالح إيران، مبالغ فيها بشكل كبير”.

ويقول الكيلاني إن الحكومة الجديدة لديها خيار التفاوض على الديون الإيرانية مستقبلاً، لتقليل قيمتها او جدولتها بشروط ميسرة، أو قد تلجأ للحصول على دعم دولي من الدول المانحة مثل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، او على دعم إقليمي من دول الخليج.

ويضيف أن لديها خيار استغلال المواد الطبيعية، وإعادة هيكلة العقود لاستثمار هذه الموارد بطرق تعود بالفائدة على الشعب السوري، بدلاً من الاستغلال الأجنبي. وكذلك فإن خيار مكافحة الفساد، واستعادة الأموال المنهوبة داخليا وخارجياً، أحد الخيارات.

المدن

—————————-

يوم تكسرت فيه الأقفال/ سهى هشام الصوفي

20 كانون الأول 2024

في الطابق العلوي خبط أقدام، وفي الطابق السفلي صراخ مكبل يصطدم بقضبان مجنزرة، وبين الطابقين طوابق بكماء لم يسمع لها صوت من زمن طويل.. مساجين الطابق العلوي يقفون بطوابير متهالكة وراء باب حديدي لا ثقب فيه لمفتاح، اقترابهم من الباب كان آلياً كفراش يقترب من الضوء، وإن كان من المعيب أن نستحضر علاقة الفراش بالضوء، ونحن نتحدث عما يحدث وراء باب جهنم… صوت تكسير الأبواب بشيء حاد كان يملأ صدورهم بالفزع، فالباب لم يفتح من قبل، إنه مجرد رسم مستطيلي بلون غامق يتوسط حائط من الحيطان الأربعة التي تسور رقعة إقامتهم.. ومن يسأل عن طريقة تزويدهم بالطعام أو بقرار الإعدام، فعلى خياله أن يصل إلى أبعد تصور ممكن، وإن وافقني الجميع على استحالة نجاحه…

الباب تم كسره، ليخرج أشباه الأحياء من السجناء مترددين خائفين متوجسين ممن فتح الباب، وممن سبق وأقفله عليهم بتواريخ نسوا أرقامها ومناسباتها.. كانت طريقة خروجهم من منطقة الموت الصامت، لا تشبه التصور المتعارف عليه للخارجين من سراديب السجن، خطوة للأمام وخطوات للوراء في حالة من التيه الذي لا يستطيع التفرقة بين الممكن واستحالته.. خروجهم من دون أصفاد، كان محكم الإقفال بأصفاد الخوف، لم يفهموا كلمة «أخرجوا» التي رددتها الأصوات الغريبة المعلنة تحريرهم، فمشوا كخرفان هزيلة البنية تساق إلى المسلخ، سنوات التعذيب أنستهم كيف بإمكان الخلاص أن يكون الضوء في غياهب العتمة، فبدوا كمن يفضل البقاء على ما هو عليه من الخروج إلى مساحة مجهولة، لا يتذكرون فيها خريطة الطريق إلى هويتهم!

«أخرجوا.. أخرجوا» نداء يتكرر في رواق أبواب تُكسر لتوها، «أسرعوا بالخروج» صراخ يحاول جر المساجين، مما كان يُقربهم من نهايتهم أو بالأحرى مما كان سينهي عذاباتهم بحبل أو محرقة أو مكبس…

النداء يشتد من دون أن يفهم أصحابه أن الصوت لا يصلهم وأن الصمت يلفهم بأسلاك كهربائية ثبتها سجانهم على أرواحهم قبل أفواههم، وفي حواسهم قبل إحساسهم حتى فقدوا القدرة على سماع حتى أصواتهم، أو أنينهم المتبقي في حناجر يعلوها الصدأ… وفي غمرة التردد بالخروج القسري من زمنهم الضائع، تنتصر أنفاس الحياة الأخيرة فيستسلمون من دون أن يفهموا أو يدركوا ما الذي عليهم فعله بعد إتمام عملية النزوح إلى الحياة خارج الزنزانة… كانوا يركضون وراء بعضهم، جنب بعضهم بغريزة القطيع، لا يشعرون بأقدامهم وهي تركض ولا بالأرض التي يركضون عليها، كل ما يقومون به هو الركض، أو الهرولة، حيث لا تتمكن أقدامهم الضعيفة من حمل أجسادهم الأضعف.. ما من أحد منهم ينظر إلى أحد، ففي يوم الحشر لا يعرف الأب ابنه ولا الإبن أبيه.. الوجوه كانت غاطسة في زوبعة من ظلام وبشر والعيون متيبسة بعد أن مضى وقت طويل على آخر مرة قاموا فيها بغسل وجوههم.. الأكتاف ترتطم ببشر وحيطان والأقدام حفاة تدوس على مسامير، وفي نهاية السرداب وجه الضوء الخجول يمد يده أن امسكوني ولا تخشوا الخذلان..

القدس العربي

————————–

سورية… من أقبية القتل والتعذيب إلى الشمس/ راسم المدهون

20 ديسمبر 2024

قبل أربع وخمسين سنة، وتحديدًا بعد يوم أو يومين لا أكثر من انقلاب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين، كنت أجلس عصرًا في “مقهى السفراء” الملحق بسينما “السفراء” في شارع 29 أيار في قلب دمشق حين أعلنت الإذاعة السورية بيان “القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث العربي الاشتراكي” التي عينها الأسد، وكان في ذهني سؤال رئيس: ماذا سيقول هؤلاء الانقلابيون عن رموز النظام السابق ومنهم الرجل القوي آنذاك صلاح جديد والرئيس الراحل الدكتور نور الدين الأتاسي ورئيس الوزراء الراحل يوسف زعين ووزير الخارجية إبراهيم ماخوس وغيرهم؟

فاجأني البيان بعبارة اعتبرتها جديدة تمامًا على البيانات رقم واحد التي تبدأ بها الانقلابات العسكرية العربية عادة ومنها الانقلابات في سورية، إذ وصف الأسد نظام من سبقوه بـ “العقلية المناورة”، وقبلها بيومين أي صبيحة السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر سارت في ساحة “السبع بحرات” أمام مبنى المصرف المركزي مظاهرة يهتف المشاركون فيها ضد “حكم العسكر” حتى داهمتهم قوات المخابرات فتفرقوا، أما من كان يهتف محمولًا على كتفي رجل ضخم الجسم فقد حاول النزول فتشبث به من يحمله وأخذه راكضًا به إلى شاحنة المخابرات: تلك كانت لحظة انطلاق طوفان القمع والذي لم يعد مجرد إجراءات عقابية تقليدية تقوم بها السلطة ضد معارضيها، بل سياسة شاملة وممنهجة طاولت كل مجالات الحياة في سورية.

ففي الساعات الأولى لانقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر تم اعتقال القيادة البعثية السابقة وعلى رأسها صلاح جديد ونور الدين الأتاسي رئيس الدولة ويوسف زعين رئيس الوزراء وكل أعضاء “القيادة القطرية لحزب البعث” لفترة قاربت ربع قرن وتم الإفراج عنهم تباعًا حين كان كل واحد منهم يلفظ أنفاسه الأخيرة فتفضل السلطة أن يموت في بيته.

في دمشق يتذكر من عاش تلك الفترات القاسية من الأزمات الاقتصادية والمعيشية كيف كان النظام يكرس لغة قمعية لتصرفاته، فمنح فئة من العاملين زيادة مالية في أجورهم كان يسمى في إعلام النظام “عطاءات القائد”، وأتذكر أن المعلمين أُجبروا ذات مرة على المرور في مسيرة من أمام القصر الجمهوري كي يشكروا “الأب القائد” على منحهم زيادة بلغت خمسين ليرة، بينما “القائد” يقف في شرفة القصر ملوحًا بيديه لهم.

حماة… امتحان عسير

في أواخر السبعينيات وحتى مطلع الثمانينيات شهدت سورية أحداث مدينة حماة التي دمرها النظام بذريعة تمرد قامت به جماعة الإخوان المسلمين، وراح ضحية تلك المذبحة ما يزيد عن أربعين ألفًا، ومن شهد مدينة حماة بعد المذبحة مثلي رأى بأم عينه حطام بيوت فوق قتلاها من النساء والأطفال والمدنيين العزل الذين ذبحهم بدم بارد رجال “سرايا الدفاع” بأوامر رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، والذي طاولت إجراءاته القمعية – الاستئصالية أهل المدينة منذ ذلك التاريخ، ولا أنسى هنا أن أهل محافظة حماة ظلوا عقودًا طويلة يطالبون بتطبيق مبدأ إنساني تعرفه وتطبقه دول العالم كله وهو الحق في استخراج “شهادة وفاة” للضحايا كي تتمكن العائلات من إجراء “حصر إرث” لأملاكهم الشخصية كلما احتاجوا توزيع ميراث العائلة بينهم وظل الأسد الأب يرفض.

وقع ذلك كله فيما كانت سلطة القمع الأسدي مشغولة بمحاولاتها التي لم تتوقف في السطو على قرار الفلسطينيين، حيث هاجم إعلام النظام كما قادته أبو عمار ياسر عرفات وزج النظام كافة المنتسبين لحركة فتح في المعتقلات لعقد ونصف العقد من السنوات، وهو تسلط سرعان ما انتقل إلى لبنان الذي حكمه رجال الأمن بالعسف والحديد والنار وساقوا قياداته وشخصياته السياسية لمركز قمعهم في “عنجر” حيث كان يقود غازي كنعان ومن بعده رستم الغزالي المخابرات السورية الساهرة على إرهاب اللبنانيين وتطويعهم، وهو “النشاط” الذي بلغ ذروته مع اغتيالهم لرئيس الحكومة اللبنانية الشهيد رفيق الحريري وقائمة طويلة من الشخصيات اللبنانية المؤثرة والمكافحة من أجل استقلال لبنان وخروجه من قبضة الهيمنة الأسدية.

أخطر ما فعله النظام البائد هو سطوه العلني على إرث سورية القومي – الحضاري وإجراءاته الغزيرة التنوع لتحويل سورية لمزرعة لإيران تحت مسمى كاذب هو “محور المقاومة” والذي أخضع البلاد ومقدراتها لسيطرة إيرانية قتلت وصادرت البيوت وزرعت ساكنين جددًا في بيوت السوريين وحولت مناطق واسعة من سورية إلى “مستوطنات” سورية خصوصًا في الزبداني في ريف دمشق وفي “القصير” في محافظة حمص ودير الزور وأطلقت أيديهم في تشكيل ميليشيات عسكرية شاركت بدور أساسي في ذبح السوريين بالتعاون والمشاركة المباشرة من كتائب حزب الله.

حين شاهدت الطاغية المخلوع يتحدث في أول ظهور له على الشاشة الصغيرة بعد المظاهرات الأولى ضده عام 2011 أدركت أنه ذاهب لذبح سورية ولن يقدم ولو تنازلًا بسيطًا للشعب السوري هو الذي اعتاد تقديم تنازلات كبرى ومجانية للخارج.

عصر صيدنايا

اليوم تعرض الشاشات ونسمع من كانوا هناك والذي يجعل العقل السليم يتوقف مذهولًا أمام ما يرعب المخيلة من مشاهد وقصص وحكايات تشبه “الفانتازيا التاريخية” التي قدمتها في مرحلة سابقة الدراما السورية، والمضحك المبكي أن نجد اليوم من يهبّون للدفاع عن الديكتاتور الساقط بذرائع تافهة وحجج مخزية غير آبهين بعذابات السوريين على مدار نصف قرن ويزيد في ظل سلطة المقابر الجماعية والتغييب القسري في سجون سورية التي لا تُحصى والتي تجسدت في “صيدنايا” الذي رأى العالم من خلاله كيف “برع” الطغاة في نهش لحوم البشر وتقطيع أوصالهم كما لم يحدث ولا تتذكره ذاكرة السوريين في العصور الحديثة.

أغرب ما يقوله من هبّوا للدفاع عن المخلوع أنه كان علمانيًا ويدافع عن الأقليات بل ومقاوم ممانع، هو الذي ظل يتلقى ضربات الطائرات الإسرائيلية محتفظًا بحق الرد وهو الرد الذي لم يحدث أبدًا.

سورية تنهض من كابوسها، البلاد التي أسس دولتها المعاصرة رجال كبار كشكري القوتلي وفارس الخوري وخالد العظم صار يتحدث باسمها رجال الأمن والعصابات التي حولت البلاد إلى مصانع للكبتاغون وغيره من المخدرات وتصديرها للبلدان العربية، وها نحن نستعيد صور الحياة تنهض من ركام التدمير الشامل للبلاد ونفرح بوجوه أحبة وأصدقاء يعودون من تغييبهم القسري وراء جدران السجون والمعتقلات فأتذكر قصيدة “شاعر الشام” شفيق جبري يوم الجلاء:

“حلم على جنبات الشام أم عيد لا الهم هم ولا التسهيد تسهيد”…

سورية مشعل ضوء وحضارة، أسست منذ استقلالها دولة تسير بثبات نحو الديمقراطية والحداثة والصناعة المتقدمة واستحقت أن يرشحها الخبراء العالميون في خمسينيات القرن الماضي أن تكون في مستقبلها دولة في الصفوف الأولى من دول العالم المتطورة قبل أن تعصف بها أيدي المستبدين.

منذ انطلقت ثورة الشعب السوري ضد نظام القتل والقمع والمعتقلات، شهدت سورية حربًا قاسية صب خلالها النظام البائد بالتعاون مع حلفائه حربًا ضروسًا شردت الشعب في أصقاع الأرض، ودمرت المدن والقرى وخربت الصناعة والزراعة واستمرت في ذلك أمام سمع العالم وبصره حتى دخل الثوار قلب دمشق وتحقق نصر الشعب السوري فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الجاري فعاد لسورية وجهها المشرق وفتحت المعتقلات والسجون وشاهد العالم كله ما كان يجري من تنكيل وقمع خصوصًا في المعتقلات المنتشرة في عموم البلاد وبصورة خاصة في “صيدنايا” المروع والذي لم يعرف العالم الحديث مثيلًا له.

ضفة ثالثة

————————————

ماذا فعلت تركيا في سوريا؟/ كمال أوزتورك

20/12/2024

أثارت تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، بشأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، دهشة ليس في تركيا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم. حيث قال:

“لا أحد يعرف حقًا من الرابح، لكنني أعتقد أن تركيا هي الرابح. أردوغان رجل ذكي وقوي جدًا..  كان الأسد جزارًا. رأينا ما فعله بالأطفال.. مفتاح سوريا في يد تركيا”.

عندما أدلى ترامب بهذه التصريحات، كنتُ قد عدت للتو من سوريا. زرت معظم المدن، وبعدها أجريت مقابلة مع القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع . في البرامج التلفزيونية التي شاركت فيها وحساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي، قلت: “رأيت في سوريا عقل دولة، هذا العقل ليس أميركيًا، ولا إسرائيليًا، ولا بريطانيًا. هذا العقل الذي يحكم الساحة هناك هو تركيا”.

لكن ماذا فعلت تركيا في سوريا، وكيف أصبحت بهذا التأثير الكبير؟ لم يناقش أحد هذا الموضوع بتفصيل كافٍ.

أكبر ضحية للحرب الأهلية السورية أصبحت تملك المفتاح

كانت تركيا هي أكثر المتضررين من الحرب الأهلية السورية. على مدار 13 عامًا، استقبلت موجات متتالية من اللاجئين دون انقطاع، حتى تجاوز عدد اللاجئين السوريين في البلاد 3.5 ملايين شخص.

نفذت الجماعات شبه العسكرية التابعة لنظام الأسد، وعناصر المخابرات العديد من الهجمات التفجيرية في تركيا، مما أسفر عن مقتل العديد من الأشخاص.

إلى جانب ذلك، شنّت الجماعات المؤيدة لإيران ونظام الأسد حملات إعلامية؛ بهدف إضعاف حكومة أردوغان. وبسبب وجود اللاجئين السوريين، نشبت احتجاجات ومشاحنات في العديد من المدن. وفي الانتخابات المحلية الأخيرة، قادت الأحزاب المعارضة حملات ضد اللاجئين، مما أدى إلى خسارة حزب أردوغان للعديد من البلديات لصالح المعارضة.

رغم كل ذلك، رفض الرئيس أردوغان مطالب إعادة اللاجئين إلى سوريا قسرًا، ووقف إلى جانبهم دون أن يتراجع.

لكن، هناك خطوة أكثر أهمية قام بها أردوغان ولم يلتفت إليها كثيرون: لقد واصل الاستثمار في المعارضة السورية، وكذلك داخل سوريا نفسها.

تركيا استثمرت داخل سوريا

شنّت تركيا عدة عمليات عسكرية عبر الحدود لمواجهة الهجمات القادمة من حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب الكردية (YPG). أنشأت تركيا “مناطق آمنة” في جرابلس، عزاز، عفرين، والباب بموجب اتفاقيات أستانا وسوتشي.

ساعدت تركيا الفصائل المعارضة في إنشاء إدارات محلية، وضمان الأمن، وتأسيس نظام اقتصادي في هذه المناطق. شَيدت مدارس ومباني للجامعات، وبنت مستشفيات ومرافق صحية، وقدمت دعمًا لمشاريع البنية التحتية. على سبيل المثال، قامت بلدية غازي عنتاب بإنشاء الطرق في مدينة الباب، بينما أنشأت وزارة الصحة التركية المرافق الصحية.

كما قامت منظمات المجتمع المدني التركية بتنفيذ مشاريع إنسانية وإغاثية، بالإضافة إلى أنشطة تعليمية وثقافية.

وهيأت تركيا أرضية مرنة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين تركيا وشمال سوريا. ولذلك، تم السماح بتوريد جميع المواد اللازمة لتلبية احتياجات تلك المناطق مثل الاتصال، والنقل، والغذاء، والصحة، والتعليم من تركيا.

إنشاء الجيش الوطني السوري

ونفذت تركيا مشروعًا لضمان الأمن في مدن شمال سوريا؛ حيث دعمت تأسيس الجيش الوطني السوري، وقدمت الدعم في التدريب العسكري، وتوفير الأسلحة. وقامت تركيا أيضًا بإنشاء قوات شرطة في المدن، ووفرت الدعم لضمان الأمن من خلال منسقين.

مع مرور الوقت، سيطر الجيش الوطني السوري على آلاف الكيلومترات المربعة التي يقطنها ملايين الأشخاص. وعندما بدأ الهجوم ضد الأسد في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، بدأ الجيش الوطني السوري أيضًا في السيطرة على المناطق التي كانت تحت سيطرة المليشيات الانفصالية الكردية في الشمال.

الموضوع الحرج: العلاقات مع هيئة تحرير الشام

كنتُ في سوريا عندما سقطت حلب في عام 2016 بيد نظام الأسد، وتدفقت موجة هجرة ضخمة باتجاه تركيا. في ذلك الوقت، شاهدت الخيام والهياكل العشوائية في ريف إدلب. وكانت إدلب آنذاك مكانًا صغيرًا لا يُسمع به كثيرًا. لكن مع تدفق أعداد هائلة من المهجرين من حلب والمناطق المحيطة بها، تحولت فجأة تلك البلدة الصغيرة إلى مدينة يقطنها مليون شخص.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي عام 2017، حدثت هجرات جماعية من حماة، وفي 2018 من دمشق ودرعا، ليتم نقلهم جميعًا إلى إدلب. وحسب تقارير الأمم المتحدة، بلغ عدد سكان إدلب اليوم 4.1 ملايين نسمة.

كانت هيئة تحرير الشام موجودة في إدلب منذ فترة طويلة، ولكن بسبب الهجمات التي شنها حزب الله ونظام الأسد وروسيا على مواقعها في حلب وحماة ودمشق ودرعا، نقلت الهيئة جميع قواتها العسكرية إلى إدلب، مما سمح لها بتشكيل قوة كبيرة هناك.

نظرًا لأن تركيا كانت الدولة الضامنة في إدلب وفقًا لاتفاقيات أستانا وسوتشي، فقد بدأت بتأسيس علاقات مع المنطقة. ومع ذلك، نشب صراع بين قوات الجيش الوطني السوري في إدلب وبعض الفصائل داخل هيئة تحرير الشام. بسبب ذلك، وضعت تركيا هيئة تحرير الشام على قائمة المنظمات الإرهابية باعتبارها امتدادًا لتنظيم جبهة النصرة.

غير أنه بسبب موقف تركيا كدولة ضامنة في إدلب والوجود الفعلي لقوات الجيش الوطني السوري في المنطقة، اضطرت تركيا إلى بناء علاقات مع إدارة إدلب، وبالتالي بدأت عملية تحول هيئة تحرير الشام.

كيف تحولت هيئة تحرير الشام؟

كانت إدلب منطقة تتعرض بشكل متكرر للقصف والحصار من قبل نظام الأسد وروسيا، ولهذا كان لا بد لهيئة تحرير الشام من الاقتراب من تركيا للحفاظ على بقاء المدينة ذات الـ 4 ملايين نسمة. بسبب الهجمات المستمرة من قبل عناصر أجنبية داخل الهيئة واشتباكاتها مع الجيش الوطني السوري، طالبت تركيا الهيئة بتطهير صفوفها من هذه العناصر الأجنبية وضمان مركزية التنظيم، وهو ما استجاب له قائدها.

دخلت هيئة تحرير الشام في علاقة وثيقة مع تركيا خلال هذه الفترة من أجل إدارة الشؤون العامة والاجتماعية في إدلب، خاصة بعد أن أصبح دافع تركيا الأساسي هو منع حدوث موجة نزوح جديدة من إدلب بسبب الهجمات المستمرة من نظام الأسد. ومع مرور الوقت، ومع رؤية تركيا لتحولات الهيئة، ازدادت العلاقة بين الجانبين.

أُحرز أكبر تأثير في الدورة الاقتصادية، حيث تم مد خطوط كهرباء عبر تركيا، مما سمح للعديد من الأنظمة في إدلب بالعمل. كما تم تأسيس أنظمة اشتراك عبر البنوك، مما أتاح إحياء قطاع المصارف.

مع انخفاض أسعار المواد الأساسية مثل الطعام والملابس والأثاث في إدلب، بسبب فرصة الحرب التي استفاد منها نظام الأسد، بدأ العديد من الناس من اللاذقية وطرطوس بالتسوق من إدلب، كما قدمت تركيا الدعم في مجالات الخدمات العامة في مدن مثل أعزاز، جرابلس، وعفرين، وامتد هذا الدعم إلى إدلب، مما ساعد على تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي في المدينة وجعلها مركز جذب.

تراجع التطرف في هيئة تحرير الشام بشكل تدريجي. على سبيل المثال، تم رفع الحظر عن قيادة النساء للسيارات، وتم توفير التعليم لجميع الفئات، ولم تُمارَس ضغوط على الناس. وسمع سكان سوريا بذلك، مما ساهم في كسر بعض الأحكام المسبقة ضد الهيئة.

وبفضل الدعم التركي، تحولت الهيئة التي كانت تُصنف في العالم كتنظيم إرهابي، إلى قوة أكثر اعتدالًا وتحضرًا. في البداية كان أحمد الشرع شخصية عسكرية متشددة، ولكن من خلال هذه التفاعلات، أصبح أكثر مدنيًا وعقلانية.

وفي النهاية، نجحت تركيا في تحويل هيئة تحرير الشام إلى هيئة أكثر مرونة وقدرة على التكيف.

دمشق لم تكن هدف هيئة تحرير الشام

في فترة التهدئة التي نسي العالم فيها سوريا، كانت هذه التطورات تحدث في الداخل. من جهة أخرى، خلال العامين الماضيين، تغيرت التوازنات الجيوسياسية في المنطقة بشكل مفاجئ؛ بسبب الحروب في أوكرانيا، غزة، ولبنان.

في عام 2015، دخلت ثلاث قوى في الحرب السورية غيّرت التوازنات بشكل مفاجئ، لكن في العامين الماضيين، تعرضت هذه القوى لانتكاسات كبيرة، وفقدت الكثير من قوتها. فقد فقدت روسيا قوتها في أوكرانيا، وتعرض حزب الله في لبنان لعدة ضربات، كما تراجع دور إيران في صراعها مع إسرائيل، مما أثر على وجودهم في ساحة سوريا. مع تراجع هذه القوى، حاولت المليشيات الكردية ملء الفراغ، لكن لم تنجح بشكل كامل.

استفادت هيئة تحرير الشام من هذه الفجوة في ساحة المعركة، وبدأت في التحضير للسيطرة على المناطق التي كانت تستهدفها في ريف إدلب ومحيط حلب. دفعت تركيا هيئة تحرير الشام لإرجاء العمليات العسكرية في تلك المناطق. وعندما انتهت الحرب في لبنان، بدأت العمليات العسكرية في الساحة السورية.

لم تفكر هيئة تحرير الشام أبدًا في السيطرة على دمشق، أو حتى السيطرة الكاملة على حلب. ومع ذلك، عندما نزلوا إلى الساحة ووجدوا أن نظام الأسد قد أصبح هشًا، وأن حزب الله والمليشيات الإيرانية وروسيا ليس لديهم القدرة على القتال، فقرروا التقدم.

بعد أن تمكنت هيئة تحرير الشام من السيطرة على حلب بسهولة، توجهت نحو حماة. وعندما سقطت حماة بسهولة أيضًا، تحركوا نحو حمص. كانت خطة هيئة تحرير الشام هي التوقف هناك والتفاوض مع نظام الأسد. لكن عندما علموا أن الجماعات المدعومة من الأردن والولايات المتحدة قد دخلت إلى ريف دمشق، أمر أحمد الشرع جميع قواته بالتوجه نحو دمشق.

في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، تمت السيطرة على دمشق، وسقط نظام البعث بعد 61 عامًا من حكمه، وهرّب بشار الأسد من البلاد.

ليس لديهم خبرة كافية ويتلقون الدعم

قال لي أحد المسؤولين في هيئة تحرير الشام: “كأننا في حلم، لا نصدق أننا سيطرنا على دمشق”. وعندما أجريت مقابلة مع الشرع، سألته: “كيف تمكنتم من السيطرة على كل شيء بهذه السهولة؟”، فأجاب: “النظام ظلم شعبنا إلى حد كبير، وكأنهم كانوا ينتظرون مجيئنا”.

في الواقع، كان الوضع الجيوسياسي المتغير على الأرض قد تطور بشكل مضر للنظام وملائم لهيئة تحرير الشام، وكان النظام المتعفن ينهار بسهولة بضربة واحدة.

لقد اكتسبت هيئة تحرير الشام خبرة في إدارة شؤون الدولة في إدلب، ونجحت جزئيًا في استخلاص العبر من جميع الأخطاء التي وقعت في الحرب الأهلية. في حلب، عاد الوضع إلى طبيعته خلال يومين، ولم يتم الانتقام من أحد. وهذا ساعد في إضعاف النظام في دمشق.

ومع كل هذه الإنجازات، لا تمتلك هيئة تحرير الشام الخبرة أو المعرفة أو الموارد البشرية اللازمة لإدارة الدولة. ولذلك، قدمت تركيا دعمها في هذا المجال أيضًا؛ فالتصريحات التي تم إصدارها إلى الرأي العام الدولي عززت فكرة أن هيئة تحرير الشام ليست منظمة إرهابية مخيفة.

والخطوات التي تم اتخاذها كانت محسوبة بشكل جيد، وتم تجنب حدوث الفوضى. في دمشق، شهدت كيف أن الحياة عادت إلى طبيعتها في غضون ثلاثة أيام. ذهب الناس إلى جبل قاسيون للنزهة، وعاد النشاط التجاري إلى أسواق دمشق القديمة على الفور. في وقت كان يتم فيه توزيع الخبز والوقود وفقًا للبطاقات، اختفت هذه الممارسات فجأة.

كيف ستكون الدولة الجديدة؟

أحد أكبر التحديات هو تحديد شكل النظام الإداري في سوريا التي تضم العديد من الهويات العرقية والمعتقدات الدينية المختلفة. ومع وجود أمثلة مؤلمة من العراق ولبنان وليبيا وأفغانستان، كان من الضروري اتخاذ موقف حازم من تركيا من أجل منع ظهور هيكل مشابه للفوضى. لأن تركيا، التي تشترك في حدود تبلغ 900 كيلومتر مع سوريا ولديها ما يقارب 4 ملايين لاجئ سوري، ستكون أكثر الدول تأثرًا بتلك الفوضى.

أعلنت هيئة تحرير الشام ثلاثة مبادئ رئيسية:

    ستكون الأراضي السورية موحدة تحت إدارة واحدة، ولن يكون هناك نظام فدرالي.

    جميع الجماعات المسلحة ستكون جزءًا من وزارة الدفاع، وسيتم نزع السلاح.

    جميع المكونات العرقية والدينية في سوريا ستشارك في إدارة البلاد، ولن يتدخل أحد في حياة الآخرين.

هذه المبادئ، التي ستهدئ الكثير من الدول، كانت أيضًا بمثابة حاجز ضد احتمال نشوب الفوضى الداخلية. السبب في تراجع آمال أولئك الذين كانوا ينتظرون “دولة الشريعة” أو حكومة مسيطرة تفرض سلطتها على الجميع هو هذه المبادئ المعلنة والالتزام بها.

لكن لا يعني ما سبق أن الوضع سيكون مثاليًا؛ حيث إن عملية إعادة بناء سوريا سياسيًا واجتماعيًا وجغرافيًا لن تكون سهلة، الأشهر القادمة ستكون حاسمة جدًّا.

الشعب السوري عانى بما فيه الكفاية من النزاع والصراعات، وتعرض لآلام كبيرة. لذلك، فإنهم يعلقون آمالهم على تأسيس نظام وحكومة هيكلية ترضي الجميع. ومن المهم أن تدعم جميع الدول هذا الهدف.

    كاتب وصحفي تركي

———————————-

سوريا إلى أين؟/ سعد بن طفلة العجمي

هناك تفاؤل طوباوي مفرط يراهن على طبيعة الشعب السوري المتسامحة في مقابل قراءة متشائمة حد السواد

الجمعة 20 ديسمبر 2024

من يجرؤ على إجابة واثقة لهذا السؤال، فإما أنه “يعلم الغيب” وهذا مستحيل، أو أنه “يضرب الودع” وهذا تنجيم.

سقط نظام الأسد الذي جثم على أنفاس الشعب السوري مدة تجاوزت نصف قرن، مارس خلالها أقسى أنواع التنكيل والبطش والبشاعة، فالشعب السوري قدم تضحيات لم يقدمها شعب آخر عبر التاريخ للتخلص من الطغيان والاستبداد، عبر ثورة لعلها الأطول في تاريخ ثورات الشعوب، إذ استمرت نحو 14 عاماً راح خلالها أكثر من نصف مليون، وجرح واعتقل واختفى ضعفهم في الأقل، وتشرد وهاجر ونزح أكثر من 8 ملايين من السوريين، وتحولت البلاد بحواضر مدنها إلى خرائب ينعق فيها غراب البين، وتلفها أشباح القتلى والجرحى والمهجرين والنازحين، وخسائر اقتصادية هائلة لا يزال حصرها قيد الجمع والطرح والكساد والإفلاس.

بسقوط نظام الأسد فرح كل إنسان يتمنى الخير لأخيه الإنسان في سوريا، وفرح معظم العرب إلا من ارتبط بإيران، وانتشى الشعب السوري للمرة الأولى منذ عقود، وخرج ملايين السوريين يهتفون لشهدائهم وأهليهم ومعتقليهم ومهجريهم “حرية حرية”، و”واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”.

بدأت سكرة النصر تتلاشى شيئاً فشيئاً، وتراجعت نشوة الانتصار على استحياء مفسحة الطريق للسؤال الملح الذي يتردد صداه في ذهن كل سوري وكل متابع وحريص على مستقبل سوريا: سوريا إلى أين؟

المتابع للمنتديات والحوارات، والقارئ للتحليلات والمقالات، والمتردد على الديوانيات، يخلص إلى قراءتين يتمحور حولهما استقراء الحال السورية المستقبلية، بين تفاؤل طوباوي مفرط يراهن على طبيعة الشعب السوري الخلاقة والمتسامحة والمتحضرة و”الشاغولة” (باللهجة الخليجية)، تفاؤل يتوقع ألا يعود السوريون لفرض ديكتاتورية مكان أخرى، ويدلل أصحاب هذه النظرية بالهدوء النسبي الذي أعقب هرب بشار الأسد “بليلة ما فيها قمرا”، ويقارنون ما جرى في سوريا بذاك الذي جرى في العراق بعد سقوط طاغية البعث العراقي صدام حسين، ففي العراق نهب العراقيون بلدهم وقتلوا بعضهم وسحلوا طوائفهم واجتثوا من اختلف معهم، ولا يزالون مستمرين في سياسات الإخفاء القسري والتعذيب والنهب والسلب لخيرات بلادهم.

أما في سوريا كما يرى المتفائلون فقد أطلقت شعارات التسامح والتسامي والتعايش والتجاوز عن الماضي إلا مع من ثبت تورطه بجرائم حقبة الأسد، ويضيفون أن من سيطروا على سوريا حافظوا على الممتلكات العامة، وجلسوا مع آخر رئيس وزراء في حكومة الأسد وجرى تسليم انتقالي وسلس نسبياً لمؤسسات ووزارات الدولة للقادمين الجدد، ويصر أصحاب هذه النظرية على أن حوادث فردية حدثت ومستمرة في الحدوث، لكن الفوضى لم تتسيد الموقف بعد هرب بشار وانهيار نظامه وجيشه.

حدثني صديق سوري متفائل حد المثالية قائلاً “صدقني لم يقدم الشعب السوري كل هذه التضحيات كي تذهب سدى، ولن يخون من قدموا التضحيات من أجل حريته ويتركها تذهب هباء منثوراً”.

أما القراءة الثانية لما قد تؤول إليه الأوضاع في سوريا فهي قراءة متشائمة حد السواد اليائس البائس، ويدلل أصحابها على أن من وصلوا إلى الواجهة احتكروها وأزاحوا باكراً كل القوى السورية المعارضة الأخرى التي لا تقل تضحياتها عن تضحياتهم، كما أن من في الواجهة اليوم هم بالأمس القريب “قاعديون إرهابيون داعشيون”، فأنى لهم أن يتحولوا إلى ديمقراطيين متسامحين مع طوائف وأديان وأعراق سوريا المتنوعة بين عشية وضحاها؟

يعتقد أصحاب هذه النظرية أن “داعشيي سوريا” الذين هم في الواجهة اليوم “يتمسكنون حتى يتمكنون”، وسيطلقون تصريحات انفتاحية ديمقراطية يخجل منها فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو، كما يرى أصحاب هذا الرأي المتشائم أن سوريا إن نجت من الاقتتال الداخلي المذهبي الديني والعرقي فإنها لن تنجو من تضارب الأجندات الإقليمية والغربية والإسرائيلية التي ستؤدي إلى تشظي البلاد وتقسيمها، قسم تركي وآخر كردي وعلوي ودرزي وسنّي وهكذا.

ويزيد المتشائمون بأن غياب المشروع العربي القوي، أو قل الحضور العربي الضعيف في سوريا لتتجاوز كبواتها وتضمد جراحها وتستقل بقرارها، سبب رئيس لهشاشة الوضع السوري والخوف من انزلاقه للهاوية، وذكرني المتشائمون بصديق عراقي عرفته منذ تسعينيات القرن الماضي حين كان من المعارضين لنظام صدام حسين، وهو يقول بلهجة عراقية بعد سقوط الطاغية بنحو 20 عاماً “كنا بصدام واحد صار عدنا 1000 صدام”.

سألني الأستاذ الأديب والمسرحي الكويتي الكبير عبدالعزيز السريع قبل يومين عن رأيي كمتابع أين تتجه الأمور في سوريا؟ وأجبته بأن من يجرؤ على إجابة واثقة لهذا السؤال اليوم، فإما أنه “يعلم الغيب” وهذا مستحيل، أو أنه “يضرب الودع” وهذا تنجيم.

———————————

تركيا وسوريا الجديدة… تفاهمات سياسية وميدانية/ عمر اونهون

يتعين على أنقرة توخي الحذر واتخاذ خطوات مدروسة

20 ديسمبر 2024

يوما بعد يوم، تتزايد التكهنات بأن العملية التي أطاحت في النهاية بنظام الأسد لم تكن ابنة لحظتها، بل بدأ الإعداد لها منذ أكثر من عام، بمشاركة تركيا، والولايات المتحدة، ودول أخرى بدرجات متفاوتة، ولكن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، نفى وجود أي تنسيق مسبق مع دول أو مجموعات أخرى للتخطيط لهذه العملية. ووفقا لفيدان، بدأت مشاركة تركيا فقط بعد أن أطلقت “هيئة تحرير الشام” وجماعات المعارضة الأخرى العملية، حيث ركزت الجهود التركية على تقليل الخسائر البشرية وتجنب التعقيدات، كما قال في مقابلة مع قناة “الحدث” السعودية.

في أعقاب الإطاحة بالأسد، برز فاعلان محليان رئيسيان في المشهد السوري: “هيئة تحرير الشام” و”وحدات حماية الشعب.”

تسيطر “هيئة تحرير الشام”، التي انبثقت عن تنظيم القاعدة وجبهة النصرة، على إدلب منذ عام 2015. وعلى الرغم من تصنيفها كمنظمة إرهابية، يبدو أنها استطاعت أن تطور علاقات مع تركيا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى.

ويحاول زعيم “هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع (الذي كان يُعرف باسمه الحركي أبو محمد الجولاني) إعادة تشكيل صورتها، وقد تبنى، علانية، في سبيل ذلك خطاب أكثر اعتدالا. ودعا إلى “الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة،” مشددا على الحاجة إلى “تأسيس دولة قائمة على القانون والمؤسسات لضمان استقرار مستدام”.

ويبدو أن “هيئة تحرير الشام” هي من يدير سوريا حاليا، ومن الواضح أنها تنوي الاستمرار في هذا الدور بعد الفترة الانتقالية. باختصار، تحاول “هيئة تحرير الشام” إعادة صياغة صورتها، مرسلة إلى العالم رسالة، مفادها “لسنا كما كنا.” ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت الأفعال ستتطابق مع الأقوال.

في الوقت نفسه، تراجعت جماعات المعارضة الأخرى، مثل الحكومة السورية المؤقتة، والائتلاف الوطني السوري، و”الجيش الوطني السوري”، وجماعات مسلحة أخرى، إلى الظل إما بصمتها أو غيابها الواضح.

مناورات “وحدات حماية الشعب”

على النقيض من ذلك، ظلت “وحدات حماية الشعب” قوة ثابتة في الشأن السوري، حيث تتنقل بين العلاقات مع جميع الأطراف الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وإيران ونظام الأسد. وهي تقوم بمناورات مدروسة للبقاء، في مواجهة سقوط الأسد، وعمليات تركيا ضد بنيتها التحتية وقياداتها، وتقدم “الجيش الوطني السوري” شرقا، وموقف ترامب، الذي عبّر عن رغبته في النأي عن الملف السوري.

وفاجأت “وحدات حماية الشعب” بقولها إنها كانت منذ البداية إلى جانب الثورة السورية. كما أعلن قائدها، مظلوم عبدي، عن اتفاق مع “هيئة تحرير الشام” ينص على التزام كل طرف بحدوده على جانبي نهر الفرات وتجنب المواجهة. وأشار عبدي أيضا إلى وجود حوارات مع تركيا بوساطة الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي لهزيمة “داعش”.

من جانبها، أكدت تركيا أنْ لا مشكلة لديها مع الأكراد كعرق، سواء في العراق أو سوريا، ولكنها كررت، على لسان وزير دفاع هايشار غولر، هدفها الرئيسي وهو القضاء على حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب.

وأشار غولر إلى أن الروابط بين “وحدات حماية الشعب” و”حزب العمال الكردستاني”، الذي يتخذ من جبل قنديل شمالي العراق مقرا له، روابط مؤكدة ولا يمكن إنكارها، وكذلك الأهداف السياسية الأوسع نطاقا المرتبطة بهذه الروابط، بما في ذلك ما يُسمى عملية السلام الجديدة في تركيا.

وأوضح الوزير التركي أنْ لا خيار أمام “وحدات حماية الشعب” سوى حل نفسها، مؤكدا على شرطي تركيا الأساسيين، وهما مغادرة جميع الأعضاء غير السوريين، وخاصة كوادر حزب العمال الكردستاني من تركيا والعراق، للأراضي السورية؛ وتسليم المقاتلين من الجنسية السورية أسلحتهم.

انتقال معقد

تظل الفترة الانتقالية في سوريا مليئة بعدم اليقين، حيث تسعى الفصائل المتنافسة والجهات المحلية والقوى الدولية إلى تحقيق أهداف متباينة. وقد تفضي إعادة تشكيل صورة “هيئة تحرير الشام” ومناورات وحدات حماية الشعب إلى اتجاهات جديدة، ولكن من غير المؤكد ما إذا كانت نتيجة تلك التحولات ستؤدي إلى استقرار دائم أو مزيد من الصراعات، فذلك يعتمد على مدى تطابق أقوال هذه الجماعات مع أفعالها – وكيفية استجابة المجتمع الدولي لهذه التطورات.

وبيّن وزير الدفاع أن بلاده أبلغت الولايات المتحدة بهذه النقاط، وطُلبت منها إعادة النظر في سياستها تجاه “وحدات حماية الشعب”، ولكن لا يبدو أن السياسة الأمريكية تشهد تغيرا كبيرا في هذا الميدان، على الأقل في الوقت الحالي.

تتمثل أولويات سوريا في هذه المرحلة بما يلي:

– منع انهيار الدولة، الحفاظ على النظام العام، وتوفير الاحتياجات الأساسية للشعب.

– تأسيس هيكل سياسي وإداري جديد للدولة السورية.

– تفكيك الجماعات المسلحة وجمع الكم الهائل من الأسلحة المنتشرة في أيدي مختلف الفصائل.

كما يطالب السوريون بمحاسبة المسؤولين عن التعذيب والقتل الممنهج الذي أودى بحياة آلاف المعتقلين في سجون النظام، وفي مقدمتها سجن صيدنايا الذي أصبح رمزا لتلك الانتهاكات. غير أن من الضروري أن تجري هذه المحاسبة دون أن تتحول إلى حملة انتقامية عشوائية تؤدي إلى فرض عقوبات جماعية أو استهداف جماعات بعينها، مثل العلويين.

يمضي تشكيل الهيكل السياسي-الإداري الجديد في سوريا وفق المراحل التالية:

أولا، تشكيل حكومة تصريف أعمال تتألف من أعضاء حكومة الإنقاذ التي حكمت إدلب لسنوات، بمن فيهم رئيس الوزراء. وبينما ينتمي جميع أعضاء الحكومة إلى “هيئة تحرير الشام”، تخلو الحكومة من النساء أو ممثلين عن المعارضة والأقليات (العلويين، الدروز، التركمان، الأكراد، والمسيحيين).

ثانيا، المرحلة الانتقالية المقبلة، والتي يُفترض أن تبدأ بعد انتهاء ولاية حكومة تصريف الأعمال في مارس/آذار، من المتوقع أن تعالج هذا النقص عبر تشكيل حكومة انتقالية أكثر شمولا، ولن نعرف مدى تحقق ذلك إلا بمرور الوقت.

ثالثا، صياغة دستور جديد يحل محل دستور 2012 لنظام الأسد. وستتركز أبرز نقاط الخلاف على:

   – طبيعة الهيكل الإداري (هل سيكون نظاما مركزيا أم سيعتمد الحكم المحلي).

   – هوية الدستور (هل سيكون مدنيا أم سيستند إلى الشريعة الإسلامية).

رابعا، إجراء انتخابات حرة وتعددية في موعد يُحدد لاحقا، بحيث يتمكن الشعب السوري من اختيار من يحكمه.

وستكون إعادة بناء الاقتصاد السوري بعد سنوات من التدمير تحديا بالغ الصعوبة للجميع، فقد انكمش الاقتصاد السوري بنسبة 85% بين عامي 2011 و2023، بينما تُقدر تكلفة إعادة الإعمار بما لا يقل عن 300 مليار دولار.

ورغم احتمال تقديم المجتمع الدولي وبعض القوى الإقليمية دعما ماليا فسيبقى هذا الدعم محدودا، وستظل سوريا بحاجة إلى إيجاد مواردها الخاصة من خلال:

– تحصيل الضرائب من السكان.

– جذب الاستثمارات الأجنبية.

– تعزيز القطاعات الإنتاجية والصناعية والتصدير.

– الاستغلال الأمثل لمواردها الطبيعية.

ولعل المورد الأهم لسوريا هو النفط، الذي بلغ إنتاجه قبل عام 2011 نحو 380,000 برميل يوميا. وتخضع حقول النفط، اليوم، لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، التي تموّل عملياتها العسكرية والإدارية عبر بيع النفط بأسعار تقل كثيرا عن الأسعار العالمية.  فلا بد إذا من تحرير النفط من سيطرة وحدات حماية الشعب واستغلاله لصالح الشعب السوري.

وفيما يتطلع السوريون إلى رفع العقوبات، فإن ذلك سيظل مرهونا بشروط سياسية وقانونية قد يستغرق تحقيقها زمنا طويلا.  وقد صرح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بأنه يعتزم الابتعاد عن الملف السوري باعتباره “شأنا سوريا،” غير أن هذا يبدو أمرا عزيزا على التحقق. ويبقى حجم الدور الأميركي في سوريا مسألة محورية خلال المرحلة المقبلة.

ومع ذلك، فثمة مخاوف من حدوث أسوأ السيناريوهات في الفترة المقبلة، تبرز هذه  السيناريوهات الاحتمالات التالية:

– قد تفرض الجماعات السلفية رؤيتها المتشددة للإسلام على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، وتؤسس حكومة تستند إلى مبادئها الأيديولوجية.

– بالمقابل، قد تسعى “وحدات حماية الشعب” إلى ترسيخ مشروع “الإدارة الذاتية” وتطويره إلى مراحل أخرى أبعد مستقبلا.

– وقد تتعرض وحدة الأراضي السورية للتهديد إذا سعت الأطراف الكردية والدرزية والعلوية إلى تحقيق طموحات انفصالية. (ويجدر بنا أن ننتبه هنا إلى إشارات إسرائيل الأخيرة حول حماية الأقليات في سوريا، ولا سيما الأكراد والدروز، فهي ليست مجرد صدفة).

– وقد يحاول نظام الأسد استعادة نفوذه بدعم من إيران وروسيا.

– وقد تنزلق سوريا مجددا إلى حالة من الفوضى والحرب الأهلية.

لا ريب في أن الرئيس أردوغان قد نجح، بعد اثنتي عشرة سنة، في تحقيق اختراق مهم فيما يخص الملف السوري، وهو أحد أصعب الملفات التي واجهها، بعد الوضع الاقتصادي في تركيا. ومن هنا يمكن فهم زيارة رئيس المخابرات التركية، إبراهيم قالن، إلى دمشق والتي قُصِد منها أن تبدو كاستعراض واضح لنفوذ تركيا، فإذا كانت مشاهد قالن وهو يتجول في شوارع المدينة بسيارة يقودها أحمد الشراع، وصورته أثناء الصلاة في الجامع الأموي، رسالة رمزية مدروسة تُظهر الثقل السياسي والدبلوماسي لأنقرة في سوريا، فقد حققت هدفها بوضوح.

لكن هذه الخطوة الاستثنائية أثارت جدلًا واسعًا وطرحت تساؤلات بين السوريين والمراقبين الأجانب. وفي هذا السياق، سارع وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى توضيح أن زيارة رئيس المخابرات إلى دمشق جاءت لنقل التفاهمات التي أُبرمت مع القوى الإقليمية والدولية. وأكد فيدان أن الرسائل التي حملها إلى دمشق تضمنت:

•        منع التنظيمات الإرهابية من استغلال المرحلة السياسية الجديدة.

•        ضمان معاملة عادلة للأقليات، وبخاصة المسيحيين والأكراد والعلويين والتركمان.

•        تشكيل حكومة شاملة تمثل جميع الأطياف في المرحلة المقبلة.

•        التأكيد على ألا تشكل سوريا تهديدا لجيرانها.

وفي خطوة لافتة، أعادت تركيا فتح سفارتها في دمشق بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول، بعد إغلاق دام اثنتي عشرة سنة، وهو القرار الذي اتخذته شخصيا خلال فترة عملي سفيرا لتركيا آنذاك.

باختصار، خلال الأسبوعين الماضيين، حققت تركيا مكاسب غير مسبوقة على الساحة الدولية، وأصبحت تُطرح كفاعل رئيسي في الملف السوري، وبرزت كطرف محوري قادر على تشكيل مستقبل سوريا في شتى الميادين، من تسهيل العملية السياسية وإعادة الإعمار، إلى منع عودة “داعش” وضمان عودة اللاجئين.

ولكن على الرغم من الموقف المتميز الذي تحتله تركيا حاليا، لا تزال التحديات قائمة وعدم اليقين ماثلا. ولذلك، يتعين على أنقرة توخي الحذر واتخاذ خطوات مدروسة، لأن الفشل في تحقيق انتقال سياسي ناجح في سوريا واحتمالية العودة إلى الفوضى سيُلقيان بظلالهما الثقيلة على تركيا.

لهذا السبب، تؤكد تركيا التزامها بدور بناء وداعم لتحقيق حل شامل ومستدام ودائم للأزمة السورية. 

المجلة

——————————————

العدالة الانتقالية.. حجر الزاوية لبناء سوريا ما بعد التحرير/ نبراس إبراهيم

2024.12.20

في الثامن من ديسمبر، طوى الشعب السوري صفحة مظلمة من تاريخه بعد عقود من حكم نظام الأسد الطاغية، الذي ترك خلفه إرثًا من الجرائم والانتهاكات المروعة. ومع تحرير البلاد، انفتحت أبواب السجون لتكشف عن فظائع التعذيب، في حين تعيد صور المدن المدمرة إلى الأذهان أهوال القصف الوحشي الذي استهدف المدنيين الأبرياء. ومع كل حالة تظهر، يتجدد السؤال المحوري: كيف يمكن مواجهة هذا الإرث الثقيل من دون السقوط في دوامة الانتقام؟

الإجابة ليست سهلة، ولكنها تبدأ بالعدالة الانتقالية، كمسار شامل لمعالجة آثار الماضي المؤلم وإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة.

جرائم النظام: ضرورة المحاسبة

مع تحرير سوريا وفتح السجون، تتوالى التقارير عن الجرائم المروعة التي ارتكبها النظام بحق أبناء الشعب السوري. صور الجثث الهزيلة في أقبية التعذيب، وقصص المعتقلين الذين فقدوا حياتهم تحت وطأة التعذيب الممنهج، أظهرت جانبًا من المأساة. لكن الكارثة الكبرى تكمن في مشاهد الدمار التي خلفها القصف الوحشي الذي استهدف أحياء سكنية، أسواقًا مكتظة، ومستشفيات مليئة بالجرحى والأطفال.

المحاسبة هنا ليست مجرد مطلب شعبي، بل ضرورة قانونية وأخلاقية لضمان العدالة ومنع تكرار هذه الجرائم. يجب أن تشمل المحاسبة:

    محاكمة الضباط العسكريين المسؤولين عن القصف الوحشي: قادة الفرق العسكرية والطائرات الذين أمروا أو نفذوا هجمات عشوائية أو ممنهجة ضد المدنيين.

    محاسبة المسؤولين عن استهداف المستشفيات والمدارس: استهداف المنشآت المدنية هو انتهاك صريح للقانون الدولي الإنساني، ويجب أن يُواجه بالعدالة.

    تقديم مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية إلى العدالة الدولية: ضمان أن تصل المحاسبة إلى أعلى هرم القيادة العسكرية والمدنية في النظام، الذين خططوا وأشرفوا على هذه الجرائم.

دور العدالة الانتقالية في سوريا المحررة

العدالة الانتقالية في سوريا لا تقتصر على محاسبة المسؤولين عن التعذيب فقط، بل تشمل مواجهة كل الجرائم الكبرى التي ارتكبها النظام، بما في ذلك القصف الوحشي، من خلال خطوات شاملة:

1. جبر الضرر للضحايا وأسرهم

ضحايا القصف، سواء كانوا من الجرحى أو من عائلات القتلى، يحتاجون إلى تعويضات مادية ومعنوية. إعادة بناء منازلهم ومدنهم المدمرة هو جزء أساسي من تحقيق العدالة.

2. تأسيس لجنة للكشف عن الحقيقة

على غرار تجارب دول أخرى، يجب تشكيل لجنة وطنية تعمل على توثيق الجرائم التي ارتكبها النظام، بما في ذلك الهجمات الجوية والبرية التي استهدفت المدنيين، للكشف عن المسؤولين عنها.

3. الإصلاح العسكري

إعادة هيكلة الجيش والمؤسسات الأمنية ضرورة لضمان عدم تكرار الجرائم. يجب فصل القادة الذين تورطوا في الجرائم واستبدالهم بقيادات ملتزمة بحماية المدنيين واحترام القانون الدولي.

4. تعزيز المحاكمات العادلة

محاسبة المسؤولين عن القصف الوحشي، سواء كانوا طيارين، ضباطًا، أو مخططين، يجب أن تتم عبر محاكمات عادلة وشفافة تحترم حقوق الإنسان، لتعزيز الإيمان بالعدالة بعيدًا عن الانتقام.

التحديات أمام العدالة الانتقالية في سوريا

تطبيق العدالة الانتقالية يواجه تحديات ضخمة، أبرزها:

    غياب مؤسسات قضائية قوية: النظام السابق دمر القضاء وجعل منه أداة للقمع. بناء قضاء مستقل هو ضرورة لتطبيق العدالة.

    التعقيد السياسي والعسكري: وجود قوى وأطراف متباينة قد يجعل المحاسبة عملية حساسة تحتاج إلى توافق داخلي ودعم دولي.

    حجم الدمار والمعاناة: ضخامة الانتهاكات وضيق الموارد قد يؤخر جبر الضرر وإعادة الإعمار.

العدالة أم الانتقام؟

رغم فداحة الجرائم، يجب على سوريا أن تميز بين العدالة والانتقام. ففي حين يغذي الانتقام الكراهية والانقسام، تقدم العدالة الانتقالية مسارًا للمحاسبة الشفافة التي تعالج جذور الأزمة وتمنع تجددها.

ختامًا: نحو سوريا عادلة ومستقرة

تحرير سوريا من حكم الأسد الطاغية هو خطوة أولى نحو الحرية، لكن السلام الحقيقي لن يتحقق من دون معالجة إرث الجرائم التي خلفها النظام. العدالة الانتقالية ليست رفاهية، بل ضرورة لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، وجعل سوريا نموذجًا لدولة تحترم حقوق الإنسان وتضمن العدالة لجميع مواطنيها.

محاسبة العسكريين الذين أمروا ونفذوا القصف الوحشي، مع محاكمة المسؤولين عن التعذيب والانتهاكات الأخرى، هي الطريق الوحيد لإعادة الحقوق لأصحابها وضمان عدم تكرار هذه الجرائم. سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية لتأسيس دولة قانون وعدالة، ولن يتحقق ذلك إلا عبر إرادة وطنية ودولية صادقة تضع العدالة في صدارة الأولويات.

تلفزيون سوريا

————————–

مستقبل سوريا.. ثقة تُبنى وتشاركية تُصنع/ علي سفر

2024.12.20

خوفان يسيطران على نفوس السوريين، الأول، هو خوف تاريخي من مقاربة السياسة، إذ جعل النظام البعثي الأسدي، وعبر سياسته القمعية الدموية الناس تخاف من المشاركة، في أي فعل يتعلق بالحكم والسيطرة، وما السجون التي تتكشف اليوم مآسيها إلا تلك البقعة المخيفة التي كان الجميع يعيش الرهبة من أن يقادوا إليها في ليل بهيم!

الثاني، وهو خوف البشر من المستقبل. وهو هنا في حالة السوريين مركّب بطريقة معقدة؛ فالأسد هرب، وهناك من أمسك بزمام السلطة، وثمة مشاريع شتى مطروحة ومتداولة، للمضي في المرحلة الانتقالية.

لكن هؤلاء الذين يمسكون بالدفة، وسط هذا الظرف المتلاطم، لا يستجيبون وفق الإيقاع المتعجل، الذي يحكمنا جميعاً بعد زوال الغمة الكارثية. فنحن، دون مجاملة، أصحاب حاجة، ويمكن أن يتهمنا مؤيدوهم بأننا رُعنٌ! بناء على ذلك، لكنهم لا يستطيعون الإجابة عن الأسئلة الملحة التي يطرحها الجميع، من المعارضة السياسية في الخارج والداخل، وحتى الشباب الفَتِيّ الذي نزل إلى الشوارع، ليمنح المنتصرين توكيلاً، بناء على إنجازهم التاريخي، مروراً بكل النخب، في كل المسارات والمجالات!

الخوف هنا ومع الإلحاح، يتحول إلى رعبٍ من سقوط التجربة في فخاخ منصوبة لها، تستدعي الكلام عن ثورة مضادة، ولا يخفى على أحد أن ثمة من يُوقد النار تحتها، على مستويي الداخل والإقليم، وتظهر علاماتها من حجم أنشطة الذباب الإلكتروني الذي يغرق صفحات التواصل الاجتماعي، على مدار الساعة بالأخبار الصحيحة والكاذبة، من أجل خلق التشويش المطلوب، لزعزعة ثقة السوريين بالقوى السياسية والعسكرية، الناهضة الآن.

كيف يمكن للإدارة الجديدة؟ ولنقل: كيف يستطيع أحمد الشرع قائد إدارة العمليات العسكرية، أن يدير الوقائع، على المستوى الشعبي، لتفويت الفرصة على أعداء حرية السوريين، داخل سوريا وخارجها؟

هنا، لا نريد أن ننصب أنفسنا حكماء، بل نريد مقاربة الأمر من خلال تجارب الشعوب الأخرى، وتاريخ الثورات المضادة الشائن، لنطرح الأفكار، ولنتحدث عن مخاوفنا وهواجسنا، بوضوح كامل، إذا لا يمكن لنا وبعد أن مضى على سقوط نظام الإبادة الأسدي أكثر من عشرة أيام، تجاهل معرفتنا بالخطوات المطلوبة، دون الإفصاح عنها، في سياق تحتاج إليه البلاد، يقوم على التشاركية.

الخوف السوري التاريخي من الحديث بالسياسة، وطالما انتفت أدوات القمع يحتاج إلى روافع يراها الجميع، وهي هنا ذات وجهين، وجه يبدأ من سعي السوريين لإنشاء تشكيلاتهم السياسية والمجتمعية، كأطر للمشاركة في القرارات المصيرية، ووجه يتعلق بدعوة السيد الشرع السوريين (قوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني ونقابات وتجمعات مهنية، وشرائح تكنوقراط، تتمثل فيها النساء مناصفة) إلى صناعة مستقبلهم بأنفسهم، عبر الاجتماع في المؤتمر السوري العام، ليضعوا مساراً متفقاً عليه يمشي فيه الجميع نحو الضفة الأخرى، لقد سبق له أن أطلق تصريحات تقارب هذا التوجه، لكن آن أوان الأفعال، وانقضى زمن الأقوال.

اللقاء بين الوجهين لا يُفترض أن يكون محكوماً بالبشاشة دائماً، بل يمكن أن تكون الوجوه متجهمة، إذا شعر أحد الطرفين بأن الآخر يريد أن يستولي على ما لدى الآخر. السوريون يريدون أن تتحقق أحلامهم بالدولة المدنية الديمقراطية، وأحمد الشرع يريد أن يضمن المضي بالإنجاز نحو حالة الاستقرار، والبدء ببناء الدولة الجديدة.

عشرة أيام لا تكفي لقراءة الهواجس بإفصاح كامل، لأن الوقت يمضي بالتبريكات والاحتفالات، وباللقاءات الدبلوماسية، في حين يجري الاستعداد عند كثيرين للمعركة السياسية القادمة، ويستعد آخرون على مستوى الإقليم للعبث بالوضع السوري، فيما تضع القوى الدولية الفاعلة الثائرين تحت الاختبار، قبل أن يبادروا تجاهها بالخطوات التي تساعدها!

هذه الأيام المنقضية، مرت وسيمر غيرها، ولن تعلق في الذاكرة إلا حين تتحول النوابض فيها، نحو الإنجازات، ولعل أهم ما يجب تحقيقه الآن، هو أن يشعر السوريون بقدرتهم على التغيير عبر التشاركية، والثقة المتبادلة، وهذا لن يتحقق إلا إذا فتح الجميع الأبواب والنوافذ، لتمر الأفكار والهواجس بيسر بين أصحاب البيت الواحد.

تلفزيون سوريا

————————-

أصداء سقوط الأسد تتردّد عبر المتوسط/ فريدريك ويري

20 كانون الأول 2024

تقدّم مدوّنة “ديوان” الصادرة عن مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تحليلات معمّقة حول منطقة الشرق الأوسط، تسندها إلى تجارب كوكبةٍ من خبراء كارنيغي في بيروت وواشنطن. وسوف تنقل المدوّنة أيضاً ردود فعل الخبراء تجاه الأخبار العاجلة والأحداث الآنيّة، وتشكّل منبراً لبثّ مقابلات تُجرى مع شخصيّات عامّة وسياسية، كما ستسمح بمواكبة الأبحاث الصادرة عن كارنيغي.

للمزيد من المعلومات

في أعقاب التطورات الكبرى في سورية، كان الإتيان على ذكر ليبيا أمرًا لا مفرّ منه، لكن حدث ذلك في معظم الأحيان في سياق مقارنات مضلّلة وغير مناسبة بين الوضع في سورية من جهة، والانقسامات التي شهدتها ليبيا وانزلاقها إلى لُجج الحرب الأهلية بعد الإطاحة بالدكتاتور معمّر القذافي في العام 2011 من جهة أخرى. افتقرت هذه التحليلات إذًا إلى فهمٍ معمّق للعوامل المشابهة التي ساهمت خلال العقد الذي أعقب الانتفاضات العربية في تشابك مصيرَي البلدَين وتشكيلهما، والأهم، لآلية تأثير الانهيار المذهل لنظام بشار الأسد على الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية للفصائل الليبية.

تتخبّط الفصائل الليبية منذ سنواتٍ عدة في حالة جمودٍ سياسي حال في الغالب دون نشوب صراعٍ كبير في البلاد، لكنه اعتمد إلى حدٍّ بعيد على تفاهمٍ بين روسيا وتركيا اللتَين تنتشر قواتهما العسكرية بشكلٍ كبير على الأراضي الليبية. وقد يؤثّر سقوط الأسد على هذا التوازن الهشّ، من خلال تغيير المواقف الاستراتيجية لكلٍّ من هاتَين القوتَين في المنطقة، وبخاصّةٍ من خلال عرقلة قدرة موسكو على نقل المقاتلين والأسلحة إلى ليبيا.

غالب الظن أن تبلغ هذه التداعيات ذروتها في شرق ليبيا، حيث وفّر نظام الأسد منذ مدّة طويلة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، الدعم للإدارة القمعية التابعة للمشير خليفة حفتر وأبنائه، وذلك من خلال إيديولوجيا مشتركة عمادها السلطوية وحكم القلّة، وشبكات الأعمال غير المشروعة التي ساهمت في تعظيم ثروات النظامَين، فضلًا عن المساعدات العسكرية التي تلقّياها من روسيا.

بعد أن عمَد حفتر إلى توطيد أركان حكمه في شرق ليبيا، عَقِب صراع دموي على السلطة في مدينة بنغازي امتدّ من العام 2014 إلى العام 2017، سُرعان ما أدرك أن الأسد يمكن أن يوفّر نموذجًا للشرعية السياسية ومصدرًا للدعم العسكري والاقتصادي. لذا، أعادت حكومة حفتر ومقرّها شرق البلاد افتتاح السفارة الليبية في دمشق في العام 2020، وحظيت هذه الخطوة بتشجيع وتسهيل الإمارات العربية المتحدة التي تضطلع منذ فترة طويلة بدور سياسي وعسكري داعمٍ له، وكانت آنذاك تقود الجهود العربية لإعادة تطبيع العلاقات مع الدكتاتور السوري. وبدت رمزية هذه الخطوة واضحة للمواطنين في البلدَين. فقد مالت الدفّة لصالح الثورة المضادّة والمناهضة للإسلاميين بعد العام 2011، بقيادة أبو ظبي، وبدرجة أقلّ المملكة العربية السعودية، وكذلك للسردية القائلة إن الحكّام السلطويين ذوي القبضة الحديدية، على غرار حفتر والأسد، هم وحدهم القادرون على ضمان الاستقرار.

في الوقت نفسه، حين عمَدت الحكومة التركية إلى إرسال آلاف المرتزقة السوريين الذين قاتلوا نظام الأسد لفترةٍ طويلة، إلى طرابلس ومحيطها – في إطار تدخّلٍ عسكري أوسع نطاقًا لدعم الحكومة الليبية المُعترَف بها دوليًا والتي كانت قوات الميليشيا التابعة لحفتر تحاول إسقاطها – لجأ حفتر إلى استقدام آلاف المقاتلين السوريين الموالين للأسد، والذين عملت روسيا على تسهيل وتنسيق سفرهم إلى ليبيا بتفويضٍ من النظام السوري. ومع أن تأثير هؤلاء المقاتلين في ساحة المعركة لم يكن كبيرًا في نهاية المطاف، ساهم توافدهم في توسيع التعاون اللوجستي بين موسكو ودمشق، وتجلّى ذلك من خلال زيادة الدعم العسكري والاقتصادي لنظام حفتر، واستمرّ إلى حين وقوع الأحداث الجسام في سورية مؤخرًا.

إضافةً إلى العلاقات السياسة وتدفّقات الأسلحة، ارتبط الشرق الليبي بسورية عبر شبكات متينة ومتداخلة من التجارة غير المشروعة، شملت بيئتَين واسعتَين من الجريمة المنظّمة صبّ التفاعل بينهما في خدمة الطرفَين. فعلى مدى سنوات، نشطت شركة الطيران السورية الخاصة “أجنحة الشام”، التي لطالما دعمت نظام الأسد من خلال نقل الأموال والمخدّرات والمعدّات والمقاتلين، ومن ضمنهم المرتزقة الروس، في عمليات نقل المهاجرين غير النظاميين من بنغلادش وباكستان وسورية وفلسطين ومصر والهند إلى شرق ليبيا. وبعد وصولهم إلى هناك، تولّت الميليشيات المرتبطة بحفتر تيسير وتنسيق رحلتهم المحفوفة بالمخاطر عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، بقيادة ابنه الطموح صدام الذي حقّق أرباحًا طائلة من هذه التجارة. وعلى الرغم من الاتفاقات التي أبرمتها بعض دول الاتحاد الأوروبي مع حفتر لكبح موجات الهجرة، لم تتأثّر عمليات نقل المهاجرين عبر “أجنحة الشام” من دمشق إلى شمال شرق ليبيا واستمرّت من دون انقطاع. وأصبحت هذه الرحلات جزءًا لا يتجزّأ من شبكات الإتجار بالبشر عبر البحر الأبيض المتوسط، وبلغ عدد الذين سافروا على متنها أحيانًا حوالى نصف إجمالي الوافدين إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر ليبيا. حقّقت هذه التجارة إيراداتٍ سنوية بملايين الدولارات، وتمّ تخصيص جزءٍ كبير منها لتحالف حفتر المسلّح.

لم يستفِد حكم حفتر في شرق ليبيا من الإتجار بالبشر فحسب، بل أيضًا من التعاون مع النظام السوري في تهريب المخدّرات. فقد أصبح إنتاج الكبتاغون، وهو منشّط يحتوي على مادّة الأمفيتامين، قطاعًا يدرّ مليارات الدولارات في سورية خلال عهد الأسد، وانتشرت هذه الحبوب في السوق الليبية عبر ممرّ دمشق-بنغازي، ما أسهم في إثراء صدام حفتر وشركائه. ومع أن هذا المخدّر الخطير والمُسبّب للإدمان محظورٌ في الكثير من البلدان، فقد انتقل من ليبيا جنوبًا وغربًا نحو السودان ومنطقة الساحل والجزائر وغيرها. في موازاة ذلك، كانت رحلات “أجنحة الشام” نفسها تُستخدم بصورة منتظمة لنقل الأسلحة من السوق السوداء في سورية إلى ليبيا التي كانت تشهد ازدهارًا في تجارة السلاح.

علاوةً على ذلك، ازدهر طريق بحري بين البلدَين، أتاح نقل شحنات السلع غير المشروعة، بما في ذلك عمليات تهريب الوقود التي انتشرت بشكل واسع في شرق ليبيا خلال السنتَين الماضيتَين تحت إشراف صدام حفتر. فقد أُعيد، بصورةٍ غير قانونية، تصدير قسم كبير من الوقود الذي استوردته المؤسسة الوطنية للنفط الليبية، ووصل بعض هذه الشحنات إلى سورية في نهاية المطاف. وكشف خبراء لدى منظمة The Sentry للتحقيقيات الاستقصائية الدولية عن أن قيمة الإيرادات السنوية التي أدرّها إجمالي التبادلات التجارية غير المشروعة بين ليبيا وسورية بلغت 300 مليون دولار تقريبًا.

اضطلع ماهر الأسد، شقيق بشار الأصغر وقائد الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة المُدرّعة النخبوية في الجيش السوري، بدورٍ أساسي في جميع مفاصل شبكة الجريمة المنظّمة السورية الليبية، إذ أشرف على إنتاج الكبتاغون وتنسيق عمليات غسل الأموال التي عظّمت ثروات الموالين الأساسيين للنظام وساعدته في التهرّب من العقوبات الدولية. يُشار إلى أن ماهر الأسد سافر في آذار/مارس 2023 إلى شرق ليبيا للقاء صدام حفتر ومناقشة سبُل تعزيز تعاونهما في الأنشطة غير المشروعة، ما سلّط الضوء على العلاقات الشخصية للغاية والروابط الرفيعة المستوى التي عزّزت دعم النظام السوري لسلطة حفتر.

نتيجة التطورات الأخيرة في سورية والقطع المفاجئ لهذه الروابط، بات حفتر وجماعته في وضعٍ جديد غير مريح. وبدا ذلك جليًا في التغطية المحدودة التي خصّصتها وسائل الإعلام الموالية له للأحداث في سورية، فضلًا عن غياب ردود فعلٍ شعبية ملحوظة في المدن الواقعة شرق ليبيا، ما تعارض بشكل صارخ مع الاحتفالات الصاخبة التي شهدتها مدينتا مصراتة وطرابلس في غرب البلاد. فالرحيل السريع للأسد، الذي صوّر نفسه، على غرار المشير الليبي، بأنه حصنٌ منيع ضدّ الإسلاموية ونعت خصومه بالإرهابيين والجهاديين، أضرّ بسرديّة ديمومة الرجل القوي، مع أن القادة العرب السلطويين الآخرين المؤيّدين لحفتر، مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الإماراتي محمد بن زايد، ما زالوا راسخين في مناصبهم. مع ذلك، قد تدفع التغييرات في سورية حفتر إلى إعادة تشكيل الركائز اللوجستية التي تقوم عليها شبكته الإجرامية، وربما العمل مع فلول نظام الأسد في المنفى والعصابات التابعة لها، أو التركيز بشكلٍ أكبر على مصادر تمويل أخرى. وقد يحثّه الوضع الجديد أيضًا على إعادة النظر في اصطفافاته السياسية داخل البلاد وخارجها، ولا سيما أن أحد داعميه الخارجيين الأساسيين يرزح أيضًا تحت وطأة الضغوط.

وبالفعل، ترتبط النتيجة الرئيسة الثانية التي يمكن أن تحدث في ليبيا عَقِب إسقاط الأسد بهذا الداعم، أي روسيا. لقد أدّت موسكو دورًا مهمًّا في تشجيع وصول حفتر إلى السلطة بدءًا من أوائل العام 2014، عبر مساندة حملته العسكرية في شرق ليبيا، وتوفير الفنيين والمستشارين وتقديم الدعم الاستخباراتي والدعائي، وطباعة الأوراق النقدية لحكومته غير المُعترَف بها – حتى في ظلّ انخراطها مع قوى أخرى في ليبيا. ومع هجوم حفتر على حكومة طرابلس في العام 2019، زادت روسيا تواجدها في ليبيا من خلال نشر آلاف المرتزقة من مجموعة فاغنر (التي أُعيدت هيكلتها منذ ذلك الحين)، وأفراد عسكريين نظاميين، وطائرات، وأنظمة دفاع جوي. وفيما فشلت قوات حفتر في السيطرة على السلطة في العاصمة بسبب التدخّل العسكري التركي، تكيّفت موسكو بسرعة مع الوضع، واحتفظت بالكثير من عناصرها وأسلحتها في قواعد جوية رئيسة بالقرب من منشآت النفط. وفي السنوات الأخيرة، إلى جانب دعم موسكو المستمر لحفتر، استخدمت روسيا ليبيا كقاعدة حيوية لإرسال مقاتلين وإمدادات عسكرية إلى دول منطقة الساحل الأفريقي وغيرها.

قد يهدّد سقوط الأسد، أو يعقّد على أقلّ تقدير، طريق الإمداد هذا إلى أفريقيا، وإلى شرق ليبيا، وهذا أمرٌ بالغ الأهمية لحفتر. يُعزى ذلك إلى أن معظم الإمدادات مرّت عبر سورية، وخصوصًا عبر قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية في اللاذقية. وقد اتّخذ الكرملين خطوات للتوصّل إلى اتفاق مع القيادة الجديدة في سورية بشأن الاحتفاظ بهاتَين القاعدتَين العسكريتَين الحيويتَين، إلّا أن حصيلة هذه المفاوضات غير مؤكّدة. فمن دون السلطة المركزية لنظام الأسد الاستبدادي، قد يكون الحفاظ على قاعدتَي طرطوس وحميميم أكثر تكلفة وأشدّ تعقيدًا لموسكو، ولا سيما في ظلّ وجود معارضة محلية أو بنى لوجستية هشّة، وكلّ هذا من شأنه أن يؤثّر على حفتر.

في وجه حالة اللايقين هذه، قد تُقرّر روسيا ممارسة ضغوط على حفتر من أجل تأمين وصول بحري أكثر ديمومة إلى ميناء طبرق، الذي يشكّل مركزًا يتدفّق عبره الأفراد والمعدّات الروسية إلى أفريقيا. لكن هذه الخطوة قد تلقى معارضةً أكبر من جانب حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، ما يفاقم المعضلة التي يواجهها حفتر في تحقيق توازنٍ بين مطالب داعميه كافة.

بدلًا من ذلك، يمكن لروسيا توجيه شحناتها الجوية إلى القواعد الليبية الخاضعة لسيطرتها. لكن هذا الخيار مكلفٌ أيضًا، والأهم أنه يتطلب إذنًا من تركيا لاستخدام مجالها الجوي. ونظرًا إلى التوتّرات بين البلدَين حول عددٍ من القضايا، وخصوصًا التفاهم القائم بينهما في ليبيا، غالب الظن أن تضع أنقرة شروطًا مقابل بادرة حسن النية هذه.

أما التأثير المُحتمَل الثالث، والأكثر غموضًا، فهو ما إذا سيتغيّر سلوك تركيا في ليبيا، وكيف سيتغيّر، نتيجة التحوّل في موازين القوى الإقليمية لصالحها، عَقِب سقوط الأسد. لم تكتفِ حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد ترسيخ الوجود التركي في شمال غرب ليبيا في العام 2020، بالحفاظ على السلام المنقوص في العاصمة وحولها. بل سعت إلى تحقيق أهداف اقتصادية على ارتباط متزايد بشرق ليبيا – أي الأراضي التي يحكم قبضته عليها الفصيل التابع لحفتر، والذي خاضت أنقرة سابقًا معارك ضدّه خلال الحرب من أجل السيطرة على طرابلس. لكن منذ العام 2021، بذلت تركيا جهودًا كبيرة لزيادة التعاون مع أسرة حفتر وحلفائها، إذ افتتحت قنصلية في الشرق الليبي الخاضع لسيطرة حفتر، وأدّت دورًا فعّالًا في ضمان توقيع الشركات التركية الكثير من العقود لتنفيذ مشاريع في مدن مثل بنغازي ودرنة، حيث تجري عملية إعادة الإعمار تحت إشراف الأسرة بشكلٍ يفتقر إلى الشفافية. يسلّط هذا المسار الضوء على تركيز تركيا الحازم على توسيع نطاق نفوذها في شرق ليبيا. وكما اتّضح في سورية مؤخّرًا، عندما ترى تركيا فرصةً لتعزيز نفوذها، فهي تغتنمها بصورةٍ سريعة وحاسمة، حتى لو تطلّب ذلك الانقلاب على روسيا.

أحد السيناريوهات المحتملة هو أن عملية عرقلة أو تقويض الممرّ السلس الذي كانت تستخدمه روسيا لتزويد حفتر بالمساعدات قد تشجّع الفصائل الليبية المتحالفة مع تركيا في غرب البلاد على تحدّي سلطة أمير الحرب في شرق البلاد، نظرًا إلى أن قدرته على فرض حصار نفطي وإملاء الشروط على حكومة طرابلس اعتمدا جزئيًا على القوة الرادعة المتمثّلة في الوجود العسكري الروسي. وإذا اعتبرت الفصائل المناهضة لحفتر أن هذا الدعم قد تراجع بسبب إجراء موسكو عملية إعادة تقييم لحساباتها أو إعادة نشر لقوّاتها في مرحلة ما بعد الأسد، قد تسعى هذه الفصائل إلى انتزاع السيطرة على منشآت نفطية حيوية، معتبرةً أن تكلفة المواجهة باتت أقلّ في الوقت الراهن.

أما السيناريو البديل، والأكثر واقعيةً، هو احتمال أن تكثّف تركيا تواصلها السياسي والاقتصادي مع حفتر، مستفيدةً من الفرصة التي يتيحها راهنًا انشغال روسيا في التداعيات الناجمة عن سقوط الأسد. إذا اتّبع أردوغان هذا المسار، سيسعى على الأرجح إلى الحفاظ على دورٍ لموسكو على الأرض في ليبيا، ولكنه سيكون أقلّ من السابق، ما قد يزيد من قيمة تركيا لحلف شمال الأطلسي باعتبارها محاورًا وثقلًا موازيًا. وقد يُبدي حفتر استعدادًا لقبول مثل هذه المبادرات من أنقرة، وخصوصًا إذا شعر بأن مكانته على المستوى المحلي قد تتأثّر بسبب إضعاف الشبكة السورية الروسية، فيما يتعرّض لضغوط أميركية وأوروبية من أجل ثنيه عن منح مزيدٍ من القواعد الدائمة إلى روسيا التي تحاول إعادة تجميع ونشر قواتها بعد انهيار النظام السوري.

من الضروري عدم تصوير ليبيا على أنها خاضعة بالكامل للديناميات الخارجية، أو لسياسات الدول الأجنبية التي تتدخّل في شؤونها، والتي لا يقتصر على روسيا وتركيا فحسب، بل تشمل أيضًا منذ فترة طويلة الإمارات العربية المتحدة ومصر وقطر والولايات المتحدة وفرنسا. مع ذلك، غالب الظن أن الأحداث التي شهدتها سورية هذا الشهر، والتي تُضاف إلى الحرب المستمرة منذ عامٍ ونيّف في غزة، سيتردّد صداها داخل المجتمع الليبي، حيث لا تزال القوى السياسية المحلية والفصائل المسلحة تضطلع بالأهمية وتؤدّي دورًا فعّالًا.

صحيحٌ أن الحمى الثورية التي أشعلت انتفاضات العام 2011 قد تبدو خامدة، إلّا أنها لم تنطفئ بعد. كذلك، لا تزال تيارات الإسلام السياسي والجهادي تنشط في الخفاء ومن خلف الكواليس، على الرغم من تراجعها الملحوظ في السنوات الأخيرة، علمًا أن التعبئة السياسية والمسلحة في ليبيا حدثت في الكثير من الأحيان بمعزلٍ عن هذه التصنيفات المحدّدة بشكلٍ فضفاض والتي كثيرًا ما يُساء استخدامها. فمن المهمّ التذكير بمئات الشباب الليبيين الذين ذهبوا إلى سورية للمشاركة في القتال هناك في ذروة الحرب الأهلية، بعد أن جنّدتهم في الكثير من الأحيان شبكاتٌ إسلامية أو جهادية، ولكن مصدر إلهامهم الأعمق تمثّل في تعاطفهم مع النضال الثوري ضدّ طاغية مستبدٍّ شبيهٍ بذاك الذي أطاحوا به في بلدهم. أخبرني أحد هؤلاء المقاتلين المتطوعين ما مفاده: “لقد ذقنا طعم المعاناة، وكنا نعرف أن السوريين يعانون أيضًا”. ولا بدّ من الانتظار لرؤية أي شكلٍ من أشكال التضامن أو التعبئة الأعمق سيلهمه في ليبيا الانتصار المُلفت الذي حقّقته هيئة تحرير الشام والفصائل المرتبطة بها في سورية، وكيف ستتردّد أصداء ذلك في المشهد السياسي في البلاد.

من المُحتمل للغاية أن المأزق السياسي الليبي، الذي منع البلاد من المضيّ قدمًا نحو إنهاء الفترة الانتقالية عبر إرساء سلطة تنفيذية مُنتخَبة شعبيًا وحلّ الانقسامات المؤسسية الكبيرة، قد يتفاقم ويشعل جذوة الصراع في المستقبل القريب. ولن تحدث هذه الانتكاسة نتيجة التحولات المفاجئة في موازين القوى الإقليمية وحدها، بل من خلال تضافر هذه التغييرات مع صدمةٍ كبيرة في الداخل، مثل انكماش الاقتصاد الكلّي، ما من شأنه أن يقوّض مساومات النخب السياسية التي ضمنت حالةً من الاستقرار الهشّ على مدى السنوات الماضية.

مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

——————————

أسلمة سوريا، وتركة الأسد/ ساطع نورالدين

20 كانون الأول 2024

لم تتضح حتى الآن معالم الدولة الإسلامية التي تولد في سوريا هذه الأيام. لكن المقدمات الأولى لا تخطىء، ولا توحي بأن النموذج التركي سيكون هو المثال، والمرجع. لدى “هيئة تحرير الشام” نموذجها الخاص، المبني على تجربة إمتدت اكثر من 15 عاماً..وكانت اخفاقاتها أكثر من نجاحاتها.

هروب الجيش السوري من مواقعه، وفرار عائلة الأسد من قصورها، أمام وحدات عسكرية مسلحة بأسلحة فريدة، خفيفة ومتوسطة، ما زال يطغى على صورة “الانقلاب الأبيض” الذي نفذته الهيئة، وتلقفته واحتفت به على الفور الغالبية الشعبية السورية، بعدما ضاقت ذرعاً بالنظام المخلوع، ونهجه المدمِّر للاقتصاد والامن والاجتماع السوري. لم يكن هناك بديل آخر، وكان الانطباع الشعبي، ولا يزال، هو أن بشار الأسد خان الأمانة، ولم يسلم السلطة لأحد..لأنه فعلا، أراد ان يسلمها الى الهيئة حصراً.

ولا يوصف ما جرى في دمشق في الأيام العشرة الماضية، سوى أنه عملية تسليم وتسلم، سلمية وهادئة ومنظمة، بين النظام وبين الهيئة. وبدا أن الموالين السابقين، كانوا يحذون حذو رئيسهم الفار، ويلتزمون عملياً بآخر أوامره وتوجيهاته، في ما خص نقل السلطة الى الهيئة..في خطوة تشي بأنه كان في فراره المشين، ينتقم من الجيش الذي خذله، ومن المجتمع الذي أنفض عنه. وفي ذلك الخيار ما يبعث فكرة “حرق البلد”، التي لطالما لوح بها نظامه طوال السنوات ال24 الماضية.

لم يكن بشار ينجو بنفسه من المحرقة، بل كان على الأرجح يفتعل حريقاً لن تستطيع سوريا ان تتجنبه إلا بمعجزة. وهذا ليس تقديراً فقط، بل هو في الغالب ميراث أخير من الرئيس الذي لم يعرف عنه، أنه، وحسب علماء وأطباء، كان مصاباً بانفصام الشخصية ( الشيزوفرينيا)، حتى في مستهل رئاسته، مرورا بجميع المحطات الحرجة من حكمه، التي كان يثبت فيها أنه يعيش في عزلة عن الواقع.

أثبت الشعب السوري حتى الأن، أنه لن يعمل بوصية بشار ولن يستجيب لنصيحته. حرق البلد عمل انتحاري مناقض للطبيعة البشرية، والتعاليم الدينية، وهو أيضا خيار سياسي فات أوانه، ولم يعد يخدم أي هدف، لا في السلطة ولا خارجها.. ولا يستجيب لأي نداء يمكن أن يأتي من خارج الحدود السورية، حيث ينفتح نقاش بين تركيا وبين العرب والغرب، حول سبل حفظ الاستقرار الداخلي والوحدة الوطنية..وبناء الدولة الجديدة، ومؤسساتها.

وفي هذا السياق، تستفيد الهيئة، حتى الآن من حقيقة أنها النقيض الفعلي الأقوى والأوحد للنظام المخلوع، الذي ستظل موروثاته شاهداً على أسوأ ما أنتجته سوريا (وبقية الدول العربية، والعالم الثالث) في تاريخها، من سلطة همجية قد يحتاج السوريون الى خمسة عقود جديدة للتخلص من آثارها وعواقبها.

لكن الاعتماد على تلك الصفة الحصرية، أي النقيض للاسدية، لا يخدم طويلاً، ولا ينتظر ثلاثة أشهر، هي عمر الفترة الانتقالية المحددة، وهي أقرب حتى الآن، الى الفراغ الذي يمكن أن يسده آخرون، من داخل السلطة الراهنة، ومن محيطها، قبل خصومها.. تحت الذريعة نفسها التي توفرها الهيئة نفسها، وهي أسلمة سوريا التي تمضي على قدم وساق، ومن المرجح أن تصطدم بقوى تقف على يمين الهيئة، وعلى يسارها ايضاً، حتى قبل ان تبدأ عملية صياغة الدستورالجديد، المؤجلة الى ما بعد شهر آذار المقبل.

تهمة “الاقصاء” التي سارع الائتلاف السوري المعارض الى توجيهها للهيئة، تحدثت بلسان قوى سياسية واجتماعية متعددة، ما زالت تنتظر دعوة من الهيئة للاجتماع، الملحّ فعلا، والبحث في تشكيل المؤتمر( أو المجلس) الوطني من ممثلي مختلف المحافظات والانتماءات السورية المتعددة، باعتبارها خطوة ضرورية لا تحتمل التأجيل لتحديد خطوات ومهل زمنية لتنظيم هيكل الدولة، من دون ربطها بمسألة رفع العقوبات الدولية عن الهيئة، أو عودة النازحين السوريين من الخارج، وهو ما كان رد الغرب عليها سلبياً..بإعتبار ان الشرعية تكتسب من الداخل السوري أولاً، وفي ضوء عملية أسلمة سوريا وحدّها الأقصى.

صفحة الكاتب

———————————-

هؤلاء هم رجال الظل حول الجولاني/ عبدالله سليمان علي

20 كانون الأول 2024

من هم أركان الجولاني؟

يتشكل في سوريا نظام جديد على أنقاض النظام السابق. وجوهٌ وأسماءٌ جديدة ورثت تركة المناصب بامتيازاتها وصلاحياتها، وبدأت توزيعها في ما بينها. وزراء ومحافظون ومديرون عامون وقادة شرطة. إنهم واجهة النظام الجديد الذي يبنيه أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) وسوف يكونون لسانه الناطق ومتحملي المسؤولية أمام الناس، غير أن من لديه قدر قليل من الخبرة بالبناء الهيكلي لـ”هيئة تحرير الشام” وطريقة توزع مراكز النفوذ في مفاصلها الحاكمة، وكيفية تطبيقها أسلوب القيادة من الخلف حفاظاً على سرية هوية بعض الشخصيات، سوف لن يهتم كثيراً بالأسماء والوجوه التي يتسابق حالياً الجميع، من الأمم المتحدة إلى وفود الدول الأوروبية، إلى وسائل الإعلام الغربية والعربية، للاجتماع معها، إلا بمقدار ما كان لديه قناعة بأن وزراء الحكومات السورية المتعاقبة في عهد “البعث” كانوا أصحاب قرار حقيقي وفاعل. وهو ما انكشف عملياً باعتراف آخر رئيس حكومة، محمد غازي الجلالي بأنه لم يكن يتواصل مع الرئيس إلا نادراً، أما الوزراء فقد كان دون تواصلهم معه طوق شديد لا يمكن اختراقه بحسب الاعترافات التي أدلى بها بعض الوزراء بعد إطاحة الرئيس الفارّ، وهو ما يمكن الاستناد إليه لتقييم أهمية الوزراء في هيكلية النظام السابق ومدى تضاؤل دورهم أمام أصحاب النفوذ الحقيقي أو شركاء السلطة مع آل الأسد، كقادة الأجهزة الأمنية والقيادة المركزية لحزب “البعث” (القيادة القطرية سابقاً) وكذلك بعض كبار رجال الأعمال.

واليوم تكاد ترتسم هيكلية جديدة لها المفاصل والدرجات نفسها لكن بمسميات مختلفة ومظاهر مغايرة. فهناك رجال من قادة الصف الأول في “هيئة تحرير الشام”، بل من الحلقة الضيقة التي تحيط بالجولاني منذ سنوات، لم تظهر أسماؤهم في التعيينات الجديدة ولم يتصدروا الشاشات. وذلك ليس استخفافاً بهم أو إنقاصاً من قدرهم، بل لأن قيمتهم وأهميتهم ومتطلبات حمايتهم تقتضي منهم العمل من خلف الستار ومن دون ترك بصماتهم وراءهم. لكن هؤلاء هم من يرسمون ملامح سوريا الجديدة، وليس الجالسون على كراسي المناصب. وهم من يمتلكون النفوذ الحقيقي والكلمة الأخيرة، وليس من يتحدثون عبر الإعلام. وهؤلاء هم من سيحكم بهم الجولاني سوريا في المرحلة المقبلة.

ومن أبرز هؤلاء:

– أبو أحمد حدود، واسمه الحقيقي على الأرجح أنس خطاب من مدينة جيرود في ريف دمشق. وهو الأمير الأمني العام في إدلب و”هيئة تحرير الشام”. وهو بالتالي المسؤول عن “لعبة الأمن” التي تفاخر الجولاني بمدى خبرته بها في معرض حديثه عن موضوع حمايته الشخصية من الاغتيال. وحدود هو المشرف على جهاز الأمن العام الذي انتشر في معظم المحافظات التي سيطرت عليها الهيئة وبدأ يتولى فيها مهمات تثبيت الأمن وجمع المعلومات وبناء شبكات استعلام (تجسس) عن أبناء كل منطقة. ويفترض أن يكون حدود هو اليد الضاربة في الخفاء لكل من يعارض الجولاني في المستقبل، وذلك اقتداءً بما حدث في إدلب.

– مختار التركي، وهو تركي الجنسية، واسمه الحقيقي غير معروف، لكنه يمثل الرقم الأول من حيث الأهمية العسكرية في “هيئة تحرير الشام”، بغض النظر عمن يقود الجناح العسكري أو الألوية المختلفة. ومختار التركي هو من قاد غرفة عمليات “ردع العدوان” التي أطاحت النظام. وقد أحيطت هويته بكتمان شديد طوال الأعوام السابقة، فلم يتسرب منها أي تفاصيل إلى الإعلام، وهو ما يدل على مدى مركزية الرجل في هيكلية الهيئة، ومدى أهميته لكل من الهيئة والاستخبارات التركية، لأنه لو كانت تركيا غير راضية عن أدائه لكانت سربت شيئاً عنه، وهو ما لم يحدث. ويأتي بعده شخص آخر هو أبو حسين الأردني، من الأردن، وهو شديد الولاء للجولاني.

ومن المتوقع أن يكون لمختار التركي دور كبير في تأسيس الجيش السوري الجديد، ولكن نظراً إلى جنسيته الأجنبية فالاحتمال الأرجح أن يتولى الإشراف على التشكيلات الجهادية ضمن الهيئة مثل “العصائب الحمراء” و”كتائب ابن الوليد” التي من المرجح أن الجولاني لن يفرط بها ويقبل بدمجها في الجيش المستقبلي بل سيحافظ على استقلاليتها ووحدة بنيتها مع تبعيتها الشكلية لوزارة الدفاع.

وفي المجال السياسي والإعلامي يبرز اسم زيد العطار الذي جرى تداوله منذ سنوات على أنه مسؤول الإدارة السياسية في قيادة إدلب. لكن الإسم غير حقيقي بدليل أن الرجل نفسه يستخدم أكثر من اسم مستعار وأبرزها: حسام الشافعي، وأبو عائشة الحسكاوي. ولم تعرف حتى اليوم هويته الحقيقية، رغم أن عبيدة أرناؤوط يتحدث إلى وسائل الإعلام بصفته ناطقاً بإسم الإدارة السياسية التي لم يكن يعلم أحد من يقودها. وقد قررت الإدارة السياسية المجهولة الرئيس تعيين ثلاثة أشخاص مسؤولين عن الملف الديبلوماسي وعمل السفارات داخل سوريا، هم: محمد عبد الله الغار، ومحسن محمد مهباش، ومحمد قناطري.

ومن المتوقع أن يمسك زيد العطاء بملف الخارجية والعلاقات مع الدول، سواء تم تعيينه بمنصب وزير، أم ظل محافظاً على سريته.

وهناك أشخاص آخرون عديدون يستند إليهم الجولاني في تحسين علاقاته العشائرية أو يثق بهم في إدارة الملفات المالية، أبرزهم من يمتون إليه بصلة مصاهرة كشقيقي زوجته حذيفة وقتيبة بدوي، وفيما عُرف أن الأخير تسلم مديرية الجمارك العامة التي قرر حلها، فإنَّ الأول كان يتسلم “لواء طلحة” العسكري، ومن المتوقع أن يكون من الأشخاص الذي سوف يكلفهم الجولاني العديد من المهمات السرية.

النهار العربي

———————————–

دم ورصاص.. وكيماوي/ عقبة زيدان

20-ديسمبر-2024

فرّ هذا المخلوق المسخ الذي يدعى بشار الأسد؛ فرّ تاركًا وراءه كل ما يثبت خياناته وأمراضه النفسية والعقلية، وآخذًا معه “أبديته” ومال وذهب سوريا، ليحل لاجئًا مهانًا، لا يحمل شرف أي لاجئ هرب من قمعه عبر البحر أو بين الغابات.

لم يكن بشار يومًا عزيزًا، ولم يكن سوى جزار يتلذذ بقتل الناس وتعذيبهم، ويضحك ببلاهة وكأنه فاتح عظيم.

ما الذي تركه هذا المختلّ خلفه. تجيب امرأة تحمل بين يديها جمجمة، وتقول: “هذا ما تركوه لنا من أولادنا”. وتتذكر أخرى ما شاهدته وهي في السجن: “أدخلوني إلى غرفة، وشاهدت عشرة شباب يافعين تخترقهم الخوازيق وكانوا لا يزالون على قيد الحياة”. وتخرج كلمات مخنوقة من شاب: “جلبوا إلى المعتقل طفلًا صغيرًا، وأحرقوه بقاذف اللهب، حتى انسلخ جلده عنه، ثم تركوه في الزنزانة وخرجوا، وبعد يومين مات بين يديّ”.

يمكن أن تكتب شهادات مئات آلاف، وربما ملايين الناس، عن هذا الإرث الفظيع الذي خلّفه الأسدان المختلان: الأب والابن.

لا يمكن لأي عقل أن يصدق ما كان يحدث في سوريا. ولكننا – نحن الذين كنا في الداخل- كنا نرى ونسمع شهادات كثير من أقاربنا ومعارفنا الذين كانوا في زنازين تحت الأرض. 

سوريا كانت أكبر مكان مرعب على الأرض. تمتلك مواصفات عيش/ موت فريدة؛ رعب في وجوه الناس وأنت تمر بجانبهم في الشارع، رعب في العيون التي لا تمتلك بريق أمل- عيون جليدية لا حياة فيها- هواء ثقيل تفوح منه رائحة الدماء. نعم، يمكنك أن تشم رائحة الدماء في كل مكان. يمكنك أن ترى الرعب في وجوه بعض رفاقك بعد خروجهم من المعتقلات، وحين تسألهم عن فترة اعتقالهم، كانوا يقولون ببساطة: “شيء مرعب، لا يمكن لأحد أن يصدق ماذا يجري في السجون”.

كنا نعلم كل شيء، ولا يمكننا أن نتفوه بكلمة؛ فقط يمكننا أن نراقب وجوهنا في المرآة ونحزن ونبكي، بصمت، وصمت، وصمت.

كنا نعلم أننا نسير في شوارع مدينة يرتع تحتها أناس يعذَّبون، وندرك ذلك، ندرك أن إخوتنا وأخواتنا وأصدقاءنا وصديقاتنا يعانون أشد أنواع التعذيب، ومنهم من يرحل بعد جولة أو اثنتين من أشد وأبشع ما يمكن أن يتعرض له إنسان من ألم.

بلد فريد في فن التعذيب؛ فالتعذيب فن ومتعة، وقتل لأي أمل يمكن أن يظهر على وجه أحد.

تعذيب الآخرين هو رسالة إليك. يجعلونك تسمع الأنين الخافت يتسلل من شقوق الأرض. ولكنك شبه حيّ وخائف، أكثر من الذين يطلبون الموت وهم يُسلخون ويُطعنون ويُشوون. وبينما تعبر الشارع وتشعر بأنك بالكاد على قيد الحياة، تنزلق قدمك في سرداب صغير، وتجد نفسك في مسلخ تحت الأرض بعشرات الأمتار.

طاغيان لم يفعلا شيئًا سوى إشادة قبور للناس قبل أن يولدوا. ولكنها ليست قبورًا عادية؛ إنها قبور يصعب الوصول إليها. فعلى مدى أربعة وخمسين عامًا، لم يجرؤ شخص على مراجعة مقر أمني ليسأل عن ابنه الذي خرج من الجامعة ولم يعد إلى البيت. ثم يرسلون إليه بطاقة هويته، ولا يسلمون له الجثة، لأنهم يعدمون السجين داخل مكبس ضخم فتسيل دماؤه ودماء المعذبين في نفس اليوم، وتجري في نهر يسقي أشجار المناطق المحيطة بالسجن.

هل هناك من قهر أكبر من أن يشرب الأهل دماء أبنائهم؟

تورق الأشجار وتحمل ثمارًا طعمها دم.

في الهواء رائحة غريبة، فكل من لم يمت في السجون العميقة تحت الأرض، يجب أن يموت بالمواد السامة. إنها مواد كيميائية ليست محرمة على السفاح الذي يقتل شعبه بمباركة دولية، تحت يافطات كبيرة: الإدانة، التحقيق، وبيانات المنظمات الدولية.

مجرد يافطات بلهاء، تؤيد إلقاء الكيماوي على المدنيين؛ يافطات إدانة فقط؛ مجرد رسائل تطمين ليتابع القتل. ثم تتبعها بيانات تهديد بلهاء. ومزيد من القتل والدم والرصاص والكيماوي.

دم يسيل في الساحات، رصاص يصم الآذان، وكيماوي يملأ أنوف كل السوريين.

مدينتي هذه، هي كل المدن في سوريا، تلك المدن التي أمعن نظام السلخ والترهيب في قتل أرواح أهلها، وحولهم إلى أشباح. مدن صرفت عصابة تحكم بلدًا معظم ميزانيتها لبناء السجون والمعتقلات والفروع الأمنية ومراقبة الناس: كيف يسيرون في الشوارع، وكيف يذهبون إلى الصلاة، وماذا يقولون على الهاتف. الكل مستهدف، من دون أن يُستثنى الخادم الأمين الذي يلعق أحذية زعيم العصابة.

عندما انطلقت الثورة السورية في الخامس عشر من آذار/مارس عام 2011، كان كل شيء جاهزًا: السجون والرجال العنيفون والسلاح الذي أوهموا الناس أنه من أجل قتال العدو. إضافة إلى ضوء أخضر من الدول الحليفة وميليشياتها الحاقدة والقاتلة، والتي لا تعرف سوى القتل والتعذيب.

لقد فرّ بشار الأسد، تاركًا وراءه وثائق هائلة في أراشيف مخابراته، وكلها تدل على أنه – وكوالده تمامًا- كان خائنًا لوطنه، وعميلًا، وكائنًا مسخًا ومضطربًا عقليًا، وغير قادر حتى على إقناع زوجته الدموية مثله، بأن العيش معه أمر يمكن تحمّله.

الترا صوت

———————-

ما وراء الشال.. أحمد الشرع وصور النساء/ آلاء عوض

19-ديسمبر-2024

في عالم السياسة، تتجاوز الصور كونها مجرد لحظات عابرة، لتصبح رسائل مدروسة تحمل أبعادًا أيديولوجية واجتماعية وسياسية. هذا ما بدا واضحًا في الظهور الأخير لأحمد الشرع، قائد إدارة العمليات العسكرية، وهيئة تحرير الشام سابقًا، إلى جانب مجموعة من الفتيات غير المحجبات في سوريا، مع طلبه منهن وضع شال على رؤوسهن إن أردن التقاط صورة معه. يثير هذا المشهد، رغم بساطته الظاهرية، أسئلة متعددة حول طبيعة الرسائل التي أراد الشرع إيصالها من خلاله، خاصة في ظل محاولاته المستمرة لإعادة رسم صورة الهيئة وتقديمها كقوة أكثر اعتدالًا على الساحة السورية.

بدايةً، يمكن النظر إلى هذا الظهور كجزء من استراتيجية أكبر تسعى الهيئة من خلالها إلى التكيف مع الواقع السياسي والاجتماعي الجديد في سوريا. فمن خلال ظهور الشرع مع فتيات غير محجبات، يبدو أن الهيئة تحاول تقديم نفسها كجهة منفتحة وقادرة على التعايش مع مختلف أطياف المجتمع السوري، بما في ذلك الأقليات والفئات التي لا تتفق بالضرورة مع توجهاتها الأيديولوجية. يحمل هذا التوجه في طياته محاولة واضحة لتقديم تطمينات للمجتمع المحلي، وأيضًا للمجتمع الدولي الذي ينظر بحذر إلى القوى المسلحة ذات الخلفيات المتشددة.

لكن خلف هذا المظهر المنفتح، يكمن إصرار الشرع على وضع الشال/ الحجاب، وهو تفصيل صغير لكنه بالغ الأهمية. هذا الشرط، الذي يبدو وكأنه مجرد التزام بمظهر معين، يحمل دلالات أعمق تتعلق بفكرة الامتثال. فطلب تغطية الرأس هنا ليس مجرد رمز ديني، بل هو تعبير عن الهيمنة وفرض السيطرة. إذ يبدو أن الشرع، رغم محاولاته للتكيف مع الواقع، لا يزال غير قادر على تجاوز موروثه الأيديولوجي الذي يفرض قيودًا صارمة على الأفراد، وخاصة النساء، حتى في أكثر اللحظات التي يُراد لها أن تعكس انفتاحًا.

يمكن قراءة هذا التصرّف كرسالة مزدوجة: فمن جهة، يريد الشرع أن يظهر بمظهر القائد البراغماتي الذي يتعامل مع الجميع، بما في ذلك النساء غير المحجبات، ومن جهة أخرى، يصرّ على أن هذا التعامل لا يمكن أن يكون بلا شروط. الشال هنا يصبح أداة لإخضاع الآخر لقواعد الهيئة، حتى وإن كان ذلك بشكل مؤقت ومن أجل التقاط صورة. يعكس هذا الإصرار، بشكل أو بآخر، فشلًا في تقديم صورة حقيقية للتغيير أو الانفتاح، حيث لا يزال الانتماء إلى فضاء الهيئة مشروطًا بالتخلي عن جزء من الهوية الفردية والامتثال لمعاييرها.

في السياق السوري الأوسع، تحمل هذه الصورة دلالات تتعلق بمحاولات القوى المختلفة السيطرة على الفضاء العام وفرض قواعدها على الأفراد، حتى في أبسط التفاصيل. في الشرع وقيادته، يمكن القول إن محاولة التكيف مع الواقع السياسي والاجتماعي الجديد لا تزال محكومة بتصور أحادي يرفض الاعتراف بالتنوع الحقيقي ويفرض معايير محددة على الجميع. هذه المقاربة تجعل من الصعب تصديق أي محاولات للانفتاح أو التغيير، حيث تظهر الهيئة وكأنها تحاول فقط تغليف ممارساتها القديمة بمظهر جديد، دون التخلي عن جوهرها الحقيقي.

ورغم الرسائل المبطنة التي يمكن أن تحملها الصورة عن قبول الهيئة للمرأة غير المحجبة، فإن الإصرار على وضع الشال يقوّض هذه الرسائل ويكشف حدود التغيير الذي يمكن أن تصل إليه الهيئة. فالتغطية هنا ليست مجرد إجراء شكلي، بل هي رسالة واضحة بأن القبول مشروط، وأن التعايش مع الهيئة يعني التخلي عن جزء من الحرية الشخصية والركون لسلطتها، حتى ولو كان ذلك بشكل رمزي ومؤقت.

من جهة أخرى نرى أن التشكيلة الحكومية المؤقتة استبعدت النساء من المناصب القيادية بشكل ملحوظ، وأثار هذا الاستبعاد استياء الأوساط الحقوقية والنسائية التي كانت تأمل في تحسن الوضع بعد سنوات من التهميش الممنهج في عهد نظام الأسد. تجددت الخيبات بعد الإعلان عن التشكيلة الجديدة، التي كرّست نمطية الإقصاء وغياب التوازن الجندري في هياكل السلطة وبدا مشهد الإعلان الرسمي متجهمًا، حيث خلت القاعة من أي وجوه نسائية ذات ثقل سياسي، مما أثار تساؤلات حول مدى جدية الحكومة في تحقيق إصلاحات جذرية.

عبرّ حقوقيون عن قلقهم إزاء وضع النساء اللاتي، وطالبوا بالشفافية في طرح دور المرأة، وتطبيق سياسات شاملة تنصف المرأة وتضمن حضورها في المشهد العام لكن هذ الدعوات بدت وكأنها صرخات في وادٍ، حيث قوبلت بتجاهل رسمي واضح.

إن استمرار هذا التهميش، سواء في صورة القيادة السياسية أو في الفضاء العام الذي تسيطر عليه القوى الجديدة، يعكس عمق التحديات التي تواجهها المرأة السورية في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة. فإقصاء النساء من مواقع السلطة واتخاذ القرار ليس مجرد إشكالية عابرة، بل هو جزء من سياق أوسع يعكس تهميشًا ممنهجًا لدور المرأة في إعادة بناء سوريا الجديدة.

في ظل الحرب وتداعياتها، كانت النساء السوريات في مقدمة المتضررين، سواء من ناحية الأمان الشخصي أو الاجتماعي والاقتصادي. وعلى الرغم من تضحياتهن الكبيرة وقدرتهن على حمل أعباء الحياة اليومية وسط النزاعات والانهيار الاقتصادي، ظل تمثيلهن في العملية السياسية متواضعًا، بل ومعدومًا في كثير من الأحيان. يبعث هذا الإقصاء برسائل متناقضة: فمن جهة، يتم الاعتراف بالدور الأساسي للنساء كدعامة للمجتمع في أوقات الأزمات، ومن جهة أخرى، يتم إنكار حقهن في التمثيل والمشاركة في صنع القرار.

إن الإصرار على تغييب المرأة عن المشهد السياسي وخاصة على خلفية التصريحات الأخيرة لـ عبيدة أرناؤوط، المتحدث الرسمي باسم الإدارة السياسية التابعة لإدارة العمليات العسكرية، بتحجيم المرأة وإقصارها على أدوار معينة، يضع العديد من علامات الاستفهام حول جدية القوى في تقديم مشروع وطني شامل يعكس تطلعات جميع فئات المجتمع السوري. فمن دون إدماج حقيقي للنساء، يصعب الحديث عن أي إصلاح حقيقي أو إعادة بناء شاملة تضمن العدالة والمساواة للجميع. هذا الاستبعاد لا يؤثر فقط على النساء، بل يُضعف البنية السياسية والاجتماعية ككل، حيث يفقد المجتمع فرصته في الاستفادة من خبرات نصفه الآخر.

يُجسّد التهميش البنيوي للنساء والقيود الرمزية، كما في مشهد “الشال”، عمق الأزمة السياسية في سوريا، حيث تُستخدم قضية المرأة كورقة مساومة في صراعات القوى. الاعتراف بحقوق المرأة ومشاركتها ليس رفاهية، بل اختبار حقيقي لجدية أي مشروع سياسي يسعى نحو التغيير والعدالة.

————————–

سوريا الجديدة… آمال وردية قد لا تدوم طويلاً/ عمار جلّو

الجمعة 20 ديسمبر 2024

من الصعب، أو من المستحيل، تفوّق أحد على الرئيس السوري الفارّ بشار الأسد، بالسوء على سوريا والدول الإقليمية والدولية. مع ذلك، يتكاثف الضباب بدلاً من تبدّده في الفضاء السياسي السوري، بعد انهيار نظام الأسد صبيحة الثامن من كانون الأول/ديسمبر الحالي، منهياً، وبشكل مفاجئ، خمسة عقود من حكم العائلة الدموي والشمولي في سوريا. وفي حدثٍ أثار ابتهاجاً بعموم الجغرافية السورية، يثير أيضاً حالة من عدم اليقين تجاه مستقبل البلاد المضطربة أصلاً.

فمع خروج سوريا والسوريين من نفقها الطويل المظلم، يراود السوريين حلم مفعم بالأمل إلا أنه غير مؤكد، حيث تختلط رسائل الحكم الجديد أحياناً وتتناقض في أحيان أخرى، وما بينهما غياب شبه تام لتلافي أخطر ما قد تواجهه سوريا، بعد سنوات الاحتراب والاستقطاب الحاد.

ففي الوقت الذي ينثر الحكم الجديد، على المجتمعات المحلية المتمايزة والأطراف الدولية، ضمانات موثوقة نسبياً تجاه الأقليات، تجهل حكومة دمشق أو تتغافل عن أن أولى الضمانات يجب تقديمها للأكثرية التي مورست بحقها جرائم وانتهاكات فاقت الكوابيس، وهي من يحتاج طمأنتها لجدية محاسبة المجرمين بحقها، وبدون ذلك فإن القصاص والانتقام الفردي سيشكلان كرة ثلج تتدحرج نحو هاوية الاقتتال المحلي والحرب الأهلية.

ورغم كراهة استخدام تعابير أضحت متلازمات دولية ومحلية أيضاً لبناء الأنظمة السياسية لدولنا الشرق أوسطية في عصر المواطنة والحقوق المتساوية، إلا أن الاسترسال في تطمينات الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية والجندرية، كبوابة للاعتراف الدولي، مع رفع العقوبات المفروضة على سوريا، قد تؤدي لنتائج عكسية وكارثية على السلم الأهلي، في ظل أطنان الانتهاكات الممارسة بحق أكثرية عابرة للأديان والأعراق والمذاهب لا باك عليها.

فالمأساة السورية لم تكن نتاج حساسيات دينية أو عرقية أو مذهبية، وإنما نتاج إجرام نظام استبدادي سادي ضاعفهما في مواجهة معارضيه، وعلى ذلك، فإن قفز الأمم المتحدة والقوى الإقليمية والدولية الفاعلة على أس المشكلة للحديث عن حقوق المرأة والأقليات لا يبشّر بحلول واعدة للمسألة السورية، ولا يمنح الطمأنينة بألا تستخدم هذه الشعارات البرّاقة بوابة لتقاسم النفوذ في الساحة السورية، بجانب مقايضات تفضي لحكم توافقي يطوي تطلعات السوريين إلى الحرية والديمقراطية مع الحكم الرشيد.

ومع تصّدر واجهة المشهد السوري من قبل منظمة مصنّفة على قوائم الإرهاب لدى العديد من المنظمات الدولية والقوى العالمية، قد تفرّخ هذه المعضلة أزمات فرعية لا يحمد عقباها، في حال ذهاب هيئة تحرير الشام مع هذا التوجّه، بهدف رفعها عن قوائم الإرهاب. وإلى جانب المطالب الدولية بصيانة حقوق أقليات أثبتت الأيام الماضية عدم التجاوز على حقوقها، تطالب المعارضة التقليدية اعتبار قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 ركيزة الانتقال السياسي في سوريا، وهو ما تجاوزته الأحداث فعلياً، نتيجة سقوط أحد طرفيه عسكرياً، وسقوط طرفه الآخر واقعياً، إلا أن هذه المعارضة مصرّة على المحاصصة بالسلطة الجديدة، وغالباً ما ستعمل علناً أو من وراء الكواليس على خلق تحديات جديدة أمام عملية انتقال سياسي لا ترضي طموحاتها الجمعية أو الفردية، مع صبّ جهودها على عكس التوجه الإقليمي والدولي للاعتراف بالحكم الجديد في دمشق، ما يضاعف أزمة نيل الاعتراف الدولي من قبل الحكم الجديد. بجانب فتح صراعات سياسية لحسابات شخصية، تشكل مدخلاً لتدخلات إقليمية ودولية تُعنى بأجندتها الخاصة ولا تُعنى باستقرار سوريا أو مصلحتها.

من جانبها، فإن سلطة دمشق، التي تتشكل من فصائل متباينة بالمصالح والأيديولوجيا، لا تبدو معنية بإطلاق مسار انتقال سياسي يلبي تطلعات السوريين، بقدر عنايتها بتوسيع مساحة قبضتها على دفّة القرار السوري، وصولاً لهيمنتها على كامل القرار، كما أن توافقها قد لا يدوم طويلاً، بعد زوال هدفها المشترك، بجانب جهود محتملة من قبل هذه الفصائل منفردة لتعزيز مكاسبها السياسية والميدانية، بما يؤدي لإعادة تشكيل الدولة السورية بطريقة تقاسم الغنيمة من قبل مخلّصيها من براثن مغتصبها، أو جعلها رهينة لدى أحدهم.

ولعل الجهود المعلنة من قبل قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع، لإعادة هيكلة وزارة الدفاع قد تكشف صحة هذا التقدير من عدمه، ما قد يؤدي لإعادة تدوير عجلة الحرب السورية بين شركاء الأمس، إضافة لفلول النظام البائد التي ستعيد تنظيم صفوفها في مثل هذه الظروف، وتالياً تهديد وحدة الدولة السورية فعلياً.

بالمحصلة، حتى مع توافق هذه القوى فيما بينها، تثور العديد من الأسئلة حول قدرتها على التوافق على نظام ديموقراطي فشلت بتطبيقه حينما كانت تمثل حاضنتها الشعبية ومجتمعاتها المحلية الضيقة، وهي التي تتسابق حالياً لتعبئة فراغات السلطة برجال الولاء بدلا عن الأكفاء أو التكنوقراط، والفئة الأخيرة هي الأجدر والأوثق لقيادة مرحلة الانتقال السياسي في مثل هذه الظروف. كما أن إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، إن تمت بسلاسة، ستؤدي إلى بناء جيش هش وغير متجانس، موزّع التوجهات، وبعيد كل البعد عن المعايير الحديثة لبناء المؤسسات العسكرية. وتتعقد المسألة مع وجود جنسيات غير سورية تحمل السلاح ضمن فصائل تتماهى مع هيئة تحرير الشام، رغم استقلاليتها، ما يطرح الأسئلة حول إمكانية دمجهم بوزارة الدفاع المأمولة، أم تجنيسهم بعد تجريدهم من السلاح.

أما ما يخص وحدة الدولة وإعادة فرض سيادتها على كامل الجغرافية السورية، تكشف المغازلات المتبادلة بين قائد إدارة العمليات العسكرية وقيادات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن تفاهمات ضمنية بين الطرفين، ستتحوّل عاجلاً إلى مفاوضات علنية بأرضية نجاح عالية، في ظل حاجة كلا منهما للآخر لأسبابه الخاصة، ولتجّنب ضرورة الصدام بينهما، وفي ظل مفاوضات تركية كردية سابقة ومتقدمة ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية، قد تبلغ نهايتها المرضية في المنظور القريب، ما لم تتشدّد أنقرة بشروطها بعد إمساك شركائها المحليين بالسلطة في دمشق.

ويشكل المشهد السوري الحالي بيئة مثالية لعودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لاسيما بعد انسحاب قوات النظام البائد من نقاط التماس التي كانت تغطيها في أجزاء من البادية السورية حيث ينتشر أعضاء التنظيم الإرهابي، مع عجز قوات الحكم الجديد عن تغطية هذه النقاط، نظراً لقلة عددها مقارنة بالواجبات الضخمة العاجلة الملقاة على عاتقها حالياً. ورغم خسارة داعش بسقوط الأسد جاذبية مهمة لكسب اتباع ومؤيدين، إلا أن مؤشرات التسامح الديني والمذهبي التي غطت الفضاء السوري بعد زوال النظام قد يسدّ لها هذه الثغرة، لاسيما بعد الكم الهائل من الجرائم التي ارتكبت تحت مسميات عرقية/دينية/مذهبية مزعومة، وقد تلجأ داعش لإعادة ترويجها للدعاية لنفسها كحامية للدين والمذهب.

كما أن تحولات الهيئة وقائدها أبو محمد الجولاني، الذي بات يعرف باسم ولادته أحمد الشرع، تمنح داعش باباً لاستقطاب شخصيات متشدّدة، معارضة لهذه التحولات ضمن الهيئة والفصائل المتشدّدة المنضوية تحت لوائها، بما قد يؤدي لخلخلة داخلية أو انشقاقات في صفوف النواة الصلبة للحكم الجديد، حيث سيجد هؤلاء صعوبة في استيعاب التحولات الجديدة، والطروحات المعلنة لبناء الدولة، المتعلقة بالانتخابات وصياغة الدستور وحقوق المرأة والأقليات، مع انفتاح على الدول الغربية وتنظيم العلاقة مع المجتمع الدولي. لذا، فإن أكبر تحديات حاكم سوريا الفعلي تأتي من صفوف المجاميع التي يقودها ويمثلها قبل غيرها من المجاميع العسكرية والمدنية الطامحة.

لكن من أي دستور وتصريحات فضفاضة يتخوّف هؤلاء، بعد أن أثبتت الأيام الماضية تجاهل الأسس الدستورية الخاصة بإدارة مراحل الانتقالية السياسي في الحالات المماثلة، مع تقزيم تام للدستور، من خلال إعلان حكومة تفتقر للأهلية الدستورية والقانونية عن تجميد الدستور القائم وتشكيل لجنة لمراجعته وتعديل بعض مواده. ما يؤشر لانعدام الرؤية لدى سلطة دمشق الناشئة حيال القواعد السليمة لبناء الدول الحديثة، مع الإصرار على البقاء في حيز الجماعة وتوافقات قوى الأمر الواقع.

ومع تركيز العالم الغربي على تراجع الدور الروسي والإيراني في سوريا، تبدو نوايا إدخال سوريا في ساحة الاستقطاب الدولي بين الدول الغربية من جهة، وروسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية من جهة أخرى، وهو ما قد يؤدي لإطالة حالة عدم الاستقرار، وربما لإشعال حرب الوكالة ثانية على الأرض السورية.

أثبتت الأيام القليلة الماضية قدرة الحاكم الفعلي لسوريا على جذب الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، مع حسّ سياسي واعٍ لإدارة المشهد السوري الحالي، بخلاف سابقيه ممن تصّدروا واجهة معارضات نظام الأسد البائد. لكن هل ستكون لدى أحمد الشرع إرادة حقيقية لتنفيذ عملية انتقال سياسي، تفضي لانتخاب هيئة تأسيسية أو برلمانية تؤسس لحكومة سوريا الجديدة؟ وفي حال الإيجاب، هل سيتمكن الشرع من تجاوز حقول ألغام دهاليز السياسة وأوكارها، مع القنابل الموقوتة أعلاه؟

الأيام والأشهر القليلة القادة ستجيب على ذلك.

رصيف 22

—————————-

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى