سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
———————————
سياسة “جبر الخواطر” في سورية المقبلة/ علي العائد
22 ديسمبر 2024
تسود، اليوم، كل أنواع الفوضى في سورية، سوى فوضى الدم. على عكس سني الثورة منذ ما يزيد على 13 عامًا. الدم بدأ منذ يوم الثورة الأول، بعد الاعتقالات، و”كسر خواطر” أهالي درعا. ذلك كان السبب المباشر للثورة. أما الأسباب غير المباشرة فيعرفها أكثر ما يعرفها النظام السابق نفسه بسياقيه الاثنين المتنافسين على راديكالية قمعية لم تدع للسوريين فرصة أن يتنفسوا منذ بدايات ثمانينيات القرن الماضي، حيث جفَّت شجرة سورية وتجمعت حولها بقع الزيت لتشتعل في 18 مارس/ آذار 2011.
منذ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بدأ السوريون باستعادة ذاكرة التنفس، ومنهم من سيتأخر في استعادة هذه الذاكرة، حتى أن بعضهم ممن فقد لسانه منذ عقود، مع ذاكرته، أو لم يقرأ عن سنوات الثمانينيات المؤسسة للبنية الصلبة للقمع حسب تعليمات الأسد الأب، وتنفيذ وزير إعلامه، أحمد إسكندر أحمد، والقبضة الضارية للأفرع الأمنية المتناسلة، هؤلاء بدأوا باستعادة ذاكرة الكلام والتعبير، مع ما يشوب الكلمات الأولى من خلط وإبدال وكلمات مبعثرة لا تعبر عن قائلها. فقط من يريد جبر الخواطر يستطيع أن يفهم ماذا يريد قائلها.
لكن بعض من ليس لديهم ذاكرة أساء فهم ذاكرة فقراء السوريين، ليس فقط في سنوات الثورة السورية اليتيمة والمستحيلة، بل السنوات المؤسسة لها خلال 54 عامًا من حكم الأسدين، و61 عامًا من الانقلاب البعثي عام 1963. وهؤلاء أيضًا كان يمكن أن يستحقوا جبر الخواطر، لولا أنهم تخلفوا عن جبر خواطر من فقدوا رئات تنفسهم، وألسنتهم، في معتقلات تدمر، والمزة، وصيدنايا، خلال عقود من القمع طاولت معظم فئات الشعب السوري.
بعد أقل من أسبوعين فقط من طيران نظام الأسد، بدأت فلول أصحاب الذاكرة المثقوبة بالمطالبة بدولة مدنية علمانية، أو دولة مدنية ديمقراطية، أو بدستور مدني علماني، مع كل غموض هذه التعبيرات التي لا يفهم مطلقوها معناها، حتى إذا طلبنا منهم أن يشرحوها لنا لنذهب معهم سيتلعثمون ويكلون في البحث عن ألسنتهم من دون أن يجدوها.
في الأصل، لم يقل أحد خلاف ذلك، ولم يعترض أحد من السوريين على المضمون الغامض وغير المحدد لتعبيرات الديمقراطية المطلوبة بتنويعاتها المتاحة. لكن من قد يقولون: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” تظاهروا في ساحة الأمويين، منكرين على من كسر النظام خواطرهم خلال خمسين سنة أن يروا في الخبز والدفء والمدرسة أولوية، متناسين أن تنويعات الديمقراطية، مع مسائل أخرى أساسية، سيحددها الدستور المقبل للبلاد، مع بداية الفترة الانتقالية بعد الأول من مارس/ آذار 2025، وأن ما قبل هذا التاريخ هو فترة إسعافية للبلاد الجريحة، ليتنفس فيها السوريون، ويعود من يعود من اللاجئين إلى بيوتهم، أو من النازحين إلى مدنهم، أو قراهم، ليجدوا خبزًا وبيتًا دافئًا، ومدرسة قد تعوض خمسة ملايين من الأطفال عن فقدان أكثر من 15 مليارًا و600 مليون يوم دراسي خلال أكثر من 13 عامًا.
أليس هذا أول أوليات الديمقراطية؟ ألا تأتي المساواة في حقوق أطفالنا في الخبز والتعليم قبل أي من شروح الديمقراطية الفضفاضة التي لن يفهمها الجائع والمشرد في خيمة؟ وفروا له ذلك، ومن ثم أعدوا له منهجًا لشرح تلك الديمقراطية! وبالتأكيد سيفرح منكم، لأن الديمقراطية ستضمن لك دوام الخبز والدفء والتعليم والعلاج.
نحن، من نعيش خارج البلاد، لم نشاهد على التلفزيونات في ساحات الاحتفال في المدن السورية فقراء سورية ومشرديها. بالتأكيد هم موجودون في الساحات الخلفية، وفي أحيائهم المدمرة، أو في خيامهم، وهم أكثر من فرحوا بالأمل الجديد. الأمل الجديد يعني الخبز والمستشفى والمدرسة والبيت الدافئ، أولًا، وجبر الخواطر قبل كل ذلك، وليس العلمانية والديمقراطية بالأساس. وحين يتحقق ذلك سيكون صوتهم أعلى من صوت فاقدي الذاكرة الأميين إنسانيًا، ببساطة لأن عنوان الديمقراطية، بما ينطوي تحته من قوانين تحفظ لهم كرامتهم وخبزهم وتعليمهم واستشفاءهم، هي من تضمن دوام توفر أساسيات حياته، وعندها سيقولون بصوت أعلى من صوتكم “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”.
من جهة أكثر حزنًا من كل تراجيديات التاريخ، هيئات من خرجوا يطالبون بالدولة المدنية العلمانية الديمقراطية، وربما الشعبية، أو البرلمانية، لا تدل على أن لديهم مشكلة خبز، وبيت دافئ. هنيئًا لهم، لكن سورية لا تزال بيتًا فيه مأتم وعويل، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، وهنالك من يتمنى أن يجد جثة ابنه، أو أخيه، لينصب له بيت عزاء. فهل لمثل هذا ستتحدث بعد أقل من أسبوعين من عودة الروح عن الديمقراطية والدولة المدنية؟ قبل ذلك، عليك الاعتراف أنك مدين بصوتك هذا المرتفع اليوم لأصوات الذين خنقهم النظام في بحثه اليائس عن أبد مستحيل.
قبل أسبوعين من اليوم، وعلى أعتاب مدينة حلب، لم يكن يشطح خيال أكثر المتفائلين في إمكانية دخول المقاتلين مدينة حلب. لكن، بعد الوصول إلى مدينة حماة، ساهم أحد الأصدقاء الكرد بنظرية “ثلث، بثلث، بثلث” في إشارة إلى أن سورية الجديدة ستشبه كأس العرق، في أحد اجتهادات “أصحاب الكيف”، وأن سورية سيتم تقسيمها إلى ثلاثة كيانات، في حركة “تغميس خارج الصحن”.
اليوم، لا تزال مناطق الجزيرة السورية محل نزاع بين السوريين، مع تداخل مربك للمشهد من تركيا وأميركا. ولأن الإرباك السوري الداخلي سيجد حله بالحوار، ومن دون دم، بزوال العاملين المربكين الخارجيين، فإن “نظرية المثالثة” زال خطرها، وإن كان بعض السوريين لا يزال حذرًا أمام طرح كرد سورية للنظام الفيدرالي للدولة الجديدة. هذا أيضًا يحتاج إلى “جبر خواطر” في هذه المرحلة، جبر خواطر للطرفين، مع أن نظرية “تضحية قسد بعشرة آلاف مقاتل من أجل القضاء على داعش” ليست مقنعة لي، أنا ابن الرقة، مع تدمير 80% من الرقة بقصف الطائرات الأميركية (24 يونيو/ حزيران حتى 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2017)، وقتل أكثر من 3000 مدني من الرقة، وخروج مقاتلي داعش معززين مكرمين في اتجاه دير الزور والبادية السورية.
“جبر الخواطر” هذا يشمل، بالطبع، فقراء الكرد، من المقاتلين والمدنيين، ممن خدعتهم القوى المتدخلة خلال أكثر من مئة عام بحلم الدولة، كما يشمل الأضرار الجانبية التي عانى منها معظم فقراء الجزيرة السورية الذين وقعوا تحت سلطة داعش، ثم قسد. يكفي، هنا، أن نبحث عن ملف مخدر “إتش بوز” في الرقة، لنجد المعادل الموضوعي لجمهورية الكبتاغون، ولنعرف لمن سنوجه السؤال عن سبب فقدان عشرة آلاف كردي حياتهم بناء على التحالف مع أميركا في مواجهة داعش!
ملف الديمقراطية السورية حاضر، وواجب، ومستحق للسوريين، لكن بعد طي ملف “جبر الخواطر”. نعم، هو ملف سياسي بكل معنى الكلمة، فخواطر أهل حماة لم تُجبر بعد أكثر من أربعين عامًا من المذبحة، وخواطر كل سوري وسورية تحتاج إلى أعوام كثيرة ما بعد استعادة الروح والأمل كي يجبروا خواطر بعضهم، مع التأكيد على ألا ننسى، ليس نحوًا في اتجاه الانتقام، بالقانون أو بغيره، بل كي لا نقع في حفرة الديكتاتورية مرة أخرى.
هل تذكرون حرب لبنان (1975 – 1990)، التي سميت، خطأ، حربًا أهلية، وأراد بعضهم أن يُلصق هذا التوصيف بالحرب في سورية؟ هذه الحرب لا تزال مستمرة بأشكال مختلفة تتناسل في أعوام ما بعد 1990، لأنها انتهت بصيغة لا غالب ولا مغلوب بين زعماء الإقطاع السياسي اللبناني، من دون أن يتم جبر خواطر فقراء اللبنانيين. تلك الحرب خلفت في أقل التقديرات 120 ألف قتيل، وحتى عام 2012 كان حوالي مليون لبناني خارج ديارهم، في نزوح، أو تشرد. وهنالك من هم ما زالوا مجهولي المصير، في معتقلات النظام السوري السابق، أو ضحية القتل على الهوية، وهؤلاء هم في حكم المغيبين حتى اليوم. ولن يُغلق ملفهم ما لم يتم جبر خواطر أحبائهم.
وحدهم، من ضمن من تسعفني ذاكرة قراءاتي، هم اليهود، ممن تم جبر خواطرهم، فأوروبا، وأميركا، ولغاية في نفس الأنكلوساكسونيين، جبرت خواطر اليهود، فأسس بعض اليهود دولة “إسرائيل” الديمقراطية، التي ذبحت أرض فلسطين بالمعنى الحرفي للكلمة، ولا زالت سكاكينها تقطع رقاب الفلسطينيين، وأرضهم، وزيتون سلامهم.
فهل يخشى الآن بعض السوريين أن جبر خواطر العرب السُنّة السوريين سيحيلهم إلى يهود يتحكمون في رقاب المكونات الأخرى للشعب السوري، وكل ذلك خلال أقل من ثلاثة أشهر، بعد 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وحتى الأول من مارس/ آذار 2025؟!
ضفة ثالثة
—————————
تحديات الاقتصاد والأمن والسياسة: حكومة المرحلة أمام اختبار الـ90 يومًا/ حسن إبراهيم | هاني كرزي | جنى العيسى
22 كانون الأول 2024
بدأ العد التنازلي لحكومة تسيير الأعمال السورية، التي تدير دفة الحكم على أنقاض منظومة هشة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، في مسار مدته 90 يومًا، لا يزال يتسم بالضبابية والتشتت، وتعترضه المطبات، مع حديث عن التحول من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة والمؤسسات.
تحت أنظار ومراقبة دولية وأممية وشعبية، تحبو حكومة تسيير الأعمال في أروقة حكم سوريا، آخذة بالتوسع بدءًا من نواتها حكومة “الإنقاذ” التي كانت تعمل في إدلب، منذ 2017، إلى السيطرة على مفاصل القطاعات في عموم الجغرافيا السورية.
بلد منهك وممزق ومدمّر، يحمل إرثًا وعبئًا ثقيلًا تمتد جذوره لـ53 عامًا من سيطرة آل الأسد، قبع آخر 13 عامًا ضمن أسوأ مراكز التصنيف العالمية على مستويات عدة، ينتظر منذ هروب بشار الأسد، في 8 من كانون الأول الحالي، تغييرات بالحد الأدنى، مع آمال بالتعافي تدريجيًا، وخلق أرضية تؤسس لدولة يحلم بها السوريون.
في هذا الملف، تسلط عنب بلدي الضوء على خطوات حكومة تسيير الأعمال سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، والممكن إنجازه في فترة الـ90 يومًا، والعقبات أمامها، وتناقش مع مختصين وخبراء تفاصيل هذه الخطوات والأولوية فيها، والمطلوب تقديمه، ومآلاتها.
ثلاث مراحل لبداية سوريا جديدة
في 27 من تشرين الثاني الماضي، أطلقت فصائل المعارضة السورية عملية “ردع العدوان” ضد قوات نظام بشار الأسد وحلفائه، أفضت خلال 11 يومًا إلى سقوط النظام، وفرار الأسد إلى روسيا.
وكلفت “إدارة العمليات العسكرية” التي دارت المعركة، محمد البشير (رئيس حكومة الإنقاذ)، في 10 من كانون الأول، بتشكيل حكومة تسيير أعمال لمدة مؤقتة، حتى 1 من آذار 2025، والتي بدأت بتسلّم المهام والصلاحيات.
وتصدر قائد “إدارة العمليات العسكرية”، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، المشهد، وقابل عدة وفود دولية وأممية في العاصمة دمشق، وحدد ثلاث مراحل يجب أن تمر بها سوريا، الأولى تسلم حكومة مؤقتة، وهو ما تحقق بوجود حكومة تسيير الأعمال.
المرحلة الثانية تتمثل بدعوة لمؤتمر وطني جامع لكل السوريين، يصوت على بعض المسائل المهمة مثل حل الدستور وحل البرلمان، وتشكيل مجلس استشاري يملأ الفراغ البرلماني والدستوري خلال الفترة المؤقتة (تسيير الأعمال)، حتى تكون هناك بنية تحتية لانتخابات (المرحلة الثالثة) في ظل وجود قرابة نصف السوريين خارج البلاد، وكثير منهم ليس لديه وثائق، وهناك حاجة لإحصاء شامل والتواصل مع الجاليات في المهجر.
وقال الشرع، إن من حق الناس أن يختاروا من يحكمهم ويمثلهم في مجلس النواب، ولا أحد يستطيع إلغاء الآخر في سوريا، مع وعود بمحاولة الوصول عبر الحوار لعقد اجتماعي كامل يحافظ على أمن مستدام للسوريين، لافتًا إلى أن الحكم في سوريا سيكون متناسبًا مع ثقافة وتاريخ البلد، وأن سوريا لن تكون نسخة من أفغانستان.
الاقتصاد وحاجة الناس.. تأمين الوقود أولوية
يعد الملف الاقتصادي والمعيشي في سوريا من أبرز التحديات التي تواجه حكومة تسيير الأعمال، خاصة في ظل تعطل الإنتاج منذ سنوات وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين.
لا يمكن اختزال ما أدى لتدهور الاقتصاد خلال فترة حكم الأسد بعد عام 2011 ببضعة أسطر، إلا أن بعض القوانين التي سنّها أسهمت بشكل مباشر بإفقار السوريين، فيما لم تمنع بعض الإجراءات من تدهور القوة الشرائية.
إلى جانب العديد من القرارات، تبرز مسألة نقص الوقود التي عطلت عشرات المنشآت الصناعية والتجارية، وشلّت حركة التجارة، الأمر الذي أثر سلبًا على المعروض في الأسواق المحلية، ودفع بأسعار السلع للصعود بشكل يفوق قدرة الناس على الحصول عليها.
وخلال السنوات الماضية، لجأت حكومة النظام المخلوع إلى تحرير أسعار العديد من السلع أبرزها المحروقات، لكنها لم تقابل هذا الإجراء بزيادة مجزية للرواتب من شأنها تقليل الفجوة.
الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، ومدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية، الدكتور عبد الله الدردري، قال قبل أيام، إن التقديرات الأممية الأولية تشير إلى أن الاقتصاد السوري خسر حتى الآن 24 عامًا من التنمية البشرية.
وأوضح الدردري أن الناتج المحلي الإجمالي سجل تراجعًا كبيرًا من 62 مليار دولار أمريكي في عام 2010 إلى 8 مليارات فقط في عام 2023، في تصريحه لصحيفة “الشرق الأوسط”، في 13 من كانون الأول الحالي.
فيما ارتفع معدل الفقر في سوريا من 12% في عام 2010 إلى أكثر من 90% في 2023، مع تجاوز معدل الفقر الغذائي نسبة 65% من عدد السكان، بحسب التقديرات الأممية.
في ظل هذه المعطيات، تواجه حكومة تسيير الأعمال تحديًا صعبًا في إحداث تغيير إيجابي ينعكس على السوريين، وسط عدم وجود فرص واضحة قد تدعم رغبتها بالتغيير.
نحو اقتصاد حر
في الأيام العشرة الأولى لتسلمها الحكم في سوريا، لم تتضح بعد خطة حكومة تسيير الأعمال في الشأن الاقتصادي، إلا أنها ألغت العديد من القرارات التي أرهقت أصحاب رؤوس الأموال، في بادرة اعتبرها مختصون أنها على الطريق الصحيح لتعافي الأنشطة الاقتصادية.
من أبرز تلك القرارات إلغاء “منصة المستوردات”، وإلغاء الدليل التطبيقي للاستيراد، والسماح باستيراد جميع المواد من كل دول العالم، وإلغاء جميع الرسوم المفروضة على الاستيراد والتي كانت تضاف إلى الرسوم الجمركية، وإلغاء نظام التسعير للسلع المنتجة محليًا والمستوردة، فضلًا عن توحيد سعر الصرف بنشرات سعر الصرف الصادرة عن مصرف سوريا المركزي، بالإضافة إلى وقف منع التداول بالعملات الأجنبية.
رئيس غرفة “تجارة دمشق” صرح بأن حكومة تسيير الأعمال أبلغت رجال الأعمال بأنها ستتبنى نموذج السوق الحرة وتدمج البلاد في الاقتصاد العالمي.
اقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر أو نظام الاقتصاد الرأسمالي، هو نظام يسمح للفرد بالقيام بأي نشاط اقتصادي يريده، وافتتاح أي مشروع، بالإضافة إلى حرية التعاقد بين الأفراد والمؤسسات، دون تدخل الدولة أو أجهزتها بذلك، بمعنى أن تترك الدولة السوق تضبط نفسها بنفسها دون أي تدخل في الأنشطة الاقتصادية.
وجود نظام اقتصاد السوق الحرة لا يعني غياب الدولة والقطاع العام في تنظيم الحياة الاقتصادية داخل المجتمع، لأن الاقتصاد الحر قد يتسبب في احتكار بعض المؤسسات والأفراد للسوق من خلال احتكار المنتجات، لذلك نشأت فكرة “الاقتصاد الاجتماعي”، وهو بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي، وتسعى الدولة من خلاله إلى تحقيق الموازنة والمساواة بين أفراد الوطن، وإعطاء الطبقات المتوسطة والفقيرة حقوقها.
سياسة الاقتصاد الحر تقوم على تحرير الاقتصاد وجعل الأسعار مرتبطة بالعرض والطلب للسلع، دون تدخّل من قبل الدولة كما هي الحال في النظام المركزي الاشتراكي.
الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة “دمشق” الدكتور سليمان موصلّي، قال لعنب بلدي، إن سوريا تحولت بين يوم وليلة من اقتصاد القلة إلى اقتصاد السوق، موضحًا أن هذا التحول يجب أن ترافقه إجراءات تدريجية ومناسبة حتى يستعيد السوق توازنه.
وأوضح موصلّي أن من بين تلك الإجراءات عدم زيادة الرواتب بنسبة 300% دفعة واحدة، بل بشكل تدريجي مثلًا 100% كل عام، وعدم السماح باستيراد السيارات في هذه المرحلة لأن ذلك يستنزف القطع الأجنبي المحدود أصلًا.
كما يجب فرض رسوم جمركية بشكل انتقائي على السلع الكمالية، وإطلاق حملات لجذب الاستثمارات الأجنبية بصيغة الشركات المساهمة، وفق ما يرى الدكتور في الاقتصاد.
الرواتب أم الدعم.. ما الأولى؟
التوجه نحو الاقتصاد الحر سيلغي نظام دعم السلع، وهو ما لوحظ فور تسلم الحكومة لمهامها، إذ رافقت عملية إلغاء “البطاقة الذكية” التي كان يشتري الناس بموجبها ربطة الخبز بـ500 ليرة سورية، تحرير أسعار المادة، وبيعها بأكثر من 2000 ليرة سورية.
رغم أن عددًا من الخبراء لا يشجعون على استكمال نظام دعم السلع، فإن وقف العمل به دون إجراءات اقتصادية موازية قد يفقر الناس أكثر، ويزيد من تدهور قوتهم الشرائية.
خلال الأيام الماضية، وعد الشرع بزيادة على الرواتب والأجور قدرها 400% من أصل الرواتب الحالية، دون أن يذكر بدقة متى أو كيف سيبدأ العمل بها، سبقته وعود من محمد البشير بزيادة قدرها 300%.
الباحث الاقتصادي خالد تركاوي، قال لعنب بلدي، إن أولويات هذه المرحلة بالنسبة لحكومة تسيير الأعمال يجب أن تتركز على الخبز والوقود ورفع الرواتب.
وأضاف تركاوي أن نسبة الفقر الكبيرة تجعل مادة الخبز أساسية لكل عائلة كمكون غذائي شامل.
تركاوي أوضح أن تحسين حركة الوصول إلى الوقود في سوريا بهذه المرحلة أمر مهم، كونه يحرك المصانع والمواصلات وتأمين الطعام والدفء للعائلات، ويحسّن من وصل التيار الكهربائي، وغيرها من القطاعات التي تبنى بشكل رئيس على الوقود.
ويرى الباحث الاقتصادي أن مسألة رفع الرواتب قضية مهمة في هذا السياق، خاصة في حال كانت بنسبة مجزية كما جرى الحديث عنها (حوالي 400%)، إذ سيزيد ذلك من القوة الشرائية للمواطنين، وسيصبحون أكثر قدرة على الحصول على موادهم الأساسية.
ويعتقد الباحث أن زيادة الرواتب من شأنها تدوير عجلة الاقتصاد في البلاد بشكل سريع ومهم، إذ ستصرف هذه الرواتب في الأسواق، وتزيد الطلب على المواد والسلع بأنواعها، وبالتالي ستتعزز الحركة الإنتاجية.
“زيادة الرواتب يمكن تأجيلها”
إلى جانب تأمين السلم الأهلي للمواطنين، يجب على حكومة تسيير الأعمال في هذه المرحلة تأمين متطلبات الحد الأدنى للمعيشة للمواطنين، بحسب ما يرى الباحث الاقتصادي رضوان الدبس.
ويتفق الباحث رضوان الدبس مع الباحث خالد تركاوي، بأن ملف الطاقة والوقود من أبرز الأولويات، كونه مشغلًا لكل القطاعات الإنتاجية، ويؤدي توفر الوقود إلى توفر الكهرباء والمياه والزراعة والإنتاج وتشغيل الأفران والمواصلات وغيرها.
فيما يتعلق بموضوع زيادة الرواتب، اعتبر رضوان الدبس أن من المبكر الحديث عن هذه الخطوة، خاصة خلال الأشهر الثلاثة لتسلم حكومة تسيير الأعمال.
الدبس فسر رؤيته بأن سوريا كانت غارقة بفساد عميق ومشكلات اقتصادية كبيرة من نهب وسرقات، ما يجعل من الصعب تحمل عبء رفع الرواتب بنسبة كبيرة على ميزانية الدولة، التي لا تستطيع تأمين هذه النسب من الزيادة أساسًا.
وأشار الباحث إلى أن قدرة الحكومة في الوقت الحالي على محاربة احتكار المواد للتجار وتحسين أسعار بعض السلع وضبطها، قد تساعد الناس على تأمين احتياجاتهم الأساسية دون إرهاقهم.
12.9 مليون يعانون انعدام الأمن الغذائي
في 12 من كانون الأول الحالي، قال برنامج الأغذية العالمي، إن هناك حاجة إلى تمويل بقيمة 250 مليون دولار خلال الأشهر المقبلة في سوريا لتلبية الاحتياجات الإنسانية.
وقال مدير برنامج الأغذية العالمي في سوريا، كين كروسلي، إنه خلال هذه الفترة الحرجة التي تمر بها سوريا، توجد فرق برنامج الأغذية العالمي على الأرض لضمان حصول الأشخاص الأكثر ضعفًا في البلاد على المساعدات الغذائية العاجلة التي يحتاجون إليها.
وأضاف كروسلي، “في الوقت الحالي، أصبحت طرق الإمداد التجارية معرضة للخطر، وارتفعت أسعار المواد الغذائية، وانخفضت قيمة العملة السورية، كما أن المواد الأساسية مثل الأرز والسكر والزيت أصبحت نادرة، وارتفعت أسعار الخبز، ما يجعل من الأهمية بمكان أن نكثف جهودنا للمساعدة خلال موسم الشتاء هذا”.
وبحسب برنامج الأغذية العالمي، فإن حوالي 12.9 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي في بداية هذا العام، بمن في ذلك ثلاثة ملايين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد، في حين انخفضت المساعدات الإنسانية بشكل كبير بسبب نقص التمويل.
قائد “القيادة العامة” في سوريا أحمد الشرع مع عسكريين في الفصائل السورية – 21 كانون الأول 2024 (القيادة العامة)
قائد “القيادة العامة” في سوريا أحمد الشرع مع عسكريين في الفصائل السورية – 21 كانون الأول 2024 (القيادة العامة)
ملفات سياسية على الطاولة.. “العقوبات والإرهاب” تحت المجهر
ملفات كثيرة على طاولة حكومة تسيير الأعمال خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، وسط مساعٍ لتجاوز بعض العقبات التي تحد أو تعوق عملها، على رأسها إلغاء العقوبات الغربية المفروضة على سوريا في عهد الأسد، وتصنيف “هيئة تحرير الشام” أبرز فصائل المعارضة على قائمة “الإرهاب”.
كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى فرضت عقوبات اقتصادية وسياسية على نظام الأسد وشخصيات مرتبطة به، منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، ردًا على انتهاكات حقوق الإنسان، والقمع الدموي الذي قابل به الثورة.
بعد سقوط نظام الأسد، تكررت دعوة الشرع إلى رفع العقوبات الغربية عن سوريا، قائلًا إن جميع القيود بحاجة إلى رفع حتى تتمكن سوريا من إعادة البناء، وإن العقوبات كانت مفروضة على “الجلاد الذي رحل الآن”.
إزالة من التصنيف.. واشنطن تفرد أوراقها
طالب قائد “إدارة العمليات العسكرية”، أحمد الشرع، برفع اسم “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب، وفي مقابلة مع قناة “بي بي سي” البريطانية، شدد الشرع على أن “الهيئة” ليست جماعة “إرهابية”، وأنها لم تكن تستهدف المدنيين أو المناطق المدنية، وكانت ضحية لجرائم الأسد.
قائد الجناح العسكري في “تحرير الشام“، مرهف أبو قصرة الملقب بـ”أبو حسن الحموي”، طالب بحذف “الهيئة” وقائدها الشرع من قائمة “الإرهاب” الخاصة بالمنظمات والأفراد.
“هيئة تحرير الشام” رأس حربة الفصائل التي شاركت بعملية “ردع العدوان”، ابتعدت عن التصريح أو الظهور بشكل رسمي كفصيل عسكري، منذ 27 من تشرين الثاني الماضي، وكل ما يتعلق بها يندرج تحت عمل “إدارة العمليات العسكرية”، وحكومة تسيير الأعمال في دمشق.
وباختلاف المسميات، بدءًا من “جبهة النصرة” إلى “جبهة فتح الشام” إلى “هيئة تحرير الشام”، لا يزال الفصيل مدرجًا على قوائم الإرهاب لدى أمريكا وعدة دول أخرى، لكن ذلك قيد النظر، ويعتمد على تغيير السلوك، حيث أبدت واشنطن لهجة مختلفة تجاه الفصيل وقائده.
الولايات المتحدة التي لا تزال تصنّف “أبو محمد الجولاني” كـ”إرهابي عالمي” منذ أيار 2013، أوقفت مؤخرًا رصد مكافأة قدرها 10 ملايين دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات عنه، بعد أن عرضتها منذ 2020.
وفي 20 من كانون الأول الحالي، أجرت واشنطن أول محادثات رسمية مع الشرع، عبر لقاء جمعه بمساعدة وزير الخارجية الأمريكي، باربرا ليف، وسفير الولايات المتحدة، روجر كارستينز، والسفير دانيال روبنشتاين، في دمشق، لتكون أول زيارة لدبلوماسيين أمريكيين إلى العاصمة السورية منذ عام 2012.
ولم توضح المسؤولة الأمريكية ما إذا كانت واشنطن سترفع أيضًا اسم الشرع من قائمة الإرهاب.
وقالت ليف في مؤتمر صحفي افتراضي حضرته عنب بلدي، إن الشرع شخص براغماتي، و”سمعت منه تصريحات عملية ومعتدلة للغاية حول قضايا المرأة والحقوق المتساوية، والمناقشات معه كانت جيدة ومثمرة للغاية”.
وأضافت أن بلادها تدعم عملية سياسية يقودها السوريون تؤدي إلى حكومة شاملة تحترم حقوق الجميع، وجرت مناقشة عدة نقاط هي:
الحاجة لضمان عدم تمكن الجماعات “الإرهابية” من تشكيل تهديد لسوريا، والتزم أحمد الشرع بذلك.
تقديم الولايات المتحدة الدعم الفني إلى سوريا لتوثيق جرائم نظام بشار الأسد، وستكون القبور الجماعية أولوية.
تنظر الولايات المتحدة في أمر العقوبات، و”يتعين على الحكومة السورية الجديدة أن تكون متجاوبة وتظهر التقدم”.
تعمل واشنطن على إرسال مسؤولين أمريكيين إضافيين إلى دمشق للمساعدة في البحث عن المواطنين الأمريكيين.
ورحبت ليف بالرسائل الإيجابية، لكنها تتطلع إلى إحراز تقدم بشأن هذه المبادئ عبر الأفعال وليس الأقوال، مشيرة إلى أن التواصل مع السوريين والاستماع إليهم بشكل مباشر مثّل فرصة مهمة، ولديهم فرصة نادرة لإعادة بناء وتشكيل بلادهم.
وفي هذا الإطار، دعا وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، السلطات الجديدة في سوريا إلى ضرورة الاستفادة من تجربة “حركة طالبان” في أفغانستان، وإلا ستلاقي “عزلة في جميع أنحاء العالم”، وهو ما نفاه الشرع، قائلًا إن “سوريا نموذج مختلف”.
ولفت بلينكن إلى أنه على “المجموعة الناشئة في سوريا”، إذا كانت لا تريد العزلة، تحريك البلاد إلى الأمام والتأكد من المضي قدمًا بطريقة شاملة، وغير طائفية، للتعامل مع الأقليات وحمايتها، والتعامل مع بعض التحديات الأمنية، سواء كانت الأسلحة الكيماوية، أو مجموعات مثل تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وفي تحليل نشره معهد “واشنطن لدراسات الشرق الأدنى“، اعتبر أنه يمكن شطب جماعة معينة من قائمة “الإرهاب”، إذا قرر وزير الخارجية الأمريكي أن الظروف الأصلية التي أدت إلى التصنيف قد تغيّرت بما يكفي لتبرير إلغائها أو أن مصالح الأمن القومي الأمريكي تبرر إلغاءها.
وذكر أن إلغاء هذه العقوبات أمر أساسي لمنح القيادة السورية ما بعد الأسد فرصة لبناء نوع مختلف من الحكومة والبلد، ولكن أي عملية شطب من قائمة “الإرهاب”، سواء على مستوى الدولة أو الجماعة أو الأفراد، يجب أن تكون عن طريق الاستحقاق، وليس عن طريق الهبة.
ماذا عن تصنيف الدول الأخرى
طالب وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، الدول الغربية بإعادة النظر في تصنيف “تحرير الشام” على قوائم “الإرهاب”، مشيرًا إلى أن بلاده ستعيد النظر في هذا التصنيف.
وزير الخارجية الهولندي، كاسبار فيلد كامب، اعتبر أن الوقت ما زال مبكرًا لرفع العقوبات، مشددًا على أن أي خطوة للتسامح يجب أن تكون مشروطة.
كما دعا وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس، إلى إجراء حوار مع الإدارة الجديدة في سوريا قبل التفكير في رفع العقوبات، مشددًا على ضرورة وضع خطوط حمراء تُحدد مستقبل البلاد.
أما رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، فشددت على أنه يمكن إعادة النظر في العقوبات الاقتصادية واسعة النطاق على سوريا، في حال أحرزت القيادة الجديدة تقدمًا نحو انتقال شامل وديمقراطي للسلطة.
روسيا، أبرز حلفاء النظام السوري المخلوع، والتي تدخلت في سوريا عسكريًا منذ أيلول 2015، قالت إنها ستبدأ تقييمًا بشأن إزالة “هيئة تحرير الشام” من قائمة “الإرهاب”.
الخبير في الشأن الروسي الدكتور محمود الحمزة، يرى أن تصريحات موسكو هدفها التأثير إيجابًا على “هيئة تحرير الشام” والحكومة السورية الجديدة، لكسب ودها وبناء علاقة جيدة معها، كون الوجود الروسي في سوريا متعلقًا بالتفاوض مع الحكومة الجديدة في دمشق.
ليكون هناك تعاون مع الحكومة السورية الجديدة، أعتقد أن على روسيا أن تقدم مبادرات وتظهر حسن نية، كتقديم مساعدات إنسانية، والأهم من ذلك تسليم بشار الأسد للحكومة السورية، كون هذا الأمر مطلبًا شعبيًا، وإذا تجاهلت موسكو هذا الطلب سيؤثر ذلك على علاقتها مع حكومة تسيير الأعمال.
ويتوقع الحمزة أن تماطل روسيا كثيرًا في إزالة “تحرير الشام” من قائمة “الإرهاب”، حتى تأخذ ضمانات من الحكومة الجديدة بما يخص وجودها في سوريا، والدليل على ذلك أن روسيا منذ عام تتحدث أنها ستزيل “حركة طالبان” من قائمة “الإرهاب”، لكنها لم تفعل ذلك رغم تواصلها المباشر مع الحركة.
أبو محمد الجولاني قائد “هيئة تحرير الشام” في قلعة حلب بعد السيطرة عليها – 4 من كانون الأول 2024 (إدارة العمليات العسكرية)
أبو محمد الجولاني قائد “هيئة تحرير الشام” في قلعة حلب بعد السيطرة عليها – 4 من كانون الأول 2024 (إدارة العمليات العسكرية)
معضلة “الإدارة الذاتية”.. نقص خبرة دبلوماسية
من أبرز التحديات السياسية والأمنية الداخلية، ملف التعامل مع “الإدارة الذاتية” وجناحها العسكري “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تسيطر على مناطق شمال شرقي سوريا، وهو ما تتعامل معه “القيادة العامة” وحكومة تسيير الأعمال.
بعد يومين من سقوط نظام بشار الأسد، أبدى قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي، استعداده للتواصل مع السلطة الجديدة في دمشق، مشددًا على ضرورة تمثيل جميع المناطق والمكونات من خلال الحوار.
“الإدارة الذاتية” أطلقت مبادرة للحوار مع “القيادة العامة” التي تولت زمام الإدارة في العاصمة دمشق، وقالت، في 16 من كانون الأول، إن التعاون سيكون في مصلحة جميع السوريين، وسيُسهم في تسهيل الخروج من هذه المرحلة.
تدعم أمريكا “قسد” وتعتبرها شريكة لها في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، بينما تعتبر أنقرة أن “قسد” إرهابية وامتداد لحزب “العمال الكردستاني”.
الدعوات للحوار مع حكومة تسيير الأعمال، ترافقت مع قيام “الإدارة الذاتية” برفع علم الثورة السورية على جميع المجالس والمؤسسات والإدارات والمرافق التابعة لها بمناطق سيطرتها.
في المقابل، قال قائد الجناح العسكري في “تحرير الشام”، مرهف أبو قصرة، إن مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” ستُضم إلى حكومة تسيير الأعمال في دمشق، و”سوريا لن تتجزأ ولن توجد فيها فيدراليات”، وفق تعبيره.
وخلال لقائه مع إعلاميين، قال الشرع، إن الكرد جزء من الوطن، وتعرضوا لظلم كبير، وإنهم جزء أساسي من سوريا القادمة، لافتًا إلى ضرورة العيش معًا وأن يأخذ كل فرد حقه بالقانون، مشيرًا إلى ضوابط جديدة وتاريخ جديد في سوريا.
مدير مركز “رامان للدراسات” بدر ملا رشيد، اعتبر أن إمكانية وجود دور لـ”الإدارة الذاتية” في الحكومة السورية الجديدة، يتوقف على عدة عوامل، منها موقف حكومة تسيير الأعمال خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، فحتى الآن تتمحور مقاربة أحمد الشرع حول الانفتاح على المبادرات الفردية، وتجنب الدخول في المحاصصة السياسية والعسكرية قدر الإمكان.
وأضاف ملا رشيد لعنب بلدي، أنه في حال رغبت الحكومة الجديدة بتعزيز شرعيتها السياسية، وتقوية الأمن والتهدئة الداخلية، فإنها ستتجه في مرحلة مقبلة لتغيير مقاربتها بشكل يسهل انضمام أطراف أخرى لما يشبه الجمعية العمومية، وهذا مرتبط بقيام “الإدارة الذاتية” بقطع كامل علاقتها مع حزب “العمال الكردستاني”، وتقبلها لفكرة مشاركة الغير على قدم المساواة، حينها ستتمكن من الانخراط بمرونة أكبر ضمن التفاعلات السياسية والحكومية في دمشق.
ويرى ملا رشيد أن المعضلة الحقيقية التي ستعترض حكومة تسيير الأعمال قريبًا، هي التشاركية في الحكم مع “الإدارة الذاتية”، وشكل مقاربتها لواجبات وحقوق الإثنيات والأديان والطوائف السورية المختلفة، والتي تنتشر بكثرة في مناطق “الإدارة الذاتية” شمال شرقي سوريا.
نضج سياسي
عقب انطلاق معركة “ردع العدوان”، أطلقت الإدارة السياسية في فصائل المعارضة سلسلة من البيانات، التي حملت رسائل تطمين لمختلف الطوائف والأديان في سوريا، ووجهت رسائل إلى الخارج أيضًا.
أبرز هذه الرسائل هي أن الشعب السوري يسعى لبناء علاقات إيجابية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع كل دول العالم، بما في ذلك روسيا، مع اعتبارها “شريكًا محتملًا” في بناء مستقبل مشرق لسوريا.
وعقب سقوط الأسد، شهدت سوريا حراكًا دبلوماسيًا، حيث أعادت دول فتح سفاراتها في دمشق، بينما أعلنت دول أخرى نيّتها لذلك قريبًا، كما أعلنت “إدارة الشؤون السياسية” تعيين ثلاثة أشخاص كمسؤولين عن الملف الدبلوماسي وعمل السفارات داخل سوريا.
الدبلوماسي السوري السابق داني بعاج، اعتبر في حديث لعنب بلدي أن البيانات التي أصدرتها حكومة تسيير الأعمال تدل على وجود وعي ونضج سياسي لديها، ومسؤولية سياسية عالية وفهم لطبيعة البلد والمرحلة المقبلة، ولا سيما بيانات طمأنة الأقليات والتأكيد على عدم الانتقام من أتباع الأسد، حيث كانت تلك البيانات بمثابة حجر أساس لمرحلة الانتقال السياسي.
وأضاف بعاج أنه رغم النضج السياسي الذي بدت عليه حكومة تسيير الأعمال، من حيث البيانات التي أطلقتها، كان هناك ضعف في الخبرة الدبلوماسية، فخلال جلسة مجلس الأمن الأخيرة، كان أمام الحكومة السورية فرصة مهمة أن تكتب بيانًا يلقيه سفيرها قصي الضحاك، الذي كان سيعكس تصور أول حكومة سورية حرة، وما خططها وموقفها من القرار “2254” والانتقال السياسي، وهو ما كان سيسهم في وضع الحكومة الجديدة أول حجر لفرض كلمتها على الساحة الدولية.
خطوات من الشرع والدول
الباحث في شؤون الحركات الإسلامية عرابي عرابي، يرى أن المرحلة الحالية (ثلاثة أشهر) تتطلب إنشاء هيئة حكم انتقالية، تعمل على وضع دستور، وإقرار انتخاب، وما يتبعه من خطوات لاحقة.
وقال عرابي لعنب بلدي، إن جزءًا كبيرًا خلال مرحلة الأشهر الثلاثة سيكون مرتبطًا بـ”هيئة تحرير الشام”، لأنها رقم مركزي في المعادلة الحالية، كما أن النقاش مع الشرع (الجولاني) ضروري لضمان أمن سوريا وضمان الاستقرار.
ويرى عرابي أن الخطوات المطلوب تقديمها من الشرع خلال هذه الفترة هي:
إشراك الأقليات وتوسيع طيف تمثيل الأطراف في الهيئة الانتقالية.
تسليم بعض المطلوبين لدولهم.
منع ظهور تنظيم جديد شبيه بتنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا.
الحوار مع “قسد” بصيغة ملائمة لعدم التقسيم، وربما بإشراف أمريكي لذلك.
هيكلة الجيش بما يضمن التوازن داخل سوريا، دون أن يعبّر الجيش عن لون طائفة معيّنة.
عدم السماح بوجود ممر لإيران على الأراضي السورية، رغم أنه أمر محسوم بالنسبة للشعب السوري والحكومة، لكنه مطلب يجب الالتفات له.
ولفت عرابي إلى أهمية وجود ثلاثة مبادئ لن يساوم عليها الشرع داخليًا أو دوليًا في هذه المرحلة، وهي استقلال سوريا بالكامل، وعدم وجود أي جهة تعمل داخل سوريا، وبالنسبة لـ”قسد”، إما أن تكون منضوية ضمن الإدارة الجديدة، أو تكون هناك مواجهة لاحقة.
ومن المبادئ، وفق عرابي، الاعتراف ودعم الحكومة المقبلة، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ودعم سوريا في مسألة إعادة الإعمار، وهذا يتطلب رفع “هيئة تحرير الشام” من التصنيف.
“أبو محمد الجولاني” قائد “هيئة تحرير الشام” في مدينة حلب بعد السيطرة عليها – 4 كانون الأول 2024 (إدارة العمليات العسكرية)
أمنيًا.. محاسبة المجرمين ومشكلة السلاح
واكبت عملية “ردع العدوان” وتبعتها بيانات ذات طابع أمني وعسكري، بدأت بدعوة للعناصر والضباط إلى الانشقاق عن قوات النظام، وإلقاء السلاح، وتجنب الدماء، والخروج الآمن من المدن والمواقع العسكرية، وانتهت بعمليات “تسوية” ومنح بطاقات “مؤقتة” لتسهيل حركتهم.
ومنعت “إدارة العمليات” إطلاق الرصاص في الهواء، والمساس بالمؤسسات العامة وممتلكاتها، وطالبت بإعادة الممتلكات المأخوذة من المؤسسات المدنية والعسكرية، وسحب المظاهر المسلحة من بعض المدن، ومنها حلب.
بعد سقوط النظام بيومين، قال أحمد الشرع، إن “إدارة العمليات” لن تتوانى عن محاسبة المجرمين والقتلة وضباط الأمن والجيش المتورطين في تعذيب الشعب السوري، وستطلبهم من الدول التي فروا إليها حتى ينالوا جزاءهم العادل، وستصدر القائمة رقم “1”، التي تتضمن أسماء كبار المتورطين في التعذيب، ثم كشف عن عزمه حل القوات الأمنية التابعة لنظام الأسد المخلوع، وإغلاق السجون السيئة السمعة.
هذه البيانات لم تمنع وجود حالات فوضى وسرقة وعمليات “قتل وتصفية” لبعض مرتكبي الانتهاكات أو “الشبيحة”، وظهرت حالات متفرقة منها، كما طالب أهالٍ بضرورة ضبط الأمن، خاصة في الساحل السوري، الذي شهد، في 14 من كانون الأول، مقتل ثلاثة عناصر في “إدارة العمليات” إثر اشتباك مع عائلة تُتهم بالسرقة، في بلدة المزيرعة بريف اللاذقية.
الدبلوماسي السابق داني بعاج دعا حكومة تسيير الأعمال إلى ضبط “الإعدامات الميدانية” التي حصلت مؤخرًا، والتي تستهدف أشخاصًا معروفين بارتكابهم جرائم بحق السوريين، مشيرًا إلى أنه قبل إعدامهم أو محاكمتهم يجب الاستماع إلى شهاداتهم وتوثيقها، وحتى بعد سماع شهاداتهم يجب تركهم قيد الاعتقال ريثما يجري سماع باقي الشهادات ومقاطعة المعلومات مع بعضها، بغية الوصول إلى أدلة حقيقية تساعد في محاكمة كل المجرمين.
قبل أن تصبح حكومة تسيير أعمال، كان لدى “الإنقاذ” في إدلب “كلية شرطة” ونموذج “جهاز الأمن العام” الذي تحوّل اسمه إلى “إدارة الأمن العام”، ومع سيطرة الفصائل على المدن تباعًا، أعلنت وزارة الداخلية عن فتح باب الانتساب لـ”الشرطة- الأمن العام” عبر الالتحاق بـ”كلية الشرطة- دورة أفراد”، في مراكز أنشأتها بمدن حلب وحماة وحمص ودمشق واللاذقية وطرطوس.
وخلال تسجيل مصور، وفي رده على سؤال حول التجنيد الإجباري، قال الشرع، إنه يدرس الأمور مبدئيًا، وسيكون هناك جيش تطوعي، فالإقبال كبير، ولا حاجة لزيادة كاهل السوريين بقضية “كابوس التجنيد الإجباري”، مع إمكانية إجراء بعض الاختصاصات بأن يكون فيها تجنيد إجباري لمدة 15 إلى 20 يومًا في حالات الخطر الشديد الذي سيكون فيه تعبئة عامة.
العقيد مصطفى بكور، الناطق الرسمي باسم “جيش العزة”، أحد فصائل “إدارة العمليات”، اعتبر في حديث لعنب بلدي أن تسوية أوضاع العسكريين ونزع السلاح ومحاسبة المجرمين خطوات جيدة في طريق تحقيق الأمن والاستقرار في سوريا، لكن يجب أن تستكمل هذه الخطوات بإعادة العسكريين المنشقين إلى المواقع التي يمكنهم أن يقدموا من خلالها خدماتهم وخبراتهم للدولة الجديدة، وخاصة أولئك الذين لم يغادروا سوريا، وانخرطوا في العمل العسكري ضد قوات الأسد، معتبرًا أنهم الأكثر غيرة على مستقبل البلاد من أولئك الذين قاتلوا مع النظام حتى آخر لحظة.
وأضاف بكور أن أبرز المخاطر التي يمكن أن تهدد الأمن والاستقرار، هي التهاون في معالجة محاولات إثارة القلاقل والتحريض من قبل فلول النظام السابق والمتضررين من سقوطه، وعدم شمول عملية البناء كل أطياف المجتمع السوري، وخاصة أبناء الثورة السورية.
ويعتقد بكور أن الحكومة الحالية تعي إعطاء الحالة الأمنية والعسكرية أهمية خاصة، متوقعًا أن تبذل جهدًا ونشاطًا كبيرًا باتجاه توحيد الفصائل، وإنشاء وزارة دفاع تضم كل العسكريين من الفصائل ومن لم تتلطخ يديه بالدماء من بقايا جيش النظام السابق، وهذا الأمر سيكون له تأثير إيجابي على المستويين الأمني والعسكري.
خلال الفترة الحالية، من الضروري المحافظة على بنية الجيش المادية والهيكلية، ويمكن إعادة تنظيمه بالاعتماد على عناصر الفصائل والعسكريين الذين يجرون تسوية ويثبت عدم تلطخ أيديهم بالدماء. أما حل الجيش وإعادة بنائه من جديد ففيه مخاطرة كبيرة، وسيؤدي إلى خلل أمني وعسكري كبير، وقد يطيح بمكتسبات الثورة التي تم تحقيقها خلال كل السنوات الماضية.
النجاح مرهون بتوافق محلي- دولي
في الـ90 يومًا وما بعدها، تبقى جميع الاحتمالات واردة أمام تشكيل نواة وحجر أساس لدولة لم تتضح معالمها أو شكلها بعد، وسط وجود أطراف داخلية تعمل وأخرى تترقب دورها، وخارجية لطالما كان لها ثقلها ومصالحها في الملف السوري، وضعت شروطها للتعاون مع “سوريا الجديدة”، وواقع اقتصادي ومعيشي وأمني أقل تعقيدًا مما بدا عليه قبل سقوط نظام حكم الأسد.
رئيس وزراء ووزير خارجية السويد سابقًا، كارل بيلدت، اعتبر أن تركيز فصائل المعارضة (إدارة العمليات) على بناء وصيانة مؤسسات الدولة يظهر أنهم يدركون المخاطر جيدًا، وفق تقرير نشره في موقع “The Strategist“.
ولتجنب بعض المخاطر وبدء الطريق إلى الأمام في سوريا، يرى بيلدت أنه لا بد أن يتولى السوريون ذلك، ولكن بمساعدة خارجية، قائلًا إن الوضع الإنساني في سوريا مروع ويتطلب اهتمامًا فوريًا، ويتعين على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن يوضحا لجميع الأطراف المعنية أنهما على استعداد لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا دعمًا للانتقال السياسي.
ويعتقد بيلدت أن العملية المنتظرة في سوريا سوف تكون طويلة ومعقدة، لأن الحكم في سوريا لم يكن قط بالأمر البسيط، وفي حال بدأ أي من اللاعبين الرئيسين (المحليين والإقليميين والدوليين) بملاحقة أجندته الخاصة من جانب واحد، فقد تتدهور الأوضاع بسرعة.
واعتبر أن عملية الأمم المتحدة تمثل أفضل السبل للمضي قدمًا، ما يمنح المنظمة فرصة لإظهار للعالم أنها لا تزال لا غنى عنها في مثل هذه المواقف، إذ يشكل القرار “2254” حجر الزاوية في الجهود الدبلوماسية الدولية لحل الصراع السوري، وهو يوفر خارطة طريق واضحة للانتقال السياسي بقيادة سورية في ظل دستور جديد، مع انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة وتدابير لضمان الحكم الشامل.
رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط في كلية “سميث”، الباحث والخبير ستيف هايدمان، اعتبر أن هناك عددًا من الخطوات التي يمكن للولايات المتحدة أن تتخذها، والتي من شأنها أن يكون لها تأثير إيجابي على عملية الانتقال التي تجري الآن في سوريا، وهي:
رفع بعض العقوبات الاقتصادية التي فرضت على نظام الأسد، ما يعني دفعة هائلة للاقتصاد السوري، وهذا مهم في هذه المراحل المبكرة الحاسمة من عملية الانتقال.
لعب دور في مساعدة السوريين باستعادة أصولهم، واستعادة بعض مليارات الدولارات التي سرقها بشار الأسد وحلفاؤه بشكل غير قانوني على مدار سنوات حكمه.
دعم الجهود السورية الرامية إلى محاسبة الذين شاركوا في جرائم الحرب.
استعداد واشنطن للاستثمار في إعادة الإعمار، باعتبارها إحدى الطرق التي قد تسهم بها الولايات المتحدة في تحقيق انتقال سلس في سوريا.
من أبرز القضايا التي لا تزال مفتوحة بانتظار إجراءات لضبطها ومتابعتها، هي محاسبة المجرمين والمتورطين في جرائم الحرب والانتهاكات بحق السوريين، وضرورة حفظ الوثائق والأدلة التي لطالما حاول النظام المخلوع طمسها، وعدم العبث بالمقابر الجماعية.
مع اكتشاف بعض مواقع المقابر الجماعية، توافد عدد من الأشخاص إليها بدافع نبشها والبحث عن ذويهم عن طريق التعرف عليهم من لباسهم أو ملامحهم، بينما بدت تحركات سلطات الأمر الواقع أو المنظمات الدولية والأممية أو المحلية شبه غائبة، إذ لم يُمنع دخول الإعلاميين أو الناشطين إليها، دون أي جدوى من عملية البحث غير المنظمة والتي لا تستند إلى أي منهجية علمية أو طبية.
صدرت عدة بيانات وتصريحات بضرورة المحاسبة، منها محاسبة المجرمين والقتلة وضباط الأمن والجيش المتورطين في تعذيب الشعب السوري، وخضوع جميع الإعلاميين الحربيين الذين كانوا جزءًا من آلة الحرب والدعاية لنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد للمحاكمة العادلة.
يرى الدبلوماسي السابق داني بعاج، أن حكومة تسيير الأعمال مطالبة بأسرع وقت بدعوة المنظمات الحقوقية للقدوم إلى سوريا، لضبط حالة الفوضى والعشوائية في التعامل مع الوثائق التي كانت موجودة في سجن “صيدنايا” والفروع الأمنية وأماكن المقابر الجماعية، فهذا التأخير يعوق أي نوع من المحاسبة.
وقال بعاج، إنه رغم الخطاب السياسي العقلاني والناضج لحكومة تسيير الأعمال، كانت هناك قلة خبرة وكفاءة في التعامل مع ملف محاسبة المجرمين والوثائق والأدلة المرتبطة بالجثث والمعتقلين.
وطالب بعاج الحكومة الجديدة بوضع حراسة على مواقع المقابر الجماعية ومنع الاقتراب منها، لافتًا إلى ضرورة دراسة طبقات التربة للتأكد كم مرة استُخدم ذات المكان لدفن جثث المعتقلين، ومن الممكن أن العظام قد اختلطت ببعضها فيجب إجراء فحص الحمض النووي بشكل دقيق، وهي أمور مهمة وحساسة يجب أن تكون ضمن خطة الحكومة في الفترة المقبلة.
من جانبه، قال مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، إن العبث بهذا الشكل بمواقع المقابر الجماعية في سوريا يعد انتهاكًا لمسرح الجريمة وطمسًا للأدلة، ويصعب مهمة الباحثين عن المفقودين والمختصين المسؤولين عن تحديد هويات الضحايا الموجودة ضمن هذه المقابر.
وقال العبد الله لعنب بلدي، إنه يجب على حكومة تسيير الأعمال تأمين حماية لهذه المقابر حتى لو اضطر الأمر لتكون حماية مسلحة، وإحاطة هذه المقابر بسياج شائك أو حتى شريط يمنع الاقتراب منها، فضلًا عن منع نشر مواقعها.
وأوضح العبد الله أنه يجب منع تغطية وسائل الإعلام أو الناشطين لمواقع المقابر بهذه الطريقة، مؤكدًا أن أكثر من ناشط أو محطة إعلامية يصورون عملية نبش المقابر بشكل مباشر، الأمر الذي ينتهك حرمة الجثث والضحايا من جهة، ويحرض الناس على الذهاب إلى الموقع ونبش المقابر.
الحقوقي محمد العبد الله أكد أنه يجب عدم فتح هذه المقابر وعدم الاقتراب منها دون تشكيل إما هيئة وطنية للبحث عن المفقودين يكون من ضمن مهامها فتح المقابر الجماعية، أو البدء بعمل منظم يتبع لوزارة العدل في حكومة تسيير الأعمال، كما حدث في العراق وأربيل وإقليم كردستان العراق.
عنب بلدي
————————————–
نظام الإرهاب في سوريا… أيّ من الإبادات ارتكب؟/ وائل الحجار
22 كانون الأول 2024
في حديث مع زميلة صحافية عراقية عن الفظاعات التي تتالى ظهورها صوتًا وصورة بعد سقوط بشار الأسد، (وكانت على كل حال ارتكابات معروفة للعالم)، سارعت إلى القول “بعد 23 عامًا من سقوط نظام صدام حسين، لا نزال عندنا نكتشف مقابر جماعية”.
وإحدى المقابر الجماعية المخيفة التي كُشف عنها في نظام البعث السوري المنهار قبل أيام، هي مقبرة القطيفة – وغيرها من المقابر الجماعية التي بدأ ظهورها يتوالى.
ومن القطيفة تحديدًا، قال السفير الأمريكي السابق لقضايا جرائم الحرب ستيفن راب الثلاثاء لرويترز إن الأدلة التي ظهرت كشفت عن “آلة الموت” التي أدارتها الدولة في عهد الأسد.
وقدّر راب أن ما يزيد على 100 ألف شخص تعرضوا للتعذيب والقتل منذ 2013. والأرقام التي يطرحها الباحثون السوريون قد تفوق ذلك بكثير.
والصادم ربما – في الغرب خصوصًا – فيما قاله راب، هو التالي: “لم نشهد شيئا كهذا تماما منذ عهد النازيين”.
وقد يكون ما قاله راب “صرخة” من أماكن الرعب التي أورثها بشار الأسد، وعائلته التي حكمت.
لقد فتح السّقوط المدوي، بابا كبيرًا لأسئلة عديدة بشأن طبيعة النظام الذي حكم سوريا لأكثر من نصف قرن، وشكّل الابنُ استمرارا لنظام الأب مع كل التركيبة العائلية الطائفية – والحزبية الأمنية والزبانية والاجتماعية الوظيفية التي أدارته.
لكن السؤال في هذا التقرير، ليس حول طبيعة هذا النظام، بقدر ما يحاول تقصّي جواب على: هل ما ارتكبه يمكن التحقيق فيه – أو في بعضه – في إطار اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية لعام 1948؟ وهل طرح هذا السؤال مشروع اليوم، من وجهتين حقوقية وسياسية؟
الأكيد أن النظام السوري مارس بطشه وجبروته بحق مختلف قطاعات وشرائح وطوائف الشعب السوري، وفي مقدمتها المعارضون العلويّون أيضَا (والرفاق البعثيون)، ومن خلال عقود من الإرهاب المشين (العابر للحدود). لكن جانبًا أساسيًا من حربه هذه، كان ضد مكوّن طائفي – سياسي أكثر من غيره (أو ضد جماعة سياسية طائفية في حال القانون رقم 49 لعام 1981) … وما تكشفه بعض وثائق الاستخبارات السورية اليوم، عن استهداف روّاد المساجد، وأصحاب اللحى، (وكله معروف كان)، هو أحد العناوين الفرعية لهذا الفصل الدّامي.
ومن غير المرجّح أن تكون منظمات حقوق الإنسان العالمية، التي سبق أن أصدرت تقارير مهمة بشأن الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري، أجرت تحقيقات ضمن هذا الإطار. وفي جواب على سؤال “القدس العربي” بشأن ما إذا كانت المنظمة أجرت تحقيقًا في جرائم نظام الأسد بالاستناد إلى اتفاقية مكافحة الإبادة لعام 1948، يقول أحمد بن شمسي، المتحدث باسم قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش”، إنه لم يحصل ذلك. أما “منظمة العفو الدولية”، فلم تجب على سؤال “القدس العربي” حتى وقت كتابة هذا التقرير، وهو سؤال يبقى مفتوحًا.
وعموما، الأسباب التي تدفع إلى عدم النظر في هذه الاتفاقية كأساس محتمل لأي تحقيقات في جرائم النظام – أو بعضها – تمليها طبيعة الاتفاقية نفسها التي تحدّد شروطًا واضحة لأعمال “الجينوسايد” (Genocide). ووجب التفريق بداية بين المعنيَين المختلفين لتعبير “الإبادة” في اللغة العربية مقابل اللغة الإنكليزية، أي Genocide وExtermination، وهما كلمتان بتفسيرين مختلفين.
الأساس القانوني الغائب؟
ويشرح الباحث في المعهد العربي في واشنطن، الدكتور رضوان زيادة، لـ”القدس العربي”، أن المانع القانوني الأكبر الذي يحول دون تطبيق الاتفاقية هو اعتبار أن النظام لم يستهدف فئة من دون غيرها بشكل خاص.
ويعرض مثالًا: “الحجج المضادة هي أنه يعيش مليونا سنّي في الساحل. فلماذا لم يقتلهم؟ هذا يضعف القاعدة القانونية”.
ويعتقد باحثون سوريون أن إحدى الإشكاليات تتعلق بتعريف جريمة الإبادة الجماعية، وأن هذا قد يكون قصورًا في الاتفاقية، التي تحدّد الإبادة الجماعية فقط بالتي تلحق بمجموعة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية إثنية عرقيّة أو دينية، وبصفتها هذه، في حين كان لدى نظام الأسد حلفاء ومأمورون من الطوائف المختلفة (العلمانية الأسدية).
في حالات أخرى شهدت سوريا تحقيقات في إطار الإبادة الجماعية.
ففي تقرير بعنوان “جاؤوا ليُدَمِروا: جرائم داعش ضد الأيزيديين” خلصت لجنة التحقيق الدولية المعنية بالجمهورية العربية السورية في حزيران/يونيو عام 2016، إلى أن “ما يسمّى بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ترتكب الإبادة الجماعية ضد الأيزيديين”. وصدرت أحكام في بعض الدول الأوروبية كذلك بحق أعضاء في “داعش” أدينوا بارتكاب هذه الجريمة.
إلا أن حالة “داعش” مختلفة عن حالة النظام السوري، لأن التنظيم الجهادي الإرهابي استهدف جماعات بعينها، وبنيّة معلنة هي تصفية وجود الجماعة بذاتها، في حين أن نظام الأسدين استهدف كلّ الذين لم يخضعوا له، وبيئاتهم الحاضنة العاصية (مجزرة حماة 1982).
ويرى باحثون في الشأن السوري، أن إشكاليات تطرح نفسها وتحتاج إلى تقصّ أكبر.
ويذكّر رضوان زيادة، بالعوامل التي تحدث عنها في كتابه “تدمير سوريا.. كيف نجحت استراتيجية الأسد أو نحرق البلد”، ومن بينها “الاستخدام المكثّف لسلاح الجو، واستخدام ما يسمى الجرائم ذات البعد الطائفي على خطوط التماس الطائفية في سوريا كمثال حمص، وحماة، أو ريف دمشق” وهي “الجرائم ذات الأساس العرقي أو الطائفي. التي تسبب الرعب للسكان فيهربون”.
وفي هكذا حديث، ربطٌ مع عمليات تطهير عرقي محتملة قام بها نظام الأسد في مناسبات عديدة، والدراسات متوفرة في ذلك ويتحدث بعضها عن نيّة التهجير المسبقة المتوفرة لدى النظام.
التهجير المنظم
وينقل موقع “ميدل إيست آي” في أيلول/سبتمبر عام 2016 عن تقرير لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، أن “49 من أصل 56 مجزرة طائفية أو عرقية موثقة بين عامي 2011 و2015 ارتُكبت من قبل القوات الموالية للنظام”. وصدر هذا التقرير بعد أسبوع من استسلام منطقة داريا في ريف دمشق إلى قوات النظام، بعد حصار وتجويع وقصف استخدم فيه سلاح الجو على مدى أربع سنوات، وأدى إلى انخفاض عدد سكانها من أكثر من ربع مليون إلى 4.000 فقط حسب تقرير الموقع.
كما يشار في هذا السياق، إلى اتفاق وقف إطلاق النار لعام 2015 الذي قضى بإجلاء المقاتلين والمدنيين من المناطق المحاصرة في الزبداني و”القريتين المؤيدتين النظام” الفوعة وكفريا، مفضيًا إلى تبادل السكان، وعدّه معارضون تطهيرًا عرقيًا أو طائفيًا. وسيضع النظام فيما بعد تشريعات تعرقل عودة السوريين، كالقانون رقم 10 لعام 2018.
ويتيح هذا القانون للحكومة تحديد مناطق إعادة التطوير، ويطلب من مالكي العقارات إثبات ملكيتهم خلال فترة زمنية محدودة.
وفي مثال على تطبيقه، ستشير “هيومن رايتس ووتش” في تشرين الأول/أكتوبر عام 2018 إلى إنفاذ محافظة دمشق هذا القانون في منطقة التضامن، في دمشق، فتنقل عن النشطاء “أن السكان لن يُسمح لهم بالعودة إلى المنازل التي تعتبر غير قابلة للسكن”. وعمليا سعى النظام لمصادرة أملاك النازحين والغائبين والتصرف بها.
ويمثّل التطهير أحد الأسس التي يستند إليها الباحثون في اعتبار أن استهداف نظام الأسد لمعارضيه كان يجري أيضاً على أساس طائفي (أو “جغرافي طائفي”).
وعمل إعلام النظام منذ بداية التظاهرات في سوريا، على شيطنة “مناطق المعارضة” وشيطنة الثوار، ونزع الإنسانية عنهم من خلال ضحّ هائل من التوصيفات، فهم: الإرهابيون والتكفيريون والمتطرفون وعملاء إسرائيل وأمريكا والخليج وغير ذلك. وبالموازاة، كانت سرديّات أكثر شعبية تنتشر عند المليشيات الحليفة للنظام، تتخذ طابعًا طائفيًا – دينيًا بتصوير الصراع كاستمرار للنضالات التاريخية المذهبية.
“القدس العربي” تحدثت حول عدد من هذه الأمور مع توماس بييريه، الباحث الأول في “معهد الأبحاث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي” (IREMAM) وهو وحدة مختلطة بين “جامعة آكس – مارسيليا” و”المركز الوطني للبحث العلمي” (CNRS).
كليشيه “الاستهداف السياسي”
ويقول بييريه: “كما تعلم، الكليشيه الذي يقول إن النظام السوري كان يستهدفك إذا كنت معارضًا، ولأنك من مجموعة معينة من السكان، لا يتناسب مع الواقع. فنحن ندرك أنه في بعض المدن، وخاصة في المناطق المحيطة بدمشق وحمص والساحل، هناك العديد من الحالات التي قُتل فيها الناس على أساس طائفي بحت، بمعنى أنهم كانوا من مدينة معينة، ثم قُتلوا”.
لكنه يستدرك “بالطبع لا يمكنك القول إن النظام كان يستهدف السنّة بشكل عام (…). كان هناك العديد من الجنود السنّة والكثير من الوزراء السنّة والعديد من كبار الموظفين المدنيين”.
ويقول إن عددًا من الأحداث التي حصلت حول دمشق، كما في معضمية الشام، وداريا، أو طرطوس، شهدت نوعا من التطهير العرقي بهدف إخضاع مناطق معينة تُعتبر حاسمة لأسباب عسكرية.
وينوّه بييريه بأن النظام عمد إلى اعتقال بعض العلويين وقتل بعضهم، “لكن ذلك كان دائمًا بناءً على آرائهم الفردية وأفعالهم”، مشيرًا إلى اختفاء الدكتور عبد العزيز الخيّر المعارض السوري الكبير، الذي يتحدّر من بلدة الأسد نفسه، و”لكن ذلك كان بناءً على ما فعله وقاله وفكّره. تم التحقيق في قضيته، ثم قرروا أنه يجب أن يختفي، لكنهم لم يدخلوا إلى قرية علويّة ويصفّوا 20 شخصًا على الجدار ويقتلوهم. لم يفعلوا ذلك، كان هذا مخصصًا للسّنة”.
ويخلص بييريه إلى أن حالة العنف الطائفي، “لا أعرف إذا كان يمكن تسميته إبادة جماعية، ولكن، كما تعلم، حجم ذلك، والنمط المتبع في العنف، يجعلني أتفكّر”.
مجزرة الكيميائي
إلا أن الدكتور رضوان زيادة، يرى في حديثه مع “القدس العربي” أنه يمكن التحقيق في الاتهام بـ “الجينوسايد” في حالة معينة على الأقل، وهو استخدام نظام الأسد للسلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية عام 2013.
ويضيف شارحا أسبابًا رئيسة لذلك، الأول أن تقريرَي الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، يتحدثان عن أن النظام استخدم هذا السلاح لإلحاق أكبر إيذاء ممكن بالمدنيين في المنطقة.
“استخدم كمية مكثّفة جدًا من غاز السارين لم تُستخدم أبدًا من قبل. والأمر الثاني أنه لما أطلق هذه الأسلحة، فعلها في وقت الصباح، في الساعة الرابعة صباحًا. فهو يعرف تمامًا أنّ الكل نائم، وبالتالي الهدف هو إلحاق الضرر الإيذاء الأكبر.
والعامل الثالث أن الناس عندما سمعت أنه يوجد قصف صاروخي، اتجهت إلى الطوابق السفلية، لعدم معرفتها بطبيعة الحال أن المستخدم هو سلاح كيميائي”.
ويعتقد زيادة بتوفّر عوامل معنوية ومادية، لفعل “الجينوسايد”، و”العوامل المادية مثبتة، لكن العوامل المعنوية، يجب إثباتها، أي إثبات نيّة النظام في ارتكاب “الجينوسايد”.
ويرى أنه مع هذه “الإرفاقية” التي تُثبت نية النظام، نظام الأسد باستهداف المدنيين، يمكن الاتجاه نحو غرفة خاصة على مثال ما جرى في البوسنة والهرسك.
ومن الواضح أن إثبات النية فيما يتعلق بارتكاب “الجينوسايد” من قبل نظام الأسد يشكل أحد الموانع القانونية.
ونسأل زيادة، عن مثال مجزرة قرية البيضا (أيار/مايو 2013)، وكذلك تصريحات “معراج أورال” (أو علي كيالي كما يسمي نفسه)، قائد ما يسمى المقاومة السورية المؤيدة للأسد (الجبهة الشعبية لتحرير لواء الإسكندرون) التي دعا فيها إلى تطهير بانياس، وقال في فيديو على الانترنت (2013) “أنا أعني ما أعنيه والبدء بالتطهير (…) المقاومة السورية عنوانها التطهير والتحرير”.
ويفرّق زيادة في تعليقه على ذلك بين “خطاب الحرب”، و”الأساس القانوني للاتهام”. ويقول “نعم، خطاب الحرب هذا موجود للأسف، وكان موجودًا عند بعض فصائل المعارضة للأسف”، وهو “موجود عند معراج أورال وغيره”.
ويشير إلى صعوبة “إثبات العلاقة المباشرة بين خطاب هذا الشخص وما نُفذ على أرض الواقع”.
لكن زيادة يستدرك قائلًا “نعم، قد تتغير الأمور الآن مع سيطرة المعارضة عسكريًا، وسيطرتها على ملايين الوثائق المكتوبة وربما التسجيلات الصوتية، فربما تخرج أدلة تثبت نيّات النظام بارتكاب مثل هذا النوع من الجرائم”.
الإبادة السياسية
ومع الإشكاليات التي يطرحها تطبيق اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية على ارتكابات نظام الأسد، يرى الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، ضرورة البحث في الإبادة السياسية التي حصلت في سوريا.
واستخدم الحاج صالح هذا المفهوم في كتابات سابقة له، ومن بينها مقال نشر في “القدس العربي” في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، في حين قال قبل ذلك بسنوات إن “في القول إن نظام الأسديين في سوريا دكتاتوري خطأ كبير”، وإن “دولة الأسدين قائمة على الإبادة وليس على القمع، وبهذه الصفة هي مشكلة إنسانية وليست مشكلة سورية حصراً”.
ونسأل الحاج صالح بعد سقوط نظام الأسد عن ذلك، فيشرح أن مفهوم الإبادة السياسية سبق أن أثير من جانب باحثين مثل روبرت غر وباربرا هارف في ثمانينات القرن الماضي، كاستدراك لمفهوم “الجينوسايد” للأمم المتحدة عام 1948.
فتعريف “الجينوسايد” في الأمم المتحدة يغفل مفهوم “الجماعات السياسية”، كإبادة أعضاء حزب سياسي بالكامل.
ويقول لـ”القدس العربي” إن المثال الذي استخدمه الباحثون في حالة إندونيسيا “هو الحزب الشيوعي الإندونيسي الذي قُتل نصف مليون على الأقل من أعضائه (مذابح 1965-1966)، وربما مليون”، و”تم استهداف هذه الجماعة لكونها هي من هي سياسيا”.
وهذه المذابح في إندونيسيا، تبقى اليوم غير خاضعة لاتفاقية مكافحة الإبادة، لا في المحاكم الدولية ولا في المحاكم المحلية، رغم النقاش الذي لا يزال مفتوحًا.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2015، عقدت “محكمة الشعوب الدولية لجرائم 1965 ضد الإنسانية في إندونيسيا”، جلسات في لاهاي، وخلصت في تموز/يوليو 2016، إلى أن المجازر “كانت تهدف إلى إبادة جزء من السكان ويمكن تصنيفها كإبادة جماعية”.
وهذه الهيئة المستقلة أسّسها رسميًا في عام 2014 نشطاء حقوق الإنسان والأكاديميون والمنفيون الإندونيسيون ردًا على “غياب عملية رسمية محلّية للعدالة الانتقالية المبنية على البحث عن الحقيقة”.
ثم عاد عالِم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلنغ لاستحضار مفهوم الإبادة السياسية في حالة فلسطين، وإن يكن نسب الأمر لرئيس الوزراء السابق آرئيل شارون “ولا أرى ذلك وجيها”، يقول الحاج صالح.
ويضيف الحاج صالح لـ”القدس العربي”: “المشروع الصهيوني هو الإبادة السياسية للفلسطينيين. ونحن السوريون تعرضنا للإبادة السياسية بالمعنى الواضح للكلمة”، “حُطمنا وقتلنا سياسيا، دون أن يعني ذلك أنه قتلنا فيزيائيا”.
ويذكّر بأن المنظمات اليسارية وغيرها حُطمت وقُتلت في الثمانينيات والتسعينات، “وبخصوص الإسلاميين قُتلوا بالألوف.. 15 ألفا أو أكثر. هذا عدا عن مجزرة حماة ومجزرة تدمر في صيف 1980، ومجازر متنقلة في الثمانينيات، وهو ما تحدث عنه ميشال سورا”.
لكن الحاج صالح يعتقد كذلك، بأنه توجد وجهة لاستخدام مفهوم “الجينوسايد” نفسه في سوريا.
ويقول لـ”القدس العربي”: “ليس صحيحا أنه لم تُستهدف جماعة بالمجازر وبسوء المعاملة الخاصة وبالتدمير الجزئي أو الكلي حسب ميثاق الجينوسايد للأمم المتحدة. بلى. هذه الجماعة موجودة. وهي العرب المسلمون السنة”.
ويشرح أن “العتبة، عتبة استهداف البيئات المسلمة السّنية من قبل النظام هي أدنى من غيرهم، يعني قتلهم أسهل وما بيعمل مشاكل”.
ويضيف “طبعا هذا المفهوم غير موجود في اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية، أي مفهوم العتبة، واختلاف العتبات. ولقد تحدثت عن النية البنيوية التي لا تتخذ شكل التصريح أي (على سبيل المثال) ننوي قتل اليهود، أو المسيحيين، أو العرب، أو الأكراد، أو السنييّن.. لا. غالبا هي مقصد بنيوي بنية مصممة بطريقة تميز ضد مجموعة، (..) وكل مجازر البراميل بدون استثناء واحدة: استهدف العرب السنييين. كل مجازر الكيميائي بدون استثناء. لم تستهدف آخرين. هذه مجازر النظام”.
وبالمجمل، ينطلق باحثون في الشأن السوري في كل ما يثار، من منبّهات رئيسة، أحدها ضرورة عدم التضحية بالموضوعية والعدالة في الحكم على الأحداث بداعي الخوف من تبعات إثارة هذا “السؤال – الاتهام” على الوحدة الوطنية السورية والوئام الأهلي، وأيضًا من ضرورة أن تكون العدالة مسارًا يؤدي إلى المصالحة الوطنية، وإلى وطن أفضل في سوريا التي تفتقد حتى الآن إلى قوانين تختص بجرائم الحرب وضد الإنسانية.
ويقول رضوان زيادة “لقد تحدثنا عن تصوّر العدالة الانتقالية في سوريا، وحكينا عما يسمى المحاكم المختلطة، التي تضمّ قضاة محليين وقضاة دوليين كما حصل في كمبوديا (الإبادة التي ارتكبها الخمير الحمر). (أدين الخمير الحمر بالإبادة لأنهم، فضلا عن استهدافهم عموم مكونات الشعب، استهدفوا جماعات إثنية بذاتها كذلك)”.
ويرى الأكاديمي السوري المرموق ضرورة تعديل القوانين السورية لتشمل جرائم الحرب.
أما توماس بييريه، فيشدد على ضرورة محاكمة كبار المجرمين، “لأنه إذا لم نتمكن من محاكمتهم (…) فقد يغري هذا بعض الأشخاص في سوريا للانتقام”.
وهذا المسار المشؤوم – الانتقام – الذي يعلن القائمون اليوم على الحكومة المؤقتة بشدّة عن تصدّيهم له، قد يكون هديّة هذا البعض أو البعض الآخر للنظام السابق، وربما التطبيق الفعلي لشعار “الأسد. أو نحرق البلد”، أي الانتقام من سوريا، في وجه المصالحة الحقيقية وبناء المستقبل المشترك وتشريع الأساس القانوني لحماية الناس وللعدالة التي تبقى مساراتها طويلة، ولا تنتهي المساءلة بسقوط نظام أو قيام آخر.
القدس العربي
————————————
بشّار وأبوه… الموت الثاني لحافظ الأسد/ عباس بيضون
22 ديسمبر 2024
بالقياس الى أبيه حافظ الأسد، كان بشّار يبدو باهتاً وصغيراً. كان لحافظ سمت الديكتاتور وتخييله، كان حتى تواريه النسبي يبدو مشحوناً بالمعاني التي تواكب كلّ غياب. تواريه هذا كان صدىً لشكله العادي، الذي عاديته نفسها تنطوي على المعنى الذي يوحيه حضوره، الصرامة إلى حدّ الفرض، فقدان المعنى إلى حدّ الفيض به، سمت التقليدي إلى حدّ الخروج من جلده، والتهديد المبطن في نظرته وحتى في ابتسامته التي لم يكن وجهه جاهزاً لها، إلى حدّ تبدو هي معه تهديداً مبطناً. مبطن هذه هي الكلمة، لقد صنع تاريخ حافظ الأسد المتواري في سيرته له هذا الحضور، وذلك الوجه العصي على التفسير، والذي يزداد استغراقاً في جموده وسكونه إلى حدّ مقلق، إلى حدّ يُحيّر جليسه وحتى الناظر إلى صورته.
الذكريات التي نقلها مجالسوه عنه لم تكن مختلفة، يتكلّمون عن طلاقته في الكلام إلى حدّ الثرثرة، لكن هذه الطلاقة استرسال يحرم جليسه من حقّ الجواب. كان يتكلّم لساعات كما قيل، ويتدفّق بالكلام فيما جليسه يبحث عن فسحة له ليُجيب وليكتشف أنّه لا يجدها بسهولة، فحافظ الأسد يُلقي كلامه إلقاءً ولا ينتظر جواباً. إنّه لا يحاور، بل يملي. في ذلك لا يشبه القادة الذين يزِنون كثيراً كلامهم في العادة، بحيث يمنحونه ثقلاً ورجعاً تخدم فيه قلّته وإيجازه. حافظ الأسد لا يفعل سوى احتكار الكلام، والاحتفاظ بحقّه.
بشّار لا نعرفه من هذه الناحية. نعرف أن لم تكن له فصاحة أبيه، الذي يخطب بصوت رتيب يناسب شخصيته، لكنه لا يخطئ في النحو وفي رصف الجمل. بشّار الذي لا نعرف حقاً ماذا حصّل في الطب، كانت لديه صرامة أبيه، لا فصاحته. كان صوته هادئاً ورتيباً حين يتكلّم، لكنّه قلّما يقول ما يلمع. كان لكلامه ما يشبه هيئته، طول لا يكاد يستقيم ونظلّ نراه قريباً من الانحناء. عنقه له أيضاً ذلك الطول المحيّر، والذي نشعر إزاءه أنّه يكاد يلتوي، ويكاد يخرج عن طوره.
قيل فيه إنّه كان مرشّحاً ليُصبح طبيب عيون، وإنّ ما أتاح له كرسي الرئاسة مقتلُ أخيه البكر في حادث سيارة مباغت ومحيّر. لم يكن معدّاً لهذا المنصب إلّا حين خلا له. حسب كثيرون أن هذه البداية ستجعله غير أبيه، بل نُقل عنه أنّه في البدايات تقرّب من مثقّفين لم تكن لهم شبهة الولاء للنظام، بل كانوا أحراراً في تفكيرهم إلى حدّ اشتُبهوا فيه بالمعارضة، حسب كثيرون أنه قد يكون الابن المستقل، لكن الابن الذي تبع أباه ظلّ الوقت كلّه يستحضر أباه في كلّ شيء، بدون أن يكون له المستوى نفسه. ظلّ في طلّته، وفي صوته، وفي عنفه الصامت وشهوة القتل الخافية فيه، ظِلّ أبيه. بقي أبوه خامداً فيه، بل بقي هو أباه الخامد وإن ظهر منافساً له؛ إذ إنّه باراه في القتل وفي الاستبداد، إلى درجة أتاحت الشبهة في أنّه كان يكره أباه.
وصل بشّار إلى حُكم مفلس، أو على وشك الإفلاس. لم يكن لديه ما يضيفه، عليه فقط أن يحافظ على الإرث المتهالك الذي صار إليه. لقد ورث سورية صامتة وخفية وبلا صفة، كما صنعها حافظ الأسد. سورية النكرة هذه لم تلبث أن اختنقت بحرب أهلية، لم تكن هي الأخرى أقلّ إرباكاً. لم تكن النخبة التي باشرتها قادرة، فتراجعت وتركت الساحة لداعش وما تبعها. بعد داعش كانت جماعات من الصنف ذاته، هيئة النصرة وبعدها تحرير الشام، جماعات إسلامية لكنّ الأمر لم يعُد في بال أحد. حينما وصلت تحرير الشام إلى دمشق، لم يكن السؤال هو هوية المنتصر، بقدر ما كان الفضيحة التي يعيش النظام الأسدي عليها، والتي انفجرت بمجرّد أن غادر.
لم تكن مجهولة، لكن سورية كلها قد أضحت بهذا العهد نكرة وخفية وخرساء. في لحظة واحدة بدأت الفضيحة تخرج من خفيتها، وتنفجر في كلّ مكان، حتى أنّ بشّار نفسه غادر في هذه الجلبة الهائلة، ولم ينتبه له أحد. كان صدى الانفجار أعلى من كلّ شيء، لم يسأل أحد عن هوية المنتصر، حتى إسلاميته هي الأُخرى ملبسة. لم يتكلّم أحمد الشرع كإسلامي، اجتهد ليتكلّم بلغة غير مسبوقة، لم يعد المثال الأفغاني مطروحاً. كان معزّياً أن نسمع صوتاً إسلامياً يقول الديمقراطية والسلم الاجتماعي والاستقرار. لم يسأل الناس عن إسلامية هذا الخطاب، ولم يشكّكوا فيه. كان الأهمّ هو انكشاف النظام الذي ترك محلّه قتلى ومخنوقين في كلّ مكان.
بشّار الأسد لم يكن في مصاف أبيه هذه المرة، لقد انتهت به حيرته إلى السقوط. لكن أيّ سورية تركها؟ سورية القتل والجوع والتهجير، ليس أمام ذلك فرصة بعد للاستبداد، ليس أمامه حظ بمجازر أُخرى. حين يتكلّم أحمد الشرع عن الحرية، نفهم أنّ هذه هي كلمة اليوم، أن ليس لديه سواها. لا نعرف ماذا سيتبع ذلك، لكن لنا أن نأمل بأنّ أيّ حكومة جديدة لن تجد أمامها سوى هذا البرنامج، لنا أن نأمل أنّ بشّار لن يعود، وأنه سيحمل حافظ الأسد معه إلى هناك.
* شاعر وروائي من لبنان
العربي الجديد
————————–
الدين السوري لإيران جائر و”غير شرعي”… ما مصيره؟/ جوزيف ضاهر
تقديراته من 16 إلى 50 مليار دولار وساهم في تمويل بقاء النظام وعذاباته
22 ديسمبر 2024
تثار أسئلة كثيرة عن العلاقات المستقبلية بين دمشق وطهران في أعقاب إطاحة نظام الأسد. فقد كانت إيران حليفة رئيسة للنظام السوري منذ عقود من الزمن وقامت بدور رئيس في مساعدته على قمع الانتفاضة. وقدمت طهران إمدادات وقدرات عسكرية أساسية، ومساعدات مالية أيضا. وفي هذا السياق، تعود مسألة الدين السوري لإيران إلى الظهور وتطرح السؤال الآتي: هل يتعين على السوريين سداد هذا الدين؟
لكي نفهم أولا كيف تكبد النظام السوري السابق هذا الدين، دعونا نعود إلى مستوى العلاقات الاقتصادية الإيرانية السورية قبل سقوط النظام.
العلاقات الاقتصادية الإيرانية السورية
كانت التجارة بين إيران وسوريا ضعيفة نسبيا قبل الانتفاضة، وقدرت بنحو 300 مليون دولار فقط في سنة 2010. ووصل المبلغ الإجمالي الرسمي للمساعدة الاقتصادية التي قدمتها إيران على شكل أربعة قروض بين سنتي 2013 و2017 الى نحو 7,6 مليارات دولار. وقد أتاح هذا الترتيب الائتماني لدمشق دعم الاحتياطيات الرسمية السورية وتمويل السلع والبضائع المستوردة، ومنها إمدادات النفط والمدخلات الزراعية والصناعية. غير أن المساعدة الإيرانية أكثر أهمية بكثير من الاتفاقات المذكورة أعلاه. فتلك الترتيبات الائتمانية لم تشمل تكاليف الأعتدة العسكرية والذخيرة، أو الرواتب المدفوعة للمقاتلين الذين يدافعون عن النظام، أو أموال الطوارئ والتحويلات التي حاولت في الماضي منع هبوط قيمة الليرة السورية.
كما أنها لم تشمل استيراد النفط من إيران، الذي تراوح في المتوسط بين 50,000 و70,000 برميل من النفط الخام منذ نشوب الثورة، خصوصا أن دمشق أخذت تفقد السيطرة على حقول النفط في الشمال الشرقي. على سبيل المثل، بلغت قيمة شحنات النفط الإيرانية إلى نظام الأسد في الفترة الممتدة بين سنتي 2013 و2018 وحدها 10,3 مليارات دولار.
وقد عززت الاتفاقات المذكورة أعلاه العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين النظامين. وقدر حجم التجارة بين البلدين بنحو مليار دولار في سنة 2014.
في أبريل/نيسان 2016، أصبح اتفاق التجارة التفضيلية بين البلدين نافذا، وخفضت الرسوم الجمركية على كل السلع المتبادلة بين البلدين إلى 4 في المئة. ومنحت الأفضلية لطهران بوضوح، إذ مثلت الصادرات الإيرانية نحو 95 في المئة من حجم التجارة البالغ مليار دولار بين البلدين.
وضع الأراضي والعقارات
كان من الصعب للغاية تقييم الشائعات والمعلومات الأخرى عن الأفراد والمؤسسات الإيرانية الذين اشتروا أو سيطروا مساحات واسعة من الأراضي والعقارات في كل المحافظات السورية. والاستثناء الوحيد لذلك هو ضاحية السيدة زينب في دمشق التي تضم مزارا شيعيا وشهدت استثمارات واستحواذات إيرانية.
وتأسست الغرفة التجارية السورية الإيرانية المشتركة، التي ترعى اتفاقات التجارة بين إيران والحكومة السورية، في يناير/كانون الثاني 2019. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2020، افتتحت هذه الغرفة أول مركز تجاري إيراني في العاصمة دمشق. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أبرمت حكومة النظام السوري اتفاقا مع إيران لمقايضة البضائع بين البلدين. وفي مايو/أيار 2023، في أثناء زيارة الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي لدمشق، وقع البلدان اتفاقات ومذكرات تفاهم تتعلق بقطاعات عديدة، تشمل النفط والزراعة والسكك الحديد والمناطق التجارية الحرة. مع ذلك، لم تشهد العلاقات الاقتصادية بين البلدين توسعا كبيرا.
قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي، الثلاثاء، إن أي “نظام يتولى الحكم” في #سوريا، عقب إسقاط بشار #الأسد، سيكون “ملزماً” بسداد الديون الإيرانية، “وفقاً لمبدأ استمرارية الدولة”.
واعتبر أن الأرقام المتداولة عن حجم الدين (50 مليار دولار)، “مبالغ فيها للغاية”. pic.twitter.com/8ZrpFIjXwz
— الشرق للأخبار – سوريا (@AsharqNewsSYR) December 17, 2024
لم ينفذ كثير من مذكرات التفاهم بين طهران ودمشق، في حين لم تمنح الحكومات السورية السابقة الشركات الإيرانية الحكومية والخاصة عقودا كبيرة، على الرغم من المساعدة الضخمة التي قدمتها لها. على سبيل المثل، كان من المتوقع أن تمنح طهران في العقد الماضي ترخيصا للهاتف الخليوي، وامتياز إدارة محطة الحاويات في ميناء اللاذقية، وبعض الأسهم في مناجم الفوسفات، لكن طهران لم تتمكن من الحصول على أي منها.
تأثير النفوذ العسكري على الإقتصاد
ولم تتمكن طهران في أي وقت من ترجمة نفوذها الجيوسياسي والعسكري المتنامي باستمرار في اقتصاد سوريا، خصوصا أن الاستثمارات الروسية الخاصة كانت لها اليد العليا في هذا المجال. وقد ارتبطت معظم العقود التي حصلت عليها طهران بخط الائتمان الإيراني الممنوح لسوريا، مثل العقد الذي منح لمجموعة “مابنا” لبناء محطة لتوليد الكهرباء بقيمة 460 مليون دولار في مدينة اللاذقية الساحلية، أو إعادة تأهيل قسم من محطة توليد الكهرباء في حلب، بموجب عقد بقيمة 124 مليون يورو تقريبا.
مع أن البرلمان الإيراني صادق على تعديلات اتفاقية التجارة الحرة بين دمشق وطهران في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، فقد تراجع حجم التبادل التجاري بين البلدين. كما واجهت بعض الاستثمارات الإيرانية في البلاد انتكاسات عدة، مثل إغلاق مصنع تجميع السيارات الإيراني، “سيفكو”. وفي الوقت نفسه، رفع النظام السابق حظرا على الاستيراد استفاد منه في البداية مصنع زجاج إيراني في العاصمة دمشق.
في هذا السياق، يسأل خبراء كم يبلغ حجم الدين السوري لإيران؟ من الصعب جدا تقدير الدين المستحق لإيران في غياب المعلومات الرسمية عن هذه المسألة. فقد زودت الترتيبات الائتمانية الإيرانية سوريا كميات كبيرة من الوقود وأنواعا أخرى من السلع منذ سنة 2013. ولم تسدد السلطات السورية ثمن النفط المستورد من إيران الذي كان مصدرا للتدفقات النقدية الناتجة من بيعه في السوق المحلية.
كم يبلغ الدين السوري لإيران؟
لم تعلن قيمة الدين المترتب على الحكومة السورية لصالح إيران، وتتراوح التقديرات بين 16 مليار دولار و50 مليار دولار وفقا لمصادر مختلفة. والنظام السابق مدين لروسيا أيضا، لكن حجم الدين الروسي أصغر بكثير. ففي سنة 2014، قدمت موسكو الى دمشق مساعدة مالية تبلغ مئات الملايين من اليورو لدفع رواتب موظفي الدولة، بمن في ذلك العسكريون. كما منحت الدولة الروسية سوريا قرضا بقيمة 700 مليون دولار في سنة 2021.
ديانا استيفانيا روبيو ديانا استيفانيا روبيو
لذا نما الدين العام (المحلي والخارجي) المتراكم على الحكومة السورية في أعقاب سنة 2011. وقدر صندوق النقد الدولي الدين العام بأكثر من 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية سنة 2015، بما في ذلك دين خارجي يبلغ 60 في المئة من الناتج المحلي (ناجم عن الترتيبات الائتمانية الإيرانية بين سنتي 2011 و2015)، بعدما كان 9 في المئة في نهاية سنة 2009. واستمر الارتفاع الكبير للدين العام في السنوات التالية، وكذلك صندوق الدين العام في الموازنة السورية.
ومن المؤشرات على تنامي الدين العام، الزيادة المستمرة في صندوق الدين العام في الموازنات السورية. فبين عامي 2018 و2024، نمت الأموال المخصصة لصندوق الدين العام في الموازنات السورية بشكل كبير، بحيث تراوحت بين 22 و33 في المئة من الموازنة. تم تمويل العجز بشكل عام من خلال ثلاث أدوات رئيسة: النقد من الاحتياطيات، الذي يمثل في الغالب السيولة النقدية التي طبعها البنك المركزي السوري، والقروض المحلية من خلال سندات الخزانة والقروض الأجنبية. ولم تقدم الموازنة السورية أي تفاصيل حول تركيبة هذا البند.
كان صندوق الدين العام أهم مخصصات موازنة سنة 2024، إذ شكل نحو 33,4 في المئة من المخصصات الإجمالية. وقد استخدم صندوق الدين العام في تقديم قروض للجهات العامة لتمويل الاستثمارات في مجالات مثل البنية التحتية، ولكن منذ سنة 2018، أصبح تخصيص الأموال لصندوق الدين العام وسيلة أيضا لإخفاء إنفاق الدولة على الدفاع والرئاسة. في الواقع، حتى عام 2017، تم تحديد وزارة الدفاع والرئاسة بوضوح في بنود منفصلة في الموازنة.
#روسيا تتصدر قائمة الدول الدائنة لـ #سوريا بحصة 15% من إجمالي الدين الخارجي لدمشق البالغ 4.9 مليار دولار بنهاية 2023#اقتصاد_الشرق pic.twitter.com/LK3ah915qr
— Asharq Business اقتصاد الشرق (@AsharqBusiness) December 10, 2024
تبعا لذلك، كان لارتفاع الدين العام عواقب على سياسات الحكومة السابقة المتعلقة باستمرار تدابير التقشف ورفع الدعم، وعدم الاستثمار في الخدمات العامة.
دين جائر وغير شرعي
إن تغيير النظام في سوريا لا يلغي المسؤولية القانونية للدولة السورية عن دينها لإيران. على سبيل المثل، حوّل دين الدولة السورية للاتحاد السوفياتي السابق، المقدر بنحو 9,8 مليارات دولار، إلى الدولة الروسية الجديدة. كما أن الطبيعة السلطوية والاستبدادية للنظام السابق لا تعفيه من مسؤوليته عن الدين الإيراني.
مع ذلك، يجب أن تعلق أي مطالبات إيرانية محتملة لدمشق بتسديد الدين إلى أن تنشئ الحكومة السورية الديمقراطية المنتخبة في المستقبل لجنة لإجراء تدقيق كامل في دينها العام الإجمالي، وكيفية ترتبه على البلاد وظروفه، بما في ذلك دينها الخارجي لإيران.
الواقع أن قسما كبيرا من دين النظام السوري السابق لإيران كان مرتبطا بإبقائه في السلطة، من خلال تعزيز قدراته العسكرية والاقتصادية، في مقابل استمرار القمع والقتل وتدمير البلاد. وإذا أكد التدقيق هذه النتائج أو قدم أدلة عليها، يصبح قسم كبير من الدين العام للبلاد غير شرعي أو غير قانوني. ومن هذا المنظور، يمكن وصف الدين، أو قسم كبير منه على الأقل، بأنه جائر أو غير شرعي، ومن ثم يجب عدم تسديده. ويجب استيفاء شرطين ليصبح الدين جائرا:
1. أن يكون قد ترتب بطريقة تتعارض مع مصالح الأمة، أو مصالح الشعب، أو مصالح الدولة.
2. عدم قدرة الدائنين على إثبات أنهم لم يكونوا على دراية بكيفية استخدام الأموال المقترضة.
من الواضح أن قسما كبيرا من الدين المتراكم لمصلحة إيران يتعارض مع مصالح الغالبية العظمى من السوريين، لأنه حافظ على القدرات العسكرية والاقتصادية للنظام للاستمرار في قمع المدن التي تسيطر عليها المعارضة وتدمير بنيتها التحتية. وفي الوقت نفسه، لا يستطيع الدائن، أي إيران، أن ينكر معرفته بغرض الأموال المقترضة لأنه شارك في عمليات النظام، مباشرة وعبر أعوانه، ضد قطاعات كبيرة من السوريين.
لذا يجب أن يكون التدقيق في الدين العام من أولويات المنظمات الاجتماعية والسياسية الديمقراطية والتقدمية في سوريا. وفي الوقت نفسه، يمكن استخدام الأموال المخصصة لصندوق الدين العام في الاستثمار في البنية التحتية للدولة والخدمات، والحفاظ على الدعم، وزيادة الرواتب، بالإضافة إلى تعزيز القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد، بما في ذلك الزراعة والصناعة التحويلية.
المجلة
——————–
في الحاجة إلى عقد مؤتمر وطني سوري/ عمر كوش
22 ديسمبر 2024
سقط نظام الأسد الاستبدادي، وهرب بشار الأسد إلى موسكو، وتحوّل لاجئاً فيها، فيما يقف حكّام سورية الجدد في المرحلة الراهنة أمام امتحان كبير، بعد أن توفرت لهم فرصة تاريخية لقيادة سورية الجديدة، وتشكيل هيئات الحكم الانتقالي التي ستضع الأساس لمستقبل سورية والسوريين. وبالنظر إلى حساسية مرحلة الانتقال، فإن نجاحهم مرهون بتقديمهم نقيضاً للنظام الأسدي الذي نهض على الأحادية والقمع السياسي والاجتماعي، واستغل التعدّد المذهبي والديني والقومي في سورية، كي يرسي نظاماً ديكتاتورياً، جثم على صدور السوريين عقوداً عديدة وثقيلة.
ينهض الامتحان الذي وضعت فيه السلطات الجديدة على مراقبة دولية لكل خطوة تقوم بها، والتحقق من مدى اتساقها مع أقوالها، التي تفيد بأنها ستنفذ وعودة الثورة السورية، وبما يعبر عن فرحة السوريين بسقوط نظام الاستبداد، وتبديد مخاوفهم من ممارساتٍ تناقض ما خرجوا من أجل الخلاص منه، ودفعوا أثماناً باهظة من أجله. لكن ما يدفع إلى الأمل بالتغيير نحو الأفضل هو الإشارات الإيجابية التي صدرت من القائد العام أحمد الشرع، واستجابة ملايين السوريين لدعوته النزول إلى الشوارع احتفالاً بانتصار الثورة، وسوى ذلك.
قد يكون نزول ملايين السوريين إلى شوارع المدن والبلدات السورية وبلدان الشتات والمهجر للاحتفال بسقوط نظام الأسد بمثابة شرعية شعبية منحت للسلطات الجديدة، لكنها مشروطة ومقرونة بتبديد مخاوفهم وبناء نموذج في الحكم يلبي حاجاتهم وطموحاتهم. إضافة إلى أن الحراك الديبلوماسي والسياسي بشأن الوضع في سورية وتوافد المسؤولين الإقليميين والدوليين إلى العاصمة دمشق، يمنح السلطات الجديدة نوعاً من الاعتراف الدولي، الذي هي محتاجة إليه في هذه الأوقات، لكنه مشروط بدوره، ومربوطٌ بتحقيق جملة من الشروط، التي تخص طبيعة الحكم وتمثيله وعلاقته مع الخارج.
هناك إجماع لدى عموم السوريين على أولوية العمل على تسيير شؤون الحياة، وعلى استقرار المرحلة الحالية، وحماية الإنجاز الذي تحقّق بإسقاط نظام الأسد، مع تأكيد أهمية النقاش بشأن المرحلة الانتقالية المقبلة التي ستشكل مستقبل سورية الجديدة. وارتفعت أصوات سياسية في ظل معطيات المرحلة الراهنة، تطالب بضرورة مشاركة جميع القوى والفعاليات السياسية والاجتماعية في رسم ملامح المرحلة الانتقالية في بلادهم، ويتخوّف أصحابها من أن تنفرد الفصائل العسكرية بمفاصل صنع القرار، وتقصي باقي المكونات السياسية والمدنية، فيما يتشكل فهم لدى سوريين كثيرين أن مستقبل بلدهم بات بين أيديهم. لذلك عليهم حسن التصرف، وتحمّل المسؤولية، وعدم الارتهان أو الرضوخ إلى الحسابات الخاطئة والمصالح الضيقة، والشروع بصياغة النظام الجديد على أساس أن الوطن يتسع للجميع في دولة المواطنة والقانون. ولذلك بدأت الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني جامع، يؤسّس لجمهورية سورية جديدة، تلقى آذاناً صاغية لدى السلطات الجديدة، ولدى قوى سياسية واجتماعية عديدة، بعيداً عن دعوات الحوار الوطني التي أطلقتها الاجسام السياسية القائمة، وكرّسها الواقع السابق، سواء كسلطات أمر واقع، فرضت سيطرتها على مناطق في سورية بالقوة وبالاستعانة بالقوى الأجنبية، أم كهيئات مدعومة من دول أجنبية وتنفذ أجندات أجهزتها، وأضحت فاقدةً قرارها السوري المستقل. لكن ذلك لا يعني استبعاد أفرادها من المشاركة في المؤتمر الوطني، إنما استبعاد أي احتمالات لكي تقود الحوار بين السوريين، أو أن تهيمن أي قوة حزبية أو فصائلية على المؤتمر.
أهمية عقد مؤتمر وطني ليست في إنتاج إدارة وطنية تمثل كل أطياف الشعب السوري وحسب، بل في أنه مؤتمرٌ من أجل إنقاذ سورية. وقد سبق للسوريين أن تحاوروا عبر مجالس منتخبة وتمثيلية بعد جلاء القوات الفرنسية عن أراضيهم وإعلان الاستقلال، وأفضى الحوار الاجتماعي والسياسي بينهم إلى تجربة ديمقراطية برلمانية مشهودة، وشكّلت علامة في التاريخ السوري، بالرغم من مآخذ عليها.
يُفترض بالمؤتمر المنشود أن يكون جامعاً لكل أبناء المحافظات السورية، وكل المكونات الدينية والقومية، ولا يستثني أياً من مكونات المجتمع السوري. لذلك يستحقّ تحضيراً جيداً ودقيقاً، عبر البحث عن طريقة يختار فيها السوريون أعضاءه بواسطة هيئاتٍ ناخبة في كل محافظة سورية، وتمثل فيها جميع القرى والبلدات والمناطق والمدن. ومن الضروري أن تنبثق عنه هيئة حكم انتقالي، أو حكومة انتقالية، أو ربما حكومة تكنوقراط، وأن يعلن إيقاف العمل بدستور 2012 الذي فُصّل على مقاس بشّار الأسد، وتشكيل لجان وهيئات دستورية وسياسية، من أصحاب الخبرة والاختصاص، بغية وضع إعلان دستوري مؤقت، أو اعتماد دستور مؤقت للمرحلة الانتقالية، يمكنه أن يوفّر مساحة للنقاش وتبادل الآراء بين السوريين. والحديث هنا يخص إمكانية اعتماد دستور 1950، الذي يعتبر الدستور الأول بعد الاستقلال، وصاغه مجلس تأسيسي منتخب، بانتظار صياغة مسودة دستور سوري جديد تعرض على الاستفتاء الشعبي، ويتم فيه تحديد كل المسائل المتعلقة بطبيعة الحكم، والعلاقة بين السلطات، وتحديد مواعيد الانتخابات التشريعية والرئاسية التي يجب ألا تكون مستعجلة، بل تسبقها مرحلة انتقالية محدّدة بسنة أو أكثر قليلاً.
لا يحتمل الوضع في سورية التأخير أو التريّث طويلاً، لأن الأولويات كثيرة جداً، وكذلك المتطلبات، خاصة توفير الأمن والاستقرار وتأمين حاجات الناس، وبذل جهود كبيرة للعمل على تمتين النسيج الاجتماعي الداخلي المتهتك، والعمل على تطوير الاقتصاد. إضافة إلى رفع العقوبات الأميركية والأوروبية على سورية، وإعادة إعمار ما هدمه نظام الأسد. ولن يفيد السوريين التعويلُ على قوى الخارج، لأن لا أحد منها يعير أي اهتمام لحالة سورية المنهكة والمدمّرة، وحاجتها إلى مدّ يد العون والمساعدة في إعادة بناء دولة جديدة. لذلك سيتيح عقد مؤتمر وطني المجال أمام جميع القوى الحية في المجتمع السوري من أجل المساهمة في التشييد، وفتح الفضاء العام أمامهما للنقاش وتدارس أوضاعهم، والتعاون لإيجاد الحلول المطلوبة.
العربي الجديد
———————————
هواجس وآمال وتحديات ما بعد بشار الهارب/ عبد الباسط سيدا
22 كانون الأول 2024
وأخيراً هرب بشار الأسد بعقده النفسية وأحقاده المرضية وخطاباته الإنشائية المملة. هرب بمليارات الدولارات وبأطنان من الذهب سرقها من الشعب السوري؛ هذا إلى جانب المليارات التي “حصّلها” بالشراكة مع شقيقه وحلفائه في “محور المقاومة” من الاستثمار في صناعة وتسويق الكبتاغون. هرب بعد أن ضلل أقرب المقربين إليه، وترك وراءه أكواماً من الصور والأوراق التي ستكون من دون شك مستقبلاً مادة غنية يستند إليها الباحثون، إلى جانب معطيات أخرى، في محاولة لفهم طبيعة الأحقاد التي كان هذا المخلوق الغريب يكنها للشعب السوري.
وخرج السوريون المكتوون بنار الحكم المستبد الفاسد المفسد الذي استمر في بلادهم على مدى أكثر من 61 عاماً، خاصة في مرحلته الأسدية الأكثر إجراماً وقباحة، ليعلنوا عن فرحهم وابتهاجهم بما حصل. خرج الشباب فرحاً وبحثاً عن مستقبل أفضل لهم بعد الخلاص من سلطة مافيوية التهمت كل شيء، وسدّت الآفاق أمامهم. خرج الرجال والنساء ليؤكدوا حرصهم على مستقبل أبنائهم وبناتهم وأحفادهم. كما خرج الكهول والشيوخ ليشكروا الله الذي مكّنهم من رؤية اليوم الحلم الذي طالما انتظروه، وهو اليوم الذي خرجت فيه أسرة الأسد من الحكم، ولاذت بالفرار خوفاً وهلعاً من القصاص العادل.
مرّ أسبوعان حتى الآن على الحدث السوري المجلجل الذي سيكون له شأن كبير محلياً وإقليمياً ودولياً، وما زالت نشوة السوريين في ذروتها، هذا رغم بعض الملاحظات أو الانتقادات أو التوجسات هناك وهناك.
ملاحظات وانتقادات تمحورت حول طريقة تشكيل الحكومة المؤقتة، والفترة التي حددتها لنفسها، أو حُددت لها، وعدم التواصل مع القوى المعارضة السورية على مستوى الأحزاب والكيانات السياسية والأشخاص…ألخ. وهواجس تخص التحولات والمتغيرات المتوقعة، وأخرى تستمد نسغها من تجارب جماعات إسلامية أخرى في الحكم كان من نتائجها الانعزال وإسكات الأصوات المختلفة (إيران وأفغانستان) على سبيل المثال.
ولكن في مقابل تشاؤمية أصحاب هذه الانتقادات والملاحظات والهواجس، هناك مسحة تفاؤلية لدى بعض المعارضين السوريين الليبراليين، وحتى في أوساط اليسار. أما الحجج التي يبشّر بها هؤلاء لشرعنة تفاؤلهم فهي تتجسد في ضرورة الاعتراف بأن ما حققته هيئة تحرير الشام من جهة التخلص من سلطة آل الأسد، لم تتمكن الجهات السورية الأخرى في المعارضة من تحقيقه. ومن بين حجج تسويغ الموقف من قبل المتفائلين هو أن الانتهاكات الموثقة بحق المكونات المجتمعية السورية المخالفة لها في الدين أو المذهب تكاد لا تذكر؛ هذا إلى جانب التصريحات الخاصة بضرورة احترام حرية المرأة، وإتاحة المجال أمامها في العلم والتعليم، وكل ذلك يتناقض مع ما هو حاصل في أفغانستان تحت حكم طالبان.
ولكن بين ملاحظات وهواجس المتشائمين وانتقاداتهم، وتسامح وتبشير المتفائلين، هناك جملة تحديات لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار أهمها:
أولاً – مساعي القوى المتضررة من سقوط السلطة الأسدية سواء المحلية أم الإقليمية، وحتى الدولية التي تبذل، وستبذل، من أجل عرقلة التحول النوعي الذي ينتظره السوريون. فهذه القوى ستحاول بكل الأساليب دفع الأمور في سوريا ما بعد الأسدية إلى التفجير والفوضى العارمة. وذلك عبر القيام بعمليات إرهابية وحملات تشكيك والعلاقات العامة، التي ترمي إلى إثارة المخاوف بشأن الأهداف الحقيقية للسلطات الجديدة في دمشق، ومقاصدها غير المعلنة، التي ستتجسد، وفق القوى المشار إليها، في حكم إشسلاموي لا يراعي الوضعية السورية وخصوصيات مكوناتها المجتمعية.
ثانياً – أهمية معالجة موضوع “قسد” بالحكمة وبعد النظر. ولتمكين القارئ غير المطلع على تفاصيل هذا الموضوع، هناك حاجة للعودة إلى موضوع دخول قوات “حزب العمال الكردستاني” تحت أسماء واجهاته السورية إلى سوريا في بداية الثورة بناء على اتفاق مع سلطة بشار الأسد كانت الغاية منه منع الكرد من التفاعل مع الثورة السورية، عبر إرهاب الناس واغتيال الناشطين وملاحقة الشباب الذين كانوا من الناشطين في الثورة. وهكذا سيطر الحزب المذكور على المناطق ذات الأغلبية الكردية في محافظة الحسكة وكوباني/عين العرب وعفرين؛ وكان ذلك بموجب عقد تسليم واستلام بين سلطة آل الأسد والحزب المذكور، وليس نتيجة “معارك” وهمية خاضها الحزب المشار إليه مع السلطة كما فبركت الماكينة الإعلامية لحزب العمال وواجهاته.
ولكن مع تراجع هيمنة السلطة، ودخول الروس والولايات المتحدة إلى الساحة السورية، تغيرت الأمور، إذ توافقت الولايات المتحدة مع روسيا على أولوية محاربة الإرهاب، مقابل تخلي الولايات المتحدة عن موضوع تغيير السلطة. ومن هنا وجد الجانب الأمريكي أهمية الاعتماد على قوات “حزب العمال” بأسمائها المختلفة التي غيرت اسمها، لتصبح “قوات سوريا الديمقراطية ـ قسد” بعد أن جرى تطعيمها بعناصر عربية وسريانية، وذلك بناء على حسابات أمريكية داخلية وتوازنات إقليمية. وبذلك غضت الولايات المتحدة النظر عن موضوع هيمنة حزب تصنفه في قائمة الإرهاب على القوات المذكورة.
وعلى إثر السقوط الفجائي غير المتوقع للسلطة الأسدية بعد هروب رئيسها، غلبت على سلوكية “حزب العمال” وقيادات “قسد” السورية حيرة وارتباك لافتين. فـ”حزب العمال” لا يريد التنازل عن ورقة “قسد” التي تمكنه من التدخل في شؤون كرد سوريا والوضع السوري بصورة عامة، وذلك بناء على التنسيق القائم بينه وبين حليفه النظام الإيراني. هذا في حين أن قيادات “قسد” تجد صعوبة كبيرة في عملية التوفيق بين التزاماتها مع حزب العمال، وبين رغبتها لأداء دور فاعل في الواقع السوري والترتيبات الجارية على صعيد السلطات السورية الجديدة، الأمر الذي حال بينها وبين خطوة سياسية براغماتية تعلن بموجبها فك ارتباطها مع “حزب العمال”، وهي الخطوة التي تمكنت “هيئة تحرير الشام” من الإقدام عليها بالنسبة إلى علاقتها مع “القاعدة”.
كما تعاني قيادات “قسد” في الوقت ذاته من إشكالية كبيرة في التعامل مع تركيا. وهذا ما يتجلى من خلال دعوات قائد قسد المتكررة إلى فتح الحوار أو العلاقة مع تركيا بغية حل نقاط الخلاف؛ تطالب تركيا بضرورة قطع العلاقات بين “قسد” و”حزب العمال”، وخضوع “قسد” في الوقت ذاته لحكم السلطات الجديدة في دمشق. وهذا الموضوع يحتاج إلى معالجة خاصة، لأنه يجسّد اشكالية ضمن المجتمع الكردي السوري نفسه، واشكالية في الوقت ذاته بالنسبة إلى العلاقة الأمريكية مع الجانب التركي، وذلك باعتبار أن أمريكا هي التي تدعم هذه القوات وتضمن لها الحماية.
أما المعالجة المطلوبة فهي تنجز على منحيين، الأول يتحقق من خلال مبادرة تركيا إلى إحياء العملية السلمية مع حزب “العمال الكردستاني” وبقية الأطراف الكردية في تركيا بغية التوصل إلى حل عادل للقضية الكردية ضمن إطار وحدة تركيا أرضاً وشعباً. أما المنحى الثاني فهو يتمثل في ضرورة إعلان “قسد” عن فك الارتباط الواضح النهائي مع “حزب العمال”، والتصرف كقوة سورية وهذا ما سيفتح المجال أمام التوافق الجاد مع المجلس الوطني الكردي السوري، والأحزاب الكردية السورية خارج المجلس، مما سيساهم في عملية تشكيل وفد كردي مشترك في أي حوار حول مستقبل سوريا على صعيد حقوق مكوناتها السكانية، وشكل الدولة ونظام الحكم.
ثالثاً – الحاجة إلى مرجعية وطنية تمثل المكونات المجتمعية والسياسية السورية، تضفي صيغة من صيغ مشروعية واقع الحال على السلطة الجديدة في المرحلة الانتقالية الراهنة المحفوفة بالمخاطر التي تمر بها سوريا. فوجود مثل هذه المرجعية سيقطع الطريق على جهود القوى المتضررة التي تسعى، وستسعى، تحت مختلف الشعارات البراقة للتشويش والمزايدات التي عادة ما تكون مرحلة تمهيدية لتنسيق الجهود بين أطراف الثورة المضادة التي ستحاول بكل السبل استعادة مواقعها وامتيازاتها.
واليوم هناك حديث حول مؤتمر وطني سوري عام، يكون بمثابة مرجعية لسلطة انتقالية، ويكون في الوقت ذاته جهة مقبولة لتشكيل هيئة أو لجنة مهمتها كتابة الدستور الذي لا بد أن يعرض على الشعب السوري في الداخل والخارج للاستفتاء عليه. مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة طمأنة سائر المكونات المجتمعية السورية من دون أي استثناء أو تمييز، على أن تجرى الانتخابات بموجب الدستور والنظام الانتخابي الجديدين، لتدخل سوريا بعد ذلك مرحلة استقرار واستعادة للتوازن المجتمعي الوطني.
رابعاً – أهمية طمأنة الجوار الإقليمي، وتعميق جسور التواصل مع الدول العربية؛ والحرص على استقلالية القرار الوطني السوري، الأمر الذي يقطع الطريق على الكثير من التدخلات بصرف النظر عن مصادرها. ولكن في الوقت ذاته تحتاج سوريا اليوم أكثر من أي وقت مضى بناء العلاقات الدولية المتوازنة التي من شأنها المحافظة على المصالح المشتركة.
ومن الملاحظ في هذا السياق أن أحمد الشرع قائد “هيئة تحرير الشام”، الذي يقود سوريا حاليا بفعل قوة الأمر الواقع، يتحث بلغة مطمئنة في هذا المجال، ولكن الكل في انتظار ترجمة هذه التصريحات واقعاً على الأرض، بما في ذلك تصريحاته الخاصة بضمان حقوق سائر المكونات السورية وحقوق المرأة.
بالإضافة إلى ما تقدم، لا بد من أخذ موضوع تطبيق العدالة بحق كل من أسهم في إراقة دماء السوريين ظلماً وعدواناً؛ وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، وذلك لسد المنافذ أمام المخاطر التي من شأنها ترك سوريا مجالاً مفتوحاً أمام كل الاحتمالات غير المرغوب فيها من قبل السوريين الحريصين على وحدة شعبهم ووطنهم.
إن أخذ هذه التحديات الأساسية بعين الاعتبار، سيساهم من دون شك في تخفيف حدة التشاؤم ورفع وتيرة التفاؤل؛ وسيقطع الطريق على مخططات المتضررين من سقوط سلطة آل الأسد، وهي مخططات قد تنفذ عبر العمليات التخريبية، وبث الشائعات، والعزف على وتر العصبيات الطائفية أو القومية وحتى المناطقية.
متغيرات الحدث السوري الكبير متلاحقة متداخلة متحولة، لذلك ينبغي الانتباه والحذر.
*كاتب وأكاديمي سوري
القدس العربي
——————————
متى ستذهب سورية إلى الصناديق؟/ فاطمة ياسين
22 ديسمبر 2024
يسجل التاريخ السياسي لسورية بعد رحيل الانتداب الفرنسي (1946) وحتى انقلاب آذار (1963) الذي جاء بالبعثيين إلى السلطة، ممارسات ديمقراطية على المستوى الشعبي، متمثلة بانتخاب ما كان يطلق عليه المجلس، أو الجمعية التأسيسية، بحسب السياق السياسي لسورية التي شهدت نبضات ديمقراطية تتلوها أخرى عسكرية، مع دوامة الانقلابات التي عاشتها بعد الانتداب. وجاءت الانتخابات الحقيقية الأخيرة في ما سُمي مجلس التأسيس البرلماني الذي أعقب فترة الوحدة مع مصر (1961). كان عمر ذلك المجلس 450 يوماً فقط، قبل أن تُطفأ جذوة الديمقراطية وتنتهي كل أشكال الانتخابات الحرّة بمجيء حزب البعث، بأشكاله وأجنحته السياسية والطائفية، وصولاً إلى عام 1970 حيث انفرد حافظ الأسد بالسلطة، وأسّس حكماً فردياً عائلياً امتدّ إلى ما يقرب من 55 عاماً، انتهت بهروب بشّار في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تلاشت خلال فترته الطويلة الذكريات الديمقراطية، وقد هرم كل من شهد الانتخابات الأخيرة، فأصبحت مجرّد تاريخ جرى التعتيم على تفاصيله، بالإضافة إلى وصف السلطة اللاحقة له بالرجعية.
في صبيحة الفجر الجديد، وجُرعة التفاؤل الغامرة التي أحاطت بالسوريين بعد التخلص من بشّار، اتجه التفكير فوراً نحو الصندوق، أمانيّ كانت مكبوتة أو مغيّبة في باطن العقل السوري، لم يجرؤ أحد على أن يتكلم عنها سابقاً. كان يُكتفى ربما بالحلم بها في غفلةٍ عن كل رقيب، وأصبح الآن يشعر بأن عليه أن يتوقّف عن الحلم، ويبدأ فوراً بإعداد نفسه لمواجهة الصندوق بورقة انتخابية، لا يُجبره أحدٌ على طريقة إملائها. يرغب جميع السوريين في خوض هذه التجربة، رغم أن الأمر لم ينضج بعد، فلا بد من بنيةٍ تحتيةٍ مناسبة، حتى يتمكّن السوري من خوض هذه التجربة، وأمامه تحدّيات حقيقية عديدة، فما زالت آثار النظام السابق على شكل أسلوب عمل في المؤسّسات التي خلفها وراءه، وصوره وشعاراته ما زالت موجودة في ضمائر بعض الناس الذين جرى تحذيرهم وتخديرهم بشكل منظم طوال فترة الحكم السابقة، ويجب أن يخضع كل شيء اليوم لعملية كنس عميقة لنستطيع البدء من جديد.
المرحلة الأولى ضمان الأمن، وهو العامل الأساسي للبدء، فقد ذهب النظام وألقى أسلحته في الشوارع وعلى مفارق الطرق، وأصبحت متاحة في أيدي كثيرين، بالإضافة إلى حفنة من خلايا لم تجد طريقاً لها للهرب ما زالت نائمة، ويمكن أن تنشط في أي لحظة. لذلك، تثبيت الأمن حاجة ملحّة وأولوية، يجب أن توضع في المقام الأول قبل أية ممارسة. وفي المقام الثاني، يجب وضع أسس جديدة للمجتمع، فدستور النظام وقوانينه واستثناءاتها لا تمكّن من الوصول إلى قيادة دولة حديثة وعصرية. وهذه أولوية أخرى، تقع على عاتق النخب الثقافية والقانونية في سورية، ويجب أن تخضع لموافقة الشعب عليها. وقبل هذا وذاك، لا بد أن يتحسّن الواقع الاقتصادي بشكل كبير، فسورية في حالة “كوما” اقتصادية، من دون موارد، وبخزينة فارغة، وفي حالة بحث عن حلفاء يمكنهم تقديم العون. لذلك، ضخّ الحياة في مؤسّسات واستثمارات جديدة أمر ملحّ، وتحسين وضع الخدمات أمر ضروري آخر.
مهمّات كثيرة وصعبة تنتظر الفريق الحاكم، ولن تكون مهلة الثلاثة أشهر كافية لتبدأ سورية بالتحرّك والإنتاج، فقد يحتاج ذلك فترة أخرى قد لا تقلّ عن عام، يجري فيها التركيز على كل النقاط السابقة، قبل التفكير في أي إجراء سياسي داخلي، مع الوضع بالاعتبار إطلاق العنان لأي تحرّك سياسي هادف ذي شعارات وطنية واضحة. وفيما يبدو على بعضهم الاستعجال بنياتٍ حسنة أو سيئة، لا بأس باستيعاب هذا كله، واحتضانه مرحلياً، فقبول الجميع ضروري، والكل معنيون بما سبق ذكره، وعلى عاتقهم جميعاً المساهمة فيه وإنجاحه. ومن الممكن فعلاً أن يكون قد كتب لسورية عصر جديد يليق بها بعد عقودٍ مظلمةٍ لا يجب أن تُحسب من تاريخها العريق.
العربي الجديد
——————————
كلام مبشر والعبرة بآليات التطبيق/ عبسي سميسم
22 ديسمبر 2024
منذ استلام الإدارة السورية الجديدة في العاشر من الشهر الحالي، مهامها كحكومة تصريف أعمال على مستوى السلطة التنفيذية، وهيئة سياسية على مستوى الخطاب السياسي، والتي كلفت بإدارة البلاد لمدة ثلاثة أشهر، وضعت حكومة تصريف الأعمال برئاسة محمد البشير، ثلاث أولويات رئيسية أمامها في هذه المرحلة. كانت أولى هذه الأولويات الحفاظ على استقرار مؤسسات الدولة وضمان عدم تفككها، وهي مهمة ترتبط بالدرجة الأولى بمدى تعاون حكومة النظام السابق التي أبدى رئيسها محمد غازي الجلالي استعداده للتعاون في نقل الملفات الرسمية بشكل سلس ومنهجي بما يحفظ مرافق الدولة. إلا أن مشاكل عديدة لا تزال تعيق هذا الانتقال الذي تم بأفضل سيناريو محتمل حتى الآن، تتجلى في عدم تعاون مسؤولي بعض المؤسسات الموالين للنظام السابق في نقل هذه الملفات، سواء من خلال هرب بعضهم وترك الملفات والوثائق المتعلقة بالدولة عرضة للسرقة والنهب، أو من خلال إحراق ملفات بعض المؤسسات بشكل متعمد قبل الهروب منها، هذا بالإضافة إلى تعرّض بعض المؤسسات الحكومية للنهب والسرقة من قبل بعض عناصر الفصائل غير المنضبطة التي لا تنتمي لـ”هيئة تحرير الشام”، أو حتى من قبل بعض المواطنين العاديين الذين استغلوا حالة الفراغ التي حصلت بعد هروب بشار الأسد وقبل وصول عناصر “هيئة تحرير الشام” إليها.
أما المهمة الثانية لهذه الحكومة فتتمثل في الضبط الأمني، وهو موضوع تعترضه الكثير من التحديات، منها عدم كفاية عناصر الأمن العام والأمن الداخلي التابع للهيئة للقيام بمهمة هذا الضبط على مستوى البلاد، واضطرارها إلى الاستعانة بعناصر غير مدربة وغير منضبطة في هذه العملية. كما أن بقاء السلاح بيد عناصر سابقين لدى فصائل المعارضة وبيد عناصر النظام السابق الذين التزموا منازلهم، يثير مخاوف من حالات فلتان أمني في بعض المناطق، خصوصاً ضواحي العاصمة دمشق وبعض المدن السورية.
أما الهدف الثالث فهو استمرار تقديم الخدمات للمواطنين، والذي يمثل التحدي الأكبر، نظراً لحالة الفساد الكبير المستشري في مؤسسات الدولة، ولعدم توافر مصادر طاقة سواء لتأمين كهرباء للمواطنين أو طاقة تشغيلية للمؤسسات الخدمية، هذا عدا عن سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على المناطق التي تحتوي على السلة الغذائية الزراعية، ومصادر الطاقة الأحفورية لسورية، من نفط وغاز وغيرها.
لكن، على الرغم من كل التحديات التي تعترض الأهداف الآنية لحكومة تصريف الأعمال، إلا أن التحدي الأكبر أمام هذه الإدارة يكمن في آليات الانتقال السياسي التي تحدثت عنها هيئتها السياسية، لناحية آلية اختيار ممثلين عن السوريين لمؤتمر وطني، ومن الذي سيختار وما هي محددات هذا الاختيار، لأنه بناء على تلك الآليات فقط تظهر جدية الإدارة الجديدة لسورية من عدمها في إقامة دولة مدنية ديمقراطية لكل السوريين.
العربي الجديد
—————————
أحمد الشرع بين أطماع غربية وخشية عليه/ صلاح الدين الجورشي
22 ديسمبر 2024
لا يزال الحدث السوري يشد اهتمام العالم، رغم تعاقب الأيام على فرار بشّار الأسد، وسقوط دمشق في أيدي المعارضة. ونظراً إلى أهميتها وموقعها الاستراتيجي، تبدو سورية أشبه بالحمامة التي تحيط بها الثعابين، يحاول كل ثعبانٍ أن يفترسها وحده، فتصريحات المسؤولين الغربيين تعكس بوضوح رغبةً في الوصاية، وتدخّلاً صريحاً في الشؤون الداخلية لهذا البلد الجريح والمنهك، فهذا يدافع عن الأكراد، وآخر عن العلويين، وثالث يضع شروطاً على السلطة الجديدة مقابل الاعتراف بها. عادت بقوة الشهية الاستعمارية.
في قلب هذا المشهد، يقف أحمد الشرع الذي تحوّل إلى لغز، كلٌّ يحاول تفكيك ما يحيط به من أحجيةٍ وغموض. يراهن الجميع عليه، عسى أن يكون الرجل الذي قد يساعدهم على تسليم كنوز الشام لهم، وفي الآن نفسه، يخشون التورط معه والوقوع في “حيله ومناوراته”. لهذا تراهم يستعملون معه سياسة العصا والجزرة. وهو لا يكتفي بطمأنتهم، وإنما يتخذ قرارات شهد الجميع بوجاهتها وأهميتها، الأمر الذي عمّق الحيرة لديهم، وزاد من تردّدهم. فالدواهي لا يربكهم إلا داهيةٌ واثقٌ من نفسه، وعارف طريقه ومقنع بقوله وفعله. كان من جديد قراراته ووعوده إعلانه أمام وفد من الدروز أن سورية “يجب أن تبقى موحّدة، وأن يكون بين الدولة وجميع الطوائف عقد اجتماعي لضمان العدالة الاجتماعية”. وقد سبق لعمر بن الخطاب أن قال: “لستُ بالخِبِّ ولا الخِبُّ يخدعني”.
ما يُخشى في هذه اللحظة الحرجة والدقيقة التي تمر بها سورية أن تعمل جهة ما على اغتيال أحمد الشرع لتُفسد ما يجري، وتدفع الوضع الداخلي نحو الانفجار والفوضى. وهذا هدف متاح وسهل. هناك أكثر من طرفٍ لا تعنيه الترتيبات الجارية على الأرض، التي قد تُفضي إلى ولادة سورية جديدة ذات مقومات مختلفة عن المرحلة السابقة، التي كانت فيها البلاد أشبه بضيْعة تتصرّف فيها عائلة.
هناك إسرائيل التي لا ترغب في أن ترى سورية مستقرّة وديمقراطية. ورغم أن هناك من يعتقدون أن الذين أطاحوا نظام بشّار الأسد بيادق تحرّكهم الصهيونية، وأن التغيير الذي حصل في عشرة أيام فقط ليس سوى مسرحية، إلا أن أصحاب هذا القول يفتقرون إلى الحجّة والدليل. فإسرائيل لا تريد الخير للسوريين، وتعمل على كسر شوكتهم، وهو ما قد يدفعها إلى بثّ الفوضى في صفوفهم بوسائل متعدّدة، منها اللجوء إلى اغتيال من يلتفّون حوله.
هناك أيضاً تنظيم داعش الذي انشقّ عنه الشرع وحاربه، وأعلن التخلي عن أفكاره ومناهجه. فهذا التنظيم يتابع ما يجري، وعندما تكون النتائج السياسية تتعارض كلياً مع مصالحه، سيحارب الرجل، وسيعمل على إفساد ما يقوم به.
هناك المخابرات الغربية، الأميركية والأوروبية، التي تراقب المشهد، وتملك خيوطاً موزّعة على كامل التراب السوري، فالهجمات التي شنها الجيش الأميركي على مواقع “داعش” وغيره من التنظيمات الراديكالية، في تزامن مع الهجمات الإسرائيلية التي قصفت معظم المواقع العسكرية والاستراتيجية التي بناها النظام السابق، رسائل إلى كل من سيحكم سورية مستقبلاً، حتى يكون على بيّنةٍ من أن الأيدي الطويلة قادرة على الوصول إلى كل شبر من الأراضي السورية.
هناك حزب الله وإيران القادران على الانتقام من أحمد الشرع، وغيره من الأطراف التي ساهمت في إبعادهما عن الساحة السورية، فالأحقاد بين الطرفين بلغت درجة من الغليان قد تدفع نحو استمرار الحرب بينهما بكل الأشكال، بما فيها الاغتيالات، رغم انشغال الإيرانيين وقيادة حزب الله بالخسائر التي ترتبت عن المواجهات أخيراً مع إسرائيل.
تكشف هذه الأمثلة خطورة المرحلة التي تمر بها سورية، والتي تفرض على الشرع أن يكون شديد الحذر، فهو مطالبٌ بأن يتصدّى بذكاء لأطماع الدول الراغبة في نهش الدولة السورية والتحكم فيها. ومن ناحية أخرى، عليه أن يحمي نفسه من اغتيال محتمل قد تقدم عليه أطرافٌ له معها حسابات ثقيلة. لهذا تراه غير متعجّل في تنظيم الانتخابات التي يدعوه بعضهم إلى تنظيمها.
العربي الجديد
———————–
سيناريوهات سورية متوقّعة/ حسن مدن
22 ديسمبر 2024
من المبكّر جداً توقّع كيف ستسير مجريات الأحداث في سورية، بعد سقوط نظام بشّار الأسد، وكيف ستؤثر هذه المجريات على الوضع العربي عامة، لا بل والوضع الإقليمي، بالنظر إلى أهمية سورية من الأوجه كافة، كونها دولة مفصلية في المنطقة، ولما يجري فيها انعكاساته في محيطها.
على خلاف التوقّعات السابقة من أن التحوّل في سورية، من النظام الذي كان قائماً إلى ما بعده، سيكون دموياً، فإن لحظة سقوط نظام الأسد مرّت بسهولةٍ نسبيّاً، وساعد في ذلك أنّ النظام قد تهاوى من داخله، وفقد أوجهاً رئيسيةً من الدعم التي كانت تقدّم له من حلفائه، إقليمياً ودولياً. وبعد مرور حوالي أسبوعين على سقوط هذا النظام، يقدّم الخطاب المرسل من القيادة الجديدة، على لسان وجهها الأبرز أحمد الشرع، تطمينات إلى الداخل والخارج، حول طبيعة الخطاب السياسي المنتظر من دمشق الجديدة، وسط مخاوف ليست خافية، أولاً من قطاعاتٍ واسعةٍ من المجتمع السوري المعروف بتنوّعه الطائفي والمجتمعي، وتراثه الثقافي – الاجتماعي المنفتح، من أن يفرض على سورية نظام إسلاموي متشدّد، يتسق مع خطاب الجماعات الإسلامية المسلحة المناوئة للنظام السابق، وكان لها دور في إسقاطه. أما على صعيد الإقليم، ومن واقع تجارب سابقة، في مصر وتونس وسواهما غداة أحداث عام 2011، فهناك خشية من إعادة “تصدير” ما جرى في سورية إلى بلدان عربية أخرى.
في التعامل مع هذه الخشية الإقليمية، العربية تحديداً، أكثر الشرع من القول إنّ أولويته ستكون سورية داخلية، وإن الغاية هي تأمين استقرار سورية وعودة المهجّرين، والنهوض بوضع البلد. وبالغ أكثر مما ينبغي في طمأنة إسرائيل من أنّ الدخول في مواجهتها ليس مطروحاً في أجندة القيادة الجديدة، كون سورية منهكة من الظروف الصعبة التي عانت منها بسبب سياسة النظام السابق، رغم احتلالها (إسرائيل) أراضي سورية استراتيجية مباشرةً بعد سقوط الأسد. أما في التعامل مع الخشية الداخلية، فقد سعى، أيضاً، إلى الطمأنة، من خلال مفردات خطابه التي نأت، قدر الإمكان، عن الخطاب المعتاد من الجماعات الإسلامية الآتي هو منها، بالنظر إلى تاريخيه، الحزبي والسياسي المعروفين. وتنال هذه الطمأنة رضى ملحوظاً عند المتخوفين، رغم أنّ الأمر لا يخلو من ممارسات متفرّقة، تبثّ على وسائل التواصل، تظهر أنّ الطبع يغلب التطبّع، ما يتطلب تدابير فعلية وصارمة من القادة الجدد تقرن تطميناتهم بالأفعال الملموسة.
سورية اليوم في مرحلة مخاض حاسم. الاحتمالات مفتوحة على مصراعيْها، وبينها الاحتمالات السلبية أو السيئة، والتي قد لا تنجُم بالضرورة من سلوك القادة الجدد، أو من سلوكهم وحدهم، وإنما من تضارب الأجندات الدولية والإقليمية تجاه المستقبل السوري. لقد تلقّت إيران ضربة كبيرة بسقوط الأسد، ووجدت نفسها مكرهةً على مغادرة سورية، وليس واضحاً بعد ما إذا كانت هذه الخسارة قد أفقدتها كلياً أي هامش للمناورة. وتختلف التفاصيل بالنسبة لروسيا، الداعم الدولي الأكبر لنظام الأسد، التي أظهرت براغماتية واضحة في التعامل مع مستجدّات ما بعد سقوطه، وسط تطمينات القيادة الجديدة لها بشأن وضع قاعدتيْها العسكريتين على الساحل السوري، ولو مؤقتاً، ربما بطلب تركي، كون أنقرة حلّت محل طهران في التأثير على القرار السياسي في دمشق، بل وأصبحت اللاعب الإقليمي الأكثر نفوذاً فيها، خاصة وأن جزءاً من الأراضي السورية هو، فعلياً، تحت سيطرتها منذ سنوات، وبات الطريق ممهّداً لها أكثر للسيطرة على مزيدٍ منها في نطاق مواجهتها خصومها الكرد، الذين يحظوْن، بدورهم، بغطاء أميركي، ليس واضحاً بعد كيف سيتعامل معه الرئيس المنتخب دونالد ترامب.
تحمل هذه الشبكة من التناقضات والتقاطعات محلّلين إلى عدم استبعاد سيناريوهات باعثة على الشؤم، من أن تجد سورية نفسها أمام سيناريو مشابهٍ للذي مرّت وتمرّ به ليبيا، خاصة على خلفية التعدّد الطائفي والإثني في البلد، ما قد يؤدّي إلى تفكّكها.
سيناريو مثل هذا ليس غاية قادة دمشق الجدد ولا في مصلحتهم. وكل الحريصين على مستقبل سورية والأمن في الإقليم مطالبون بالعمل على تفاديه، وهذا أمرٌ ممكنٌ جداً، لو تضافرت الإرادات. تتطلب مواجهة التحدّيات الحقيقية الكبيرة والتصدّي لها حكمة وبُعد نظر من جميع المعنيين. وبالطبع، تقع المسؤولية الأكبر على عاتق أصحاب القرار الجدد، الذين عليهم أن يدركوا أن المرحلة المقبلة أصعب بكثير مما سبقها.
العربي الجديد
—————————-
الجولاني وإسرائيل والمؤامرة الكبرى!/ محمد أبو رمان
22 ديسمبر 2024
مرّة أخرى، تعود نخبة مثقفة وسياسية عربية لتتحدّث عن المؤامرة الكبرى التي نجحت في سورية برعاية أميركية صهيونية وبتواطؤ وإشراف تركي، وربما عربي وبتنفيذ إسلامي لتقسيم سورية، بل المنطقة، ولتهميش القضية الفلسطينية والدخول في حقبة “الهيمنة الإسرائيلية”. فما سقط ليس نظام الأسد، بل الدولة السورية، وأبو محمّد الجولاني وهيئته ليسوا سوى عملاء، أو في أحسن الأحوال “أحجار على رقعة الشطرنج”، تحرّكهم أصابع استخباراتية عالمية وإقليمية لخدمة مشروع الهيمنة الغربية والمخطّط الصهيوني القديم – الجديد في إعادة تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية وعرقية.
بسهولةٍ، في مثل هذه التحليلات (لا أقلّل من شأنها وأتفهم المخاوف والمبرّرات وراءها)، ستُستدعى عدّة مخططات دولية وغربية قديمة – جديدة تحدثت عن تقسيم المنطقة، بخاصة كبيرهم الذي علّمهم السحر، برنارد لويس. فقد قدّم في ثمانينيات القرن العشرين تصوّرات استشرافية لمستقبل المنطقة وخططاً، أو تنبأ بأنّنا أمام انهيار للنظام الذي تأسّس بعد الحرب العالمية الأولى، وأنّ مستقبل المنطقة سيشهد تغييرات كبيرة، وتحدّث، في محاضرات متعدّدة، عن الفسيفسائية العرقية والدينية والطائفية في المنطقة.
لم يدّخر بنيامين نتنياهو جهداً في تأكيد هذه النظرية، عندما سارع إلى استثمار الفرصة، بعد انهيار نظام الأسد، إذ قام بتدمير منهجي كبير لكل الأسلحة الاستراتيجية، وحتى التقليدية، ومخازن السلاح وسلاح الجو وسلاح البحرية السوري، ولم يُبقِ ولم يذر كل ما طاولته يده، محاولاً بذلك جعل عملية إعادة بناء جيش وطني في سورية وتطوير قدراته تتطلب سنين طويلة.
الخلل الجوهري، في الرؤية السابقة، أنّها تخلط الفاعلين بالسياقات، ولا تميّز بين الأسباب والنتائج بدرجة رئيسية، فهل من أوصل سورية إلى هذه المرحلة من الضعف والانهيار والتفكك هو المجموعات المسلّحة، أم النظام الدكتاتوري الدموي؟ لو كان هنالك نظام ديمقراطي تعدّدي يحترم الثقافات والاختلافات، ويقوم على إنسانية الإنسان وكرامته وحقوقه، ويسمح بقدر معقول من المشاركة الشعبية؛ فهل كان جيشه سيهرُب ويترك السلاح (كلّف ثروات طائلة على حساب الشعب السوري نفسه)؛ لو كان جيشه يؤمن بقضيته، لقاتل حتى النهاية دفاعاً عن وطنه، لو كان لدى رئيسه نفسه الحس الوطني والإنساني، ويؤمن بأنّ ما يقوم به فعلاً حماية بلاده، لما كان ليهرب مسرعاً تاركاً الجميع، بمن فيهم شقيقه وأبناء شقيقته خلفه.
لا شكّ في أنّ هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة استثمرت في حالة ضعف النظام، وأنّ هنالك أجندة تركية كانت تدعم تحرّك المعارضة (على الأقل في الوصول إلى مناطق واسعة من الشمال السوري)، وبلا شكّ أنّ إسرائيل كانت تريد قطع الطريق على “النفوذ الإيراني” وضمان عدم عودة تسلّح حزب الله، ذلك كلّه صحيح، لكنّه سياقات ونتائج لأسباب بنيوية كامنة في فساد الواقع نفسه.
المشكلة الأخلاقية في الرؤية السابقة أنّها تقفز عن قضية جوهرية، تمثّل الآفة الكبرى في العالم العربي؛ الاستبداد المدمّر والأنظمة البوليسية القمعية، وهي أساس البلاء والفساد والدمار؛ لا يمكن لنظامٍ يقوم على امتهان إنسانية الإنسان وحيونة الإنسان (كما كتب الأديب السوري ممدوح عدوان) أن يكون نظام تحرير لفلسطين أو غيرها، أو نظام ممانعة. هذه كذبة كبيرة وادّعاء سخيف، ومن يصدّق أو يركض وراءه من مثقفين ونخب عربية، لأي سببٍ كان، ليسوا فقط واهمين، بل مشاركون في تبرير تلك الجرائم الإنسانية العظمى، حتى لو كان تحرير فلسطين سيمرّ عبر تدمير الشعب السوري أو أيّ شعب، فهذا ليس مبرّراً أخلاقياً، وما كان يحدُث في السجون السورية من تعذيب وتدمير ممنهج لمئات آلاف من البشر لا يجوز أن يكون بالنسبة إلى المثقفين والباحثين والسياسيين الإصلاحيين في العالم العربي مجرّد “مسألة عاطفية”، بل هو حقل دراسي وبحثي مهم وخطير، ومن الضروري أن يأخذ قدراً أكبر من الدراسة والتحليل في الأوساط البحثية العربية الحرّة. وأدعو، في هذه المناسبة، المركز العربي لدراسة السياسات إلى أن يخصص حلقات دراسية وبحثية لهذا الموضوع المهم.
العربي الجديد
———————————
النهايات السورية لأحلامٍ إمبراطورية/ أيمن نبيل
22 ديسمبر 2024
مع سقوط نظام بشار الأسد رسميًا في فجر الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري، يدلف المجال العربي والشرق الأوسط إلى حقبة مثيرة لا تزال قسماتها تتشكّل.
يمكن القول إن سقوط النظام السوري إيذانٌ بأفول مشاريع إمبراطوريةٍ متداخلة. خلعت سورية على روسيا “عباءة الإمبراطورية”. كانت روسيا دولة عظمى تُجهز الحملات العسكرية وتبعثها إلى ما وراء البحار، وتقاتل إلى جانب حليفها وتحسم له معركة بقائه التي ما كان ليحسمها لولاها، ثم إنها تملك قواعد للأساطيل والطائرات على البحر الأبيض المتوسط، محققة بذلك حلم جنرالات روسيا القديم أن يكون لبلادهم موطئ سُفُن في ذلك البحر الذي حُملت عليه الجيوش والبضائع والأديان والأفكار منذ مهد الحضارة. تشبّث بشّار الأسد بروسيا منذ 2011، ثم سقط ساحبًا معه عنها عباءة الإمبراطورية ليتطابق شكل روسيا مع حقيقتها العارية، وهي أنها مجرّد دولة كبيرة في الإقليم الأوروبي، تُكابد في أوكرانيا، كي تحفظ هيبتها وأمنها.
أما إيران فكانت سورية مرتكز حُلمها الإمبراطوري، رغم أنها آخر ما احتجنته من بلدان المشرق العربي. صحيحٌ أن العراق يبقى رئة أي مشروع توسّعي إيراني منذ الإمبراطورية الفارسية الأولى وفتح قورش الأكبر بابل في القرن السادس قبل الميلاد، ولكن سورية هي الممر العظيم وملتقى خطوط المشروع الإمبراطوري، وبها امتد نفوذ النظام في إيران، من الهضبة الإيرانية وصولاً إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. علاوة على أن حزب الله في لبنان، درّة وكلاء إيران والمشرف عليهم، كان يتصل بالمركز الإيراني عبر سورية، منذ البدايات في مطلع الثمانينيات وصولًا إلى الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري. ليس صحيحًا أن إيران فقدت مشروعها بالضربة القاصمة التي ألحقتها إسرائيل بحزب الله في حربها أخيراً على لبنان؛ كان بالإمكان تخيّل إعادة بناء حزب الله، رغم كل ما أصابه إذا نجّت إيران نفسها من السعار الإسرائيلي، ولكن مسألة إعادة تأهيل حزب الله إلى وضعه السابق أضحت، بعد إسقاط نظام الأسد، دونها صعوباتٌ لا تنتهي، وتكاد تكون مستحيلة بدون رضى حُكّام سورية الجُدد. ولهذا فقدت إيران بضياع سوريّة من يدها ما سمي إسرائيليًا “طوق النار” حول إسرائيل، كما فقدت نصف القوس الذي كان يحاصر الخليج العربي من الشمال.
من جهة أخرى، من الطبيعي أن أي نظام سوري قادم سيرى في النفوذ الإيراني في العراق تهديداً لا يمكن التهاون معه، وبالتالي، أضحت السيطرة الإيرانية على العراق أشدّ صعوبةً، بعد أن ذهب التعاون السوري الذي لعب دوراً في استقرارها. ثم إن إيران ضَحَّتْ قَصْدَ حيازة سورية بالنفيس من خبراتها العسكرية وكثير من الأموال (تُقدرها وسائل إعلام إيرانية بـ30 مليار دولار) على أمل الحصول على مردودٍ في البعيد الآجل، وها هي اليوم تخرُج مثخنة بالخسائر، وهي في وضع اقتصادي صعب بالأساس. ومفاعيل هذه الخسارة الاستراتيجية والاقتصادية مضفورة بصعود ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، وتحفّز إسرائيل للانقضاض على المنشآت النووية الإيرانية يضع استقرارَ النظام، الهشَّ بالأساس، تحت خطرٍ داهم. علينا أن نتذكر هنا الاتفاق النووي في عام 2015، لندرك حجم الخسائر الاستراتيجية الإيرانية بفقدان سورية. كان بقاء إيران في المشرق العربي أحد المكافآت التي قدّمتها إدارة أوباما لإيران في مقابل التخلي عن البرنامج النووي الإيراني. أما وقد تحرّرت سورية من نظام الأسد، فلم تعد ورقة التفاوض الإيرانية إلا خِرقة لا تنفع صاحبها بشيء.
انكمشت روسيا إلى حقيقتها، وتهاوت الشطحة الإمبراطورية الإيرانية، التي كانت، منذ البداية، تفوق إمكانات إيران وقدراتها، بلداً وشعباً، وهذا يقترح أن ثمّة فراغاً في قلب هذه المنطقة الخطيرة يجب أن يُتدارَك سريعًا. لقد دفع العرب أثماناً مروّعة حين تلكّأوا في ملء الفراغ الذي تركه سقوط نظام صدام حسين على يد الاحتلال الأميركي، وأتت إيران لملئه، ولا نزال عَرَباً ندفع ثمن ذلك الخطأ القاتل.
من يريدون لعب الدور الحاسم في سورية كثر: ثمّة إسرائيل، وهي، بإخلاص لجوهرها دولةَ احتلال واستعمار، لا تفهم ملء الفراغ إلا بالمعنى الفيزيائي؛ أي أن تحتلّ الأرض كما تفعل حالياً بتوغّلها في القنيطرة السورية. وبالتالي، رغم عتوّها العسكري لا تُحسن أن تكون دولة ذات نفوذ ولن يقبل بها السوريون. وهناك الإمارات، وهي عربيًا ذات سمعة معروفة: لا تحوز النفوذ إلا بدعم المليشيات، وفوق ذلك ريادتها للتطبيع مع نظام الأسد، ثم وقوفها المستميت معه في لحظاته الأخيرة، يجعلانها طرفًا يمكن التعاون معه سورياً، ولكن بتحوُّط؛ خاصة وأن الإمارات، رغم قوتها المالية، تبقى دولة صغيرة بلا أبعاد استراتيجية تسمح لها بلعب أدوار كبيرة في دول مستقرّة. وثمة تركيا، وهي، بالجغرافيا والتاريخ، شريك ممكن، ويمتلك أدوات تؤهله للعب دورٍ مؤثر في سورية الجديدة، ولكن ثمة حواجز اللغة والهواجس القوميّة التركية. علاوة على أن تاريخ الوطنيّة السوريّة هو تاريخ التمايز عن القوميّة التُّركيّة ورفض التتريك، والمعنى المعاصر لهذا البعد التاريخي أن النديّة مع تركيا من مكوّنات الوطنيّة السوريّة. الطرف المؤهل لمؤازرة سورية وقيادة الدعم الدولي لإعادة إعمارها هو السعودية. إنها لا تمتاز بالقوة الاقتصادية فحسب؛ هي دولة ضخمة وتحوي الأماكن الإسلامية المقدّسة، وقبل هذا وبعده هي دولة عربيّة، بإمكانها ترجمة المشترك الثقافي إلى نفوذ سياسي يحترم الدولة السوريّة بدون أن تثير حساسيّات مبدئيّة.
القيادة السعودية الآن أمام مفترق طرق؛ فما بنته إيران طوال 40 عاماً في المجال العربي بإمكان السعودية أن ترثه في بضع سنين، وبشكل صحيح وأخويّ، إذا سبقت الجميع سريعاً، ويسّرت ولادة سورية الجديدة الموحدة المستقرّة، وألقت بثقلها وراء السوريين في مرحلة الانتقال الخطرة، وقادت عمليات إعادة الإعمار، وأقنعت برجوازيتها والدول بالاستثمار في سورية. بالشراكة والتفاهم مع سورية، سترجّح السعودية كفتها في الإقليم، وهذا سيظهر في علاقتها بالعراق، واستعادة نفوذها القديم في لبنان، بل ومضاعفته مع انقطاع الشريان الإيراني عن لبنان. حينها، سيكون على كل القوى اللبنانية، وفي مقدّمتها حزب الله، التفاهم مع السعودية ومراعاة مصالحها.
كان ترك العراق لإيران بعد الاحتلال الأميركي خطأً كبيراً، وإن لم تراجع القيادة السعودية مآلات سياستها في العقد الماضي، ابتداءً من اليمن وصولاً إلى مصر، ولم تقتنص هذه الفرصة سريعًا في سورية، رغم استعدادها الموضوعي لذلك، فإنها لن ترتكب خطأ، بل ستقترف خطيئة بحق مستقبلها التنموي وأمنها الوطني، وبحقّ مستقبل المشرق العربي كله.
العربي الجديد
——————————
الباحث العاطفي والباحث السلطوي/ سلام الكواكبي
22 ديسمبر 2024
في بداية الثورة السورية، وإثر إعطائي مداخلات إعلامية، ونشر نصوصٍ بحثية، اتهمني باحثٌ فرنسي، تملأ صوره ومقالاته وآراؤه وتحليلاته في المسألة السورية وسائل إعلام غربية عديدة، فرنسية خصوصاً، بأنني باحثٌ عاطفي، ولست باحثاً علمياً. وبهذا التوصيف، يضع موضع الشك البعد العلمي لدي، معتبراً أن نصوصي ومداخلاتي الشفهية لا تستندان إلى منهجيةٍ علميةٍ رصينة. وقد خلص إلى أنني أستند فيها إلى موقف عاطفي غير موضوعي وغير مجرّد. والحق يُقال، ليس هذا الباحث نكرة في حقله علميّاً، وكانت لديه أبحاث ودراسات جادّة في الجغرافيا الاجتماعية في سورية. ولكنه مع تطور الأزمان، وبحثاً عن بروز على الساحة الإعلامية، وأخذ مكانة متقدّمة لدى صانعي السياسة، مهما كانت مشاربهم وأخلاقهم، اختار أن يبرّر للنظام السوري جلّ موبقاته، محمّلاً من يعارضه كل المسؤولية في الصراع الذي كان قائماً. زد على ذلك، زار سورية في أثناء المقتلة من دون خجل أو وجل من مئات آلاف الضحايا وعشرات آلاف المغيّبين والمعتقلين. وتأكيداً لموضوعية مُدّعاة، نشر إعلام النظام البائد صوره في حضرة بشار الأسد، ابن أبيه، صاحبي المجازر في المعتقلات وفي المدن السورية واللبنانية. وإن نسيت، لن أنسى جوابه عن سؤال صحافي طلب رأيه في تدمير مدينة حلب، بدعوى وجود إرهابيين فيها. لقد اعتبر هذا التدمير مبرّراً، وأن قصف المدينة ببراميل المتفجرات السورية والصواريخ الروسية كان ضرورياً للقضاء على ما أسماها المجموعات الإرهابية، مشبّهاً جريمة الحرب هذه بتدمير الحلفاء مدينة درسدن الألمانية نهاية الحرب العالمية الثانية، للقضاء على النازية. إضافةً إلى هذا الاستنتاج التبريري وسواه، زيّن صفحته في وسائل التواصل الاجتماعي بصوره في قصر الرئاسة، كما صورة له يرفع إشارة الانتصار أمام دمارٍ ودبابة محروقة في مدينة سورية (ربما حمص). وأخيراً، وضع صورة له وهو يرتدي قميصاً يحمل صورة رئيس النظام الفارّ. يمكننا إذاً أن نستنتج أنه باحثٌ قمةٌ في الموضوعية وفي الحياد.
اليوم، اختفت بقدرة قادر كل هذه الصور من الشبكة العنكبوتية، لكنها موجودة بالحفظ والصون لدى متابعيه وهم كُثر. وعلى الرغم من ثباته المستمر على موقفه، حيث قال في مداخلة له غداة سقوط النظام إن سورية مقبلة على حالة فوضى طالبانية، إلا أنه بدأ أخيراً باستخدام توصيفات سلبية مرتبطة بالنظام البائد، فيما كان يتحاشى تماماً التطرّق إليها سابقاً. فهو اليوم يتحدّث عن نظام قمعي واستبدادي طغى وتجبّر عقوداً على حيوات السوريين والسوريات. في المقابل، يُحذّر من البديل وكأننا به، وهو العالم بطبيعة المجتمع السوري الذي عاشره، طالباً قبل أن يُعاشر قيادته المغتصبة حقوقه باحثاً، يُشير، بطريقةٍ استشراقية ممجوجة وملفوظة، إلى عدم أحقية بني يعرب ومن ماثلهم بالترقي في أسلوب عيشهم السياسي، وصولاً إلى اختيار حكامهم بعيداً عن الاستبداد وشعائره.
ليس هذا الباحث حالة فردية، لكنها الأبرز والأكثر جرأة، المسمّاة أحياناً وقاحة، في التعبير عن مساندته الطاغية وطرح تبريراته “العلمية” و”الموضوعية”، التي يحلو لبعض زملائه وزميلاته تبنّيها وتطويرها والبناء عليها. وعلى هامش تطور المواقف والدراسات المصابة بالرهاب من الإسلام أخيراً في دولٍ غربيةٍ كثيرة، وبمساندة ممن أصفهم بـ “عرب الخدمة”، يجد بعض الجاهلين بالملف السوري، وباحثنا ليس منهم، في دفاعه وتبريره حقلاً خصباً لإسناد مواقفهم التي يخلطون فيها بين مختلف أنماط الإسلام السياسي والدعوي والراديكالي وإلى آخره، محذّرين من مصيرٍ قاتم ينتظر السوريين وكأنهم يترحّمون على مستبدٍّ مضى.
وفي العودة إلى توصيفه لي ولباحثين غيري، سوريين وغير سوريين، أخذوا موقفاً واضحاً من العسف ومن الاستبداد بعيداً عن الحسابات الشخصية والمنافع الذاتية، متجنّبين الصياغات العلمية المبحرة في الكلام المجرّد، وفي المواقف المبهمة، ومتحاشين الإكثار من المراجع تمييعاً للموقف المتصالح مع الطغيان، فقد أوضحت الأحداث أخيراً أن الموقف الأخلاقي، كما العاطفي، لا يتعارضان مع علمية التحليل وموضوعيته. نادراً ما يذكر التاريخ العلماء والمثقفين الذين حابوا السلطة. في المقابل، تملأ أسماء المثقفين والعلماء الذين واجهوا الاستبداد كتب التاريخ. من هؤلاء من دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم. ومنهم من أفنى عمره في معتقلات المستبد وسجونه. وقد خسر جلهم الوظائف والأملاك جرّاء التزامهم وتبنيهم موقفاً أخلاقياً وطنياً وإنسانياً. بالمقابل، فقد كسبوا راحة الضمير وأثبتوا أن أنطونيو غرامشي، عندما أشار إلى المثقف العضوي، لم يكن يخوض في العواطف، بل في توافق المواقف مع مشروعية القضايا.
في عددها الصادر أخيراً، تطرّقت “لوكانار أونشينيه”، وهي صحيفة ساخرة سياسية مشهورة في فرنسا، إلى مواقف هذا الباحث القريبة من النظام البائد، مشيرة إلى زيارته المعلنة لدمشق في 2016 برفقة رموز من اليمين الفرنسي المتطرّف. وأبدت الصحيفة استغرابها إصرار الإعلام السياسي على اعتماده محللاً موثوقاً للملف السوري.
العربي الجديد
—————————
هل خسر الفلسطينيون بسقوط الأسد؟/ لميس أندوني
22 ديسمبر 2024
تنتاب فلسطينيين كثيرين مخاوف مشروعة من أن سقوط نظام بشّار الأسد في سورية، بما يعنيه من تراجع نفوذ إيران في المنطقة، شكّل ضربة للمقاومة وللقضية الفلسطينية، نتيجة اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل وأميركا. وكذلك بعد أن سلّم النظام العربي الرسمي أمره لواشنطن، وتهافتَ على التطبيع مع العدو الصهيوني، حتى إن أنظمة تعتبر تل أبيب الحليف والصديق الأقرب لها.
شكّل دعم إيران حركتي حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله في مقاومتهم المشروعة ضد النظام الصهيوني الكولونيالي العنصري عاملاً رئيساً في دعم المقاومة واستمراريّتها. وسوف تنقطع الإمدادات عن شعبٍ محتلٍّ محظور عليه المقاومة، وممنوع على أحد أن يسانده. وقد شهدنا الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب اللبناني والحرب المنظّمة لتدمير حزب الله واغتيال قادته وتدمير الضاحية الجنوبية وقرى ومدن لبنانية. وكان لاغتيال حسن نصرالله دلالة أكثر أهمية من مجرد اغتيال قائد؛ فصمت الدول العربية وتواطؤ معظم الأحزاب اللبنانية وتخاذل “حلفاء” حزب الله أكبر برهان على إعلان مرحلة جديدة من الانصياع إلى أميركا وعزل الشعب الفلسطيني عن الشعوب العربية، فإسرائيل لم توظف كل الوسائل التكنولوجية والعسكرية للقضاء على نصرالله وقيادات الحزب وكوادره عقاباً على تدخّله في سورية، وإنما لوقوقه إلى جانب الشعب الفلسطيني.
قاوم حزب الله وما زال يقاوم، لكن ما ثبت أن لدى إيران حدوداً لتنفيذ سقف تهديداتها ضد إسرائيل. صحيحٌ أنها أطلقت مُسيّرات وصواريخ على إسرائيل، فيما تصدت دول عربية لعدد منها إرضاء لواشنطن، لكن لطهران مصالح، بوصفها قوة إقليمية، تريد أن تحسّن شروط تفاوضها مع واشنطن، وليس هدفها المشاركة أو دعم نضالٍ مستمرٍّ لتحرير فلسطين، فبقي حزب الله شبه وحيد في المعركة.
أما نظام الأسد، فبدأ مبكّراً التوجه نحو معسكر التطبيع، فكانت أول زيارة للرئيس المخلوع، بشار الأسد، إلى الإمارات بعد أقل من سنتين على توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية، التي تجاوزت مرحلة التطبيع فيها إلى السماح بترويج الرواية الصهيونية. لكن الأسد سارع، في الآونة الأخيرة، بالابتعاد عن إيران وحزب الله، كجزء من تقديم أوراق اعتماد جديدة لواشنطن، فكانت النتيجة أن تخلت طهران وموسكو عنه، فالنظام الذي رفع شعار المقاومة، ولم يتحدث عن الجولان المحتل ولم يطالب بمناقشة موضوع المستوطنات التي بنتها إسرائيل هناك، ويجعل “الحدود” آمنة لإسرائيل، كان همّه الوحيد البقاء في السلطة.
المقصود مما تقدم أن الموازين كانت مختلة أصلا، لأن الموقف العربي، الذي هو الأساس لمساندة فلسطين، آثرت قياداته التخاذل لمهادنة أميركا، ولذا استشرست إسرائيل في حرب الإبادة المستمرّة ضد الشعب الفلسطيني في غزّة، وتنكيلها بالفلسطينيين في الضفة الغربية.
ما أزعج إسرائيل ليس الأسد، وإنما استمرار الإمدادات الإيرانية لحزب الله عبر سورية، واستضافة دمشق فصائل فلسطينية، وكانت مصلحتها ثني الأسد عن ذلك، بشرط أن يوافق على شروط التبعية. لذا؛ بعد أن سقط الأسد غزت إسرائيل سورية، واحتلت أجزاء منها، لتفرض هي وأميركا إملاءات استسلام على النظام الذي لم يتشكل بعد في بلد عربي رئيسي، وليس مستغرباً إذا بدأت إسرائيل ببناء مستوطنات يهودية داخل الأراضي التي احتلتها بعد مغادرة الأسد.
نعم، زادت موازين القوى اختلالاً لصالح إسرائيل، خصوصاً أننا لا نعرف مستقبل سورية، لكن فرح السوريين بإسقاط النظام الدموي مفهوم، فقد تحمّل الشعب السوري طويلا نير الاستبداد، المسؤول الأول عن اختلال النظام العربي الرسمي الذي يبيح التجبّر والظلم والاستسلام لإسرائيل.
لو كان هناك نظام عربي رسمي متمسّك بأدنى درجات التضامن، لما وصلت الأمور إلى ما هي عليه، ففلسطين وسورية والأردن والعالم العربي كله مهدّد من إسرائيل، والمحزن أن تفيق سورية من التحرّر من الاستبداد لتجد مدناً فيها محتلة من إسرائيل.
صحيح أن هناك قرارات، أهمها الصادرة عن لقاء العقبة في الأردن، الذي أكد وحدة سورية ودان الاحتلال الإسرائيلي، لكن الأنظمة كلها تهيّئ نفسها لاتقاء سطوة الرئيس الأميركي القادم، دونالد ترامب، بما يعني القبول “بالأمر الواقع”، وتوقف حتى التصريحات القوية لفظياً ضد إسرائيل. ولا معنى لدى ترامب لحقوق أو تحرّر، فما يهمه “أميركا أولاً” ويجب إزالة كل العقبات أمام إحكام هيمنة واشنطن على العالم في مواجهة صعود الصين، وأي قوى إقليمية، خصوصاً أن إسرائيل نجحت بحروبها التدميرية وارتكاب إبادة بشرية أمام أنظار العالم، ما جعل الأنظمة الذليلة أكثر ذلاً واستجداء.
يدخل الفلسطينيون مرحلة “أكثر خطورة”، وإنْ كنا جميعاً استخدمنا التعبير نفسه في مراحل عدة، لكنها، الآن، الأشد خطورة في تاريخ المأساة والنضال الفلسطينيين. ويعتمد الوضع كثيراً على شكل النظام القادم في سورية، خصوصاً أن كل القوى تتنافس على الهيمنة عليه. والشرط الأكثر أهمية في العادة لأميركا حماية إسرائيل إن لم يكن التطبيع معها والتبعية لها، وما التشدّق بحقوق الأقليات إلا لكسب الشعب السوري، فيما برّرت واشنطن الاحتلال الإسرائيلي الجديد بخطوات ضرورية لضمان “أمنها”.
قد يكون غريباً أن كثيرين، حتى داخل سورية، منهمكون في النقاش حول شكل النظام، ورفض دولة إسلامية، إذ لا يريد السوريون التخلّص من نظام قمعي، للانتقال إلى شكل تسلّطي يكبت الحريات تحت شعار الدين أو التفرّد بالسلطة. لكن، هناك احتلال عسكري إسرائيلي لم يصل بعد إلى مرحلة أن يتصدّر النقاش.
إذ يبدو أن كثيرين أقنعوا أنفسهم أن إسرائيل سوف تخرج بعد أن تتأكد أن سورية اليوم دولة “مسالمة”، علماً أن سورية في عهد النظام السابق لم ترم طلقة واحدة ضد إسرائيل منذ اتفاقية فك الاشتباك عام 1974، أو أن ليس هناك مشكلة مع إسرائيل بعد خروج حزب الله من سورية. … ورويداً رويداً يتضح لنا أنه لا يوجد فهم كافٍ لإسرائيل عند عربٍ كثيرين؛ في الحالة السورية، قد يكون تشدق النظام بالمقاومة والالتزام بفلسطين أوجد ردّة فعلٍ عكسيٍّة عند بعض السوريين. المهم أن يكون هناك وعي بالتهديد الإسرائيلي خوفاً على سورية، قبل أن يكون هنك خوف على فلسطين القابعة تحت الاحتلال الصهيوني من أكثر من سبعة عقود.
يجب أن لا يجعلنا اختلال موازين القوى غير المسبوق نيأس؛ فالشعب الفلسطيني قاوم قبل النكبة (1948) وما زال يقاوم، وغرض إسرائيل محو الهوية الفلسطينية لن ينجح، وسوف تصحو الشعوب العربية على خطر إسرائيل، برغم قمع الأنظمة لمناهضي التطبيع وقوى التحرّر، فإسرائيل لا تحترم شعوباً ولا أنظمة.
————————–
انطلاقة الشرع الدولية: جمع داخلي وطمأنة خارجية ورسالة للبنان/ منير الربيع
الأحد 2024/12/22
زحمة سياسية، دولية وديبلوماسية تشهدها سوريا. وفود أجنبية تتقاطر إلى دمشق، كما أن قنوات التواصل مع دول عربية مختلفة قد فتحت. لكن الزيارة الأبرز كانت للوفد الأميركي الموسع برئاسة مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف واللقاء بقائد المرحلة السياسية الجديدة أحمد الشرع. جاء سقوط نظام بشار الأسد والانفتاح الأميركي على دمشق بالتزامن مع ذكرى انتهاء مفاعيل قانون قيصر، إذ أن القانون انتهى في العشرين من كانون الأول 2024 لأنه محدد بمهلة خمس سنوات. لم تكن هناك فرصة للمجموعات السورية الضاغطة في الولايات المتحدة الأميركية للتحرك في سبيل عدم تجديده لخمس سنوات جديدة، لكن ما صدر عن الكونغرس الأميركي من إحاطة جديدة حول الوضع السوري لم يتضمن أي إشارة إلى قانون قيصر، لا تمديداً ولا إلغاء، بينما تفعلت حركة السوريين في واشنطن لإلغائه كلياً، بالإضافة إلى التحرك في سبيل رفع العقوبات عن سوريا.
شكل المرحلة الإنتقالية
تشكل الزيارة الأميركية إلى دمشق فتح مسار جديد في العلاقات، لا سيما أن النقاشات تركزت على مختلف الملفات، من المرحلة الانتقالية وكيفية التأسيس لها، وبناء تصور لسوريا المستقبل. وقد تم البحث في ملفات مختلفة أبرزها مطالبة الشرع للوفد الأميركي برفع العقوبات عن سوريا ككل، على الرغم من أنه قد كسب مسألة إلغاء المبلغ المخصص لمن يدلي بمعلومات حوله، كما أن المسار المقبل يفتح الباب على احتمالات إزالة إسم هيئة تحرير الشام عن لائحة العقوبات، وذلك سيكون مرتبطاً بحسب الأميركيين بسياقات متعددة، أبرزها شكل المرحلة الانتقالية، وعدم اختزال المشهد السياسي بالهيئة، أو بطرف أوحد، مع الإصرار والتركيز على ضرورة إشراك مختلف مكونات الشعب السوري.
الحراك المدني
جاءت زيارة الوفد الأميركي على وقع ازدهار واضح للحراك المدني السوري والذي تتحرك مجموعاته باتجاهات مختلفة وقد عقدت لقاءات مع الأميركيين تحضيراً لمشاريع كثيرة بينها تنظيم ملفات المعتقلين والبحث عن المفقودين والمخفيين قسراً، والعمل في سبيل تنظيم توزيع المساعدات بمجالات مختلفة. أيضاً تزامنت الزيارة مع تظاهرات للمطالبة بالدولة المدنية والعلمانية، وقد نتجت عن هذه التظاهرات سجالات كثيرة حول الجهات التي تقف خلفها، بين من اعتبر أن وراءها يقف مؤيدون لنظام الأسد، ومن أشار إلى أن بعض المؤيدين للأسد كانوا موجودين ولكن التحركات والمطالبات تشمل شرائح أوسع بما فيها شخصيات سياسية ومدنية معارضة للنظام وهي تحاول أن تطرح رؤيتها وترفع صوتها. ولا بد، في السياق، من تسجيل ملاحظة أساسية للإدارة الجديدة التي عملت على توفير الأمن للتظاهرة والتحركات الاحتجاجية. أما الأهم هو المسارعة إلى استيعاب هذه التحركات والتعاطي معها بإيجابية، والأخذ بالكثير من الملاحظات.
المرونة السياسية
تبدو هذه المرونة السياسية أكثر من ضرورية في هذه المرحلة، لا سيما أن قائد هيئة تحرير الشام على إدراك كامل لما يحيط من مخاطر بسوريا، لا سيما أن المحسوبين على نظام الأسد يتربصون للقيام بتحركات مضادة، أو يحاولون استغلال أي خطأ في الممارسة للبناء عليه في محاولة لتوجيه ضربات سياسية، إعلامية، معنوية، تضعف وضعية المرحلة السياسية الجديدة. كما أن هناك جهات إقليمية كثيرة متضررة مما جرى وقد تجد في أي تحرك مدني سياسي، أو عسكري فرصة لإعادة التدخل، وقد تراهن هذه الجهات على افتعال إشكالات طائفية، مذهبية، عرقية، قومية، أو إشكالات ما بين فصائل المعارضة المتعددة والمتنوعة لاجل اختراق الوضعية السياسية الجديدة والعودة إلى تثبيت الحضور من خلال هذه الصراعات والبناء عليها.
مخاطبة الخارج من الداخل
تضع الإدارة السورية الجديدة برنامجاً واضحاً للخارج والداخل. حتى الآن يسجّل الشرع تقدماً في مخاطبته للخارج ولا سيما للمجتمع الدولي، كما أن الإحاطة السياسية لديه بأوضاع إقليمية ودولية كافية ليكون مواكباً لكل التطورات والتحولات. بينما تبقى التحديات الداخلية أساسية، وهو ما بدأ العمل عليه وفق ما تقول مصادر متابعة، إذ يفترض في الأيام المقبلة أن يتم توجيه الدعوة لعقد لقاءات حوارية شبابية مع فئات مختلفة من المجتمع السوري. بالإضافة إلى التحضير لحوار سوري وطني يحضره ممثلون عن كل الطوائف والمكونات تحضيراً للمرحلة الانتقالية، ووضع معالم الدستور الجديد والنظام السياسي.
داخلياً أيضاً لا يزال الملف الكردي هو التحدي الأبرز وسط استمرار التفاوض مع قسد وإحراز بعض التقدم في المفاوضات لا سيما مع دعوات دولية واضحة لإخلاء المسلحين الأجانب من شمال شرق سوريا، واستعداد قسد للانخراط في المشروع السوري وفي بنية الجيش الوطني الذي سيتم العمل على تشكيله.
سياسياً، تفيد المصادر المتابعة إلى أنه خلال فترة ثلاثة أشهر سيتم تشكيل حكومة جديدة تكون تشاركية بين مختلف المكونات.
لبنان وإسرائيل
تجاه لبنان، هناك إبداء للاستعداد الكامل للتعاون مع لبنان في ترسيم الحدود ومعالجة كل المشكلات العالقة حول ضبط الحدود، والتعامل مع الحكومة ومن منطق دولة إلى دولة، ووقف التهريب، أو التخريب من قبل أي جهة سورية في لبنان، أو من قبل أي جهة لبنانية في سوريا. وفي هذا السياق تؤكد المعلومات أن قنوات التواصل الرسمية قد فتحت بين البلدين والحكومتين.
أما بما يتعلق بالتهديدات الإسرائيلية، فإن التركيز حالياً هو على تفعيل التحركات الاحتجاجية الشعبية من خلال انتفاضة مدنية في الجنوب لمطالبة الاحتلال بالانسحاب، بالإضافة إلى بناء خطاب متكامل للمجتمع الدولي للضغط على إسرائيل للانسحاب، طالما أن الخطاب السياسي كان واضحاً في رفض أن تكون سوريا منخرطة بأي حروب إقليمية أو تشكل تهديداً لدول الجوار، وبذلك يكون العنوان السياسي للمرحلة المقبلة واضحاً في رسالته الموجهة إلى الخارج، الذي عليه أن يتجاوب ويكف الشر الإسرائيلي ويوقف التوغل والاعتداءات ويفرض عليهم الانسحاب. في هذا السياق تقول مصادر متابعة إن الإجابات الدولية التي ترد إلى سوريا حول هذه المطالب تتضمن تشديداً على ضرورة ضبط الأمن الحدودي بشكل كامل ومتى ما استقر الأمر فإن الانسحاب الإسرائيلي سيحصل. لا يزال هناك تشكيك بهذا الكلام وبنوايا الإسرائيليين، والذين يريدون الاستثمار بفرض الوقائع العسكرية الحالية لتغيير الكثير من الوقائع السياسية.
المدن
———————————-
حين تكون سوريا مقبرة جماعية/ علي سفر
الأحد 2024/12/22
كان آخر ما رأيته في دمشق، وأنا أغادرها برفقة صديقي، الذي يقود السيارة، ويتكفل بالحواجز، مشهدًا يضم جبل قاسيون في عمقه، وقطعة أرض جرداء، على جانب الطريق، الذي ينقلنا، من طريق المطار، باتجاه منطقة السيدة زينب.
الحاجز القريب من قصر المؤتمرات، لم يهتم برؤية هوياتنا، رغم سمعته السيئة جدًا، إذ اشتهر أن عناصره يقومون باعتقال الناس، وأحيانًا بتصفيتهم. ولهذا تسمرت في المقعد، ونحن نعبر، ورسخت الصورة في رأسي، كما سترسخ بعدها صور متعددة، رافقتني في رحلة الهروب.
قرب الحاجز، اكتشف ناشطون منذ أيام، بحسب الأخبار، مقبرة جماعية قدّروا عدد المدفونين بالالاف ضحية، تمت تصفيتهم على يد أجهزة الأسد الأمنية! حاولت أن أنقّب في رأسي عما يفيد من الصور القديمة لمعرفة إن كانت قطعة الأرض التي عبرنا بجانبها هي تلك المقبرة، لكنني فشلت في ربط هذا المكان بما تناقلته وسائل الإعلام. في المقابل، وجدت أن الصور المنشورة عن المكان تشبه كثيرًا البقاع التي أتذكرها عن البلاد.
في وقت ما أثناء دراستي للفنون المسرحية، سمعت أحد الزملاء يقول إن من ينظر صوب دمشق من على جبل قاسيون، لا بد أن يسأل عن عدد القصص التي يمكن لكل دمشقي أن يرويها. وبحسبة “هوائية”، لا بد أن تكون النتيجة “مليارية”، فكل دمشقي، وبالتأكيد كل سوري، لديه ما يحكي عنه من قصص عاشها، أو مرت معه، أو سمعها من أحد ما!
لكن إذا قلنا إن عيون من يقفون على جبل قاسيون، تنفع لتحري البقاع، التي حُفرت ثم طُمرت، بعد أن رُميت فيها جثامين القتلى، لوصلنا ربما إلى نتيجة مشابهة. لقد حول الأسديون، ومنذ 54 سنة، البلاد إلى سلسلة من المقابر المعروفة والمجهولة، دون أن يستطيع أحد أن يحصي عدد من دفنوا فيها. ربما لن تكون نتائج الـ 14 سنة الماضية سوى رأس جبل الثلج الذي يظهر فوق سطح الماء!
تفنن المجرمون في طرق إخفاء جثامين القتلى، بعد أن نصحهم مجرم محترف ما بأن أفضل الطرق لإخفاء الجريمة هو إخفاء الضحية ومحو آثاره عن الوجود. ولهذا غاب جسد الشيوعي فرج الله الحلو، الذي قُتل على يد جلاوزة عبد الحميد السراج في عهد الوحدة مع مصر، وذاب في حوض الأسيد. واستمر الورثة في اتباع هذا النهج، حتى صار الأمر سياسة رسمية متبعة. فلا أحد يعرف بالضبط عدد الجرائم التي ارتُكبت، طالما أن الضحايا لم يعودوا موجودين إلا في ذاكرات أحبابهم أو على ورقة وفاة في سجلات النفوس، تم تحريرها بدون تدقيق، لمساعدة العائلة على متابعة حياتها، بعد أن تعطلت، بسبب دوام غياب معيلها أو ابنها.
في السيرة الطبيعية لكل إنسان على وجه البسيطة، يأتي الطبيب بعد أن ترحل الروح عن الجسد ليدون شهادة وفاة، فيسأل عن مرض الميت، ويجيبه أهله. لكن الأسديين اختاروا للقتلى الذين قامت السجلات المدنية بتوفيتهم مرضًا واحدًا: الأزمة القلبية. وتبعًا لهذا، فإن أوراق مبنى النفوس هي قبور أصحابها. ويمكن معرفة جزء من الحقيقة انطلاقًا منها، لكن المقابر الجماعية الحقيقية المكتشفة حديثًا ليست مجرد أوراق، بل هي تراب معجون بأجساد من قُتلوا، وما زالت تحتفظ بالأدلة الجنائية التي تدل على الفاعلين.
لهذا وجدنا مدير الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) رائد صالح، يوجه نداءً لكل من يكتشف مقبرة أو مكانًا يحتوي رفات قتلى ألا يقوم بنبشها، إذ لا بد من أن تأتي الفرق التخصصية لتعمل على ذلك بطريقة لا تُضيّع القرائن المطلوبة للقضايا الجنائية. ورغم أن العلم قد وفر للضحايا فرصة أن يتم التعرف عليهم من خلال فحص الـ DNA (الشيفرة الوراثية)، إلا أن هذا لن يكون سريعًا بما يبرد قلوب مئات الآلاف من الأمهات والآباء والإخوة والزوجات والأبناء، ممن ما زالوا ينتظرون حتى اللحظة أخبارًا عن أحبابهم ممن أخفاهم أو قتلهم الأسد.
في تعليقه على منشور كتبته حول ضرورة التسامح بعد سقوط النظام، كتب خالي: “لو أنهم أمسكوا بك خلال هروبك نحو الأردن، لكنا الآن نبحث عنك في سجن صيدنايا!” وفعليًا، لم تغادرني، منذ نجاحي في الوصول إلى عمان بتاريخ 29 أيار 2013، صورتي المتخيلة عني وأنا مقيد اليدين، أتلقى الصفعات، قبل أن يُلقى بي في صندوق السيارة الأمنية، في الطريق إلى مصيري المجهول.
ومثلما كان الجميع يحلم بأنهم يعتقلون أثناء مرورهم على أحد الحواجز الأمنية، أجزم بأن استكمالات الأحلام التي بترها الرعب تصبح هكذا، كما حلمت. ووفق التسلسل الدموي الإجرامي، سيشاهد كل واحد منا، وهو ممدد ومدمى، مشاهد أخيرة لحياته، تتسع فيها الأنحاء لتحتوي قتلى كثيرين، يعبرون معه العالم البرزخي. الأمر الذي سيجعل دماغ أي فرد عاش هنا مقبرة بذاتها!
“إذا كانت كل مقبرة تضم موتى كثيرين، لماذا لا تسمون المقابر العادية مقابر جماعية؟” أعود إلى الأوليات، لأشرح للشاب الذي يسأل أن الفرق هنا يتأتى من أن لكل إنسان الحق في أن يُدفن في حفرته الخاصة، وأن يُكتب اسمه على لوح رخامي أو خشبي أو معدني، بما يليق بالإنسان. لكن المقبرة الجماعية هي حفرة كبيرة رُميت فيها أجساد بشر كثيرين، ورُدم التراب فوقهم كي يُمحى أثرهم، بما في ذلك عقولهم وحكاياتهم وأحلامهم، من أجل إخفاء الإبادة الجماعية التي ارتُكبت بحقهم.
أي أن المشكلة ليست في العدد، بل في الطريقة والأسلوب! وتبعًا للبحث المضني عما كان يجول في رؤوس القتلة، وهم يفعلون الأمر ذاته طيلة السنوات الماضية، وحتى قبل سقوط النظام بأيام، لا بد سنكتشف أن البلد كلها كانت بالنسبة لهم مقبرة جماعية، يتساوى فيها الميتون مع الأحياء. لكن الفرق بين الطرفين مجرد حيثيات وقتية، عن لحظة الإعدام، لا أكثر ولا أقل.
المدن
————————
إسرائيل تفصل الجغرافيا اللبنانية-السورية.. و”تشتهي” استئناف الحرب/ منير الربيع
السبت 2024/12/21
مع بداية الحرب الإسرائيلية الموسّعة على لبنان في أيلول 2024، كان مؤكداً أن حكومة بنيامين نتنياهو تضع هدفاً استراتيجياً، وهو فصل الجغرافيا اللبنانية عن الجغرافيا السورية، لقطع طرق الإمداد عن حزب الله. وقد جرى التداول بمعلومات حول مناقشات لخطط عسكرية بين الإسرائيليين، وضعوا الأميركيين في أجوائها، حول التقدم في الجنوب السوري، حصلت في حينها عمليات نزع للشريط الشائك، وبدء التوغل في محافظة القنيطرة، وعمليات تجريف وإقامة سواتر.
جزء من الخطة كان هدفها يومها محاولة وضع حزب الله بين فكي كماشة. إذ أن التقدم العسكري الإسرائيلي البرّي في الجنوب السوري، سيطوق حزب الله في الجنوب من جهة الشرق، بالإضافة إلى الدخول المباشر للإسرائيليين من جهة الجنوب، والسيطرة البحرية عبر البوارج والقطع العسكرية، بالإضافة إلى السيطرة الجوية. طرحت أفكار كثيرة حول التوغل الإسرائيلي باتجاه مناطق عديدة في الجنوب انطلاقاً من الجغرافيا السورية، من بيت جن باتجاه شبعا، أو من جبل الشيخ باتجاه راشيا وصولاً إلى البقاع الغربي.
الفصل الجغرافي والخروقات
ما بعد وقف إطلاق النار، سرّع الإسرائيليون من وتيرة اعتداءاتهم على سوريا، جواً وبراً، واستكملت عملية التوغل، وأعلنوا السيطرة على الجانب السوري من جبل الشيخ بعد الإطاحة باتفاقية فض الاشتباك المبرمة في العام 1974. بهذا التوغل الإسرائيلي العميق في الجنوب السوري على طول الحدود المحاذية للأراضي اللبنانية، تكون إسرائيل قد عملت على فصل جغرافيا البلدين عن بعضهما البعض على الخط الممتد من جنوب لبنان حتى البقاع الغربي. بالإضافة إلى السيطرة الجوية الإسرائيلية على كل المناطق الحدودية ما بين لبنان وسوريا، والقدرة الكاملة على الرصد والمراقبة والاستعلام حول أي حركة يمكن لحزب الله أن يقوم بها.
لا ينفصل هذا المسار الإسرائيلي، عن تسجيل المزيد من الخروقات لاتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان. إذ أن الإسرائيليين يواصلون الاختراقات بطريقة وقحة ومتعمّدة للاستفزاز.
ذلك يطرح سؤالاً أساسياً، إذا ما كان بنيامين نتنياهو قد ندم على إبرام الاتفاق قبل أيام من سقوط نظام بشار الأسد، وأنه لو سقط النظام قبل وقف النار، لكانت إسرائيل قد وضعت المزيد من الشروط بفعل الأمر الواقع العسكري، الذي لا بد أن ينسجم مع التحولات التي حصلت. أو أنه كان سيستفيد من سقوط النظام وحالة الضعف العسكرية، الأمنية، الإمدادية والمعنوية لدى حزب الله لاستكمال عمليته العسكرية في جنوب لبنان. حتى الآن لا جواب دقيقاً على هذا السؤال، لكن الأكيد أن الإسرائيليين يريدون مواصلة مشروعهم ما بين سوريا ولبنان في سبيل إضعاف حزب الله أكثر، ومن خلال مواصلة الخروقات في لبنان، وبدء التداول بمعلومات حول ممطالة إسرائيلية متعمدة لعدم الانسحاب من الأراضي اللبنانية التي دخلوا إليها خلال فترة الستين يوماً.
ضغط ميداني وسياسي
زاد الإسرائيليون في الأيام الماضية من خروقاتهم البرية، وقد دخلوا إلى قرى وبلدات لم يدخلوها خلال المواجهات، كبلدة بني حيان، أو الناقورة. وكذلك بالنسبة إلى الدخول نحو قرى على ضفة نهر الليطاني. وعندما سجل لبنان اعتراضاته على هذه الاختراقات، بررّ الإسرائيليون ذلك بالعمل على استشكاف بنى تحتية لحزب الله، وأن هذه المناطق تحتوي على أنفاق ومخازن أسلحة لم يدمرها الإسرائيليون بسلاح الجو، ويريدون العمل على تفجيرها أو ضمان تفريغها.
في موازاة هذا الضغط الميداني واستمرار عمليات تفجير المنازل والقرى، يمارس الإسرائيليون ضغوطاً سياسية وديبلوماسية على الحكومة اللبنانية، بذريعة أن حزب الله لا يلتزم بالاتفاق، وأنه لا يزال موجوداً ببنيته العسكرية في جنوب نهر الليطاني، وأنه يجب أن ينسحب قبل انسحاب الإسرائيليين. يحاول الإسرائيليون اتهام لبنان وحزب الله بأنهما لا يريدان تطبيق الاتفاق، وأن الحزب يسعى للبقاء بسلاحه في جنوب الليطاني، كما يحاولون تحميل المسؤولية للدولة اللبنانية بأنها وافقت على اتفاق ولا تسعى إلى تطبيقه.
في المقابل، الجواب اللبناني يتركز على أن الاتفاق واضح، ويقضي بضرورة انسحاب الإسرائيليين في البداية، وبعدها يدخل الجيش اللبناني، وهو الذي يتولى معالجة الموضوع المتعلق بوجود حزب الله وسلاحه. ويؤكد لبنان أن الخروقات الإسرائيلية، والبقاء داخل الأراضي اللبنانية هو ما يؤخر دخول الجيش وانتشاره في جنوب الليطاني. ولذا، يتلمس لبنان نوايا إسرائيلية بالممطالة في تطبيق الاتفاق إلى ما بعد الستين يوماً. ولذلك طلب من مجلس الأمن الدولي إصدار بيان رئاسي واضح يتضمن الدعوة إلى الالتزام بالاتفاق وتطبيقه وعدم التأخير بذلك.
الاتفاق الهش
تؤشر الممارسات الإسرائيلية إلى مخاطر عديدة قد تصل إلى حدود الإطاحة بالاتفاق، خصوصاً في حال استمرت الخروقات والغارات. وكأنهم يريدون من حزب الله أن يُستدعى إلى ردّ على هذه الخروقات، وعندها يحملونه مسؤولية إفشال الاتفاق لتجديد القتال.
أيضاً، يحاول الإسرائيليون الاستفادة من الوضع لتمرير المزيد من الضغوط السياسية على لبنان، من خلال فرض وقائع مختلفة لتغيير موازين القوى السياسية والرئاسية، وذلك لإظهار الحزب بأنه انكسر عسكرياً وأيضاً سياسياً. وهي محاولة أخرى من قبلهم لإفشال الاتفاق أو تعطيله، أو لمواصلة المزيد من العمليات الجوية، والتي قد تتكثف في الأيام الأخيرة ما قبل الانسحاب. وهم يسوّقون لذلك انطلاقاً من فكرة أنهم لن يسمحوا لحزب الله بالالتفاف على الاتفاق كما فعل في العام 2006، وأن تل أبيب وواشنطن لن تسمحا بتكرار ذلك النموذج.
المدن
——————————
إنجاز سوريا… بين الضروري والكافي/ إياد أبو شقرا
22 كانون الأول 2024
عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى.
سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات العسكرية المؤقتة الأمور في دمشق، ما كان مستبعداً أن تصدر انتقادات من هنا وهناك لجملة من الممارسات… أعتقد -مخلصاً- أنه بقدر أكبر من الشورى ما كانت لتصدر أو تبرَّر.
أنا هنا لا أتوقف عند انتقادات الخصوم المعلنين الألدّاء الذين كشفوا عن ولائهم للنظام الساقط في كل المناسبات رغم كل جرائمه، ولا مزايدات الجماعات المنافقة التي «تستقبل مع أهل العروس وتغادر مع أهل العريس»، بل أتوقف عند الصمت القلق أو الانتقاد الاعتذاري من قوى هي اليوم حريصة على نجاح التحرّر، مثلما كانت عام 2011 متحمسة لانتصار الثورة.
هذه القوى التي تمثل القطاع الأوسع من الشعب، وسمِّها إن شئت «الغالبية الصامتة» أو «المواطن العادي» من مختلف المكوّنات والطبقات والأطياف، هي صاحبة المصلحة الكبرى بالتغيير الذي حصل. إنها القوى الضنينة عليه، والأكثر تحمّساً لمرور «المرحلة الانتقالية» بأقل قدر ممكن من الألم والإشكالات والتشكيك والانتقامات… التي يمكن أن تترك جروحاً عميقة في جسد الوطن قد يصعب التئامها بقدر سهولة التهابها وتسمّمها.
الأخطاء -وقد وقع بعضها خلال الأيام القليلة- كانت بسيطة نسبياً، وبالتالي، يسهل غضّ النظر عنها، ومن ثم، التعلم منها مستقبلاً انطلاقاً من مبدأ «التجربة والخطأ». غير أن تكرارها خلال الأيام والأسابيع المقبلة قد يحوّلها إلى خطايا مؤذية يمكن أن تعرقل مسيرة التغيير. وهنا أعتقد أنه من المفيد التنبيه لبعض الحقائق غير المستساغة.
في طليعة هذه الحقائق، أن إنجاز التحرّر هو الآن تحت رقابات «محلية» و«إقليمية» و«دولية» دقيقة.
البداية، بلا شك، الرقابة «المحلية» في الداخل، الذي وإن كان قد رحّب بنهاية نظام الأسد… فإن قطاعاً عريضاً منه لا يريد استبدال ديكتاتورية بديكتاتورية، وهذا يعني أن المطلوب عنصر التشاور وعنصر توسيع قاعدة الانفتاح والتفاهمات… لا استنساخ تجربة «حكومة إدلب» رغم كل ما فيها من نقاء.
ثم هناك الرقابة «الإقليمية»، وواضح هنا أن حدود سوريا مع دولتين شقيقتين، هما لبنان والعراق، لا تزال «غير مأمونة» بالنسبة لقيادة العمليات السورية المؤقتة، والدليل تمكّن عدد من رموز ديكتاتورية نظام الأسد من الهروب مُستفيدة من النفوذ الميداني هناك لقوى الأمر الواقع الطائفية المسلحة، المدعومة بدورها من راعٍ إقليمي نافذ.
وفي المقابل، هناك قوتان إقليميتان نافذتان أخريان تعدّان أن لهما ليس فقط «المصلحة»… بل أيضاً لهما الحق في «حماية» حدودهما وأمنهما الإقليمي. وبالفعل، ما أن أسقِط ذلك النظام حتى تبيّن ثقل الدور التركي التراكمي في تحقيق النصر شمالاً. بينما جنوباً، ظهرت خطورة نيّات إسرائيل التوسّعية مع اختراق جيشها «خطوط الهدنة» في الجولان، واحتلاله قمة جبل الشيخ الاستراتيجية، وشنّه غارات جويّة على عشرات الأهداف العسكرية السورية. وهذا واقع يشير عملياً إلى مدى «اطمئنان» القيادة الإسرائيلية لنيات نظام الأسد، طوال فترتي حكم الأب والابن، في تأمين حدودها الشمالية!
وثمة حقيقة ثانية في غاية الأهمية، هي أن الفلول التي استفادت طويلاً من نظام الأسد حقاً أُبعدت أو ابتعدت أو فرّت… لكنها: أولاً لم تختفِ أو تُسحق، وثانياً ما زالت ثمة جهات خارجية تشكل عُمقاً لتلك الفلول أو داعماً لها، وبناءً عليه؛ كلّما تأخر نُضج إنجاز التحرر -وطبعاً بالحد الأدنى من الإشكالات- سيتاح للفلول ولداعميها إعادة تجميع شتاتها وبناء قواها وبلورة خطابها التحريضي والتضليلي… وصولاً إلى الانقلاب على الإنجاز الذي تحقّق.
وهنا نصل إلى المستوى الثالث من الرقابة، أي الرقابة «الدولية»، وهي تلك التي تمارسها القوى الغربية الكبرى، بجانب المنظمات العالمية التي تتمتع فيها القوى الغربية بنفوذ عظيم. وما هو منطقي أن التغيير التاريخي الذي أنهى أكثر من نصف قرن من حكم الأسد (الأب والابن) ما كان ليسير بالسلاسة التي رأينا، على الرغم من الوجودين العسكري الروسي والإيراني، لولا «رضى» القوى الغربية… وعلى رأسها الولايات المتحدة، على إنهاء حالة صارت تراها «شاذة» في منطقة حساسة، قبل استقبال رئاسة أميركية جديدة محاطة نيّاتها بعلامات استفهام عدة.
واشنطن، خصوصاً، وحليفاتها الغربيات بصفة عامة، أدركت أن بقاء الجمود في الشرق الأوسط ما عاد مقبولاً في ظل ما يلي:
– الحاجة إلى مقاربة جديدة مختلفة لملفات الإسلام السياسي، ومطامح الأقليات ومخاوفها، والإرهاب اللابس لبوس التطرف الديني.
– رفض مواصلة التسامح مع المبتزين في عدد من الملفات، ومنها الملف النووي.
– التعامل بصورة أكثر جدّية مع الأزمة الأوكرانية التي أعادت فتح ملف «احتواء روسيا»، ولا سيما، مع صعود اليمين المتطرف في عدد من دول أوروبا والقارة الأميركية.
بناءً على ما سبق ذكره، كانت «رسائل» حوار البعثة الدبلوماسية الأميركية مع أحمد الشرع، في دمشق، صريحة جداً ومعبّرة جداً عن رؤية واشنطن ليس فقط لدور سوريا الجديدة في مستقبل منطقة المشرق العربي، بل أيضاً لطبيعة النظام السوري «المقبول دولياً».
والحال، أن سوريا الجديدة ستخوض تحدّيين ممنوعاً فيهما الخطأ: التحدي الأول هو التفاهم على طبيعة النظام وفلسفة تعامله مع مكوّناته، والتحدي الثاني الدور الاقتصادي المالي المؤهلة سوريا للعبه… بفضل ثرواتها الإنسانية والطبيعية والثقة الدولية فيها.
الشرق الأوسط
—————————————
سوريا… هذه الحقائق/ طارق الحميد
22 ديسمبر 2024 م
منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض».
مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً بعمل عسكري، ورغم الوجود الروسي والإيراني، والرئيس بوتين يقول إن بلاده ساعدت في إجلاء أربعة آلاف مقاتل إيراني.
ويقال الآن إنه لا بد من طمأنة المكونات السورية، وتحديداً الأقليات، بينما نظاما الأب والابن أجرما بحق الأكثرية طوال خمسة عقود. وتطالب الإدارة الجديدة بالالتزام بشروط عدّة، منها ما صدر ببيان العقبة.
بينما لم يلتزم الأسد بشيء طوال 24 عاماً، وكان بعض العرب يحاولون إقناعه بالابتعاد عن إيران، واستخدم الأسد هذا الملف أسوأ استخدام، وكان يكذب معتبراً الكذب جزءاً من السياسة، ومنح كل الوقت، وإلى لحظة هروبه، لروسيا.
ويقال إن على سوريا الجديدة طمأنة لبنان الآن، علماً بأن الأسد الأب حكم لبنان، ونكل به، والأسد الابن عبث في لبنان باغتيالات وقمع، وعطل كل مؤسساته، وجل مَن يطالبون بالتطمين بلبنان الآن كانوا يحجون إلى دمشق الأسد!
ويقال إن على الإدارة الجديدة ضمان حدودها، خصوصاً مع العراق، والعالم يعرف أنه منذ سقوط صدام حسين وسوريا هي منفذ السلاح والميليشيات عبر معبر البوكمال العراقي. ويقال إن هناك خشية من الميليشيات بسوريا، بينما الميليشيات موجودة بالعراق، وتحديداً الحشد الشعبي.
ويتحدث البعض عن ضرورة الحفاظ على الجيش السوري، و«يوتيوب» يثبت، وعبر فيديوهات قديمة لجمال عبد الناصر وأنور السادات، أنه كان جيشاً طائفياً. ومنذ الثورة عام 2011 لم يعد هناك جيش بسبب الانشقاقات.
وحلت الميليشيات من أفغان وباكستانيين وعراقيين و«حزب الله» بديلاً للجيش. وفوق هذا وذاك، يخشى البعض الآن تقسيم سوريا، بينما هي كانت مقسمة أصلاً منذ 2011 بين الأميركيين والروس والإيرانيين والأتراك والأكراد، وقبلهم الإسرائيليون.
وبالنسبة لبعض السوريين، يقال إن محاولة إعادة الأسد للحضن العربي تسببت بتقسيم المعارضة السورية قبل سقوط الأسد. وهذا غير صحيح. فما قسم المعارضة هو اتفاق آستانة وبرعاية روسية إيرانية تركية، ولم تكن للعرب علاقة بذلك.
وأيضاً يقال: لماذا لا ترد سوريا الجديدة على الاعتداءات الإسرائيلية، بينما لم يطلق نظام الأسد رصاصة على الإسرائيليين، بل إن الأسد هو مَن رسّخ عبارة «الرد بالوقت المناسب» ولم يأتِ ذاك الوقت إطلاقاً.
كما قبل «حزب الله» باتفاق وقف إطلاق نار يخول إسرائيل حق استهداف الحزب بالخارج، والداخل اللبناني. ولم تطلق الميليشيات رصاصة على الإسرائيليين من الأراضي السورية، رغم كل الاستهداف الإسرائيلي لها بسوريا.
ويقال إن الشرع مصنّف «إرهابياً» من أميركا، وكذلك الأسد تحت قانون قيصر. ويقال إن تركيا تسيطر على سوريا، ومن أبجديات السياسة أن كل فراغ يُملأ، فالسياسة «تكره الفراغ». والتقصير هو ممن ينكفئ الآن عن مساعدة دمشق.
وعليه، هذه لمحة من الحقائق، والقائمة تطول.
الشرق الأوسط
—————————
في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق/ حازم صاغية
22 ديسمبر 2024 م
قد يكون سابقاً لأوانه الجزم بالوجهة التي ستسلكها بلدان المشرق: سوريّا خصوصاً، ولكنْ أيضاً لبنان والعراق. فهذه البلدان جمع بينها الانهيار المديد الذي، وإن تفاوتت علنيّته، ضربها كلّها، ومعها أطاح منظومة الأفكار والتصوّرات التي قامت عليها. وإذا صحّ أنّ الأوطان تحتاج «أساطير مؤسِّسة»، تستنهض مخيّلة الجماعة وتخاطب تجاربها، مستندةً إلى قراءة للتاريخ تقتطف بعض عناصرها وتغلّبها على سواها من العناصر، فالمؤكّد أنّ الأساطير المؤسِّسة القديمة تترك المشرقيّين، في تهاويها، أمام حاجة إلى بدائل أوسع إقناعاً وتمثيلاً، وأشدّ قابليّة للديمومة.
ففي سوريّا، وحتّى قبل سقوط نظام بشّار بسنوات، كانت قد انهارت أسطورة أبيه البعثيّة، والدائرة حول «الوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة» و»تحرير فلسطين» و»محاربة الرجعيّة والإمبرياليّة»… هكذا كانت سنوات حكم النجل عديمة الأساطير، فقيرة المعنى، تغطّي بالتفاهة والجريمة فقرها في هذا الجانب كما في كلّ جانب آخر.
والأسطورة البعثيّة إيّاها كانت قد قُبرت في العراق مع سقوط صدّام عام 2003، ليُستعاض عنها بنُتَف متضاربة وغير واضحة المعالم لم يظهر أيّ طموحٍ جدّيّ لبلورة أيّ منها.
أمّا في لبنان، فأصابت «حرب السنتين» بالرثاثة الأساطير المؤسِّسة، بقديمها شبه الأركيولوجيّ (الماضي الفينيقيّ…)، وجديدها التجاريّ والماليّ (سويسرا الشرق…). فحين انتهت الحرب، صعدت أسطورة «المقاومة» التي تفوق سابقتها رثاثةً وانقساميّةً، لكنّها تفوقها خصوصاً في اختزانها نزعتي التدمير والتدمير الذاتيّ.
وفي هذه الغضون، وعلى نحو دائم، تخلّلت معظمَ تلك الأساطير تصوّراتٌ مستقاة من الإسلام السياسيّ أقامت فيها كلِّها، وفي سائر بلدان المشرق، عناصر التسلّط ومعه الاحتراب المذهبيّ والدينيّ. وعلى نطاق أضيق كثيراً، تراءى لمجموعات وطنيّة في تلك البلدان أن تطرح شعارات حسنة النوايا، إنّما كسولة، تفيد أنّ بلدها «أوّلاً» (لبنان أوّلاً، سوريّا أوّلاً…). بيد أنّ تلك الشعارات تبقى شعارات، بمعنى أنّها لا تؤسّس أساطير وتصوّرات عريضة، فيما يتهدّدها السقوط في احتمالات قوميّة وشوفينيّة متعالية لا سند لها في واقع البلدان الضعيفة. يضاف إلى هذا أنّ تأويلها، وبحكم التجربة، غالباً ما يلبس لبوس جماعة أهليّة بعينها في كلّ واحد من البلدان.
والواقع أنّ ما يشترك فيه سكّان المشرق هو، قبل كلّ شيء آخر، تعرّضهم لعنف لم ينقطع منذ قيام دولهم الحديثة. وبهذا المعنى، ربّما جاز الرهان على رفض العنف بوصفه الحاضنة العريضة التي تحيط بعمليّة إنتاجهم أساطيرَهم المؤسِّسة. فلئن كان الانقلاب العسكريّ ونظامه هما مصدر العنف في سوريّا والعراق، فإنّ الحرب الأهليّة ومتفرّعاتها هي مصدره في لبنان. لكنْ في الحالتين، يقودنا العنف إلى نتائج عشناها جميعاً في المشرق يمكن إيجازها بالسمات الخمس التالية:
– عذابات السكّان موتاً وقمعاً وتهجيراً وفقراً.
– تفشّي حالات ميليشيويّة مباشرة، كما في لبنان، أو مداورة، كما في سوريّا والعراق، وانتعاشها على حساب الدول والقوانين والمؤسّسات.
– ارتهان السياسة المحلّيّة لبلد من البلدان بمحور إقليميّ ما وبصراعاته.
– التعيّش، ولو صراخاً، على عدد من أفكار القوّة والغلبة، لا سيّما منها «ديانة» مقاومة إسرائيل.
– بناء البلدان المذكورة علاقاتٍ سيّئة بجوارها وعالمها المحيط بالعربيّ منه والغربيّ، وبعلاقات تبعيّة مع إيران (وبالنسبة للبنان حتّى 2005، مع سوريّا).
لقد تسبّبت تلك التجربة (انقلابات + حروب أهليّة + مقاومة + ميليشيات…) بإفساد أفكار كالاستقلال أو الوحدات الوطنيّة. وهي، في آخر المطاف، تجربة يتساوى الجميع، ولو بتفاوت، أمام نتائجها الكارثيّة، والاكتواء بنارها، فلا فضل حيالها لطائفة أو جماعة على أخرى.
وهذا الرفض العميق للعنف، انقلاباً عسكريّاً وحرباً أهليّة، إنّما يحضّ على اعتماد أنظمة تربويّة تتلقّاها الأجيال جيلاً بعد جيل. وهو ما حاول صياغته الزميل بشّار حيدر في صحيفة «نداء الوطن» اللبنانيّة، مطالباً سوريّي ما بعد الأسد بإنشاء «متاحف تروي قصّة كلّ فرد وعائلة وقرية وبلدة ومدينة عانت من نظام الأسدين، وأن يقيموا معارض تحكي قصص الاعتقال والتعذيب والقتل والتدمير والأسلحة الكيماويّة وبراميل الموت، وأن ينشئوا مراكز أبحاث وأقساماً جامعيّة تُعنى بالقهر السوريّ، تدرس وتعمل على جمع كلّ ما يمتّ لهذا القهر بصلة، وأن يعلّموا أولادهم في المدارس حكاية ذلك القهر وانتصارهم عليه، ويجعلوا من زيارة سجون صيدنايا وتدمر وغيرها من الأماكن التي تشهد على العذاب السوري طقوساً تشكّل وعيهم الوطنيّ والإنسانيّ».
فالخطط الدفاعيّة المطلوبة ليست جيوشاً قويّة وشعوباً مقاوِمة وباقي الترّهات المجرّبة والمفلسة، بل توطيد فكرة الخروج من العنف وإعادة تأسيس الذات على نزوع سلميّ عميق يصبو إلى مستقبل يتّعظ بالماضي.
وقد لا تكون هذه الأسطورة كافية بذاتها لبلورة معانٍ أدقّ للوطنيّة، خاصّةٍ بكلّ واحدة من وطنيّات المشرق، لكنْ من دونها لن تتبلور معانٍ ولا وطنيّات.
أمّا من شاء المضيّ في الطواف حول «مليون شهيد» في الجزائر، أو في الاستشهاد للارتقاء على طريق القدس، فبورك له.
الشرق الأوسط
————————–
هروب الأسد بعثر أوراق القوة فهل تولد هذه المنطقة من جديد؟/ عبد الوهاب المرسي
22/12/2024
في التاريخ السياسي، ثمة لحظات فاصلة تفتح الباب لمتتالية من الأحداث والتطورات التي يكون من شأنها إعادة ترتيب هيكل القوة داخل بنية النظام الإقليمي أو النظام الدولي بأكمله أحيانا، فربما لم يكن يدري الشباب الألمان الذين تجمعوا ليلة التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1989، مندفعين لاختراق جدار برلين وإسقاط السور الذي ظل يفصل بين الألمانيتين لمدة 18 عاما، أن تلك اللحظة ستكون بمنزلة البداية لإعادة صياغة النظام العالمي ورسم حدود توازنات القوى الدولية بالكامل.
وقبل ذلك بنحو ثلاثة عقود، ربما لم يدرِ أيضا المئات من المصريين، المنخرطين في صفوف المقاومة الشعبية الذين كانوا يقاومون العدوان الثلاثي في مدينة السويس عام 1956، أنهم في هذه اللحظة يشاركون في كتابة نهاية ثلاثة قرون من هيمنة كلٍّ من بريطانيا وفرنسا على العالم، لتبدأ فصول نظام عالمي جديد بالتشكُّل.
ليس بعيدا عن هذه الأمثلة ولا من قبيل المبالغة أن نقول إن بضعة آلاف من عناصر المعارضة السورية المسلحة الذين اقتحموا دمشق فجر الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 قد مهَّدوا الطريق أيضا لإعادة صياغة الكثير من معادلات القوى الإقليمية التي كانت سائدة منذ عقود. ومع أن كثيرا من هذه التأثيرات لا يزال قيد التشكُّل، وبعضها لم تنحسر عنه الأحداث بعد، فإن ملامح رئيسية لهذا التغير الكبير يمكن أن نستشرفها خلال السطور التالية.
إيران.. في قلب التحول الكبير
“إذا خسرنا سوريا فلا يمكن أن نحتفظ بطهران”، بهذه الدرجة من الوضوح والقطع وصف مهدي طائب، الأستاذ بحوزة قم الدينية ورئيس “مقر عمّار الإستراتيجي للحروب الناعمة” الذي يُعتقد أنه يعمل بمنزلة غرفة تخطيط للحرس الثوري، عمق العلاقة بين النظامين الإيراني والسوري، كان ذلك في صيف 2015.
لم تكن هذه العلاقة القوية بين النظامين وليدة أحداث الثورة السورية في 2011، بل إن علاقة الرئيس السوري حافظ الأسد بالنظام الإيراني بدأت قبل حتى أن تندلع الثورة الإسلامية في إيران عام 1989، إذ يروي عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السوري السابق، أن علاقة الأخير بقيادات الثورة الإيرانية بدأت من خلال موسى الصدر، رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، الذي كانت تربطه صِلات قوية بحافظ الأسد من جهة وبقيادات “حركة حرية إيران” من جهة أخرى، أولئك الذين صاروا لاحقا وزراء ومسؤولين كبارا في إيران الجديدة.
بل إن الأسد (الأب) عرض على الخميني استضافته في دمشق بعدما اضطر لمغادرة العراق، لكن الخميني فضَّل التوجه إلى فرنسا، ونتيجة طبيعية لهذه العلاقة كان حافظ الأسد من أوائل المبادرين بتهنئة الخميني بنجاح الثورة في الإطاحة بالشاه رضا بهلوي.
لم تكد الثورة تستلم مقاليد الدولة في طهران، حتى اندلعت حرب طاحنة بين إيران والعراق (1980-1988)، أعرب خلالها حافظ الأسد عن دعمه الكامل للجمهورية الإيرانية، بل أوقف وصول الصادرات النفطية العراقية إلى مياه البحر المتوسط، مما أصاب نظام صدام حسين بأضرار اقتصادية بالغة.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها وقد كبَّدت إيران خسائر بشرية ومادية هائلة، أدركت سلطة طهران الجديدة أن أمنها لا بد أن يبدأ من خارج حدودها، وأن حدود إيران الحالية التي تضاءلت عبر القرون لا تتمتع بالحماية الطبيعية الكافية والمستقرة، لذا بادرت بتأسيس الحرس الثوري عام 1990 ليمارس نشاطه خارج إيران، ضمن إستراتيجية تعتمد مفهوم “الردع الأمامي” الذي يهدف إلى نقل الصراع خارج حدود الدولة.
قدَّم الغزو الأميركي للعراق عام 2003 فرصة تاريخية على طبق من ذهب لإيران، فمن جانب أدى إلى فتح الطريق أمامها لتُثبِّت نفوذها في العراق، ومن جانب آخر دفع نظام بشار الأسد لمزيد من التقارب مع طهران، في ظل تصاعد الخطاب الغربي العدائي ضد نظامه الذي كان يتوعّده بأن يلحق بمصير صدام حسين.
ومع اندلاع الثورة السورية في 2011، توسع نفوذ إيران داخل سوريا، التي بات نظامها الضعيف يُمثِّل لطهران فرصة بالقدر نفسه الذي يُمثِّل تهديدا، حتى أضحت القوات الموالية لها منتشرة في قرابة 600 نقطة موزعة على طول سوريا وعرضها، بينها 55 قاعدة عسكرية، بحسب تقرير مركز جسور للدراسات.
وبعد هذه العقود من تراكم القوة، وفي غضون 12 يوما فقط من بدء معركة “ردع العدوان”، خسرت إيران وجودها العسكري في سوريا الذي استثمرت فيه الدماء والأموال الطائلة، كما خسرت النظام الحليف والأقرب لها من أنظمة المنطقة، فضلا عن تزامن ذلك مع الضربات القاسية التي وُجِّهت لحليفها اللبناني حزب الله، وفقدان قياداته العليا والآلاف من جنوده وضباطه. وفي صورة أوسع، يمكن القول إن المحور الذي بنته إيران ليكون درعا لها وتأمينا لمصالحها بات مكشوفا كما لم يكن من قبل.
ثمة تداعيات عميقة من المرجح أن تنتج عن هذا التراجع في النفوذ الإيراني خلال المديات المتوسطة والبعيدة، أولها أن مصير البرنامج النووي الإيراني بات محل غموض، في ظل احتمالات أن تدفع الأحداث شهية حكومة بنيامين نتنياهو لتنفيذ هجمات ضد المنشآت النووية في إيران، خاصة أن البيت الأبيض ينتظر قدوم الرئيس دونالد ترامب، الذي قاد حملة الضغوط الاقتصادية القصوى على طهران، خلال فترة إدارته الأولى، لدفعها للتخلي عن برنامجها النووي، كما يرافقه هذه المرة مجموعة من المساعدين الذي يحملون عداء عميقا لإيران ورغبة في إجبارها على تقليص نفوذها، على الأقل وفق تصريحاتهم المعلنة.
يضع ذلك إيران أمام سيناريوهات صعبة للغاية، فإما أن تتجه لتغيير عقيدتها النووية وتختصر الوقت من أجل امتلاك القنبلة النووية بُغية ترميم ميزان الردع المتضرر، وتتحمل في سبيل ذلك الكلفة الهائلة من العقوبات المتوقعة، وإما أن تتقدم طوعا بتقليص نفوذها والتخلي عن برنامجها النووي وربما التخلي نسبيا عما تبقَّى من قوى المحور، وتنكفئ على شؤونها الداخلية تفاديا لمزيد من الخسائر.
ومن جانب آخر، فإن تراجع قوة حزب الله البشرية والمادية والمعنوية داخل لبنان قد يفتح الطريق لإعادة صياغة المشهد الداخلي، في ظل توقعات بأن يتقدم اليمين المسيحي لشغل كثير من الفراغ الذي سيخلفه الحزب، فضلا عن أن قوى سُنية ترى أن أمامها فرصة لتقوية حضورها بعد إسقاط نظام الأسد وإضعاف حزب الله. وقد تجلى ذلك في التهديد المباشر من قِبَل قيادات سُنية، على رأسهم أمين فتوى بيروت، الشيخ أمين الكردي، لمؤسسات الدولة وتحذيرها من التمادي في إيقاف المعتقلين الإسلاميين من السنة تحديدا.
إذا كان من السهل استنتاج أن إيران خسرت بسقوط الأسد، فإن الأمر بالنسبة لروسيا يبدو أعقد من ذلك.
وفي هذا السياق، يخلص تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” إلى أن الأسد خرج من سوريا لكن موسكو لم تخرج بعد. وبالتالي فإن التعجل بالقول إن روسيا خسرت موقعها في شرق المتوسط لا يبدو حتى الآن استنتاجا حكيما، فلا يزال مصير القواعد العسكرية الروسية غير واضح. وحتى كتابة هذه السطور، لا يوجد ما يشير إلى أن الخروج العسكري الكامل من الساحل السوري بات مؤكدا.
وقد صرح نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، أن بلاده تشارك في محادثات وصفها بأنها “بنّاءة” مع الإدارة السورية الجديدة. ووفقا لبوغدانوف، تهدف المحادثات إلى تأكيد استمرار الوجود العسكري الروسي وتأمين القواعد الروسية في طرطوس واللاذقية، قائلا إن تلك القواعد كانت “بناءً على طلب السلطات السورية بهدف محاربة الإرهابيين وداعش، وأفترض أن الجميع يتفقون على أن المعركة ضد الإرهاب وما تبقى من داعش لم تنتهِ بعد”.
وقد يُرجح احتمالية نجاح محادثات الإبقاء على القواعد الروسية أن سلطة دمشق الجديدة قد تجد من مصلحتها المُضي قُدما في بناء علاقة جيدة مع موسكو وتنحية الخصومات السابقة جانبا، حيث إن الكرملين قد يمنح السلطة الجديدة الاعتراف الذي تسعى إليه في وقت ما زالت تتردد فيه الولايات المتحدة والحكومات الغربية في منحها هذا الاعتراف.
وتضيف “وول ستريت جورنال” في التقرير السابق ذكره أن موسكو حتى لو خسرت قواعدها العسكرية، فإنها تظل عضوا دائما في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومُوقّعة مشاركة على الوثيقة الوحيدة التي تحدد عملية الانتقال السياسي في سوريا، القرار 2254 الصادر عن الأمم المتحدة. وحتى مع الإطاحة ببشار الأسد، فسوف تحتفظ روسيا بمقعد على الطاولة الدبلوماسية وتظل حاضرة في تشكيل مستقبل سوريا.
بيد أن هذا لا يعني أن موسكو لم تخسر شيئا، فطالما كان نجاح موسكو في تثبيت حكم بشار الأسد رمزا لثقلها السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، بل إن وجودها العسكري في سوريا هو الذي أدى -إلى حدٍّ كبير- إلى تحالفها الحالي مع إيران، التي ساعدتها في توفير معدات عسكرية مهمة في حربها ضد أوكرانيا.
كما أن وجود موسكو في شرق المتوسط كان عنصرا مهما للغاية في دعم العمليات اللوجستية العالمية لروسيا، مما سهَّل نقل القوات والأسلحة الثقيلة إلى أفريقيا. والآن، ستحتاج روسيا عاجلا إلى إعادة هيكلة طرق دعمها، وإن كان هذا ممكنا فإنه سيتطلب الكثير من المال والوقت والجهد، بحسب تقرير صادر عن معهد “تشاتام هاوس”.
ومع أن التخلص من أعباء دعم نظام الأسد سيمنح موسكو فرصة أكبر للتركيز على حربها الأساسية مع أوكرانيا، التي في حال استطاعت موسكو حسمها لصالحها فستكون قد وضعت نفسها في مكانة إستراتيجية لم تحظَ بها منذ انتهاء الحرب الباردة، لكن موسكو بالتوازي مع ذلك من المرجح أن تكون أكثر شراسة في الدفاع عن وجودها في شرق ليبيا، بوصفه خطَّ دفاعٍ أساسيا لباقي نقاط وجودها الكثيف داخل أفريقيا، كما أن من المرجح أن تتنامى علاقات موسكو مع حركة أنصار الله الحوثيين في اليمن.
وقد تصاعدت منذ يوليو/تموز الماضي حِدَّة الخطابات والتقارير الغربية التي تشير إلى أن موسكو بصدد إمداد جماعة الحوثيين بصواريخ مضادة للسفن، أو أمدّتها بالفعل، وأنها تنسق معها العديد من العمليات التي تستهدف السفن الأميركية والغربية في باب المندب وبحر العرب، وفي المقابل تسمح الحركة اليمنية للسفن الروسية بالمرور.
ومع احتمالات تراجع ثقة أطراف “محور المقاومة” في طهران بوصفها حليفا قادرا على حماية حلفائه بعد أحداث غزة ولبنان، فقد يكون أمام الحوثي فرصة لتقليل اعتماده على طهران عبر توسيع التعاون مع موسكو، ويرجح هذا الاحتمال تقرير صادر في شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري، عن مؤسسة “جيوبوليتيكال فيوتشرز”.
تركيا: أكثر الرابحين ولكن!
لا يشك أحد من المراقبين للمشهد السوري في أن أنقرة هي أكثر الأطراف الإقليمية استعدادا لجني مكاسب سقوط الأسد، ولكن السؤال هو إلى أي مدى سوف تستطيع تركيا بالفعل توجيه دفة المشهد السوري إلى ما يخدم مصالحها الإقليمية وتثبيت هذا التغير في موازين القوى. إضافة إلى أن تغير المشهد في دمشق وسقوط نظام الأسد سيعني تغيرا في ملف اللاجئين، الذي كان سببا في فقدان حزب العدالة والتنمية جزءا من شعبيته في الداخل التركي.
في تحليل لمجلة “فورين بوليسي” الأميركية، رجَّحت أن تكون لدى أنقرة القدرة على فرض قوتها داخل سوريا عبر علاقاتها مع هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى منضوية تحت الجيش الوطني السوري، بحيث يمكن أن تحل محل روسيا وإيران بوصفها قوة خارجية مهيمنة في سوريا، بحسب المجلة.
وبمرور الوقت، قد تتوسع مكاسب تركيا خارج حدود سوريا، بحيث تمتد إلى لبنان والعراق، وخاصة مع ضعف موقف إيران المحتمل في هذين البلدين في أعقاب خسارة سوريا. وإذا حدث هذا فإنه سيغير من واقع توازن القوى الإقليمي، وسوف يزيد من حِدَّة التنافس التركي الإيراني الذي لم يهدأ أصلا منذ تأسيس الدولة الصفوية ثم القاجارية وتنافسها مع الدولة العثمانية في نقاط التماس الجيوسياسي المتعددة بينهما.
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ورئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في قمة العقبة بالأردن للنقاش حول الوضع السوري (الفرنسية)
وقد ورثت الجمهوريتان التركية والإيرانية الحديثتان، لا سيما بعد الثورة الإيرانية ثم صعود العدالة والتنمية في تركيا، مساحات التنافس التاريخية بينهما في الشرق الأوسط والقوقاز. ومع الدعم القوي من جانب تركيا لأذربيجان في ضربة خاطفة استعادت بها إقليم ناغورنو قره باغ من أرمينيا (حليفة إيران) في سبتمبر/أيلول 2023، خسرت إيران مرة أخرى أمام تركيا في سوريا. وفي حال تشجعت تركيا لإكمال حلقات انتصارها بدعم أذربيجان لاستخدام القوة لفتح ممر زنجزور الذي سوف يربط أذربيجان بتركيا عبر أراضي تسيطر عليها أرمينيا حاليا، فسوف تُقطع إيران تماما عن القوقاز.
ولكن مع هذه المكاسب، فإن ثمة تحديا داخليا في سوريا سيواجه تركيا وهو التخلص من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تسيطر على مناطق شرق الفرات، ويعتقد الأتراك أن لـ”قسد” صلة وثيقة بحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه منظمة إرهابية. لكن ذلك قد يتعارض مع الولايات المتحدة الأميركية التي من المحتمل أن تستمر في دعم الميليشيات الكردية، إلا في حال وصول إدارة ترامب الجديدة لتفاهم مع أنقرة ودمشق حول طبيعة الوجود الكردي بوصفه طرفا مسلحا، لا مكونا ديمغرافيا ضمن الفسيفساء السورية.
إسرائيل: الكفاح من أجل البقاء في بيئة معادية
ما لبثت طائرة بشار الأسد أن تلمس أراضي موسكو بعد هروبه وفق عدد من المصادر الصحفية، حتى سارعت إسرائيل للتقدم بريا في جنوب سوريا، كما استولت على جبل الشيخ في أقصى الجنوب الغربي الذي يُشرف على مناطق واسعة من سوريا، فضلا عن تنفيذ سلاح الجو الإسرائيلي لأكبر عملية في تاريخه استهدفت على مدار أيام منشآت ومعدات الجيش السوري بُغية الحيلولة دون سقوطها في أيدي قوات المعارضة.
ومع أن الكثير من القادة الإسرائيليين، وعلى رأسهم نتنياهو، قد أبدوا فرحا غامرا بسقوط بشار الأسد وخروج حزب الله والحرس الثوري ووكلائه من سوريا، غير أن ثمة أسبابا أخرى تُشعر إسرائيل بالقلق إزاء تطور الأحداث في سوريا.
وتقول مجلة “فورين بوليسي” إن إسرائيل سوف تقطع احتفالاتها بسقوط بشار عندما تواجه حقيقة تنامي مجال النفوذ التركي هناك. كما أنه بمجرد أن ترسّخ السلطة الجديدة أقدامها فمن المرجح أنها سوف ترفض بحِدَّة التوغل الإسرائيلي جنوب سوريا، وحتى لو عادت إسرائيل لخط وقف الاشتباك في 1974 فمن المرجح أيضا أن السلطة الجديدة ذات التوجه الإسلامي لن تقبل باحتلال مرتفعات الجولان، وربما قد تعمل على تحريره، كما من المحتمل أيضا ألا تظل محايدة تجاه احتلال أراضي فلسطين إذا استقرت لها الأمور.
وإضافة إلى التداعيات الهائلة التي أحدثها طوفان الأقصى على العقيدة الأمنية لإسرائيل وكفاحها لإعادة ترميم الثقة في مؤسساتها الأمنية والعسكرية واستعادة وحدة المجتمع الصهيوني، فإن طبقة جديدة من التعقيد قد أُضيفت لمحنة إسرائيل الوجودية في منطقة الشام، بصرف النظر عن إبداء الابتهاج الأول بسقوط الأسد، سعيا لتحصيل صورة نصر “رخيصة الثمن” لم تصنعها إسرائيل ولم تشارك فيها.
خاصة أن نظام الأسد، والجغرافيا السورية في عهده، كانت أكثر المناطق استقرارا في حدودها مع إسرائيل. ولم تشهد الأرض السورية طوال أكثر من عام على حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي أي تصعيد يُذكر، وهو ما يعني أن حدود الردع وضوابطه سيُعاد تعريفها والتفاوض عليها حتى تستقر معادلات جديدة تحكم المشهد.
الولايات المتحدة: تعقد الحسابات
وفي أقصى النصف الآخر من الكرة الأرضية، سيزيد سقوط بشار الأسد من الحيرة الإستراتيجية لإدارة ترامب تجاه الملف السوري. ففي حين بادر ترامب في أعقاب اندلاع عملية “ردع العدوان” إلى القول “إن سوريا ليست معركتنا”، فإن تحديات عدة ربما تمنع ترامب من الانسحاب الكامل من سوريا، خاصة في ظل رغبة الكثيرين في الولايات المتحدة إلى لعب دور في صياغة المشهد السوري الجديد وتوجيهه بما يخدم مصالح الغرب ويضمن القطيعة مع طهران وموسكو.
كما أن التحالف الأميركي الإسرائيلي، ووجود سوريا على مرمى الحدود المتوترة مع إسرائيل، ورغبة جيش الاحتلال بفرض معادلات جديدة قد تدفع لاستمرار التصعيد الإسرائيلي على الأرض السورية، كل ذلك قد يجعل من سوريا ساحة جديدة للتوترات التي قد تقود واشنطن مجبرة للانخراط في المسألة السورية، دعما لحليفتها إسرائيل، خاصة إذا ما قررت سوريا الجديدة ردع العدوان الإسرائيلي بعد أن تستقر لها الأمور وتتثبَّت أركان النظام السياسي الوليد.
وكان دونالد ترامب خلال فترة إدارته الأولى قد حاول أكثر من مرة إخراج القوات الأميركية من سوريا، لكنه استبقى الحد الأدنى من هذه القوات، بما يُقدَّر بنحو 900 مقاتل يعملون في مناطق شرق الفرات، حيث تقع هنالك منطقة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وحيث كان يسيطر سابقا تنظيم الدولة، كما تنتشر في هذه المنطقة حقول النفط السورية في محافظتَيْ الحسكة ودير الزور.
وأخيرا، فإن الجزم بالصورة النهائية التي سترسمها محصلة هذه التفاعلات المعقدة قد يُعد ضربا من المستحيل، لكن المؤكد في كل الأحوال أن ثمة زلزالا تاريخيا قد حدث، وأن صورة أخرى للنظام الإقليمي في المشرق آخذة في التشكل على نحو جديد لم يكن معهودا منذ ولادة هذه المنطقة بحدودها السياسية الحالية في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
————————
سوريا والمثقفون الانتهازيون: المسامحة ولكن ليس النسيان/ موسى برهومة
قفز بعضهم من المركب بعدما ايقن انه مقبل على الغرق المحتوم
الأحد 22 ديسمبر 2024
إذا كان سقوط نظام بشار الأسد قد كشف ويلات التعذيب الهمجي في السجون السورية، فإنه كشف أيضاً عورات المثقفين، وبخاصة السوريون منهم، الذين قفز بعضهم من المركب بعدما أيقن أنه في طريقه المحتوم إلى الغرق.
مواقع “السوشيال ميديا” باعتبارها سوق عكاظ المثقفين، أو “هايد بارك” الثقافة العربية، اكتظت بآراء وأحكام عن المثقفين والفنانين السوريين “التائبين”. كانت الآراء قاسية في حق الذين اعتبروا من “عظام رقبة” النظام السابق، إذ كانوا يذودون عنه ويدافعون عن خياراته ويهاجمون المخالفين ويتهمونهم بأنهم “إرهابيون” و”خونة”، ومن ثم يستحقون ما يفعله النظام بهم، حتى لو قصفهم بالسلاح الكيماوي وغاز السارين السام وغاز الكلور وغاز الخردل، كما حدث في الغوطة الشرقية ومعظمية الشام ومدينة دوما ومدينة خان شيخون وبلدة اللطامنة ومناطق في إدلب وحلب وسواها، بحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة.
وساد في الأوساط السورية منذ اندلاع الثورة في 2011 مصطلح “الشبيحة” الذي يلتصق بكل من يؤيد النظام السابق، ويجمّل صورته، أو يرسل ابتسامة عابرة للجغرافيا وهو يقابل الأسد الفار الذي ألقى مواعظه العميقة الخالدة حول كيفية تطوير الدراما السورية، في لقاء عُقد في قصر المهاجرين بدمشق في آذار (مارس) الماضي.
وإذا كان ثمة من أُجبر على حضور اللقاء (كما تسرب حينها) فإن أحداً لم يجبر “فنانة” على أن تنشر في حسابها على “إنستغرام”: “كان يوماً مميزاً في حياتنا وأنت تستقبلنا يا سيادة الرئيس بوجهك الباسم المشرق.. وبقامتك الشامخة شموخ الجبال…”.
بعض الحاضرين ذلك اللقاء (وعددهم قرابة 15) خاضوا مع الخائضين في هجاء الرئيس “صاحب الوجه الباسم المشرق” بعد فراره. وقالت صاحبة التعليق “الباسم”: “من لحظة سقوط النظام، أدركت كم كنا مخدوعين… فقد زرعوا الخوف في أعماقنا ولسنين طويلة من فكرة التغيير”. أما بعض “المؤلَّفة قلوبهم” من الفنانين الـ15، فقد لاذوا بالصمت.
بيد أن العدالة والإنصاف يقتضيان أن نضع ردود الفعل بعد سقوط النظام، وتلك التي كانت قبل السقوط، على مشرحة التحليل المنطقي الهادئ الذي يقر بأن الناس ليسوا كلهم سواءً، في ما خص طبيعتهم النفسية، وقدرتهم على التحمل، ومجازفاتهم الثمن الباهظ ذاته. هنا الخوف محرك أساس في جنوح بعض المثقفين والفنانين عن الصراط الأخلاقي، لأنهم يعلمون، ومعهم بعض الحق، بأن النظام لا يتورع أن ينكل بهم وبأهاليهم وأقربائهم. الخوف له أسماء عدة في نظام الأسد الساقط، ويكفي أن يُبلّغ أحدهم بأنه مطلوب لأحد أفرع أجهزة الاستخبارات حتى يشمله الذعر، ويبتلعه الرعب، ويودع أحبابه، لأنه قد لا يلقاهم بعد يومه ذاك.
والخوف قد يحول الإنسان إلى انتهازي، أو قناص فرص، أو يجعله مرتدياً لبوس “التقية”، كي يحمي نفسه، لأن الطرق أمامه مسدودة. وحتى لو لاذ بالصمت واختار العزلة، فإنه يضع نفسه في مهب الشكوك والريبة.
هشاشة إنسانية
الأحكام القاسية على هذه الفئة تظلمهم، وتتجاهل هشاشة إنسانيتهم. صحيح أن بعضهم مالأ النظام السابق حتى أهرق ماء وجهه، طمعاً في حظوة أو مال أو موقع أو حتى دور في مسلسل. بيد أن بعضاً آخر ظل محتفظاً بالحد الأقصى من كرامته ولم يبتذلها.
ما المعيار إذاً لنقول إن فلاناً “شبيح” وفلاناً “معارض”؟ هذا سؤال يؤول إلى تفاصيل عدة، فثمة فنانون معارضون هُجّروا واقتلعوا من ديارهم، وبعضهم اعتُقل وعُذب وقُتل، وبعضهم نُكّل بأهله. هؤلاء دفعوا ضرائب باهظة من حياتهم ورزقهم وسكينتهم وأمانهم النفسي والروحي، وبعضهم انخرط مع تيارات المعارضة، وناضل من أجل صناعة فجر سوري نأمل في أن تكون بشائره معلقة على الإدارة الحالية التي تحكم الآن، وتطلق الوعد ذاته.
وحتى لا يختلط الحابل بالنابل، ويأتي من يقول إننا نكيل بمكيالين، أو إننا نتواطأ مع “المتخاذلين” الذين أطالوا، بنفاقهم، عمر النظام السابق، وجمّلوا جرائمه، يمكننا السير في طريق “العدالة الانتقالية” التي تقود إلى مصالحات واسعة، من أجل تجفيف إرث النظام السابق، والعمل على بناء دولة جديدة بأدوات حيوية وخلاقة وسريعة.
أما من تلطخت أياديهم بالدماء، ونهبوا المال العام، وكانت لهم سلطة قهرية ظلمت الناس ونكلت بهم، فإن آليات العدالة الانتقالية ستتكفل بهم، لأن الهدف الأخير هو محاكمة النظام السابق المتورط في هذه الجرائم من رأسه حتى قدميه.
سيقول قائل إن الفنان أو المثقف الذي يطبل للنظام القاتل وهو يقتلع حناجر المعارضين، هو قاتل حتى لو لم تسل الدماء على كفيه، لأنه قيل لـ”فرعون” لماذا تفرعنت؟ فأجاب، لأنني لم أجد من يردعني أو ينصحني!
الكلمة تكون أحياناً كالرصاصة، تقتل الحق أو تُزهق الباطل، لكن الانتهازيين لا يفكرون إلا بالنجاة الذاتية، ولتهلك سوريا بعد ذلك، فماذا نحن فاعلون بهؤلاء؟ إنه سؤال صعب، لا سيما إذا استعدنا صورة القاتل والضحية، وحدقنا في الفروق الهائلة بينهما. المثقف الانتهازي هو ضحية في المآلات النهائية. إنه ضحية جُبنه وتخاذله وطمعه وهشاشته النفسية، وأيضاً وفي الوقت نفسه هو ضحية الخوف الذي عمّره النظام في داخله ذرة فذرة، فأخرجه من سياقه البشري، وعمل على “حيونته”. ومن هؤلاء المثقفين الانتهازيين من تحيوَن واستعذب الأمر وراق له، ومنهم من أبت ميكانيزماته أن ينحدر إلى الدرك الأسفل، فظل معلقاً يتأرجح بأهداب بشريته.
التاريخ سيذكر آلام الذين ظلوا قابضين على الجمر، ولم يقايضوا أفكارهم بشيء، ولا تخلوا عنها من أجل موقع أو بريق مال، كما سيذكر أيضاً أولئك الذين اختاروا الوقوف على الضفة النقيضة الأخرى. الناس تحب الشجعان وترفعهم على أكتافها، فالذين دفعوا الثمن سيكون لهم الحظوة الكبرى في سياق التعمير والبناء والإدارة… والذاكرة، لكن الحكمة تقتضي أن ندعو الواقفين على الضفة الأخرى، ونمكّنهم من الانضمام إلى الهتاف الموحد الذي يتوخى التسامح وجمع الصف، ولأْم الجروح، وتشييد منائر الأمل.
وكيلا يكون التسامح ديباجة فضفاضة (وظالمة) يتساوى تحت عباءتها “الشبيح” السابق، والمناضل والناشط، فإننا سنبقى معتصمين بالمبدأ العادل والمنصف، ولو على المستوى النفسي: “نغفر، ولكننا لن ننسى”!
———————————–
سوريا الجديدة.. لحظات عابرة أم اختلاف جذري عن تجارب الإسلام السياسي؟/ أحمد ماهر
عندما تتلاشى الحدود بين أيديولوجية أحمد الشرع والعلمانية
22 ديسمبر 2024
يقدم زعيم الإسلاميين الجديد في سوريا، أحمد الشرع، نفسه كبديل واعد للديكتاتورية الوحشية التي فرضتها عائلة الأسد، ونظامهم السياسي المركزي الذي قمع أي تهديد لسلطتهم على مدار أكثر من نصف قرن.
ومع ذلك، هناك فجوة واضحة بين تطلعات أحمد الشرع، وواقع الحوكمة على الأرض، وهي الفجوة ذاتها التي أسهمت بشكل مباشر، في تراجع وفشل وانهيار الحركات الإسلامية الأخرى في منطقة الشرق الأوسط خلال العقد الماضي.
كان السياق السياسي الذي عملت فيه الحركات الإسلامية في دول مثل مصر وتونس وليبيا والمغرب شديد التقلب، متأثرا بشكل كبير بتغيرات واسعة في الرأي العام، التي أعقبت الدعم الأولي الحذر الذي حصلت عليه تلك الحركات. هذه البيئة المتقلبة تجعل من الصعب على أحمد الشرع، أو أي جماعة إسلامية أخرى، الحفاظ على استقرار مواقفهم، حتى إذا أقدم الشرع على تفكيك “هيئة تحرير الشام”، وذلك إذا ما أخذنا التاريخ الحديث في هذه الدول بعين الاعتبار.
فهل سيثبت أحمد الشرع أنه مختلف هذه المرة، ويقدر على إحداث تحول سياسي غير مسبوق؟ وهل ستتمكن المشاعر العلمانية في سوريا من التعايش مع، أو في مواجهة، ليس فقط أيديولوجيا إسلامية واحدة، بل أيديولوجيات متعددة، تتراوح بين تيارات معتدلة وإصلاحية وأخرى متطرفة، تسعى لإقامة دولة إسلامية بوسائل عنيفة وإرهابية؟
هذا التنوع داخل المشهد الإسلامي، يؤدي إلى تعدد الأجندات والاستراتيجيات والتفسيرات، لما يعنيه الحكم وفقا للمبادئ الإسلامية، مما يجعل الوصول إلى توافق أو صيغة موحدة للحكم أمرا بالغ الصعوبة.
حتى الآن، تمكن أحمد الشرع من طمس الحدود بين العلمانية والدين خلال مقابلاته الإعلامية منذ 8 ديسمبر/كانون الأول. وقد أسفرت هذه الخطوة عن مفارقة لافتة، حيث يظهر زعيم إسلامي كان في وقت من الأوقات مرتبطا بأيديولوجيات بعض الجماعات الإرهابية، مثل “القاعدة” و”داعش”، وهو يتبنى اليوم خطابا ذا طابع علماني، وربما يتجه نحو سياسات تحمل سمات علمانية في الأشهر المقبلة.
تأتي هذه الاستراتيجية كجزء من محاولة لجذب شريحة واسعة من السوريين الذين يعانون من صدمة جماعية جراء النظام الأسدي، وخيبة الأمل من نموذج حكم الحزب الواحد.
وفي مجتمع متنوع مثل سوريا، قد تُعتبر العلمانية وسيلة للحفاظ على هوية وطنية، تتجاوز الانتماءات الدينية والطائفية. فعلى سبيل المثال، يوم الأربعاء الماضي، 18 ديسمبر/كانون الأول، وخلال مظاهرة في دمشق، أمسك أحد الأفراد المسلحين في “هيئة تحرير الشام”، بالميكروفون وبدأ حديثه بالدعوة ضد الطائفية والانقسام، ما لاقى تأييدا وإشادة واسعة من الحشود.
ومع ذلك، بمجرد أن بدأ الحديث عن الحكم المستند إلى الشريعة كنموذج مستوحى من تاريخ الإسلام، تصاعدت هتافات الحضور بقوة، مرددين شعارات مثل “علمانية.. علمانية”، و”لا للحكم الديني”، وفي محاولة لاحتواء الموقف، سعى المتحدث لطمأنتهم، مؤكدا أن سوريا ستظل بلدا حرا وشاملا للجميع.
ويبدو أن المتظاهرين في هذه الحادثة، التي انتشرت بسرعة على وسائل التواصل الاجتماعي، اعتبروا أن هذه الأيديولوجيا الإسلامية، تشكل تهديدا للوحدة الوطنية أو للقيم الثقافية، مما قد يعمق التوترات مع الإسلام السياسي.
تقدم هذه الحادثة دليلا عمليا على أن النقاشات النظرية والمقاربات المجردة بشأن إمكانية التوافق بين الإسلام السياسي والتنوع الثقافي، لا يمكن أن تصمد أمام الواقع العملي. ويمكن لأحمد الشرع أن يستفيد من تجارب الدول الأخرى، لفهم ديناميكيات عمل الجماعات الإسلامية في سياقات سياسية فعلية، بدلا من التركيز على الأطر النظرية فقط.
فعلى سبيل المثال، في مصر وبعد “ثورة 2011″، وجدت جماعة “الإخوان المسلمين” نفسها في مواجهة تحديات كبيرة عندما وصلت إلى السلطة بقيادة محمد مرسي. شعر الكثير من المواطنين أن الجماعة تركز بشكل مفرط على تحقيق أجندتها السياسية الخاصة، على حساب القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحة، مما أدى إلى استياء عام بين غالبية السكان.
أسهم نهج “الإخوان المسلمين” في الحكم بشكل كبير في تفاقم الاستقطاب السياسي في مصر، حيث أدى إلى تهميش المجموعات العلمانية والليبرالية. وتركزت جهود الجماعة على تعزيز سلطتها، وتنفيذ سياسات اعتُبرت موجهة نحو ترسيخ المبادئ الإسلامية، بدلا من تبني نهج شامل يعالج الأولويات الوطنية. وقد أثار هذا التوجه موجة واسعة من الاحتجاجات والمعارضة الشعبية، حيث بات الكثير من المصريين يربطون بين الإسلام السياسي، وحالة عدم الاستقرار والنزعة الاستبدادية.
في السياق المصري، كان رفض الإسلام السياسي نابعا بشكل رئيس من رفض شعبي للحكم الإسلامي ذاته، أكثر من كونه نابعا من التزام شعبي بالعلمانية، وهو ما يميز مصر عن تونس. ومع ذلك، يشترك البلدان في كونهما خاضعين سابقا للاستعمار من قِبل قوى غربية علمانية؛ وهما الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي.
في تونس، وبعد الاستقلال عن فرنسا عام 1956، قاد الرئيس الحبيب بورقيبة مسارا إصلاحيا واسع النطاق لترسيخ العلمانية في المجتمع التونسي. وقد تحقق ذلك من خلال تشريعات علمانية فصلت الدولة عن الدين، كان أبرزها قانون الأحوال الشخصية، الذي منح المرأة حقوقا متساوية مع الرجل.
تحظى هذه القوانين بتقدير كبير بين التونسيين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الدينية. أتذكر مقابلة أجريتها مع أحد الزعماء السلفيين في تونس عام 2013، وعندما سألته عما إذا كان يؤيد تعدد الزوجات باعتباره مسموحا في الإسلام، ضحك وقال: “بالطبع لا، لأنني أحترم قوانين البلاد التي تحظر تعدد الزوجات”.
وماذا عن ليبيا؟ أدّى سقوط معمر القذافي عام 2011 إلى تفكك سياسي واسع النطاق، حيث تنافست مجموعات مسلحة متعددة، بما في ذلك الفصائل الإسلامية، على السيطرة على السلطة، مما خلق مشهدا سياسيا فوضويا.
كان الصراع على السلطة بين هذه الفصائل أحد المحركات الرئيسة للحرب الأهلية التي زادت من زعزعة استقرار البلاد. وواجهت الجماعات الإسلامية، مثل “تحالف فجر ليبيا”، معارضة شديدة من ميليشيات منافسة ومن “الجيش الوطني الليبي”، الذي كان يحظى بدعم قوى علمانية ووطنية.
وفي المغرب، ورغم النجاح الانتخابي الذي حققه “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي، عقب الإصلاحات الدستورية، فإن التحديات الاقتصادية والاجتماعية أثارت استياء واسعا بين المواطنين. وتفاقمت معدلات البطالة، خاصة بين فئة الشباب، وارتفعت تكاليف المعيشة، مما أدى إلى ظهور احتجاجات وحركات اجتماعية تعبر عن الغضب من التفاوت الاقتصادي، وفشل الحزب في تحقيق إصلاحات اقتصادية ملموسة.
وفي الانتخابات البرلمانية لعام 2021، تعرض “حزب العدالة والتنمية” لانتكاسة كبرى بفقدانه جزءا كبيرا من مقاعده البرلمانية، وعدم تمكنه من المشاركة في الائتلاف الحاكم. يعكس هذا التراجع الانتخابي تصاعد حالة السخط بين الناخبين، وتحولا واضحا في الرأي العام، مما يشير بوضوح إلى فقدان الثقة في قيادات الحزب وسياساته.
حتى في تركيا، التي تقدم نفسها كداعم قوي لأحمد الشرع، يظل الإسلام السياسي قضية خلافية عميقة في ظل التراث العلماني و”الكمالي” الذي يميز الدولة. فقد أسس مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، دولة علمانية في أوائل القرن العشرين، حيث عزز الفصل بين الدين وشؤون الدولة.
كانت العلمانية، المستندة إلى الأيديولوجيا الكمالية، حجر الزاوية في تشكيل هوية تركيا ونظام حكمها. ومع ذلك، يمثل الإسلام السياسي تحديا مباشرا لهذا الإطار العلماني الراسخ، مما سيؤدي إلى توترات مستمرة بين القوى العلمانية والإسلاميين. إذ يرفض الكثير من الأتراك استخدام الخطاب الديني كأداة لتبرير الأفعال السياسية، مما أثار قلق العلمانيين والأقليات من احتمالية فرض قيم إسلامية محافظة على المجتمع التركي، وأدى إلى موجة احتجاجات واسعة ومعارضة شديدة داخل البلاد.
تركز الخطط المعلنة لأحمد الشرع في سوريا على الترويج لرؤية للإسلام تتماشى مع المبادئ الديمقراطية، مما يساهم في إنشاء أحزاب ديمقراطية ومنظمات مجتمع مدني.
ومع ذلك، تُعد العلاقة بين هذا التحرر السياسي الإسلامي، والمواقف المتشددة لبعض أتباع “هيئة تحرير الشام”، فضلا عن التطرف السائد في صفوف الفصائل الإسلامية الأخرى ذات الأيديولوجيات المتطرفة، علاقة معقدة. قد تؤدي هذه التعقيدات إلى التشرذم وانعدام الوحدة، مما يجعل من الصعب تقديم بديل إسلامي واعد لمستقبل البلاد، لا سيما إذا فشلت الدولة الجديدة في معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية لمؤيديها.
المجلة
——————————–
سوريا بين التحديات والآمال/ عالية منصور
التخوف من الثورة المضادة
21 ديسمبر 2024
أما وقد هرب بشار الأسد وسقط النظام، فصار يصح القول إن السوريين قد خطوا الخطوة الأولى من مشوار الألف ميل.
سقطت مقولة أن النظام السوري أفضل الموجود، فقد شاهد العالم أجمع بالصوت والصورة أنه كان الأسوأ على الإطلاق لا في تاريخ سوريا والمنطقة فحسب ولكن في تاريخ العالم الحديث أجمع. وبينما كان يهرب كان السوريون يثبتون للعالم أنهم دعاة بناء دولة وأن العائق أمام هذه الدولة كان النظام.
بدأت تتكشف قصص السجون، وبدأت تفتح المقابر الجماعية، منذ نحو 54 عاماً وهذا حال الكثير والكثير من السوريين، يبحثون عن أحبائهم بين سجون الأسد ومعتقلاته، مئات الآلاف من السوريين كانوا هناك ودفنوا هناك، ولكل واحد من هؤلاء اسم وحكاية وعائلة.
سقط النظام فراح السوريون يبحثون عن أحبائهم، لم يذهبوا إلى حيث بيوت المجرمين، لم يبحثوا عن انتقام، كل ما يبحثون عنه هو العدالة وبعض من رفات أبنائهم.
من يصغي جيداً للسوريين، من يعرفهم جيداً يعرف كم أن الغالبية العظمى من هذا المجتمع مسالمة، محبة للحياة، محافظة على تقاليد وعادات لا تؤذي أحدا، نعم هو مجتمع محافظ ولكنه أثبت بالفعل لا بالقول أنه ليس متطرفاً.
اليوم وآلاف العائلات تقيم العزاء لمن فقدوا، اليوم والمهجرون بدأوا بالعودة، والثوار في الساحات يحتفلون بعد طول انتظار، لا بد من الحديث عن هواجس الكثير من السوريين وتحديداً ممن انتموا لهذه الثورة العظيمة ودفعوا أثماناً ما كان لأحد أن يتصورها، ولكنّ للحرية ثمنا في بعض البقع الجغرافية بينما هي حق بديهي في بقع أخرى.
يتخوف السوريون من الثورة المضادة، وهو تخوف مشروع خصوصاً أن بعض الدول وأولها إسرائيل وإيران تتضرر جداً من انتصار الثورة السورية، إسرائيل التي فقدت حارس حدودها، وإيران التي سقط مشروعها التوسعي بسقوط بشار، كما بعض الدول التي تفضل نظاماً كالنظام السوري بكل إجرامه وإرهابه على وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم. هذا التخوف يرافقه التخوف من عودة أزلام الأسد، أولئك الذين يصعب عليهم تخيل سوريا الدولة ويريدونها مزرعة كما كانت من أجل مصالحهم الفاسدة.
يتخوف آخرون من استحواذ الإسلام السياسي على الحكم وفرض أجنداته، رغم أن جميع أطياف الشعب السوري السياسية شاركت خلال العقود الماضية بمعارضة هذا الحكم ودفعت كغيرها أثماناً باهظة خلال الـ13 عام الماضية.
وبين الهاجسين والخوفين، يبقى على السوريين ترتيب أولوياتهم، وبرأيي أن الأولوية الأساسية هي بناء الدولة والحفاظ على وحدتها، بعد عقود من انحلال الدولة لصالح النظام والميليشيات، الدولة التي تتسع لجميع السوريين بعيداً عن مصطلحات الاستشراق المستعملة لابتزازهم تحت شعار “حقوق الأقليات”، وكأن الأكثرية هي مجموعة واحدة موحدة وليست عبارة عن تنوع سياسي وثقافي، وكأن العرب السنة إن لم يتدخل الغرب بمصطلحاته الهجينة سينقض كالوحش على جاره “الآخر”.
وحدة سوريا الأرض تبدأ من وحدة الشعب، ووحدة الشعب لا تلغي تنوعه على جميع المستويات العرقية والمذهبية والفكرية والسياسية والثقافية.
يتوجس البعض من القيادة الحالية، ويعتبر ما تقوم به هو إرسال التطمينات للدول الإقليمية والغربية بهدف إزالة صفة “إرهاب” عنها، بينما خطابها للداخل غامض، وجميع تعييناتها في المناصب الإدارية والوزارية هي من بين صفوفها ومناصريها، ولكن لنتذكر أن بشار الأسد هرب من أسبوعين، وأن نظامه سقط من أسبوعين، فالمرحلة تتطلب التأني كما تتطلب الحذر الشديد.
أي سلطة ستحكم دمشق لن يكون بإمكانها إعادة إنتاج سجن صيدنايا، وأي سلطة ستحكم لن تصدر الإرهاب الذي صدره الأسد الأب والولد، لن ترسل المفخخات والكبتاغون ولن تغتال قيادات الدول المجاورة، ليس فقط لأنها لا تريد ولكن لأن هناك شعبا دفع أثماناً باهظة لينال حريته ويستعيد كرامته بين الشعوب، وقد أثبت هذا الشعب أنه رغم كل ما حيك ضد ثورته خلال 14 عاما فإنه لم يتنازل ولم يتراجع إلى أن نال حريته واستعاد كرامته.
وكما أن الأولوية اليوم هي لبناء الدولة، فإن حجر الأساس في الدولة هو دستورها، دستور الدولة كما هو دستور جميع السوريين، وليحكم من تفرزه صناديق الاقتراع لاحقاً ما دام الدستور يحدد شكل الدولة وعلاقتها بمواطنيها، يحدد الحقوق والواجبات.
وللانتقال بسلاسة نحو الدولة المنشودة لا بد من العدالة، كي لا يسمح للطابور الخامس باستغلال آلام السوريين والجنوح نحو الثأر.
وكل ذلك لا يتحقق من دون الأمن، التحديات كبيرة والآمال أكبر، ولكن إرادة السوريين أثبتت أنها أقوى من كل ما يحاك ضدهم.
المجلة
————————–
هل ستبقى سوريا دولة مدنية غير علمانية؟/ رعد أطلي
2024.12.22
بدأت في الثامن من شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 2024 مرحلة جديدة في سوريا عنوانها الأساسي انتصار إرادة الحرية وحق الشعب على إرادة الطغاة المدعم بالقمع الوحشي والدموي، وسيدخل المحررون المدن السورية رافعين علم الثورة دليلاً على نهاية عصر الإجرام، وسينتظرهم السوريون ويحتفلون بهم، ولن ينتهي يوم الثامن من كانون الأول قبل أن تمتلئ شوارع سوريا بالناس التي تتنفس هواء الحرية للمرة الأولى من دون خوف من اعتقال أو قتل أو قصف.
سينال الثوار أيضاً محبة واحترام مجتمعات كانت بالأمس القريب خائفة منهم، وترى فيهم مجموعة من المجرمين والإرهابيين، وسيتولد الاحترام والمحبة من السياسة التي نهجوها في التعامل ولغة الخطاب وطريقة إدارة المدن التي حرروها.
يسعى أحمد الشرع قائد عملية التحرير صاحب الشعبية الجارفة في هذه الأيام حسب تصريحاته إلى بناء دولة لجميع السوريين، ويعد بالعدالة والحرية لهم على اختلاف انتماءاتهم ومعتقداتهم ضمن دولة مدنية تعتمد على المؤسسات والقانون. لم يذكر الشرع ولا أي من الشخصيات والكيانات التي قدمت معه أو التي أنشأها حديثاً في أي وقت توضيحاً أكثر عن تلك الدولة المدنية التي يسعى إلى إرسائها سوى ما قاله في أكثر من لقاء بأنها دولة مدنية شرعية.
في المقابل ستبدأ أصوات من المجتمع السوري يبدو أنها تتزايد يومياً بطلبها الواضح بأن تكون تلك الدولة المدنية دولة مواطنة لكل مواطنيها، وعلى الرغم من أن مصطلح العلمانية يبدو مصطلحاً لا يرغب أحد بالنطق به هذه الأيام، لكن بدأت الأصوات أيضاً بالحديث عنها بصراحة أحياناً، وبطريقة غير مباشرة في أكثر الأحيان، وأبرز من تحدث عنها حتى اليوم الزعيم الروحي لطائفة الدروز الهجري، والذي من المرجح أن حديثه رد عما صرح به الشرع في أثناء لقاء وفد السويداء حول عقد اجتماعي مع الطوائف، وعن دولة مركزية قوية ومدنية شرعية، ومع ذلك لم يتحدث الهجري عن دولة مدنية علمانية بشكل صريح رغم أن ما جاء في بيانه لا يتناسب فعلياً إلا مع بناء تلك الدولة المدنية العلمانية.
ذهبت بعض الأصوات في الجدل القائم حالياً حول هوية الدولة السورية بأنه لا يوجد دولة مدنية غير علمانية، لكن بالنظر إلى مصطلح الدولة المدنية والدولة العلمانية نجد أن لهما تاريخ مختلف من حيث النشأة والتطور، إذ يرتبط كل منهما بسياق فكري وسياسي مميز.
سيظهر مفهوم الدولة المدنية لأول مرة في إطار الحديث عن “العقد الاجتماعي”، و سيطرح الفيلسوف البريطاني جون لوك فكرة الدولة المدنية كبديل عن “حالة الطبيعة”، التي تقوم على القوة والعنف، وتعني كياناً يدار بموجب قوانين وضعها البشر، وهي تضمن الحقوق الطبيعية (الحرية، الملكية، الحياة)، ثم سيوسع الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الفكرة من خلال التركيز على العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويؤسس لسلطة مدنية قائمة على إرادة الشعب. مصطلح “الدولة المدنية” سيتطور لاحقاً ليُشير إلى الدولة التي تعتمد على سيادة القانون والمؤسسات المدنية، مع فصل نسبي بين السلطات الدينية والمدنية.
من الدول التي بدأت مدنية بريطانيا في القرن السادس عشر بعد فصل الدولة عن الكنيسة الكاثوليكية وإنشاء الكنيسة الإنكليزية، ورغم حصر السلطة بيد الملك والمؤسسات الحكومية بقي للدين (البروتستانت) دور مركزي في صياغة القوانين والسياسات. كذلك الأمر بالنسبة لفرنسا في عهد الملك لويس الرابع عشر الذي دمج السلطة الدينية مع السياسية ضمن حكم ملكي مدني قوي، ولم يختلف الأمر بالنسبة للولايات المتحدة المبكرة التي تأسست على دستور مدني يحمي الحريات الدينية، ولكن بقي للدين دور مهم في صياغة القوانين والسياسات.
تطورت العلمانية فعلياً على أساس الدولة المدنية مع حركات الإصلاح الأوروبية والتي طالبت بفصل تام بين الدين والدولة. وجاءت بشكل واضح كنتيجة لمخاضات الثورة الفرنسية رداً على الاستبداد الديني في أوروبا عموماً.
قبل سقوط الدولة العثمانية كانت قد توجهت الدول في بقع كثيرة من العالم نحو الدولة العلمانية، في حين كانت الدولة العثمانية في آخر أيامها تتجه بشكل أكبر للدولة المدنية غير العلمانية.
ستظل معظم الدول العربية وبشكل أكثر عمومية وأقل دقة الدول الإسلامية دولاً مدنية غير علمانية، للعب الدين دوراً في صياغة القرارات العامة وسياسات الدولة، ومن الدول التي كانت من الدول المدنية غير العلمانية الدولة السورية، إذ تنص المادة الثالثة على أن دين رئيس الدولة هو الإسلام والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، وكذلك ما زالت كثير من الدول حتى اليوم حسب دستورها دولاً مدنية غير علمانية مثل مصر وباكستان وإندونيسيا والمغرب وغيرها.
ليس من الضرورة أن تكون الدولة المدنية دولة ديمقراطية، حتى مع وجود المؤسسات والقوانين، في حال كانت تلك المؤسسات ضعيفة وتلك القوانين غير معمول بها، وهذا ما نراه في معظم الدكتاتوريات العربية، وخاصة في الحالة السورية في فترة النظام الساقط.
يتجه الشرع في طرح في بناء الدولة بإنشاء دولة مدنية غير علمانية تشبه الدولة السورية التي هيمن عليها النظام الساقط، ولكن قد تكون أكثر تحفظاً وأقوى مؤسساتياً. قد تنجح تلك الدولة في محاربة الفساد، وبشكل متوقع بشكل أقل في محاربة المحسوبيات كما يبدو من التعيينات الجديدة للإدارة الحكومية لسوريا في الوقت الحالي، والتي ضمت أكثر من فرد من عائلة الشرع. ولكن إن نجح النظام الساقط بضبط المجتمع السوري بالدم والنار، فهل ستنجح الإدارة الجديدة بضبط المجتمع بالقانون والمؤسسات والنظام الديمقراطي الذي لم يتم ذكره أيضاً حتى الآن؟
في مجتمع متنوع الثقافات والطوائف والقوميات مثل المجتمع السوري خارج من فترة استبداد خانق محمل بمظلوميات تاريخية وضاربة بين مكوناته المختلفة سيحمل بقاء سوريا دولة مدنية غير علمانية في ظل أوضاعها الراهنة تحديات كبيرة ويثير كثيراً من الجدل. وبغض النظر عن نية هيئة تحرير الشام في رغبتهم في دولة مدنية “شرعية” تتكفل الحفاظ على حقوق جميع المواطنين ومدى صدقيتها، فإن دولة مدنية غير علمانية، وخاصة إن كان هناك تداول للسلطة قد تأتي بحكومات أكثر تطرفاً، وتؤدي إلى وضع تمييزي ضد المواطنين غير المسلمين السنة، وتآكل في المساواة بين مجموع المواطنين، وتغول أكبر باسم الدين على الدولة، وعرقلة للتحديث بحجة مخالفة قوانين التحديث للشريعة (بغض النظر إن كانت تلك القوانين تخالف الشريعة فعلاً أم لا)، وقد تؤدي في نهاية المطاف مع حملات تدعم التمييز والإقصاء لدكتاتورية متخفية أو واضحة.
من الدول المدنية غير الدينية على سبيل المثال إسرائيل، والتي تضع كل قوانينها العنصرية التمييزية ضد الفلسطينيين بناء على هويتها المختلطة، وتحرم الفلسطينيين من أدنى حقوقهم، وهو حق الحياة، كما تحرم فلسطينيين آخرين يحملون الجواز الإسرائيلي من كثير من حقوقهم الاقتصادية والسياسية والثقافية بناء على منظومة قانونية تؤكد على مدنيتها دون علمانيتها، ولم يمنعها نظام ديمقراطي وادعاءات بإعلائها من حقوق الإنسان من ارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين أو تفريط بأرواح الأسرى الإسرائيليين.
السياق السوري يحتاج لنظام سياسي محايد يمنع أي منافذ للتمييز أو محاولة للتقسيم، يحتاج لدولة علمانية تكون فيها المواطنة هي المرتكز الرئيسي في العلاقة بين المواطن والدولة.
تلفزيون سوريا
—————————
المخاض الصعب/ بسام يوسف
2024.12.22
قد يندر، أو ربما لم يحدث من قبل، أن تجتمع كل الشروط القاسية على دولة ما في لحظة مخاضها لولادة جديدة، كما تجتمع اليوم في سوريا، فهذه البلاد المنكوبة، والموجوعة حتى نهاية الوجع، والممزقة، والتي لاتزال تبحث عن عشرات الآلاف من أبنائها المفقودين في عتمة عشرات السجون، وفي المقابر الجماعية، ويحاصرها الجوع والدمار والفقر، ويتربص بها المتربصون، وسط كل هذه الظروف الشديدة القسوة يتحتم عليها أن تنهض وأن تضع مولودها الجديد.
ربما يبدو الأمر مستحيلاً، سيما وأن هناك أطراف فاعلة وطليقة اليد لا تريد لسوريا أن يكون لها غد، ولا تريد لها أن تتعافى، وتسعى بكل ما تستطيع أن تبقي عليها منهكة ومريضة وعاجزة، كي تلد غداً مشوّهاً، وغير قابل للحياة، فهل يستطيع السوريون أن يكبروا فوق قهرهم، وفوق وجعهم، وأن يصمموا على ولادة غدهم كما يشتهون، إنه التحدي الصعب!
لقيامة سوريا لابد من ترتيب التحديات والتعامل مع الأخطر منها أولاً، فلا معنى لعلاج كسر في الساق قبل أن ننقذ القلب الذي يمكن أن يتوقف بأي لحظة، ولا معنى لأن ننهمك في إنقاذ القلب قبل أن نفتح مجاري الهواء كي لا يتوقف التنفس، إنها أبجدية العقل، ومنطقه.
أول هذه التحديات وأصعبها هو: السلم الأهلي، فسوريا الغارقة بالدم حتى أذنيها سيخنقها أي دم إضافي، وسوريا المتخمة بالظلم والقهر، لن تهدأ قبل أن يخف عويل وصراخ هذا الظلم في أرواح أبنائها المظلومين، ولا بد من أن يستعيد المظلومون قليلاً من راحة بالهم، كي يكونوا قادرين على المسامحة والسمو فوق الألم، فهل نمضي إلى سوريا الجديدة ونحن محملين بكل هذا القهر والظلم؟ ليس أمامنا سوى أن نسرع بمحاسبة من أجرموا بحق سوريا، وإن كانت المحاسبة صعبة التحقيق في ظل الظروف الراهنة فإن البدء بها والإعلان عنها سيفتح الأمل بأنها قادمة قريباً.
بالإضافة للمحاسبة كخطوة أولى وضرورية، هناك مفصلان بالغا الأهمية في الوصول إلى السلم الأهلي، إنهما مفصل الشرخ الطائفي، ومفصل الشرخ القومي، وكلاهما يحتاج إلى شجاعة استثنائية في مقاربته، وتجاوز هذين الشرخين يتطلب مكاشفة واضحة، وتحمل المسؤولية، والأهم أنهما يحتاجان إلى قراءة متأنية بدلالة مستقبل سوريا، وبدلالة وحدتها، واستقلالها.
ثاني هذه التحديات هو: التيقظ من انتهاز ما تبقى من عصابة النظام السابق للظروف الراهنة، وسعيهم إلى منع استقرار سوريا، خصوصاً وأن لهم علاقاتهم الخارجية، ولديهم إمكاناتهم التي نهبوها من دم ومال السوريين، وإن كان التحدي الأول مسؤولية الدولة وأجهزتها، ومرتبط بالصيغ القانونية، أي القانون السوري والقانون الدولي، فإن التحدي الثاني هو مسؤولية كل السوريين، وهذه المسؤولية تتطلب أن يتحلى حاملوها بالقدرة على إعلاء الانتماء الوطني فوق اعتبارات أي انتماء فرعي، وفوق الحسابات الشخصية، وأن تكون خالصة لوجه سوريا ومستقبلها.
التحدي الثالث: هو منع ولادة استبداد جديد يتحكم بسوريا، ويرسم مصيرها في المرحلة القادمة، وإن كان في سوريا بقية من القدرة على تجاوز آثار ونتائج عقود طويلة من الاستبداد الأسدي، فإنها – على الأرجح – لن تكون قادرة على تجاوز استبداد جديد، وهي مهمة على درجة كبيرة من الصعوبة، خصوصاً وأن التربة السورية اليوم محضّرة جيداً لنشوء الاستبداد، فليس لدى سوريا دستور يمنع ذلك، وليس لديها أحزاب سياسية، ولا منظمات مجتمع مدني، ولاتزال القوة العارية مرجعية السوريين الأهم.
التحدي الرابع: هو التوقف عن استحضار الماضي كمرجعية للحاضر أو المستقبل، فمواجع الماضي ومظلوميته، والعمل بدلالته لن ينتج إلا خطاباً يفتت المجتمع، ونحن بأمس الحاجة، إلى التطلع للمستقبل، والعمل على خلق خطابه وأدواته المنقذة، فإذا كان للدم أولياء، وللماضي أولياء، وللفواجع أولياء، وإذا كنا غير قادرين على تجاهل كل الولايات، فإنه من الضروري لنا جميعاً، وقبل أن نغرق في ولاية الدم والقهر والفواجع، أن نخلق ونكرس أولياء المستقبل، أولياء مستقبلنا، ومستقبل وطننا وأجيالنا، ويجب أن تكون الكلمة الأولى لهم.
التحدي الخامس: هو تحدي استعادة الحياة، فسوريا مدمرة، وخزائنها منهوبة حتى آخرها، وتركة النظام السابق باهظة، وبنيتها التحتية لم تعد قادرة على تلبية حاجات ربع السوريين بأحسن حالاتها، والأخطر من كل هذا أن هناك مهمات لابد من تحملها رغم أنها ترهق الاقتصاد ولا تعطي مردوداً عاجلاً، ولا يمكن تأجيلها، مهما كانت الكلفة، ففي سوريا ملايين الأطفال الذين حرموا من التعليم لسنوات طويلة، وفي سوريا مئات آلاف المعاقين الذين شوهتهم الحرب وعلى المجتمع والدولة رعايتهم، وفي سوريا كارثة فقد مئات الآلاف من الجيل الشاب الذي يقع على كاهله إعادة بناء سوريا، فهل سنتمكن كسوريين أن ننهض بكل هذه المسؤوليات الكبرى، ونبني سوريا الجديدة؟
إذا كان التاريخ يحدثنا عن قيامة شعوب من تحت ركامها، ومن دمارها الهائل، فهل سيتحدث التاريخ مستقبلاً عن قيامة سوريا؟، ليس هذا بمستحيل على السوريين الذين أثبتوا في كل الأمكنة التي وصلوا إليها في رحلة تشردهم أنهم قادرون على صناعة الحياة مهما كانت العقبات في وجوههم، سيكونون قادرين على النهوض ببلدهم.
لكن ليس أمامنا سوى ما يردده السوريون في ساحاتهم اليوم: “بالحب بدنا نعمرها”، ليست أغنية عابرة، وليست مجرد كلام عاطفي لامعنى له في أرقام ومعادلات بناء سوريا، إنها المعادلة الأهم في قيامة سوريا.
تلفزيون سوريا
————————–
لماذا سقط نظام الأسد بسرعة؟/ رضوان زيادة
2024.12.22 A
تطرح الكثير من وسائل الإعلام الغربية هذا السؤال بشكل كبير، في الحقيقة يجب أن ندقق في السؤال، فالثورة السورية لم تنته في 11 يوما هي المدة الزمنية لمعركة ردع العدوان التي أطلقتها المعارضة السورية، وإنما استمرت لأكثر من 13 عاما هو عمر الثورة السورية.
مرت خلالها الثورة بمراحل كثيرة من الضعف والقوة، ومراحل طويلة من الصراع العسكري والمفاوضات السياسية، لكن كل ذلك فشل في تحقيق أهداف الثورة السورية في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد.
لكن بنفس الوقت كان مفاجئا انهيار النظام بسرعة خيالية مع بدء عملية ردع العدوان التي أعلنتها المعارضة السورية في 27 نوفمبر من الشهر الجاري، فكيف تطورت الأمور.
ما هي المعارضة المسلحة التي بدأت عملية ردع العدوان؟
تشاركت عدة فصائل سورية معارضة في معركة “ردع العدوان”، التي تُعدّ أوسع هجوم للمعارضة منذ عام 2020 أو ما يسمى الاتفاق على اتفاقيات خفض التصعيد التي اتفق عليها ضمن مسار أستانا الذي تقوده روسيا وإيران وتركيا، شكلت هذه الفصائل ما يسمى غرفة إدارة العمليات العسكرية أي غرفة مركزية للعمليات بقيادة موحدة من أجل تنسيق الجهود، وللمعارضة المسلحة خبرة طويلة في مثل هذا النوع من الغرف المركزية لكنها كانت جميعها مؤقتة وتفشل كليا مع انتهاء المعركة أو حين بدايتها.
تقود هذه الفصائل هيئة تحرير الشام وهي جماعة إسلامية مسلحة تشكلت في يناير/ كانون الثاني 2017 وكانت تتبع لتنظيم القاعدة قبل أن تعلن عن فك الارتباط بها في يوليو/ تموز 2016، وتضعها الولايات المتحدة على لائحة المنظمات الإرهابية، فقد كانت الفصيل الأكبر والأكثر تنظيما من بين الفصائل وربما تكون هي صاحبة الفضل في إدارة العملية العسكرية “ردع العدوان” برمتها، إذ كشف أبو محمد الجولاني (كشف عن اسمه لاحقا بوصفه أحمد الشرع) أنه بدأ بالتحضير لهذه المعركة قبل عام تقريبا. وبحكم سيطرتها على مساحات واسعة في إدلب منذ عام 2017 فقد وضعت كل جهودها العسكرية للتحضير لهذه المعركة وربما كان الاستثمار العسكري وخاصة المسيرات الذي قامت به الحركة لعب دورا رئيسيا في إسقاط نظام الأسد. وهو ما سنتحدث عنه لاحقا.
الفصيل الآخر الذي شارك في عملية ردع العدوان كان الجيش الوطني السوري والذي يحصل على تدريبه وتمويله من تركيا، وهو عبارة عن مقاتلي الجيش السوري الحر الذين ذهبوا إلى تركيا وقامت تركيا عبر الحكومة السورية المؤقتة بدمجهم في تشكيلات مقاتلة مدربة بشكل جيد أطلق عليها الجيش الوطني.
كما شاركت حركة أحرار الشام وهي حركة نشأت إثر اندماج أربع فصائل إسلامية سورية وهي “كتائب أحرار الشام” و”حركة الفجر الإسلامية” و”جماعة الطليعة الإسلامية” و”كتائب الإيمان المقاتلة”. وكانت سابقا من أقوى الفصائل المسلحة بمناطق مختلفة في سوريا مثل إدلب وريفي حلب وحماة قبل أن تتعرض قياداتها العسكرية لسلسلة اغتيالات أثرت كثيرا على بنيتها القتالية، لكنها شاركت بفعالية في عملية ردع العدوان وخاصة السيطرة على حلب.
ثم هناك فصائل عسكرية أقل عددا من مثل الجبهة الوطنية للتحرير و”جيش العزة” وكتائب “نور الدين الزنكي” وجيش الإسلام ومعظمهم كان لهم دور مختلف في قتال نظام الأسد من عام 2013 وحتى عام 2020 لكنهم جميعا انخرطوا في إطارة قيادة عسكرية موحدة أطلق عليها إدارة العمليات العسكرية.
التطور العسكري لعملية ردع العدوان:
تمكنت الفصائل العسكرية المشاركة في عملية ردع العدوان من إسقاط نظام الأسد في دمشق في أقل من 11 يوماً، عندما بدأت بعملية مباغتة وسريعة في حلب بدأت في 27 الشهر الماضي حيث سيطرت إدارة العمليات العسكرية وبشكل مفاجئ على مساحات واسعة من ريف إدلب الشرقي وريف إدلب الغربي. وفي يوم الجمعة 29 نوفمبر تشرين الثاني، سيطرت قوات المعارضة على أحياء عدة في مدينة حلب ووصلت إلى حي الحمدانية لأول مرة في تاريخ الثورة السورية، وبدأت الفيديوهات تظهر سيطرة المعارضة على كامل المدينة وانسحاب النظام كليا من الفروع الأمنية والعسكرية في مناطق حلب المختلف.
هذا كان له وقع الصدمة كليا على مؤيدي الأسد ومقاتليه، فالكل شعر أنه لا وجود للميليشات الإيرانية التي كان لها الدور الأبرز في الدفاع عن حلب لحساب الأسد في أعوام 2014 وحتى عام 2018 عندما سيطر النظام عليها كليا من المعارضة بعد دعم جوي روسي كامل.
في اليوم التالي وسعت المعارضة سيطرتها على ريف حلب بحيث بسطت سيطرتها على كامل المحافظة بما فيها المطارات العسكرية الرئيسية في المحافظة والتي كان الأسد يستخدمها لقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة.
وفي يوم السبت 30 نوفمبر تشرين الثاني، أعلن الجيش السوري التابع للنظام أنه أمر قواته بـ”الانسحاب الآمن” و”إعادة الانتشار” في بيان أصبح مكررا في كل مدينة تدخلها المعارضة السورية من حماة إلى حمص.
وفي اليوم التالي 1 ديسمبر كانون الأول، بدأ زحف قوات المعارضة نحو حماة التي يمكن القول إنها المدينة الوحيدة التي خاضت فيها المعارضة المسلحة صراعا مسلحا حيث سيطرت على حلب من قبل ودمشق فيما بعد دون أي قتال يذكر.
كثّف الطيران الحربي السوري الروسي المشترك ضرباته ضد المعارضة التي أحاطت حماة من ثلاثة محاور وادعى جيش النظام أنه جلب تعزيزات عسكرية بهدف صد المعارضة، لكن القوة النارية للمعارضة هنا كانت تتفوق على القدرة النارية للنظام بشكل كبير إضافة إلى القدرة النوعية لاستخدام المسيرات والتي لعبت دورا رئيسيا في خلخلة صفوف قوات النظام حيث تمكنت من قتل رئيس فرع الأمن السياسي في حماة بفضل هذه المسيرات التي تبدو فعالة في هذه المعركة وأجبرت الفرقة الخامسة والعشرين وهي الفرقة التي يقودها الجنرال سهيل الحسن الذي اعتمدت قوات ألأسد عليه كثيرا في السابق كما أنه أصبح مفضلا لدى روسيا التي أنشأت له الفرقة بشكل خاص، لكن الحسن نفسه أصيب بإحدى مسيرات شاهين هذه مما أضعف معنويات مقاتلي جيش النظام بشكل كبير.
استمرت معركة حماة أربعة خمسة أيام تقريبا وحتى 4 ديسمبر كانون الأول، حيث سيطرت المعارضة المسلحة على بلدة قلعة المضيق في منطقة سهل الغاب غربي حماة بالتزامن مع سيطرتها على مدن صوران وطيبة الإمام شمالي حماة.
ثم سيطرت على رحبة خطاب الاستراتيجية المجاورة لمطار حماة والتي يقع فيها مركز قيادة الفرقة 25 وبدأت قاب قوسين أو أدنى دخول المدينة، وفعلا في اليوم التالي تمكنت المعارضة من السيطرة على كامل المدينة يوم الخميس 5 ديسمبر كانون الأول. وأقر الجيش السوري بخسارته مدينة حماة الاستراتيجية معلنا في بيان “قامت الوحدات العسكرية المرابطة فيها بإعادة الانتشار والتموضع خارج المدينة”.
فورا وبعد السيطرة على حماة بدأ توجه قوات المعارضة نحو مدينة حمص المهمة استراتيجيا فهي تقع في الوسط وتشكل مركز عقدة المواصلات في سوريا كلها. حاولت روسيا مع طيران الأسد قصف جسر الرستن من أجل إبطاء تقدم المعارضة نحو حمص، لكن المعارضة تمكنت من حصار المدينة يوم الجمعة 6 ديسمبر كانون الأول.
في اليوم التالي تسارعت الأحداث بشكل كبير جداً، حيث سيطر الثوار في مدينة السويداء على الفروع الأمنية بالكامل وباتوا يسيطرون على المدينة بشكل كامل وهذا ما شجع المقاتلين السوريين في درعا والذي أقاموا مصالحات مع نظام الأسد بعد عام 2018 على الانشقاق على الأسد مجدداً، وتشكيل ما يسمى غرفة عمليات فرع الجنوب التي تمكنت من السيطرة خلال يومين على كل الفروع الأمنية في المحافظة بما فيها المقرات العسكرية المحصنة في مدينة درعا.
وبينما كانت قوات إدارة العمليات العسكرية لا تزال تخوض معارك محدودة في حمص وتقضم منطقة تلو الأخرى بدأت الأخبار تتسلل من انسحاب الجيش والآمن من مقراتهما الرئيسية في دمشق وعمليا كانت دمشق في طريقها للتحرر كليا من قبضة الأسد في أقل من 24 ساعة وبدون أية معارك عسكرية.
إلى الآن لم يتضح بعد من ومتى تم إعطاء الأوامر بانسحاب الجيش والأمن من مقراته في العاصمة دمشق ومتى قرر الرئيس السابق بشار الأسد الهرب ـ لكن رئيس الوزراء الأخير في عهد الأسد تحدث في مقابلة معه على قناة العربية أنه تحدث مع بشار الأسد في حدود العاشرة مساء يوم السبت وأخبره بالفوضى وحركة النزوح الكبيرة باتجاه الساحل.
فأجابه “إلى أين يذهبون، وهل هناك بيوت تؤويهم؟”
بعدها حاول الاتصال معه مجددا فجر يوم الأحد 8 ديسمبر كانون الأول لكن دون جدوى فتأكد أن الرئيس السوري بشار الأسد قد قرر الهروب سيما أن وزيري الدفاع والداخلية أيضا لم يردا على أية اتصالات وفعلا سيطر فصيل أتى من مدينة دوما على التلفزيون الرسمي في ساحة الأمويين في دمشق ليبث أول بيان للمعارضة السورية بعد دخولها العاصمة السورية، وهروب الرئيس السوري بشار الأسد من دمشق.
لماذا انتصرت المعارضة بهده السرعة؟
أربعة عوامل رئيسية لعبت دورا رئيسيا في انهيار جيش الأسد وانتصار المعارضة بهذه السرعة:
أولا: التفوق النوعي لسلاح المعارضة
أشار أحمد الشرع (المعروف بأبو محمد الجولاني) أنهم بدؤوا بالإعداد لهذه المعركة منذ أكثر من عام حيث جرى تطوير القدرات العسكرية لهيئة تحرير الشام بما فيها الصواريخ محلية الصنع مع تطوير المسيرات (شاهين) التي لعبت دورا حاسما في معركة ردع العدوان فيما يتعلق باستهداف القادة العسكريين والأمنيين لنظام الأسد وبنفس الوقت استهداف السيارات والمدرعات على بعد 30 كيلومترا تقريبا وقد تم استخدامها بكثرة في مدينة حماة التي كان لانتصار المعارضة العسكرية فيها دور حاسم في انهيار قوات الأسد كليا.
العامل الثاني: كان في ارتفاع المعنويات القتالية للمعارضة السورية مقابل انهيار المعنويات القتالية تماما لمقاتلي الأسد، وقد نقل وزير الخارجية الإيراني الذي كان آخر مسؤول يجتمع مع الأسد عن الأسد اشتكاءه من الجيش الذي لا يرغب في أن يقاتل وهذا ما أكدته شهادات الكثيرين من مقاتلي جيش الأسد الذين رفضوا القتال في حلب وهو ما انعكس تباعا على معنويات كل مقاتلي الجيش في المدن المختلفة في حماة وحمص ودمشق.
أما العامل الثالث فهو التغيرات الإقليمية والدولية وعلى رأسها هزيمة حزب الله أمام إسرائيل والضربات الإسرائيلية والأميركية المستمرة ضد قادة الميليشيات الإيرانية في سوريا لعبت دورا خاصة بعد توقف القتال على الجبهات عام 2020 في سحب هذه الميليشات لقادتها من سوريا وهم من كانوا يقودون كل العمليات القتالية ضد المعارضة في الشمال السوري.
ومع انسحاب هؤلاء القادة من سوريا فقد جيش الأسد قدرته القيادية تماما على مستوى إعطاء الأوامر والتحركات الاستراتيجية، وقد كشفت بعض الوثائق بعد انهيار الأسد كيف أن المخابرات الجوية السورية حذرت من خطورة ذلك، لكن هذا الانهيار كان تراكميا على مدى 13 عاما ولم يتم بين ليلة وضحاها.
أما العامل الرابع والأخير فقد كان غياب التأثير الحاسم للقوة الجوية الروسية بسبب انشغال روسيا في أوكرانيا، فبعد أن تدخلت روسيا في سوريا في سبتمبر 2015 وظفت كل قدراتها الجوية لصالح نظام الأسد عبر القصف الدائم لمواقع المعارضة السورية في الشمال السوري، لكن مع بدء التدخل الروسي في أوكرانيا سحبت روسيا الكثير من قواتها العسكرية من سوريا لذلك مع بدء عملية ردع العدوان كان لدى روسيا أربع طائرات مقاتلة فقط، ورغم قصفها لمواقع المعارضة في حماة تحديدا ومن ثم حمص لكن كان واضحا أنها لن تتمكن من صنع أي تغيير يذكر على الأرض في ظل التقدم السريع لقوات المعارضة وانسحاب الجيش النظامي وعدم رغبته بالقتال.
بالنهاية كان العامل المحفز لهذه العملية العسكرية داخليا بكل تأكيد لكن المعارضة استفادت بشكل ذكي من التبدلات الإقليمية والدولية بما حقق لها في النهاية النجاح في حلم راود السوريين على مدى 13 عاما وهو إسقاط نظام عائلة الأسد التي حكمت سوريا بالحديد والنار على مدى 54 عاما.
تلفزيون سوريا
——————————
لماذا سيطول البحث عن المعتقلين في معتقلات نظام الأسد؟/ زينة شهلا
الأحد 22 ديسمبر 2024
مع توالي الأنباء عن سقوط النظام السوري في حلب وبعدها حماة وحمص وتقدّم قوات المعارضة السورية المسلحة ضمن عملية “ردع العدوان”، كانت سنا مصطفى، وهي ناشطة ومدافعة عن حقوق الإنسان، تهيئ نفسها للسفر من مكان إقامتها في الولايات المتحدة إلى سوريا، لتبحث عن أبيها المغيب في سجون النظام منذ تموز/يوليو عام 2013، دون أي أنباء عنه أو عن مصيره.
سقط نظام بشار الأسد تماماً وخلال الأيام التالية، لم تتزحزح سنا (33 عاماً) من أمام شاشة هاتفها. “كنّا أنا وعائلتي في بحث محموم عن أي دليل يثبت خروج والدي، أو يبيّن مصيره على الأقل. كنت أقضي 24 ساعة وأنا أتصفّح كل ما يُنشر من مقاطع فيديو وصور، وسط فوضى كبيرة في البحث والنشر”، تقول لرصيف22.
بعد “السقوط” بخمسة أيام، وصلت سنا إلى دمشق، كان يوم جمعة، ودخلت في دوامة لم تنتهِ حتى اليوم الذي تحدّثت إلينا فيه.
فوضى “مرعبة”
فور وصولها، كانت محطة سنا الأولى “ساحة الأمويين” في دمشق التي تحوّلت إلى مكانٍ رمزي للاحتفال بشكل شبه يومي. “بكل تأكيد شعرت بالسعادة وتسلّل الفرح إلى داخلي، لكنها سعادة منقوصة”، تضيف من داخل المنزل الذي تقيم فيه حالياً وسط العاصمة السورية.
في الأيام التالية، قامت سنا بزيارات إلى عدد من الأفرع الأمنية للبحث عن أي مفتاح قد يوصلها إلى مكان أو مصير والدها. كما ذهبت إلى عدد من المشافي حيث يحتمل وجود خارجين من السجون بوضع صحي سيئ، وكذلك جثث تنتظر من يتعرّف عليها. وتشير إلى أنها، رغم مجيئها دون عائلتها إلى سوريا، لم تقضِ أي ساعة وحيدة، فكان حولها أصدقاء ومعارف كُثر رافقوها في بحثها عن والدها.
“كان الأسبوع مليئاً بالغضب. رأيت فوضى عارمة في الأفرع التي زرتها، ملفات مُلقاة على الأرض المبلّلة وكل من يدخل ويخرج يمكن أن يدوسها، أو حتّى أن يأخذ منها ما يريد، دون أي جهد واضح حتّى الآن لجمع هذا الأرشيف المهم للغاية وحمايته”، تقول مردفةً بأنها تشعر بـ”غضب كبير” تجاه النظام السوري، لكنها غاضبة أيضاً من القيادة الجديدة في سوريا والممثّلة في “هيئة تحرير الشام” والتي -وفق رأيها- “تعاملت مع ملف المعتقلين بطريقة إعلامية مع الاهتمام بإبراز ‘لحظة النصر’، وهي بكل تأكيد كانت نشوة كبيرة مع خروج الآلاف من السجون، لكن كان ثمنها المعرفة اليقينية والحقيقة التي انتظرتها عائلات المختفين لعقود، إذ كان من المفترض أن تُنظّم عملية الخروج بطريقة أفضل”.
وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي منظمة حقوقية مستقلة، اعتقال وإخفاء ما لا يقل عن 157 ألف شخص في سوريا، 86% منهم في سجون ومعتقلات النظام السوري أي نحو 136 ألفاً. وحتى الآن، خرج نحو 31 ألف شخص فقط، وفق تقديرات الشبكة، فيما تستمر عمليات البحث عن أية دلائل عن مصير البقية وسط فوضى كبيرة.
تعتقد الناشطة السورية أن لهذه الأزمة أسباباً أخرى إلى جانب “النصر الإعلامي”، ومنها عدم وجود خبرة لدى السلطات الجديدة بإدارة ملف المفقودين، واحتكارهم له ورفضهم التعاون ومشاركة الناس من ذوي الخبرة، إلى جانب الاختلاف الثقافي والديني والاجتماعي بالتعامل مع الموضوع: “يعتقد كثر من أعضاء الهيئة والمسؤولين اليوم أن ما حصل هو قضاء وقدر. وأنا أجرب الدخول إلى فرع ما للبحث عن أي دليل كان الحراس يقولون لي: ‘سلمي أمرك لله. الله يرحمه’، وهو جواب لا يمكنني أن أقبله، فأنا أريد الحقيقة”. ولا تنفي سنا احتمال أن تكون هذه الفوضى مفتعلة، كجزء من الصفقة مع النظام السوري قبل هروبه، حتى تكون عمليات محاسبة المتورطين في جرائم القتل والتعذيب أقل ما يمكن.
وتستنكر سنا أيضاً غياب العديد من المنظمات التي عملت كل السنوات الماضية على ملف المعتقلين، لكنها اليوم لم تكن جاهزة لهذه اللحظة. “ماذا ينتظرون؟ أين هي على الأقل الآلية التي أنشأتها الأمم المتحدة عام 2016 بخصوص التحقيق والملاحقة لمرتكبي الجرائم في سوريا؟ هناك سوء تحضير واستعداد وأيضاً فساد، ما يذكّرني بما حدث في زلزال عام 2023 حين استمر الناس لأيام ينتظرون من يساعدهم لانتشال أحبتهم من تحت الأنقاض”.
كما هو حال سنا، التقت معدة التقرير عشرات الأهالي القادمين من مختلف المحافظات إلى دمشق للبحث عن ذويهم. آباء وأمهات وإخوة وأبناء، منهم من يجلس في ساحة المرجة أو ساحة الشهداء وسط المدينة وقد تحوّلت إلى معلَم رمزي لهذه القضية مع تعليق صور آلاف المفقودين على النصب التذكاري وسطها، ومنهم من يسير ضمن نفس الرحلة، من الأفرع الأمنية إلى المشافي أو سجن صيدنايا الشهير الذي وصف بأنه “مسلخ بشري” لتحوّله على مدار عقود إلى واحد من أسوأ أماكن الاحتجاز والتعذيب، وقد وثّقت منظمة العفو الدولية منذ سنوات تنفيذ آلاف عمليات الإعدام فيه.
جميع من تحدث إليهم رصيف22 كانوا في نفس الحيرة وهم يكرّرون: لا نعرف ماذا نفعل، وإلى أين نتجه. آخر ما يمكننا عمله أن نطبع صور ومعلومات أحبائنا علّ أحداً يتعرف إليهم. نريد الحقيقة، نريد أن نعرف مصير أحبائنا.
في الساحة ذاتها، وأنا أتصفح الأوراق البيضاء المتراصة والتي تحمل صوراً ومناشدات ومعلومات مع “رجاءً الاتصال بـ… لمن يعرف أي طرف خيط”، رأيت صورة مكررة 4 مرات مع معلومات مختلفة، وعرفت أنه شخص ظهر في أحد الفيديوهات المنتشرة مؤخراً وهو خارج من السجن، وهناك أربع عائلات تعتقد بأنه ابنها نظراً لتغيّر الملامح بشكل كبير.
بحث “على السوشال ميديا”
بعد ساعة واحدة من إعلان سقوط النظام السوري صباح الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، نشر واصل حميدة وهو صحافي سوري فلسطيني، صورة أخيه أيهم على فيسبوك مع تعليق: “ناطر رجعتك”. ثم كتب “الاسم: أيهم حميدة. ولد في دمشق 1985. فُقد بتاريخ 24 أيلول 2013 في منطقة الزاهرة، قيل إنه في سجن صيدنايا، دون أن نحصل على أي تأكيد خلال السنوات الماضية، وقيوده لا تزال موجودة في السجلات الرسمية. الرجاء ممّن يعرف أي معلومة عنه أن يتواصل معي”.
يقضي واصل (35 عاماً) جلّ أيامه مؤخراً وهو يبحث عمّا قد يقوده لمعرفة مصير أخيه، سواءً في سجن صيدنايا أم المشافي، حيث حاول البحث بين الجثامين أو المعتقلين فاقدي الذاكرة، لكن دون نتيجة. وهو يشرح لرصيف22: “في صيدنايا رأيت الأمهات وهن يبكين، والأهالي وهم يحفرون بأيديهم على أمل العثور على أي دليل حتى ولو تحت الأرض، وفي المشافي عاينت جثثاً متفحمة ومشوّهة، وآمل أنني لم أخطئ حين قلت إن أياً منها لم يكن لأخي”.
قبل نحو أسبوع، استلم واصل صورة من الأوراق المنتشرة من سجن صيدنايا، وقد رآها أحد أصدقائه على “تيك توك”، ولاحظ فيها اسماً مطابقاً لاسم أخيه الأول والثاني وللأحرف الثلاثة الأولى من الكنية، ويبدو أنه كان في المهجع 8 الطابق 3 من السجن. “هنا بدأت بنشر الصورة في كل الأماكن المتاحة على أمل أن تصل لأحد ممن كانوا معه في الزنزانة، واليوم أنا أعيش على هذا الأمل، ومستمر في البحث”، يتابع. ويضع الصحافي احتمالاً أن يكون أخاه قد قُتل في مجزرة وقعت عام 2013 في حي التضامن جنوب دمشق وأُعدم فيها نحو 280 مدنياً على يد قوات النظام السوري، لكونه اختفى في حي الزاهرة المجاور، لكن التأكّد من الأمر يحتاج إمكانيات هائلة وتدخّلاً من منظمات دولية لفحص بقايا الجثث التي وجدت هناك.
“أبشع ما في الأمر أن يبقى المصير مجهولاً”، يقول واصل بحزن ويضيف: “أناشد أي جهة ذات صلة أن تحمي الوثائق الموجودة في السجون، والمقابر الجماعية. نحن اليوم نعيش على أمل أن نعثر على أخي، أو لا سمح الله أن نشيّعه، لكن الأمل الأكبر هو في أن يكون حيّاً”.
هل “الجهود المبعثرة” كافية؟
هذه الفوضى التي انتشرت خلال الأيام الأولى من سقوط النظام السوري، دفعت مجموعة من المتطوعين/ات في دمشق إلى محاولة التصدّي للأمر بزيارة بعض مقار الاحتجاز وعلى رأسها سجن صيدنايا، وجمع ما يمكن جمعه من الوثائق لوضعها في أيدي مختصين. ملك الشنواني وهي مسؤولة التواصل في منظمة “نوفوتوزون” التي تقدم الدعم للمفقودين وعائلاتهم، كانت مع هؤلاء المتطوعين.
“على مدار عدة أيام جمعنا كمية كبيرة من الوثائق ورتّبناها، منها ما تركناه في مراكز الاحتجاز، ومنها ما سلّمناه لجهاز الأمن العام التابع للإدارة الجديدة”، تقول ملك لرصيف22، وتشير إلى أهمية كل الوثائق الموجودة في مختلف مراكز النظام السابق، فمنها ما يشير إلى مكان اعتقال الشخص والجهة التي احتجزته، ومنها ما يفيد بمعرفة نهاية حياة المتوفين، وحتّى الحالة التي كان المعتقلون يعيشون فيها. وتضيف: “نحن نطالب الحكومة الحالية بالعمل على كل هذه الوثائق والتعاون مع المنظمات المحلية والدولية ذات الخبرة”.
ترى ملك أن أهمية الوثائق لا تقتصر على تقديم معلومات لأهالي المختفين قسرياً عن مصيرهم، بل هي “تاريخنا وذاكرتنا، والمطلوب اليوم الحفاظ على كل تفصيل يتعلّق بتلك المرحلة وممارساتها، حتى نفهمها ونكتب التاريخ بشكل دقيق ونتعلّم منه كي لا نُعيد أخطاء التجربة”.
بالتوازي، ومنذ بداية عملية “ردع العدوان”، شكّلت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا فريقاً للاستجابة الطارئة، بغرض توثيق حالات الناجين من الاعتقال، وتلقي الاتصالات لتوثيق حالات الاختفاء القسري التي لم يعرف مصيرها، وتقديم الدعم للخارجين من السجون، وزيارة مراكز الاحتجاز والمقابر الجماعية بالتعاون مع باحثين من منظمات أخرى مثل “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش”، إلى جانب اللقاء مع الحكومة المؤقتة والمبعوث الأممي لسوريا.
“الهدف من هذه الجهود أن تكون خطوة لمعرفة مصير المختفين قسراً، إضافة للمساءلة والمحاسبة”، يقول شادي هارون، وهو مدير برنامج التوثيق وجمع الأدلة في الرابطة لرصيف22، مؤكداً على ضرورة تعاون السلطات مع المنظمات الحقوقية لتمكين الأهالي من معرفة مصير أبنائهم، ولمعالجة المخاوف المتعلّقة بتدمير الوثائق والمواقع مع عدم وجود منهجية واضحة للتعاطي معها وحمايتها، إلى جانب التأكيد على أن دورة الاعتقال والاختفاء القسري يجب أن تنتهي وألا تتكرر، وأن تبدأ سوريا الجديدة مع عملية عدالة انتقالية مؤطرة وفق المعايير الأممية.
ينوه هارون إلى حساسية التعامل مع الأدلة الموجودة ضمن مراكز الاحتجاز والمقابر، فهي ضرورية لتحديد مصير ومكان عشرات آلاف المفقودين من قبل أجهزة الامن والمخابرات، وللتحقيق مع مرتكبي الجرائم بموجب القانون الدولي، ويقول: “كل دقيقة تأخير بحماية الأدلة تزيد من خطر عدم اكتشاف الأهالي لمصير أبنائهم، ويقينهم بأن المسؤولين عن جرائم ضد الإنسانية لن يقدموا للعدالة، بل سيفلتون من العقاب. نشدد على ضرورة عدم العبث بهذه الأدلة وهو أمر رأيناه مع كل الأسف من وسائل إعلامية وحتى من الأهالي”.
ويشير إلى تواصل الرابطة مع الحكومة المؤقتة والإدارة السياسية، لشرح أهمية التعاطي مع حفظ الأدلة، وتوجيه إعلان للناس لمن يمتلك أي دليل لإعادته لوزارة الداخلية، ويطالب السلطات الانتقالية التحرك بشكل حاسم والتعاون مع منظمات المجتمع الدولي لإنشاء آلية وطنية لحفظ هذه الأدلة، وحماية حق الأهالي في معرفة مصير أبنائهم.
وعلى صعيد متصل، تعمل الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالتوازي على عدة محاور، فهي إلى جانب إصدارها للتقارير الدورية حول ملف المختفين قسرياً، توثق منذ اللحظة الأولى لسقوط النظام حالات الإفراج عن المعتقلين، وتؤرشف ما يمكن أرشفته من وثائق، كما تصدر توصيات للتعامل مع السجون وضرورة عدم إطلاق سراح المساجين الجنائيين، والتعامل مع المقابر الجماعية التي يتم العثور عليها واحدة تلو الأخرى، وذلك وفق حديث رئيسها فاضل عبد الغني مع رصيف22، وينوه إلى استمرار تسجيلهم لبيانات مفقودين جدد، ما يرجح أن أعداد المختفين قسرياً في سوريا هي أعلى من التقديرات المذكورة.
يشير عبد الغني إلى أن أكثر ما سبب الفوضى خاصة خلال الأيام الأولى من سقوط النظام هي الشائعات التي انتشرت بكثافة، مثل وجود سراديب تحت سجن صيدنايا، وغرف بأبواب سميكة، وغيرها، وهي شائعات ساهم بعض من الإعلاميين وحتى المنظمات بنشرها مع تكريسهم لأخبار لا أساس لها من الصحة. ويضيف: “كان لا بد من الحد منها، لذلك أعلنا بعد أيام قليلة بأننا نعتقد بأن كل من لم يخرجوا من السجون هم في عداد المتوفين. نحن لا نريد أن نستمر بنكء جراح العائلات وإعطائهم أملاً لا يمكن أن يتحقق، أملاً غير مبني على وقائع وأدلة ومعلومات”.
يرى عبد الغني أن إدارة مراكز الاحتجاز منذ اللحظة الأولى لم تكن أولوية لدى السلطات الجديدة وخلقت حالة من الفوضى، “وهو أمر محزن” وفق تعبيره. ويشجع على الاطلاع على التوصيات التي تصدرها الشبكة، ليس فقط من السلطات المعنية وإنما من الناس، لأن هناك مسؤولية مجتمعية أيضاً في الحفاظ على السجون والمقابر الجماعية.
تختم سنا مصطفى لقاءنا بلهجة يشوبها الغضب: “أنا لن أسامح، ليس النظام السوري فقط، وإنما السلطات الجديدة على طريقة تعاملها مع الملف، فهي وضعت قبول الغرب أولوية بالنسبة لهم على قبول الشعب السوري وحقه بالمعرفة”، مشدّدةً على أنها ما تزال مستمرة دون كلل في رحلة بحثها عن مصير والدها. “الإجابات التي نبحث عنها اليوم هي إما في الأرشيفات أو المقابر الجماعية. نحتاج لأن نعرف تماماً من يقوم اليوم بجرد الوثائق وكيف؟ وما هو الخط الزمني للموضوع؟ ونريد فرقاً خاصة للمقابر الجماعية وآليات لتحليل الحمض النووي. نريد شفافية تامة في التعامل مع هذا الملف”، تقول.
بدوره، يقول شادي هارون: “بعد 14 عاماً من القمع، والإفلات من العقاب، جاء الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 ليعود بصيص الأمل عند السوريين لتحقيق العدالة. نحن اليوم في لحظة حاسمة، وكل تأخير سيضيع هذا الأمل”.
رصيف 22
——————————
أتخيّل… كزدورة دمشقية إلى المؤتمر الوطني الأول/ رشا عمران
الأحد 22 ديسمبر 2024
يا إلهي إنها سوريا الحرة العظيمة وليست سوريا الأسد.. كان هذا أول ما فكرت به وأنا أعود إلى سوريا لأول مرة بعد غياب ثلاثة عشر عاماً منعت فيها تماما من رؤية بلدي وحتى من مكالمة أصدقائي وأحبائي فيها خشية عليهم من الانتقام.
انتهى هذا. لن أعود للتفكير فيه، أنا الآن في قلب دمشق؛ أجلس في مقهى فندق الشام أنتظر مجموعة من الأصدقاء لنذهب معاً من أجل المشاركة في المؤتمر الوطني الأول الذي يعقد في قلب العاصمة بعد أن طال كثيراً انتظار هذه اللحظة. طلبت من النادل الذي لا أعرفه فنجان قهوة، لم أكن محتاجة للطلب منه أن تكون قهوة مغلية كما كنت أفعل خلال السنوات السابقة في مصر. القهوة في سوريا يتم غليها مرات عديدة بهدوء وصبر. ربما يشبه صبر السوريين واحتمالهم كل ما مروا به ليصلوا إلى هذه الأيام العظيمة. يا إلهي كم تغيرت دمشق خلال هذه المدة؟! قلت هذا أمس لصديق أقلني من المطار ونحن في طريقنا إلى منزله.
“دمشق اليوم ضاحكة ومبتسمة”، ردّ علي. “لحسن حظك أنك لم تأت إليها خلال السنوات الماضية. كنت سترين بأم عينك ما عانته هذه المدينة. ابتهجي الآن معها وخذي كفايتك من أوكسجين الحرية مثلها ومثلنا جميعاً.
أراقب من نافذة المقهى العابرين في الشارع أمامي وأرى لمعات ضاحكة تقفز من أعينهم وأرواحهم تفيض على الرصيف وتغطي النافذة، فأضحك وحدي ممتنة للحياة، لأنني عشت لأرى هذا الجمال بأم عيني.
أرتشف قهوتي بهدوء وأفكر كم من السنوات انتظرت مثل هذه اللحظة؛ كم من الأحلام المختلطة بكوابيس عن سوريا زارتني في نومي؛ كم من العلل قاومتها ونجوت منها لأتمكن من عيش هذه اللحظات؛ أن أجلس في مقهى فندق الشام الأثير أشرب القهوة وأنتظر أصدقائي ونكمل حديثاً بدأناه قبل ثلاثة عشر عاماً وتوقف فجأة قبل أن نكتشف أننا بتنا كلّ في مكان آخر وبلد آخر مشغولين بتفاصيل صغيرة تنجينا من الموت قهراً وحنيناً وخذلاناً.
خرجنا من مقهى فندق الشام قبل موعد المؤتمر بنصف ساعة. سيعقد المؤتمر في البهو الكبير في دار الأوبرا الوطنية بعد أن تمت إزالة اسم الأسد عنها. اقترح الأصدقاء أن نذهب سيراً إلى هناك. المسافة قريبة وهي فرصة لنعيد اكتشاف خطواتنا في تلك الأمكنة التي نحاول استعادة ألفتنا معها بعد سنوات غياب طويلة.
كنا نسير بمحاذاة فندق الفردوس حين قلنا تقريباً كلنا: “تريد استعادة بيت القصيد”. “بيت القصيد” لمن لا يعرفه هو ابتكار الشاعر لقمان ديركي حيث كنا نلتقي كل خميس في بار أرضي في فندق الفردوس نستمع إلى الشعر أو نلقيه ونحن نحتسي الكحول. كان بيت القصيد عفوياً وعشوائياً في اختيار شعرائه، وهنا كان سر جاذبيته لنا جميعاً. هذه العفوية المضادة لصرامة ثقافة مؤسسات النظام وبرودها.
كان بيت القصيد هو إحدى بوادر التمرد الثقافي القليلة في دمشق ذلك الوقت ولم يكن ليحدث لولا تبني كامل من رولا الركبي مديرة الفندق ذلك الوقت. رولا السيدة الحموية المثقفة ابنة السياسي السوري فيصل الركبي، سنلتقيها في دار الأوبرا. عادت من بيروت قبل يومين فقط بعد عشر سنوات غياب عن سوريا وعن بيتها الجميل في وسط دمشق، تغيرت فيها حياتها مثلما تغيرت حيواتنا كلنا.
نزلنا باتجاه ثانوية التجهيز وانعطفنا يميناً. في كل متر مربع نمشي فيه هناك مراسلون صحافيون وكاميرات عليها علامات محطات وقنوات عالمية تغطي ما يحدث في سوريا. “هذا مشهد عظيم”، قال أحد الأصدقاء مبتسماً. نحن نعرف سوريا التي كانت تمنع حمل كاميرا عادية وتصوير أي شيء فيها بذريعة الضرورة الأمنية. منع النظام السابق كل وكالات الأنباء الدولية من دخول سوريا والعمل فيها منذ 2011. وجودها كان يعني أن ما يرتكبه بحق الشعب سوف ينقل على الهواء مباشرة، ما كان يعني إظهار تلفيق إعلامه والإعلام المقرب منه عن الحدث السوري؛ كان يعني إظهار عكس روايته لما يحدث.
ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها
كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟
للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.
هيّا نخلق واقعاً مغايراً!
نحن الآن في دولة جديدة نريدها أن تكون منفتحة على العالم وما يحدث فيها شفاف وجلي. يستحق السوريون بلداً مفتوحاً للجميع ومنفتحاً على الجميع. نستحق بلداً كهذ لأنه يشبهنا.
ها هي التكية السليمانية على يسارنا. التكية هي أحد الأماكن الأثيرة لدى الدمشقيين، مبنية على النظام المعماري العثماني وفيها مسجد ومتحف وسوق للمهن التراثية واليدوية كان أشهرها صناعة الزجاج اليدوي. لا أظن أن ثمة بيتاً في دمشق ليس فيه قطعة أو أكثر من هذا الزجاج البديع.
سألت خالد خليفة إن كان أصحاب هذه المهن سيعاودون فتح محلاتهم الآن في التكية بعد أن تم استرجاعها من يد أسماء الأسد التي استولت عليها من جملة ما استولت عليه في سوريا كلها. قال لي وعلى وجهه ابتسامته الأليفة: ” طبعاً رح يرجعوا. خلص البلد كلها رجعت لصحابها”.
خالد الذي لم يغادر سوريا خلال السنوات الماضية كلها سوى في رحلات أدبية، كان فيها ضمير سوريي الداخل وصوتهم؛ خالد صديق الجميع الضاحك المتفائل المثقف الوطني. هل خالد قال لي ذلك؟ لكن خالد قد رحل قبل أقل من عامين. رحل وحيداً في بيته في دمشق، ويوم وداعه كان سوريو الداخل والخارج مسمرين أمام شاشاتهم الصغيرة يتابعون ما يصوره بعض الأصدقاء من الوداع.
قبر خالد في الشيخ محي الدين يشرف على دمشق التي أحبها كعاشق. كيف سألت خالد عن التكية وكيف أجابني؟ أكاد أجزم أنه يرافقنا في طريقنا الآن، وأكاد أجزم أنني أسمع ضحكته وإصراره على أن نتجمع اليوم مساءً في منزله احتفالاً بهذا اليوم العظيم، وسيطبخ لنا نوعين من طبخاته العجيبة اللذيذة.
خالد النهم على الحياة بكل تفاصيلها، أكاد أجزم أنني أتعلق بذراعه ونحن في طريقنا نحو دار الأوبرا نستمع إلي تدفق مياه نهر بردى، وتستعيد ذواكرنا تفاصيل يوميات دمشق، مطاعمها وباراتها ومقاهيها وشوارعها، حين كنا ما نزال في كامل طاقتنا الجسدية والروحية، قبل أن يفتك بها وبنا زمن جبار تحالف بكل رعونة مع المجرمين.
اقتربت من أميرة وقلت لها: “هل سوف نتمكن من استعادة تلك الأيام والليالي الجميلة يا أميرة؟ يكفي أننا قد عشنا لنرى هذه اللحظة يا رشا، يكفي هذا”!
أميرة صديقتي الأثيرة، هي أيضاً لم تغادر سوريا وبقيت في مدينتها السويداء، لم تغادرها نهائياً. قالت لي ذات يوم في اتصال افتراضي: “لن أغادر السويداء حتى يسقط”. هذه هي المرة الأولى التي تغادر فيها مدينتها منذ 2011؟ يا لهذا الإصرار، كما لو أن الأمل في لحظة كهذه هو ما جعلها تقاوم كل ما مرت به وكل ما عاشته، ثلاثة عشر عاماً يا إلهي! لقد كبرنا يا أميرة وتغيرت أشكالنا وبهتت أرواحنا في انتظار يوم كهذا. فقدنا أصدقاءنا، رحلوا وحيدين دون أن نودعهم.
كنت اتفقت مع أميرة أن نذهب غداً لزيارة قبر شكران الإمام، التي رحلت وحيدة في دمشق قبل أعوام دون أن يودعها أحد منا. قلت لأميرة أنني أرتجف منذ الآن؛ هل سأحضن قبرها كما لو كانت هي أمامي وأحضنها؟ هل ستحدثنا وتلومنا وهي تبتسم ابتسامتها الحزينة التي نعرفها جميعاً؟ ماذا حدث لقبوها الأليف الذي كان يجمعنا؟ ماذا سيحدث للوحات فاتح المدرس التي كانت في هذا القبو؟ لرسائله وملاحظاته المتروكة على الجداران؟ ينبغي التفكير الجدي بإنشاء هيئة مهمتها حفظ الأرشيف الفني والثقافي السوري من الضياع والنهب. هذا تراث السوريين والشاهد على مراحل ومفاصل طويلة ومهمة من حياة سوريا.
الفن والثقافة هما ما يحفظ تاريخ الشعوب لا السياسية ولا الحرب، الفن والثقافة هما دليل حضارة الشعوب وهما فقط ما يحمي تاريخ شعب ما من الضياع. قلت لخليل صويلح: “كيف يمكن أن نفعل هذا؟”. أجابني بكلمات مقتضبة كعادته دائماً: “بدها جهد وتعب، يمكن ولادنا يعملوها. نحن تعبنا وكبرنا”.
خليل لم يغادر سوريا هو الآخر، كنت أقول دائما: طالما خليل في دمشق فسوف يبقى لي موطئ قدم فيها. لم يتوقف خليل عن الكتابة طيلة السنوات الماضية. كانت عينه تراقب كل شيء وكان قلبه يرصد كل لفتة، لم يرد على الاتهامات التي طالته، بل ظل صامتاً وفياً لفكرة الثقافة وجدوى الكتابة. كان محقاً كعادته دائماً.
دمشق خالية من صور الأسدَين الأب والابن، يا إلهي ما أجملها وهي خالية من تماثيل “القائد الخالد” كما أجبروا السوريين على تسميته! عند كل ساحة كان هناك تمثال له؛ عند كل مؤسسة أو منشأة ثقافية.
يا إلهي هذه هي المكتبة الوطنية التي أزيل عنها اسم الأسد، لم يعد تمثاله موجوداً أيضاً. نحن الآن نقترب منها، كنت أفكر أننا بحاجة للجنة كبيرة لتنظيف المكتبة من المؤلفات التي تمجد الأسد الأب والابن، وما أكثرها. أعضاء اتحاد الكتاب العرب وحدهم كتبوا مئات الكتب التي نشرت في الاتحاد، عن عبقرية آل الأسد. اتحاد الكتاب نفسه لم يكن سوى صورة مصغرة عن شكل سوريا التي أرادها آل الأسد: الفساد والانتهازية وحكم الفرد والسلبطة والمحسوبيات والاستئثار. أما الثقافة الحقيقية فهي ليست أكثر من بريستيج يستخدم لتلميع صورة النظام.
التفت إلي جميع من معي، وكلنا كتاب، لا أحد منا كان عضواً في هذا الاتحاد. تخيلوا! لحسن الحظ ربما أن أحداً منا لم يتلطخ اسمه بذاك الخراب.
ها نحن نقترب من دار الأوبرا، حيث مكان عقد أول مؤتمر وطني حقيقي في دمشق منذ أكثر من ستين عاماً. الشوارع حول الدار ممتلئة بالسيارات. أعداد مهولة من البشر تمشي بثقة نحو دار الأوبرا. أبواب الدار مفتوحة للجميع. هناك شعور عام بالأمان جعل المسؤولين عن الدار يعطلون أجهزة الكشف والأمن. رجال ونساء وشباب وصبايا يتجمهرون في حديقة الدار بانتظار الدخول، مدنيون ومتدينون. سوريا بكل تنوعها توجد اليوم هنا. التنوع القادم من كل المدن السورية ومن كل الأطياف. أسمع على مقربة مني حديثاً صاخباً باللغة الكردية وأبتسم. يا إلهي ما أجمل هذه اللغة التي لا يعرفها كثر من السوريين.
لعقود طويلة ظلت ممنوعة من الوجود. هل من عاقل يمنع هكذا لغة في بلده؟ أحاديث بلهجات متنوعة ومختلفة، ضحكات وابتسامات ودموع، قلق وأمل وخوف وتفاؤل، من قلب كل هذا ألمح مي سكاف بعينيها الجميلتين وابتسامتها الصادقة. أسمع صوتها وهي تقول للجميع: أرجوكم لنقف دقيقة صمت احتراماً لأرواح شهداء سوريا كلها. يصمت الجميع وكأنهم مثلي قد سمعوا صوت مي. هل تعرفين يا مي ما يحدث؟ لن يحكم ابن بشار الأسد ابنَك بعد اليوم. إنها سوريا العظيمة يا مي وليست سوريا الأسد، كما تنبأت بها تماماً يا غالية.
ثمة جرس يقرع، الآن وقت العمل. أهلاً بكم في سوريا الحرة. أحدهم يعلن بدء المؤتمر.
رصيف 22
———————————–
من سلمية مع التحية/ حسن زينو
انا حسن زينو العلماني ومن الطائفه الإسماعيلية من مدينة السلميه، اريد ان ابق هالبحصه التي تخنقني وهذا رأيي وربما قادم الايام تثبت صحتها من عدمه.
اولا اوجه التحيه للثوار الاسلاميين السنه اللذين حررونا من طغاة العصر أل الأسد ولولا صبرهم وايمانهم وشجاعتهم كان اولادنا سيعيشون في ظل حكم حافظ بشار حافظ الأسد فتخيلوا هذا القبح.
إلى العلمانيون والطائفيون هدٌوا من روعكم ف والله لن يكون هناك ابشع واقبح من نظام الأسد الطائفي .
السنه في سوريا كمكون محتمعي تعرضوا لاصطهاد هائل من النظام الاسد الاب..ثم الابن. وكلنا يعرف مجازر حلب وجسر الشغور وحماه. وسجن تدمر ايضا الذي قتل فيه الإخوان المسلمين فقط.
في الثوره السوريه كانوا هم وعلى عاتقهم حاملين راية الثوره من بابها لمحرابها. ولايمكن مقارنة ماقدموه مع ماقدمناه نحن كمعارضه من الاقليات..فكل المعتقلين يعرفون كيف كان يعامل المعتقل السني مقارنة بالاسماعيلي.
ولا مجال لذكر الاحداث التي حصلت معي شخصيا سواء في فرع الميسات تابع للامن السياسي أو الجويه في المزه.
ثانيا نحنا قعدنا ببيوتنا او هاجرنا للحفاظ على حياتنا وحياة عوائلنا. هم كان إيمانهم بالثوره وانتصارها اعمق واكبر.
السنه دفعوا الثمن الاضخم من أجل انتصار الثوره في حين الاقليات كلها كان لديها ميليشياتها من دفاع وطني ومجموعات خاصه تابعه لفلان وفلان..ال سلامه والسلموني و..وو. في سلميه وباقي مناطق الاقليات.
أيضا مثل اليازجي بوادي النصارى…ووو من أجل الدفاع عن النظام.
هل يمكن لأي إنسان أن يحصي المحازر الذي حصلت بحق السنه خلال الثوره منذ بدايتها ٢٠١١ إلى الان.
محزرة الساعه بحمص، الحوله، كرم الزيتون المزرعه، باب عمر ،القصير، الخالديه…..
دمشق وريفها كلها شهدت فظائع القتل والتجويع والتهجير والتدمير…من مضايا والزبداني الى داريا ودوما ومجزرة الكيماوي بالغوطه الذي راح ضحيتها ٣٥٠٠ شهيد تقريبا.
محزرة البيضه ب بانياس .
ذبحوا الاطفال والنساء بالسكاكين.
لا اريد ذكر ماحصل بادلب وحلب وريفهما وترحيل الناس من بيوتهم.
ماذا فعل النظام ومجموعاته الطائفيه؟ حرق، تعفيش، اغتصاب المنازل والأراضي والاملاك.
و الروايات والقصص لن تنتهي لو تحدثنا دهرا .
ليس آخرها قصص السجون المروعه والمقابر الجماعيه التي تظهر الان. وكلها بحق السنه السوريين.
الا يجدر بنا أن نكون مقدرين للمعروف ولسنا ناكري جميل لانهم تحرروا حررونا معهم…
السنه كانوا منذ الثمانينات ممنوع عنهم تشعيل النار كما قبيلة الزير سالم بعد هزيمته.
هل يمكن ان نسامح لو كنا مكانهم؟ لا .
هم دخلوا المدن كلها وعفوا…هل تتخيلون انهم دخلوا سلميه وبري الشرقي وضيع الاقليه العلويه ولم يقتلوا احد، إلا من قاتلهم.
لله درهم من اين اتوا بكل هذا الصبر ان يروا قاتلهم ويسامحوه. هل كان الرسول محمد عندما دخل مكه محررا هو مثلهم الاعلى أم وصايا ابو بكر وعمر للجنود في الحروب: لاتقتلوا طفلا، لاتقتلوا شيخا ولا أسيرا ولاتقطعوا شجره…..
لن اطيل عليكم اكثر لكن ايها العلمانيون والطائفيون اعطوهم فرصه لاهل الحكم الجدد وساعدوهم. تأكدوا أن المتربصين بالثوره السوريه وسوريا الجديده كثر من دول الجوار والعالم ومن الداخل من فلول النظام البائد.
اخيرا إلى السوريين نداء : بعد زوال هذا النظام الطاغيه الذي ظلم الجميع حان وقت المصالحه الوطنيه الشامله بين كل المكونات في سوريا عرقيه وطائفيه ودينيه من أجل تضميد جراح سوريا ولنحاول ان نعمل قطع مع الماضي قدر الامكان رغم صعوبة ذلك في الوقت الراهن.
اولادنا يجب ان يعيشوا مع بعض دون احقاد وكراهيه كما كان يعيش اهلنا قبل حقبة البعث-الاسد.
مراقبة سلوك العهد الجديد. الشرع وحكومته في الفتره الانتقاليه كي لانعود إلى سلوك العهد السابق.
عاشت سوريا حرة كريمه.
الفيس بوك
———————–
====================