جماليات أن نقول “لا”: “مقام الريح” و”جائزة الكتاب” الأميركية/ سمر يزبك
19 ديسمبر 2024
بعد وصول ترجمة روايتها الأخيرة “مقام الريح” إلى القائمة النهائية لـ “جائزة الكتاب الوطني” الأميركية الشهر الماضي، وطلب إدارة الجائزة منها كتابة خطاب الفوز، رفضت الروائية السورية سمر يزبك الامتثال لقوانين السلطات الأميركية بخضوعها لمقابلة خاصة في القنصلية الأميركية بباريس، تُفرض على حملة الجنسيات الأوروبية من أصل سوري. تكتب يزبك لـ”العربي الجديد” شهادتها على هذا الموقف ومعناه.
لا يليقُ بالأسئلة أن تكرّر نفسها بنفس المنطق حول التعريفات المُلتبسة للذّات، لكن ماذا نفعل؟ إنّه سؤالٌ لا يُمكن الهروبُ منه في كلّ مرّة نجدُ أنفسنا أمام مُساومةٍ قسْرية: أن نعترفَ بأنّنا أقلّ من الآخرين مقابَل الحصولِ على اعترافهم، أن نقبلً التميّيز ضدّنا ثم ندّعي لاحقًا أنّنا نطالبُ بالمساواة! كيف لنا، في هذا السياق، أن ندّعي أنّنا ندافعُ عن كرامتنا بينما نُذعن بصمتٍ لهذا التميّيز؟
حين أخبرتني وكيلتي الأدبية ياسمينة جريصاتي أنّ روايتِي “مقام الريح” وصلَت إلى القائمة القصيرة لـ “جائزة الكتاب الوطني” في الولايات المتحدة الأميركيّة، شعرتُ بلحظةٍ مُشبعةٍ بالرضا. إنّها الجائزة التي تُعادل “الأوسكار” في عالم الأدب هناك. ورُغم قناعتي بأنّ الجوائز الأدبيّة الغربيّة للكتّاب العرب لا تُمنح عادةً بدافع المُتعة الأدبية البريئة، بل غالبًا لمن يُسلّطون الضوء على مجتمعاتٍ سياسيّةٍ غامضةٍ بالنسبة لهم وراء بحارٍ بعيدة، إلّا أنّ الفرحة تسلّلت إلى داخلي رُغم كلّ شيء.
لم يكن ذلك الرضا متعلقًا بأهميّة الجائزة نفسها، التي تُقدم عادةً في الغرب مع حفظ كرامة الكاتب دون أن يكون مضطرًا بنفسه لطلب الجائزة كما يجري في عالمنا العربيّ. في الحقيقة، كان السبب رغبتي في الذهاب إلى هناك؛ بصفتي سوريةٍ، شعرتُ بحاجتي لرواية قصّة الجرح السوريّ النازف على مدى العقد الماضي، وبصفتي عربية، وجدتْ فرصةً لفضحِ صمت العالم عن الإبادة الجماعيّة التي تحدث علانيّةً في غزة.
كنتُ أعمل حينها مع عوائل ناجيٍة من المجازر، منحوني من قوتهم وكرامتهم ما ساعدني على توثيق ما مروا به. لذا، دون ترددٍ، تقدّمت للحصول على تأشيرةٍ لدخول الولايات المتحدة. حين طلبت مني وكيلتي الأدبيّة لاحقًا كتابة كلمة الفوز بالجائزة، شعرتُ مجددًا بشيءٍ من الرضا، وبدأت أكتب بحماسٍ عن غزة وعن سورية. لكن سرعان ما ظهر شَرطٌ جديد: تأشيرة دخولي إلى الولايات المتحدة كانت معلّقةً على مقابلةٍ يجب أن أُجريها في القنصليّة الأميركيّة في باريس. بدا الأمر غريبًا! اكتشفت لاحقًا أنّني رُغم أنّني أحمل الجواز الفرنسي، فإنّ جذوري السوريّة تفرض عليّ إجراءاتٍ خاصّة، لا يلتزم بها غيري ممن يتمتعون نظريًا بنفس الوضع القانونيّ.
بدا لي هذا الموقف إعلانًا صريحًا: لا جواز السفر الذي أحمله، ولا القيمة الأدبية التي نلتها، ولا الجائزة التي رُشحت لها، يمكنها أن تجعلني مساوية لأقراني في نظرهم. شعرت برفضٍ عميقٍ، ليس فقط في عقلي؛ كلّ شيء فيّ قال: “لا” لن أذهب للقنصليّة، لا أريد الذهاب إلى حفل الجوائز ولا معرض الكتاب. كيف يُمكنني الحديث عن الجرح السوريّ لدى من تحيّز ضدّي فقط لأنّني سوريّة؟ ابتسامةٌ ساخرة ومؤلمة ارتسمت على وجهي وأنا أتذكر أنّ أطنان القنابل المتوحشة التي تفتك بغزّة الآن تُصنع في عين البلاد الذي كنت أنوي أن أروي فيها قصّة غزّة.
“لا” كبيرة. أبلغتُ وكيلتي الأدبية، لن أذهبَ. أصبح واضحًا لي هنا أنّ تنازع الهُوية أعمق ممّا كنت أتصور. لم تكن تلك مجرّد مقابلةٍ عابرة أو إجراءٍ أمنيّ كما حاول بعض الأصدقاء تصوريها لي، بل كانت إعلانًا بأنّ هويتي السوريّة الفرنسيّة ستظلّ مصدرًا للشكّ، الجنسيّة الفرنسية التي أحملها لم تكن كافيةً لتجاوز الصورة النمطية المرتبطة بأصولي العرقية والثقافيّة، وكأنّ وجودي ذاته بات مَحل تساؤل.
هذا الشعور بالتمييز الهويّاتي لا يُضعف فقط شعور الفرد بالانتماء، بل يُعزز ثقافةً تُكرّس لونًا واحدًا، مما يدفع المبدعين من خلفياتٍ متنوعة إلى الشك في قيمتهم وقدراتهم. الأمن القومي -رغم الحياء الليبرالي هنا- يُعيد إنتاج الإقصاء الاجتماعي ويتحول من أداة حمايةٍ إلى أداة سلطة، تُستخدم لقمع الآخر المختلف عرقيًا أو ثقافيًا تحت خطابٍ شرعي. الممارسات الأمنية تصنعُ “الآخر” مصدر تهديد دائم، مستخدمةً لغة مثل “السلامة” و”النظام” لإخفاء أنماط التمييز.
الحدود الأمنية تصبح رمزيةً أكثر منها فيزيائيّة، بوصفها طقوسًا قانونيّة تُعيد تشكيل المجموعات المهمّشة بما هي خطرٍ يجب السيطرة عليه. تتبدّى الهوية الفرنسية السورية، مصدرا للشك بدلًا من وسيلة للاندماج، حيث تعجز الجنسية الفرنسية عن تجاوز الصورة النمطية المرتبطة بالعرق. هذا يكشف التناقض الأخلاقي لدولٍ تدّعي المساواة، لكنّها تُمارس التمييز باسم الأمن. وهذا بدوره لا يدّل سوى على تآكل السرديات الغربية الكبرى كالمساواة والحقّ في حريّة التنقل. وبدورها بالمقابل تتحول التجارب الفردية للمهمشين إلى سرديات تعكس صراعات أوسع بين الهوية والسلطة.
هذه الإشكاليّة تفتح الباب أمام تساؤلاتٍ أعمق: هل يجب أن نرضخ لتعريف الغرب لنا أفرادا مشبوهين بالولادة، مقابل الاعتراف بنا أدبيًا وثقافيًا؟ هل هذا الاعتراف سوى مقايضة تجعلنا نتخلّى عن حقنا في تعريف أنفسنا بأنفسنا؟ إنّ التصفيق الذي قد يُمنح لنا على منصاتهم، يُنتزع ثمنه من حريتنا في صياغة صورتنا الذاتية، وهو ثمنٌ يجب ألا نقبله. لنواجه هذه اللعبة الأخلاقية التي تبدو عبثية، ونمض بها إلى أقصى حدود توترها دون أن نقبل الخضوع لصورة جاهزة أُعِدَّت لنا مسبقًا. لنقُلْ “لا” في وجه كلّ محاولةٍ لجعلنا نرى أنفسنا بعيون من يُهيمن علينا. هذا الرفض ليس فقط حقًا، بل هو واجبنا تجاه ذاتنا، تجاه تاريخنا، وتجاه مستقبلنا.
القوّة ليست مركزيةً بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، بل تتوزع في كلّ مكان، ومقاومتها تبدأ من أضعف المواقع. عندما يقول الفرد “لا”، فهو يعلن عن وجوده كائنا حرّا، يُفكّك سلطة الخطاب الذي يفرض عليه نمط حياة أو هوية معينة. الرفض هنا ليس مجرد امتناعٍ، بل هو إعادة تشكيل الذّات وتحريرها من القمع، سواء كان ذلك سياسيًا، اجتماعيًا، أو ثقافيًا. الرفض بما هو فعل مقاومةٍ يُظهر قدرة الأفراد والجماعات المهمَّشة على التصدي للأعراف والتقاليد التي تسلبهم حقوقهم. في جنوب أفريقيا، استخدم الشعب الرفض الجماعيّ وسيلةً رئيسية لمقاومة الفصل العنصري. العصيان المدني، الإضرابات، والمقاطعات الاقتصادية كانت جميعها أشكالًا من قول “لا” للنظام. لم تكن القوة المادية حاضرةً بيد الشعب، لكن كلمة “لا” وحدها كانت كفيلةً بزعزعة شرعية النظام وكشف ضعفه أمام مقاومةٍ سلميةٍ لكنّها صلبة. “لا” تعني الانسحاب من لعبة فرضها الآخرون وإعلان الاستقلال الذاتي. هذا الرفض يتحدى الصور النمطية ويفتح المجال لبناء مساراتٍ جديدةٍ تُعيد للفرد كرامته. “لا” تحمل في طيّاتها فعلًا من أعمق أفعال الحريّة يُشكّل تحديًا صامتًا لكنه مدوٍ. هذا الرفض لا يتطلب سلاحًا أو عنفًا؛ إنّه فعلٌ وجوديٌّ يُعلن أنّ الإنسان لا يقبل أن يُسحق تحت ثقل السلطة أو يُسجن في قوالب جاهزة. حتّى في أبسط المواقف اليومية، يُمكن لكلمة “لا” أن تُعيد رسم معادلات القوة.
قول “لا” بما هو فعل مقاومةٍ يُعيد للإنسان إنسانيته. إنّه انتصار الفرد على قوى القهر والهيمنة، وهو خطوةٌ أولى نحو التغيير. إنّها إعادة بناء العالم وفق رؤية عادلة ومُحترمة لكرامة الإنسان. “الافتقار إلى القوة” عند الضعفاء (Manque de puissance) أيضا بتعبير “فوكو” يشير إلى الطريقة التي يمكن للمجموعات المهمشة أو المظلومة من خلالها ممارسة تأثيرٍ ليس عبر السيطرة التقليديّة أو القوة المباشرة، بل من خلال المقاومة وسرديّات بديلة. غياب القوة الرسمية يسمح لهم بتحدي الإيديولوجيات السائدة والهياكل الاجتماعية. القوّة هنا ليست مركزيةً بل منتشرة، حيث يمكن حتّى لأولئك الذين لا يمتلكون سلطةً مؤسّساتيّةً إعادة تشكيل الخطاب وتحدي المعايير. وهذه المقاومة بدورها لا تُقاس فقط بالقدرة على المواجهة، بل بتأثيرها العميق في إعادة هيكلة التاريخ نفسه، مما يُظهر أنّ رفض الهياكل القمعية ليس مجرد مقاومةٍ، بل هو إعادة خلقٍ لتاريخٍ جديدٍ متنوع وديناميكي، بعيدٍ عن المركزيّة الإيديولوجيّة المهيمنة.
إنّنا لا نواجه فقط تحيّز الغرب وتصوّراته الجاهزة عنّا، بل نخوض أيضًا صراعًا مع أنفسنا؛ مع إرثٍ من الهزائم السياسيّة والاقتصادية والثقافية التي لحقت ببلداننا بفعل أنظمة القمع والتخلف وكرّست في داخلنا شعورًا بالغموض حول هويتنا. ولكن رغم كلّ ذلك، فإنّ جرأة أن نكون على حقٍ تجعلنا نرفض أن نُحاصر في هذه الثنائية الضيّقة: بين دونيةٍ مُستبطنة وصورة مُشوّهةٍ يفرضها علينا الآخر. إنّها مُفارقةٌ مفتوحةٌ على لعبة أقنعةٍ طويلةٍ وثقيلةٍ، إعادةُ إنتاجٍ لعلاقةٍ تقليديّة بين السيّد والعبد، لعبةٌ تتطلب منا أن نقبل دورًا مكتوبًا مسبقًا، حيث يُعاد تشكيل تبعيتنا بشكل أكثر حداثة.
نحن مدعوون اليوم للذهاب بهذا السؤال الأخلاقي إلى أقصى حدوده. نعرف جيدًا أنّ رفضنا قد لا يُغير في البداية سوى رأي مثقفٍ أو أكاديميّ متفقٍ أو مُختلف معنا، لكنّه لن يُغيّر سياسات التمييز لأنّها مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بصناعة السلطة والقوة ورأس المال، لكن لِنحاولْ حتّى لو كنّا ذلك الولد الذي حاول أن يوقفَ التّسرب من السدّ بإصبعه. لنحاول أن نقفَ في وجه الصورة النمطيّة المفروضة علينا، ولنعلنَ رفضنا للخضوع لأيّ تعريفٍ يختزلنا في إطارٍ ضيّقٍ. هذا ليس مجرّد موقفٍ، بل هو فعل مقاومةٍ دفاعًا عن وجودنا، حتّى لو كلّفنا ذلك الغياب عن كلّ المنصات التي يصفّق لها العالم.
* روائية من سورية العربي الجديد