عبد الله حنا: انزلاق التحركات الشعبية السلمية نحو العمل المسلّح جَرَفَ الوطنية الجامعة
15 يونيو، 2021
غسان ناصر
يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة في حوار الأسبوع الكاتب والمؤرّخ الماركسي الدكتور عبد الله حنا[1]، المتخصّص في كتابة تاريخ الفلاحين وحركات العمال في سورية.
ضيفنا من مواليد بلدة دير عطية في ريف دمشق 1932، حاز إجازة في التاريخ من الجامعة السورية 1958، ومن ثم نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة (تاريخ) من جامعة (كارل ماركس) في لايبزغ بألمانيا ربيع 1965، وكان عنوان أطروحته (حركة التحرّر العربية في بلاد الشام في مستهل القرن العشرين). عمل في حقل التدريس الثانوي بعدما سدّت الجامعات السورية أبوابها في وجهه بسبب سلطة حزب البعث الشمولية وتوجّهاته اليسارية.
أحيل على التقاعد المبكر من الوظيفة العمومية 1987، بطلب منه بعد سلسلة من المضايقات من القيادة الحاكمة صونًا لكرامته. وتفرغ منذ ذلك التاريخ للبحث والتأليف في التاريخ الاجتماعي المغَيَّب من معظم المؤرّخين السوريين.
نُشرت له مؤلّفات عدة، من بينها: (الاتّجاهات الفكرية في سورية ولبنان، دمشق 1973)، (الحركة العمالية في سورية ولبنان 1900 – 1945، دمشق 1973)، (الحركة المناهضة للفاشية في سورية ولبنان 1933 – 1945، بيروت 1975)، (القضية الزراعية والحركات الفلاحية في سورية ولبنان، جزء أول ما بين 1820 و1920، جزء ثاني ما بين 1920 و1945، بيروت 1975)، (مشكلات الانتقال من الرأسمالية، 1981)، (تحركات العامّة الدمشقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. نموذج لحياة المدن في الإقطاعية الشرقية، بيروت 1985)، (المسألة الزراعية والحركات الفلاحية من الاحتلال العثماني حتى الاستعمار الفرنسي، دمشق 1986)، (المسألة الزراعية والحركات الفلاحية في مرحلة الحكم البورجوازي الإقطاعي 1943 – 1959، دمشق 1986)، (المجتمعان الأهلي والمدني في الدولة السورية الحديثة 1850 – 2000، دمشق 2001)، (الفلاحون وملاك الأرض في سورية القرن العشرين، بيروت 2003)، (الحركة الشيوعية السورية.. الصعود والهبوط، حلب 2008)، (المرشدية في محيطها العلوي وأجواؤها السياسية والاجتماعية 1923 – 1946)، (الدوحة 2015)، (صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية، الدوحة 2018)، و(صور من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين، جمعها الدارسون في المعهد النقابي بدمشق، إعداد، الدوحة 2019).
هنا نص حوارنا معه
بداية نسأل عن الأسباب التي دفعتكم إلى التوجّه إلى المنفى بعد اندلاع الثورة السلمية في سورية في آذار/ مارس 2011، ومتى كان ذلك تحديدًا؟
أنا لست منفيًا أو هاربًا من سورية. إقامتي الأساسية في دمشق أو في بلدتي دير عطية التي وُلدتُ فيها وأتردد دائمًا بعد التقاعد على زيارة ألمانيا بحكم أنّ زوجتي ألمانية وعَملتْ في دمشق طبيبة نسائية مدة ثلاثين سنة ولها معرفة عميقة في المجتمع. وبحكم واردها كطبيبة، تمكّنتُ من التأليف في موضوعات لا تُطعم كاتبًا لا يمجد السلطة ويسير في ركابها.
أنا ضد الهجرة ومغادرة الأوطان إلّا في الظروف الصعبة. وعند قدوم وباء كورونا كنتُ زائرًا في ألمانيا وما أزال وسأعود إلى البلاد عندما تستقيم الأوضاع. وسأتابع ما بدأت به من جمع التاريخ من أفواه الناس بعد توقف خطر الوباء. والتاريخ هنا يعني الأحداث التي عصفت بسورية بعد آذار/ مارس 2011 وما أزال متجنبًا استخدام كلمة (ثورة). وهذا لا يعني أنني مُوالٍ للنظام، وكنت ممّن وقّع بيان ال 99 للمثقّفين في أيلول/ سبتمبر 2000 الذين طالبوا بإلغاء الأحكام العرفية وقانون الطوارئ ومنع الاعتقال من دون أمر قضائي وإطلاق الحرّيّات العامّة المقيّدة وغيرها من المطالب الرامية لإشاعة الديمقراطية.
الثورة السورية والإسلام السياسي
مرّ عقد من الزمن على انطلاق الثورة السورية. كيف استقبلتم النبأ حينذاك، وهل كنتم تتوقّعون اندلاع احتجاجات شعبية سلمية عارمة في (سورية الأسد)؟
لا نرى ما جرى (ثورة) بل أسميناها في دراساتنا (تحركات شعبية) ساهمنا فيها وكنّا، كما ذكرنا آنفًا، من الموقعين على بيان ال 99 للمثقّفين الذين طالبوا برفع الأحكام العرفية وتحطيم الجدران الحاجزة للديمقراطية وحرّيّة الرأي وغيرها من وسائل الحرّيّة.
الثورة لها قدسيتها ولا يجوز، بحسب وجهة نظرنا، لكل من رفع الصوت محتجًا أن يعد عمله ثورة. إنها -كما كتبنا عنها- تحركات شعبية أخذت تنزلق نحو العسكرة بفعل عوامل داخلية وإقليمية وخارجية. نكتب ذلك ونحن نعلم أنّ رأينا سيكون صادمًا لكثيرين، ممن يعتقدون أنها ثورة. وكنّا نتمنى أن تكون ثورة لو توفرت الظروف المناسبة داخليًا -أي الحامل الاجتماعي ومن ضمنه الطبقي- مترافقة أو مسبوقة مع أهداف واضحة للتغيير.
في هذا السياق أطرح عليكم سؤالًا سأله بعض المثقّفين السوريين في بدايات الحراك الشعبي، وهو: كيف نقف إلى جانب ثورة كانت الجوامع مراكز انطلاق تظاهراتها، ويعرض مكوّنها العسكري وجهًا إسلاميًا ظاهرًا؟ ما هو موقفكم أنتم؟ من ثمّ ألا تخشون من الإسلام السياسي بعد سقوط النظام؟
لم تكن الجوامع دائمًا مراكز للمحافظين أو الرجعيين. ففي مرحلة النضال ضد الاحتلال الاستعماري الفرنسي المسمّى بالانتداب (1920 – 1943) كانت كثير من الجوامع مراكز وطنية للتجمع والتظاهر المناهض للانتداب. مع التأكيد أنّ طبيعة حكم الانتداب كانت تسمح لطلاب التجهيز (المدارس الإعدادية والثانوية) بالتظاهر في الشوارع ورفع الصوت ضد الحكم الاستعماري. والطريف أنّ هذا (الاستعماري) لم يكن يمنع التجمعات الجماهيرية المحتجّة على سياسة الانتداب أو المطالبة بجلاء الاستعمار الفرنسي.
وهذه الظواهر دفعت المتقدّمين في العمر إلى الترحّم على أيام الانتداب أو الاستعمار. والمناضل الوطني الشعبي فخري البارودي أشار في مذكراته صراحة -آسفًا- إلى حمل الحجارة ورميها على جنود الاستعمار، وقد كان في طليعة العاملين للخلاص من الانتداب الاستعماري.
وفي أثناء جولاتي الميدانية لكتابة تاريخ الفلاحين كان كثير من الفلاحين (سنّة وعلويين) يؤكدون أنّ: “أيام الفرنساوية كانت أرحم من أيام الوطنيين”. ويقصدون بذلك الحكم الوطني بعد عام 1943 الذي كان أداة ضاربة في يد الإقطاعيين من كبار الملاك ومتوسطيهم ضد التحركات الفلاحية.
ونوضّح هنا أنّ دُور العبادة يمكن أن تُستخدم في اتّجاهين متعارضين. وهذا يرتبط بالقوى الاجتماعية المسيطرة على الساحة والأجواء العربية والدولية المناسبة.
أما الخشية من الإسلام السياسي، فذلك مرتبط بنوع هذا الإسلام السياسي: معتدلًا كان أو متطرفًا، متنورًا أو محافظًا أو مغرقًا في الرجعية والظلامية، وهل هو رحب الصدر؟ أم يميل إلى إزالة الآخرين إزالة وحشية؟ في جملة مختصرة: نسبة القوى الاجتماعية ومواقف دول الجوار والوضع العالمي، هي التي تحدّد (سلوك) الإسلام السياسي.
ما الذي تقوله لنا ثورة السوريين اليوم، في المستوى الفكري؟ وكيف ستكون مفعولات التأثير الحتمي الذي سيترافق مع هذه الثورة الباسلة، اليتيمة، المختطفة، على إعادة تشكيل العقل السوري في المدى المنظور وعلى المدى البعيد؟
نعلم أنّ كثيرين لا يعجبهم نفي صفة الثورة عما جرى منذ آذار/ مارس 2011 وإلى يومنا هذا. ومن وجهة نظرينا نستخدم تعبير (الأحداث السورية) بمضامينها المتعددة، متجنبين القول إنها (مؤامرة كونية) بحسب إعلام النظام، أو (ثورة ضد النظام) بحسب إعلام المعارضات بعجرها وبجرها.
أما ماذا سيجري في المستقبل؟ فنترك الإجابة عن هذا السؤال لمن كنّا نسألهم في أثناء جولاتنا الميدانية: ما هو الحل في رأيك؟ كان المجيب يرفع وجهه إلى السماء ويقول: “الحل في إيد الله”. مع العلم أنّ السماء تركت للعباد تقرير مصيرهم بأيديهم. هذه وجهة نظر مؤرّخ لا يسير بحسب أهواء السياسيين.
ماذا عن بداياتكم الأولى في عوالم الكتابة. متى وأين وكيف بدأت؟
نلتُ الإجازة في التاريخ 1957 من الجامعة السورية، عندما كانت الجامعة جامعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وتقدّمتُ بأطروحة للإجازة عنوانها: (الحركة الوطنية السورية 1949 – 1956).
كنتُ يومها -بحسب النظام التربوي طالبًا جامعيًا- وفي الوقت نفسه طالبًا في (دار المعلمين العليا). وعليّ الالتحاق بسنة جامعية في (كلية التربية للتأهيل) بوصفي مدرسًا في المدارس الثانوية. وكنتُ كغيري من طلاب (دُور المعلمين العليا) في السنوات الخمس، أتقاضى راتبًا شهريًا قدره 170 ليرة سورية كانت لها قيمتها الشرائية العالية، مقابل خدمة خمس عشرة سنة في التدريس مع راتب مجز.
في منتصف السنة الجامعية في (كلية التربية) لوحِقتُ لأنني في (الحزب الشيوعي) في أيام الوحدة مع مصر في الجمهورية العربية المتحدة. ومع أنني كنت عروبيًا حتى الصميم ومع الوحدة العربية الديمقراطية، إلّا أنّ المباحث السلطانية التي قادها وزير الداخلية عبد الحميد السراج الخاضعة للمباحث المصرية المشهورة، سحقت كل القوى الحيّة في المجتمع، وكانت بالمرصاد لمن لا يسير في ركابها. اضطررت إلى التخفي ثمّ الانتقال إلى لبنان مدة سنة، ومنها حصلتُ على منحة دراسية للحصول على الدكتوراه في التاريخ، وتسمّى في ألمانيا الديمقراطية (دكتوراه فلسفة).
بعد نيلي شهادة الدكتوراه من جامعة (كارل ماركس) في لايبزغ بألمانيا ربيع 1965عدتُ فورًا إلى الوطن. فاستقبلني في مطار دمشق الأمن السياسي الذي كان (لطيفًا) بسبب ظروف ستينيات القرن العشرين.
لم أُقبل مدرسًا في الجامعة السورية بسبب اتّجاهي الفكري، فاضطررت إلى التدريس في المرحلة الثانوية، وكنتُ أستفيد من الوقت لارتياد المكتبة الظاهرية لجمع المادة الضرورية لكتابة تاريخ المنتجين.
أما متى بدأتُ كتابة التاريخ وكيف؟ فأجيبكم بأنّ عدم قبولي للتدريس في الجامعة مردّه إلى سلطة حزب البعث التي أخذت في ميدان العلوم الإنسانية تُبعد الماركسيين والاسلاميين. وكان من نصيبي التدريس في المدارس الثانوية، ما حدّ من إمكانيات التأريخ. وكانت النتيجة تحدي عملية عزلي لماركسيتي واندفاعي بحماس ورويّة للدخول في ميدان التأريخ من الأدنى، أي تتبع تاريخ الطبقات المنتجة من عمال وفلاحين وحرفيين. وفي الوقت نفسه رصدْ ثقافة المجتمع، والعلاقة الجدلية بين البنى التحتية الاقتصادية – الاجتماعية والبنى الفوقية الفكرية والثقافية والتأثيرات المتبادلة بينهما، ومن ثمّ إلقاء الأضواء على حصيلة هذه العمليات المعقّدة بين البنى التحتية والفوقية.
وفي مقالتنا (كلمة رثاء في الدولة الوطنية السورية)[2] تجدون حصيلة نتاجي الفكري في ظروف صعبة ومن دون مساعدة مالية من أي جهة. ويعود الفضل في استقلالي السياسي والفكري إلى زوجتي (سكريد ينسن) الطبيبة النسائية التي -كما ذكرتُ سابقًا- ساندتني نفسيًا، وكان لمدخول عيادتها دور أساسي في عدم تبعيّتي لمن يقدّم المساعدات المالية ويدفعك إلى السير في ركابه سواء كان جهة رسمية أم دينية أم مؤسّسات تجذب ماليًا الباحثين والمفكرين للسير في مسارها.
ماذا عن أسئلة الكتابة الراهنة، ماذا سيكتب المرء والحدث لم ينقض بعد، وهل بإمكان الكاتب أن يروي ما يجري من دون أن يكون على مسافة كافية للتأمل؟
هذه إشكالية ليس لها حل في التأريخ. فعندما يتناول المؤرّخ موضوعًا من العصور القديمة تكون عواطفه حيادية وغير منحازة. وفي أثناء التأريخ للعصور الوسطى تبدأ عواطف المؤرّخ بالانحياز لهذا الطرف أو ذاك. وهنا تتجلى العواطف الدينية أو القومية وغيرهما في الانحياز بدرجات مختلفة بحسب وضع المؤرّخ وموقعه الفكري وتمكُّنه من مهنته.
وفي حال التأريخ للعصور الحديثة يزداد انحياز المؤرّخ في أثناء تناوله للأحدث أو تحليلها. وتبقى إشكالية التأريخ للحاضر وهنا تطغى السياسات على التأريخ.
يمثل كتابكم (صُوَرٌ من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين) (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2019)، مرجعًا لا غنى عنه لأي باحث في التاريخ الاجتماعي – الاقتصادي السوري الحديث. سؤالنا: كيف ترى النتائج التي تمخضت عن بحثكم ودراستكم عن تاريخ هذه المجتمعات في تاريخ سورية الحديث؟
عندما يكون الباحث شابًا ومندفعًا يظن أو يتوهم أنّ كتابته (ستقلب مفهومات العالم)، والواقع أنّ الأفكار السائدة والمفهومات المتغلغلة في شرايين فكر الإنسان لا يمكن تغييرها بين ليلة وضحاه. فعملية التغيير تحتاج إلى زمن يقصر أو يطول تبعًا للظروف والزمان والمكان.
وبالنسبة إلي لم أكن منذ البدء واهمًا بعملية التغيير الفكري السريع، بل كان منهجي تقديم أسس عن طريق التأريخ من الأدنى للطبقات المنتجة بسواعدها وأدمغتها لفتح إحدى بوابات التغيير مستقبلًا. ولذا فإنّ ما كتبته لا يعْفُ عليه الزمن بسرعة، بل يبقى ذخيرة للأجيال المقبلة التي ستُحدِث التغيير.
(سيد القصر) وما خفي من سيرة الكتاب المُباد
أنتم من رواد التاريخ الشفوي المبكرين في الكتابة التاريخية الحديثة في سورية كمصدر من مصادر التأريخ، لماذا هذا الاهتمام بالمرويات الشفوية؟ وهل تعد الروايات الشفوية وثيقة لقراءة التاريخ؟
سؤالكم حول التاريخ الشفوي الذي استندتُ إليه يدفعني أو يلزمني في التوسّع توسّعًا اضطراريًا لتوضيح كثير من أسئلتكم وإلقاء الأضواء على تاريخ الأرياف في القرنين التاسع عشر والعشرين. ولذا سأرقّم الإجابة عن سؤال التاريخ الشفوي تسهيلًا لاستيعاب ما قمتُ به.
أولًا: يعود سيري في طريق التأريخ الشفوي إلى سببين:
1- الوضع الذي كنت أعيشه من مشاكسة السلطة الرسمية لمن له فكر ومنهج لا يتفق مع الفكر السلطوي.
2- تكويني التربوي والفكري الطبقي، فأنا فلاح ابن فلاح واعتزّ بانتمائي الطبقي إلى المنتجين. ووجدت في أخذ التاريخ من أفواه الناس وما تختزنه ذاكرتهم خير وسيلة لكتابته. ولكن التاريخ الشفوي وهو أشبه بلحم الإنسان لا يمكنه التحرك من دون العظام البشرية أي الرجوع إلى المصادر المكتوبة بأنواعها، وإجراء عملية مزج بين الشفهي والمكتوب.
فثمّة تناغم بين الشفوي والمكتوب في التأريخ. وتبيّن من خلال ما ألّفته أنّ الاستناد في آن واحد إلى (المكتوب) و(الشفوي)، وإجراء مقايسة بينهما مع استخدام النقد التاريخي، يقدّم أفضل الطرائق لكتابة التاريخ، وبخاصّة عندما يتعلق الأمر بالصراع الطبقي الذي يتجاهله كثيرون.
وللرواية الشفوية دور في توضيح الوقائع المكتوبة وإماطة اللثام عن وقائع مجهولة.
وللرواية الشفوية ميّزتان: توضيح وقائع مكتوبة يكتنفها الغموض عمدًا أو سهوًا، وكشف وقائع مطموسة لم يتطرق إليها التاريخ المكتوب لأسباب كثيرة.
وقد سارَ كاتب هذه الأسطر في جَمْعِه للتاريخ الشفوي لكتابة تاريخ الفلاحين (وغيرهم من الحرفيين والعمال والمثقّفين) على (السليقة) -إن جاز التعبير- منطلقًا من كونه (فلاحًا ابن فلاح) يرى في الكشف عن الاستغلال الذي لاقته جموع المضطهدين عبر التاريخ إحدى طموحاته. وهو يتطلّع منذ شبابه، وما يزال، إلى الكتابة عن أبناء جلدته ممّن أهملهم التاريخ الرسمي.
ثانيًا:
أرجو أن تسمحوا لي بالتوسّع في الإجابة عن سؤالكم حول التاريخ الشفوي، مبيّنًا أنّ الاستناد إلى التاريخ الشفوي يجب أن يكون متلازمًا مع التاريخ المكتوب، ومشيرًا إلى أنني بدأت استخدام التاريخ الشفوي منذ شرعت في الكتابة عن تاريخ الفلاحين في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. والكتابة عن الفلاحين عمل محوري للـتأريخ لبلد دخل مؤخرًا عصر الثورة الصناعية.
فقد سمحت الظروف أن نجري جولات ميدانية واسعة في الأرياف السورية، وبلغ عدد الأشخاص الذين التقينا بهم 303 أشخاص قدّموا لنا معلومات عن 245 قرية عاشوا فيها وجبلوا أرضها بعرق جبينهم، وزودونا بمعلومات عن عدد آخر من القرى التي عاشوا فيها ردحًا من الزمن. وفي بعض الأحيان كانت الروابط الفلاحية تجمع الفلاحين المسنين ذوي الاطّلاع من القرى المجاورة في مركز الرابطة الفلاحية للقائنا، حيث كنّا نجتمع بالفلاح منفردًا، ما أفسح المجال أمامنا لمعرفة أوضاع عدد أكبر من القرى في المنطقة، وكثيرًا ما كنّا نلتقي مصادفة، فلاحًا من قرية أخرى كان في زيارة صديقه. وحدثت زياراتنا إلى بعض القرى مصادفة أحيانًا في أثناء مرورنا بالمنطقة، وتقديرنا أهمية القرية في التاريخ.
كان اختيار القرى التي زرناها وفق الأسس أو الطرائق الآتية:
– زيارة قرى معروفة لدينا بنضالها الفلاحي، أو بمعايشتها مشكلات مختلفة جاء في مقدّمتها اعتداء (أرباب الوجاهة والنفوذ والمال) على أراضي القرية. فلدى مراجعتنا محاضر جلسات المجلس النيابي بين عامي 1932 و1958 كنّا (نعتمد الأرشفة) أي نضع قائمة بأسماء القرى التي أرسلت برقيات إلى المجلس النيابي، أو أثار قضيتها أحد النواب. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصحف، وبخاصّة التقدّمية منها التي كانت تكتب بين حين وآخر مقالات عن الريف وتنشر العرائض الواردة من الريف. وفي كثير من الأحيان حالفنا النجاح واجتمعنا في هذه القرى بأحد الموقعين على العريضة أو البرقية المرسلة إلى المجلس النيابي والحكومة والصحف. واعتمدت خطتنا على عدم مكاشفة الفلاح بموضوع العريضة أو البرقية حتى ينتهي من حديثه.
– زيارة قرى عاشت أحداثًا مهمة أو تميّزت بغنى تاريخها الفلاحي، اقترحها علينا بعض أعضاء المكتب التنفيذي لاتّحاد الفلاحين في المحافظة أو أحد أعضاء الرابطة الفلاحية في المنطقة أو أي شخص كنّا نلتقي به.
– زيارة قرى كنّا نسمع من فلاحي القرى المجاورة أنّ أحداثًا مهمة جرت فيها، أو أنها عاشت حياة متميّزة عن غيرها.
ومن جهة أخرى اعتمدت خطتنا العامّة في الجولات على التنويع والتعرف إلى أوضاع الفلاحين، ابتداءً من قرى الملكيات الكبيرة الإقطاعية، وانتهاءً بالقرى ذات الملكيات الصغيرة المحدودة. وتوخينا -بقدر الإمكان- التنويع الجغرافي والتوزّع السكاني وأخذ عيّنات من مختلف التجمعات السكانية.
كان الخطّ العامّ المتبع في أثناء الجولات الاستماع بالدرجة الأولى إلى أحاديث الفلاحين المسنين الذين عاشوا مع الأحداث وما يزالون يتمتعون بذاكرة جيدة وذهن متوقد. وفي كثير من الأحيان استمعنا إلى فلاحين شباب رووا ما سمعوه عن (الشيّاب)، أي المسنين من أقربائهم. وعمومًا كانت اللقاءات ناجحة ومثمرة، وبخاصّة مع الفلاحين الذين راوحت أعمارهم بين الستين والسبعين، وأحيانًا الثمانين. وكان المنهج المتبع للحصول على المعلومات من الفلاحين المسنين يعتمد على الخطوط الآتية:
– الاطّلاع من الفلاح المتحدّث على حياة جده وغيره من المسنين الذين عاشوا في زمنه، وعلى هذا الأساس تمكّنا من معرفة حياة القرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
– الاطّلاع من الفلاح المتحدّث على عمل والده ومن في عمره. وهكذا كان بإمكاننا معرفة أوضاع القرية في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين.
– تقصّي حياة الفلاح المتحدّث منذ بلغ سن الوعي وبخاصّة معرفة وضعه عندما (تعرّف إلى أم العيال) أي زوجته، وهو في عمر يقارب العشرين. والسؤال عن (أم العيال) كان يفتح قلب المتحدّث لإعطاء أي معلومة يختزنها في ذاكرته. وهنا تُطرح أسئلة دقيقة على الفلاح المتحدّث تتعلق بالطعام والمسكن والحاجات الموجودة فيه، وأدوات الحراثة والعلاقات الاجتماعية والوضع الثقافي ومقدار الملكية في القرى ذات الملكيات الصغيرة والعلاقة بين الفلاح والإقطاعي في القرى المملوكة من كبار الملاك. والدخول في كيفية تعرّف الفلاح إلى (أم العيال/ زوجة الفلاح) لفلاح بلغ السبعين من العمر معناه أنّ الفلاح المتحدّث فتح لنا قلبه، ما أدّى إلى حصولنا على معلومات أدق عن وضع القرية في الربع الثاني من القرن العشرين حيث استقرت أوضاع الملكية في المراحل الأخيرة لتطوّر الإقطاعية قبل الإصلاح الزراعي في 1958.
– متابعة التكاثر السكاني في الريف عن طريق معرفة عدد الأطفال الذين أنجبهم جد المتحدّث وعمل كل منهم. ثمّ تسجيل عدد الأطفال الذين أنجبهم والد المتحدّث وعمل كل منهم، وأخيرًا معرفة عدد الأطفال الأحياء الذين أنجبهم المتحدّث وأين يعملون وكيف. وعلى هذا النحو أمكننا التعرف إلى حياة وتكاثر أربعة أجيال، بدءًا بِجَدْ المتحدّث ومرورًا بأبيه وبه وانتهاءً بأولاده.
واتبعنا المنهج نفسه في المدن في أثناء لقاء الحرفيين: من أجراء وصنّاع ومعلمين وشيوخ الكار، ما مكننا من الكتابة عن جماهير المدن.
ثالثًا: وهنا لا بدّ من الإشارة إلى كيفية نقل الكلام المروي إلى نص مكتوب بحسب المنهج الآتي:
– لم أسجل اللقاء على آلة تسجيل (كاسيت). فقد اتضح لي أنّ المتحدّث عندما يرى آلة التسجيل تتغيّر مواقفه من البوح بكل ما يعرف، ويحاول التصنّع أحيانًا، والتفكير في كلامه ما دامت آلة التسجيل موجودة. ولهذا لم استخدم آلة التسجيل حرصًا على تعميق حميمية اللقاء مع الفلاح وتهيئة الأجواء كي يتحدّث على سجيّته بعفوية مفعمة بالصدق.
– سعيتُ بقدر الإمكان إلى لقاء المتحدّث منفردًا، إذ إنّ وجود مستمعين كثيرًا ما يدفع إلى عدم الحديث عن كل شيء أمام الأقارب أو الأصدقاء الحاضرين.
– اعتمدت على تسجيل (كتابة) ما يقوله المتحدّث على دفتر أدوّن عليه ما أرى أنه مهم للبحث، وأهمل الاستطرادات إذ كنتُ في معظم الأحيان أترك المتحدّث على سجيته ليتكلم ما يعتقده ضروريًا ومهمًا. وبعد الانتهاء من استطراده أعود وأسأله ما أريد.
– غالبًا ما دوّنتُ (كتبت) على دفتري ما تحدّث به المتكلم بلغته العامّيّة وتعابيره. وعندما كانت ترد اصطلاحات مهمة لها علاقة بالعمل الزراعي أو بالعادات والتقاليد كنت أتأكد من اللفظ واستفسر عن المقصود أو المضمون من كلامه. وهذه التعابير أو اللغة العامّيّة الضرورية في إضفاء الحياة على المقابلة نقلتُها كما أوردها المتحدّث بلغته.
رابعًا: إحدى المواجهات مع يمين النظام بسبب تاريخ الفلاح
كان قبولنا في جامعة دمشق بعد عودتنا من ألمانيا الديمقراطية دونه خَرْقُ القِتَاد. ولذا عُيّنت في أيلول/ سبتمبر 1965مدرسًا للتاريخ في (دار المعلمين) في درعا. ومع التدريس وفي ظلّ أوضاع صعبة بدأت أحضّر للكتابة عن الطبقات المنتِجة من عمال وفلاحين وحرفيين ومثقّفين. وهكذا تمكّنت في 1973 من إصدار كتابين: (الاتّجاهات الفكرية في سورية ولبنان) و(الحركة العمالية في سورية ولبنان)، أوليا اهتمامًا للعلاقة الجدلية بين الطبقي العمالي والقومي الوطني.
في الوقت نفسه كنّا نحضّر وفق الإمكانات المتاحة للحركة الفلاحية. وعندما أنجزنا ما تمكّنا من تأريخه، قدّمنا الكتاب بعنوان: (المسألة الزراعية والحركات الفلاحية في سورية ولبنان 1820 – 1920) إلى اتّحاد الفلاحين للنظر في طباعته. فحوّل الاتّحاد المخطوطإلى (المكتب الثقافي) في القيادة القومية ورئيسه آنذاك جورج صدّقني.
وبعد مدة دُعيت إلى مقابلة صدقني. استقبلني مدير مكتبه طالبًا الانتظار الذي طال أمده من دون أن يكون لديه أي زائر.
وعندما سمح لي مدير المكتب بالدخول شاهدت شخصًا جالسًا على كرسيه وراء مكتبه متجهم الوجه عابسًا وكأنه يستعد لدخول معركة. لم يقف للسلام عليّ، فطار صوابي، ولا أذكر هل بقيت واقفًا أم جلست على إحدى المقاعد الوثيرة. كان أمامه المخطوط مطبوعًا على الحرير، وشرع في توجيه الأسئلة إلى وكأني في قفص الاتهام.
وأخيرًا جرى نقاش طويل حول العبودية في التاريخ الإسلامي وتبيّن لي أنّ معلوماته سطحية حول ذلك التاريخ. وعندما حَصَرْتَه فكريًا في الزاوية، انتقل فجأة بأسلوب استفزازي قائلًا: تُترجم كومونة باريس إلى العامّيّة التي تقول إنها اندلعت في جبل العرب. إنك تستورد الأفكار وتقتبس من التاريخ الأوروبي اقتباسًا حرفيًا.
فأجبته: العامّة كلمة عربية دخلت قاموس التداول السياسي في بغداد في القرن الرابع الهجري. واستخدمها فلاحو جبل لبنان مشتقين منها اسم العامِيّة، قاصدين بها تلك الانتفاضات الفلاحية، التي اندلعت في جبل لبنان في القرن التاسع عشر. اذهب إلى جبل العرب واسأل هل قامت ثورة فلاحية في الجبل؟ فيجيبك السائل على الفور: تقصد العامّيّة إنهم في الجبل يطلقون اسم العامّيّة التي قامت عام 1888 مجردًا دلالة على أهمية العامّيّة وتفرُدِها في الجبل بل في تاريخ بلاد الشام. وبعد نقاش حاد لم يترك فيه، عضو القيادة القومية لحزب البعث، مجالًا للصلح، أدرتُ ظهري وخرجتُ من مكتبه. وبعد مدة قصيرة ذهبتُ إلى بيروت، حيث نشرت (دار الفارابي) المخطوط في 1975.
وعلى الرغم من الصعاب وظروف العمل الفكري غير الملائمة استمررت في نشاطي التأريخي للطبقات الدنيا المستضعَفة. وهكذا صدر لي في 1985 في بيروت كتاب: (تحركات العامّة الدمشقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر). وتلاه في 1994 (العامّيّة والانتفاضات الفلاحية في جبل حوران). ولم أنسَ العلم النهضوي ورجل الوطنية والتحرّر الفكري عبد الرحمن الشهبندر الذي اغتالته يد الغدر الظلامية في 1940، فأفردتُ له كتابًا أهديته إلى زوجتي الطبيبة الألمانية التي كانت عونًا لي ولولاها لمُتُّ جوعًا، وجاء الإهداء كما يأتي:
” إلى زوجتي سكريد ينسن التي دفعتني للكتابة عن الشهبندر دفاعًا عن حرّيّة الفكر”.
خامسًا: تكليفي بكتابة تاريخ الفلاحين وما رافقه من مشكلات
في المؤتمر العامّ الخامس للاتّحاد العامّ للفلاحين الذي انعقد في دمشق 1981، ألقى رئيس الجمهورية حافظ الأسد (الأمين العامّ لحزب البعث العربي الاشتراكي) خطابًا جاء فيه: “وفي رأيي أنّ على كتّابنا، على أدبائنا، على مؤرّخينا، أن يسجلوا نضال الفلاحين بالقدر الذي وقع، وأن يعطوا هذه المسألة الأهمية التي تستحق”. وفي نهاية أعمال المؤتمر الخامس للفلاحين اتّخذ المؤتمر قرارًا بكتابة (تاريخ نضال الفلاحين).
وبما أنّ حزب البعث لم يكن يملك الكوادر العلمية القادرة على كتابة تاريخ الفلاحين، فقد كلفن، شفهيًا في البدء الدكتور سليمان قدّاح (رئيس مكتب الفلاحين القطري)، للمشاركة في كتابة ذلك التاريخ. لعلمه بما كتبته عن تاريخ للفلاحين. وبعد مداولات مع الدكتور قدّاح تقدّمتُ بمشروع للبحث، وتوليتُ فيه كتابة تاريخ الفلاحين من أوائل العهد العثماني حتى صدور (قانون الإصلاح الزراعي 1959).
بناء على اقتراحي شُكّلت لجنة لقراءة مخطوط الكتاب من عدد من الشخصيات العلمية من الجامعة ومختلف الوزارات برئاسة مصطفى العايد (رئيس الاتّحاد). وكان اتّحاد الفلاحين يطبع ما أكتبه من كل مجلد ويوزعه على لجنة القراءة. وبعد مدة تجتمع اللجنة ويبدي أعضاؤها رأيهم في ما كتبت. وكنت حريصًا، بل متلهفًا لسماع ما يبديه أعضاء اللجنة من ملاحظات. أصحح بعدها ما أراه مناسبًا.
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى الجهد الذي قام به عضو اللجنة الأستاذ زهير ناجي، وهو موسوعة غنية بالمعلومات ورائد في التحليل ومعرفة خبايا التاريخ، في قراءته لما كتبت قراءة متأنية رصينة وتقديم الملاحظات والإضافات التي أغنت كتاب الفلاحين. فله مني الشكر من صميم القلب لما يتحلّى به من أخلاق سامية وحب للمنتجين بسواعدهم وأدمغتهم.
بعد انتهاء هذه المرحلة دفع اتّحاد الفلاحين المخطوط إلى القيادة القطرية لحزب البعث لإجراء ما أُطلق عليه (القراءة السياسية). ولم يجرِ على المخطوط في تلك القراءة إلّا تعديلات بسيطة لا تُذكر. بعدها سلّم اتّحاد الفلاحين المخطوط الموافق عليه سياسيًا من القيادة القطرية إلى “دار البعث”، التي تولت طباعة عشرة آلاف نسخة من كل مجلد، على نفقة القصر الجمهوري.
وبسبب فقدان كرتون تجليد الكتب جرى تجليد 400 نسخة بسرعة لتوزيعها على (عِلية القوم) بمناسبة انعقاد المؤتمر العامّ السادس لاتّحاد الفلاحين في القطر العربي السوري الذي سيفتتحه رئيس الجمهورية حافظ الأسد صاحب المبادرة في المؤتمر السابق لكتابة تاريخ الفلاحين.
جرى حفل افتتاح المؤتمر العامّ للفلاحين في قاعة الفيحاء بدمشق في ربيع 1986. وشاهد المتابعون على التلفاز كيف قدّم مصطفى العايد (رئيس الاتّحاد العامّ للفلاحين) كتاب (تاريخ الفلاحين) إلى رئيس الجمهورية. ولكن بعد مدة بدأتُ أشعر بأنّ أمرًا خفيًا أجهله يقف حائلًا أمام توزيع الكتاب. ومن خلال جمع المعلومات وإجراء اللقاءات بدا واضحًا لي أنّ (القصر) غيرُ راضٍ عن المجلدات الثلاثة التي ألّفتُها.
وبعد مدة دُعيت إلى القيادة القطرية من أجل تصحيح كلمات أو فقرات وأحيانًا صفحات، أو تعديلها أو حذفها بشرط أن يبقى ترقيم الكتاب كما هو. وتُوضع الصفحات الجديدة المعدلة مكان القديمة غير المرضي عنها بحسب تخمين القيادة القطرية الحائرة في أمرها وتقديرها، وهي لا تعلم سبب عدم رضى القصر عن كتاب التاريخ، حائرة ماذا تفعل وحَذِرة من خطوة تخطوها بشأن الكتاب لا ترضي القصر.
وبعد مدة دُعيت ثانية إلى القيادة القطرية، وطُلب منّي الحذف أو التعديل في الأمور الآتية:
– حذف ما ورد على لسان حسني الزعيم عام 1949 في ما يتعلق بالإصلاح الزراعي. وكان هدف كاتبي البيان لصاحب الانقلاب العسكري الأول التودد إلى الفلاحين وتبرير الانقلاب وإيهام الفلاحين بخلاصهم من حكم كبار ملاك الأرض. ولهذا من غرائب الزمن أنّ تقام مناحات للنساء حزنًا على مقتل الزعيم أوردتُ ما سمعته منها في المجلد الثاني.
– حذف كل ما يتعلق بالسياسة الزراعية لرئيس الجمهورية أديب الشيشكلي، وحذف البرنامج الزراعي لحزب التحرير العربي، حزب أديب الشيشكلي. لأنّ هذا البرنامج كما قال لي أحد اعضاء القيادة القطرية مُتَقَدِّم على البرنامج الزراعي لحزب البعث.
– حذف ما كُتب عن الإخوان المسلمين وموقفهم من المسألة الزراعية. والكتاب تناول أمورًا إيجابية لبعض قادة الإخوان المسلمين وبخاصّة محمد المبارك. والحديث عن سياسة الإخوان المسلمين أصبح من المحرمات.
– حذف محاضر جلسات المجلس النيابي التي أبدت رأيًا في القوانين الزراعية مثل (قانون أملاك الدولة) و(قانون العشائر) وغيرهما. وكان الكتاب يستند كثيرًا إلى مداولات المجلس النيابي (البرلمان).
– حذف اسم هنا وعبارة هناك، لا تشكّل في رأيي قضية تستحق الأخذ والعطاء. ولكن هاجس أعضاء القيادة القطرية وخوفهم من غضب (القصر) دفعهم إلى الحذف خبط عشواء.
سادسًا: تساؤلات حول إتلاف كتاب (تاريخ الفلاحين) بعد طبعه
أخذ كثير من المهتمين بشؤون السياسة والثقافة يطرحون عليّ سؤال: (لماذا مُنع الكتاب؟). وكنت حذرًا في الإجابة التي اتّخذت أوجهُا عدة بحسب موقع السائل.
والواقع أنّ المعلومات المتوفّرة لديّ شحيحة بصورة لا تمكّنني من تقديم الإجابة الشافية. وكاتب هذه الأسطر لا يعلم حتى اليوم سبب منع الكتاب، ولكن يُمْكِن -بحسب تقديري- نظريًا سرد الأسباب والتساؤلات الآتية:
– هل عدم ذكر حافظ الأسد والإطناب في مدحه والإشادة بمنجزاته، كان سببًا خفيًّا لعدم الرضى عن الكتاب؟ مع العلم أنّ اتّحاد الفلاحين نشر في أول كل نسخة صورة غطّت الصفحة لحافظ الأسد، وإهداء منهم.
– هل هناك رغبة في طمس تاريخ سورية قبل 8 آذار/ مارس 1963؟، وافتراض أنّ التاريخ يبدأ مع (ثورة الثامن من آذار) وتحديدًا بعد قيام (الحركة التصحيحية) التي قادها الرفيق المناضل حافظ الأسد في تشرين الثاني/ نوفمبر 1970؟
– إذ يبدو أنّ كثيرًا من (ثوار) العالم الثالث، وحتى من ثوار العوالم الأخرى، يرون أنّ التاريخ يبدأ مع قيام (ثوراتهم) وما قبلها (جاهلية) وظلام وضلال.
– هل كان مستشارو (القصر) غير مدركين للعلاقة الجدلية بين القديم والجديد؟ هل يجهلون دور البورجوازية السورية في العداء للإقطاعية والتحالف معها من جهة أخرى بسبب تشابك المصالح الاقتصادية بينهما؟ هل لا يستطيعون رؤية الدور التاريخي التقدّمي لبعض شرائح البورجوازية في حِقَب ماضية؟
– هل الاستناد إلى جلسات المجالس النيابية بين عامي 1933 و1958 هو أحد الأسباب للمنع؟ والقارئ سيقارن بين تلك الجلسات العامرة بالحيوية والنقاش والنقد وإصدار التشريعات و(مجالس الشعب) الخاوية التي قامت بعد 1970.
– هل ما كتبته من وقائع عن دور أكرم الحوراني زعيم الحركة الفلاحية في أواسط سورية لم يُرضِ القصر؟ هذا مع العلم أنني كنت حذرًا والتففت على دور أكرم الحوراني (المغضوب عليه من النظام) وحركته المناهضة للإقطاعية الكبيرة، من دون طمس الحقائق. وكان الملاحظ في أثناء الجولات الميدانية أنّ الفلاحين العلويين كانوا الأكثر تعلّقًا بحركة أكرم الحوراني، وهذا ما سردته في الكتاب مع تحليل الأسباب.
– هل التحليل الطبقي وكشف الاستثمار الإقطاعي واستثمار الفئات البيروقراطية والطفيلية التي أعقبت استثمار الإقطاعية القديمة لم يُرضِ بعضهم وشعروا باستهدافهم لأنهم خلفاء الاستغلال السابق؟ فكما جاء في كتاب تاريخ الفلاحين أنّ “كبار العساكر.. وكبار الموظفين.. وكبار رجال الدين.. والتجار.. وشيوخ العشائر نهبوا -بعد قانون الأراضي لعام 1858 ورديفه قانون تسجيل الأرض (الطابو)- الأراضي من الفلاحين وسجلوها ملكيتها لهم. فالإسقاطات التاريخية في كتاب الفلاحين تبيّن للقارئ دون عناء أنّ (الطبقة الجديدة) التي نشأت في الربع الأخير من القرن العشرين سارت على الطريق نفسه في التملك وخزن الأموال والاستغلال والاستثمار الذي سلكه كبار ملاك الأرض الإقطاعيين، الذين شملهم الإصلاح الزراعي”.
لم تكن التحركات الشعبية التي اندلعت في 2011 إلّا احتجاجًا على نهب (الطبقة الجديدة) بمختلف مذاهبها وطوائفها للمال العامّ. ولكن انزلاق التحركات الشعبية نحو العسكرة والتدخلات الإقليمية والدولية حوّلت هذه التحركات ظاهريًا إلى (صراع مذهبي) نكتوي بناره الحارقة.
معنى ذلك أنّ المجلدات الثلاثة بوقائعها الدامغة وتحليلاتها الموثّقة والمقْنِعة تُقَدِّم -بحسب رأيي- للقارئ زادًا فكريًا وتنير أمامه السبيل لفهم الحاضر من خلال أحداث الماضي. فهذا (السِفر الفلاحي) الذي ألقى الأضواء على الصراع الاجتماعي بين من يملكون ولا يعملون ومن يعملون ولا يملكون، واضح المعالم، ويدفع بالمستغِلين من كل لون ومذهب إلى طمس كل ما يشير إلى التحرّر والعدالة الاجتماعية.
في نهاية المطاف صدر الأمر بمنع تداول كتاب (تاريخ الفلاحين) ونقل مجلداته إلى معمل الورق في دير الزور لاستخدامها كعجينة لورق جديد.
سابعًا: إعادة طبع كتاب (تاريخ الفلاحين) من دون استشارتي مترافقًا مع الحذف العشوائي للثلث.
جرت إعادة طباعة كتاب (تاريخ الفلاحين )مرة ثانية مشوّهًا بالحذف العشوائي. وما يزال سرُّ منع الكتاب غامضًا. ومن خلال متابعتي وجمع الأخبار يمكن القول: إنّ سرّ منع كتاب تاريخ الفلاحين لا يعلم به إلّا سيد القصر، ولم يَبُحْ به لأحد بحسب علمي. وفي ما يأتي ثلاثة براهين:
حدّثني السيد محمد ميهوب (رئيس مكتب الثقافة في اتّحاد الفلاحين) والمشرف على إعداد الكتاب للطبع، أنه سأل، معاتبًا، الدكتور أحمد درغام (عضو لجنة القراءة لكتاب تاريخ الفلاحين) الذي ارتقى إلى (مدير المكتب الثقافي في القيادة القطرية)، عن سبب منع الكتاب. فأجاب درغام: “لقد ظُلمتم في هذا المنع”، وميم الجماعة تعود على أعضاء اتّحاد الفلاحين الذين كانوا متحمسين وفرحين بصدور كتابنا.
– ومن خلال ما رشح لي من أخبار أنّ أعضاء القيادة القطرية لم يكونوا مرتاحين لمنع الكتاب وغير عارفين لأسبابه، ولكن التجارب علّمتهم التكتم والسكوت حرصًا على كرسي القيادة القطرية الذي يجلب لهم المنافع. الوحيد الذي أعلن بصراحة ومن دون خوف عن معارضته منع الكتاب هو الدكتور عبد الرؤوف الكسم (عضو القيادة القطرية) في ذلك الحين، و(رئيس مجلس الوزراء) في وقت لاحق.
– مصطفى العايد (رئيس الاتّحاد العامّ للفلاحين)، وهو من قرية (سلوك) بالقرب من تل أبيض- أتى إلى الرقة رئيسًا لاتّحاد المحافظة. وبعد مدة انتُخب رئيسًا للاتّحاد العامّ. وكان يردّد في أثناء اجتماع لجنة القراءة برئاسته أنّ كلمة واحدة لن تحذف مما تكتبون. وكنت أضحك في سري لأنني ذقت المر من الرقابة الصارمة التي لا تخلو من همجية ممّن في يدهم قلمها.
عندما انتشرت الشائعات حول منع القصر للكتاب، زرتُ العايد في مكتبه، وفي أثناء الحديث قلت له: إنّ الكتاب مُنع. فانتفض بعفوية وأجابني بحزم: “الكتاب لن يُمنع.. قريبًا سنجتمع مع السيد الرئيس وسأتحدّث بهذا الشأن”. وكان صادقًا في كلامه وواثقًا أنّ الرئيس سيستجيب له.
ومرت الأيام وجرى اجتماع المكتب التنفيذي لاتّحاد الفلاحين مع الرئيس ولا أعلم ماذا جرى في أثناء الاجتماع. ولكنّ الذي أعلمه ويعلمه الجميع أنّ الكتاب بنسخته الأصلية مُنع، وجرت تعديلات وحذف، وطُبع الكتاب مرة ثانية مشوّهًا كما ذكرنا.
ثامنًا: عدم الاستسلام
هل يستسلم المؤرّخ الفلاح الذي لم يكن يبغي منصبًا، ويكتفي بما قسمه الله له، وديدنه، بل همّه، كشف الاستغلال والاضطهاد. وكان يحلم بإقامة مجتمع عربي موحّد ترفرف عليه راية الحرّيّة والمساواة؟
لم يستسلم الفلاح المؤرّخ كاتب هذه الأسطر للمصير المُخجل الذي حلّ بكتابه تاريخ الفلاحين. فشدّ العزيمة ورفع البيرق المناهض للظلم والمنادي بحرّيّة التفكير، وتمكّن من إحياء فصول من الكتاب المُباد في مؤلّفين هما:
غلاف كتاب الفلاحون وملاك الأرض في سورية القرن العشرين
مقتطفات من (كتاب تاريخ الفلاحين المُباد) أعدّتُ صياغته، وهو الذي نشرته دار الطليعة في بيروت بفضل شهامة صاحبها الدكتور بشير الداعوق بعنوان: (الفلاحون وملاك الأرض في سورية القرن العشرين). وكان المفكر الراحل صادق جلال العظم صاحب المبادرة في إيصال المخطوط إلى دار الطليعة في بيروت. وبعد مدة ذهبت لزيارة الداعوق وفوجئت بإعجابه بالمخطوط وكيل المديح له. ولما قلت له إنّ للكتاب مشكلة في سورية أجابني بحزم: ممنوع مسموح سأنشر الكتاب. ووفى بوعده.
وبعد مدة جمّعتُ مقتطفات أخرى من كتاب تاريخ الفلاحين ونشرته من دون أخذ موافقة وزارة الإعلام في دار نون الحلبية، بعنوان: (الفلاحون يروون تاريخهم في سورية القرن العشرين). ولاقى هذا الكتاب رواجًا، في معارض الكتاب، أذهل صاحب دار النشر محمود الوهب.
وكاتب هذه الأسطر على يقين بأنّ كتاب تاريخ الفلاحين سيجد طريقه ثانية إلى النشر. فما يزال لأهل الخير والمروءة مكان في كوكبنا.
تاسعًا: منهجية المؤرّخ الماركسي عبد الله حنا
درج معظم مؤرّخي ما قبل العهود الرأسمالية وعدد من مدارس التاريخ البورجوازي على الاهتمام بتاريخ حياة الملوك والسلاطين ورجال البلاط والزعماء والوجهاء مفترضين أنّهم صانعو التاريخ ومبدعو الحضارة. ومع أنّ مدارس التاريخ البورجوازي المتنورة أولت اهتمامًا خاصًّا لتاريخ الجماهير، لكنّها لم تسلط الأضواء بصورة كافية، على تاريخ الاستثمار، ووسائل استعباد مالكي أدوات الإنتاج لمبدعي الحضارة الحقيقيين.
ومن هذا المنطلق أولينا هنا -في تأريخنا للحركة الفلاحية- اهتمامًا خاصًّا للمنتجين الحقيقيين في الريف. وكان الاهتمام منصبًّا على تدوين تاريخ أولئك الفلاحين -وبخاصّة الفقراء منهم- كما سمعناها من أفواههم في أثناء جولاتنا لجمع بعض مصادر، بل المصدر الأول، للتاريخ الفلاحي. وأقوال الفلاحين البسطاء المنتجين تُشَكِّلُ مادة أولية للباحثين في تاريخ الجماهير وقاع المجتمع المتعدّد الألوان والمشارب. ولا شكّ في أنّ إغناء هذه المادة من الأجيال القادمة من الباحثين من أبناء المناطق الريفية سيساعد في فهم كيفية حياة هذه الفئات الدنيا وتحركاتها وإدراك معاناتها، ومن ثم تاريخها شبه المطموس أو المحرّف. فنادرًا ما اهتم المؤرّخون للأرياف العربية بحياة الفلاحين وبخاصّة المنتجين والفقراء منهم. وقد أتيحت لنا الفرصة في أثناء جولاتنا الميدانية في عامي 1984 و1985 أن نلتقي -كما ذكرنا- بعدد كبير من الفلاحين المتوسطين والفقراء، الذين اعتمدنا على معلوماتهم لكتابة تاريخ المسألة الزراعية والحركات الفلاحية في النصف الأول من القرن العشرين، وحتى نهاية خمسينيات ذلك القرن. وقد اخترنا عددًا ممّن التقينا بهم من هؤلاء الفلاحين الذين تكلموا بصدق وصراحة عن حياتهم المغمّسة لقمتها بعرق العمل والجهد الشريفين. ونقلنا ما سمعناه من أفواه هؤلاء من دون تحوير أو إضافة، إلّا ما تعلّق بنقل اللغة العامّيّة إلى الفصحى أو العامّيّة المفصّحة، أو الشرح والتعليق كي يفهم القارئ الظروف المحيطة بالأحداث. ووضعنا بين قوسين كلام الفلاح حرفيًا إذا اقتضت ضرورة المعنى ذلك للحفاظ على التعابير العامّيّة المتداولة بين الناس وهي آيلة إلى الزوال، وبعضها قد اختفى.
رصد كتاب تاريخ الفلاحين كيفية تملك المتنفذين للأرض واستغلالهم للفلاحين، وقيام هؤلاء بتحركات وانتفاضات فلّاحية ندر أن أشارت إليها كتابات الطبقات المستغِلّة. وقد تتبعنا في هذه الدراسة عملية تملك الأرض منذ منتصف القرن التاسع عشر مع قيام الإصلاحات في الدولة العثمانية. وألقينا الأضواء على كيفية استيلاء الأقلية (ذات النفوذ) على الأرض، كأداة إنتاج رئيسية في ذلك الحين، وحرمان الأكثرية منها، ومن ثمّ إجبارها على العمل في الأرض لمصلحة الأقلية غير المنتجة والمستغِلّة والمتنعمة في العيش في القصور سواء في المدن أو الأرياف.
-المفهوم الأول مفهوم الإقطاعيينوأزلامهم وأحفادهم ومؤرّخيهم، وكل من يريد إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. وهؤلاء يروْن أنّ الأمر في غاية البساطة وهو من سُنّة الحياة وحقٌّ لأولي الأمر عندما يجري تحويل الفلاحين المالكين للأرض أو المتصرفين فيها إلى فلاحين مرابعين (محاصصين) أي تحويلهم إلى أشباه عبيد يدفعون -إضافة إلى العشر- ربع المحصول وعددًا من الإتاوات. مؤرّخو المفهومات الإقطاعية يتجنبون الحديث عن كيفية تسجيل الأراضي بأسماء المتنفذين غير المنتجين في غفلة من أصحاب الأرض من الفلاحين. فهؤلاء يسجلون الأرض معلنين أنهم يسيرون وفق أحكام الشريعة بحسب رأيهم، وهم يفهمون الدين ويفسرونه بحسب مصالحهم وما تمليه عليهم جيوبهم المتلهِّفة إلى جمع الثروة من تعب الفلاحين وعرقهم.
-المفهوم الثاني مفهوم الفلاحين وأنصارهم ومؤرّخيهم الذين يفهمون الدين ويفسرونه بصورة معاكسة لمفهوم الإقطاعيين والداعين إلى كل ملكية خاصّة مستغِلّة، هؤلاء يرون أنّ الاعتداء على ملكية الفلاحين وتحويلها إلى ملكية إقطاعية خاصّة أمر مخالف للدين وأحكامه. ويرون أنّ عودتهم إلى الأرض أي إلى تملكها، بصورة فردية أو تعاونية، هو الدين الحنيف بمعانيه الجلية.
ومن هنا فإنّ الفلاحين في عهود الاحتلال الإقطاعي العثماني الذين لسعتهم سياط الإنكشارية ومرتزقة جباة الضرائب والذين تحوّلت أراضيهم في أواخر عهد الدولة العثمانية إلى ملكية إقطاعية بعد أن سُرقت منهم، وتحوّلوا من فلاحين أحرار إلى فلاحين مرابعين، إلى أنصاف عبيد. رأى هؤلاء الفلاحون -ويرون- في الدولة العثمانية دولة ظلم واستبداد، لم تكن إلّا أداة في يد المستأثرين بأموال الضرائب أولًا وكبار الملاك الإقطاعيين ثانيًا. ولم يختلف الأمر في عهدي الانتداب والاستقلال.
يُغطّي كتاب تاريخ الفلاحين مئة سنة من عمر العلاقة بين ملاك الأرض والفلاحين، بدأت بـ قانون الأراضي العثماني لعام 1858 الذي شَرْعَنَ الملكية الإقطاعية بشكلها الجديد في مرحلة انتصار الرأسمالية عالميًا، وأدّى إلى ظهور طبقة ملاك الأرض الإقطاعيين. وجاء قانون الأراضي الفرنسي لعام 1930 ليضع نظامًا جديدًا لتسجيل الأراضي وعدّها سلعة، يمكن تسليف الأموال عليها لتحسين حراثتها وزراعتها. وقد رسّخ هذا القانون الملكية الإقطاعية للأرض وزاد من عدد ملاك الأرض، ولكنّه في الوقت نفسه دفع باتّجاه توسّع الملكية الفلاحية وبخاصّة ملكية وجهاء الريف على حساب الملكيات الفلاحية المتوسطة والصغيرة. ومعنى ذلك أنّ أشكال الملكية الزراعية لم تتغيّر في عهد الانتداب الفرنسي تغييرًا جوهريًا عمّا كانت عليه في أواخر العهد العثماني. وكانت مرحلة الاستقلال الوطني (1943 – 1958) استمرارًا للمرحلتين السابقتين في استيلاء أصحاب النفوذ على أراض جديدة وتكوّن طبقة كبار الملاك ومتوسطيهم وتبلورها، إذ شملتهم قوانين الإصلاح الزراعي بين عامي 1958 و1963 وهذه القوانين نزعت الغطاء الشرعي المقدس لملكية الأرض الإقطاعية، ووزعت الزائد من سقف الملكية المحدد بالقوانين الجديدة على الفلاحين. ولم تمر هذه القوانين من دون مقاومة إقطاعية وصدام بين الفلاحين المنتفعين وكبار ملاك الأرض.
وكنّا نتمنى المتابعة الميدانية لذيول الإصلاحات الزراعية وما نتج منها من بنى اجتماعية ريفية جديدة سرعان ما تبدلت معالمها مع هجوم الليبرالية الجديدة وملحقاتها من فئات طفيلية وبيروقراطية. ولكن مَنع كتاب تاريخ الفلاحين أو بالأصح تشويهه، وتوقّف اتّحاد الفلاحين عن الاستمرار في التأريخ للفلاحين أضاع على الفلاح المؤرّخ الديرعطاني كاتب هذه الأسطر فرصة متابعة ما بدأه ميدانيًا من جمع للتاريخ المروي والغوص عميقًا في البنى الريفية التي أصابها التغيير، وشتان بين فلاح ما قبل الإصلاح الزراعي وفلاح ما بعده، وهذا الفلاح الجديد بحاجة إلى تسمية جديدة ليس بمقدورنا التنَطُّح لها. تاركين لمؤرّخي المستقبل متابعة التغيّرات التي جرت في البنية الريفية بعد الإصلاحات الزراعية والتغييرات الجارية في عملية تملّك الأرض.
كان كاتب هذه الأسطر يحلم أن يرى قبل رحيله إصلاحًا اجتماعيًا يعيد المنهوبات إلى أهلها من عباد الله المنتجين بسواعدهم وأدمغتهم. وجاء ربيع دمشق ليدغدغ أحلامه بقرب نهاية الأعيان الجدد. واندلعت التحركات الشعبية في آذار/ مارس 2011 وكان الرجاء معقودًا عليها للسير في البلاد في طريق النضال السلمي المناهض للإقطاعية الجديدة والوصول إلى إصلاح اجتماعي متمم للإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين. وفي الوقت نفسه تدخل سورية في عهد دولة وطنية ديمقراطية مدنية لجميع أبنائها بوصفهم مواطنين مصونة كرامتهم ويسود العدل في ربوعهم.
وشاءت الأقدار أن تنزَلق التحركات الشعبية السلمية نحو العمل المسلّح الذي اتّخذ وجهًا طائفيًا ومذهبيًا أزال -بل جَرَفَ الوطنية الجامعة،- وأوصل البلاد إلى التمزّق، وقاد العباد إلى الموت والتهجير والضياع والشقاء.
ينظر النقاد إلى كتاباتكم البحثية بوصفها إعادة قراءة للمشهد منذ نهاية الحكم العثماني مرورًا بالاستعمار ثمّ الاستقلال وصولًا إلى حكم البعث وآل الأسد، وهي قراءة تنفي سردية النظام الشمولي الذي استأثر بالحكم أكثر من خمسة عقود، ويتبنى رواية واحدة لتاريخ البلاد بما يخدم أيديولوجيته وسياساته.
إلى أيّ حدٍّ يُمكن لهذه البحوث والدراسات أن تخلّص المجتمع السوري من موقف الاستلاب والتبعية العمياء التي يخضع لها منذ عقود طويلة؟ ومن ثمّ ما السبل الكفيلة في رأيكم، لإحداث قطيعة كاملة مع خمسين عامًا من الانحطاط التاريخي الذي تولد بسبب العصبية الطائفية الحاكمة لسورية، للوصول إلى سورية المشتهاة في المستقبل المنظور؟ وكيف هو المخرج لإنهاء الصراع السوري- السوري؟
سؤالكم طويل ويتفرع في جداول مختلفة. ولا بدّ من تجزئته والإجابة عنه.
لم تقتصر دراستي على فترة حكم الأسدين، بل امتدّت، كما جاء في سؤالكم، من أواخر الحكم العثماني أواخر القرن الناسع عشر ومستهل القرن العشرين، وأعقبها قيام الدولة الوطنية العربية في بلاد الشام بين عامي 1918 و1920 التي ترأسها الأمير والملك فيصل بن الحسين شريف مكة. تلا ذلك الاحتلال الاستعماري الفرنسي لسورية والبريطاني لفلسطين وشرق الأردن. ثمّ بدأت مرحلة الاستقلال الوطني في 1943 وهي تتألف من مراحل عدة آخرها مرحلة الأسد الأب 1970 ثمّ مرحلة الابن التي ما تزال قائمة حتى الآن ربيع 2021.
النظام الشمولي الذي اتصفت به مرحلة الأسدين، لا يمكن تناوله، بالنسبة إلى مؤرّخ عاش هذه المرحلة وما يزال، تناولًا عميقًا وتفصيليًا لأسباب كثيرة.
فالنظام الشمولي في كل بلد عربي يُبتلي به، نرى المؤرّخين في ظلّ هذا النظام يتبعون إحدى الطرائق الآتية:
– تدوين الأحداث كما يحلو لحكام النظام قراءتها.
– السكوت والصمت وهو بحدِّ ذاته موقف
– اتباع طرائق متعدّدة تدوّن مباشرة أو بقراءة ما بين السطور لتوضيح الأحداث تجنبًا لقلم الرقيب.
– التدوين بصراحة وهذا لا يحدث إلّا إذا كان المؤرّخ خارج حدود النظام الشمولي.
– بعضهم يرفع سيف المعارضة ويكتب ما شاء كتابة إنشائية بصورة غير مسؤولة. وهذا ما يتبعه كتّاب معارضون للنظام. ولكن هذا ليس تأريخًا بل كتابة سياسية.
– كاتب هذه الأسطر سعى ما استطاع إلى تدوين التاريخ المعاصر بنفس يتحسس مشاعر المضطهدين والمظلومين ويسعى لإلقاء الأضواء على المستغِلين والمتملقين وخدم كل نظام، وتتبع سياسة النظام الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وكشف ما ينفع الناس وما يضرهم بقدر الإمكان، من دون أن يغرق في بحار لا قرار لها، تاركًا الغامض والأمور الحساسة لمؤرّخي المستقبل.
أعود إلى سؤالكم: ما السبل الكفيلة برأيكم، لإحداث قطيعة كاملة مع خمسين عامًا من الانحطاط التاريخي الذي تولد بسبب العصبية الطائفية الحاكمة؟
والجواب كما أرى لا يمكن بين ليلة وضحاها إحداث قطيعة سريعة مع المراحل السابقة. ولم أستوعب المقصود من الانحطاط التاريخي الذي ورد في سؤالكم.
أما العصبية الطائفية فمجتمعاتنا العربية تعيشها مع العصبيات المذهبية والعشائرية والعائلية والمناطقية وهي من مخلفات النُظم ما قبل الرأسمالية في مجتمعات عربية لم تستطع تحقيق الثورة البورجوازية التي عرفتها البلدان الأوروبية. فالثورة البورجوازية الأوروبية جرفت أفكار النظام العبودي والإقطاعي وأخلاقه، وأحلّت مكانها أفكار الثورة الفرنسية في الحرّيّة والعدالة والمساواة.
ولكنّ هذه المبادئ خضعت لسيطرة رأس المال ومفهوماته، وردًا على ذلك انتعشت التيّارات الاشتراكية المنادية بتوزيع الثروة بالتساوي تبعًا لما يقدّمه كل إنسان للمجتمع.
وثورة تشرين الأول/ أكتوبر 1917 في روسيا القيصرية جسّدت أحلام الأجيال السابقة في تحقيق عدالة اجتماعية متحرّرة من سيطرة رأس المال. وقد امتدّ تأثيرها إلى معظم أصقاع المعمورة. لكن أسبابًا عدة، لا مجال لذكرها هنا، أحبطت أحلام البشرية في التحرّر من ربقة رأس المال وطغيانه. وكانت النتيجة التي تعرفونها بانهيار الاتّحاد السوفياتي وخمود الاشتراكية، إلى زمن، نأمل ألّا يكون طويلًا.
وأرجو الرجوع إلى كتابي: المجتمعان الأهلي والمدني في الدولة العربية الحديثة. المطبوع في دمشق. ففيه إجابات عن كثير من أسئلتكم وما يدور في خلد الناس الذين يعيشون القلق وانتظار المجهول.
سورية من استبداد العساكر إلى استبداد الأصوليات الدينية
حديثنا معكم يقودنا إلى الحديث عن الشأن السوري الملتهب. سؤالنا: كيف تقرؤون المشهد السوري الآن، مع بقاء بشار الأسد في سدّة الحكم بعد عشر سنوات من الثورة ضد حكمه الاستبدادي الشمولي الطائفي الفاسد، وحالة الترهل التي تعانيها المعارضة السورية، بل المعارضات، في ظلّ وجود خمسة جيوش محتلّة وعشرات الميليشيات الطائفية؟
قراءة المشهد السوري كما تسمّيه بحاجة إلى الرجم بالغيب في ظلّ الظروف التي تعيشها بلدان العالم العربي، وما جرى من تقطيع أوصال سورية.
وحتى لا نبقى في عالم الغيب، أُفضل أن يُطرح السؤال على النحو الآتي:
كيف تقرؤون مرحلة حكم البعث بقيادة العسكر منذ 8 آذار/ مارس 1963 وحتى اليوم؟
والجواب: يمكن تلخيص هذا الحكم بعناوين وفقرات مهمة مما أسميته المشهد السوري:
أولًا: توطئة في دور العساكر، الذي بدأ مع الانقلاب العسكري للزعيم حسني الزعيم وما تلاه من انقلابات كانت ترفع شعارات تحرير فلسطين وتقمع أي تحرك باسم تحرير فلسطين.
وبعد فشل العسكر في التحرير حلّ محلّهم لتحرير فلسطين شيوخ الأصوليات الدينية وفقهاؤها مستفيدين من جملة عوامل داخلية وخارجية لكسب جماهير واسعة مستاءة من حكم العسكر وتهفوا بأبصارها إلى من يوصلها إلى قارب النجاة. ويتساوى زعماء الأصوليات الدينية هؤلاء مع العسكر باستخدام وسائل الضغط والإكراه والتضييق على الحرّيّات، وهم يبزّون العساكر في تغييبهم للعقل والتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون البشر. وكأن قدر العالم العربي الانتقال من استبداد العساكر إلى استبداد الأصوليات الدينية، ويذهب هباء منثورًا جهد دعاة النهضة العربية والتنوير الإسلامي.
ثانيًا: تفكُك حزب البعث العربي الاشتراكي بعد الوحدة واحتلال جناحين منه السلطة (جديد – الأسد)
ظنّ القائد الفعلي للحكم البعثي اليساري اللواء صلاح جديد أنّ حزب البعث -الذي أولاه اهتمامًا خاصًّا وعقد عليه الآمال- سيحميه من منافسه قائد القوى الجوية ووزير الدفاع بالوكالة اللواء حافظ الأسد. ولكن أكثرية أعضاء الحزب الموالين للواء صلاح وخطّه (في الاعتماد على قوى الحزب المدنية) سرعان ما تراجعوا عندما تبيّن لهم انحياز معظم قادة القطعات العسكرية لحافظ الأسد حيث جرى الانقلاب العسكري من دون إراقة دماء.
(كان يطلق على المغيّر لموقعه بسرعة سائرًا مع المنتصر كلمة كَوّعْ من كوع اليد. أي انعطف بسرعة في سيره ولم يسر في خط مستقيم. فهو انتهازي يقتنص الفرص لتحقيق مصالحه).
أطلق أنصار حافظ الأسد على حركته اسم الحركة التصحيحية. وأخذ من سار مع الأسد قناعة، أو من انضمّ إليه انتهازية بسبب نجاحه في انقلابه العسكري، يسبّح بحمد الحركة التصحيحية التي قادها الرفيق المناضل حافظ الأسد وهم يتغنون بعطاءاتها من دون الإشارة إلى مصدر هذه العطاءات المالي وهو الدولار النفطي المتدفّق من السعودية ودول الخليج لدعم حكم الأسد قاهر اليسار والمرضي عنه أميركيًا.
لم يَسِرْ جميع أعضاء حزب البعث مع النظام الجديد. فالمخلصون لمبادئهم لم يرفعوا راية الاستسلام وكان نصيبهم الاعتقال والسجن من دون محاكمة، مددًا وصل بعضها إلى أكثر من خمس عشرة سنة. ونذكر هنا على سبيل المثال رئيس الدولة (قبل انقلاب تشرين الثاني/ نوفمبر 1970) الدكتور نور الدين الأتاسي الذي ذاق مرارة سجن تدمر وكان طالبًا جامعيًا في أيام حكم أديب الشيشكلي 1953، ولهذا لم ترهبه السجون وبقي منسجمًا مع قناعاته رافضًا الاستقالة من منصبه. ولم ينكّس الأتاسي راية النضال التي اعتنقها وتوفي في السجن بعد أن أمضى فيه ردحًا طويلًا. والمصير نفسه، أي الموت في السجن من دون محاكمة، لاقاه اللواء صلاح جديد الذي كما سمعت من كثيرين أنه أراد بناء حزب مبدئي انضباطي ولم يستخدم نفوذه للحصول على أيّ امتياز بعكس كثير من ضباط الجيش من أقرانه.
وقصة إلقاء المعارضين أو المحتجين على أساليب الحكم والمطالبين بالإصلاح معروفة بإلقائهم في غياهب السجون من دون محاكمة.
ثالثًا: اللواء حافظ الأسد في قمة السلطة تشرين الثاني/ نوفمبر1970
كان وراء نجاح حركة حافظ الأسد عوامل كثيرة أهمها:
– استياء البورجوازية التجارية وخوفها من سياسة يساريي البعث وضجيجهم ودعوتهم إلى حرق المراحل وإقامة الاشتراكية، ولهذا فعندما نجح انقلاب حافظ الأسد رفع تجار سوق الحميدية اللافتات المؤيدة للانقلاب الذي سُمِّي الحركة التصحيحية. وأذكر منها نص اللافتة التالية: طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد. ويمكن القول إنّ الكتل السنيّة الميسورة سارت مع حافظ الأسد آملة في تحقيق أمرين: كسر شوكة العلمانية التي اتبعها والخلاص من الاشتراكية التي سار عليها الحكم المزاح من الأسد.
– عدم ارتياح الاتّحاد السوفيتي من ضجيج اليسار البعثي واشتراكيته.
– نظرت الدول العربية -وبخاصّة النفطية منها- بعين القلق إلى السياسة اليسارية البعثية وأصبح لها مصلحة في الخلاص منها. ولهذا أغدقت الأموال لمساعدة النظام بما يتناسب مع مصالحها. وكان الأسد كريمًا في العطايا لكسب الطامعين والطامحين في الصعود إلى الأعلى.
– ليست لدينا معطيات عن موقف الولايات المتحدة من نظام الأسد الجديد.
– ساهمت الهزيمة العسكرية التي مُنيَ بها الجيش السوري في حرب حزيران/ يونيو 1967 واحتلال إسرائيل للجولان إضافة إلى الضفة الغربية وسيناء، في إضعاف اليسار البعثي، وفي صعود اللواء حافظ الأسد على الرغم من أنه كان وزير دفاع الجيش المهزوم.
– لم تكن القوى الطبقية المستفيدة من الإصلاح الزراعي والتأميم وغيرها من الإجراءات الاجتماعية على وعيٍ ومقدرة على الدفاع عن المنجزات المتحقِّقَة، إضافة إلى أنّ قائد الانقلاب لم يمس هذه المنجزات عندما وصل إلى سدّة الحكم.
رابعًا: الجمهورية العربية السورية في عهد البعث
تميّزت السنوات الأولى من حكم البعث بعد 8 آذار/ مارس 1963بإجراء سلسلة من تأميمات رأس المال الكبير (والكبير هنا أمر نسبي) وإصدار قوانين الإصلاح الزراعي وتوزيع أراضي كبار الملاك على الفلاحين.
أول قانون للإصلاح الزراعي صدر في 1958 في عهد الوحدة. وجاء برلمان الانفصال الذي حجّم قانون 1958، وحاول إعادة بعض الأراضي الموزّعة. ولكن الضغط الجماهيري الفلاحي أعاد بالمرسوم رقم 2 العمل بقانون عام 1958.
بعد استلام حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة صدر في 1963 المرسوم رقم 88 مخفّضًا سقف الملكية الزراعية. تلاه مرسوم آخر صدر عام 1966 سرّع في عملية الاستيلاء على أراضي المشمولين بالإصلاح الزراعي، أي الإقطاعيين، وسهّل عملية توزيعها على الفلاحين المنتفعين، ما ساهم ببداية زوال ملاك الأرض الإقطاعيين الذين لعبوا أدوارًا بارزة في الأحزاب السابقة كالكتلة الوطنية والحزب الوطني وحزب الشعب.
إنّ مراسيم تأميم المؤسّسات الصناعية الكبرى والقسم الأكبر من التجارة الخارجية والسير حثيثًا في دفع قوانين الإصلاح الزراعي في خدمة الشرائح الوسطى والدنيا، كان نتيجة التناقضات الاجتماعية في قلب المجتمع وطموح الفئات الوسطى (البورجوازية الصغيرة) في المدينة والريف بخاصّة إلى إزاحة الفئات العليا (البورجوازية الكبيرة) والحلول محلّها لتحرير الفئات الدنيا من الاستثمار الرأسمالي والإقطاعي السابق. وظهرت عقابيل هذا الأمر بعد مدة وجيزة، أي صعود شرائح من الفئات الوسطى نحو الأعلى تحت علم القضاء على الاستغلال (الإقطاعي والبورجوازي) ثمّ تحوّل بعض هذه الشرائح إلى فئات مستغِلّة (طفيلية وبيروقراطية).
فبعد ضرب المواقع الرئيسية للبورجوازية الكبيرة (نسبيًا) وتحجيم طبقة ملاك الأرض بفضل قوانين الإصلاح الزراعي تعاظم دور الفئات الوسطى في المدينة والريف التي رفدتها في الستينيات وأوائل السبعينات أعداد تقل أو تكثر من الفئات الدنيا التي احتلّت أيضًا مواقع في أجهزة السلطة.
اتصفت حركة انقلاب السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 المعلن عنها رسميًا: الحركة التصحيحية التي قادها الرفيق المناضل حافظ الأسد باستمراريتها وتشيِّدها للهياكل الأساسية للبنى التحتية الضرورية للتنمية وأهمها:
شبكة طرق متطوّرة وواسعة وصلت إلى أقاصي المعمورة، شبكة كهرباء امتدّت إلى أعماق الريف، اتّساع العمران في المدن والأرياف، إشادة أبنية التعليم بمختلف مراحله من الابتدائي حتى الجامعي، إقامة السدود وشبكات الري واتّساع رقعة الأرض المروية، ازدياد عدد المستشفيات والأسرّة وتحسن الوضع الصحي للمواطنين، تطوّر قطاع الصناعات الاستخراجية والتحويلية، وبروز دور القطاع العامّ في بناء الاقتصاد الوطني، مع دور واضح للقطاعين الخاصّ والتعاوني.
ولكن السؤال المطروح هو: هل واكب -أو أعقب- وضع أسس هذه البنية التحتية الضرورية للتنمية ظهور بنى فوقية بإمكانها السير في طريق التنمية؟ وهل ظهرت أجيال بإمكانها أن تشق الطريق إلى نهضة عربية جديدة تتّخذ من العقلانية ديدنًا لها؟ إنّ مشاهدات كاتب هذه الأسطر لا تسجل تغيّرًا عميقًا وظهور بنى فوقية جديدة.
ويعود السبب الأول إلى طبيعة النظام الشمولي في تضييق الحرّيّات أو حجبها، والسيطرة على القضاء والزج بآلاف في السجون من دون محاكمة، وعدم احترام الكفاءة العلمية في التوظيف، وفتح المجال أمام الانتهازيين للصعود إلى الأعلى في المراتب.. وغيرها مما اتصف به كل نظام شمولي.
ألا ترون أنّ ثورات الربيع العربي في موجتيه -التي عددناها فرصة تاريخية للخروج من الاستبداد في منطقتنا العربية- أتت من دون مقدّمات أو تأسيس فكري، في حين يُعرف عن الثورات الأوروبية الكبرى -ولا سيما الفرنسية- أنها قامت على قاعدة فكرية صلبة قدّمتها فلسفة التنوير؟
بصراحة لم نعقد الآمال العريضة على ما سُمّيَ بـ (الربيع العربي). فلم نكن نلحظ قوى اجتماعية منتجة صاعدة ترفع لواء الربيع المُطَبل له الذي كنّا نتمنى أن يكون ربيعًا عربيًا أصيلًا تعقبه مواسم الخير والعطاء. ولهذا السبب سرعان ما ذبُلت زهور الربيع ودخلنا في عصر نترك لمركز حرمون تقويمه.
من منظوركم، هل تقوم النخبة السورية عمومًا بالدور المنوط بها؟ ومن قبل ما هو تقييمكم لتفاعل المثقّفين السوريين مع الثورة؟ وماذا يحتمل أن تكون مواقعهم (المثقّفين) وأدوارهم في سورية الجديدة؟
النخبة مؤلّفة من نُخَبْ تسير باتّجاهات متنوّعة تحدّدها إما الجيبة والشطارة أو عكسهما وهو الصمود على المبادئ التي تعتنقها البقية الباقية مما يسمّى نخبة.
وكما ذكرت سابقًا من وجهة نظرنا هي ليست ثورة، بل تحركات احتجاجية انزلقت إلى العسكرة، التي طحنتها قرقعة السلاح من الجانبين كليهما من جهة، وصخب التجاذبات الطائفية والمذهبية مصحوبة بدخان مملوكي عثماني يعمي أبصار المشاهدين.
الجذور التاريخية لأحداث حماة عامي 1964 و1982
يرى المفكر السوري الراحل الدكتور صادق جلال العظيم، أنّ الثورة السورية هي تصفية حسابات لسورية مع نفسها ودفع فواتير متأخرة عما سبق لنا من تقاعس وتخاذل وصمت وجبن سوري في لحظات مثل لحظة حصار مدينة حماه سنة 1982، وتدميرها والفتك بأهلها، لأنّ سورية لم تحرك ساكنًا يومها، على الرغم من أننا جميعًا كنّا نعرف تمامًا ما الذي كان يحدّث في حماه في ذلك الوقت. متسائلًا كيف تقبّلت سورية مدة طويلة جرائم حكامها في القتل والتعذيب وارتكاب المذابح والحبس التعسفي والإخفاء القسري وعشرات آلاف المفقودين بهدوء، وكأنّ ذلك كله ممارسة عادية ومسألة طبيعية. مؤكدًا أنّ سورية اليوم بثورتها تبذل هذا الكم الهائل من الدماء تكفيرًا عن خطاياها هذه كلها ومحوًا لعارها. ما تعليقكم؟ وكيف ترون الأمر من وجهة نظركم؟
مع احترامنا للمرحوم الصديق صادق جلال العظم والاعتراف بما قدّمه للمكتبة العربية من أفكار جريئة رائعة دفعت بقسم من شباب الستينيات إلى الاتّجاه نحو العقلانية والتقدّم والماركسية، لكنه أدلى في السنوات الأخيرة من عمره بآراء بحاجة إلى مناقشة وقد تناولها كثيرون.
وكنتُ أتمنى أن ألتقي بالعزيز صادق وأذكّره بما قاله لي بعد محاضرة ألقيتها في ناد للفلسطينيين بدمشق حول المسألة الزراعية وملكية الأرض. فقد ضغط بكفه على يدي مودّعًا وقائلًا: أشدّ على يديك ما بعث السرور في نفسي بشهادة شخصية ثقافية وازنة بقامة ابن العظم صادق.
كنتُ أحببت لو التقينا أن أقول للصديق المحبوب صادق: عليك الرجوع إلى الجذور التاريخية لحدثين مهمين عاشتهما حماة وهما:
أحداث حماة في نيسان/ أبريل 1964 ومرجعياتها الاجتماعية، وما تلاها بعد أقل من عقدين في أحداث حماة شباط/ فبراير 1982
فقد كانت حماة أحد المراكز الوطنية المناهضة للاستعمار في أيام الانتداب الفرنسي. وفي ثلاثينيات القرن العشرين تميّزت مدينة حماة بوجود قلعتين متعاديتين: قلعة عائلات كبار الملاك الإقطاعية (البرازية، الكيلانية، والعظم) المهيمنة على الريف والمدينة، وقلعة القوى الاجتماعية المناهضة للإقطاع التي بناها المتعلمون من أبناء الطبقة الوسطى. وفي أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته اشتدّ ساعد القلعة الثانية بمن انضمّ إليها من الفلاحين المكتوين بنار الإقطاع.
وقد أدّى تطبيق الإصلاح الزراعي وتوزيع أراضي الإقطاعيين على الفلاحين في ستينيات القرن العشرين إلى إضعاف قلعة الإقطاعيين وتعاظم شأن القلعة المناهضة للإقطاع التي قادها الحزب العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني الذي توحّد مع البعث في أوائل خمسينيات القرن العشرين.
وبين ضفتي الكتلتين المتصارعتين في حماة وريفها نشط الإخوان المسلمون منذ أوائل أربعينيات القرن العشرين، ولكنهم بقوا قوة ساكنة تهتم بأمور العبادة وتتجنب الحديث عن طغيان الإقطاعية.
وهذا ما جعلها في حماة قوة غير فاعلة في تلك المرحلة على الرغم من استنادها إلى الدين وكثرة عدد مؤيديها من المتدينين.
في 1964 تزعم مروان حديد أحد قادة الإخوان المسلمين المعركة في حماة ضد إجراءات تأميم رأس المال الكبير التي بدأها جمال عبد الناصر في أيام الوحدة السورية المصرية، وأكملها البعث في الأشهر الأولى من 1964.
شباب البعث وهم في مقتبل عهدهم بالحكم (ولم يفسد أكثرهم بعد)، المُتّقِدون حماسًا في تلك الأيام لحرق المراحل وتطبيق الإصلاح الزراعي والسير في طريق التأميم، حسموًا الأمر عسكريًا بقيادة محافظ حماة (السني) عبد الحليم خدام. فاقتحموا بمعونة العسكر المسجد واعتقلوا المعتصمين ومن بينهم مروان حديد. وفي إثر ذلك جرت محاكمة مروان حديد وإخوانه في محكمة عسكرية في حمص ترأسها الضابط (السني) مصطفى طلاس. ومع أنّ المحكمة نطقت بإعدام مروان حديد، إلّا أنّ تدخل شيوخ حماة ووجوهها دفع رأس الدولة (السني) أمين الحافظ إلى عدم المصادقة على حكم الإعدام.
أما عن أحداث حماة شباط/ فبراير 1982. فقدتزعّم الاحتجاج الإخوان المسلمون مدعومين من أحفاد الإقطاعيين ومن قوى متدينة سنيّة في قرى الملكيات الصغيرة إلى الغرب من طريق حمص حلب أي في منطقة إدلب التي تسيطر عليها الآن تنظيمات مسلّحة انطلقت من خيمة (القاعدة وداعش) وسواها.
لم تكن الدوائر التجارية الدمشقية السنيّة منشرحة الصدر من تحرك الإخوان في حماة وإلى حدٍّ ما في حلب، وهي تتطلّع إلى أرباحها وهذا ما كان يحقّقه لها النظام الحاكم برئاسة حافظ الأسد.
ووقفت القوى الفلاحية المستفيدة من الإصلاح الزراعي والخائفة من عودة ملاك الأرض الإقطاعيين ضد حركة الإخوان المسلمين. وكان قسم كبير من هذه القوى الفلاحية سنيًّا، وهذا أحد أسباب فشل التحرك الإخواني في 1982.
وبين نيسان/ أبريل 1964 وآذار/ مارس 2011 تغيّرت موازين القوى الطبقية مع صعود البورجوازيات البيروقراطية والطفيلية وتسلّمها سدّة الحكم الذي لم يبقَ من بعثيته إلّا الاسم.
وكان لظاهرة التحالف السلطوي -بين الفئات البيروقراطية الحاكمة التي أثْرت سريعًا، والبورجوازيات الطفيلية المتطلّعة إلى الربح السريع- دور واضح في رفد التحركات الشعبية بعد آذار/ مارس 2011 بقوى شبابية لها وزنها مستاءة من الطغيان البيروقراطي الطفيلي، وسدّ الطريق أمام عمل الشباب. وهذا ما أضفى على التحركات الشعبية صفة الثورة التي تغنّى -ويتغنّى- بها كثيرون.
وقد بيّنت التحركات الشعبية أو الثورة، كما تريدون، أنّ المجتمع أو المجتمعات السورية منقسمة على بعضها ويطحنها الدمار والنزوح والهجرة والتهجير وأصوات القنابل التي دمّرت الحجر والبشر.
وأظن أنّ المرحوم صادق العظم لم يرَ عميقًا ما كان يجري على الأرض. وكنـتُ كما ذكرت متشوقًا لرؤيته ومناقشته في هذه المسائل الشائكة التي دمّرت البلد.
هل من صراع طبقي كامن في الثورة السورية؟ وكيف يتلاقى أو يتصادم مع البعد الطائفي – المذهبي الأكثر حضورًا في الخطاب الإعلامي والثقافي المعني بالثورة؟
للإجابة عن هذا السؤال علينا النظر إلى العلاقة بين الثورتين: الوطنية القومية والاجتماعية الطبقية:
إنّ الصراع بين من ينتجون الخيرات المادية ولا ينالون إلّا ما يسدّ الرمق أو يقلّ، ومن يحوزون على هذه الخيرات من دون أن يساهموا في عملية الإنتاج قديم قدم العصور التاريخية.
كان من إحدى نتائج انهيار الدولة العثمانية الإقطاعية سنة 1918 تحرّر الفلاحين العرب في شرق الوطن العربي من كابوس الأيديولوجية الإقطاعية العثمانية التي كانت تخدّر ثوريتهم وتثبط عزائمهم وتحدُّ من روحهم الكفاحية في النضال ضد الحكم التركي والنضال الاجتماعي ضد الإقطاعية.
ومع أنّ الاستعمار الفرنسي تحالف مع الإقطاعية وسعى إلى ترسيخ دعائمها في الريف والاستفادة من نفوذها، كانت الأيديولوجية الإقطاعية قد تصدعت أركانها بعد انهيار الدولة العثمانية التي كانت تعتمد عليها. فانهيار إحدى البنى الفوقية (الدولة العثمانية) للإقطاعية في الشرق العربي أثّر في القاعدة الاقتصادية الاجتماعية لما قبل 1918 وسرعان ما أخذ التصدع يتسرب في دعائمها. ولكن علينا ألّا ننسى هنا أيضًا أنّ تصدع البنية الإقطاعية وتخلّف القوى المنتجة كان أيضًا من العوامل المهمة لزوال الدولة العثمانية.
نعود إلى الحديث عن العلاقة بين الثورتين القومية والاجتماعية:
عرف التاريخ نوعين رئيسيين من الثورات هما:
أولًا: الثورة الاجتماعية الناجمة عن قيام طبقة اجتماعية (أو فئات اجتماعية عدة) بالثورة ضد طبقة اجتماعية (أو فئة اجتماعية) أخرى تستثمر الأولى أو تحدّ من تطوّرها وتقدّمها.
ثانيًا: الثورة الوطنية أو القومية الناجمة عن قيام الشعب أو أكثريته بمقاومة الغزو الأجنبي للوطن أو طرد المحتلّ الذي يدنّس أرض الوطن.
لكن الحدود الفاصلة بين الثورتين الاجتماعية والقومية حدود غير واضحة المعالم في كثير من الأحيان. وغالبًا ما تتداخل الثورتان ببعضهما، وفي حالات -ليست نادرة- تتحوّل الثورة الاجتماعية وتتطوّر إلى ثورة قومية، وأحيانًا تتحوّل الثورة القومية إلى ثورة اجتماعية.
الثورة الاجتماعية تنقلب إلى ثورة وطنية في حال وقوع اعتداء خارجي للقضاء على الثورة الاجتماعية ولإعادة الطبقة الحاكمة في عهد ما قبل الثورة. ومثال على هذا النوع من الثورات الثورة البورجوازية الفرنسية (1789 – 1794) وهي ثورة البورجوازية المتحالفة مع الفلاحين والطبقات الشعبية في المدن ضد الاقطاعية، ولكن التدخل الأجنبي النمساوي البروسي الذي جرى لمصلحة الإقطاعية المنهارة حوّل الثورة من ثورة اجتماعية طبقية إلى ثورة وطنية لم تتخل عن أهدافها الطبقية في القضاء على النظام الإقطاعي وإقامة النظام الرأسمالي.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الثورة الاشتراكية في روسيا 1917 التي كانت ثورة اجتماعية طبقية قامت بها الطبقة العاملة بالتحالف مع الفلاحين لتصفية الاستثمار بشكليه الرأسمالي والإقطاعي.
ولكن التدخل المسلّح من الحلفاء: الإنكليز والفرنسيين والأميركيين… إلخ لإعادة الطبقتين المستثمرتين السابقتين الإقطاعية والبورجوازية اللتين حطمتهما الثورة، أسبغ على الثورة الاشتراكية في روسيا طابعًا وطنيًا قوميًا.
والثورة الوطنية –القومية– كثيرًا؛ بل غالبًا ما تتطوّر إلى ثورة اجتماعية طبقية. وفي مرحلة التطوّر هذه يندمج النضال القومي بالنضال الاجتماعي كما جرى في عدد من بلدان آسيا وأفريقيا. وعندما يندمج الوطني –القومي– والاجتماعي مع بعضهما جنبًا إلى جنب فإنّ إخماد نار الثورة يغدو في عالم المستحيل.
هذا الرأي المطلق بالاستحالة قلته في منتصف ثمانينيات القرن العشرين. وجاءت الثورات المضادة نافية هذا الحكم أو الاجتهاد، ودافعة بالبلاد إلى مهاوي الردى.
إنّ الوعي القومي الوطني لدى السكان المظلومين والمسحوقين تحت وطأة الفقر والجهل في البلدان التي تحرّرت أو هي في طريق تحرّرها، هو من حيث جوهر الأمر، في ظلّ سيادة الإمبريالية الأجنبية، وضعف البورجوازية المحلية، شكل ابتدائي عفوي للوعي الطبقي.
قبل الحرب العالمية الأولى لم تكن ثورات التحرّر الوطني تتخطى إطار الثورات الديمقراطية البورجوازية التي لم تكن تفعل، كما بيّنت تجربة إيران وتركيا التاريخية غير أن تمهد السبيل أمام تطوّر الرأسمالية. أما بعد الحرب العالمية الثانية 1945 وبعد هزيمة ألمانيا الهتلرية وظهور المعسكر الاشتراكي الذي أدّى إلى تغيير نسبة القوى الطبقية في المسرح العالمي. فإنّ إمكانية تحوّل ثورات التحرّر الوطني المعادية للإمبريالية، بصورة سريعة نسبيًا، إلى ثورات معادية للرأسمالية، ومن ثمّ إلى ثورات اشتراكية أضحت ممكنة، ولكنّها لم ترَ النور.
دخلت الحركة الوطنية العربية في سورية، بعد الحرب العالمية الأولى في طور جديد اختلف اختلافًا جذريًا عن طور ما قبل الحرب العالمية الأولى. فقبل 1918 تركّز النضال العربي ضد الحكم العثماني من أجل الحصول على الاستقلال الذاتي أو التام. ولم يشارك في الحركة القومية العربية قبل 1914 إلّا المثقّفون الوطنيون والبورجوازية الوطنية الناشئة، إضافة إلى أعداد محدودة جدًا من الإقطاعية الليبرالية. أما بعد 1918 وبعد تصدع النظام الإمبريالي وهزيمة الدولة العثمانية وتحرّر الجماهير المؤمنة من كابوسها، فإنّ الجماهير الشعبية العربية الواسعة أخذت تشارك تدريجيًا في حركة الكفاح المناهض للاستعمار. واتّخذ هذا الكفاح الوطني في كثير من الأحيان مظهرًا دينيًا (إسلاميًا) معاديًا للمستعمرين الكفار. وهذا ما أكسب الحركة الوطنية العربية في سورية –وفي كل قطر عربي متقدّم – طاقات بشرية لا تنضب في النضال ضد الغزاة المستعمرين ومن أجل نيل الاستقلال الوطني. وهذه العملية دفعت بالفلاحين أكثر فأكثر إلى ميدان النضال.
في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية 1945 تبلور هدف الحركة الوطنية في طرد المستعمرين الغزاة وإقامة دولة وطنية مستقلة، وهنا برزت البورجوازية الوطنية التجارية التي شرعت بعض أقسامها في التحوّل إلى بورجوازية صناعية، قوة قائدة في حركة التحرّر الوطني. وقد اصطدمت مصالحها بشكل عام مع سياسة الانتداب الفرنسي الرامية إلى تمكين رأس المال الاحتكاري الفرنسي من السيطرة على سورية واستثمار شعبها.
ونادت هذه البورجوازية بوحدة بلاد الشام التي قسّمها الانتداب الاستعماري، وحلمت بإقامة سوق مشتركة واسعة نسبيًا، ولا يخفى أنّ عناصر فعّالة مثل الطلاب والمعلمين وبعض المحامين والأطباء الذين تحدّروا قبل سنة 1945 من صفوف البورجوازية الوطنية والبورجوازية الصغيرة، ساهمت بنشاط في إيقاد جذوة النضال الوطني.
ولكن القوى الأساسية الضاربة في النضال الوطني تكوّنت من الفلاحين بمختلف أقسامهم ومن شغيلة المدن؛ الحرفيين والعمال وغيرهم من الفئات الكادحة. وهذه الفئات الاجتماعية –الدنيا– قدّمت القسم الأكبر من شهداء الحرّيّة والاستقلال وحصلت على الجزء الزهيد من المكاسب المادية والمعنوية التي أتت في أعقاب الاستقلال. فقد قامت البورجوازية الوطنية الشابة التي حاولت احتكار قيادة النضال الوطني، بتحريف تاريخ النضال الوطني وطمس الدور الأساسي والفاعل للجماهير الشعبية التي اندفعت إلى التضحية والفداء وإلى السير في النضال الوطني حتى نهايته.
تيّارات إسلاموية منغلقة على نفسها متحجرة
تهيمن قوى إسلامية على المشهد السوري المعارض بشقّيه السياسي والعسكري. فيما تغيب القوى الليبرالية والعلمانية، على الرغم من محاولاتها الدفاع عن وجودها ضد طغيان المشهدين العسكري والسياسي الإسلامي. ما هي تنبّؤاتك لمستقبل القوى الإسلامية ودورها في مجتمع من المفترض أنه علماني النزعة والممارسة؟
الشق الأول من السؤال لا غبار عليه، ويلاحظ في العقود الأخيرة من القرن العشرين وما تلاه: وقوع المجتمعات العربية بين فكي كماشتين:
– كماشة العسكر
– كماشة الإسلام السياسي
ونشير هنا إلى بروز إسلام سياسي نادى بالتنوير والنهضة كالإمام محمد عبدو وطائفة من مشايخ دمشق المجتهدين كالشيخ عبد الرزاق البيطار ومجموعته، وقد اختفى هذا التيّار في الربع الأول من القرن العشرين لتحلّ محلّه تيّارات إسلاموية منغلقة على نفسها متحجرة وهي التي تحتلّ الساحة، ساحة الإسلام السياسي في تصارعه أو تعاونه مع العسكرتاريا.
من منظوركم، ما هو الدور أو الأدوار المنوطة بالمجتمع المدني السوري في ظلّ الصراع الحالي والانحيازات والانقسامات الموجودة؟ وأي دور سيكون له في عملية إعادة البناء المادي والأخلاقي في سورية المستقبل بعد إنجاز عملية الانتقال السياسي؟
إنّ حركة لجان إحياء المجتمع المدني التي قامت مع ربيع دمشق2001 لم تولِ -بسبب زحمة الأحداث كما أقدر- أي اهتمام لتبيان تاريخ قيام المجتمع المدني في سورية الذي تريد إحياءه. وكيف تمّت عملية تكوّن هذا المجتمع؟ وكيف ومتى جرى القضاء عليه؟ حتى تقوم لجان إحياء المجتمع المدني ببعثه من جديد. ولم نقرأ حول هذه التساؤلات إلّا فقرة مقتضبة لعبد الرزاق عيد، وهي لا تروي غليل الإنسان العادي وحتى أنصاف المثقّفين الذين يجهلون تاريخ بلدهم في زحمة أسباب كثيرة.
ويلاحظ ابتعاد الباحثين والكتّاب، ومنهم ذوو الأصول الماركسية، عن الاهتمام بتحليل البنية الاجتماعية لإنارة الطريق أمام العمل لعودة مؤسّسات المجتمع المدني وقِيَمْ عصر التنوير الداعية إلى العقلانية والمناهضة للاستبداد والطغيان. ونضرب مثلًا على ذلك المقارنة بين بنية المجتمع في العقدين الأخيرين من القرن العشرين والمجتمع السوري في خمسينيات القرن العشرين التي اتصفت بأربع ظواهر:
– دور ملحوظ للبورجوازية الوطنية المنتجة.
– الغليان النهضوي في صفوف الفئات الوسيطة التي كانت تعجّ بالوطنية وتتطلّع إلى الصعود نحو الأعلى للحلول محلّ طبقتي الملاك والبورجوازية المسيطرتين على الدولة.
– تكوّن الطبقة العاملة والسعي لإقامة حركة نقابية لا تخضع لنفوذ الفئات الحاكمة من بورجوازية وإقطاعية.
– تحرك الفلاحين الخاضعين لنظام المحاصصة الإقطاعي، ودخول أبناء الفلاحين ذوي الملكيات الصغيرة حلبة النضالين الوطني والفكري السياسي من أبوابهما لعريضة.
أما بنية المجتمع الحالي فتتصف بالظواهر الآتية:
– غياب البورجوازية الوطنية المنتجة.
– تراجع عملية تكون طبقة عاملة وإفراغ النقابات من محتواها وجعلها ذيلًا للسلطة الطبقية (الطبقة الجديدة).
– تغيّرات كثيرة ومعقّدة جرت في الريف الفلاحي بحاجة إلى دراسات ميدانية من باحثين مرتبطين بالشعب وبالوطن.
– تخلخل بنى الفئات الوسطى صعودًا وهبوطًا وتغيّر نظراتها السابقة إلى الحياة ومصير الكون.
ولهذا رأينا من واجبنا إلقاء الأضواء على هذه الأمور في الكتاب الذي صدر في خريف 2001 عن دار المدى في دمشق بعنوان: (المجتمعان المدني والأهلي في الدولة العربية الحديثة)، ومع أنّ الكتاب لاقى رواجًا نسبيًا، في ظلّ أزمة الكتاب، إلّا أننا لاحظنا أنّ عددًا من مؤسّسي لجان إحياء المجتمع المدني لم تصل إلى مسامعه أخبار صدور الكتاب أو أنّ بعضهم لم يرَ ضرورة أو فائدة في قراءته.
ولا بدّ من القول إنّ الكتاب ابتعد، بقدر الإمكان عن التنظير، وغاص في أعماق المجتمع محلّلًا ومقدّمًا الأمثلة الواقعية والحيّة، حول العلاقة بين محاور الكتاب الثلاثة: المجتمع الأهلي، المجتمع المدني، الدولة الحديثة.
والدراسة تتابع ظهور مؤسّسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وأندية …إلخ، وصراعها أو تأقلمها مع المجتمع الأهلي بنزعاته الطائفية والعشائرية.
وبسبب هشاشة التطوّر الرأسمالي جرت في المجتمعات العربية عملية تعايش بين الإقطاعية الجديدة والرأسمالية التابعة للغرب الإمبريالي، ما أدّى إلى تلاقح وتمفصل المحاور الثلاثة:
– الدولة الحديثة بمضامينها البورجوازية وتراثها السلطاني (المملوكي – العثماني) وأدواتها المباحثية – المخابراتية.
– المجتمع الأهلي بطوائفه وعشائره وطرائقه الصوفية وجمعياته الخيرية.
– المجتمع المدني بأحزابه ونقاباته وأنديته وقيمه.
وقد تعرّضت مؤسّسات المجتمع المدني لهجمات عشائر وطوائف المجتمع الأهلي وبخاصّة محاولة استيعابها من الداخل، أي من أعضاء الطوائف والعشائر الذين ينتسبون إلى مؤسّسات المجتمع المدني ويقومون بتوجيه تلك المؤسّسات لمصلحة الطائفة أو العشيرة، وعلى المنوال نفسه تسير الدولة بأجهزتها المخابراتية الحديثة في سياسة السيطرة على مؤسّسات المجتمع المدني من الداخل وإفراغها من مضمونها النهضوي والتنويري وجعلها إحدى أدوات الدولة الحديثة ذات المضمون الطبقي البيروقراطي الطفيلي.
ولهذا كان للدولة الحديثة العثمانية ووارثاتها الدول العربية (السورية، اللبنانية، الأردنية، العراقية وكذلك المصرية) خصوصيات اتّسمت بالصفات الآتية:
1 – استمرار مفهومات الدولة السلطانية (المملوكية والعثمانية) في نسيج الدولة العربية الحديثة وخلاياها. وهذا ما أدّى إلى طبع هذه الدولة بسمات الدولة السلطانية المترعة بطبائع الاستبداد التي تحدّث عنها الشيخ الإصلاحي عبد الرحمن الكواكبي، وما نزال نعيش مرارة طغيانها.
2 – تأثّر قيام الدولة العربية الحديثة تأثّرًا واضحًا بنموذج الدولة الحديثة البورجوازية الأوروبية، أكثر من تأثّره، في المراحل الأولى، بالتطوّرات الاقتصادية الاجتماعية السائرة ببطء في مجتمعاتنا العربية. وكان لرجحان كفة العامل الخارجي على العامل الداخلي أثر واضح في تطوّر الدولة العربية الحديثة وتشابك القوى الاجتماعية المسيّرة لها، وتعثر خُطاها.
3 – أدّى التعايش بين الإقطاعية بشكلها الجديد مع التطوّر الرأسمالي، إلى تعايش المجتمعين الأهلي والمدني مع رجحان كفة الأول. فالمجتمع الأهلي وارث العلاقات ما قبل الرأسمالية وربيب الدولة السلطانية بقي محافظًا على كيانه ومقوّمات وجوده. أما المجتمع المدني المستند إلى التطوّرات الرأسمالية والتأثيرات الحداثية الخارجية فبقي مجتمعًا مهيض الجناح تهزّه زلازل الدولة السلطانية المتفجّرة من أعماق المخزون المملوكي الإنكشاري، وتقذفه بحممها براكين العشائرية والطائفية (رموز المجتمع الأهلي).
وهكذا نرى أنّ الدولة العربية الحديثة ذات البنية البورجوازية تختزن في شرايينها كثيرًا من سمات الدولة السلطانية (المملوكية العثمانية). ولا تختلف عن غيرها من دول العالم قديمه وحديثه من حيث طابعها الاجتماعي (الطبقي) المسخّر لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك. وما تزال تحت سقف المجتمع الأهلي المؤلّف من ثلاثة محاور أو تكتلات رئيسية هي:
1- مجتمع (أو تكتل) القبائل والعشائر والعائلات والقرى وحارات المدن إضافة إلى الطوائف والمذاهب والملل. وكثيرًا ما تألفت الطائفة من مجموعة من العشائر أو العائلات. هذه الوحدات الاجتماعية كانت منغلقة على نفسها ومحيطها ومشكلة دويلة أو شبه دويلة في محيط الدولة الكبرى المركزية (وهي العثمانية) في مثالنا.
2- مجتمع التكاتف الخيري حيث تتضامن فرقة اجتماعية ذات صلة قربى عائلية أو مذهبية… إلخ على عمل الخير والإحسان إلى الفقراء والمحتاجين لمساعدتهم للتغلب على نائبات الزمن.
هذه الجمعيات الخيرية التي ما يزال لها إلى الآن دور كبير في المجتمع هي موروث ناصع البياض لمساعدة الناس بعضهم لبعض.
3- مجتمع الطرائق الصوفية المنتشرة في الأرياف والمدن والضاربة جذورها في خلايا المجتمع كافة. كانت الطرائق الصوفية بمنزلة أحزاب لعامّة المدن. ويلاحظ أنّ بعض هذه الطرائق وقف ضد طغيان عساكر السلطان ورفع راية الدفاع عن مصالح أهل الحرف. واليوم تحاول الطرائق الصوفية استعادة بعض من مجدها القديم.
أخيرًا، ما الذي تودّون إضافته في نهاية حوارنا معكم؟
ما يشغل ذوي الألباب في عالمنا العربي هو: إشكالية الديمقراطية أو أزمتها في العالم العربي. فالتساؤلات تكثُر حول سبب غياب الديمقراطية واستفحال أمر الاستبداد في محيط النظام الرأسمالي، وهل سبب ذلك هو العوامل التاريخية وهيمنة العلاقات ما قبل الرأسمالية، أم أنّ الاستبداد نتاج عوامل أخرى؟
الواقع أنّ بداية انتشار الرأسمالية في العالم العربي لم تؤدِ في القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين -عصر المرحلة الأولى للنهضة العربية- إلى انتصار الرأسمالية وأفكارها وقيمها انتصارًا واضحًا على العلاقات ما قبل الرأسمالية، وبخاصّة الإقطاعية منها. فقد جرى توافق ومصالحة بين رأسمالية الثورة الصناعية الآتية من الغرب والعلاقات ما قبل الرأسمالية الراسخة الجذور في الشرق. ولهذا لم يستطع المشروع النهضوي العربي وما يحمله من مفهومات العقلانية والليبرالية والعلمانية والمواطنة وكل أفكار التنوير أن يمدّ جذوره في عمق المجتمعات العربية التي بقيت محاصرة بالجهل والخرافة وكل مفهومات وعادات ما قبل الرأسمالية.
إنّ إشكالية الديمقراطية في الوطن العربي سابقة في الواقع لنظام الرأسمالية المعولمة. وهي ليست نتيجة عوامل خارجية فحسب، بل هي في الدرجة الأولى حصيلة للواقع العربي بمختلف أبعاده. ويأتي في طليعة هذا الواقع المنتج لبؤس الديمقراطية في العالم العربي هيمنة طبقات اجتماعية معينة على مقاليد الحكم واستئثارها بجزء مهم من خيرات المجتمع، والتقتير على أكثرية الشعب وحرمانها من ثمرات أتعابها وخيرات بلادها. وعلينا ألّا ننسى التراث التاريخي السلطاني المملوكي العثماني في ترسيخ دعائم الاستبداد.
وقصارى القول: إنّ الدولة العربية الحديثة تحمل بين جنباتها معالم العصرنة والحداثة وبذور التطوّر من جهة وتختزن في نسيجها كوابح المورث الاستبدادي السلطاني (المملوكي العثماني) من جهة أخرى.
أما الجوانب المشرقة النيّرة والعقلانية من تراثنا العربي الإسلامي فتسعى قوى التسلّط والرجعية إلى دفنها في الرمال، أو تحريف جوهرها والابتعاد عن تيّارات العقلانية التي أبدعت يومًا ما الحضارة العربية الإسلامية المزدهرة قبل قيام الدولة السلطانية.
ونؤكد ثانية أنّ بداية انتشار الرأسمالية في العالم العربي لم يؤدِ في القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين إلى انتصار الرأسمالية وأفكارها وقيمها انتصارًا واضحًا على العلاقات ما قبل الرأسمالية، وبخاصّة الإقطاعية منها. فقد جرى توافق ومصالحة بين رأسمالية الثورة الصناعية القادمة من الغرب والعلاقات ما قبل الرأسمالية الراسخة الجذور في الشرق. ولهذا لم يستطع المشروع النهضوي العربي وما يحمله من مفاهيم العقلانية والليبرالية والعلمانية والمواطنة وسائر أفكار التنوير أن يمدّ جذوره في عمق المجتمعات العربية، التي بقيت محاصرة بالجهل والخرافة وسائر مفاهيم وعادات ما قبل الرأسمالية.
ويتصف التاريخ السوري في النصف الثاني من القرن العشرين بانتقاله من الاستغلال الإقطاعي الذي جرى سابقًا باسم الدين إلى الاستغلال الرأسمالي الطفيلي مستغلًا اسم الاشتراكية في البدء ثمّ تحوّل إلى الاستغلال باسم اقتصاد السوق الاجتماعي ظاهريًا، أما عمليًا فهو اقتصاد الرأسماليات الطفيلية المنفلتة من عقالها والمحروسة من المباحث السلطانية. وهو يستند في عمله إلى طائفة من رجال الدين السائرين تاريخيًا مع كل حاكم.
وبعدُ
اختفت الوطنية وكثُر جلادوها، والطبقية المغيّبة يقبع جمرها تحت الرماد.. رماد الطائفية التي تعصف رياحها مقتلعة ما بناه رواد النهضة العربية والتنوير الإسلامي.
ولم يبقَ أمامنا إلّا طريقين أو أملين:
– أمل العلمانيين المتمسكين بأمل سعد الله ونوس.
– أمل الاتّجاه إلى السماء وانتظار عونها.
[1] يقول د. عبد الله حنا: يعود الفضل في تسميتي باسم عبد الله إلى كبير العائلة عم والدي عوض حنا، الذي قال: “كُلنا عبيد الله” سمّوه عبد الله. واسم عبد الله لا يقتصر على المسلمين كما يظن بعضهم، ففي بلدتنا دير عطية، كما في غيرها، كان اسم عبد الله منتشرًا بين مسيحييها. وعندما عُدْتُ الى دفتر النفوس لعام 1904 لاحظت أن معظم أسماء المسيحيين في دير عطية هي أسماء مشتركة بين المسلمين والمسيحيين، وقليلة هي الأسماء المسيحية الخالصة.
[2] https://bit.ly/3y7t2Dk
مركز حرمون