كيف نودّع أسماءنا المستعارة؟/ يوسف م. شرقاوي
23 ديسمبر 2024
نشر أدريان بابيه (كاهن وأمين مكتبة) في القرن السابع عشر قاموساً للأسماء المستعارة وقف فيه على أربعة عشر سبباً تجعل إنساناً ما يختبئ وراء اسم مستعار؛ منها الحذر والخوف من القمع السياسي، والهوس بإخفاء حقيقة ميلاد مشين أو بائس، وحمل اسم شائن، والرغبة في النميمة دون عقاب، والتواضع. وفي كتابها “في الريشة والأجنحة”، تضيف إيللا باليرت أسباباً أُخرى في معرض حديثها عن الأسماء المستعارة ودوافع التخفّي وراءها، مثل الضرورة وغريزة البقاء وحرّية اختيار أنواع أدبية وأساليب فنّية جديدة.
وللآخرين أيضاً حرّية اختيارهم لأسمائهم المستعارة، وحرّية الاختيار هي صورة عن الوعي بالذات، ولانكشاف التجربة. يذكر التاريخ مثلاً أنّ فلاديمير إليتش أوليانوف اختار اسم نهر لينينا الذي يجري في سيبيريا حيث كان في المعتقل. ولذا صرنا نعرفه باسم لينين، بينما اختار يوسف فيساريوفيتش اسم “ستالين” أي الفولاذ، وهذه صورة الإنسان عن ماهيته. وحين يطلق الآخرون الأسماء على آخرين، فهذه صورة عن وعيهم بهم، فـ إلكسي مكسيموفيتش بيشكوف، الذي صار مكسيم غوركي، وعاه الناس مُرّاً، ذائقاً لحياةٍ مريرة. من هنا كثيراً ما تحدّد البنية النفسية الاسم المستعار لصاحبها. أمّا المثال الأكثر تطرّفاً دائماً في الأسماء المستعارة فهو لـ فرناندو بيسوا الذي كتب بـ72 اسماً، بعض هذه الأسماء تفوّق عليه، وجعل بعضها تتخصّص أكاديمياً لدراسة بعضها الآخر.
لكن ليست حرية التجربة هي الدافع وراء الاسم المستعار إلّا نادراً، إذ غالباً ما يكون الاسم المستعار ضرورة تمليها الأسباب الأربعة عشر التي عدّدها أدريان بابيه، أو أسباب أُخرى تتعلّق بالجندر بالنسبة إلى الكاتبات النساء، لا سيما مي زيادة ومقبولة الشلق المعروفة بـ”فتاة قاسيون” في العالم العربي، والأمثلة أكثر من أن تُحصى.
ما من نظرية اسمية عند السوريّين
دراسة الأمثلة السابقة والعشرات غيرها العصيّة على الحصر تدخل في مقاربات ومنهجيات علمية وفلسفية رصينة، أبرز من اشتغل عليها في الفترات القريبة جيل دولوز في “منطق المعنى” والفيلسوف الأميركي سول أرون كريبكي في “التسمية والضرورة”. إلّا أنّ الحالة السورية في الأسماء السورية المستعارة مغرقة في خصوصيتها وانتفاء أسبابها عن أسباب النظريات، وكذلك في إملاءاتها وضروراتها.
منذ 2011 تقريباً وحتى الشهر الأخير من 2024، يوقّع معظم الكتّاب السوريين والفلسطينيّين السوريّين الموجودين داخل سورية بأسماء مستعارة. لا نتحدّث هنا عن الأعمال الأدبية المنشورة في كتب، بل عن كتابة المقالات والمواد الصحافية مع مواقع ومنصّات وجرائد ومجلّات هي في معظمها أو كلّها خارج سورية، وكانت في معظمها مندرجة ضمن “القائمة السوداء” و”المنصّات المغرضة الإرهابية”. هنا تنتفي كلّ الأسباب التجريبية وتنتفي معها الحرّية، ويصبح التعبير الأقرب إلى الدقّة هو: طمس الاسم الحقيقي، إخفاؤه، تغييبه، وحذف كلّ ما يتعلق به من مراسلات وإيميلات ومحادثات مع المحرّرين.
حتى الاسم المستعار الجديد ليس اسماً تماماً بقدر ما هو هرب وتخفٍّ. السوريون لا يستعيرون أسماء جديدة، بل يتخفّون تحت مظلّتها، حفاظاً على حياتهم أمام سلسلة اتهامات بالإجرام يمكن أن يتعرضوا لها: من الإرهاب إلى التعامل مع جهات أجنبية “مغرضة”، إلى “بثّ الفتنة” و”إضعاف عزيمة الأمّة”. بالمحصلة: الاعتقال دون تهمة، إلّا الكتابة نفسها.
الخوف على مصير الاسم الحقيقي هو نفسه يصبح خوفاً على مصير الاسم المستعار. فالتفتيش عن الأخير بالنسبة إلى الكتّاب السوريّين خلال تلك الفترة كان فعلاً يعذّب الضمير. أوّل ما يخطر على بالهم هو استعارة اسمٍ لإنسان موجود فعلاً في سورية، ما يعني توريطه. عملية اختيار الاسم المستعار نفسها كانت عبئاً ثقيلاً على الضمير. لا سيما إن كان الشرط اختيار أسماء حقيقية إنسانية لا رمزية، مثل “بنت قاسيون” أو “إيزيس” وغيرها. وقد تستغرق هذه العملية بضعة أيام خوفاً على آخرين قد يكونون موجودين فعلاً في الفضاء السوري. من هنا تدخل العملية طوراً غريباً هو تفنيد الأسماء والبحث في انتماءاتها واختيار كنية ما مثلاً لا يربطها بالاسم الأول انتماء إلى دينٍ معيّن أو منطقة. وسرعان ما يتصاعد الطور حتى يصبح بحثاً في البطون والأفخاذ والانتماءات العشائرية والقبلية والمناطقية.
حتى عند الوصول إلى اسمٍ مستعار مطمئن جزئياً، مثل “ألبير حاوي”، من دمج ألبير كامو بخليل حاوي، يفتّش صاحب الاسم الحقيقي عن أيّ عاملٍ صدفي يمكن أن يصدمه فيما بعد: ألبير حاوي رجل سوري معتقل متّهم بكلّ التهم التي كان يمكن أن تتعرّض لها بنفسك لو انكشفت.
المعادلة صعبة وثقيلة ومستحيلة. من أين يخترع السوري الأسماء ما دامت جميعها يمكن أن تُحقّق إحالةً إلى الواقع؟ ثلاث عشرة سنة من المقالات والتحقيقات والاستقصاءات صاحبها إنسانٌ مزيّف.
فيرونيكا فولفو تقرّر أن تموت
سنة 2020 تغيّر اسمي. لم أختر الاسم المستعار الذي سوف يصبح بديلاً لاسمي الحقيقي المُعلَن. صرتُ: فيرونيكا فولفو، كما اختارت المؤسّسة التي عملت معها آنذاك. في ما بعد عرفت أنّ فيرونيكا هذه يمكن أن تكون امرأة حقيقية، لها وجه وجسد وتستطيع الكتابة مثلي، وربما كانت هذه سياسة المؤسّسة التي تريد أن يكون كافّة أشخاصها حقيقيّين. بحثت عن تأثيل الاسم ففرحت قليلاً، ولكن بعد ذلك كان الحزن.
في المقهى كنّا نجلس، فيرونيكا (أي أنا) مع ألبير ونارنج وديبو وعبد الله وآخرين. لا يعرف أحدنا الآخر، لكنّنا في المكان نفسه، ونشتغل في المجال نفسه، ونعيش الخوف نفسه. نخفي شاشة اللابتوب أو الهاتف أثناء الكتابة (لأنّ في المقهى كهرباء وإنترنت) كي لا يلتقطنا أحدٌ ما. نُنزل الشاشة إلى أقصاها. نكتب بخطّ 11 كي لا تظهر الكلمات. وحين ننتهي يترك كلٌّ منا اسمه وراءه، ويوقّع باسمه البديل، في الأعلى أو في الأسفل. نرسلها عبر الإيميل ثم نحذفه كي لا نترك دليلاً ملموساً. نترك للمحرّر/ة رسالة على واتساب أنّ العمل ناجز ثمّ نحذفها، ونرجع إلى البيت فارغين ومطمئنّين قليلاً، كلّ في طريق: نجونا هذا اليوم، لنرَ الغد.
اليوم، يخلع الكتّاب السوريون عبء الأسماء المستعارة عنهم، ويصّرحون بحقيقة الاسم: إنّما هذا أنا. وسرعان ما يقفز إشكالٌ آخر: هذا هو وقت الكتابة الواضحة، الصريحة، التي لا تقوم على احتيال أو مواربة (حتى مع الأسماء المستعارة، كان الالتفاف). كيف يكتب تحت الضوء من قضى سنوات يكتب في العتمة؟ ومن فوره ينبع السؤال: أيكون الاسم الصريح مؤقّتاً، أم ستظلّ أسماؤنا معنا؟
* كاتب فلسطيني سوري مقيم في دمشق
العربي الجديد